منه مثل قوله: "ما قَبض اللهُ نبياً قط إلا دُفن حيث قبض روحه". وسيبقى جسده الشريف في قبره طرياً إلى يوم القيامة فيكون أول من تنشق عنه الأرض من البشر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من ينشق عنه القبر" رواه مسلم، وقوله: (إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة) أورده الذهبي في العلو(83). فهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، من بني آدم، كما قال تعالى: (قل إنّما أنا بشر مثلكم) وكأن الله تبارك وتعالى يحذرنا بهذه الآية من أن نغلو في النبي ونجاوز به الحد، ويخبرنا أن قوماً سيقولون إن الرسول ليس بشراً مثلنا، وربما قالوا:/محمد بشر ليس كالبشر/فلذلك قال: (بشر مثلكم) حتى لا يُظن أنه نوعٌ آخر من البشر. وحتى لا يُظن -كذلك- أنه بنزول الوحي عليه وإخباره ببعض المغيبات بأمر الله صار يعلم الغيب، أو إن علمه انطبق على علم الله كما يقول الضالون -حتى لا يُظن ذلك- أمره الله أن يقول: (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقومٍ يؤمنون). وكذلك حذَّرنا -صلى الله عليه وسلم- من المبالغة في مدحه حتى لا يُعتقد فيه كما اعتقد النصارى في نبيّهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المدّاحين التراب). وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا، عبد الله ورسوله). ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على المحافظة على عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين، شديداً في ذلك، فبينما تجده لا يُعنِّف من بال في المسجد لأنها مسألة فقهية -تجده-صلى الله عليه وسلم- يعنّف من يغلو فيه ولو أن يضع حرفاً بدل حرف كما تجيزه اللغة العربية فقد قال -لمن قال له ما شاء الله وشئت-: أجعلتني لله نداً. أخرجه البخاري في(الأدب المفرد/783). وأمرهم -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: ما شاء الله ثم شئتَ. أخرجه ابن ماجه(2117). فالواو وثم حرفا عطف، ولكن لمّا كانت الواو تفيد(116/329)
المشاركة فقد يُتوهم منها أن الله والرسول شريكان، لهذا أمرهم أن يضعوا بدلها ثم، لأنها مع إفادتها العطف تفيد التراخي والمُهْلة فتترتَّب المنزلة، فيُؤْمَن بعدها توهُّم المشاركة-وإن كان خفياً-. وفي صحيح مسلم(869) أن رجلاً خطب أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَنْ يطع الله ورسوله فقد رشد، ومَنْ يعصِهما فقد غوى). فعنّفه النبي صلى الله عليه وسلم أمام الناس وقال له: بئس خطيب القوم أنت، قل: ومَنْ يعصِ الله ورسوله فقد غوى"إه. لأن جمعهما في ضمير واحد يوهم الشِركة. ولمّا قالت الجويرية: وفينا نبي يعلم ما في غدِ، قال: (دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين) رواه البخاري(9/184). وفي رواية للحاكم(2/184) قال: (لا يعلم ما في غدٍ إلا الله سبحانه) إه. فهل يستقيم بعد ذلك قول البوصيري الضّال مخاطباً رسول الله:
فإنّ مِنْ جُودِك الدنيا وضرتَها ... ومن علومك علم اللوح والقلم(116/330)
سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا شك أن هذا القول الشنيع كفرٌ صريح على مذهب الأئمة الأربعة يُستتاب قائله ومُرَدِّدُه فإن تاب وإلا قُتِل. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسكت على قول جارية صغيرة تلهو في عرس: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ، فكيف لو سمع قول البوصيري العالم !!؟ وفي البحر الرائق(3/94): لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب. وهكذا في فتاوى قاضي خان والعيني والدر المختار والعالمكيرية وغيرها من كتب الحنفية. ولما جاء وفد بني عامر-كما في الأدب المفرد للبخاري(211)- إلى النبي صلى الله عليه وسلم "فقالوا: أنت سيدنا، قال: السيد الله. قالوا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طَوْلاً، قال: فقال: قولوا بقولكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشيطان"إه. وروى أحمد بسند صحيح(3/153) عن أنس أنّ رجلاً قال: يا محمد !يا سيدنا وابن سيدنا. وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستجرَّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله؛ عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل"إه. وقال في حديث آخر: "إياكم والغلوَّ في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين".أخرجه النسائي(3007). فهل يستقيم بعد هذا قول بعض المؤذنين الجهلة: (الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله) ؟ أليس هذا مناقضاً لكلام الله في كتابه من أن أول الخلق من البشر هو آدم أبوهم؟ ومناقضاً لكلام رسوله من أن أول المخلوقات العرش أو القلم؟ أمّا إنه صلى الله عليه وآله وسلم كغيره من المخلوقات كان مكتوباً عند الله قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يخلق آدم، فهذا من ضروريات الإيمان بالله والإيمان بعلمه وقضائه، وأنه سبحانه وتعالى خلق الكائنات وفق علمه السابق، ووفق ما كتبه سبحانه وتعالى كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن أول شيء خلقه(116/331)
الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون"، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: "كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" ولا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كُتب فيمن كُتب من الخلائق فليس بدعاً بعثته صلى الله عليه وسلم، أو كونه خاتم النبيين، بل هو مكتوب عند الله في جملة النبيين بل خاتمهم قبل أن يخلق الله أبا البشر آدم، ومنذ أن كتب الله بقلمه كل شيء يكون، فليست نبوته صلى الله عليه وسلم جديدة حتى يتطرق إليها الشك والتكذيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم" أخرجه أحمد4/127والبيهقي في الدلائل1/80 وغيرهم وهو حديث حسن. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كُتبتُ(وفي رواية كنتُ) نبياً وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد(5/59) وأبو نعيم في الحلية(9/53) وغيرهم، وهو صحيح قاله صلى الله عليه وسلم جواباً لسؤال الصحابي ميسرة الفجر -كما في المسند- قال: "قلت يا رسول الله متى كُتبتَ نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد".
خاتمة تليها قصيدة نافعة للملا عمران بن رضوان توضح العقيدة الصحيحة(116/332)
فالحذر الحذر -أيها المسلم المهتدي- من عقائد الصوفية وترَّهاتهم، بل ومن الركون إليهم، وقد ظهر لك فساد اعتقادهم، وعليك بالقرآن وما ثبت من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففيهما الخير كله، وهما الحرز الحصين، والوقاية من هذه الضلالات، مَنْ استمسك بهما فاز ونجا، ومن تأخر عنهما ضلّ وغوى، ولْتعلم أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة"رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني. ومهما خفَّ الخير في هذا الزمان الذي قويت فيه شوكة المبتدعة -في بعض البلدان- فإنه باقٍ في هذه الأمة، فلا يزال فيها خيرٌ كثير ما دامت السماوات والأرض، وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من هذه الأمة اثنتين وسبعين فرقة في النار أخبرنا كذلك أنّ منها فرقة ناجية لا يخلو منها عصر إلى يوم القيامة، وهي المقصودة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس، وحتى يقاتل بقيتهم الدجال) متفق على صحته. ولا شك أن من أخص خصائص هذه الطائفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). وأيّ منكَر أنكر من إفساد عقائد المسلمين التي تمارسه الصوفية بمختلف طرقها!؟ فالواجب المبادرة إلى تغيير هذه المنكرات، والتحذير من هذه الضلالات، والنصح للمسلمين حسب الجهد والطاقة. ولقد كتب علماؤنا في كل الشؤون والشجون، ولكن الناس في كل عصر ومصر بحاجة إلى من ينبههم ويرشدهم، ولعل رسالتي هذه -إن شاء الله- من هذا القبيل؛ ناصحة للموحدين، وفاضحة للملحدين، فإن نبزوا مؤلفها بالوهابية-كما هو دأبهم- فليس ذا بمستنكَرٍ من عيون أَلِفَتْ الظلام حتى صار يؤذيها النور فهي تسعى لإطفائه بكل حيلة ولكن هيهات يريدون أن(116/333)
يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولي في علمائنا المصلحين أسوة حسنة إذ لا زال أعداؤهم من أهل الباطل يكيدون لهم ويرمونهم بكل نقيصة ويستعينون عليهم بكل سلطانٍ جائر ويعملون على تشويه دعوتهم وطمس كتاباتهم في حياتهم وبعد مماتهم ولكن كل ذلك لم يحل دون وصول الحق إلى من كتب الله هدايته من الناس مع ما رفع الله من ذكر المصلحين وما أبقى على ألسن العباد من الثناء عليهم وما أحسن ما قال الشيخ ملا عمران التميمي رحمه الله من بلدة لنجة في بلاد فارس لمّا اتُّهم بالتوهُّب وكان قد أَمَرَ بالسنن ونهى عن البدع:
إنْ كان تابِعُ أحمدٍ متوهِّباً
أنفي الشريكَ عن الإله فليس لي
لا قبّةٌ تُرجى ولا وثنٌ ولا
كلّا ولا حجرٌ ولا شجرٌ ولا
أيضاً ولستُ مُعَلِّقاً لتميمةٍ
لرجاء نَفْعٍ أو لدفْعِ بَلِيَّةٍ
والابتداعُ وكلُّ أمرٍ مُحْدَثٍ
أرجو بأني لا أقاربه ولا
وأقولُ للباري صفاتٌ أُثبتتْ
والاستواءُ فإنّ حسبي قدوة
الشافعيِّ ومالكٍ وأبي حنيـ
وبعصرنا من جاء معتقداً به
جاء الحديثُ بغُربةِ الإسلامِ فلْـ
فالله يحمينا ويحفظ ديننا
ويؤيد الدين الحنيف بعصبةٍ
لا يأخذون برأيهم وقياسهم
قد أَخبر المختارُ عنهمْ أنهمْ
سلكوا طريق السابقين إلى الهدى
من أجل ذا أهلُ الغلو تنافروا
نَفَرَ الذين دعاهمُ خيرُ الورى
مع علمهم بأمانةٍ وديانةٍ
صلى عليه الله ما هبَّ الصَّبا ... فأنا المُقِرُّ بأنني وهّابي
ربٌ سوى المتفردِ الوهابِ
قبرٌ له سببٌ من الأسبابِ
عينٌ ولا نُصبٌ من الأنصابِ
أو حَلْقةٍ أو وَدْعةٍ أو نابِ
اللهُ ينفعني ويدفعُ ما بي
في الدين ينكره أولو الألبابِ
أرضاه ديناً وهو غيرُ صوابِ
بخِلافِ كل مُؤَوِّلٍ مُرتابِ
فيه مقال السادة الأنجابِ
ـفةَ وابنِ حنبلَ التقيْ الأوّابِ
صاحوا عليه مُجَسِّمٌ وهّابي
ـيبكِ المحبُّ لغُربةِ الأحبابِ
من شرِّ كلِّ مُعاندٍ سَبّابِ
متمسكين بسنة وكتابِ
ولهم إلى الوحيين خيرُ مآبِ(116/334)
غرباءُ بين الأهل والأصحابِ
ومشَوا على منهاجهم بصوابِ
عنهمْ فقلنا ليس ذا بعُجابِ
إذْ لقَّبوه بساحر كذّابِ
فيه ومكرمةٍ وصِدْقِ جوابِ
وعلى جميع الآل والأصحابِ
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وقارئه، وأن يكتب له القبول.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.
المؤلف
في 25 من شعبان سنة 1424هـ
الموافق 21 من تشرين الأول سنة 2003مـ
فِهْرِس الكتاب
الموضوع الصفحة
مقدمة فيها سبب تأليف الكتاب وهو تصريح أحد شيوخ حلب بإيمان فرعون......1
عقيدة الحلول والتدرج منها إلى وحدة الوجود...................................5
الحلاج سلف الصوفية وقوله بالحلول..........................................10
وحدة الوجود...............................................................13 ابن عربي ووحدة الوجود.....................................................18
اعتقاد ابن عربي وطائفته أن أهل النار في نعيم..................................23
وحدة الأديان عند الصوفية وتصحيح كل الديانات الباطلة ونجاة أصحابها.........25
تلخيص بعض كفريات ابن عربي في كتابه الفصوص والفتوحات.................30
بعض أكابر المجرمين المعتقدين بوحدة الوجود...................................30
عبد الكريم الجيلي ووحدة الوجود والأديان....................................31
النابلسي ووحدة الوجود والأديان.............................................32
أحمد كفتارو النقشبندي يصرح بأنه لا يوجد في الأرض كافر...................33
سبب الدفاع عن فرعون.....................................................36
تحريف الصوفية للآيات والأحاديث المتعلقة بفرعون.............................38(116/335)
إثبات هلاك فرعون كافراً وخلوده في النار ودحض شبهات الصوفية.............40 فتاوى أكابر العلماء في تكفير ابن عربي وطائفته................................48
ذكر أسماء أكثر من سبعين عالماً كفّروا ابن عربي (أو تكلموا فيه)................53
استحالة تأويل كلام ابن عربي وحكم المؤوِّل...................................61
تلك أمّة قد خلت...........................................................64
التصوف والزهد.............................................................66
اعتقاد الطريقة التجانية بوحدة الوجود.........................................67
اعتقاد الشاذلية بوحدة الوجود................................................70
نبذة عن عقيدة الحقيقة المحمدية................................................71
نصوص بعض الطرق الصوفية في الحقيقة المحمدية...............................76
اعتقاد الشاذلية بالحقيقة المحمدية...............................................79
اعتقاد الرفاعية بوحدة الوجود وفرعها الحقيقة المحمدية ونبذة عن أحوال الدولة العثمانية وأسباب زوالها......................................................84
الصيَّادي الرفاعي مستشار السلطان العثماني وادِّعاؤه القطبية والغوثية.............92
مقارنة بين عقائد الصوفية وعقائد الشيعة.......................................95
الصوفية والجهاد............................................................105
أوراد للرفاعية فيها اعتقاد وحدة الوجود والحقيقة المحمدية.....................107
اعتقاد الطريقة النقشبندية بوحدة الوجود.....................................108
تصريح أحمد الحسون النقشبندي بالحلول والوحدة والحقيقة المحمدية............110
اعتقاد الخزنوية أن شيخهم الخزنوي إله مجازي................................111(116/336)
أحد شيوخ دمشق(رمضان ديب) يصرح لمريديه بأن الله يعطي الدرس بدله أحياناً112
بيان أن أقوال الصوفية في الحلول توطئة للأعور الدجال أكبر الحلوليين في التاريخ112
تيس البوكمال أحد أولياء الصوفية...........................................112
القادرية ونزول قرآن جديد على شيخهم عبد القادر أسموه الغوثية..............114
معنى الشريعة والطريقة والحقيقة.............................................116
اعتقاد القادرية بعقيدة الحلول والحقيقة المحمدية................................117
إلغاء مسألة الثواب والعقاب عند القادرية والصوفية عامّة وأنه لا فرق بين الجنة والنار ولا بين الطائع والعاصي....................................................118
اعتقاد القادرية بعقيدة وحدة الوجود.........................................120
اعتقاد الصوفية أن الولي يقول للشيء كن فيكون.............................122
فتوى الدكتور وهبة الزحيلي في كفر حكم من يقول: الأولياء يقولون للشيء كن فيكون....................................................................122
تصرف الولي عند الصوفية ومدى صلاحياته..................................123
الولي أفضل من النبي عند الصوفية والباطنية عامّة..............................124
الأبدال عند الصوفية........................................................126
الشيخ الحوت الحلبي وأبداله المتصرفون في الكون..............................126
الشيخ أحمد بن حسون مفتي حلب وعقيدة القطب............................130
عقيدة الديوان الباطني عند الصوفية أو برلمان الأبدال...........................131
تمثُّل الشيطان بصورة الشيخ الخزنوي السوري لأحد المريدين...................133
نبذة عن دين العرب في الجاهلية.............................................134(116/337)
إثبات أن العرب في الجاهلية ليسوا من أهل الفترة ممن لا يُعَذَّب.................139
عقائد طوائف مشركي العرب في الجاهلية....................................156
بيان إثبات إيمان عرب الجاهلية بالله وإثباتهم صفات لائقة به سبحانه مع أنهم مشركون..................................................................160
عقيدة مشركي العرب بالملائكة.............................................186
إيمان مشركي العرب في الجاهلية ببعض الأنبياء والرد على طه حسين...........189
إيمان بعض عرب الجاهلية بالبعث والحساب والجنة والنار......................192
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالقدر......................................195
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالجن والكلام على المس وعلاجه.............199
عبادات المشركين في الجاهلية وأهمها دعاء الله في الشدة والجدب والرد على البوطي في مسألة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به من دون الله...............207
بيان أن المشركين كانوا يستغفرون الله وقوله تعالى: "وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون"................................................................210
بيان أن عرب الجاهلية مع شركهم كانوا ينذرون لله ويذبحون له في الحج ويعقُّون عن مواليدهم ويذبحون الفرع والعتيرة............................................211
صلاة المشركين المبتدعة وقوله تعالى: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية" ومقارنتها ببدع الصوفية في الذِكر...........................................214
الخلوات عند المشركين والصوفية............................................215
اعتكاف المشركين في الكعبة تعبداً وحديث عمر في ذلك......................220
صلاة المشركين على موتاهم وقيامهم للجنازة................................221(116/338)
صدقات المشركين في الجاهلية وقوله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" ومقارنتها ببعض أحوال الصوفية......................................221
صيام مشركي الجاهلية عاشوراء وصوم الصمت عندهم وعند الصوفية..........222
الحج عند أهل الجاهلية......................................................224
بعض الشرائع الصحيحة عند مشركي العرب في الجاهلية......................225
زِي العرب هو زِي المسلمين إلى قيام الساعة..................................227
ما بقي عند مشركي الجاهلية من كلام الأنبياء دون تحريف....................231
شهادات بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين على إيمان العرب في الجاهلية بالله وهم مشركون..................................................................232
المبشرون بالنار من أهل الجاهلية.............................................239
بيان طبيعة شرك عرب الجاهلية وأهم العبادات التي كانوا يصرفونها لأوليائهم....245
حادثة طريفة عن الشرك من الواقع...........................................254
بيان معنى التوسل وأنواعه والفرق بينه وبين الاستغاثة وأن مذهب الحنفية تحريم التوسل بحق النبي أو جاهه..........................................................256
انقطاع عمل الإنسان بموته وعدم علمه بعمل الأحياء بعده وقول الله تعالى يوم القيامة لنبيه: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".......................................270
خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في قبره..................................275
من صفات المدعو المسؤول..................................................279
صفات الداعي والعلاقة بين الشحاذة والاستغاثة بغير الله وتأويل رؤيا النبهاني في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق........................................281(116/339)
تحريم البناء على قبور الصالحين وغيرهم وأدلة ذلك............................285
ضوابط الزيارة الشرعية للقبور...............................................290
الفوائد المرجوَّة من زيارة القبور.............................................296
ما يقوله زائر القبور........................................................297
هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو المَنْجا من مظاهر الشرك والوثنية وسجود الصوفية لقبور شيوخهم............................................................298
دعوة القادرية الناسَ إلى عبادة شيخهم عبد القادر الجيلاني وطلب الحاجات منه والاستغاثة به من دون الله...................................................308
دعوة الرفاعية الناسَ للحج إلى قبر شيخهم في قرية أم عبيدة....................310
عبادة النقشبندية لقبور مشايخهم ودعوة الناس إليها............................312
تلخيص عقائد الصوفية المكفِّرة..............................................315
وسائل الصوفية لتثبيت عقيدة وحدة الوجود في عقول المريدين.................318
مقارنة بين عقائد الصوفية والنصارى.........................................320
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو به وحرصه الزائد على حفظ جناب التوحيد والكلام على أول خلق الله..................................................322
خاتمة يليها قصيدة نافعة للملا عمران بن رضوان توضِّح العقيدة الصحيحة......328
الفهرس...................................................................331(116/340)
تنبيه الحذاق
على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث
النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق
تأليف
أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني
الطبعة الثانية عام 1402 هـ
مكتبة دار اليقين للنشر والتوزيع
الرياض – الملز
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه .
أما بعد............
فقد قرأت ما كتبه أخونا العلامة الشيخ محمد أحمد بن عبد القادر الفقيه الشنقيطي في بيان الأدلة الدالة على بطلان الحديث المنسوب إلى مصنف الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني رحمه الله الدال على أن أول المخلوقات هو نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل شيء خلق من ذلك النور الخ..
فألفيته قد أجاد فيما كتب وأفاد وأبرز من الدلائل والبراهين النقلية والعقلية ما يدل على بطلان هذا الحديث وأنه من جملة الأخبار الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .(117/1)
وكل من تأمل الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة علم يقينا أن هذا الخبر من جملة الأباطيل التي لا أساس لها من الصحة وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا بما أقام من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة والمعجزات الباهرة على صحة نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام كما أغناه عن هذا الخبر المكذوب وأشباهه بما وهبه من الشمائل العظيمة والصفات الكريمة والأخلاق الرفيعة التي لا يشاركه فيها أحد ممن قبله ولا ممن بعده فهو سيد ولد آدم وخاتم المرسلين ورسول الله إلى جميع الثقلين وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود يوم القيامة إلى غير ذلك من خصائصه وشمائله وفضائله الكثيرة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله ونصر دينه وذب عن شريعته وحارب ما خالفها وأسأل الله أن يجزي أخانا الشيخ العلامة محمد أحمد بن عبد القادر عما كتبه في هذا المقام ما جزى به المحسنين المدافعين عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسنته والعاملين على نشرها والذب عنها وأن يجعلنا وإياه وسائر إخواننا من دعاة الهدى وأنصار الحق ما بقينا إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه والحمد لله رب العالمين.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الأسانيد برامج للمتون لتعلم , والصلاة والسلام على من قال – لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى أبن مريم .(117/2)
وبعد فإني رأيت السواد الأعظم ممن يزعم بعضهم أنه من أهل العلم وهو من الجهل يسير في داج من الظلم, أصبحوا يعتقدون أن أول شيء خلقه الله من الكائنات هو نور محمد صلى الله عليه وسلم, ويعتقدون أنه أيضا أصل للكائنات كلها أو ما فيه خير منها, وأن من لم يعتقد هذا لا عقيدة له تنفعه يوم الدين, لإنكاره عندهم ما هو ضروري من الدين ويعتقدون أنه لولا محمد - ص - لم يخلق الله تبارك وتعالى شيئا من المخلوقات البتة, وأن مبنى عقيدتهم هذه تدور على ما روى وجادة عن مصنف عبد الرزاق بن همام عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقه الله تعالى من المخلوقات فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله وخلق بعده كل شيء, وخلق منه كل خير. وفي بعض الروايات هذا الخبر خلقه وخلق منه كل شيء وهي المشهورة الكثيرة في التقاييد المحتوية على هذا الخبر إلى آخر خبر طويل جدا في نحو أربع صفحات من القالب الكبير, وفي وسطه تقسيم هذا النور إلى عشرة أقسام وتعيين خلق كل نوع من الكائنات من قسم معين من الأقسام العشرة, فرأيت أن من الواجب كفاية, والنصيحة لأهل الإسلام والديانة أن أكشف بالنقد والبحث الحثيث عن مرتبة ما أعتمد عليه هؤلاء عند أهل الحديث.
فأقول و بالله تعالى أستعين, وأغزو وأصول إن ثبت أن هذا الحديث في مصنف عبد الرزاق فهو من الطامات العظام التي في ضمنه كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر فإنه قال : إن مصنفه مشتمل على عظائم من الأخبار .(117/3)
والدليل على أنه من المختلفات والمفتريات على رسول الله صلى الله عليه وسلم طوله المفرط مع ركاكة ألفاظه وغرابته و نكارته وإعضاله عند نقاله, ولإنفراد عبد الرزاق به من بين من صنف في دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ولعدم وجوده في ديوان من دواوين أصول الحذاق سوى مصنف عبد الرزاق ولمخالفته دليل العقل وصحيح النقل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة, ولخلوه من شروط قبول الحديث الستة, التي اشترطها علماء الحديث وأئمته فلم يقبلوا حديثا خلى منها, وهي الاتصال والضبط والعدالة و المتابعة في المستور وعدم الشذوذ وعدم العلة القادحة, وأيضا نص أئمة الحديث ممن تقدمنا وممن عاصرنا على وضعه وضعفه وعدم وجود سند له.(117/4)
أما مخالفته لنصوص كتاب الله تعالى من حيث دلالتها على أصل ما خلق منه البشر الإنساني والجان الناري فقوله تعالى " خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار" فإن آدم والطين الذي خلق منه مخلوقان أصالة من نور محمد صلى الله عليه وسلم وقال جل وعلا أيضا في أصل نشأة السماء والأرض " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء لسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" الآيات. وقال " وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء " , قال بعض المفسرين أن الدخان الذي ذكر الله تعالى انه أصل السماء أصله من بخار الماء الذي كان عليه عرش الرحمن قبل خلق السماوات والأرض وما فيهن من الكائنات, وأن أصل الماء ياقوتة خضراء نظر الله تعالى إليها نظر هيبة فصارت ماء وأنه تعالى تجلى للماء فيبس سقفه فصار ترابا, فهذا ما أخبر الله تبارك وتعالى به أيضا في بدء خلق أصل السماوات والأرض وفسره علماء الأمة المحمدية, ولم يخضعوه ولم يقيدوه بمقتضى ما دل عليه الحديث المذكور, وما ذاك إلا لكونه لا أصل له عندهم إذ لو كان كذلك لتأولوه بما يزيل التعارض بينه وبين ما ذكرنا من النصوص وبين ما سنذكره وستقفون على فعل العلماء ذلك خلال هذه الرسالة إن شاء الله تعالى حيث نذكر في الموضوع ما يقع بينه التعارض من الأدلة الصحيحة إذ ذلك لازم عند المحققين من الفقهاء والمحدثين, والأصوليين, قال العلوي في مراقي السعود والجمع واجب إذا ما أمكنا ... إلى قوله أو يجب الوقف أو التساقط وفيه تفصيل حكاه الضابط.(117/5)
وقال تعالى في تعيين أصل ما خلقت منه المخلوقات الحيوانية, " وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " فهذه آيات خبريات لا تقبل النسخ من كتاب الله تعالى دلت بوضع نصوصها على معارضة ما دل عليه الخبر المذكور والحديث إذا كان هكذا يكون موضوعا بلا شك عند العلماء.
قال المحقق ابن القيم رحمه الله في كتابه المنار المنيف في بيان الحديث الضعيف, ما نصه, ومن العلامات التي يعرف بها الحديث الموضوع مخالفته لصريح القران, كحديث مقدار الدنيا وأنها سبعة آلاف سنة وأمثاله مما خالف صريح نصوص القرآن انتهى كلامه .
ومن القوادح في الخبر المذكور أيضا مخالفته لما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام من قوله لتميم " اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا بشرتنا فأعطنا قال, اقبلوا البشرى يا أهل اليمن, قالوا قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان, قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض ".
قال الأمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن و كيع ابن عدس عن عمه أبي رزين وأسمه لقيط بن عامر العقيلي قال قلت يا رسول الله . أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال " كان في عماء ما تحته هواء ثم خلق العرش بعد ذلك " ورواه ابن ماجه أيضا والترمذي وقال حديث حسن, وقال مجاهد ووهب بن منبه وعمرة و قتادة وغيرهم كان عرشه على الماء قبل أن يخلق كل شيء.(117/6)
وروى ابن جرير الطبري في التفسير حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أول ما خلق الله القلم قال أكتب قال وماذا أكتب ؟ قال أكتب فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ثم خلق النون ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض الخ . الحديث بتمامه ورواه الأمام أحمد والترمذي في جامعه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت قال قال لي أبي حين حضرته الوفاة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن أول ما خلق الله القلم: فقال له: أكتب الخ.. وقال حديث حسن صحيح . قال البيهقي في مختلف الحديث جمع بينه وبين ما تقدم عن الصحيحين وغيرهما من أولية خلق العرش والماء على خلق ما سواهما أراد أن أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش القلم قال وذلك بين في حديث عمران بن حصين كما في الصحيحين عنه مرفوعا ثم خلق السماوات والأرض انتهى كلام البيهقي رحمه الله تعالى, وروى عبد الرزاق عن عمر بن حبيب أحد الثقات عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس الإمام قال جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فسأله, مم خلق الخلق, قال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب, قال الرجل, فمم خلق هؤلاء قال لا أدري, قال ثم أتى الرجل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنهما فقال مثل قول عبد الله بن عمرو قال فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله فقال مم خلق الخلق قال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال الرجل, فمم خلق هؤلاء, فتلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ", فقال الرجل, ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي أراد أن مصدر الجميع منه أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ثم جعله أصلا(117/7)
لما خلق بعد, فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره, ولا خالق سواه سبحانه جل وعز انتهى كلام البيهقي رحمه الله تعالى.
ومما يقدح فيه أيضا ما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام قال مسلم الحجاج حدثنا محمد ابن رافع وعبد بن حميد قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم " ويعني الرسول صلى الله عليه وسلم بما وصف لكم ما وصف الله تبارك وتعالى لنا به آدم عليه السلام من أنه خلقه من تراب, ولما كان هذا الحديث من أصح ما روى عنه عليه الصلاة والسلام كما ترون, وكان فيه نوع معارضة لما تقدم من قوله تعالى " وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ", قال المفسرون أنه مخصص لعمومها, قال أبو حيان في البحر, وتكون الحياة على ما قاله الكلبي وغيره حقيقة, ويكون كل شيء عاما مخصوصا, إذ خرج منه الملائكة والجن, إذ ليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين لماء, انتهى كلامه.
فانظروا إخواني إلى هذه النصوص الصريحة من كتاب الله والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق السلف الصالح من الصحابة والتابعين والحفاظ والأئمة من المتأخرين على أولية ما خلق الله من المخلوقات, وأن الصحيح فيه أنه الماء ثم العرش ثم القلم ثم ما شاء الله من الخلق وأن المخلوقات بعد تناهي خلق أنواعها ترجع إلى أصول خمسة وهي الماء والنور والظلمة والرياح والتراب وأن هذه الأصول خلقها الله وأبتدعها لا عن أصل منه خلقها ولا على مثال سبقها, فأين لمسلم من دليل في الشريعة المحمدية يخالف هذه النصوص الصريحة, ويجوز له الإعراض عنها والاعتماد عليه سبحانك هذا بهتان عظيم .(117/8)
ومن القوادح في الخبر المذكور, كون الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أول شيء أنبا عن عظيم شأنه أجاب من سأله أنه ثلاثة أمور منها رؤيا من ليس بمعصوم فلو كان الخبر المذكور صحيحا كما روى لكان بالذكر أحرى من رؤيا من ليس بمعصوم, فقد روى الإمام أحمد من طريقين حسنتين إحداهما من طريق سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه والأخرى من طريق لقمان بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه أن كلا منهما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أول أمرك يا رسول الله ؟ قال " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قال الحافظ إسماعيل بن كثير, والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام فلم يزل ذكره في الناس مشهورا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى بن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيبا فقال " إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " قال, وقوله رأت أمي نورا قيل رأته منا ما حين حملت به, وقصته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم, انظر تفسيره عند قوله تعالى " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ". الآية فدعوى المعتمدين على حديث مصنف عبد الرزاق عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عن أول شيء حلقه الله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجابه بقوله نور نبيك يا جابر خلقه الله, وخلق بعده كل شيء و خلق منه كل شيء وما في معناه مما هو من طرازه مما سنخرجه أيضا أن شاء الله تعالى بعد, لئلا يغتر به من جهله بعد ما جلبنا لهم من القواعد القطعية ونصوص الكتاب وصحيح السنة وتواتر السلف والخلف عليها من هذه الأمة دعوى يحيلها العقل ولا يثبتها النقل لما اشتملت عليه من التحكم والدور الممنوعين عقلا لا خذهم من غير دليل يصح نورا(117/9)
منسوبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخر رسول بعثه الله في الأرض للخلق, وجعلهم هذا النور المنسوب لرسولنا صلى الله عليه وسلم أصلا للكائنات سواء قلنا بعرضية النور على انه صفة له لأن العرض لا يقوم بنفسه أو قلنا بجرميته لأنه من سببه فتوقف وجود الأرض التي هي أصل آدم عليه الصلاة والسلام الذي هو من آخر فروع آدم عليه السلام يسمى دورا عند ذوي نتائج العقول وأرباب المعقول وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه, وليس بمنفك أحد الجهتين فيسقط الاعتراض فالله تعالى يسلم لنا ولكم العقول ويعيذنا وإياكم من التمسك بخرافات النقول إذ قد كان في سعة ما رواه أصحاب رسول الله عليه وسلم عنه منذ بعثه الله بشيرا ونذيرا, ودونته عنهم الأئمة في أصولها الصحاح من دلائل نبوته وقواطع معجزاته ما يغني عن التعلق بهذه السفسطيات التي يعلم بطلانها ذوو البدايات وحيث اجتث اصل الخبر الذي تدور عليه عقيدة من قدمنا ذكرهم بما لا معدى وراءه من تعيين القوادح فيه نقلا وعقلا باستحالة مقتضاه من أول إلى منتهاه فنخرج أيضا خبرين ادعى بعض زعماء هؤلاء الجهلة لما أقمنا لهم الحجج على وضع الحديث مصنف عبد الرزاق أنه وإن كان موضوعا فهذان الحديثان شاهدان له, وهذا أيضا من جهلهم الذي حملهم على أن جعلوا حديثا موضوعا أصلا في العقائد الدينية ثم أنهم لم يقنعوا بذلك حتى جعلوا ما في معناه من الأحاديث الموضوعة يصلح شاهدا له يبلغ به درجة الاحتجاج به في أصول الدين وإليكم تخريج الأول من الحديثين المذكورين.(117/10)
قال ابن الجوزي في الموضوعات الكبرى صفحة 140 من الجزء الثاني منها أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك وغيره قالوا أنبأنا احمد بن المعطى أنبأنا أبو القاسم عبد الرحمن الحوفي أنبأنا أبو احمد حمزة الدهقاني حدثنا محمد بن عيسى بن حيان أبو السكين حدثنا محمد ابن الصباح أنبأنا علي بن الحسن الكوفي عن إبراهيم بن اليسع عن أبي العباس الضرير عن الخليل بن مرة عن يحي البصري عن زادان عن سلمان قال هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أن الله يقرئك السلام ويقول لك ما خلقت خلقا أكرم علي منك ولقد أعطيتك القران وفضل شهر رمضان و الشفاعة كلها لك حتى ظل عرشي في القيامة على رأسك محدودا وتاج الملك على رأسك معقودا ولقد قرنت أسمك باسمي فلا أذكر في موضع حتى تذكر معي ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك علي ومنزلتك عندي ولولاك ما خلقت الدنيا. قال ابن الجوزي هذا موضوع أبو السكين وإبراهيم بن اليسع ويحي البصري متروكون ووافقه الحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي على أنه موضوع انتهى ..
وأما الحديث الثاني فقال الحافظ الذهبي في الميزان عمرو بن أوس يجهل حاله أتى بخبر منكر أخرجه الحاكم في قسم الموضوع من المستدرك من طريق جندل ابن واثق عن عمرو بن أوس عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أوحى الله إلى عيسى بن مريم آمن بمحمد فلولاه ما خلقت آدم ولا الجنة و النار قال الذهبي هذا موضوع عن ابن عباس.
ومن أقوى الحجج عند هؤلاء على معتقدهم الذي وصفنا في المقدمة ما نظمه البوصيري مما تضمنته هذه الأحاديث التي ذكرنا لكم النصوص على كذبها واختلاقها بقوله في الميمية .
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وقوله:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
وقال غيره مما هو من نظمه وشكله:
لولاه ما خلقت شمس ولا قمر(117/11)
ولا نجوم ولا لوح ولا قلم
إلى غير ذلك من قريض من لا يميز بين صحيح الحديث و ضعيفه ولا يبالي بتصحيحه من تحريفه ولقد وقع بيني وبين رجل يوما من سكان شمال موريتانيا يقال له محمد ابن البار وهو ممن له شيعة منهم وأتباع يعتقدون أنه من أعلم الخلق وأولاهم بالله كلام ومناظرة ألزمته فيها الحجة والدليل على ما يعتقده هو و أمثاله على أنه لولا محمد صلى الله عليه وسلم ما تفضل الله تبارك وتعالى على احد ولا على شيء من الدواب والحشرات بأي شيء من الأرزاق وسائر المنافع فاحتج علي بقول البوصيري المتقدم لولاه لم تخرج الدنيا من العدم فقلت له قول البوصيري ليس حجة في الشريعة فقال لي البوصيري أفضل منك فقلت له ويحك متى علمت منزلتي عند الله حتى تفضل علي من لا تعلم ما لقي عنده فعلمت أن الشيخ ليس كما يعتقدون أتباعه.
إخواني وأين هؤلاء من أمر الله تبارك وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبلغنا " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " .
اللهم اشرح للإسلام صدورنا واعقد على الإيمان بك قلوبنا, ولا تضلنا بعد إذ هديتنا ربنا.(117/12)
وإذ قد أتينا على ما سمح به الوقت مما يتعلق بنقد حديث مصنف عبد الرزاق بن همام وما في معناه من الموضوعات ومضللات العوام, فنذكر لكم إن شاء الله تعالى أيضا من نص على وضعه وضعفه وعدم وجود سند له, فقد سئل الحافظ السيوطي عن حديث مصنف عبد الرزاق كما في الحاوي في الفتاوى أي من الجزء الأول صفحة 500 منه فأجاب بأنه لا سند له يثبت البتة وقال العلامة ابن عجيبة المغربي في شرح حكم أحمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندري في ذكر منازع الصوفية منها أنه ضعيف عند العلماء وأن عليه اعتماد المتصوفة وقال أحمد الصديق الغماري في مقدمة كتابه المغير على ما في الجامع الصغير أنه موضوع لا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه وسئل عنه الألباني, فأجاب بأنه باطل.
وقد نجز بحمد الله تعالى ما وعدنا به من نقد الحديث الذي عمت البلوى باعتماده وضل الكثير من الورى باعتقاده, راجين من الله أن يهدينا وسائر المسلمين عند كل مضلة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه السلف الهداة, وأن يعيذنا من تفريط المفرطين وغلو المفرطين و لجاج المتعصبين لأوضاع المبطلين آمين يا رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وأصحابه الطاهرين الطيبين.
كتبه وجمعه من مداركه الراجي من الله تعالى أن يسلك به أقوم مسالكه, الفقير إلى مولاه محمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي منشأ القرشي التيمي نسبا المدني وطنا, لثمان ليالي بقيت من شوال عام 1390 هـ, وسميت هذه الرسالة تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق بن همام.
كتبه على برنامج الوورد
الفقير إلى عفو ربه أبو عبد الرحمن
راجياً من كل من قرأه خالص الدعاء
وأسأل الله عز وجل أن ينفع به من قرأه
ونشره أبو عمر المنهجي - الدفاع عن السنة(117/13)
شبكة مشكاة الإسلامية
عودة إلى الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
حقوق آل البيت بين السنة والبدعة
لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله
هذه رسالة نادرة لشيخ الاسلام ابن تيمية –رحمه الله - قام بنشرها الشيخ ابو تراب الظاهرى – رحمه الله – وكذلك الاستاذ عبد القادر عطا – رحمه الله – وقد جمعنا تخريجهم للاحاديث الواردة فى الرسالة مع الاختصار واضفنا حكم العلامة الالبانى – رحمه الله – عليها .
وكانت مجلة التصوف الاسلامى قد نشرت الرسالة بتعليق الشيخ ابى تراب لكنها حذفت منها القسم الاخير المتعلق بالمشاهد والقبور !!!
ولقد ابقينا على العناوين الفرعية التى وضعها الاستاذ عبد القادر ، والمقدمة التى كتبها الشيخ ابى تراب .
والعنوان الذى نشرته مجلة التصوف هو (فضل اهل البيت وحقوقهم ) ولا ندرى هل هو من وضعهم ام من صنيع ابى تراب ؟
ولقد نشرها ايضا الشيخ العلامة بكر ابو زيد فى كتابه جامع الرسائل المنثورة 3/69-115 .
مقدمة الشيخ ابو تراب الظاهرى
قال ابو تراب :
هذه رسالة نادرة لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وجدتها في كناشتى ، وهي على صغر حجمها جليلة القدر ، لملمت بين ثناياها أطراف موضوعها من جميع الجوانب ، كعادة ابن تيميه إذا تكلم في مسألة فهو بحر مواج يبعد عليك الوصول إلى ساحله .(118/1)
ومحتوى الرسالة كما أنبنا عنه عنوانها – بيان مذهب السلف في شعبة من شعب الإيمان – التي تتعلق بأعمال القلب وهي حب أهل بيت النبوة كما دل عليه القرآن والحديث ، وقد أوضح ذلك في هذه الرسالة أتم إيضاح ، وكلامه عن ذلك في الفتاوى الكبرى ( ج3 ص154 ) وهو في العقيدة الواسطية ما نصه : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال يوم غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ، وقال للعباس عمه – وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم- ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ) .
وقال في الفتاوى ( ج3 ص407 ) وهو في الوصية الكبرى ( ص297 ) ما نصه : ( آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها ، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء ، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) ، وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) وقد قال الله في كتابه : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ))(118/2)
وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس – لما شكا إليه جفوة قوم لهم – ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) وفي الصحيح أنه قال : ( إن الله اصطفى .. الحديث المذكور ) .
وأورد شيخ الإسلام ابن تيميه في درجات اليقين ( ص149) قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي ) .
وقال ابن تيميه في اقتضاء الصراط ( ص 73 ) الحجة قائمة بالحديث . وقال في ( ص89 ) وانظر إلى عمر بن الخطاب حين وضع الديوان فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقل العلامة السيد حامد المحضار في الجزء الذي جمع فيه أقوال الشيخين ابن تيميه وابن القيم (ص23) قول شيخ الإسلام في رسالة ( رأس الحسين ) عقب حديث : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) فإذا كانوا أفضل الخلق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال.(118/3)
هذا والأحاديث في فضائل أهل البيت النبوي مستفيضة في المسانيد والمعاجم والسنن والمصنفات ، وفيها الضعيف والموضوع مع الصحيح ، وقد ميز بينها نقاد المحدثين ، ومعظمها في جامع المسانيد لابن كثير والجامع الكبير للسيوطي وكنز العمال للمتقى ، ونقد بعضها ابن كثير في تفسيره ( ج3 ص 483 ) ، وللمحب الطبري في ذلك تأليف مفرد سماه : ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ، وانظر شرف بيت النبوة في جلاء الأفهام لابن القيم ( ص 177 ) ولغلاة الشيعة فيها تأليف مفردة فيها من المنكر شيء كثير ، وحسبنا ما صحت به الرواية ، وجاء به الحديث الثابت ، قال ابن كثير (ج4 ص 113 ) : ( ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه ، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين ) .
وفي صحيح البخاري قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وقال لعليّ رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب .
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه خطب فقال : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ) ، ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي ، وفي رواية ( كتاب الله وعترتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) .
وروى ذلك أيضاً أبو ذر وأبو سعيد وجابر وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم وأورده ابن تيميه في الفرقان ( ص 163 ) وفي لفظ مسلم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) .(118/4)
قال الطيبي كما في تحفة الأحوذي ( ج4 ص 343 ) : لعل السر في هذه التوصية واقتران العترة بالقرآن أن إيجاب محبتهم لائح من معنى قوله تعالى : (( قل لا أسلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)) فإنه تعالى جعل شكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطاً بمحبتهم على سبيل الحصر فكأنه صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بقيام الشكر ، وقيد تلك النعمة به ، ويحذرهم عن الكفران ، فمن أقام بالوصية ، وشكر تلك الصنيعة بحسن الخلافة فيهما لن يفترقا ، فلا يفارقانه في مواطن القيامة ومشاهدها حتى يردوا الحوض ، فشكر صنيعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ هو بنفسه يكافئه ، والله تعالى يجزيه الجزاء الأوفى ، فمن أضاع الوصية وكفر النعمة فحكمه على العكس ، وعلى هذا التأويل حسن موقع قوله : ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) ، أي : تأملوا وتفكروا واستعملوا الروية في استخلافي إياكم هل تكونون خلف صدق أو خلف سوء .
هذا وفي الرسالة فوائد يحرص أهل العلم على اقتناصها كمسألة إعطاء آل البيت من الزكوات .
وكمسألة تخصيص أصحاب الكساء من عموم أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية المذكورة في الأحزاب : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً )) وهم ذوو قرباه وأزواجه اللاتي سيقت الآيات فيهن وفي مخاطبتهن وتنظير ذلك بالمسجد الذي أسس على التقوى ، وهو مسجد قباء وعلى الأخص مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكمسألة سيادة الحسن دون الحسين رضي الله عنهما وتنظير ذلك بإسحاق وإسماعيل عليهما السلام إلى غير ذلك مما تجده فيها .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العامل فريد عصره ، مفتي الفرق ، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيميه رضي الله عنه وأرضاه ، وأعلى درجته :(118/5)
هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . الذين يحبون الله ورسوله ، ومن أحبه الله ورسوله ، ويعرفون من حق المتصلين برسول الله ما شرعه الله ورسوله ، فإن من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته ، ومن محبة رسوله وطاعته محبة من أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الرسول بطاعته ، كما قال تعالى : (( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني ) 1 ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إنما الطاعة في المعروف ) 2 ، وقال : ( لا
1 رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة .
2 هذه قطعة حديث أخرجه البخاري ومسلم ، ونصه عند البخاري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ، فأغضبوه إلى شيء ، فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا له ثم قال : أوقدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى ، قال : فادخلوها ، فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فكانوا كذلك ، وسكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف .
طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) 1 .(118/6)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ، ونصلي على إمام المتقين ، وخاتم النبيين عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة
فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالكتاب والحكمة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وقال الله تعالى : (( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) . وقال تعالى : (( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به )) . وقال لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : (( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة )) .
والذي كان يتلوه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه : كتاب الله والحكمة . فكتاب الله هو القرآن ، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه ، وهي سنته صلى الله عليه وسلم . فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا .
وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ستكون فتنة . قلت : فما المخرج يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) .2(118/7)
1 رواه أحمد والحاكم والطيالسي عن عمران بن حصين والحكم والغفاري وعبد الله بن الصامت وله مخارج آخر ، وصححه الالبانى فى الصحيحة برقم 179
2 اخرجه الترمذى و الدارمى و احمد ، وضعفه الالبانى فى ضعيف سنن الترمذى حديث رقم 554
وقال الله تعالى في كتابه : (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) ، وقال في كتابه : (( إن الذين تفرقوا وكانوا شيعا لست منهم في شيء )) . فذم الذين تفرقوا فصاروا أحزاباً وشيعاً ، وحمد الذين اتفقوا وصاروا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعة واحدة للأنبياء كما قال تعالى : (( وإن من شيعته لإبراهيم )) ، وإبراهيم أبو الأنبياء ، كما قال : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )) . وقال تعالى : (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يكن من المشركين )) ، إلى أن قال : (( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركيين )) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمته أن يقولوا إذا أصبحوا : ( أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) 1 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، فلا ألفين رجلاً شبعان على أريكته يقول : بيننا وبينكم هذا القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) 2 .(118/8)
فهذا الحديث موافق لكتاب الله ، فإن الله ذكر في كتابه أنه صلى الله عليه وسلم يتلو الكتاب والحكمة ، وهي التي أوتيها مع الكتاب ، وقد أمر في كتابه بالاعتصام بحبله جميعاً ، ونهى عن التفرق والاختلاف ، و (أمر) أن نكون شيعة واحدة ، لا شيعاً متفرقين ، وقال الله تعالى في كتابه : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )) فجعل المؤمنين إخوة ، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي .
1 أخرجه أحمد والطبراني والنسائي عن عبد الرحمن بن ابزى ، وصححه الالبانى فى الجامع 4550
2 رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حيان والحاكم عن أبي رافع، وأخرجه أحمد وأبو داود عن المقدام بن معد يكرب أيضاً ، صحيح المشكاة 162
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) 1 ، وقال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) 2 ، وشبك بين أصابعه .
فهذه أصول الإسلام التي هي الكتاب والحكمة ، والاعتصام بحبل الله جميعاً ( واجب ) على أهل الإيمان للاستمساك بها .
اهل البيت وخصائصهم
من هم اهل البيت ؟
ولا ريب أن الله قد أوجب فيها من حرمة خلفائه وأهل بيته والسابقين الأولين ، والتابعين لهم بإحسان ما أوجب . قال الله تعالى : (( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً )) .(118/9)
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة : أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) 3. وسنته تفسر كتاب الله وتبينه ، وتدل عليه ، وتعبر عنه . فلما قال : ( هؤلاء أهل بيتي ) مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه ، علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن ، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته ، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر ، والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بأصل الحكم ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يتفطن له يتصدق عليه ، ولا يسأل الناس إلحافاً ) .
بين بذلك : أن هذا مختص بكمال المسكنة ، بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه المسكنة ، لوجود من يعطيه أحياناً ، مع أنه مسكين أيضاً . ويقال : هذا هو العالم ، وهذا هو العدو ، وهذا هو المسلم، لمن كمل فيه ذلك وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه .
1 رواه الشيخان و الإمام أحمد .
2 أخرجه البخاري ومسلم ، عن أبي موسى .
3 اخرجه الترمذى واحمد ، صحيح الترمذى 3435(118/10)
ونظير هذا في الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : ( مسجدي هذا ) يعني مسجد المدينة . مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار : (( لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين )) . يقتضى أنه مسجد قباء . فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: ( ماهذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به ؟ فقالوا : لأننا نستنجي بالماء ) .1 لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء ، وإن كان كل منهما مؤسساً على التقوى ، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً ، فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ، ثم يقوم بقباء يوم السبت 2، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى .
ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرا ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به ، وهم : علي ، وفاطمة ، رضي الله عنهما ، وسيدا شباب أهل الجنة ، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير ، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ، ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم ، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يظن من يظن أنه استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له ، وهدايته إياه .(118/11)
وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح : أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه ، وخيرهن كما أمره الله ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولذلك أقرهن ، ولم يطلقهن، حتى مات عنهن 3 ، ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده .
ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور والوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال : ( إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين ، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين ) .
1 اخرجه احمد وابن ماجه . صحيح ابن ماجه 1/62
2 رواه الشيخان
3 رواه الشيخان
وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى ( خم ) بين مكة والمدينة فقال : ( وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) . قيل لزيد بن أرقم : ومن أهل بيته ؟ قال : الذين حرموا الصدقة : آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل عباس . قيل لزيد : أكل هؤلاء أهل بيته ؟ قال : نعم ) 1 .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح أن الله لماأنزل عليه : (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) . سأل الصحابة : كيف يصلون عليه ؟ فقال : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )2 . وفي حديث صحيح : ( اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ) .
مالهم وما عليهم :(118/12)
وثبت عنه أن ابنه الحسن لما تناول تمرة من تمر الصدقة قال له : ( كخ ، كخ ، أما علمت أنا آل البيت لا تحل لنا الصدقة ) 3 ، وقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) 4 وهذا والله أعلم من التطهير الذي شرعه الله لهم ، فإن الصدقة أوساخ الناس ، فطهرهم الله من الأوساخ ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم ، ومن الفيء الذي جعل منه رزق محمد حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد اللله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) 5 .
ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة ، لا سيما إذا تعذر أخذهم من الخمس والفيء ، إما لقلة ذلك ، وإما
1 رواه مسلم و أحمد والنسائي والترمذي .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .
4 اخرجه الدارمى والنسائى ومالك ، صحيح صحيح الجامع 1660.
5 رواه البخارى تعليقا واحمد ، صحيح الجامع 2828 .
لظلم من يستولي على حقوقهم ، فيمنعهم إياها من ولاة الظلم ، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم من الخمس والفيء 1 .
صفات اهل الفيء :
وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه حيث قال : (( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )) الآيات .
فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف : المهاجرين ، والأنصار ، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين بقونا بإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربينا إنك رؤوف رحيم .(118/13)
وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم ونصرتهم ، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك ، مشبها بتناول الوارث ميراث أبيه ، فإن لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث ، ( فلا يرث المسلم الكافر )2 ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء ، حتى يكون قلبه مسلما لهم ، ولسانه داعيا لهم ، ولو فرض أنه صدر من واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة ، أو بتوبة تصدر منه ، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته ، أو يقبل في شفاعة نبيه وإخوانه المؤمنين ، أو يدعو الله بدعاء يستجيب له .
سب الصحابة ... حرام على ال البيت وغيرهم :
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم غزوة الفتح ، فبعث إليهم إمرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك ، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير فأحضروا الكتاب ، فقال : ( ما هذا يا حاطب ؟ ) فقال : والله يا رسول الله ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا ، ولكن كنت امرأ ملصقا من قريش ، ولم أكن
1 قال أبو تراب : وقال بذلك أبو سعيد الأصطخري قال الرافعي : وكان محمد بن يحيى صاحب الغزالي يفتي بهذا . انظر شرح المهذب للنووي ج6 ص 227 .
2قال عبد القادر عطا :لانقطاع الموالاة بينهما لحديث اسامة بن زيد الذى اخرجه احمد والبخارى ومسلم والاربعة .(118/14)
من أنفسهم ، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال صلى الله عليه وسلم : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع عل أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وأنزل الله تعالى في ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة )) الآيات .
وثبت في صحيح مسلم أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار ، وكان حاطب يسىء إلى مماليكه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذبت ، إنه قد شهد بدرا والحديبية ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة ) 1 .
فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة التي كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عن عدوه ، وكتمها عن أصحابه ، وهذا من الذنوب الشديدة جدا ، وكان يسيء إلى مماليكه ، وفي الحديث المرفوع ، ( لن يدخل الجنة سيء الملكة ) 2 . ثم مع هذا لما شهد بدرا والحديبية غفر الله له ورضي عنه ، فإن الحسنات يذهبن السيئات . فكيف بالذين هم أفضل من حاطب وأعظم إيماناً وعلما وهجرة وجهادا ، فلم يذنب أحد قريبا من ذنوبه ؟! .(118/15)
ثم إن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه روى هذا الحديث في خلافته ، ورواه عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأهل بدر بما شهد ، مع علم أمير المؤمنين بما جرى ، ليكف القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى ، فلم يأت أحد منهم بأشد مما جاء به حاطب ، بل كانوا في غالب ما يأتون به مجتهدين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )3 .. وهذا حديث صحيح مشهور .
1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر ومسلم عن أم بشر .
2 أخرجه الترمذي وابن ماجه واحمد ، ضعيف ضعيف ابن ماجه 3691 .
3 رواه الشيخان .
وثبت عنه أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فرد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأمر نبيه بقصد بني قريظة قال لاصحابه( لايصلين احد منكم العصر إلافى بنى قريظة )1 ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فمنهم قوم قالوا : لا نصليها إلا في بني قريظة ، ومنهم قوم قالوا : لم يرد منا تفويت الصلاة، إنما أراد المسارعة ، فصلوا في الطريق . فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين .
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه موافقة لما ذكره الله سبحانه وتعالى حيث قال : (( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما )) فأخبر سبحانه وتعالى أنه خص أحد النبيين بفهم الحكم في تلك القضية ، وأثنى على كل منهما بما اتاه من العلم والحكم .
فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه ، كانوا فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق .
جهل الشيعة بمذهب الامام علي(118/16)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )2 . وروى عنه مولاه سفينة أنه قال : ( الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا ) 3 . فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر إلى معاوية . وكان معاوية أول الملوك ، وفيه ملك ورحمة ، كما روى في الحديث : ( ستكون خلافة نبوة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك وجبرية ، ثم يكون ملك عضوض ) 4.
وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوه أنه لما قاتل أهل الجمل لم يسب لهم ذرة، ولم يغنم لهم مالا ، ولا أجهز على جريح ، ولا اتبع مدبرا ، ولا قتل أسيرا ، وأنه صلى على قتلى الطائفتين بالجمل وصفين ، وقال : ( إخواننا بغوا علينا )5 . وأخبر أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين ، واتبع فيما قاله كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن الله سماهم
1رواه البخارى .
2رواه ابو داود و الترمذى وابن ماجه ، صحيح صحيح الترغيب 1/123 .
3رواه احمد ، صحيح صحيح الجامع 3336 .
4 اخرجه ابو داود والترمذى واحمد ، صحيح الصحيحة 5 .
5 رواه ابن ابى شيبة .
إخوة وجعلهم مؤمنين في الاقتتال و البغي كما ذكر في قوله : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا )).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح أنه قال : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) 1 .
وهذه المارقة هم أهل حروراء ، الذين قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه لما مرقوا من الإسلام ، وخرجوا عليه ، فكفروه ، وكفروا سائر المسلمين ، واستحلوا دمائهم وأموالهم .(118/17)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة أنه وصفهم وأمر بقتالهم ، فقال : يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقرآنه مع قرآنهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل )2 . فقتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه ، وسر أمير المؤمنين بقتلهم سرورا شديدا وسجد لله شكرا ، لما ظهر فيهم علامتهم وهو المخدج اليد ، الذي على يده مثل البضعة من اللحم ، عليها شعرات فاتفق جميع الصحابة على استحلال قتالهم ، وندم كثير منهم كابن عمر وغيره على ألا يكونوا شهدوا قتالهم مع أمير المؤمنين ، بخلاف ما جرى في وقعة الجمل وصفين ، فإن أمير المؤمنين كان متوجعا لذلك القتال ، متشكياً مما جرى ، يتراجع هو وابنه الحسن القول فيه ، ويذكر له الحسن أن رأيه ألا يفعله .
فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين وأصحابه وغبطه به من لم يشهده ، مع ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته ، حب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه : ( اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحب من يحبه )3 . وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع حروبه .
ولا يستوي القتلى الذين صلى عليهم و سماهم إخواننا ، والقتلى الذين لم يصل عليهم ، بل قيل له: من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ فقال : هم أهل حروراء.
1 أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي سعيد .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .(118/18)
فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرهم الذي سماه أمير المؤمنين في خلافته بقوله وفعله موافقا فيه لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو الصواب الذي لا معدل عنه لمن هدى رشده ، وإن كان كثير من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان ، بل يجعلون السير في الجميع واحدة . فإما أن يقصروا بالخوارج عما يستحقونه من البغض واللعن والقتل واما يزيدوا على غيرهم ما يستحقون من ذلك
عوامل الضلال
وسبب ذلك قلة العلم والفهم لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه ، وسيرة خلفائه الراشدين المهديين، وإلا فمن استهدى الله واستعانه ، وبحث عن ذلك ، وطلب الصحيح من المنقول ، وتدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وسنة خلفائه رضي الله عنهم ، ولا سيما سيرة أمير المؤمنين الهادي المهدي التي جرى فيها ما اشتبه على خلق كثير فضلوا بسبب ذلك ، إما غلوا فيه ، وإما جفاء عنه ، كما روى عنه قال : ( يهلك في رجلان : محب غال يقرظني بما ليس في ، ومبغض قال يرميني بما نزهني الله منه )1 .
وحد ذلك وملاك ذلك شيئان : طلب الهدى ، ومجانبة الهوى ، حتى لا يكون الإنسان ضالا وغاويا ، بل مهتديا راشدا ، قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )) . فوصفه بأنه ليس بضال – أي ليس بجاهل – ولا غاو – أي ولا ظالم – فإن صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به ، فمن لم يعلم الحق فهو ضال عنه . ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو غاو ، ومن علمه وعمل به كان من أولى الأيدي عملا ، ومن أولى الأبصار علما ، وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كل صلاة أن نقول : (( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين )) .(118/19)
فالمغضوب عليهم : الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود ، والضالون : الذين يعملون أعمال القلوب و الجوارح بلا علم كالنصارى . ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )) .
1رواه احمد واسناده ضعيف وجاء عند ابن ابى عاصم ( يهلك في رجلان مفرط فى حبى ومفرط فى بغضى ) وحسنه الالبانى السنة لأبى عاصم 984 .
ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه في قوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )) . ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى : (( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )) .
ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علم حيث قال : (( وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين )) . وقال : (( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله )) .
وأخبر من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضل الضالون ، ولا يشقى كما يشقى المغضوب عليهم فقال : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى )) . قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .
ومن تمام الهداية : أن ينظر المستهدي في كتاب الله وفيما تواتر من سنة نبيه ، وسنة الخلفاء ، وما نقله الثقات الأثبات ، ويميز بين ذلك وبين ما نقله من لا يحفظ الحديث ، أو يتهم فيه بكذب لغرض من الأغراض ، فإن المحدث بالباطل إما أن يتعمد الكذب ، أو يكذب خطأ لسوء حفظه أو نسيانه ، أو لقلة فهمه وضبطه .(118/20)
ثم إذا حصلت للمستهدى المعرفة بذلك تدبر ذلك ، وجمع بين المتفق منه ، وتدبر المختلف منه ، حتى يتبين أنه متفق في الحقيقة وإن كان الظاهر مختلفا ، أو أن بعضه راجح يجب اتباعه ، والآخر مرجوح ليس بدليل في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر دليلا .
أما غلط الناس فلعدم التمييز بين ما يعقل من النصوص والآثار ، أويعقل بمجرد القياس والاعتبار ، ثم إذا خالط الظن والغلط في العلم هوى النفوس ومناها في العمل صار لصاحبها نصيب من قوله تعالى: (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى )) .
وهذا سبب ما خلق الإنسان عليه من الجهل في نوع العلم ، والظلم في نوع العمل فبجهله يتبع الظن ، وبظلمه يتبع ما تهوى الأنفس . ولما بعث الله رسله وأنزل كتبه ، لهدى الناس وإرشادهم ، صار أشدهم اتباعا للرسل أبعدهم عن ذلك ، كما قال تعالى : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )) .
ولهذا صار ما وصف الله به الإنسان لا يخص غير المسلمين دونهم ، ولا يخص طائفة من الأمة ، لكن غير المسلمين أصابهم ذلك في أصول الإيمان التي صار جهلهم وظلمهم فيها كفراناً وخسرانا مبينا، ولذلك من ابتدع في أصول الدين بدعة جليلة أصابه من ذلك أشد مما يصيب من أخطأ في أمر دقيق أو أذنب فيه ، والنفوس لهجة بمعرفة محاسنها ، ومساويء غيرها .(118/21)
وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحق ، ولا يتبع إلا إياه ، ولهذا من يتبع المنقول الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه ، وأصحابه ، وأئمة أهل بيته ، مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة ، ومثل أنس بن مالك ، والثوري وطبقتهما ، وجد ذلك جميعه متفقا مجتمعا في أصول دينهم ، وجماع شرائعهم ، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف وهؤلاء المتأخرين ، ممن ينتصب لعداوة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويبخسهم حقوقهم ، ويؤذيهم ، أو ممن يغلو فيهم غير الحق ، ويفتري عليهم الكذب ، ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم ، ورأى أن في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات ، وباب العدل والقدر ، وباب الإيمان والأسماء والأحكام ، وباب الوعيد والثواب ، والعذاب ، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يتصل به من حكم الأمراء أبرارهم وفجارهم ، وحكم الرعية معهم ، والكلام في الصحابة والقرابة ما يبين لكل عاقل عادل أن السلف المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنس النزاع الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره ، وإن البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة ، واتفاق أولي الأمر الهداة المهتدين إنما حدثت مع الأخلاف ، وقد يعزون بعض ذلك إلى بعض الأسلاف ، تارة بنقل غير ثابت ، وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه .(118/22)
ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل ، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملك ، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملك ، كما قال تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين .
فكذلك أهل الاستقامة ، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عليه السلف ، تمسكوا بالوسط ، ولم ينحرفوا إلى الأطراف ، فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم ، كما قال الله تعالى : (( فريقا كذبتم وفريقا تقتلون )) ، والنصارى غلوا فيهم حتى عبدوهم كما قال تعالى : (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق )) الآية .
واليهود انحرفوا في النسخ حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه ، كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال : (( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )) والنصارى قابلوهم فجوزوا للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ، ويحرموا ما شاءوا ، وكذلك تقابلهم في سائر الأمور .
فهدى الله المؤمنين إلى الوسط ، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه ، ووقروهم ، وعزروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، واتبعوهم ، ولم يردوهم كما فعلت اليهود ، ولا أطروهم ولا غلوا بهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما فعلت النصارى ، وكذلك في النسخ ، جوزوا أن ينسخ الله ، ولم يجوزوا لغيره أن ينسخ ، فإن الله له الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره .(118/23)
وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية ، والعصبة الجماعية ، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة ، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية والجبرية والقدرية والمجوسية ، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج أهل المنزلة ، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية ، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر ، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفوذ الوعيد . وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ، ويركنون إلى الذين ظلموا ، وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد إلا أن يكون معصوما ، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في طاعة من لا وجود له .
فالأولون يدخلون في المحرمات ، وهؤلاء يتركون واجبات الدين ، وشرائع الإسلام ، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالماً ، وقد يكون كاملاً في علمه وعدله .
اهل الاستقامة ... عند المصيبة
وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان ، فيتقون الله ما استطاعوا ، ولا يتركون ما أمروا به لفعل غيرهم ما نهى عنه ، بل كما قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )) . ولا يعاونون أحدا على المعصية ، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه ، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف ، فهم وسط في عامة الأمور ، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم .(118/24)
ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء ، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام . وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين وقد كانت شهدت مصرع أبيها ، عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنه ، عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت ، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها ) 1 .
1 أخرجه احمد وابن ماجه ، ضعيف جدا ضعيف ابن ماجه 1600 .
فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد ، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا ، ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه ، ورفعا لدرجته ومنزلته عند الله ، وتبليغا له منزل الشهداء ، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء ، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما ، لأنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في حجور المؤمنين ، فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة ، أحدهما مسموما ، والآخر مقتولا ، لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ) 1 .(118/25)
وشقي بقتله من أعان عليه ، أو رضي به ، فالذي شرعه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصاب وإن عظمت أن يقولوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد روى الشافعي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وأصاب أهل بيته من المصيبة ما أصابهم ، سمعوا قائلا يقول : يا آل بيت رسول الله ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب .. فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فأما اتخاذ المآتم في المصائب ، واتخاذ أوقاتها مآتم ، فليس من دين الإسلام ، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من السابقين الأولين ، ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من عادة أهل البيت ، ولا غيرهم ، وقد شهد مقتل علي أهل بيته ، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته ، وقد مرت على ذلك سنون كثيرة ، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يحدثون مأتما ولا نياحة ، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله ، أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما كان من العين والقلب فمن الله ، وما كان من اليد واللسان
1 أخرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، صحيح صحيح الترغيب 3/329 .
فمن الشيطان )1 ، وقال : ( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية )2، يعني مثل قول المصاب : يا سنداه يا ناصراه ، يا عضداه . وقال : ( إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ، وسربالا من قطران ) 3. وقال : ( لعن الله النائحة والمستمعة إليها )4 .(118/26)
وقد قال في تنزيله : (( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )) . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (( ولا يعصينك في معروف )) بأنها النياحة . وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة . والحالقة : التي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة : التي ترفع صوتها عند المصيبة . وقال جرير بن عبد الله : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس من النياحة ، وإنما السنة : أن يصنع لأهل الميت طعام ، لأن مصيبتهم تشغلهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم ) 5.
وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال ، فهو بدعة أيضا لا أصل لها ، ولم يذكرها أحد من الأمة المشهورين ، وإنما روى فيها حديث : ( من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة ، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ) 6 ونحو ذلك ، ولكن الذي ثبت
1 اخرجه ابو نعيم ، وهو ضعيف جدا .
2 أخرجه الشيخان واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة .
3 رواه مسلم .
4 اخرجه احمد وابو داود ، ضعيف ضعيف الجامع 4693 .
5 اخرجه الترمذى وابن ماجه ، حسن صحيح الجامع 1026 .
6 موضوع الضعيفة 2/89 .
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه وقال صلى الله عليه وسلم : ( صومه يكفر سنة ) 1 ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنجى فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، وروى أنه كان فيه حوادث الأمم .. فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه.(118/27)
وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا ، أو المحنة التي توجب صبرا، كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر ، وفيه كان مقتل علي .. وأبلغ من ذلك: أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه هجرته ، وفيه وفاته .
والعبد المؤمن يبتلى بالحسنات التي تسره ، والسيئات التي تسوءه في الوقت الواحد ، ليكون صبارا، شكورا ، فكيف إ‘ذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد .
ويستحب صوم التاسع والعاشر ، ولا يستحب الكحل ، والذين يصنعونه من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت ، وإن كانوا مخطئين في فعلهم ، ومن قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره ، أو فرح ، أو استشفى بمصائبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) 2 ، لما شكا إ‘ليه العباس أن بعض قريش يجفون بني هاشم وقال : ( إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ) 3 . وروى عنه أنه قال : ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ) 4 .
وهذا باب واسع يطول القول فيه .
1 أخرجه أحمد ومسلم والترمذي .
2 احمد والترمذى مع اختلاف فى الالفاظ , ضعيف ضعيف الترمذى 774 .
3 أخرجه مسلم والترمذي عن واثلة .
4 أخرجه الترمذي والحاكم ، ضعيف ضعيف الجامع 176.
بدع وضلالات(118/28)
وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر سادة أهل البيت ، وقد أجرى فيها ذكر النذور لمشهد المنتظر ، فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم ، بما سر قلبه ، وشرح صدره ، وكان ما ذكر بعض الواجب ، فإن الكلام في هذا طويل ، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك . وخوطب فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله ، فسأل المكاتبة بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم) 1.
أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلط في مواضع متعددة ، مثل ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في صفر ، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عمرو بن العلاء بن هاشم ، وأن جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد وغير ذلك .
فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول ، شهر مولده وشهر هجرته ، وأنه توفي يوم الاثنين وفيه ولد ، وفيه أنزل عليه . وجده هاشم بن عبد مناف ، وإنما كان هاشم يسمى عمرا ، ويقال له : عمرو العلا ، كما قال الشاعر :
عمر العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وأن جعفرا أبا عبد الله توفي في سنة ثمان وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور ، وأما المنتظر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنساب أهل البيت : أن الحسن ابن علي العسكري لما توفي بعسكر سامراء لم يعقب ولم ينسل ، وقال من أثبته : إن أباه لما توفي في سنة ستين ومائتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل ، وأنه غاب من ذلك الوقت وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض ، لا يتم الإيمان إلا به ، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يعلم كل ما يفتقر إليه الدين .(118/29)
وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يثبت فيه ، ويستهدي الله ويستعينه ، لأن الله قد حرم القول بغير
1 رواه الشيخان .
علم ، وذكر أن ذلك من خطوات الشيطان وحرم القول المخالف للحق ، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك ، ونهى عن اتباع الهوى .
فأما المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، الحافظون لها ، الباحثون عنها وعن رواتها ، مثل أبي داود ، والترمذي ، وغيرهما ، ورواه الإمام أحمد في مسنده .
فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي ، يوطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ) 1 .
وروى هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( المهدي من ولد ابني هذا ) . وأشار إلى الحسن.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثوا ) 2 . وهو حديث صحيح . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسمه محمد بن عبد الله ، ليس محمد بن الحسن . ومن قال : إن أبا جده الحسين ، وإن كنيته الحسين أبو عبد الله فقد جعل الكنية اسمه ، فما يخفى على من يخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه ، وأنه من جنس تأويلا القرامطة ، وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حسني لا حسيني ، لأن الحسن والحسين مشبهان من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاق ، وإن لم يكونا نبيين ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهما : ( أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة )3 . ويقول : ( إن إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق ) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر والحسن معه على المنبر : ( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به فئتين عظيمتين من(118/30)
1 أخرجه أبو داود واحمد والترمذى ، وانظر في أحاديث هذا الباب ، تحفة الأحوذي وله شواهد كثيرة وأنه من ولد فاطمة .صحيح الجامع 5180
2 رواه أحمد ومسلم .
3 رواه البخارى .
المسلمين ) 1 .
فكما أن غالب الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق ، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين ، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبق أمره مشارق الأرض ومغاربها كان من ذرية إسماعيل ، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن .
وأيضا فإن من كان ابن سنتين كان في حكم الكتاب والسنة مستحقا أن يحجر عليه في بدنه ، ويحجر عليه في ماله ، حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، فإنه يتيم ، وقد قال الله تعالى :
(( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم )) .
فمن لم تفوض الشريعة إليه أمر نفسه كيف تفوض إليه أمر الأمة ؟
وكيف يجوز أن يكون إماما على الأمة من لا يرى ولا يسمع له خبر ؟ مع أن الله لا يكلف العباد بطاعة من لا يقدرون على الوصول إليه ، وله أربعمائة وأربعون سنة ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجود له .
وكيف لم يظهر لخواصه وأصحابه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه ، وما الموجب لهذا الاختفاء الشديد دون غيره من الآباء ؟
وما زال العقلاء قديما وحديثا يضحكون بمن يثبت هذا ، ويعلق دينه به ، حتى جعل الزنادقة هذا وأمثاله طريقا إلى القدح في الملة ، وتسفيه عقول أهل الدين إذا كانوا يعتقدون مثل هذا .
لهذا قد اطلع أهل المعرفة على خلق كثير منافقين زنادقة بإظهار هذا وأمثاله ، ليستميلوا قلوب وعقول الضعفاء ، وأهل الأهواء ، ودخل بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله يصلح أمر هذه الأمة ويهديهم ويرشدهم .
النذور للمشاهد والمساجد :(118/31)
وكذلك ما يتعلق بالنذور للمساجد والمشاهد ، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهم قد أمر بعمارة المساجد ، وإقامة الصلوات فيها بحسب الإمكان ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من يفعل ذلك ، قال الله تعالى :
(( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) .
1 أخرجه البخاري .
وقال تعالى :
(( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )) .
وقال تعالى :
(( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )) .
وقال : (( وإن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا )) .
وقال : (( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا )) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ) 1 .
وقال : ( وبشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) 2 .
وقال : ( من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ) 3 .
وقال : ( صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة )4 .
وقال : ( من تطهر في بيته فأحسن الطهور ، وخرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة ، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة ، والأخرى تضع خطيئة )5 .
وقال : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وماكان أكثر أحب إلى الله ) 6 .
وقال : ( سيكون عليكم أمراء يؤخرن الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة )7 .
1 رواه مسلم .
2 اخرجه ابن ماجه ، صحيح صحيح الجامع 2820 .
3 أخرجه البخاري .
4 أخرجه البخاري .
5 أخرجه البخاري .(118/32)
6 أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، صحيح صحيح ابو داود 1/111 .
7 أخرجه مسلم .
وقال : ( يصلون لكم ، فإن أحسنوا فلكم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم ) .
وهذا باب واسع جدا .
وقال أيضا : ( لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) 1. يحذر مما فعلوا . قالوا : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وهذا قاله في مرضه .
وقال قبل موته بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذون القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) 2 .
ولما ذكر كنيسة الحبشة قال : ( أولئك إذا مات الرجل فيهم بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك التصاوير ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) 3 .
وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير .
وقال أيضا : ( لعن الله زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج )4 . رواه الترمذي وغيره وقال : حديث حسن .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الذين يتخذون على القبور والمساجد ، ويسرجون عليها الضوء ، فكيف يستحل مسلم أن يجعل هذا طاعة وقربة ؟!!
وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع قبر مشرفا إلا سويته ، ولا تمثالا إلا طمسته ) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) 5 .
وقال : ( لا تتخذوا قبري عيدا ، وصلوا عليّ حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني ) 6 .
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاجتماع عند قبره .
وأمر بالصلاة عليه في جميع المواضع ، فإن الصلاة عليه تصل إليه من جميع المواضع .
وهذه الأحاديث رواها أهل بيته ، مثل : علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي ، ومثل : عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
1 رواه الشيخان .
2 رواه الشيخان .
3 رواه الشيخان .
4 اخرجه الترمذى ، ضعيف الضعيفة 225 . والجملة الاولى ثابتة عن النبى عليه الصلاة والسلام .(118/33)
5 رواه مالك واحمد ، صحيح تحذير الساجد 18 .
6 رواه ابو داود واحمد ، صحيح صحيح ابو داود 1/383 .
فكانوا هم وجيرانهم من علماء أهل المدينة ينهون عن البدع التي عند قبره أو غير قبر غيره ، امتثالا لأمره ، ومتابعة لشريعته .
فإن من مبدأ عبادة الأوثان : العكوف على الأنبياء و الصالحين ، والعكوف على تماثيلهم ، وإن كانت وقعت بغير ذلك .
وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا :
(( لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا )) .
وقد روى طائفة من علماء السلف أن هؤلاء كانوا قوما صالحين ، فلما ماتوا بنوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم .
وكذلك قال ابن عباس في قوله : (( أفرأيتم اللات والعزى . ومنات الثالثة الأخرى )) . قال ابن عباس : كان اللات رجلا يلت السويق للحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) . ونهى أن يصلى عند قبره .
ولهذا لما بنى المسلمون حجرته حرفوا مؤخرها ، وسنموه لئلا يصلي إليه احد فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها ) رواه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ، ويدعو لهم .
وعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور : ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لكم العافية ، اللهم آجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم ) 1 .
هذا مع أن في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقية ، وسيدة نساء العالمين فاطمة ، وكانت إحداهن دفنت فيه قديما قريبا من غزوة بدر ، ومع ذلك فلم يحدث على أولئك السادة شيئا من هذه المنكرات ، بل المشروع التحية لهم ، والدعاء بالاستغفار وغيره .(118/34)
وكذلك في حقه ، أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد ، وقال : ( أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يعني : بليت . قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )2 .
وقال : ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) 3 .
1 أخرجه مسلم .
2 أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في كتاب والدارمي صحيح صحيح ابو داود 1/196
3 ضعيف رواه ابن الجوزى فى العلل المتناهية و ضعفه .
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن أهل المعرفة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم .
فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبره وغير قبره ، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعامل به موتى المسلمين من الدعاء لهم بأنواع الدعاء ، كما كان في حياته يدعو لهم .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نصلي عليه ونسلم تسليما في حياته ومماته ، وعلى آل بيته .
وأمرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم ، عند قبورهم وغير قبورهم .
ونهانا الله أن نجعل لله أندادا ، أو نشبه بيت المخلوق الذي هو قبره ببيت الله الذي هو الكعبة البيت الحرام ، فإن الله أمرنا أن نحج ونصلي إليه ، ونطوف به ، وشرع لنا أن نستلم أركانه ، ونقبل الحجر الأسود الذي جعله الله بمنزلة يمينه .
قال ابن عباس : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه )1 .
وشرع كسوة الكعبة ، وتعليق الستار عليها ، وكان يتعلق من يتعلق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجير به ، فلا يجوز أن تضاهى بيوت المخلوقين ببيت الخالق .
ولهذا كان السلف ينهون من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله ، بل يسلم عليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، ويصلي عليه كما كان السلف يفعلون .(118/35)
فإذا كان السلف أعرف بدين الله وسنة نبيه وحقوقه ، وحقوق السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرهم ، ولم يفعلوا شيئا من هذه البدع التي تشبه الشرك وعبادة الأوثان ، لأن الله ورسوله نهاهم عن ذلك ، بل يعبدون الله وحده لا شريك له ، مخلصين له الدين كما أمر الله به ورسوله ، ويعمرون بيوت الله بقلوبهم وجوارحهم من الصلاة والقراءة ، والذكر والدعاء وغير ذلك .
فكيف يحل للمسلم أن يعدل عن كتاب الله ، وشريعة رسوله ، وسبيل السابقين من المؤمنين ، إلى ما أحدثه ناس آخرون ، إما عمدا وإما خطأ .
فخوطب حامل هذا الكتاب بأن جميع هذه البدع التي على قبور الأنبياء والسادة من آل البيت والمشايخ المخالفة للكتاب والسنة ، ليس للمسلم أن يعين عليها ، هذا إذا كانت القبور صحيحة ، فكيف وأكثر هذه القبور مطعون فيها ؟ .
وإذا كانت هذه النذور للقبور معصية قد نهى الله عنها ورسوله والمؤمنون السابقون ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يعطي الله فليطعمه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا
1 هذا الاثر منكر الضعيفة 1/350 .
يعصيه )1 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفارة النذر كفارة اليمين ) 2 . وهذا الحديث في الصحاح .
فإذا كان النذر طاعة لله ورسوله ، مثل أن ينذر صلاة أو صوما أو حجا أو صدقة أو نحو ذلك ، فهذا عليه أن يعني به .
وإذا كان المنذر معصية كفرا أو غير كفر ، مثل : أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند ، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم ، مثل : اللات التي كانت بالطائف ، والعزى التي كانت بعرفة قريبا من مكة ، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة .
وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز ، كانوا ينذرون لها النذور ، ويتعبدون لها ، ويتوسلون بها إلى الله في حوائجهم ، كما أخبر عنهم بقوله :(118/36)
(( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) . ومثلما ينذر الجهال من المسلمين لعين ماء ، أو بئر من الآبار ، أو قناة ماء أو مغارة ، أو حجر ، أو شجرة من الأشجار ، أو قبر من القبور ، وإن كان قبر نبي أو رجل صالح ، أو ينذر زيتا أو شمعا أو كسوة أو ذهبا ، أو فضة لبعض هذه الأشياء ، فإن هذا كله نذر معصية لا يوفى به .
لكن من العلماء من يقول : على صاحبه كفارة يمين ، لما روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين )3
وفي الصحيح عنه أنه قال : ( كفارة النذر كفارة يمين ) 4 .
وإذا صرف من ذلك المنذور شيء في قربة من القربات المشروعة كان حسنا ، مثل : أن يصرف الدهن إلى تنوير بيوت الله ، ويصرف المال والكسوة إلى من يستحقه من المسلمين ومن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر المؤمنين ، وفي سائر المصالح التي أمر الله بها ورسوله .
1 أخرجه البخاري .
2 أخرجه مسلم .
3 رواه مسلم .
4 رواه مسلم .
وإذا اعتقد بعض الجهال أن بعض هذه النذور المحرمة قد قضت حاجته بجلب المنفعة من المال والعافية ونحو ذلك ، أو بدفع المضرة من العدو ونحوه ، فقد غلط في ذلك .
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتي بخير ، ولكنه يستخرج به من البخيل ) 1 .
فعد النذر مكروها ، وإن كان الوفاء به واجبا إذا كان المنذور طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج من البخيل ، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، فيما كان قربة محضة لله ، فكيف بنذر شرك ؟ فإنه لا يجوز نذره ولا الوفاء به .(118/37)
وهذا وإن كان قد عمر الإسلام ، وكثر العكوف على القبور التي هي للصالحين من أهل البيت وغيرهم ، فعلى الناس أن يطيعوا الله ورسوله ، ويتبعوا دين الله الذي بعث به نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، ولا يشرعوا من الدين مالم يأذن به الله ، فإن الله إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، وليعبدوا الله وحده لا شريك له .
كما قال تعالى :
(( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )) .
وقال تعالى :
(( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب )) .
وقال تعالى :
(( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة )) وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكة والنبيين :
(( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )) .
وقال : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) .
1 أخرجه البخاري
ورد على من اتخذ شفعاء من دونه فقال :
(( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون . وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون )) .
وقال : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) .(118/38)
وقال تعالى :
(( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) .
وقال :
(( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) .
وقال تعالى :
(( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )) .
قال :
(( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) .
وكتب الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله ، ولا سيما الكتاب الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أو الشريعة التي جاء بها ، فإنها كملت الدين .
قال تعالى :
(( اليوم أكملت لكم دينكم )) .
وقال :
(( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )) .
وقد جعل قوام الأمر بالإخلاص لله ، والعدل في الأمور كلها ، كما قال تعالى :
(( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )) .
ولقد خلص النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد من دقيق الشرك وجليله ، حتى قال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )1 رواه الترمذي وصححه .
وقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )2 . وهذا مشهور في الصحاح .
وقال : ( ولا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله ، ثم شاء محمد )3 .
وقال له رجل : ما شاء الله وشئت ، فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده ) 4 .
وروي عنه أنه قال : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) 5 .
وروي عنه أن الرياء شرك 6 .
وقال تعالى :
(( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )) .
وعلّم بعض أصحابه أن يقول : ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ) .(118/39)
ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقة أو يعطونها لغير الله ، مثل من يقول : لأجل فلان ، إما بعض الصحابة ، أو بعض أهل البيت ، حتى يتخذ السؤال بذلك ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويصير قوم ممن ينتسب إلى السنة يعطي الآخرين ، والشيطان قد استحوذ على الجميع ، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يشرع أن تفعل إلا لله ، كما قال تعالى :
(( وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى . وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . ولسوف يرضى )) .
وقال تعالى :
(( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )) .
وقال : (( مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة
1 أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي و أحمد ، صحيح صحيح الجامع 6080 .
2 أخرجه أحمد والترمذي ، صحيح صحيح الجامع 1919 .
3 أخرجه الدارمي وابن ماجة و أحمد ، صحيح الصحيحة 1/264 .
4 أخرجه الإمام أحمد ، حسن الصحيحة 1/266 .
5 أخرجه الإمام أحمد ، صحيح صحيح الجامع 3624 . .
6 أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد ، صحيح صحيح الترغيب 1/120.
أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل )) .
وقال :
(( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا )) .
وقال تعالى كلمة جامعة :
(( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )) .
وعبادته تجمع الصلاة وما يدخل فيها من الدعاء والذكر ، وتجمع الصدقة والزكاة بجميع الأنواع، من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك .(118/40)
والله يجعلنا وسائر اخواننا المؤمنين مخلصين له الدين ، نعبده ولا نشرك به شيئا ، معتصمين بحبله ، متمسكين بكتابه ، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة ، ويصرف عنا شياطين الجن و الإنس ، ويعيذنا أن تفرق بنا عن سبيله ، ويهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا .
الفهرس
مقدمة الشيخ ابو تراب ............................................….. 3
اول كتاب حقوق ال البيت .............................................. 6
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة .......................................... 7
اهل البيت و خصائصهم ................................................. 9
صفات اهل الفيء ....................................................... 12
سب الصحابة حرام على اهل البيت وغيرهم ............................ 12
جهل الشيعة بمذهب الامام على .......................................... 14
عوامل الضلال .......................................................... 16
اهل الاستقامة عند المصيبة ............................................... 19
بدع وضلالات ......................................................... 23(118/41)
حقيقة الاحتفال بالمولد النبوي
عبدالرحمن بن عبدالخالق
- الاختلاف حول الاحتفال بالمولد النبوي ليس اختلافاً بين من يحب الرسول ويعظمه وبين من يبغضه ويهمل شأنه بل الأمر على العكس من ذلك تماماً.
- الفاطميون الإسماعيليون هم أول من ابتدع بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
- (الحقيقة المحمدية) في الفكر الصوفي تختلف تماماً عما نؤمن به نحو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
مقدمة
اطلعت على بعض المقالات التي يروج أصحابها لفكرة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، واتخاذ يوم ولادته عيداً ليكون ملتقى روحياً للمسلمين -على حد تعبيرهم- ومحاسبة النفس على مدى الاتباع والتمسك بالدين الإسلامي كما يزعمون..
وبالرغم من أن هذا الموضوع قديم، وقد كتب فيه المؤيدون والمعارضون، ولن يزال الخلاف فيه -الا ما شاء الله- إلا أنني رأيت من واجبي تجلية بعض الحقائق التي تغيب عن جمهور الناس عند نقاش هذه القضية.. وهذا الجمهور هو الذي يهمني الآن أن أضع مجموعة من الحقائق بين يديه ليعلم حقيقة الدعوة إلى الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.. ولماذا ترفض هذه الدعوى من أهل التوحيد والدين الخالص والإسلام الصحيح.
ماذا يريد الدعاة
إلى الاحتفال بالمولد النبوي على التحديد؟
يصور دعاة الاحتفال والاحتفاء بيوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه هو مقتضى المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوم مولده يوم مبارك ففيه أشرقت شمس الهداية، وعم النور هذا الكون، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: [هذا يوم ولدت فيه وترفع الأعمال إلى الله فيه، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم]، وأنه إذا كان العظماء يحتفل بمولدهم ومناسباتهم فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أعظم العظماء وأشرف القادة..(119/1)
ويعرض دعاة الاحتفال بالمولد هذه القضية على أنها خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من يهملونه، ولا يحبونه ولا يضعونه في الموضع اللائق به.
ولا شك أن عرض القضية على هذا النحو هو من أعظم التلبيس وأكبر الغش لجمهور الناس، وعامة المسلمين، فالقضية ليست على هذا النحو بتاتاً فالذين لا يرون جواز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الإبتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهم أكثر الناس تمسكاً بسنته، واقتفاءاً لآثاره، وتتبعاً لحركاته وسكناته، وإقتداء به في كل أعماله صلى الله عليه وسلم، وهم كذلك أعلم الناس بسنته وهديه ودينه الذي أرسل به، وأحفظ الناس لحديثه، وأعرف الناس بما صح عنه وما افتراه الكذابون عليه، ومن أجل ذلك هم الذابون عن سنته، والمدافعون في كل عصر عن دينه وملته وشريعته بل إن رفضهم للإحتفال بيوم مولده وجعله عيداً إنما ينبع من محبتهم وطاعتهم له فهم لا يريدون مخالفة أمره، ولا الإفتئات عليه، ولا الإستدراك على شريعته لأنهم يعلمون جازمين أن إضافة أي شيء إلى الدين إنما هو استدراك على الرسول صلى الله عليه وسلم لأن معني ذلك أنه لم يكمل الدين، ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أنزل الله إليه أو أنه استحيا أن يبلغ الناس بمكانته ومنزلته، وما ينبغي له، وهذا أيضا نقص فيه، لأن وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانته من الدين الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد بين ما يجب على الأمة نحوه أتم البيان فقال مثلا [لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين] (أخرجه البخاري ومسلم)(119/2)
* وقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال : [لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك] فقال -أي عمر- : فأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: [الآن يا عمر] (أخرجه البخاري)..
والشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من بيان الحق، ولا يجوز له كتمانه، ولا شك أن من أعظم الحق أن يشرح للناس واجبهم نحوه، وحقه عليهم، ولو كان من هذا الحق الذي له أن يحتفلوا بيوم مولده لبينه وأرشد الأمة إليه.
وأما كونه كان يصوم يوم الاثنين وأنه علل ذلك أنه يوم ولد فيه، ويوم ترفع الأعمال إلي الله فيه، فإن أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة يصومون هذا اليوم من كل أسبوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما أولئك الملبسون فإنهم يجعلون الثاني عشر من ربيع الأول يوم عيد ولو كان خميساً أو ثلاثاءً أو جمعةً.
وهذا لم يقله ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت أنه صام الثاني عشر من ربيع الأول، ولا أمر بصيامه.
فاستنادهم إلى إحياء ذكرى المولد، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين تلبيس على عامة الناس وتضليل لهم.
والخلاصة:
أن الذين يُتهمون بأنهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنكرو فضله، وجاحدوا نعمته، كما يدّعي الكذابون هم أسعد الناس حظا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وهم الذين علموا دينه وسنته على الحقيقة.
وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه.
لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(119/3)
وهذه نقطة الفصل في هذه القضية، وبداية الطريق لمعرفة من اهتدى ومن ضل فيها.
فدعاة المولد -بدعوتهم إليه- مخالفون لأمره صلى الله عليه وسلم، مفتئتون عليه، مستدركون على شريعته، ونفاة المولد متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، متابعون لسنته، محبون له، معظمون لأمره غاية التعظيم متهيبون أن يستدركوا عليه ما لم يأمر به، لأنه هو نفسه صلى الله عليه وسلم حذرهم من ذلك فقال : [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم) و [من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم)
مَنْ هَؤُلاَءِ؟ ومَنْ هَؤُلاَءِ؟
وهنا يأتي السؤال من الداعون إلى المولد ومن الرافضون له؟ والجواب أن الرافضين للمولد هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ونقول الرافضين -تجوزاً- فالمولد هذا ما كان في عصرهم قط، ولم يعرفوه أبدا، ولا خطر ببالهم أصلا، وعلى هذا كان التابعون وتابعوهم وأئمة السلف جميعاً ومنهم الأئمة الأربعة أعلام المذاهب الفقهية المشهورة.
وعلماء الحديث قاطبةً إلا من شذ منهم في عصور متأخرة عن القرون الثلاثة الأولى قرون الخير، وكل من سار على دربهم ومنوالهم إلى يومنا هذا.
وهؤلاء هم السلف والأمة المهتدية الذين أمرنا الله باتباعهم والترضي عنهم، وفيهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم فقال : [عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة] (أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وصححه الألباني)
فهل كان هؤلاء من جعل يوم مولده عيداً، ومن خصه بشيء من العبادات أو العادات أو التذكير أو الخطب، أو المواعظ.(119/4)
وإذا كانت الأمة الصالحة هي ما ذكرنا وهي التي لم تحتفل بيوم مولده، وتركت ذلك تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم لا إهانة له، ومعرفة بحقه لا جحوداً لحقه، فمن إذن الذين ابتدعوا الاحتفال بمولده، وأرادوا -في زعمهم- أن يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعظمه به سلف الأمة الصالح، وأرادوا أن يحيُّوُهُ صلى الله عليه وسلم بما لم يُحَيِّه به الله؟
والجواب: أن أول من ابتدع ذلك هم ملوك الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري ومن تسمى منهم باسم (المعز لدين الله) ومعلوم أنه وقومه جميعا إسماعيليون زنادقة، متفلسفون. أدعياء للنسب النبوي الشريف، فهم من ذرية عبد الله بن ميمون القداح اليهودي الباطني وقد ادعوا المهدية وحكموا المسلمين بالتضليل والغواية، وحولوا الدين الى كفر وزندقة وإلحاد، فهذا الذي تسمى (بالحاكم بأمر الله)، هو الذي ادعى الألوهية وأسس جملة من المذاهب الباطنية الدرزية احدها، وأرغم المصريين على سب أبي بكر وعمر وعائشة وعلق ذلك في مساجد المسلمين ومنع المصريين من صلاة التراويح، ومن العمل نهاراً إلى العمل ليلاً ونشر الرعب والقتل واستحل الأموال وأفسد في الأرض، مما تعجز المجلدات عن الإحاطة به. وفي عهد هؤلاء الفاطميين أيضا وبإفسادهم في الأرض أكل المصريون القطط والكلاب وأكلوا الموتى، بل وأكلوا أطفالهم.
وفي عهد هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة المولد تمكن الفاطميون والقرامطة من قتل الحجاج وتخريب الحج، وخلع الحجر الأسود.(119/5)
والخلاصة: أن بدعة المولد نشأت من هنا، وهل يقول عاقل أن هؤلاء الزنادقة الملحدون قد اهتدوا إلي شيء من الحق لم يعرفه الصديق والفاروق وعثمان وعلي والصحابة والسلف الأئمة وأهل الحديث؟ هل يكون كل هؤلاء على باطل وأولئك الكفرة الملاعين على الحق؟ وإذا كان قد اغتر بدعوتهم بعض من أهل الصلاح والتقوى وظن -جهلاً منه- أن المولد تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة له هل يكون الجاهلون المغفلون حجة في دين الله؟!
ماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
ونأتي الآن إلى سؤال هام: وماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
والجواب: أن الذين يحتفلون بالمولد هم في أحسن أحوالهم مبتدعون، مفتئتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدركون عليه. مجهلون لسلف الأمة وأئمتها. هذا في أحسن الأحوال إذا صنعوا معروفا في الأصل لتذكر لنعمة الله بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة في سيرته وصلاةٍ وسلامٍ عليه، وإظهارٍ للفرح والسرور بمبعثه، ونحو ذلك مما هو من الدين في الجملة ولكنه لم يشرع في هذه المناسبة. ولكن الحق أن أهل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هم في العموم ليسوا على شيء من هذا أصلا.
فالمولد عندهم بدعة أنشأت بدعاً منكرة، بل شركاً وزندقة، فالاحتفال بالمولد عند أهله المبتدعين نظام وتقليد معين، واحتفال مخصوص بشعائر مخصوصة وأشعار تقرأ على نحو خاص، وهذه الأشعار تتضمن الشرك الصريح، والكذب الواضح، وعند مقاطع مخصوصة من هذا الشعر يقوم القوم قياماً على أرجلهم زاعمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم في هذه اللحظة ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يُطفئ الأنوار، ويضعون كذلك كأساً للرسول صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فهم يضيفونه في هذه الليلة!! ويضعون مكاناً خاصاً له ليجلس فيه بزعمهم - إما وسط الحلقة، وإما بجانب كبيرهم.. الذي يدَّعي بدوره أنه من نسله...(119/6)
ثم يقوم (الذِكر) فيهم علي نظام مخصوص بهز الرأس والجسم يميناً وشمالاً وقوفاً على أرجلهم، وفي أماكن كثيرة يدخل حلقات (الذِكر) هذه الرجال والنساء جميعاً.
وتذكر المرأة هزاً علي ذلك النحو حتى تقع في وسط الجميع ويختلط الحابل بالنابل حتى أن شعوباً كثيرة ممن ابتليت بهذه البدعة المنكرة اذا أرادت أن تصف أمرا بالفوضى وعدم النظام يقولون (مولد) يعنون أن هذا الأمر في الفوضى وعدم النظام يشبه الموالد.
والعجيب أن هذه الزندقة التي ابتلي به العالم الإسلامي منذ الفاطميين وإلى يومنا هذا -وإن كان قد خف شرها كثيراً- والتي ابتدعها القوم تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم لم يقصروها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعلوا لكل أفاكٍ منهم مولداً، ولكل زنديق مدع للولاية مولداً، وبعض هؤلاء يعظم مولد هؤلاء ما لا يعظمون مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا مولد من يسمى (بالسيد البدوي) الذي لا يعرف له اسم ولا نسب والذي لم يثبت قط أنه صلى جمعة أو جماعة والذي لا يعرف أيضاً أكان ذكراً أم أنثى حيث أنه لم يكشف وجهه قط!! وكان ملثماً أبداً!! هذا (السيد البدوي) والذي أنكر أهل مكة أن يكون منهم أو يعرفوه - يحتفل بمولده أعظم من الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإلى اليوم يجتمع بمولده في أسبوع واحد أكثر من سبعة ملايين شخص وهو عدد أعظم من العدد الذي يجتمع في الحج.
فإذا كان أمثال هؤلاء تُعظم موالدهم واحتفالاتهم على نحو ذلك، فهل يكون هذا أيضاً من تعظيم الرسول؟!(119/7)
وهل من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل (المعز الفاطمي) وهو الذي ابتدع بدعة المولد النبوي. لنفسه مولداً كمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل أراد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته حقا؟! وإذا كانوا قد نافسوه في هذه العظمة بل احتفلوا بغيره أعظم من احتفالهم به صلى الله عليه وسلم فهل هذا دليل محبتهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فليتهم اذا ابتدعوا بدعة المولد أن يكونوا قد حرموها على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصروها عليه لمنزلته ومكانته، ولكنهم ابتدعوه قنطرة يقفزون عليها لتعظيم أنفسهم واتباع أهوائهم، وجعل هذا مناسبة لترويج مذاهب بعينها وعقائد مخصوصة يعرفها من قرأ شيئا عن الفكر الصوفي والفكر الباطني..
عقيدة الأمة في الرسول غير عقيدة هؤلاء!
والحق أن عقيدة الأمة الإسلامية المهتدية في الرسول صلى الله عليه وسلم غير عقيدة هؤلاء المبتدعين.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسلم الحقيقي هو النبي والرسول الذي تجب طاعته قبل كل أحد وبعد كل أحد، ولا تجوز معصيته، والذي يجب محبته فوق كل أحد والذي لا دخول للجنة إلا بمحبته وطاعته واقتفاء أثره، وأنه النبي الخاتم الذي جاء بالتوحيد والإيمان والدين الصحيح الذي يعبد به الله وحده لا شريك له..
وأما أولئك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم غير ذلك تماما فالرسول صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء هو أول من خلق الله من الهباء -في زعمهم- وهو المستوي على عرش الله، والذي من نوره هُوَ خلق العرش والكرسي والسموات والأرض، والملائكة والجن والإنس وسائر المخلوقات وهذه عقيدة ابن عربي (صاحب الفصوص والفتوحات المكية)، واقرأ في ذلك (الذهب الإبريز لعبد العزيز بن مبارك السجلماسي) وانظر كتابنا (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) باب: (الحقيقة المحمدية) (ص 151) وانظر فيه ما قاله محمد عبده البرهامي في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة)!!(119/8)
والذي يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يأتيك بالوحي يا جبريل؟ فقال جبريل تمتد يد من خلف الحجاب فتعطني الآيات فآتيك بها.. فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم - عن يده وقال مثل هذه يا جبريل؟! فقال جبريل متعجبا : (منك وإليك يا محمد) فانظر هذه هي عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنزل الوحي من السماء وتلقاه في الأرض.
وقد فصَّل هذه العقيدة عبد الكريم الجيلي الصوفي الزنديق في كتابه (الإنسان الكامل).. فانظره إن شئت. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندهم ليس هو الرسول عندنا بل هو عند أساطينهم ومحققيهم هو الله المستوي على العرش، وعند جهلائهم وأغبيائهم هو المخلوق من نور العرش، أو من نور الله وهؤلاء ربما يعتقدون أن الله موجود قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العرش مخلوق قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولكن أولئك (المحققين في زعمهم) يعتقدون أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم سابق على وجود العرش بل وجود كل مخلوق لأنه أول (التعينات) أي أول من أصبح عيناً أي شيئاً معيناً ومن نوره تخلقت كل الخلائق بعد ذلك.
وأما المغفلون منهم فيقول يا أول خلق الله ظانين أنه مخلوق قبل كل البشر فهو عندهم مخلوق قبل آدم نفسه وأولئك يقولون يا أول خلق الله على الأرض قبل العرش والكرسي والسموات والأرض والجنة والنار بل كل هذه في زعمهم خلقت من نور الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذا كفر وهذا كفر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد خُلِق بشَراً كما يُخلق سائر البشر وكان خلقه في وقت تكونه نطفة فعلقة فمضغة.. ووليداً {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ} (الكهف:110)
ولا يخفى أيضاً أن هؤلاء المبتدعين لم يخطئوا فقط في حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم بل كذلك أخطئوا في إعطاء كل ما يجب لله أعطوه للرسول صلى الله عليه وسلم، من دعاء له واستغاثة به، وعبادة بكل معاني العبادة.
وهذه أمور لا يتسع المقام لذكرها.(119/9)
والخلاصة: أننا يجب أن نفهم هذا الأمر الذي يبدو صغيراً في أوله ولكنه عظيم جداً في نهايته فالاحتفال بالمولد: أوله بدعة وآخره كفر وزندقة.
والاختلاف فيه ليس كما يصوره الداعون إلى المولد أنهم ورَّاث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحبابه يدافعون عن شرف النبي صلى الله عليه وسلم ويخاصمون من يتركون فضله ومنزلته، بل الأمر على العكس تماماً: إن المنكرين للمولد منكرون للبدعة، محبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريدون مخالفة أمره، والاستدراك عليه، متبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين وأما أولئك فهم على سنة الزنادقة الإسماعيلية سائرون وببدعتهم وكفرهم معتقدون، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة في العالمين إلى يوم الدين.(119/10)
حقيقة التصوف
وموقف الصوفية من أصول العبادة والدين
فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الاسلام دينا، وأمرنا بالتمسك به إلى الممات، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.. (ال عمران)، الآية:102 وتلك وصية إبراهيم ويعقوب لبنيه. { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.. (البقرة)، الآية:132.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك، نبينا محمد وعلى اله وأصحابه أجمعين. وبعد(120/1)
… فإن الله خلق الجن والانس لعبادته، كما قال - تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }.. (الذاريات)، الآية:56 وفي ذلك شرفهم، وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لأنهم بحاجة إلى ربهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، كما قال - تعالى { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ }.. (الزمر)، الآية:7. وقال تعالى { وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.. (إبراهيم)، الآية:8. والعبادة حق لله على خلقه، وفائدتها تعود إليهم، فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو المؤمن الموحد. ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة، ولا يمكنهم أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضي الله - سبحانه - وتوافق دينه، لم يكلهم إلى أنفسهم، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (النحل)، الآية:36. وقال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }.. (الأنبياء)، الآية:25. فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله، وعبد الله بما يملي عليه ذوقه وما تهواه نفسه وما زينته له شياطين الانس والجن فقد ضل عن سبيل الله ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة لله، بل هي عبادة لهواه: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}.. (القصص)، الآية:50. وهذا الجنس كثير في البشر، وفي طليعتهم النصارى، ومن ضل من فرق هذه الأمة، كالصوفية فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في …(120/2)
العبادة مخالفة لما شرعه الله في كثير من شعاراتهم. وهذا يتضح ببيان حقيقة العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله، " صلى الله عليه وسلم "، وبيان ما عليه الصوفية اليوم من احرافات عن حقيقة تلك العبادة.
ضوابط العبادة الصحيحة
إن العبادة التي شرعها الله - سبحانه وتعالى - تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي:
أولا: أنها توقيفية ** بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها ** بل لابد أن يكون المشرع لها هو الله - سبحانه وتعالى - كما قال تعالى - لنبيه: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ}.. (هود)، الآية:112. وقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }.. (الجاثية)، الآية:18. وقال عن نبيه: { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى }.. (الأحقاف)، الآية:9.
ثانيا: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله - تعالى - من شوائب الشرك، كما قال - تعالى -: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.. (الكهف)، الآية:110 فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها، كما قال - تعالى -: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.. (الأنعام)، الآية:88. وقال - تعالى -: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ }..(الزمر)، الآيتان:65ـ 66(120/3)
ثالثا: لابد أن تكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله " صلى الله عليه وسلم " كما قال - تعالى -: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.. (الأحزاب)، الآية:21. وقال - تعالى -: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}.. (الحشر)، الآية:7. وقال النبي، " صلى الله عليه وسلم " ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) الحديث رواه مسلم... وفي رواية ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه..
وقوله، " صلى الله عليه وسلم " ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) متفق عليه.. وقوله، " صلى الله عليه وسلم " ((خذوا عني مناسككم)). رواه مسلم.. إلى غير ذلك من النصوص.
رابعا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير، لا يجوز تعديها وتجاوزها، كالصلاة مثلا ؛ قال - تعالى -: { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }.. (النساء)، الآية:103. وكالحج قال - تعالى -: { الحج أشهر معلومت }.. (البقرة)، الآية:197. وكالصيام، قال - تعالى -: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.. (البقرة)، الأية:185.
خامسا: لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله
تعالى - والذل له، وخوفه ورجائه، قال - تعالى -: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }..(120/4)
الاسراء)، الآية:57. وقال - تعالى - عن أنبيائه: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.. (الأنبياء): 90. قال - تعالى -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.. (ال عمران)، الآيتان: 31 - 32. فذكر - سبحانه - علامات محبة الله وثمراتها
أما علاماتها:: فاتباع الرسول " صلى الله عليه وسلم "، وطاعة الله، وطاعة الرسول
أما ثمراتها:: فنيل محبة الله - سبحانه - ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه
سادسا: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلا إلى وفاته، قال تعالى -: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }.. (ال عمران)، الآية:102. وقال - تعالى -: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.. (الحجر)، الآية:99.
حقيقة التصوف(120/5)
لفظ التصوف والصوفية لم يكن معروفا في صدر الاسلام وإنما هو محدث بعد ذلك أو دخيل على الاسلام من أمم أخرى. قال شيخ الاسلام ابن تيمية - يرحمه الله - في مجموع الفتاوى: (*(أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ، كالامام أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني وغيرهما، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصفة، وهو غلط، لأنه لو كان كذلك، لقيل: صفي، وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله - وهو أيضا غلط فإنه لو كان كذلك لقيل: صوفي، وقيل نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن بشر بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا، لأن هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى. ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية، لا وجود لها في الاسلام وقيل - وهو العروف - أنه نسبة إلى الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية في البصرة. وأول من ابتنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار.)*) وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: (*(إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا وكان " صلى الله عليه وسلم " يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا، ثم يقول بعد ذلك: هؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهي لباس الصوف فقيل في(120/6)
أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلبس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به - لمن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال)*). إلى أن قال: (*(فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعبوتنوع)*).إنتهى وكلامه (1).. - يرحمه الله - يعطي أن التصوف نشأ في بلاد الاسلام على يد عباد البصرة.. نتيجة لمبالغتهم في الزهد والعبادة ثم تطور بعد ذلك - والذي توصل إليه بعض الكتاب العصريين - أن التصوف تسرب إلى بلاد المسلمين من الديانات الأخرى كالديانة الهندية والرهبانية النصرانية وقد يستأنس لهذا بما نقله الشيخ عن ابن سيرين أنه قال: (*(إن قوما يتخيرون لباس الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح بن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا.)*) فهذا يعطي أن التصوف له علاقة بالديانة النصرانية ؛؛ ويقولون الدكتور // صابر طعيمة \\ في كتابه: " الصوفية معتقدا ومسلكا ": ويبدوا أنه لتأثير الرهبنة المسيحية التي كان فيها الرهبان يلبسون الصوف وهم في أديرتهم كثرة كثيرة من المنقطعين لهذه الممارسة على امتداد الأرض التي حررها الاسلام بالتوحيد أعطى هو الآخر دورا في التأثير الذي بدا على سلوك الأوائل (2).. وقال الشيخ " إحسان إلهي ظهير" - يرحمه الله - في كتابه: " التصوف، المنشأ والمصادر" (*(عندما نتعمق في تعاليم الصوفية الأوائل والأواخر وأقاويلهم المنقولة منهم والمأثورة في كتب الصوفية القديمة والحديثة نفسها نرى بونا شاسعا بينها وبين تعاليم القران والسنة، وكذلك لا نرى جذورها وبذورها في سيرة سيد الخلق محمد " صلى الله عليه وسلم " وأصحابه الكرام البررة خيار خلق الله وصفوة الكون، بل بعكس ذلك نراها مأخوذة مقفبسة من الرهبنة المسيحية والبرهمة الهندوكية وتنسك اليهودية وزهد البوذية. (3).. ويقول الشيخ: عبد الرحمن الوكيل - يرحمه الله - في مقدمة كتاب: " مصرع التصوف ": (*(إن التصوف أدنأ وأوألأم كيدا
__________
(1) مجموع الفتاوى (11، 5، 7، 16، 18)
(2) ص 17.
(3) ص 28.(120/7)
ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسله، إنه قناع المجوس يتراءى بأنه لرباني، بل قناع كل عدو صوفي للدين الحق فتش فيه تجد برهمية وبوذية وزرادشتية ومانوية وديصانية، تجد أفلاطونية وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية (1)..)*) ومن خلال عرض اراء هؤلاء الكتاب المعاصرين في أصل الصوفية، وغيرهم مما لم نذكره كثيرون يرون هذا الرأي. يتبين أن الصوفية دخيلة على الاسلام، يظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها - تلك الممارسات الغريبة على الاسلام والبعيدة عن هديه ن وإنما نعني بهذا المتأخرين من الصوفية حيث كثرت وعظمت شطحاتهم. أما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال، كالفضيل بن عياض، والجنيد وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.
موقف الصوفية من العبادة والدين
للصوفية - خصوصا - المتأخرين منهم منهج في الدين والعبادة يخالف منهج السلف، ويبفعد كثيرا عن الكتاب والسنة. فهم قد بنوا دينهم وعبادتهم على رسوم ورموز واصطلاحات اخترعوها، وهي تتلخص فيما يلي:
1 - قصرهم العبادة على المحبة، فهم يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة، ويهملون الجوانب الأخرى، كجانب الخوف والرجاء، كما قال بعضهم: أنا لا أعبد الله طمعا في جنته ولا خوفا من ناره - ولا شك أن محبة الله - تعالى - هي الأساس الذي تبنى عليه العبادة. ولكن العبادة ليست مقصورة على المحبة كما يزعمون، بل لها جوانب وأنواع كثيرة غير المحبة كالخوف والرجاء والذل والخضوع والدعاء إلى غير ذلك، فهي كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية.. (*(اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)*)..
ويقول العلامة ابن القيم …
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
__________
(1) ص 19.(120/8)
ولهذا يقول بعض السلف: من عبدالله بالحب وحده هو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده هو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرداء فهو موحد. وقد وصف الله رسله وأنبياءه، بأنهم يدعون ربهم خوفا وطمعا، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يدعونه رغبا ورهبا. قال شيخ الاسلام ابن تيمية - يرحمه الله -: (*(ولهذا قد وجد في نوع من المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية)*).. وقال أيضا: (*(وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من الجهل بالدين، إما من تعدى حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله. وإما من إدعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها. (1)..)*)، وقال أيضا: (*(والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، ولهذا أنزل الله اية المحبة محنة يمتحن بها المحب، فقال: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.. (ال عمران)، الآية:31. فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، " صلى الله عليه وسلم "، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضوع لذكره، حتى يظن أحدهم سقوط الأمر - وتحليل الحرام له)*)..، وقال أيضا: (*(وكثير من الضالين الذين اتبعوا أشياء مبتدعة من الزهد والعبادة على غير علم ولا نور من الكتاب والسنة وقعوا فيما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك. انتهى.
فتبين بذلك أن الاقتصار على جانب المحبة لا يسمى عبادة بل قد يؤول بصاحبه إلى الضلال بالخروج عن الدين
__________
(1) العبودية لشيخ الاسلام ابن تيمية ص 90 طبعة الرئاسة العامة للافتاء(120/9)
2 ــ الصوفية في الغالب لا يرجعون في دينهمة وعبادتهم إلى الكتاب والسنة والاقتداء بالنبي، " صلى الله عليه وسلم "، وإنما يرجعون إلى أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة، والأ ذ كار والأوراد المبتدعة، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة لتصحيح ما هم عليه، بدلا من الاستدلال بالكتاب والسنة، هذا ما ينبغي عليه دين الصوفية. ومن المعلوم أن العبادة لا تكون عبادة صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة. قال شيخ الاسلام ابن تيمية ويتمسكون (يعني الصوفية) في الدين الذي يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن معصوما، فيجعلون متبوعهم وشيوخهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا... انتهى.
ولما كان هذا مصدرهم الذي يرجعون إليه في دينهم وعبادتهم، وقد تركوا الرجوع إلى الكتاب والسنة صاروا أحزابا متفرقين. كما قال - تعالى -: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }.. (الأنعام)، الآية:153. فصراط الله واحد، لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه، وما عداه فهو سبل متفرقة تتفرق بمن سلكها، وتبعده عن صراط الله المستقيم، وهذا ينطبق على فرق الصوفية فإن كل فرقة لها طريقة، خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى. ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة يرسم لها منهاجا يختلف عن منهاج الفرق الأخرى، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم. وهذا الشيخ الذي يسمونه شيخ الطريقة يكون له مطلق التصرف وهم ينفذون ما يقول ولا يعترضون عليه بشيء. حتى قالوا: المريد مع شيخه يكون كالميت مع غاسله وقد يدعي بعض هؤلاء الشيوخ أنه يتلقى من الله مباشرةما يأمربه مريدية وأتباعه.(120/10)
3 ــ من دين الصوفية التزام أذكار وأوراد يضعها لهم شيوخهم فيتقيدون بها، ويتعبدون بتلاوتها، وربما فضلوا تلاوتها على تلاوة القران الكريم، ويسمونها ذكر الخاصة. زأما الذكر الوارد في الكتاب والسنة فيسمونه ذكر العامة. فقول لا إله إلا الله. عندهم هو ذكر العامة، وأما ذكر الخاصة: فهو الاسم المفرد:: الله:: وذكر خاصة الخاصة:: هو:: قال شيخ الاسلام ابن تيمية: ومن زعم أن هذا الدين، أي قول لا إله إلا الله ذكر العامة وأن ذكر الخاصة - هو الاسم المفرد - وذكر خاصة الخاصة:: هو:: أي الاسم المضمر فهو ضال مضل. واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله - تعالى - { قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }.. (الأنعام)، الآية:91 من بين أبين غلط هؤلاء، بل من تحريفهم للكلم عن مواضعه، فإن الاسم:: الله:: مذكور في الأمر بجواب(120/11)
الاستفهام في الأية قبله، وهو قوله - تعالى -: { من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } إلى قوله - تعالى - { قل الله } أي الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى. فالاسم:: الله:: مبتدأ خبره دل عليه الاستفهام، كما فينظائر ذلك. نقول. من جارك ؟ فيقول: زيد. وأما الاسم المفرد مظهرا ومضمرا فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي، ولم يذكر ذلك رسول الله، " صلى الله عليه وسلم "، ولا يعطي القلب نفسه معرفة مفيدة، ولا حالا نافعا، وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم فيه بنفي ولا إثبات. إلى أن قال: وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر بالاسم المفرد وبـ - :: هو:: في فنون من الاتحاد، وما يذكر عن بعض الشيوخ في أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والاثبات، حال لا يقتدي فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي، " صلى الله عليه وسلم "، أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله. وقال: ((من كان أخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) ولو كان ما ذكره محظورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود. بل كان ما اختاره من ذكر الاسم المفرد، والذكر بالاسم المضمر أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة، وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال:: ياهوياهو::، أو:: هو::، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل - وقد صنف صاحب الفصوص (1).. كتابا سماه كتاب: " الهو " وزعم بعضهم أن قوله - تعالى -: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ }.. (ال عمران)، الآية:7. معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وهذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل. فقد يظن هذا من يظنه من هؤلاء. حتى قلت لبعض من قال شيئا من
__________
(1) يعني ابن عربي.(120/12)
ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت الأية وما يعلم تأويل هو منفصلة (1)..، أي كتبت:: هو:: منفصلة عن: تأويل...
4 ــ غلو المتصوفة في الأولياء والشيوخ خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. فإن عقيدة أهل السنة والجماعة موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه - قال - تعالى -: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }.. (المائدة)، الآية:55. وقال - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء }.. (الممتحنة)، الآية:1. وأولياءالله هم المؤمنون المتقون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ويجب علينا محبتهم والاقتداء بهم واحترامهم - وليست الولاية وقفا على أشخاص معينين. فكل مؤمن تقي فهو ولي لله - عز وجل -، وليس معصوما من الخطأ، هذا معنى الولاية والأولياء، وما يجب في حقهم عند أهل السنة والجماعة - أما الأولياء عند الصوفية فلهم اعتبارات ومواصفات أخرى، فهم يمنحون الولاية لأشخاص معينين من غير دليل من الشارع على ولايتهم، وربما منحو الولاية لمن لم يعرف بإيمان ولا تقوى، بل قد يعرف بضد ذلك من الشعوذة والسحر واستحلال المحرمات، وربما فضلوا من يدعون لهم الولاية
على الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه عليهم، كما يقول أحدهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
__________
(1) رسالة العبودية ص ص 117، 118 طبعة الاف(120/13)
ويقولون: إن الأولياء يأحذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، ويدعون لهم العصمة. قال شيخ الاسلام ابن تيمية - يرحمه الله - وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي الله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إلبه كل ما يقوله. ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة. فيوافق ذلك الشخص. ويخالف ما بعث الله به الرسول الذي فرض الله على جميع الحلق تصديقه فيما أخبر وطاعفه فيما أمر. إلى أن قال وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله فيهم: - { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.. (التوبة)، الآية:31. وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسير هذه الأية، لما سأل النبي، " صلى الله عليه وسلم "، عنها، فقال: ما عبدوهم، فقال النبي، " صلى الله عليه وسلم "، أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم. وكانت هذه، عبادتهم إيلهم، إلى أن قال: وتجد كثيرا من هؤلاء: في اعتقاد كونه وليا لله، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فراه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك. وليس في هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله. بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته للرسول، " صلى الله عليه وسلم "، وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد(120/14)
يكون صاحبها وليا لله، فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله. بل يعتبرأولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الايمان والقران، وبحقائق الايمان الباطلة، وشرائع الاسلام الظاهرة. مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف. إلى أن قال: فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير واذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، أو يكره سماع القران وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن (1)... انتهى.
ولم يقف الصوفية عند هذا الحد من منح الولاية لأمثال هؤلاء بل غلوا فيهم حتى جعلوا فيهم شيئا من صفات وتقربوا إليهم بأنواع النذور، وهتفوا بأسمائهم في طلباتهم، هذا منهج الصوفية في الولاية والأولياء.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11، 210، 216).(120/15)
5 ــ من دين الصوفية الباطل تقربهم إلى الله بالغناء والرقص، وضرب الدفوف والتصفيق. ويعتبرون هذا عبادة لله. قال الدكتور // صابر طعيمة \\ في كتابه: " الصوفية معتقدا ومسلكا ": أصبح الرقص الصوفي الحديث عند معظم الطرق الصوفية في مناسبات الاحتفال بموالد بعض كبارهم أن يجتمع الأتباع لسماع النوتة الموسيقية التي يكون صوتها أحيانا أكثر من مائتي عازف من الرجال والنساء، ومبار الأتباع يجلسون في هذه المناسبات يتناولون ألوانا من شرب الدخان، وكبار أئمة القوم وأتباعهم يقومون بمدارسة بعض الخرافات التي تنسب لمقبوريهم، وقد انتهى إلى علمنا من المطالعات أن الأداء الموسيقي لبعض الطرق الصوفية الحديثة مستمد مما يسمى.. (*(كورال صلوات الآحاد المسيحية)*).. وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: مبينا وقت حدوث هذا. موقف الأئمة منه ومن الذي أحدثه... اعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة، لا بالحجاز ولا بالشام، ولا باليمن، ولا مصر، ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، وبدف ولا بكف، ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية. فلما راه الأئمة أنكروه فقال: الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه " التغبير " يصدون به الناس عن القران، وقال يزيد بن هارون: ما يغبر إلا فاسق، ومتى كان التغبير ؟... وسئل الامام أحمد فقال: أكرهه هو حمدث، قيل: أتجلس معهم، قال، لا. وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الدارني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي وأمثالهم والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في اخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشايخ، وما ذكره(120/16)
الشافعي - يرحمه الله - من أنه من إحداث الزنادقة، كلام إمام خبير بأصول الاسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدع إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم إلى أن قال: وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إماما، وأهل دين الاسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد، " صلى الله عليه وسلم "، فليس فيهم من يرغب في ذلك ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القران والايمان والهدى والسعد والرشاد والنور والفلاح وأهل المعرفة والعلم واليقين والاخلاص لله والمحبة له والتوكل عليه والخشية له والانابة إليه. إلى أن قال: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها ومواجيدها عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلوب منفعة ولا مصلحة: إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه فهو للروح كالخمر، للجسد ولهذا يورث أصحابه سكرا أعظم من سكر الخمر فيجدون لذة بلا تمييز، كما يجد شارب الخمر بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر اله وعن الصلاة أعظم مما يصدهم الخمر ويوقع بينهم العداوة والبغضاء أعظم من الخمر. وقال أيضا: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا أحد من الأئمة، بل قد قال الله في كتابه: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}.. (لقمان)، الآية:19. وقال في كتابه: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً }.. (الفرقان)، الآية:63. أي بسكينة ووقار، وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود. بل الدف والرقص لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، قال: وأما قول القائل هذه سبكة يصاد بها العوام فقد صدق فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام والتوانس على الطعام، كما قال الله - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً(120/17)
مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ }.. (التوبة)، الآية:34. ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال الذين قيل في رؤوسهم: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً }.. (الأحزاب)، الأيتان: 67، 68. وأما الصادقون منهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة، يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرا، فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثهم أحوالا فاسدة.. انتهى.كلامه (1).. فهؤلاء الصوفية الذين يتقربون إلى الله بالغناء والرقص يصدق عليهم قول الله - تعالى -: { الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً}.. (الأعراف)، الآية:51.
__________
(1) مجموع الفتاوى (11، 569، 574).(120/18)
6 ــ ومن دين الصوفية الباطل ما يسمونه بالأحوال التي تنتهي بصاحبها إلى الخروج عن التكاليف الشرعية نتيجة لتطور التصوف، فقد كان أصل التصوف، كما ذكره ابن الجوزي: رياضة النفس، ومجاهدة الطبع، برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة، من الزهد والحلم والصبر، والاخلاص والصدق. قال وعلى هذا كان أوائل القوم، فلبس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن، وكان أصل تلبيسه عليهم أن صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات، فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح أبدانهم، وشبهوا المال بالعقارب. ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع، وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة، وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري، ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك، مثل الحارث المحاسبي، وجاء اخرون فهذبوا مذهب الصوفية وأفراده بصفات ميزوة بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق. ثم مازال الأمر ينمى، والأشباح يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بمواقعاتهم - وبعدوا عن العلماء ورأوا ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن، وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر، ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه. فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به. وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق ففسدت عقائدهم. فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد، وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا.. انتهى (1).. وسئل
__________
(1) 10) تلبيس إبليس صفحة (157، 158).(120/19)
شيخ الاسلام ابن تيمية عن قوم داموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالو لا نبالي الآن ما علمنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة فأجاب: لا ريب عند أهل العلم والايمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلطه، وهو شر من قول اليهود والنصارى. فإن اليهودي والنصراني امن ببعض الكتاب وكفر ببعض. وأولئك هم الكافرون حقا، كما أنهم يقرون أن لله أمرا ونهيا، ووعدا ووعيدا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت، هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة، وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم كما هو الغالب على متكلميهم ومتفلسفتهم كانوا شرا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق فهم شر ممن يظهر إيمانا ويبطن نفاقا. والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال من جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرا ولا نهيا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المتمسكين ببقايا من الملل كمشركي العرب الذين كانوا متمسكين ببقايا من دين إبراهيم، عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه. وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي - إلى أن قال: ومن هؤلاء من يحتج بقوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.. (الحجر)، الآية:99. ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبة من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض(120/20)
وارتكاب المحارم. وهذا كفر كما تقدم إلى أن قال: فأما استدلالهم بقوله - تعالى -: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }.. (الحجر)، الآية:99 فهي عليهم لا لهم قال الحسن البصري: (*(إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت)*): واقرأ قوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }.. (الحجر)، الآية:99 وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين، وذلك قوله: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله تعالى { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }.. (المدثر)، الأيات: 42، 47. فهذا قالوه في جهنم، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين، حتى أتاهم اليقين. ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }.. (البقرة)، الآية:4. وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون وهو اليقين... انتهى (1).. فالآية تدل على وجوب العبادة على العبد منذ بلوغه سن التكليف عاقلا: إلى أن يموت. وأنه ليس هناك حال قبل الموت ينتهي عندها التكليف كما تزعمه الصوفية.
الخاتمة
وبعد: فهذا هو دين الصوفية قديما وحديثا، وهذا موقفهم من العبادة، ولم ننقل عنهم إلا القليل مما تضمنته كتبهم، وكتب منتقديهم وما تدل عليه ممارساتهم المعاصرة، ولم أتناول إلا جانبا واحدا من جوانب البحث حولهم هو جانب العبادة وموقفهم منها، وبقيت جوانب أخرى تحتاج إلى محاضرات، ومحاضرات كموقفهم من التوحيد، وموقفهم من الرسالات، وموقفهم من الشريعة والقدر، إلى غير ذلك.
__________
(1) 11) مجموع الفتاوى (11، 401، 402، 417، 418).(120/21)
هذا وأسأل الله - عز وجل - أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، واله وصحبه.
الفهرس
الموضوع
المقدمة.....................................................................
ضوابط العبادة الصحيحة....................................................
أولا: أنها توفيقية...........................................................
ثانيا: أن تكون العبادة خالصة لله............................................
ثالثا: أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.........
رابعا: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير......................................
خامسا: أن تكون العبادة قائمة على محبة الله.................................
سادسا: أن تكون العبادة لا تسقط عن المكلف..............................
حقيقة التصوف.............................................................
موقف الصوفية من العبادة والدين...........................................
الخاتمة.......................................................................(120/22)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
للشيخ الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد.
والجواب أن يقال:
لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة- رضوان الله على الجميع- ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ، أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر: { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها.(121/1)
وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ]الحشر:7[، وقال عز وجل: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ]النور:63[، وقال سبحانه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } ]الأحزاب:21[، وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ]التوبة:100[، وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } ]المائدة:3[.
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه: أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن
الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين: أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة،كما ثبت في الحديث الصحيح، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } رواه مسلم في صحيحه.(121/2)
ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء،
بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين.
وقد جاء في معناهما أحاديث أُُخر، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: { أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -،وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة } رواه الإمام مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها؛ عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها.
وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات؛ كالغلو في
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر، وظنوا أنها من البدع الحسنة.
والقاعدة الشرعية: رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله، وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
كما قال الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ]النساء:59[، وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }
]الشورى:10[.
وقد رددنا هذه المسألة - وهي الاحتفال بالموالد- إلى كتاب الله سبحانه، فوجدنا يأمرنا(121/3)
باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل
لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ليس من الدين الذي
أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك- أيضاً- إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتركها والحذر منها.
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ]البقرة:111[، وقال تعالى: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ]الأنعام:116[.
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى؛ كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستغاثة به وطلبه المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره ممن يسمونهم بالأولياء.(121/4)
وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله } أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه.
ومن العجائب والغرائب: أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد ي حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات،
ولا يرفع بذلك رأساً، ولا يرى أنه أتي منكراً عظيماً، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة، وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين.
ومن ذلك: أن بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون ]15- 16[: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع، وأول مُشَفَّعٍ } عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع
عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر(121/5)
مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سطان. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
أما الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات،
كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ]الأحزاب:56[.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً } ، وهي مشروعة في جميع الأوقات، ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة، منها بعد الأذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة.
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدعة، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه .
* * *(121/6)
حكم الاحتفال بالمولد
والرد على من أجازه
تأليف/ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن مما أحدث بعد القرون المشهود لها بالخير بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وقد تجاهل محمد مصطفى الشنقيطي ذلك؛ حيث برر البدعة في مقالته المنشورة في جريدة (الندوة)
(عدد1112) الصادر في 7/4/1383 هـ بأمور:
أحدها: دعوى تلقي الأمم الإسلامية هذا الاحتفال بالقبول منذ مئات السنين.
الثاني: تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة.
الثالث: قول عمر بن الخطاب في قضية التراويح: (نعمت البدعة).
الرابع: قول عمر بن عبدالعزيز: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور).
الخامس: دعوى الكاتب: أن في إقامة الاحتفال بالمولد صون عرض المملكة العربية السعودية عن أن تنسب إلى تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يذاع عنها تنقصه وإحراق كتب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -.
فلهذا وجب نقض هذه الشبه التي أتي بها هذا الشخص أولاً، وبيان حكم المولد ثانياً.
فنقول وبالله التوفيق:
أما دعوى الشنقيطي: أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي- وإن كان بدعة- فقد تلقته الأمة بالقبول، فمن أقوى الأدلة على جهالته؛ لأمور:
أحدها: أن الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، والبدعة في الدين بنص الأحاديث
النبوية ضلالة، فمقتضى كلام الشنقيطي: أن الأمة اجتمعت في قضية الاحتفال بالمولد على
ضلالة.(122/1)
الثاني: أن الاحتجاج على تحسين البدع بهذه الدعوى ليس بشيء في أمر تركته القرون الثلاثة المقتدى بهم، كما بينه الشاطبي في "الاعتصام" نقلاً عن بعض مشايخه، ثم قال: (ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول: لو كان هذا منكراً لما فعله الناس)، ثم قال:(وما أشبه هذه المسألة بما حُكي عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبدالله ابن إسحاق الجعفري قال: كان عبدالله بن الحسن- يعني: ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم- يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا يوماً، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبدالله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم": (من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناءً على أن الأمة أقرتها(122/2)
ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المستحدثة المخالفة للسنة)، قال:(ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم !) قال:(وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أٌتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم، ولا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة، أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين)، ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الاحتجاج بمثل هذه الحجة - وهي دعوى الإجماع على العادات المخالفة للسنة - ليس طريقة أهل العلم؛ لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وذكر أن الاستناد إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا رسوله ليس من طريقة أولي العلم والإيمان، ثم قال:(والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء": (ما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها).
وذكر أن التعلق في تحسين البدع بما عليه الكثير من الناس إنما يقع ممن لم يحكم أصول العلم؛ فإنه هو الذي يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعاً، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك ويستنكر تركه.(122/3)
وذكر الشاطبي في "الاعتصام": أن منشأ الاحتجاج بعمل الناس في تحسين البدع الظن بأعمال المتأخرين وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك، والوقوف مع الرجال دون التحري للحق.
الأمر الثالث: ما سنذكره عن علماء المسلمين من احتواء الاحتفال بالمولد على المحرمات، وبيان أن ما لم يحتو على المحرمات منه بدعة.
وأما تقسيم الشنقيطي البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة، وتمثيله للبدعة الواجبة بنقط
حروف القرآن وتشكيلها وبناء مدارس العلم.
فالجواب عنه: أن هذا التقسيم في غاية المناقضة لما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:(أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية النسائي:(وكل ضلالة في النار) وروى أصحاب السنن عن العرباض بن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء":(لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية، وهي قوله: (كل بدعة ضلالة) بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل)، وقال: (إن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -)، وذكر شيخ الإسلام: أن تخصيص عموم النهي عن البدع بغير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع لا يقبل، فالواجب التمسك بالعموم.(122/4)
وقال الشاطبي في "الاعتصام" في رد تقسيم البدعة إلى أحكام الشرع الخمسة:(أن هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليل شرعي)، قال:(هو- أي: هذا التقسيم- في نفسه متدافع؛ فإن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من
قواعده، إذ لو كان هناك من الشرع ما يدل على وجوب أو ندب أو إباحة؛ لما كان ثم بدعة،
ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متناقضين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم إلا الكراهية والتحريم).
وممن تعقب تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة العلامة زروق في "شرح رسالة القيرواني"، قال بعد ذكر هذا التقسيم:(قال المحققون: إنما تدور- أي البدعة- بين محرم ومكروه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وكلام العلماء في رد هذا التقسيم كثير.
وأما التمثيل بنقط المصحف وتشكيله وبناء المدارس للبدعة الواجبة فليس بمسلم؛ لأن
ما ذكر ليس من البدعة في الدين، فإن نقط المصحف وتشكيله إنما هما لصيانة القرآن من
اللحن والتحريف، وهذا واجب شرعاً.
وأما بناء المدارس للعلم فيقول الشاطبي في "الاعتصام"رداً على التمثيل به للبدعة ما نصه:
(أما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا في المساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد(122/5)
أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من
منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك، فأين مدخل البدعة ههنا؟!
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره، فالتخصيص هنا ليس بتخصيص تعبدي، وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة).
وأما استدلال الشنقيطي على أن البدعة في الدين تكون حسنة بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية التراويح:(نعمت البدعة هذه) فاستدلال ليس في محله، فإن عمر
لم يقصد بذلك تحسين البدعة في الدين.
قال الشاطبي في "الاعتصام": (إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه لا أن هذه بدعة من حيث المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي)، قال: (وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم":
(أما قول عمر:(نعمت البدعة هذه) فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول
عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا:(قول الصاحب ليس بحجةٍ)، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! ومن اعتقد قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب).
ثم قال:(ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية
لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سابق،
وأما البدعة الشرعية؛ فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي).
ثم قال:(فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته،(122/6)
أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبوبكر رضي الله عنه، فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ.
قال: وقد علم أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(كل بدعةٍ ضلالة) لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي
لم يشرعها هو - صلى الله عليه وسلم -).
قال:(وإذا كان كذلك فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا:(إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، فعلل - صلى الله عليه وسلم - عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم، فلما كان في عهد عمر؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة- وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج- عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، وإن لم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته - صلى الله عليه وسلم -، فانتفى المعارض).
وقال شيخ الإسلام أيضاً في "الاقتضاء": (أما صلاةَ التراويح فليست بدعةً في الشريعة،
بل هي سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فإنه قال: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان،(122/7)
وسننت لكم قيامه)، ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا. وصلاها أيضاً في العشر الأواخر في جماعة مرات، وقال: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، لما قام بهم حتى خشوا ان يفوتهم الفلاح) رواه أهل السنن، وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقاً، وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - و يقرهم، وإقراره سنة منه - صلى الله عليه وسلم -).
وأما استدلال الشنقيطي على استحسان الابتداع في الدين بما عزاه إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال:(تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) يقصد الشنقيطي بذلك: القياس، أي: فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور.
فقد أجاب الإمام الشاطبي في "الاعتصام" عن هذا الاستدلال بأمور:
أولها: أن هذا قياس في مقابلة النص الثابت في النهي عن الابتداع، وهو من باب فساد الاعتبار.
الثاني: أن هذا قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي.(122/8)
الثالث: أن هذا الكلام على فرض ثبوته عن عمر بن عبد العزيز لا يجوز قياس إحداث العبادات عليه؛ لأن كلام عمر إنما هو في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم؛ كتضمين الصناع، أو الظنة في توجيه الأيمان دون مجرد الدعاوى، فيقول: أن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة، فلما حدثت أضدادها أختلف المناط، فوجب اختلاف الحكم، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب، بخلاف ما نحن فيه فإنه على الضد من ذلك، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلاً عن النوافل- وهي ما هي من القلة والسهولة- فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ويحضون على استعمالها، فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى تؤدي إلى أعظم من الكسل الأول وإلى ترك الجميع، فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها فلا بد من كسله عن ما هو أولى، قال: فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال، وقد مر أنه ما من بدعة تحدث
إلا ويموت من السنة ما هو خير منها.
الرابع: أن هذا القياس مخالف لأصل شرعي، وهو طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد، فزيادة وظيفة لم تشرع تظهر ويعمل بها دائماً في مواطن السنن هي تشديد
بلا شك، فليس قصد عمر بن عبد العزيز بهذا الكلام على فرض ثبوته عنه فتح السبيل إلى إحداث البدع.
وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي المالكي في "شرح رسالة القيرواني" في معنى (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) قال: (معناه: ما أحدثوا من الفجور
مما ليس فيه نص)، وقال: قال التقي السبكي في الكتاب الذي ألفه في شأن رافضي جاهر
بلعنة أبي بكر الصديق، وقال فيه: عدو الله، فقتله القاضي المالكي، قال في هذه الكلمة بعدما عزاها إلى مالك بن أنس بلفظ: (يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من الفجور):(122/9)
لا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكماً، على هذا حمل التقي السبكي هذه الكلمة، وذكر أنها منطبقة على قضية الرافضي؛ لكون صورتها مجموعة من إظهار سب الصديق في ملأ من الناس ومجاهرته وإصراره عليه وإعلاء البدعة وغمض السنة، ونقل السيوطي هذا التأويل عن السبكي في "الحاوي".
ومن هذه النقول يعلم أن عمر بن عبد العزيز لم يقصد بهذه الكلمة فتح أي باب يناقض الشريعة، وكيف ينسب إلى عمر بن عبد العزيز فتح باب الابتداع في الدين، وهو الذي يقول حينما بايعه الناس بعدما صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه: (يا أيها الناس، إنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد كتابكم كتاب، ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإن الحلال ما أحله الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع).
وأما دعوى الشنقيطي: أن عدم احتفال المملكة السعودية بالمولد النبوي يعرضها إلى أن تُنسب من قبل الدول الأخرى إلى تنقص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وازدرائه حيث تحتفل بغيره ولا تحتفل لمولده، ويذاع عنها ذلك، كما يذاع عنها أنها تحرق كتب الصلاة عليه، فهذا من عندياته، وذلك لأمور:
أحدها: أن الحكومات الإسلامية كلها تعترف للحكومة السعودية بتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع(122/10)
علمها بأنها لا تحتفل بالمولد النبوي مخافة من الابتداع، وأقرب شاهد في زماننا هذا على ذلك إقبال وفودها على المؤتمر الإسلامي الذي يعقد بمكة، فإنه لا يتصور ذلك الإقبال الشديد على من يتهم بما ذكره الشنقيطي، وكذلك على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وتلك الإشاعات التي يشير إليها الشنقيطي إنما حاول المبطلون التنفير بها عن دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. وكان الشيخ يجيب عن كل ذلك بقوله:(سبحانك هذا بهتان عظيم).
وكان يذكر أن ما ينسب إليه من إحراق كتب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل، إلا أنه نصح بعض من يتعلق بكتاب "دلائل الخيرات" بأنه لا يصير هذا الكتاب أجل في قلبه من كتاب الله، فيظن أن القراءة فيه أنفع من قراءة القرآن، ورغم هذه الافتراءات أبى الله إلا أن يظهر الحق ويبطل الباطل، ويعلي الدعوة التي حاول أولئك المبطلون التنفير عنها بمثل تلك الإشاعات الباطلة.
الثاني: أن القائل بـ: أن تارك الاحتفال بالمولد متنقص للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إن أراد بقوله هذا أن
ذلك اعتقاد التارك فقد كذب وافترى، وإن أراد أن ذلك تنقيص للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يستحقه شرعاً فالمرجع في ذلك إلى الكتاب والسنة، وما عليه القرون المشهود لها بالخير فنحاكم
كل من يطالبنا بهذا إلى ذلك، فإن جاء بدليل صحيح صريح، وإلا فنحن مستمسكون
بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:(كل بدعة ضلالة)، وبما روى أبو داود في سننه، عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً)،
ولا نصون أعراضنا في الدنيا بالتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه.(122/11)
الثالث: أن أكثر ما يقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء إحياء الذكرى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال الله في حقه: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } ]الانشراح:4[، فذكره مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وفي قراءة الحديث واتباع ما جاء به، فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط، ولكن الأمر كما قال السيد رشيد رضا في كتابه "ذكرى المولد النبوي" قال: (إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم- أي البشر- في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس ، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم، والنصح له، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز
دينه إن كان رسولا، وملكه إن كان ملكا، وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولاشك أن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بكل تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص
أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين فقد كان جل
ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية.
ومازالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع لضاع أصل ديننا أيضا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب علينا أن نرجع إليه ونعض عليه بالنواجذ) اهـ.(122/12)
هذا مع أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار- أي النبي - صلى الله عليه وسلم -- ملحقاً بغيره وهذا ما لا يرضاه عاقل.
* حكم المولد:
قسم العلماء الاجتماع الذي يعمل في ربيع الأول ويسمى باسم: المولد إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى": أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي شهر رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار- فإنها من البدع التي
لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في "الاقتضاء":(إن هذا- أي اتخاذ المولد عيداً- لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه)، وقال:(ولو كان هذا خيراً محضا، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).
وقال ابن الحاج في "المدخل":(فإن خلا- أي المولد- منه- أي من السماع وتوابعه - وعمل طعاما فقط، ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين، وإتباع السلف أولى، بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيما له ولسنته - صلى الله عليه وسلم -، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا ما وسعهم، وقد علم ان إتباعهم في المصادر والموارد، كما قال الشيخ أبو طالب المكي- رحمه الله- في كتابه. وقد جاء في الخبر:(122/13)
(لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً)، وقد وقع ما قاله عليه الصلاة والسلام بسبب ما تقدم ذكره وما يأتي بعد؛ لأنهم يعتقدون أنهم في طاعة، ومن
لا يعمل عملهم يرون أنه مقصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون) اهـ.
وقال العلامة تاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندراني المشهور بـ:(الفاكهاني) في رسالته في المولد المسماة بـ "المورد في عمل المولد":(لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب
ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة الندب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون
- فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو حراماً).
ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرنا بأنه: هو أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام، قال: (فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة) اهـ.(122/14)
ويرى ابن الحاج في "المدخل": أن نية المولد بدعة، ولو كان الاشتغال في ذلك اليوم بصحيح البخاري، وعبارته:(وبعضهم- أي المشتغلين بعمل المولد- يتورع عن هذا- أي سماع الغناء وتوابعه- بقراءة البخاري وغيره عوضاً عن ذلك، هذا وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات وفيها البركة العظيمة والخير الكثير، لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه الشرعي لا بنية المولد، ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى اللهتعالى، ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها لكان مذموماً مخالفاً، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فما بالك بغيرها).
هذا ما بينه المحققون في هذا النوع من المولد.
وقد حاول السيوطي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد" الرد على ما نقلناه عن الفاكهاني، لكنه لم يأت بشيء يقوى على معارضة ما ذكره الفاكهاني؛ فإنه عارضه بأن
الاحتفال بالمولد النبوي إنما أحدثه ملك عادل عالم قصد به التقرب إلى الله، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً وهذا ليس بحجة؛ فإن البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان بنصوص الأحاديث، فلا يمكننا أن نعارض الأحاديث المحذرة من الابتداع في الدين بعمل أبي سعيد كوكبري بن أبي الحسن علي بن بكتكين الذي أحدث الاحتفال بالمولد في
القرن السادس، وعدالته لا توجب عصمته.
وقد ذكر ابن خلكان أنه يحب السماع، وأما ابن دحية فلا يخفى كلام العلماء فيه، وقد اتهموه بوضع حديث في قصر صلاة المغرب كما في تاريخ ابن كثير.
وأما القسم الثاني من عمل المولد وهو: المحتوي على المحرمات، فهذا قد منعه العلماء وبسطوا القول فيه، وإليك بعض عباراتهم في ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له:(فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).(122/15)
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد:(الثاني- أي من نوعي عمل المولد- أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛
لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات إما مختلطات بهم أو مشرفات ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }
]الفجر:14[.
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك
بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات
لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإن لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ ـمعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي ساروا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
قال الفاكهاني:(ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - - وهو ربيع الأول- هو بعينه الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول).(122/16)
وقال الشيخ أبو الحسن ابن عبدالله بن الحسن النباهي المالقي الأندلسي في كتابه "المرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا" في ترجمة القاضي أبي عبدالله محمد بن عبد السلام المنستيري:(إن الأمير أبا يحيى استحضره مع الجملة من صدور الفقهاء للمبيت بدار الخلافة والمثول بين يديه ليلة الميلاد الشريف النبوي، إذ كان قد أراد إقامة رسمه على العادة الغريبة من الاحتفال في الأطعمة وتزيين المحل بحضور الأشراف، وتخير القوالين للأشعار المقرونة بالأصوات المطربة، فحين كمل المقصود من المطلوب، وقعد السلطان على أريكة ملكه ينظر في ترتيبه، والناس على منازلهم بين قاعد وقائم هز المسمع طاره، وأخذ يهنؤهم بألحانه، وتبعه صاحب يراعه كعادته من مساعدته، تزحزح القاضي أبو عبدالله عن مكانه، وأشار بالسلام على الأمير، وخرج من المجلس، وتبعه الفقهاء بجملتهم إلى مسجد القصر فناموا به، فظن السلطان أنهم خرجوا لقضاء حاجتهم، فأمر أحد وزرائه بتفقدهم والقيام بخدمتهم إلى عودتهم، وأعلم الوزير- الموجه لما ذكر- القاضي بالغرض المأمور به، فقال له: أصلحك الله، هذه الليلة المباركة التي وجب شكر الله عليها، وجمعنا السلطان- أبقاه الله- من أجلها
لو شهدها نبينا المولد فيها صلوات الله وسلامه عليه لم يأذن لنا في الاجتماع على ما نحن فيه من مسامحة بعضنا لبعض في اللهو، ورفع قناع الحياء بمحضر القاضي والفقهاء، وقد وقع الاتفاق من العلماء على أن المجاهرة بالذنب محظورة، إلا أن تمس إليها حاجة؛ كالإقرار
بما يوجب الحد أو الكفارة، فليسلم لنا الأمير- أصلحه الله- في القعود بمسجده هذا إلى الصباح، وإن كنا في مطالب أُخر من تبعات رياء ودسائس أنفس وضروب غرور، لكنا(122/17)
كما شاء الله في مقام الاقتداء، لطف الله بنا أجمعين بفضله. فعاد عند ذلك الوزير المرسل للخدمة الموصوفة إلى الأمير أبي يحيى وأعلمه بالقصة، فأقام يسيراً وقام من مجلسه، وأرسل إلى القاضي من ناب عنه في شكره وشكر أصحابه، ولم يعد إلى مثل ذلك العمل بعد، وصار في كل ليلة يأمر في صبيحة الليلة المباركة بتفريق طعام على الضعفاء، وإرفاق الفقراء؛ شكراً لله. انتهى كلام النباهي.
وقد ذكر ابن الحاج في "المدخل" مما احتوى عليه الاحتفال بالمولد في زمانه- فكيف بزماننا هذا- ما يلي:
1- استعمال الأغاني وآلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك.
قال ابن الحاج:(مضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله وعظمها ببدع ومحرمات)، وذكر ابن الحاج قول القائل:
يا عصبة ما ضر أمة أحمد وسعى إلى إفسادها إلا هي
طار ومزمار ونغمة شادنٍ أرأيت قط عبادة بملاهي
2- قلة احترام كتاب الله عز وجل، فإنهم يجمعون في هذه الاحتفالات بينه وبين الأغاني، ويبتدئون به قصدهم الأغاني.
قال ابن الحاج:(ولذلك نرى بعض السامعين إذا طول القارئ القراءة يتقلقلون منه؛ لكونه طول عليهم ولم يسكت حتى يشتغلوا بما يحبونه من اللهو)، وقال:(وهذا غير مقتضى(122/18)
ما وصف الله تعالى به أهل الخشية من أهل الإيمان؛ لأنهم يحبون سماع كلام مولاهم؛ لقوله تعالى في مدحهم: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ]المائدة:83[، فوصف الله تعالى من سمع كلامه بما ذكر، وبعض هؤلاء يستعملون الضد من ذلك، فإذا سمعوا كلام ربهم عز وجل قاموا بعده إلى الرقص والفرح والسرور والطرب بما لا ينبغي، فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الاستحياء من عمل الذنوب، يعملون أعمال الشيطان، ويطلبون الأجر من رب العالمين، ويزعمون أنهم في تعبد وخير).
قال:(ويا ليت ذلك لو كان يفعله سفلة الناس، ولكن قد عمت البلوى، فتجد بعض من ينسب إلى شيء من العلم أو العمل يفعله، وكذلك بعض من ينتسب إلى المشيخة- أعني في
تربية المريدين- وكل هؤلاء داخلون فيما ذكر، ثم العجب كيف خفيت عليهم هذه المكيدة
الشيطانية والدسيسة من اللعين؟!).
الافتتان بالمردان؛ فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شاباً نظيف الصورة،
حسن الكسوة والهيئة، أو أحداً من الجماعة الذين يتصنعون في رقصهم، بل يخطبونهم للحضور، فمن لم يحضر منهم ربما عادوه ووجدوا في أنفسهم عليه، وحضوره فتنة، سيما وهم يأتون إلى ذلك شبه العروس، لكن العروس أقل فتنة؛ لأنها ساكنة حيية، وهؤلاء عليهم العنبر والطيب يتخذون ذلك بين أثوابهم، ويتكسرون مع ذلك في مشيهم إذ ذاك، وكلامهم ورقصهم، ويتعانقون فتأخذهم إ ذاك أحوال النفوس الرديئة من العشق والاشتياق إلى التمتع
بما يرونه من الشبان ويتمكن منهم الشيطان، وتقوى عليهم النفس الأمارة بالسوء،
وينسد عليهم باب الخير سداً.(122/19)
قال ابن الحاج:(وقد قال بعض السلف: لأن أؤتمن على سبعين عذراء أحب إليَّ من أن أؤتمن على شاب، وقوله هذا ظاهر بين؛ لأن العذراء تمتنع النفوس الزكية ابتداءً من النظر إليها بخلاف الشاب؛ لما ورد أن النظرة الأولى سهم، والشاب لا يتنقب ولا يختفي بخلاف العذراء، والشيطان من دأبه أنه إذا كانت المعصية كبرى أجلب عليها بخيله ورجله ويعمل الحيل الكثيرة).
قال ابن الحاج:(وبعض النسوة يعاين ذلك على ما قد علم من نظرهن من السطوح والطاقات وغير ذلك؛ فيرينه وسمعنه وهن أرق قلوباً وأقل عقولاً فتقع الفتنة في الفريقين).
هذا بعض ما ذكره ابن الحاج من المحرمات التي تحصل في احتفال الرجال بالمولد.
ثم ذكر من المفاسد المتعلقة بالنساء ما يلي:
1- افتتان الرجال بالنساء؛ لأن بعض الرجال يتطلع عليهن من بعض الطاقات والسطوح، وتزداد الفتنة برفع أصواتهن، وتصفيقهن بالأكف، وغير ذلك مما يكون سبباً إلى وقوع المفسدة العظمى.
2- افتتانهن في الاعتقاد؛ وذلك لأنهن لا يحضرن للمولد إلا ومعهن شيخه تتكلم في كتاب الله وفي قصص الأنبياء بما لا يليق، فربما تقع في الكفر الصريح وهي لا تشعر؛ لأنها لا تعرف الصحيح من السقيم والحق من الكذب، فتدخل النسوة في الغالب وهن مؤمنات، ويخرجن وهن مفتتنات في الاعتقاد أو فروع الدين.(122/20)
3- خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات هناك من الاختلاط وغيره، ويذكر ابن الحاج: أن هذه المفسدة من آثار بناء البيوت على المقابر قال:(إذ لو امتثلنا أمر الشرع في هدمها لانسدت هذه المثالم كلها وكفي الناس أمرها)، قال:(فبسبب ما هناك من البنيان والمساكن وجد من لا خير فيه السبيل إلى حصول أغراضه الخسيسة ومخالفة الشرع)، قال: (ألا ترى ما قد قيل من العصمة أن لا تجد، فإذا هَمَّ الإنسان بالمعصية وأرادها وعمل عليها ولم يجد من يفعلها أو وجده، ولكن لا يجد مكاناً للاجتماع فيه فهو نوع من العصمة، فكان البنيان في القبور فيه مفاسد: منها: هتك الحريم بخروجهن إلى تلك المواضع، فيجدون أين يقمن أغراضهن، هذا وجه، الثاني: تيسير الأماكن لاجتماع الأغراض الخسيسة، فتيسير المساكن هناك سبب وتسهيل لوقوع المعاصي هناك.
4- فتح باب الخروج لهن لغير ضرورة شرعية؛ فإنهم- أي: أهل زمانه- ضموا لأيام
المولد النبوي الثلاثة، يوم الإثنين لزيارة الحسين، وجعلوا يوم الأربعاء لزيارة نفيسة، فالتزمن الزيارة في تلك الأيام لما يقصدن من أغراض، الله أعلم بها. قال ابن الحاج: ولو حكي هذا عن الرجال لكان فيه شناعة وقبح فكيف به في النساء ؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا ما ذكره ابن الحاج في "المدخل" من مفاسد الاحتفالات بالمولد في زمانه بالنسبة لمن يقصدون المولد، ثم قسم الذين يعملون المولد في ذلك الزمن لا لقصد المولد إلى خمسة أقسام:
أحدها: من له فضة عند الناس متفرقة قد أعطاها لهم في بعض الأفراح والمواسم فيعمل المولد ليستردها، قال ابن الحاج: فهذا قد اتصف بصفة النفاق، وهو أنه يظهر خلاف
ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة، وباطنه أنه يجمع به فضته.(122/21)
الثاني: من يتظاهر من ذوي الأموال بأنه من الفقراء المساكين، فيعمل المولد لتزيد دنياه بمساعدة الناس له، فيزداد هذا فساداً على المفاسد المتقدم ذكرها، ويطلب مع ذلك ثناء الناس عليه بما ليس فيه.
الثالث: من يخاف الناس من لسانه وشره وهو من ذوي الأموال، فيعمل المولد ليأخذ من الناس الذين يعطونه تقية على أنفسهم وأعراضهم، قال ابن الحاج: (فيزداد من الحطام بسبب ما فيه من الخصال المذمومة شرعاً، وهذا أمر خطر؛ لأنه زاد على الأول أنه ممن يخاف من شره، فهو معدود بفعله من الظلمة).
الرابع: من يعمل المولد وهو ضعيف الحال ليتسع حاله.
الخامس: من له من الفقراء لسان يخاف منه ويتقى لأجله، فيعمل المولد حتى يحصل له من الدنيا ممن يخشاه ويتقيه، حتى أنه لو تعذر عن حضور المولد الذي يفعله أحد معارفه لحل به من الضرر ما يتشوش به، وقد يؤول ذلك إلى العداوة أو الوقوع في حقه في محافل بعض ولاة الأمور؛ قاصداً بذلك حط رتبته بالوقيعة فيه أو نقص ماله.. إلى غير ذلك مما يقصده من
لا يتوقف على مراعاة الشرع الشريف.
قال ابن الحاج بعد بسط الكلام على هذه المفاسد:
(هذا الذي ذكر بعض المفاسد المشهورة المعروفة، وما في ذلك من الدسائس ودخول وساوس النفوس وشياطين الإنس والجن مما يتعذر حصره، فالسعيد السعيد من أعطى قياده للاتباع وترك الابتداع، وفقنا الله لذلك بمنه).
وذكر ابن الحاج: أن سكوت من سكت من العلماء على إنكار ما ذكر ليس بدليل؛ لأن الناس كانوا يقتدون أولاً بالعلماء، فصار الأمر بعد ذلك بالعكس، وهو: أن من لا علم عنده يرتكب ما لا ينبغي فيأتي العالم فيقتدي به في ذلك، قال: (فعمت الفتنة، واستحكمت هذه البلية، فلا تجد في الغالب من يتكلم في ذلك، ولا من يعين على زواله أو يشير إلى ذلك أن ذلك مكروه أو محرم) اهـ.(122/22)
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية": أن الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور لو لم يكن منها إلا رؤية النساء الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع، وذكر أن ما يوجد في تلك الموالد من الخير لا يبررها ما دامت كذلك؛ للقاعدة المشهورة المقررة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال: (فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيراً فربما خيره لا يساوي شره، ألا ترى أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - اكتفى من الخير بما تيسر، وفطم جميع أنواع الشر، حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر وإن قلَّ لا يرخص في شيء منه، والخير يكتفى منه بما تيسر.
هذا ما ذكره أهل العلم في بحث الاحتفال بالمولد النبوي، ولم يخل عصر من العصور المتقدمة منذ أُحدث من عالم يبين الحق فيه، ولم يزل المتبصرون من أهل العلم في وقتنا هذا ينكرون ما يقع في تلك الأيام من البدع والمحرمات.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم .
انتهت رسالة "حكم الاحتفال بالمولد النبوي والرد على من أجازه" للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، ويليها ملحق في إنكار ذلك.
* * *
ملحق رسالة
"حكم الاحتفال بالمولد
والرد على من أجازه"
للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله
بعد ما نشر ردنا على الشنقيطي كتب مرة أخرى في الموضوع رددنا عليها بالرد التالي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم.
أما بعد:(122/23)
فقد نشرت جريدة الندوة في العدد الصادر يوم السبت 16 / 4 / 1382 هـ للشنقيطي محمد مصطفى العلوي في تبرير الاحتفال بالمولد النبوي مقالاً آخر تحت عنوان:(هذا ما يقوله ابن تيمية في الاحتفال المشروع بذكرى المولد النبوي)، مضمون ذلك المقال: أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى الاحتفال بالمولد النبوي، واعتمد الشنقيطي في تلك الدعوى على ثلاثة أمور:
1- قول شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط" في بحث المولد:(فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمت أنه يستحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد).
يقول الشنقيطي: فكلام شيخ الإسلام- يقصد هذه العبارة- صريح في جواز عمل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الخالي من منكرات تخالطه.
قول شيخ الإسلام في "الاقتضاء" أيضاً:(إذا رأيت من يفعل هذا- أي المنكر-
ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر،أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه).
يقول الشنقيطي:(من الجدير بالذكر ما أشار إليه شيخ الإسلام أن مرتكب البدعة
لا ينهى عنها إذا كان نهيه عنها يحمله إلى ما هو شر منها، ومن المعلوم عند العموم: أن أكثر أهل هذا الزمان يضيعون الليالي وخصوصاً ليلة الجمعة في سماع أغاني أم كلثوم وغيرها من حفلات صوت العرب الخليعة مما يذيعه الراديو والتلفزيون، فلا يخفى على مسلم عاقل أن سماع ذكر صفة وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من سماع الأغاني الخليعة والتمثيليات الماجنة).
3- دعوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا ينكر الابتداع في تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويذكر الشنقيطي أن أكبر شاهد على ذلك تأليفه كتاب "الصارم المسلول".
هذا ما ذكره الشنقيطي مما برر به هذه الدعوى الباطلة.(122/24)
والحق أنه إنما أٌتي من سوء فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته، وفي نوع ما وقع فيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الاستغاثة":(الوهم إذا كان لسوء فهم المستمع
لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك باس، ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم)، وهذا هو عين ما وقع للشنقيطي في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية .
وإلى القراء بيان ذلك فيما يلي:
أما قول شيخ الإسلام:(فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئة عنه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل- أي الاحتفال بالمولد- يستقبح من المؤمن المسدد، ولكن الشنقيطي أخذ أول العبارة دون تأمل في آخرها، وفي أول بحث المولد في "اقتضاء الصراط المستقيم" فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الذين يتخذون المولد عيداً محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 294، 295):
(والله تعالى قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -
عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع
منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).(122/25)
فهذا تصريح من شيخ الإسلام بأن إثابة من يتخذ المولد عيداً محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ناحية قصده لا تقتضي مشروعية اتخاذ المولد عيداً ولا كونه خيراً، إذ لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ لأنهم أشد محبة وتعظيماً لرسول الله منا.
ثم بعد ذلك صرح شيخ الإسلام بذم الذين يتخذون المولد عيداً، فقال في (ص 295، 296):(أكثر هؤلاء تجدهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء الكبير والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها).
وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء"(ص 317):(من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع).
وصرح في (ص290) بأن إثابة الواقع في المواسم المبتدعة متأولاً أو مجتهداً على حسن قصده لا تمنع النهي عن تلك البدع والأمر بالاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، وذكر أن ما تشتمل عليه تلك البدع من المشروع لا يعتبر مبرراً لها(1).(122/26)
كما صرح في كلامه على مراتب الأعمال بأن العمل الذي يرجع صلاحه لمجرد حسن القصد ليس طريقة السلف الصالح، وإنما ابتلى به كثير من المتأخرين، وأما السلف الصالح فاعتناؤهم بالعمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه بوجه من الوجوه، وهو العمل الذي تشهد له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال:(وهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه، والأمر به على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب)، أضف إلى هذا أن نفس كلام شيخ الإسلام:(فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له أجر عظيم لحسن قصده) إلخ، إنما ذكره بصدد الكلام على عدم محاولة إنكار المنكر الذي يترتب على محاولة إنكاره الوقوع فيما هو أنكر منه، يعني أن حسن نية هذا الشخص- ولو كان عمله غير مشروع- خير من إعراضه عن الدين بالكلية.
ومن الأدلة على عدم قصده تبرير الاحتفال بالمولد تصريحاته في كتبه الأٌخر بمنعه، يقول في "الفتاوى الكبرى":(أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي
يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من
رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها).
وقال في بعض فتاواه:(فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك،
واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وأما قول شيخ الإسلام:(إذا رأيت من يعمل هذا- أي المنكر- ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه اضر من فعل ذلك المكروه).(122/27)
فمن غرائب الشنقيطي الاستدلال به على مشروعية الاحتفال بالمولد ما دام شيخ الإسلام يسمي ذلك منكراً، وإنما اعتبر ما يترتب على محاولة إزالته من خشية الوقوع في أنكر منه عذراً عن تلك المحاولة من باب اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على هذا النوع في رسالته في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ومن ضمن بحثه في ذلك قوله:(ومن هذا الباب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واستعذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عابدة- مع حسن إيمانه وصدقه- وتعصب لكل
منهما قبيلته حتى كادت أن تكون فتنة).
ومن هذا يُعلم أن لا ملازمة بين ترك النهي عن الشيء لمانع وبين إباحة ذلك الشيء كما تخيله الشنقيطي. وقد فاته أن هذه العبارة التي نقلها عن شيخ الإسلام في عدم النهي عن المنكر إذا ترتب عليه الوقوع في أنكر منه لا تصلح جواباً لمن سأل عن حكم الإنكار على من اتخذ المولد عيداً إذا ترتب على الإنكار الوقوع في أنكر منه.(122/28)
كما فاته أن ما ذكره من جهة أغاني أم كلثوم وما عطفه عليها لا يعتبر مبرراً للابتداع، فإن الباطل إنما يزال بالحق لا بالباطل، قال تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ]الإسراء:81[، وليس النهي عن الاحتفال بالمولد من ناحية قراءة السيرة، بل من ناحية اعتقاد ما ليس مشروعاً مشروعاً، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يقم دليل على التقرب به إليه، ومن أكبر دليل على عدم اعتبار ما ذكره الشنقيطي أن المواضع التي تقام فيها الاحتفالات بالموالد ما حالت بينها وبين الاستماع لأغاني أم كلثوم وما عطف عليها، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أرفع من أن لا تقرأ في السنة إلا في أيام الموالد.
وأما دعوى الشنقيطي فتح شيخ الإسلام ابن تيمية باب الابتداع فيما يتعلق بتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تدل أوضح دلالة على بطلانها، فقد قرر فيها أن كيفية التعظيم لا بد من التقيد فيها بالشرع، وأنه ليس كل تعظيم مشروعاً في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن السجود تعظيم، ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك جميع التعظيمات التي هي من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول بها، كما قرر في غير موضع من كتبه أن الأعمال المضادة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن قصد فاعلها التعظيم، فهي غير مشروعة؛ لقوله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ]آل عمران:31[ ، ويستدل كثيراً بما جاء
في النصوص من النهي عن الإطراء، وكلامه في ذلك كثير لا يحتاج إلى الإطالة بذكره ما دامت المراجع بحمد لله موجودة، هذا على سبيل العموم.(122/29)
أما ما يخص مسألة اتخاذ المولد النبوي عيداً بدعوى التعظيم فقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، قال:(ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا،فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) اهـ.
وتمثيل الشنقيطي بـ "الصارم المسلول" لدعواه فتح شيخ الإسلام ابن تيمية لباب الابتداع في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما نشا من عدم تدبر كلام شيخ الإسلام في مقدمته، فإنه قد بين فيها أن مضمون الكتاب "الصارم المسلول" بيان الحكم الشرعي الموجب لعقوبة من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر بياناً مقروناً بالأدلة، ومن نظر إلى الأدلة التي سردها شيخ الإسلام في هذا الكتاب من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة- تبين له أن دفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحماية لجنابه من التعرض له بما لا يليق به، وهذا لا صلة له بالابتداع.
هذا وليت الشنقيطي فكر في تعذر الجمع بين الأمور التي استدل بها على تبرير الاحتفال
بالمولد، فإن كون الشيء الواحد مشروعاً ومنكراً بدعة في آن واحد لا يتصور، لكن من تكلم
فيما لا يحسنه أتى بالعجائب.
هذا ما لزم بيانه وبالله التوفيق.
انتهى ملحق رسالة "حكم الاحتفال بالمولد والرد على من أجازه "
للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه.(122/30)
حكم الاحتفال
بذكرى المولد النبوي
للشيخ صالح بن فوزان الفوزان
حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله، والنهي عن الابتداع في الدين، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمٌْ)) ]آل عمران:31[، وقال - تعالى -:((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)) ]الأعراف:3[، وقال - تعالى -:((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) ]الأنعام:153[، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:(123/1)
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لمسلم:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول؛ وهم في هذا الاحتفال على أنواع: فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تُقرأ فيه قصة المولد، أو تُقدَّم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة. ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر. ومنهم من يقيمه في المساجد، ومنهم من يقيمه في البيوت. ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك، وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة؛ فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما. وقال أبو شامة: وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره. قال الحافظ ابن كثير في "البداية" (13/137) في ترجمة أبي سعيد كوكبوري:(وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً... إلى أن قال: قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى... إلى أن قال: ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم) اهـ. وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (3/274): فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم(123/2)
يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً. وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم...
إلى أن قال: فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان...
إلى أن قال: فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة. اهـ.(123/3)
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات، وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع، وأن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه. هذا؛ وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي: 1 – دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن ذلك أن نقول:إنما تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته - صلى الله عليه وسلم -، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم؛ لأنه معصية. وأشد الناس تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - هم الصحابة – رضي الله عنهم -، كما قال عروة بن مسعود لقريش: (يا قوم! والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً - صلى الله عليه وسلم -، والله ما يمدون النظر إليه تعظيماً له)، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه. 2 – الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان. والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهي عن البدع عموماً، وهذا منها. وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة، وإن كثروا:((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) ]الأنعام:116[، مع أنه لا يزال(123/4)
- بحمد الله - في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق. فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"، والإمام الشاطبي في "الاعتصام"، وابن الحاج في "المدخل"، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألَّف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "صيانة الإنسان"، والسيد محمد رشيد رضا ألَّف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة. 3 - يقولون: إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن ذلك أن نقول: إحياء ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به؛ وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً، لا في السنة مرة. 4 - قد يقولون: الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لا تُقبل من أي أحد كان، وحسْن القصد لا يسوِّغ العمل السيئ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته. 5 - قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود
النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال: ليس في البدع شيء حسن؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث(123/5)
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ويقال أيضاً: لماذا تأخر القيام بهذا الشكر - على زعمكم- إلى آخر القرن السادس، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر؛ فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله – عز وجل –؟ حاشا وكلاَّ. 6 – قد يقولون: إن الاحتفال بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - ينبئ عن محبته؛ فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته - صلى الله عليه وسلم - مشروع! والجواب أن نقول: لا شك أن محبته - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه -، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه؛ فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحب مطيع
فمحبته - صلى الله عليه وسلم - تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع. وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فإن الدين
مبني على أصلين: الإخلاص، والمتابعة، قال - تعالى -:((بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) ]البقرة:112[، فإسلام الوجه
هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة. وخلاصة القول: أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها،(123/6)
ولا يغتر بمن يروِّج هذه البدعة ويدافع عنها؛ فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً، ومن كان هذا شأنه
فلا يجوز تقليده والاقتداء به، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً؛ فالحق لا يُعْرف بالرجال،
وإنما يُعْرف الرجال بالحق. قال - صلى الله عليه وسلم -:(فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، فبين لنا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل
ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة. وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في سنة خلفائه الراشدين، إذاً فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله – تعالى -:((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) ]النساء:59[. والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته؛ فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي؟(123/7)
فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله - تعالى - منه ومن غيره من البدع؛ فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه. هذا؛ ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
* * *(123/8)
حكم الاحتفال
بليلة النصف من شعبان
للإمام عبدالعزيز بن باز –رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الآية من سورة المائدة، وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الآية من سورة الشورى وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته، ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعدما بلغ البلاغ المبين، وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال،
وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وهكذا علماء الإسلام بعدهم، فأنكروا البدع وحذروا منها، كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح ، والطرطوشي، وأبي شامة وغيرهم.(124/1)
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله وورد فيها أيضا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب، في كتابه: (لطائف المعارف) وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان، فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.(124/2)
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام: أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأنا أنقل لك: أيها القارئ، ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة، حتى تكون على بينة في ذلك، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب: رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله- عز وجل، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطراحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله، فضلا عن الدعوة إليه وتحبيذه، كما قال سبحانه في سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ وقال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ الآية من سورة الشورى، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة، ووجوب الرضى بحكمهما، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان، وخير للعباد في العاجل والآجل، وأحسن تأويلا: أي عاقبة.(124/3)
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله- في كتابه: (لطائف المعارف) في هذه المسألة- بعد كلام سبق- ما نصه: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم، ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد. كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويتكحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى، إلى أن قال: ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان: من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه (في رواية) لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحبها (في رواية)، لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف، لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام)(124/4)
انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان، وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول، فهو غريب وضعيف . لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعا، لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفردا أو في جماعة، وسواء أسره أو أعلنه. لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها،
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه: (الحوادث والبدع) ما نصه: (وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم، قال: ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلا على ما سواها).
وقيل لابن أبي مليكة : إن زيادا النميري يقول: (إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر)، فقال: (لو سمعته وبيدي عصا لضربته) وكان زياد قاصا، انتهى المقصود(124/5)
وقال العلامة:الشوكاني رحمه الله في: (الفوائد المجموعة) ما نصه: (حديث: يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات قضى الله له كل حاجة إلخ وهو موضوع، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في: (المختصر): حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي : (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها)، ضعيف وقال في: (اللآلئ): مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله، للديلمي وغيره موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال: واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع.
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب (الإحياء) وغيره وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة- أعني: ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلي سماء الدنيا، وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم بني كلب، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة، على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه) انتهى المقصود.(124/6)
وقال الحافظ العراقي : (حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه، وقال الإمام النووي في كتاب: (المجموع): (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب: (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين)، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك) .
وقد صنف الشيخ الإمام: أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابا نفيسا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد، وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جدا، ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلام في هذه المسألة، لطال بنا الكلام، ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعا لطالب الحق.(124/7)
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجعل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم فلو كان تخصيص شيء من الليالي، بشيء من العبادة جائزا، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها. لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.(124/8)
ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم علي أنه قال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة، لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة، ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، وقد عرفت آنفا من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة، بدعة منكرة، وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب، التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها، للأدلة السابقة، هذا لو علمت، فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف، وقول من قال: أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة، ولقد أحسن من قال:
وشر الأمور المحدثات البدائع ... وخير الأمور السالفات على الهدى
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها، والحذر مما خالفها، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(124/9)
حُكم الدفّ للرجال والنساء في غير الأعراس
الحمد لله الذي شرع لعباده ديناً قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
أما بعد :
فقد جرى بيني وبين بعض إخواني حديث ونقاش حول مسألة ضرب الدفوف للرجال ، ثم تطرقنا لمسألة ضرب الدفوف بالنسبة للنساء .
فكان هذا البحث المختصر بعد ذلك .
فأقول وبالله التوفيق :
الأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف . رواه أحمد وغيره ، وحسنه الألباني .
وقوله عليه الصلاة والسلام : أعلنوا النكاح . رواه ابن حبان وغيره ، وحسنه الألباني .
وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة أما كان معكم لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو .
كما روى البخاري عن الرُّبيِّع بنت مُعوَّذ رضي الله عنه أنها قالت : دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم غداة بُني عليّ ، وجويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر حتى قالت جارية : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا ، وقولي ما كنت تقولين .
وهذا إنما كان في عرس الرُّبيِّع بنت مُعوَّذ رضي الله عنها .
وكان عمر رضي الله عنه إذا استمع صوتا أنكره وسأل عنه ، فإن قيل عرس أو ختان أقرّه . رواه معمر بن راشد في كتاب الجامع وابن أبي شيبة .
وفي رواية للبيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوتا أو دُفّاً قال : ما هذا ؟ فإن قالوا : عرس أو ختان صمت .
ففسّرت رواية البيهقي الصوت الذي يُنكره عمر رضي الله عنه ، وأنه صوت الدفّ .(125/1)
وعن عامر بن سعد قال : دخلت على ابن مسعود وقرظة بن كعب وعندهما جوارٍ تغنين فقلت : أتفعلون هذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فقال : إنه رُخِّص لنا في اللهو عند العرس . رواه النسائي وابن أبي شيبة والحاكم .
وعن عمرو بن ربيعة أنه قال كنت مع ثابت بن وديعة وقرظة بن كعب في عرس فسمعت صوت غناء ، فقلت : ألا تسمعان ؟ فقال : إنه قد رخص لنا في الغناء عند العرس والبكاء على الميت من غير نياحة . رواه ابن أبي شيبة والحاكم في المستدرك .
وعن إبراهيم النخعي أنه قال كان أصحاب عبد الله – أي ابن مسعود – يستقبلون الجواري في الأزفة معهن الدف فيشقونها . رواه ابن أبي شيبة .
قال ابن حجر في الفتح : قوله : ( باب ضرب الدف في النكاح والوليمة ) يجوز في الدف ضم الدال وفتحها ، وقوله : ( والوليمة ) معطوف على النكاح أي ضرب الدف في الوليمة ، وهو من العام بعد الخاص ويحتمل أن يريد وليمة النكاح خاصة ، وأن ضرب الدف يشرع في النكاح عند العقد وعند الدخول مثلا وعند الوليمة كذلك .(125/2)
وقال ابن عبد البر في التمهيد : قال - أي الإمام مالك - : وضرب الدفّ في العرس لا بأس به ، وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو حنيفة : إذا حضر الوليمة فوجد فيها لعبا فلا بأس أن يقعد ويأكل . وقال هشام الداري عن محمد بن الحسن : إن كان الرجل ممن يُقتدى به فأحب إليّ أن يخرج . وقال الليث بن سعد : إن كان فيها الضرب بالعود واللهو فلا يشهدها . قال أبو عمر - أي ابن عبد البر - : الأصل في هذا الباب ما حدثناه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة قال خبرنا سعيد بن جمهان قال حدثنا سفينة أبو عبد الرحمن أن رجلا أضافه علي بن أبي طالب فصنع له طعاما فقالت فاطمة : لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا ، فدعوه فجاءه فوضع يده على عضادتي الباب فرأى قراما في ناحية البيت فرجع ، فقالت : فاطمة لِعَلِيّ : الحقه ، فقال له : ما رجعك يا رسول الله ؟ فقال : إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوّقا . كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كَرِهَ دخول بيت فيه تصاوير ، ولتقدم نهيه وقوله : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو تماثيل . وكذلك كل منكر إذا كان في البيت فلا ينبغي دخوله ، والله أعلم لرجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طعام دُعِيَ إليه لما رأى في البيت مما ينكره وما تقدم نهيه عنه
وقال : قال أهل اللغة : طعام الوليمة هو طعام العرس والإملاك خاصة .
فأنت ترى – حفظك الله – أن الصحابة ما فهموا الإذن في ضرب الدف في غير النكاح والختان
وقد تقدّم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّصَ في اللهو عند العرس .
فتعبير الصحابة بـ ( رخّص ) يُشعر بأن الأمر قبل الترخيص محظور – أي محرّم – كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير من حكّةٍ كانت بهما .(125/3)
وفي رواية : أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني القمل فأرخص لهما في الحرير .
والرُّخصة هنا إنما تكون بعد التحريم ، وليست أمراً مباحاً .
والرخصة هنا في ضرب الدفّ للنساء دون الرجال .
قال ابن حجر – رحمه الله – : والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء ، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن .
وعليه فلا يجوز ضرب الدُفّ لا للرجال ولا للنساء إلا في إعلان النكاح فإنه يجوز ضربه للنساء خاصة ، بل للبُنيّات والتي عُبّر عنهن بـ " الجواري "
وضرب الدفّ رُخصة رُخِّص بها للنساء دون الرجال .
فتعبير الصحابة بـ ( رخّص ) يُشعر بأن الأمر قبل الترخيص محظور – أي محرّم – والرُّخصة هنا إنما تكون بعد التحريم .
قال ابن حزم : لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه .
وقال الشاطبي : وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه .
وقال صاحب كتاب القواعد والفوائد الأصولية : والرخصة لغة السهولة ، وشرعا : ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح . وقيل : استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر
وقال الآمدى : الرخصة ما شرع لعذر مع قيام السبب المحرم .
وقال القرافى : هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعا ؛ والمعانى متقاربة . اهـ .
قال الشيخ حافظ حكمي :
والرخصة الإذن في أصلٍ لمعذرةٍ === وضدها عزمة بالأصلِ تنعقدُ
فأنت – رعاك الله – ترى أن ضرب الدفّ لم يكن من شِيَمِ الرجال ، بل هو من شأن الجواري !!
وإن ضرب الدفّ خاص بالعرس أو وليمة العرس أو الختان .
شُبهة وجوابها :(125/4)
قد يستدل البعض بما ورد في الصحيحين من حديث عائشة قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال : مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال : دعهما . فلما غفل غمزتهما فخرجتا ، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإما سألت صلى الله عليه وسلم ، وإما قال : تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه خدي على خده ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة . حتى إذا مللت قال : حسبكِ ؟ قلت : نعم . قال : فاذهبي . وهذا قد بوّب عليه الإمام البخاري بـ ( باب الحراب والدرق يوم العيد ) .
فليس فيه استدلال للمخالف فقد ورد في رواية في الصحيحين عن عائشة قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث . قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا ، وهذا .
فقول عائشة رضي الله عنها : وليستا بمغنيتين . يدل على أن تلك الجواري اللواتي يضربن الدفوف أو يُغنين لم يكن ذلك من شأنهن ، كما أن الغناء لم يكن حرفة لهن ، ولم يَكُنّ يُستأجرن لذلك الغرض ! أو تُنفق عليهن الأموال الطائلة .
ويدل عليه قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : و لكن نصب مغنية للنساء و الرجال هذا منكر بكل حال بخلاف من ليست صنعتها ، وكذلك أخذ العوض عليه . و الله أعلم .(125/5)
وقال أيضا : وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته ، فإنهن من الحق . والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة ، فهذا يرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع ، وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك ، وهذه نفوس النساء والصبيان فهن اللواتي كن يغنين في ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ، ويضربن بالدف ، وأما الرجال فلم يكن ذلك فيهم بل كان السلف يُسمُّون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بالنساء .(125/6)
وقال رحمه الله : وبالجملة قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف ، كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعامي ولا لِخاصِّيّ ، ولكن رخص النبي في أنواع من اللهو في العرس ونحوه ، كما رخص للنساء أن يضربن بالدُّف في الأعراس والأفراح ، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدفٍّ ولا يصفق بكف بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : التصفيق للنساء ، والتسبيح للرجال ، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء . ولما كان الغناء والضرب بالدُّف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا ، ويسمون الرجال المغنين مخنّثا ، وهذا مشهور في كلامهم . ومن هذا الباب حديث عائشة رضى الله عنها لما دخل عليها أبوها رضى الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر رضي الله عنه : أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضا بوجهه عنهما مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط ، فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا أهل الإسلام . ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه ، ولهذا سمّاه الصديق مزمار الشيطان ، والنبي أقرّ الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد ، والصغار يُرخّص لهم في اللعب في الأعياد كما جاء في الحديث : ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة . وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها ، وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك ، والأمر والنهى إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع(125/7)
، كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار . اهـ .
وقال رحمه الله : و أما غناء الرجال للرجال فلم يبلغنا أنه كان في عهد الصحابة . انتهى كلامه – رحمه الله – .
ملحوظة : قول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امرأته ، فإنهن من الحق .
يُشعر أن الحديث في الصحيحين أو في أحدهما ، وليس كذلك ، إلا إن كان الشيخ يقصد أنه في الحديث الصحيح ، فهو كذلك .
تنبيه :
حديث : أعلنوا النكاح ، واضربوا عليه بالغربال .
حديث ضعيف ، ضعّفه جمع من الأئمة .
قال ابن حجر – رحمه الله – :
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : أعلنوا النكاح ، واضربوا عليه بالغربال أي الدف . رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة وفي إسناده خالد بن إلياس وهو منكر الحديث قاله أحمد ، وفي رواية الترمذي عيسى بن ميمون وهو يضعف قاله الترمذي ، وضعفه ابن الجوزي من الوجهين . نعم روى أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير : أعلنوا النكاح . انتهى .
كما ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية .
وضعفه الحافظ الزيلعي في نصب الراية .
ويُغني عنه ما تقدّم .
والله أعلم .
كتبه عبد الرحمن السحيم – الرياض – 1420 هـ .(125/8)
حكم تكفير المعين
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبا بطين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في رده على ابن البكري : فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله ، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله ، لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حق لله تعالى فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها ، وإلا ليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر .. إلى أن قال : ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون تعالى فوق العرش : أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر ، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال .. إلخ .
أفتونا : ما معنى قيام الحجة أثابكم الله بمنه وكرمه ؟ .
الجواب :
الحمد لله رب العالمين ، تضمن كلام الشيخ رحمه الله مسألتين :
إحداهما : عدم تكفيرنا لمن كفرنا وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا ، وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر .(126/1)
ونقل ابن حجر الهيثمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول ، فنقل عن المتولي أنه قال : إذا قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر ، قال : وتبعه على ذلك جماعة واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) والذي رماه به مسلم فيكون كافرا قالوا : لأنه سمى الإسلام كفرا ، وتعقب بعضهم هذا التعليل فقال : هذا المعنى لا يفهم من لفظه ولا هو مراده . إنما مراده ومعنى لفظه : إنك لست على دين الإسلام الذي هو حق ، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام وأنا على دين الإسلام . وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام فنفى عنه كونه على دين الإسلام ، فلا يكفر بهذا القول وإنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به ، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد : يا فاسق . كفر لأنه سمى العبادة فسقا ، ولا أحسب أحدا يقوله ، وإنما يريد أنك تفسق وتفعل مع عبادتك ما هو فسق لأن عبادتك فسق . انتهى
وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك ، فإنه لما ذكر الحديث قال : وهذا مما عده العلماء من المشكلات فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي ، كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها :
الأول : أنه محمول على المستحل ، ومعنى ( باء بها ) بكلمة الكفر وكذا ( حارت عليه ) في رواية أي رجعت عليه كلمة الكفر فباء وحار ورجع بمعنى واحد .
…الثاني : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
الثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين ، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع .(126/2)
الرابع : معناه أنه يؤول إلى الكفر فإن المعاصي ـ كما قالوا ـ بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر . ويؤيده رواية أبى عوانة في مستخرجه على مسلم ( فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر ) .
الخامس : فقد رجع بكفره ، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير كونه جعل أخاه المؤمن كافرا ، فكأنه كفّر نفسه ، إما لأنه كفر من مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام . انتهى
وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من دعى رجلا بالكفر وليس كذلك إلا حار عليه ) ؛ أي رجع عليه . وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين ، وليس هو كذلك , وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضا .
ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني أنه قال : لا أكفر إلاّ من كفرني ، قال وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح .
والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعى رجلا بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) .
وكان هذا المتكلم - أي أبو إسحاق - يقول : الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر وإما المكفَّر فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع أني لست بكافر ، فالكفر راجع عليه . انتهى(126/3)
وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره والله أعلم . وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج ، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى ، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل ، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم وقالوا من استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر . وأن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر والله أعلم وأحكم .
المسألة الثانية : إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها .. إلخ .
يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة وقد صرح بذلك في موضع آخر . ونقل عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب . وقال إن عفو الله عن الذي كان يعامل لأنه لم تبلغه الدعوة وعمل بخصلة من الخير ، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يهودي أو نصراني ـ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) قال في شرح مسلم : خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا ، قال : وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور . قال : وهذا جار على ما تقرر في الأصول ( لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح ) . انتهى
وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) في هذا دليل على أن معرفة الله تعالى لا تجب عقلا ، وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار . انتهى
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر أنه يعاقب اختاره ابن حامد واحتج بقوله تعالى ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) والله أعلم .(126/4)
فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة فلا يعذر بعدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا عذر له بعد ذلك بالجهل ، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم .
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر ، والشك هو التردد بين شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه ، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها ، أو لا يعتقد تحريم الزنا أوعدم تحريمه ، وهذا كفر بإجماع العلماء ، ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها ، وقد أخبر الله عن الكفار إنهم لم يفهموا فقال : ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) وقال ( انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) .
فبين سبحانه أنهم لم يفقهوا فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار كما في قوله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .(126/5)
قال الشيخ أبو محمد موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى ـ لما أنجز كلامه في مسألة : هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ ـ ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيب بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين ، قال : وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم إلى أن قال ـ وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله ، فإنّا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه ، وذمهم على إصرارهم وقاتل جميعهم ، يقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل ، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه . والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ( وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فأصبحتم من الخاسرين ) ( إن هم إلا يظنون ) وقوله ( ويحسبون أنهم على شيء ) ( ويحسبون أنهم مهتدون ) ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة . انتهى
فبين رحمه الله تعالى أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى ، وهذا من أظهر الباطل .(126/6)
فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى : إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة . يدل كلامه على أن هذين الأمرين وهما التكفير والقتل ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا بل على بلوغها ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر ، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة ، وهذا بين البطلان بل آخر كلامه رحمه الله يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس ، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة ، كالجهل ببعض الصفات .
وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة فقد صرح رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة ، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها ، وهذا في كلام الشيخ رحمه الله تعالى كثير كقوله في بعض كتبه : فكل من غلا بنبي أو رجل صالح وجعل فيه نوع من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله ، نحو أن يقول : يا فلان أغثني أو اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو اجبرني أو توكلت عليك وأنا في حسبك وأنت حسبي ، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فأن تاب وإلا قتل .
وقال أيضا : فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم ، كفر إجماعا .
وقال : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد ، وإن جهل أن ذلك محرم ، عرف ذلك فإن أصر صار مرتدا .
وقال : من سب الصحابة أو واحدا منهم أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره .
وقال أيضا : من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليلا لا يبلغون بضعة عشر أو إنهم فسقوا فلا ريب في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر . انتهى(126/7)
فانظر كيف كفر الشاك ، والشاك جاهل فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور .
وقال رحمه الله في أثناء كلام له : ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتبها لم يكفر عند أهل السنة ، ومن فعل المحارم مستحلا فهو كافر بالاتفاق ، قال : والاستحلال اعتقاد أنها حلال وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة ، وتارة يعلم أن الله حرمها ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند فهذا أشد كفرا ممن قبله . انتهى
وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير . فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر ، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء لأن منها ماهو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات ، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف .
وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين . ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى : من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس أو جحد حل الخبز ونحوه أو جحد تحريم الخمر ونحوه أو شك في ذلك ، ومثله لا يجهله كفر ، وأن كان مثله يجهله عرف ذلك ، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل ولم يخصوا الحكم بالمعاند . وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة ـ أقوالا وأفعالا ـ يكون صاحبها بها مرتدا ولم يقيدوا الحكم بالمعاند .(126/8)
وقال الشيخ أيضا : لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة قال تعالى ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ...) اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون ، فإن أصروا على الاستحلال كفروا ، وإن أقروا به جلدوا ، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق فإن أصروا كفروا .
وقال أيضا : ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات ـ لا الأنبياء ولا غيرهم ـ لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما ، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول . انتهى
فانظر إلى قوله لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول ، ولم يقل حتى يتبين لهم ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة .
وقال أيضا ـ لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام ـ : وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق ، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال مالا يتسع لذكره المقال .(126/9)
وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك ، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين ، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون ـ إلى أن قال : وبلغ من ذلك أن منهم يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه ، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد تاب عنه وعاد إلى الإسلام . انتهى
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة فقال في المقالات الخفية التي هي كفر : قد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة .
فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية . فيكفر بالأمور الظاهرة حكما مطلقا ، وبما يصدر منها من مسلم جهلا ، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد تعريف ، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل في بعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا وإن كان داعية ، كقوله للجهمية : أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال . وقوله ( عندي ) يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره .
وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب . فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن أو نفي الرؤيا أو الرفض و نحو ذلك وتفسيق المقلد .(126/10)
قال المجد ابن تيمية رحمه الله : الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية فأنا نفسق المقلد فيها ، كمن يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق ، أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يرى في الآخرة ، أو يسب الصحابة تدينا ، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد ، وما أشبه ذلك ، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره . نص أحمد على ذلك في مواضع . انتهى
فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم ، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم ويفسقون عنده .
ونحوه قول ابن القيم رحمه الله تعالى فإنه قال : وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ، ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ، ويثبتون مالم يثبته الله ورسوله كذلك ، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم . وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب ، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ، وقالوا : هم مباينون للملة . انتهى
وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين ، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين .
فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ( اتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم ) وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا فالاحتياط للدين التوقف وعدم الاقدام مالم يكن في المسألة نص صريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم .(126/11)
وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والاجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب و السنة مع الاجماع بأنه مسلم .
ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع لم يفتي بمجرد فهمه واستحسان عقله ، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا على مجرد فهمه واستحسانه ؟ ، فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ، ومنحته من تينك البليتين .
نسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
ومن فتاواه رحمه الله في هذا الباب ، قوله : وأما ما سئلت عنه من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر إذا ارتكب شيئا من المكفرات ؟ فالأمر الذي دل الكتاب والسنة وإجماع العلماء عليه أنه كفر مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه ، فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو حسّنه فهذا لا شك في كفره ، ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك أن تقول كفر فلان بهذا الفعل .
يبين هذا أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة يصير بها المسلم مرتدا كافرا ، ويستفتحون هذا الباب بقولهم : من أشرك بالله كفر وحكمه أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، والاستتابة إنما تكون مع معين ، ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي : أن القرآن مخلوق ، قال : كفرت بالله العظيم .
وكلام العلماء في تكفير المعين كثير وأعظم أنواع الكفر الشرك بعبادة غير الله وهو كفر بإجماع المسلمين ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك كما أن من زنى قيل فلان زان ومن رابى قيل فلان مراب
والله أعلم
تم تنزيل هذا المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info(126/12)
حوار
مع الصوفية
تأليف
أبو بكر العراقي
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له،وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا كتاب((حوار مع الصوفية))نقدمه للأخوة طلاب العلم عسى أن ينفع الله به وأن يهدي به قوماً قد ضلوا عن سبيل الله عز وجل وجل،دافع فيه مؤلفه عن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-وعن دعوته دعوة التوحيد الخالص فجزاه الله خيرا.
ومؤلف هذا الكتاب أحد الدعاة إلى الله عز وجل وهو أخونا الشيخ:أبو بكر العراقي وفقه الله لما يحبه ويرضاه.
وهو من الذين يدعون إلى الله عز وجل وإلى توحيده وإلى نبذ البدع والخرافات.
وهو ممن يعاصر كثيرا من قضايا هذا الكتاب نسأل الله عز وجل أن يعينه في دعوته وأن يزيده خيرا وثباتا.
وقد أهدى إلى -حفظه الله- نسخة من كتابه هذا فوجدته يبحث موضوعا مهما على اختصاره ورأيته يستحق النشر عسى الله أن ينفع به.
فقمت بالإشراف على طبعه وتصحيحه حسب الاستطاعة.
أسأل الله أن يجنبنا الزلل وأن يغفر لنا وأن يوفق مؤلف هذا الكتاب وأن ينفعه وينفع به ويثبتنا وإياه وأن وينفع قارئه.
ثم إن الدين النصيحة فمن وجد خللا فليرشد ولينصح ومن أراد أن يرسل بنصيحة أو تصحيح أو تنبيه فجزاه الله خيرا وله الشكر والتقدير وهو مأجور إنشاء الله.
وكتب أبو يزيد السبيعي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
(ويرحم الله عبدا قال آمينا)
الرياض- ليلة الجمعة الموافق3/5/1410هـ
العنوان:ص.ب 60517 الرياض 11555
المقدمة(127/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له عليه توكلت وإليه أنيب اللهم صلي وسلم على نبيك وصفيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فهذا ملخص حوار دار بيني وبين عدد من شيوخ الصوفية في العراق في مجالس متعددة ومحافظات متفرقة حول الدعوة المباركة التي قام بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله ورضوانه، وما يثار حولها من مسائل ويقال عنها من شكوك أجبت في هذا الحوار عن كل المسائل والشكوك المثارة وبينت فيها الحق والصواب الذي كان عليه الإمام وأتباعه وأبطلت كل ما يفتري عليه وعلى أتباعه.
وسميته(( حوار مع الصوفية)).
أسأل الله سبحانه أن يوفقني لخدمة دعوة التوحيد واتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
محب الشيخين أبو بكر العراقي
1/ رمضان/ 1409هـ.
(( أهم الطرق الصوفية في العراق))
الطرق الصوفية بشكل واسع لكثرة الدعاة المضلين لها ولجهل كثير من الناس لأبسط أمور الدين فكيف بأهمها وهو التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل بالدعوة إليه وإبعاد الناس عن الشرك بالله سبحانه وتعالى وأمرهم بعبادته سبحانه وتعالى وحده.
* ومن أهم الطرق الصوفية عندنا في العراق ما يلي:
(1) الطريقة القادرية: التي تنسب زورا وبهتانا إلى الشيخ عبد القادر الجيلي (470هـ 561هـ) وهي أكثر الطرق انتشارا في العراق وتتفرع عنها كثير من الطرق الأخرى كالكسنزانية والفربكانية. ومن شيوخ هذه الطريقة المشهورين المدعو محمد بن عبد الكريم المسمى بالوارث تورث المشيخة عن أبيه مع العلم بأن الأب والابن لا يقيمان لأركان الإسلام كالصلاة والصيام وزنا ولا يؤديان الفرائض ولا النوافل ويعتقد فيهما العوام الولاية، أعاذنا الله من شر الاعتقاد.(127/2)
(2) الطريقة الرفاعية:التي تنسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي قطب الأقطاب وغوث الأغواث وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مد يده الشريفة إليه فقبلها وهذه الأكذوبة لا يصدقها إلا ناقص عقل ودين.
وأهم شيوخ الطريقة الرفاعية في العراق هم:
طه هلول عواد النعيمي الذي أخذ المشيخة عن أبيه إرثا سنة 1389هـ بعد وفاته ولا زال الابن حيا ويسكن كركوك.
إبراهيم عبد الكريم الجنابي.
مصطفى عبد الكريم الجنابي.
ستار الجنابي.
جبار الجنابي، الساكنون جميعا في قضاء الخالصي/ ديالى ويدعي كل من هؤلاء أنه شيخ الطريقة.
عبد الله النامس الرفاعي الذي يسكن (( صلاح الدين)).
محمد عبد الوهاب الذي يسكن بغداد.
إبراهيم الراوي الذي يسكن محافظة الأنبار. وكل هؤلاء يزعمون أنهم شيوخ الطريقة الرفاعية ولا مثيل لهم.
(3) الطريقة النبهانية: وتنسب إلى الشيخ محمد النبهاني الشامي وهي من الطرق الجديدة التي ظهرت في سوريا وانتشرت في العراق بواسطة الشيخين: ناظم العاصي العبيدي، ومحمود مهاوش الكبيسي اللذين توفيا سنة 1403هـ 1983م . وتولى المشيخة بعدهما المدعو ماهر محمود مهاوش الكبيسي إرثا هن أبيه.
(4) الطريقة الخضرية: تنسب إلى الخضر- عليه السلام- وانتشرت حديثا، وليس لها شيخ معترف به باقي شيوخ الطرق الصوفية.
(5) الطريقة النقشبندية: وتنسب إلى ولي الله شاه نقشبند محمد بهاء الدين( 717هـ - 791هـ ) الذي نشأ وعاش في الهند ومن هناك انتشرت في البلاد الإسلامية.
ثم ظهر الشيخ خالد النقشبندي في بلاد الشام ومنه انتشرت في العراق. وظهر من شيوخها في الشام: أبو النصر محمد خلف الجندي الحمصي (1292هـ- 1368هـ). ومن شيوخها في العراق: مصطفى كمال الدين النقشبندي الذي توفي 1408هـ /1988م وتولى المشيخة بعده إرثا عنه الدكتور عبد الله ولا زال يتولاها.
(6) وهناك طرق صغيرة ليس لها كثير أتباع مثل: الملوية والشاذلية.(127/3)
ويتفق كل هؤلاء على جواز التوسل والاستغاثة بغير الله والحلف والاستعانة كذلك وينذرون لأضرحة شيوخهم، ويزورون القبور يطلبون العون والمدد من أصحابها، ويعبدون الله وأكثرهم مشركون.
((قبل بدء الحوار نصيحة ورجاء))
نصيحتي إلى كل مسلم حريص وغيور على دينه وعقيدته أن يقرأ كتب شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله – ويتصل بتلاميذ دعوته وهو كثر والحمد لله، ثم بعد ذلك يحكم على دعوته المباركة وعلى الداعين إليها.
إخوتي في الله لقد كنت تلميذا في المدرسة الدينية في مدينتنا وكان شيخ المدرسة- وهو أحد الصوفية على الطريقة القادرية- يكلمنا عن الشيخ ودعوته بما ينافي الحق والحقيقة.
وكان ينهانا عن قراءة كتبه وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- رحمهم الله تعالى-. حتى إنه رسم لنا صورا مخفية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكان يطلق عليها لفظ الوهابية تنفيرا ويقول بأنه مذهب خامس خارج عن مذاهب الإسلام.
وقد كتب الله تعالى لي الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في كلية الشريعة فرأيت عكس ما سمعت من شيوخ السوء والفتنة رأيت رجال دعوة التوحيد رجال علم وقرآن وخير وبركة متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم محافظين على تعاليم الإسلام ويعتبرون أنفسهم خدما للإسلام ودعوة التوحيد المباركة.
ونهلت من منهل الجامعة الإسلامية وكلية الشريعة منهل الكتاب والسنة. إلا أني لا أكتم سرا إذا قلت أنه حين تخرجي لا زال في بعض ما كنت عليه سابقا قبل دخول الجامعة عالقا في ذهني من أقاويل شيوخ السوء، رغم أنني لم أعترف بالصوفية منذ صغري بل كنت أبغضها بغضا شديدا حيث كنت أرى بنفسي ما يأتون من منكرات ومخالطة الرجال للنساء الأجنبيات والمردان وتركهم الصلاة، والذي يصلي منهم لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، ولا يصومون ويجهرون بالإفطار في رمضان وإذا سألتهم عن هذا أتوك بحجج واهية أوهى من بيت العنكبوت.(127/4)
وبعد تخرجي من الجامعة سنة 1397هـ شاء الله سبحانه أن أقوم بوظيفة الإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد في أحد جوامع مدينتنا المهمة فرأيت البدع منتشرة في الجامع بين صفوف المصلين فبدأت مستعينا بالله تعالى بتغييرها مستخدما الحكمة والموعظة الحسنة.
فأثار هذا العمل المبتدعة وأصحاب المصلح وعلماء السوء والفتنة فقالوا: فلان وهابي ويدعو للمذهب الوهابي لأنه خريج السعودية إلى آخر كلامهم الذي لا يراد به إلا الباطل. وكما يقال: ((رب ضارة نافعة)) فعاهدت الله بعد ذلك بأن أكون أحد خدمة دعوة التوحيد والداعين إليها ولا أخشى في الله لومة لائم فعكفت على دراسة كتب التوحيد كتب شيوخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله تعالى-. وقرأت عن حياة الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- الكثير وبخاصة موقفه من فتنة خلق القرآن الكريم فأثر ذلك على حياتي تأثيرا إيجابيا أعادها إلى حضيرة التوحيد خالصة وإلى الإسلام صافية، والحمد لله رب العالمين. وقلت وقتها كما قال الشيخ عمران بن رضوان- رحمه الله تعالى-:
إن كان تابع أحمد متوهبا ... فأنا المقر بأنني وهاب
ي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي ... رب سوى المتفرد الوهاب
لا قبة ترجى ولا وثن ولا ... قبر له سبب من الأسباب
أيضا ولست معلقا لتيمية ... أو حلقة أو ودعة أو ناب
لرجاء نفع أو لدفع بلية ... الله ينفعني ويدفع ما بي (1)
وبعد ذلك أصبحت أحد تلاميذ الدعوة داعيا إليها موضحا طريقها شارحا سيرة دعاتها فدخل بفضل الله سبحانه غي هذه الدعوة المباركة واستجاب لها عدد كبير من الشباب والشيوخ والنساء والرجال فأصبحوا من المحبين لها الداعين إليها ونبذوا ما كانوا عليه من مسائل الجاهلية والحمد لله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب حياته السلفية)): ص52.(127/5)
فيا إخوتي في الله هذا هو الطريق الحق فسارعوا إليه فمن اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها ودع قول المبتدعة وأهل الشعوذة والدجل وتوكل على الله ومن يتوكل عليه فهو حسبه والله مع الصابرين.
((بدء الحوار))
قال الصوفي: أنت الوهابية مذهب خامس لا تعترفون بالمذاهب الأربعة ولا ترون الاجتهاد بل إن الوهابية تقف عند النصوص ولا تتقيد بمذهب معين.
قلت:
أعرفك أيها الصوفي أولاً بمعنى الوهابية، والوهابية نسبة غير صحيحة إذ لم يكن الشيخ عبد الوهاب والد مجدد الدعوة هو الذي قام بدعوة التوحيد وإنما قام بها الشيخ الابن محمد بن عبد الوهاب رحمها الله.
إذ كان المفروض أن تنسب إليه فيقال: الدعوة المحمدية بدلا من الوهابية لأنها النسبة الصحيحة، لكن أعداء الدعوة عكسوا الأمر للتنفير فنسبوها إلى الأب دون الابن لغاية في أنفسهم.
وقد تنسب الدعوة إلى الوالد أو الجد كما يقال الشافعية أو الحنبلية وهذا لا عيب فيه ونسبة دعوة التوحيد إلى الشيخ عبد الوهاب كذلك.
لكن ما معنى الوهابية؟ الوهاب: اسم من أسماء الله الحسنى معناه: المعطي المانح الواهب فهي تسمية مباركة نسبت بأحد أسماء الله الحسنى ((الوهاب)) فالوهابية على هذا معناها المعطية تعطي الإنسان عقيدة سليمة وتمنحه السير على الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وتهبه الأمان أمان العقيدة الصافية الخالية من الشرك والشعوذة والدجل.(127/6)
أما كون الوهابية مذهب خامس فهو مما ينكره الواقع ويدفعه المنطق لأن الشيخ في الأصول والعقائد على عقيدة السلف الصالح- رضي الله عنهم أجمعين- وفي الفروع على مذهب الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- ولم يكن يخرج عن مذهبه في الفروع كخروج شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رغم اجتهاد الاثنين في بعض المسائل خالفا فيها المذهب وذلك عندما يتبين له دليل يخالف المذهب فيأخذ به اتباعا للحق وأخذا بالدليل. وهذه كتبه ورسائله تشهد على ذلك. وإنه يعترف بجميع المذاهب السنية كالحنيفية والمالكية والشافعية والثورية وغيرها من مذاهب معترف بها.
فالذي يقول مذهب خامس بين جهله وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء فإن الذي قام به الإمام لا يقال له مذهب خامس وإنما دعوة للتوحيد الخالص ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).
وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم مذهب فلان أو ذهب إليه فلان فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة. فقد جرى الخلاف بين الصحابة والفقهاء السبعة من التابعين في مسائل خالف بعضهم فيها بعضا، والمقصود من قول هذا الجاهل مذهب خامس قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من أهل الجدل والزيغ في
زماننا(1).
ثم إن اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرون الاجتهاد وأن الاجتهاد لم يرفع إلى قيام الساعة إذا توافرت شروطه.
وكون الوهابية لا يتقيدون بمذهب معين فهذا هو رأي فقهاء الإسلام وقال به أصحاب المذاهب الأربعة وأئمته:
(1) قال الإمام أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- :
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/367- 368).(127/7)
(( إذا صح الحديث فهو مذهبي))(1) وقال- رحمه الله تعالى-: (( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)) – وفي رواية عنه- (( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإنا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا))(2)، وقال أيضا-رحمه الله تعالى-: (( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي))(3).
(2) وقال الإمام مالك بن أنس-رحمه الله تعالى -:
((إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة
فاتركوه)).وقال:
((ليس أحد بعد النبي الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ))(4)
(3) وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي-رحمه الله تعالى-:
((ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي))(5). وقال ((إذا صح الحديث فهو مذهبي))(6)، وقال: ((إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافة فاعلموا أن عقلي قد ذهب))(7)، وقال- رحمه الله تعالى-: ((كل ما قلت فكان خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم فحديث النبي أولى فلا تقلدوني))(8).
__________
(1) حاشية ابن عابدين)): (1/ 63).
(2) الانتفاء)) لابن عبد البر: ص45، و(( إعلام الموقعين)) لابن القيم: (2/309)، و(( حاشية ابن عابدين)) :
( 6/ 293).
(3) إرشاد السالك)): (1/ 227)، ((وأصول الأحكام)) لابن حزم: (6/ 145- 189)، والسبكي في ((الفتاوى)) : (1/148).
(4) الجامع))لابن عبد البر: (2/32)،و((أصول الأحكام ))لبن حزم:(6/149).
(5) أعلام الموقعين)): (2/ 363- 364).
(6) المجموع)) للنووي: (1/ 63).
(7) المنتقي)): (1/ 234).
(8) ابن عساكر: 15/(127/8)
(4) وقال الإمام المبجل أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى-:
((لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا ألا وزعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا))(1). وقال: ((من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكه))(2).
فهذه هي أقوال الأئمة الأربعة كلها تنهى عن التقليد بدون دليل فالواجب على من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتبعه ويبين للأمة.
فقد خالف كثير من أئمة المذهب أقوال شيوخهم للدليل فقد خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة شيخهما في مسألة المسح على الجوربين وغيرهما.
فالوهابية ليست مذهبا خامسا وليست هي التي خرجت عن أقوال أئمة المذاهب فقط وذلك عند وجود الدليل. بل هم أكثر اجتهادا ووقوفا عند النصوص الواردة في الكتاب والسنة لقوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) والله من وراء القصد.
((الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم))
قال الصوفي: الوهابية لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان وينهون المؤذنين برفع الصلوات على المنائر ويقولون إن ما يفعله المؤذنين بدعة. فما قولكم في ذلك؟
قلت:
إن أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب أكثر الناس صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم التزاما بأمره ونهيه وطاعته صلى الله عليه وسلم .
فهل كان بلال أو ابن أم مكتوم وكل من أذن للرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم يفعلون ما يفعله بعض المؤذنين في هذا الزمان من رفع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان؟ وهل فعل في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بسنتهم وكذلك في عهد الأئمة الأربعة وأتباع التابعين أو أحد القرون الثلاثة المفضلة؟ اللهم لا.
ومن قال بخلاف هذا فقد افترى على الإسلام ودعاته الأوائل.
__________
(1) إعلام الموقعين)): (2/ 302).
(2) المناقب)) لا بن الجوزي: ص 82.(127/9)
والذي قيل أن ذلك حدث في زمان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وصلاح الدين ليس شرعا أمرنا بالاقتداء به.
وهل يوجد في صفة الأذان في أي كتاب من كتب الفقه والحديث المعتمدة ما أحدثه المؤذنون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان؟ اللهم إنه لا يوجد حتى في كتب الفقهاء المتأخرين. هذا من جهة الشرع. ومن جهة أخرى فهؤلاء القائلون بالصلاة بعد الأذان ملازمة له لا يصلون عند انقطاع التيار الكهربائي أو انعدام مكبرات الصوت أو عند الاحتفالات وفي أذان المغرب والجمعة فإما أن توجد الصلاة في كل أوقات الأذان وإلا فإن هذا اتباع للهوى فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وكل ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة(1) رضي الله عنها. وكل بدعة في الدين ضلالة في النار. فهذا هو الذي نؤمن به أن كل ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين فعله فهو مردود.
ولا توجد بدعة حسنة وأخرى سيئة في الإسلام.
قال الأستاذ سيد سابق في ((فقه السنة)):
((الأذان عبادة ومدار الأمر في العبادات على الاتباع فلا يجوز لنا أن نزيد شيئا أو ننقص شيئا في ديننا. وفي الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) أي باطل.
ونحن نشير هنا إلى أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير حتى خيل للبعض أنها من الدين وليست منه، من ذلك:
(1) قول المؤذن حين الأذان أو الإقامة أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله. قال الحافظ ابن حجر: إنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة.
__________
(1) صحيح البخاري)): (5/ 221)، و(( صحيح مسلم)): (1718).(127/10)
(2) قال العجلوني في ((كشف الخفا)): مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلها عند سماع قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله مع قوله: أشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. رواه الديلمي عن أبي بكر رضي الله عنه قال في ((المقاصد): لا يصح.
(3) التغني في الأذان واللحن فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد مكروه. فإن أدى إلى تغيير معنى أو إبهام محذور فهو محرم.
(4) التسبيح قبل الفجر والنشيد ورفع الصوت. وقبل الجمعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس من الأذان لا لغة ولا شرعا قاله الحافظ في ((الفتح)).
(5) الجهر بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان غير مشروع بل هو محدث مكروه. قال ابن حجر في ((الفتاوى الكبرى)): الأصل سنة والكيفية بدعة. وقال الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية عندما سأل عن ذلك فقال: جاء في ((الخانية)): إن الأذان خمسة عشر كلمة وآخرها عندنا لا إله إلا الله وما يذكر قبله أو بعده كله من المستحدثات المبتدعة ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين ولا عبرة لمن قال: إن شيئا من ذلك بدعة حسنة لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو سيئة ومن أدعى أن ذلك ليس فيه تلحين فهو كاذب(1).
(6) وأزيد على ذلك ما يسمى بالتمجيد ليلة الجمعة وما فيه من توسلات واستغاثات غير مشروعة وما أحدثه المؤذن في زماننا كثير.
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فنحن أعرف الناس بها وإليك بعض فضائلها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم :
(1) قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
__________
(1) فقه السنة)): (1/ 121- 123).(127/11)
(2) عن أبي العلية: صلاة الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند الملائكة. رواه البخاري.
(3) قال ابن كثير: جمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا.
(4) عن عبد الله بن عمروا بن العاص رضي الله عنه رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) رواه مسلم.
(5) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(6) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود وقال: صحيح.
(7) عن أوس الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة على،فقالوا:يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت؟قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه وأحمد.
(8) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام)) رواه أبو داود.
(9) عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال:أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس يرى في وجهك البشر قالوا:يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر قال: (( أتاني آت من ربي عز وجل فقال من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليها مثلها)) رواه الإمام أحمد بن حنبل والنسائي وابن حبان في صحيحه.(127/12)
(10) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يكال له بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد)) رواه أبو داود والنسائي.
(11) عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قلت: (( يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت،قلت:الربع، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت:النصف،قال:ما شئت فإن زدت فهو خير لك،قلت:الثلثين،قال:ما شئت فإن زدت فهو خير لك،قلت: أجعل صلاتي كلها قال:إذا تكفى همك،ويغفر لك ذنبك)) رواه الترمذي.
وهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.لهذا جمهور الفقهاء على وجوب الصلاة كلما ذكر اسمه الشريف واستحبوا كتابة الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه،ذكره الخطيب عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.ويجمع بين الصلاة والسلام عليه،ذكره النووي.وتستحب الصلاة على الأنبياء والملائكة استقلالا.
(12) عن أبي مسعود الأنصاري عن بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنهما قال :أمرنا أن نصلي عليك يا رسول الله كيف نصلي عليك؟قال:فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم ))رواه مسلم.
هذا هو الذي نؤمن به ونتعبد الله به لاكما يقول الصوفية من اقتصار ذلك على المؤذنين فوق المنائر ويعتبرونه جزاء من الأذان ولم يقم الدليل على ما يقولون والله المستعان(1).
(( كتب الموالد ))
__________
(1) فقه السنة)): (1/ 612- 615).(127/13)
قال الصوفي : إن الوهابية حرموا قراءة كتاب(( دلائل الخيرات ))وأحر قوة، وكذلك ((روض الرياحين)) وكتب الموالد الأخرى حرموا قراءتها وفيها مدح للرسول صلى الله عليه وسلم .
قلت:
لم يحرم الشيخ مجمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه قراءة هذه الكتب وإنما نهى عن الاشتغال بها وترك كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحسناً فعل الشيخ رحمه الله تعالى،فقد استبدلتم معشر الصوفية قراءة ((دلائل الخيرات))بقراءة كتاب الله. وفي ((دلائل الخيرات))ما فيه من افتراءات وأكاذيب على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وقد حشي بالأحاديث الموضوعة والمكذبة.
وكذلك ما يسمى ((روض الرياحين)) وحري أن يسمى روض الشياطين وأزيد عليهما مجربات الديربي الذي قدموه على كتاب الطب النبوي لابن القيم و((الروض الفائق))، و((مجالس العرائس)) و((مولد ابن حجر)) و((مواج ابن عباس )) رضي الله عنهما- استغنى معشر الصوفية بهذه الكتب الضارة التي جمعت بين الغث والموضوع والبدع والتشجيع عليها بوضع الأحاديث لها. وتركوا كتب الحديث المعتمدة كـ ((الصحيحين)) و((السنن)) و((الموطأ)) و((المسند)) وغيرها من دواوين الإسلام الحديثية الزاخرة بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وإليك بعض الأمثلة من كتبهم السابقة:
يذكر صاحب ((مجالس العرائس)) أن الله خلق الأرض على قرن ثور، وأن مد البحر وجزره يحدث بسبب تنفس الثور وأن الله خلق العرش على الماء فاضطرب فخلق الحية فالتفت حول العرش فسكن (1) .
فهل بعدا هذا الكذب من كذب يا معشر الصوفية أفلا تعقلون؟!
__________
(1) مجالس العرائس)):ص 3-4.(127/14)
أما صاحب ((الروض الفائق)) المسمى بالحريفيش فيذكر من الغرائب والعجائب والخرافات ما يفوق((صاحب المجالس )).يقول الحريفيش:عن أبي سعيد المغربي إمام مسجد الخشابين في البصرة إنه كان يذهب إلى الحج وهو يصلي في مسجده الأوقات الخمسة لا ينقطع منها في أي وقت أبدا وذكر حكاية طويلة في هذا المجال (1) فهل يعقل هذا الهراء صاحب عقل ودين فكيف يحج وهو يصلي في مسجده في البصرة الأوقات الخمسة وهل حدث مثل هذه الخارقة الكاذبة للرسول صلى الله عليه وسلم .
ويذكر أيضا: أن قضيب البان المدفون في الموصل من العراق قد خدم شيخا أربعين سنة فأخبره شيخه قبل موته بثلاثة أيام انه سيموت على غير دين الإسلام فكان الشيخ المزعوم فقال له قضيب البان خادمه: وكيف عرفت ذلك؟قال:اطلعت على اللوح المحفوظ فوجدت فيه ذلك وذكر حكاية طويلة.فهذه بعض حكايات الحريفيش.
أما ((روض الشياطين)) فيقول صاحبه في جل حكاياته:روي بأن جارية كانت..وحكي أن امرأة فعلت ..وأن قلانا وسماه وليا التقى بفتاة..وذكر بأن ذا النون المصري التقى بجارية وقال:يا كريم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا كريم حتى ذكر حكاية طويلة قال في نهايتها بأن الأعرابي قال:إن حاسبني ربي لأحاسبنه فهبط جبريل عليه السلام وقال:يا رسول الله بلغ الأعرابي بأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يا معشر الصوفية من شيء فدلائل الخيرات قرآن الصوفية رغم ما فيه من منكرات.وهذه الكتب هي كتب حديث الصوفية.
وكتب الموالد لا تقل الجرأة فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سابقتها.
يذكر في أحد هذه الكتب عن أبي بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال:من أنفق درهما في المولد فكأنما حج سبعين حجة فهل قال هذا الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل كان المولد معروفا زمن النبوة والخلافة الراشدة
والقرون المفضلة ؟ لا والله .بل إنه من محدثات الفاطميين .
__________
(1) 2 ) ((الروض الفائق)):ص 61.(127/15)
فالحذر أخي المسلم من قراءة هذه الكتب المسمومة الكاذبة أو شراؤها .وعليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخذها من مصادرها المعتمدة وهي دواوين الحديث المشهورة كـ ((الصحيحين)) و((السنن)) و((المسانيد)) و((المصنفات)) و((الموطآت)) وغيرها من كتب الحديث المعتبرة .فإنها تغنيك عن كل الكتب المسمومة .
ومن الكتب النافعة في هذا المجال ((جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام))لابن القيم و((الأذكار)) للنووي و((رياض الصالحين)) له أيضا ؛ و((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض ؛ و((الكلم الطيب ))لابن تيمية رحمهم الله
جميعاً .
((المولد النبي))
قال الصوفي: لماذا الوهابية يقولون إن الاحتفال بالمولود النبوي بدعة؟ مع العلم بأن الاحتفال بالمولود مظهر من مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم .
قلت:
الوهابية تلتزم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهبه .
لذلك نسأل الصوفية هل احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بمولده أو أمر به أو حث عليه أو أوصى من بعده بالاحتفال لبليلة المولد؟وهل احتفل الخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم رضوان الله عليهم أجمعين حيث قال صلى الله عليه وسلم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)) رواه أهل السنن .
وهل احتفل أهل القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم :((خير الناس قرني ثم الذين يلو نهم ثم الذين يلو نهم )) متفق عليه.
اللهم إنه لم يحتفل بليلة المولد كل هؤلاء ، وهم أهل الإيمان الصادق والعقيدة الصافية.
وإن هذه البدعة السيئة بدعة الاحتفال بالموالد ابتدعها الفاطميون الشيعة ، كمولد الإمام علي بن أبي طالب ومولد الزهراء والإمام القائم ومنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإن هذا الاحتفال ليلة ثاني عشر من ربيع أول بدعة لا أصل لها من كتاب أو سنة أو عمل أحد من سلفنا الصالح. وإنما حدث متأخرا.(127/16)
قال الإمام الفاكهاني: ((تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع أول ويسمونه المولد هل له أصل في الدين؟ وقصدوا الجواب على ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا فقلت: وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا من كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها الباطلون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وكذلك يحدثه بعض الناس- إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم- وتعظيما من اتخاذ مولده عيدا مع اختلاف الناس في يوم مولده فإن هذا لم يفعله السلف الصالح ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رحمهم الله تعالى: ((وكذلك ما يحدثه بعض الناس-إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيس عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم-وتعظيما من اتخاذ مولده عيداً مع اختلاف الناس في يوم مولده فإن هذا لم يفعله السلف الصالح ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رحمهم الله أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان))(1) .
فأتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقولوا هذا القول عن الاحتفال بالمولد دون دليل واتباع.بل سبقهم من أفضل منهم علما وتقوى وصلاحا من السلف الصالح رحمهم الله..
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية)): العدد 23/ ص362-363.(127/17)
وإن ما يحدث في موالد هذا الزمان تقشعر منه الأبدان من اختلاط النساء بالرجال ومصاحبة المردان وإلقاء السماع والأغاني والأناشيد والأشعار المحرمة التي تحتوي على كثير من الشرك والتوسل والاستغاثة بغير الله تعالى ولمن أراد المزيد فعليه بالكتب التالية:
(1) رسالة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في حكم الاحتفال بالمولود.
(2) ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل)) للشيخ إسماعيل الأنصاري.
وغير ذلك من كتب أئمة السلف وأتباع دعوة التوحيد رحمهم الله تعالى.
((الوهابية والأولياء))
قال الصوفي: الوهابية يكفرون غيرهم ومن لا يسير على طريقتهم. ويطعنون بالأولياء ولا يؤمنون بوجود الأبدال والأغواث والأقطاب والأوتاد. ويكفرون ابن عربي والحلاج وابن الفارض وغيرهم فما قولك؟
قلت:
قال شيخ الإسلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: لا أعلم مستندا لهذا القول وهو التكفير والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال. والفرح بمثل هذه القضية قد يكون له أسباب متعددة لا سيما وقد كثر الهرج وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقال التمسك بالكتاب والسنة، وقل من يعرفهما ويدري حدود الله في الأحكام الشرعية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق. وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما)) رواه الخطيب وأحمد والبخاري عنه بلفظ : ((إ ذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحد هما )).(127/18)
وروى أبو داود((أيما مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر)).
فإطلاق القول بالتكفير دليل الجهل وعدم العلم بمدارك الأحكام .
وتأول أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي كما في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عنه عليه الصلاة والسلام: (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) رواه الجماعة إلا أبا داود. ونحو هذا الحديث تأولوه على أنه كفر عملي ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة كما جزم به ابن القيم. وقد ذكر شيخ الإسلام: إن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- لم يكفر الخوارج المقاتلين له والمكفرين له ولعثمان بن عفان- رضي الله عنه-.(1)
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني في كتاب(( صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)) : إن الإنسان إذا دخل في الإسلام وحكم بإسلامه لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر كالسرقة والزنا وشرب المسكر وأخذ الأموال ظلما وعدوانا وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر الشرك بالله وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين بعد معرفته بذلك وإقامة الحجة عليه. (2)
وقال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: فأهل السنة مذهبهم أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك. وقال أيضا: إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والبدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكن يقاتل معنا سبحانك هذا بهتان عظيم.
فالذي نعتقده وندين الله به أن من دعا نبيا أو وليا وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات إن هذا من أعظم الشرك الذي كفر بالله به المشركين حيث اتخذوهم أولياء وشفعاء ويستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم الضر بزعمهم فمن جعلهم وسائط بينه وبين الله بهذا الوجه فهو كافر حلال الدم. (3)
__________
(1) المرجع السابق: (3/22).
(2) صيانة الإنسان)) : ص414.
(3) صيانة الإنسان)) : ص 415- 416.(127/19)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ومذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الأسلم والأعلم والأحكم خلافا لمن: طريقة الخلف أعلم.
وما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق بأننا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ وأنا نحط من رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم ونقول هو رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع منه وأننا لننهى عن الصلاة عليه .
ونحرم زيارة القبور إلى آخر الافتراءات فإنا نقول : سبحانك هذا بهتان عظيم (1) .
والذين كفروا من خالف التوحيد الخالص وأشرك بالله، كثيرون جدا منهم :شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن عقيل وصاحب الفتاوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي والزبيدي والصنعاني والشوكاني وصاحب الإقناع وابن حجر المكي والبكري الشافعي وابن كثير وابن عبد الهادي ومحمد بن أحمد الحفظي وغيرهم وليس الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وحده (2) .
أما أولياء الله المتقون الذين يتقربون إليه بالطاعات ويجتنبون المعاصي الآمرون بالمعروف الناهون عن المكر المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الذين يقيمون الفرائض ويؤدون النوافل، فإنا نحبهم في الله أمثال الإمام الحسن البصري وسفيان والثوري وابن عيينة والجنيد البغدادي وأحمد بن حنبل والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله جميعاً.
أما قول الصوفي بأنا لا نؤمن بالأقطاب والأغواث والأوتاد والأبدال فهذا مما لا نشك فيه لأننا لم نجد دليلاً من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل عليهم وكل ما ورد فيهم من الآثار فهي أحاديث باطلة ولا صحة لها. ولفظ أبدال فقط ورد في حديث ضعيف بل موضوع أو منقطع.
__________
(1) صيانة الإنسان )):ص421-422 من رسالة اختصرها ولده الشيخ عبد الله .
(2) المرجع السابق:ص431.(127/20)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما روي بأن غلاماً للمغيرة بن شعبة واحد من السبعة فهو كذب باتفاق أهل العم، وإن كان رواه أبو نعيم في ((الحلية)). وكذا حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والأقطاب والنقباء والنجباء والأوتاد مثل أربعة أو سبعة أو اثنى عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا لفظ الأبدال وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو حديث نقطع ليس بثابت. وكذلك ما يرويه بعضهم عنه صلى الله عليه وسلم أنشد منشد:
قد لسعت حيّة الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت بردته عن منكبه فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم مزَّق ثوبه وأن جبريل أخذ قطعة فعلقها على العرش. فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم عنه من أظهر الأحاديث كذباً عليه صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما يرويه بعضهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي. كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث(1).
وسأل شيخ الإسلام عن حديث الأبدال وغوث الأغواث وقطب الأقطاب وقطب العالم والقطب الكبير وخاتم الأولياء. فأجاب رحمه الله:
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/167- 168).(127/21)
((أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النسّاك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى. ولا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال فقد روى فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أن فيهم الأبدال الأربعين كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً. ولا توجد هذه الألفاظ في كلام السلف))(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً:
((وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد. ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت دار الهجرة والسنة والنصرة ومستقر النبوة وموضع الخلافة وبها انعقدت بيعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه فلماذا لا يكونوا في المدينة دار الخلافة؟ ويكونوا في الشام ولم تفتح بعد!! وعندما فتحت كانت ضد الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكان في جيش علي من هو أفضل من معاوية فكيف يكون الأبدال في جيش معاوية ولم يكونوا في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/433- 434).
(2) مجموع الفتاوى)): (11/436- 437).(127/22)
أما لفظ الغوث والغياص فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين فلا يجوز لحد الاستغاثة بغيره لا بملك مقرب ولا نبي مرسل. ومن زعم أن أهل الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث فهو كاذب ضال مشرك فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } . فكيف يكون المؤمنين يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب؟ وهو القائل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وهؤلاء الذين يدّعون هذه المراتب فيهم مضاهات للرافضة من بعض الوجوه(1).
أما الأوتاد فقد يوجد في كلام البعض أنه يقول فلان من الأوتاد يعني أن الله يثبت به الإيمان والدين في قلوب من يهديهم الله به. كما يثبت الأرض بأوتادها وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء وليس محصورا في أربعة ولا أقل ولا أكثر بل جعل هؤلاء أربعة مضاها بقول المنجمين في أوتاد الأرض (2).
وكذلك الأقطاب والأبدال قطب الأقطاب ولا بدل البدلاء ولم يرو بذلك أثر صحيح أو ضعيف وكل ما ورد موضوع ومنقطع.
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/437- 439).
(2) مجموع الفتاوى)): (11/ 440)).(127/23)
وكذا لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له وأول من ذكره محمد بن علي بن حكيم الترمذي وانتحله طائفة منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن عربي وغيره من الشيوخ الضالين وكل يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه إلى غير ذلك من الكفر والبهتان وكل ذلك طمعا في رئاسة خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وخير هذه الأمة بهد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم. بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما (1) .
((حال بعض كبار المتصوفة وحقيقة تآليفهم))
قال في(( مجموعة الرسائل النجدية)) حول(( إحياء علوم الدين)) للغزالي:
قد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين وكسا الفلسفة لحاء الشريعة حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق، من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام. وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار. وقد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، بل أفتى بحرقها علماء المغرب الذم والتشنيع وزيف ما فيه من التحوير والترقيع وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولكن أبو حامد أدخل أشياء من الفلسفة وهي عند ابن تيمية عقيل زندقة.
__________
(1) مجموع الفتاوى)) : (11/444).(127/24)
قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد الخروج فلم يحسن.
قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر عن أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه.
وقال أبو بكر ابن العربي- أيضاً-: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع.
وقال القاضي عياض: أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة غلا في التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داهية في ذلك، وأحرقت كتبه في المغرب (1) .
أما ابن العربي النكر(561- 368هـ) فله أقوال شاذة وأفعال منكرة ونصوصة تشهد على ذلك قال بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ونجاة فرعون ودخوله الجنة وأن الكافرين لا يخلدون في النار إلى غير ذلك من أقواله المنكرة.
قال ابن حجر في (( لسان الميزان)) : حط عليه ونسب إليه سوء الاعتقاد.
وقال ابن حيان قال في( الشذرات) بالغ ابن المقري في (( الروض)) فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن العربي.
ونقل علي القاري عن ابن دقيق العيد قوله: لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعدت لها جوابا بين يدي الله تعالى وقد سألت شيخنا سلطان العلماء العز بن عبد السلام فقال: شيخ سوء كذاب يقول بقدم العال ولا يحرم فرجا.
قال أبو زرعة: لاشك في اشتمال النصوص المشهورة على الكفر الصريح الذي لاشك فيه.
قال ابن حيان: ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج وابن العربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني وتلاميذهم وكل من رضي بمذهبهم، قال ابن المقري: أن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر ظاهر. وقال: إن من اعتقد أحقية عقيدة ابن عربي كافر بالإجماع من غير نزاع. ومن شركيات ابن عربي قوله:
العبد رب والرب عبد ... فليت شعري من المكلف
وقال الحلاج:
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/ 131- 133) بتصرف.(127/25)
جحودي لك تقديس ... وعقلي فيك منهوس
فما آدم إلا كا
... وما في الكون إبليس(1)
أما أبو حفص عمر بن الفارض (576- 632هـ) كان له جوار يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد وكان يقول بالحلول والاتحاد ووحدة على مذهب ابن عربي ومن منكراته قوله:
لها صلواتي في المقام أفيها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواى ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة (2)
وابن سبعين عبد الحق الإشبيلي ت669 هـ بمكة المكرمة.قال عنه الذهبي:كان من زهاد الفلاسفة ومن القائلين بوحدة الوجود،له تصانيف وأتباع يتقدمهم يوم القيامة.
قال المناوي::كان يقول بالوحدة المطلقة شنع عليه غير واحد من العلماء والفقهاء لا رحمه الله (3)
أما الحلاج المقتول أبو مغيث الحسين بن منصور الفارسي نشأ في العراق،صحب الجنيد البغدادي وقال بمذهب ابن عربي في الوحدة والاتحاد والحلولية قتل سنة 309هـ بعد أن أأفتى بقتله فقهاء الإسلام وعارفوه من أهل الشريعة ومن أقواله الشنيعة:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا (4)
قال الذهبي:الحلاج سافر إلى الهند وتعلم السحر وحصل له به حال شيطاني وهرب منه الحال الإيماني ثم بدت كفريات منه أباحت دمه وكسرت صنمه.
__________
(1) جلاء العينين)) : ص69- 70، وانظر: ((ديوان الحلاج)) : ص59، ط 2، 1404 بغداد.
(2) جلاء الغينين)):ص 78، وانظر: ((ديوان ابن الفارض)): ص 35.
(3) جلاء العينين)) : ص 81-82.
(4) ديوان الحلاج :ص 77.(127/26)
وقال الصولي :جالست الحلاج فرأيت جاهلا يتغافل وغبيا يتباله وفاجرا يتزهد كان ظاهره النسك فإذا رأى أهل بلد يرون الاعتزال اعتزل أو التشيع تشيع أو التسنن تسنن وكان يعرف بالشعبذة والكيمياء والتطبب ،وادعى الربوبيه وصار يقول لأصحابه: أنت آدم أنت نوح ولهذا محمد ويدعي التناسخ وأن أرواح الأنبياء إليهم.
قال ابن الشحنة: وجدوه يقول من نظف بيتا وصلى فيه كذا وطاف به كذا وتصدق بكذا أغناه الله عن الحج. وقد أفتى العلماء بقتله فقتل لعنه الله.
وقال السامي في((تاريخ الصوفية)): الحلاج كافر خبيث.
وهتك الخطيب البغدادي ستره وبين حاله فقال: كان ساحرا سيء الاعتقاد وكان يعارض القرآن، وأفتى العلماء بقتله وكفره.
وكان يخبر الناس بما أكلوا وشربوا وصنعوا في بيوتهم ويتكلم ما في ضمائرهم وفتن كثيرا من الناس واعتقدوا فيه الحلول.وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من قال بولايته من عدة وجوه: الأول:أن أئمة الدين وفقهاء المسلمين اتفقوا على حل دم الحلاج وأمثاله.
الثاني: أن الإطلاع على أولياء الله تعالى لا يكون ممن يعرف طريق الولاية وهو الإيمان والتقوى ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يجتنب مقالة أهل الإلحاد كأهل الحلول والاتحاد فمن وافق لحلاج على مثل هذه المقالة لم يكن عارفا بالإيمان والتقوى فلا يكون عارفا بطر يق أولياء الله تعالى فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله سبحانه وغير هم .
الثالث :أن هذا القائل أخبر أنه يوافقه على مقالته فيكون من جنسه بشهادته له بالولاية كشهادة اليودي والنصراني لنفسه أنه على الحق وشهادة المرء لنفسه فيما لا يعلم فيه كذبه ولا صدقه مردودة.
فكيف تكون لنفسه ولطائفة الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم أهل الضلال؟
الرابع: أن يقال أما كون الحلاج عند الموت تاب فيما بينه وبين الله تعالى أولم يتب فهذا غيب يعلمه الله سبحانه منه.
(( زيارة القبور والتوسل))(127/27)
قال الصوفي: إن الوهابية يحرمون زيارة القبور ويقولون أن التوسل بأصحابها شرك مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور فما هو ردكم حول هذه المسألة؟
قلت:
نحن لا نحرم زيارة القبور مطلقاً ولا نجيزها مطلقاً، نحرم من جهة إذا كانت الزيارة شركية وبديعة ويقصد بها الزائر التوسل بأهل القبور ودعائهم.
أما إذا كانت الزيارة للاعتبار والاتعاظ بأهل القبور فنحن نقول بسنيتها ابتاعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((كنت نهيتكم عن بزيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة))، وفي أخرى، وفي أخرى: ((الموت)) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي: لما صعبت التكاليف على الجهلة الطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها لما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج وتقبيلها وخطاب الموتى بقضاء الحاجات وإفاضة الطيب عليها وشد الرحال إليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أم سؤال الميت والغائب نبياً كان أو غيره فهو من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين وهذا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فإن أحداً منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقضِ حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها(1).
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/394- 395).(127/28)
قلت: كثير من الصوفية لا يدعون إلا الأموات يطلبون منهم أشد مما يطلبون من الله كطلب الرزق أو الأولاد أو الزواج أو النجاح والشفاء من الأمراض والأوجاع وهذا أمر واقع مشاهد فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولقد رأيت أحد هؤلاء المبتدعة وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالي المهمة يقول: دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق وذهبت إلى شيخي مصطفة النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الأولاد حتى رزقت بطفلين توأمين، فهل بعد هذا الشرك من شيء؟
ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون ويندفع عنهم الأعداء والبلاء، وأن السيدة نفسية خفيرة مصر والقاهرة والدسوقي والبدوي وهكذا، والشيخ عبد القادر قطب بغداد وخفيرها وفلان خفير الشام والحجاز ووضعوا لكل بلد خفراء، ولم يكن هذا معروفاً على عهد الصحابة والتابعين ولكن حدث بعدهم.
روى محمد بن الحسين الصوفي (325- 412هـ) أن أحمد بن العباس قال: خرجت من بغداد هارباً منها فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت فقلت: من بغداد وهربت منها لما رأيت فيها الفساد خقت أن يخسف بأهلها، فقال: ارجع ولا تخف فإن فيها قبوراً أربعة من أولياء الله هم حصن لها من جميع البلايات. قلت: من هم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وبشر الحافي ومنصور بن عمار الواعظ فرجعت ولم أخرج. رواه أبو عبد الرحمن السلمي والسلمي تكلموا فيه وكان يضع الحديث(1).
وهذا الجنس ليس مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إباحة ولا ندباً ولا استحبه أحد من أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عنه كله ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ القبور مساجد فقال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً.
__________
(1) الرد على الأخنائي)) لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص53- 54 بتصرف.(127/29)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)) رواه أبو حاتم وغيره(1).
ولا ريب أن أهل البدع يحجون إلى قبور الأنبياء والصالحين ويزورونها زيارة غير شرعية لا يقصدون الدعاء لهم كالصلاة على جنائزهم، بل الزيارة عندهم والسفر لذلك من باب التعظيم والدعاء بهم وعندهم وطلب الحوائج منهم وغير ذلك مما يُقصد بعبادة الله تعالى(2).
يقول صلى الله عليه وسلم: ((من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر عمل بها إلى يوم القيامة)) رواه مسلم.
فنحن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونقتدي به وبسنته فلنا أجرنا واجر من تبعنا إلى يوم القيامة -إن شاء الله- وأنتم معشر الصوفية عليكم الوزر.
أما البدع فلم تكن من شرع الله تعالى ولم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) رواه البخاري.
فإن قيل الزائر في الحياة إنما أحبه لأن الله أحبه والمؤمنون يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين فيزورونهم ويزورون قبورهم.
نقول لهم: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات الدينية، وأنه أحب إلينا من أموالنا وأهلينا وأولادنا وأنفسنا والناس أجمعين. لأنه أولى بنا من أنفسنا يقول تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } . فحبه وطاعته وتعزيزه وتوقيره لا يختص بمكان دون مكان وزيارة قبره الشريف مشروعة ومسنونة.
__________
(1) المرجع السابق: ص61 -62.
(2) المرجع السابق: ص57.(127/30)
والمانعون للزيارة والتوسل إنما كفَّروا من كفَّروا لأجل عبادتهم لغير الله كدعائهم للأموات بحيث يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وكالذبح والنذر لهم والتوكل عليهم بعد تعريف الصواب والتنبيه عليه ولم يقولوا أن الناس هم مشركون في مجرد توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصالحين وفي مجرد زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم. هذا افتراء بحت وبهت محض إنما أشركوا بالتوسل والزيارة الذين يشتملان على عبادة غير الله من الدعاء والذبح والنذر، أما التوسل بتصديقه صلى الله عليه وسلم على الرسالة والإيمان بما جاء به وطاعته في أمره ونهيه ودعائه في حياته والتوسل بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزيارة الشرعية لا يمنعها أحد.
نعم التوسل بحق وشد الرحال لمجرد الزيارة منهم من يمنعه ومنهم من يجيزه، والصحيح أنها من البدع غير المكفرة ما لم يأتوا بمكفر(1).
((السواد الأعظم))
قال الصوفي: نحن السواد الأعظم وأنتم الوهابية قلة والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى في الحديث أن نكون مع السواد الأعظم فما هو قولكم في هذه المسألة؟
قلت:
إن كنتم تقصدون أن السواد الأعظم هم على الحق دائما فهذا من المحال لأن أهل الحق هم على الدوام الصفوة المختارة والقلة المباركة ابتداء من عهد نوح عليه السلام الذي لم يؤمن به إلا قليل وهم بلا شك أهل الحق والسواد الأعظم لم يؤمنوا وإنما كفروا وهم على الباطل بلا شك ومن قال غير ذلك فقد كفر.
وكذلك إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الرحمن كان المؤمنون به هم القلة. وموسى كليم الله، وعيسى روح الله، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعا قليلي الأتباع وأعداؤهم الكثرة فالسواد الأعظم دائما هم أهل الباطل وأهل الضلال.
__________
(1) صيانة الإنسان)): ص433.(127/31)
ولأن الأكثر قد يخطئ والأقل قد يصيب وأن الخير والرشد في الناس قليل والشر كثير والضلالة كثير، قال تعالى: { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } وقال سبحانه: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ،وقال تعالى: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، وقال تعالى: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ، وقال تعالى: { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } .
ففي كل هذه الآيات إشارة واضحة إلى قلة أهل الخير وكثرة الشر وأهله قال تعالى: { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } ، وقال تعالى: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } ، وقال تعالى: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، وقد تكرر مثل هذه الآيات في قصص أنبياء الله نوح وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
فكيف يصح القول بإتباع السواد الأعظم أو جمهور الناس أو أكثريتهم اللهم إنه لا يقول هذا الكلام إلا من فقد عقله ودينه أولم يقرأ القرآن الكريم ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة تدبر وتمعن.
أما حديث ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم)) الذي رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه ففي سنده معان بن رفاعة وهو لين الحديث كثير الإرسال. وفيه أبو خلف الأعمى وهو متروك كذبه يحيى بن معين. قاله العلامة بشير السهسواني في(( صيانة الإنسان)) (1) .
__________
(1) صيانة الإنسان)) :ص 313.
وقال الألباني: ضعيف جدا دون الجملة الأولى فهي صحيحة أ.هـ انظر: (( ضعيف سنن ابن ماجة)) : ص 318ط المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى. ولا شك أن الإجماع حجة وهذا غير داخل في استدلال الصوفي فاستدلاله بالسواد الأعظم وقد تبين وهن دليله فبطلت حجته.(127/32)
فحديث السواد الأعظم ضعيف بل منكر على أقل الاحتمالات فلا يحتج به. والسواد الأعظم هم أتباع إمام المسلمين وهم جماعة الصحابة الكرام وهم الذين يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحق والخير ولا عبرة بمن خالفهم.
قال الإمام أبو شامة في((الحوادث والبدع)) : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق وإتباعه وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم ولا نظر لكثرة أهل الباطل بعدهم.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي دلت على أن المتمسكين بحبل الله المتين وصراطه المستقيم هم الجماعة وهم الذين أمرنا بالتمسك بهم وعدم مفارقتهم.
فقول الصوفي: بأن أهل الشر والباطل والمبتدعة من المتصوفة هم السواد الأعظم وهم الجماعة وعلى غيرهم التمسك بهم.
والوهابية يتوسلون بالله ويخافون الله ويستغيثون بالله ويتوكلون عليه ويرجونه ويخشونه وينذرون ويذبحون له. يتوسلون ويستغيثون بالأموات وينذرون لهم ويحلفون بهم ويصفون الله بما لا يوصف.
فأهل الحق هم السواد الأعظم والجماعة المباركة وإن قلوا، وغيرهم على الباطل وإن كثروا والله ولي المؤمنين.
(( الحلف بغير الله))
قال الصوفي: الوهابية يقولون أن من حلف بغير الله تعالى كافر أو مشرك وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف بأبيه فقال الأعرابي أفلح وأبيه إن صدق فما قولكم بعد ذلك؟
قلت:
ليست الوهابية هي التي حرمت الحلف بغير الله تعالى، وإنما اتبعت في ذلك سنة رسول. حيث ورد النهي عن الحلف بغير الله في الأحاديث الصحيحة الصريحة نذكر منها ما يلي:(127/33)
(1) أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الله عنه كان غفي ركب يسير وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم قال: (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو لينذر))، وفي رواية أخرى: ((أو ليصمت))، وفي ثالثة: (( من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله)).
(2) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول قال: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) وفي رواية أخرى: (( فقد كفر)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وأبو داود وابن حبان وأحمد.
قال الحاكم: كل يمين يحلف بها دون الله شرك.
وقال كعب: إنكم تشركون في قول الرجل كلا وأبيك أو والكعبة أو حياتك وأشباه هذا، احلف بالله صادقا أو كذبا ولا تحلف بغيره. رواه ابن أبي الدنيا في(( الصمت)) وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو أحد أسمائه أو صفاته العلى ومنعوا الحلف بغيره تعالى.
قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى بالإجماع ولا إعتبار لقول بعض المتأخرين بأنه مكروه لأنه مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه عن ذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لئن أحلف بالله صادقا أو كذبا خير من أن أحلف بغيره صادقا فهذا يدل على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات.
فإن قال الصوفي فإن الله أقسم ببعض المخلوقات! فنقول: إن الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه للدلالة على قدرته ووحدانيته وألوهيته وملكه وغير ذلك من صفات كماله.
قال الشعبي رحمه الله تعالى: للخالق أن يقسم من خلقه ولا يقسم المخلوق إلا بالخالق ولأن أقسم بالله فأحنث خير إلى من أقسم بغيره فأبر.
وقال مطرف بن عبد الله رحمه الله: ‘نما أقسم الله بهذه المخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ودلالتها عند الخالق.(127/34)
أما قول الصوفي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف بأبيه، وأن الله قال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) فيدل على جواز الحلف بغير الله تعالى.
قلت هذه اللفظة(( وأبيه)) فيها أقوال:
(1) قال ابن عبد البر رحمه الله: هذه اللفظة منكرة وغير محفوظة وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر(( أفلح والله إن صدق)) وهي أولى من رواية(( أفلح وأبيه))؛ لأن الآثار تدل على ردها ولم تقع برواية مالك أصلا.
(2) وقال غيره: إنها مصحفة عن قوله أفلح والله فحذف لفظ الجلالة وصحف بلفظ وأبيه.
(3) إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم بدون قصد القسم به.ذكره البيهقي وارتضاه سفيان الثوري رحمهما الله تعالى.
(4) إن أراد به التعظيم فهو مني عنه وإن أراد به التأكيد فلا بأس به فهو جائز وهذا بعيد عن الصواب؛ لأن الحلف بغير الله ورد النهي عنه مطلقا بدون تفريق قصد التعظيم أو غيره يؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حلف مرة باللت والعزى ساهيا أو ناسيا فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإن جرى على لسانه دون قصد الحلف أو ناسيا أو مخطئا فهو الذي عفي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).
(5) قال المارودي والسهيلي وعليه أكثر الشراح وأيده ابن العربي المالكي أن الحلف بالآباء كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وروي أنه كان ليعه الصلاة والسلام كان يحلف بأبيه حتى نهي عنه.
وهذا القول الأخير هو الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن الحلف بالآباء شائعاً في الجاهلية وصدر الإسلام كالعادات الأخرى مثل شرب الخمر فنهى الإسلام عن هذه العادات بالتدرج ومنها الحلف بغير الله للأدلة المتقدمة كحديث عمر وابن عمر وسعد بن أبي وقاص لما حلف باللات والعزى فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: ((قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم أنفث عن يسارك ثلاثاً ثم تعوذ ولا تعد)) رواه البخاري وابن ماجه.(127/35)
وقال المجوزون أيضاً: إن الملائكة حلفت بحياة لوط عليه السلام فقالوا: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) فهو دليل على جواز حلف المخلوق بالمخلوق. فهذا الكلام غير صحيح. قال ابن العربي وابن أبي الجوزاء والشوكاني وأجمع عليه المفسرون: بأن الله سبحانه حلف بحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وليست الملائكة. واستدلوا أيضاً بأن الله حلف بحياة محمد أو لوط عليهما الصلاة والسلام وقلنا -كما سبق- إن الله عز وجل له أن يحلف بما شاء من مخلوقاته.
أما حكم من حلف بغير الله فنقول:
((الحلف بغير الله شرك أصغر إلا إذا اقترن مع الحلف تعظيم للمحلوف به كتعظيم الله وإجلاله كإجلال الله والرغبة والرهبة إليه ومنه فهو شرك أكبر مخرج من الملة)).
فهذا قولنا وهذه أدلتنا حول الحلف بغير الله تعالى ومن أصر على رأيه وجوز الحلف بغير الله فقد بطل سعيه وحبط عمله ولا يضرنا من خالفنا حتى يأتي أمر الله.
أما ما يفعله عبَّاد القبور من الصوفية -اليوم- إذا طلبت منهم اليمين بالله أعطوك ما تريد صدقاً أو كذباً وإذا طلبت منهم اليمين بالشيخ أو الولي أو النبي وصاحب القبر لم يقدم عليه كاذباً أبداً فماذا يقول بعد ذلك الصوفية أعاذنا الله من الجدال في الباطل وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
((مخالفة سليمان بن عبد الوهاب))
قال الصوفي: إن محمد بن عبد الوهاب خالفه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ورد عليه في كتاب سماه ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) وهذا دليل على أن ابن عبد الوهاب قد خرج عن الحق؟!
قلت:(127/36)
رغم أن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قد رجع عن ضلالته وعن محاربته للدعوة السلفية وألَّف في ذلك بعض الرسائل رغم هذا فإنه لا يضر دعوة التوحيد ودعاتها وبخاصة الإمام محمد بن عبد الوهاب ولنا في أهل الحق أسوة حسنة فنوح عليه السلام أو رسل الله حاربه ابنه وزوجته، وإبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام حاربه أبوه وخالفه، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حاربه عمه أبو لهب وأبناء عمومته من قريش. فهل ضرَّ هؤلاء المعاندون دعوات التوحيد على مرِّ التاريخ؟! اللهم لا وإنما انتصر الحق والعاقبة للتقوى.
رسالة للشيخ
عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب
اختصرها من رسالة لأبيه الشيخ الإمام رحمهما الله تعالى
وللحق أبين رسالة مهمة للشيخ العلامة عبد الله ابن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى يبين فيها سيرة أبيه وما عليه أتباعه من الحق ومحبة دعوة التوحيد.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
((إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد ولا ننكر على من قلد الأئمة الأربعة دوت غيرهم لعدم ضبط مذاهب غيرهم كالرافضة والزيدية والإمامية فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد يدعيها لدينا إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نهي جلي من كتاب الله أو سنّة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والأخوة فإنا نتقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه.(127/37)
وإذا اطلعنا على نهي جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة والاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم للنص وإن خالف المذهب وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من علماء المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن اجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم. وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً وجميع علم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما توقع الناس في الكفر كروض الرياحين أو يحصل بسببه خلل في العقائد كعلوم المنطق فإنه قد حرمه كثير من العلماء على أنا لا نفحص على مثل ذلك وكالدلائل إلا إن تظاهر به صاحبه معانداً أتلف عليه, وما اتفق لبعض البدوان في إتلاف كتب أهل الطائف إنما صدر لجهله وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك.(127/38)
ولا نرى قتل النساء والأطفال وأما ما يكذب علينا ستراً للحق وتلبيساً على الخلق بأنا نقرأ القرآن لرأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شروح ولا نعول على شيخ وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه وليس له شفاعة وأن زيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه (فاعلم أنه لا إله إلا الله) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد أقوال العلماء ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل وأنا مجسمة وأنا نكفر الناس على الإطلاق ومن بعد الست المائة إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم وأنا نجبر على تزويج غير الكفؤ لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً ما كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك إلا ((سبحانك هذا بهتان عظيم)) فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه جماهير أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كالقتل للمسلم بغير حق والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر ذلك منه لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحداً لله في جميع أنواع العبادة.(127/39)
والذي نعتقده في مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها أعلى مراتب المخلوقات على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل إذ هو أفضل منهم بلا ريب وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته في الاشتغال بالصلاة عليه الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه كما جاء في الحديث))(1) أهـ.
فعقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وابن المبارك والبخاري وابن تيمية وابن القيم والذهبي وسواهم كثير
ويؤمن بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات ويبرأ من كل ما يتعارض معها.
والإيمان بالله وملائكته والرسل والكتب واليوم الآخر والبعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار.
ويؤمن بالقدر خيره وشره ويبرأ مما قالته القدرية والنفاة والمجبرة والمرجئة ويوالي الصحابة الكرام وأهل البيت ويسكت عما شجر بيتهم ويعتقد بأفضلية أبي بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنه أجمعين.
ويوالي كافة علماء الإسلام من أهل الفقه والحديث والتفسير والزهد والعبادة لاسيما الأئمة الأربعة إلا من طعن في عقيدته ودينه أمثال الرافضة والإمامية (2)
يقول الشيخ الإمام رحمه الله تعالى:إني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم الدين. لكني بينت للناس إخلاص الدين ونهيتهم عن دعوة الأحياء الغائبين والأموات من الصالحين وغيرهم (3)
__________
(1) صيانة الإنسان)): ص483-484.
(2) الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية)): ص 15- 33 بتصرف.
(3) صيانة الإنسان)): ص 483.(127/40)
نبذة مختصرة من حياة الشيخ الإمام
ومن أثنى عليه من العلماء
ولد رحمه الله سنة 1115هـ وتوفي سنة 1206هـ نشأ في بيت علم ودين حيث كان أبوه رحمه الله قاضي مدينة العيينة وجده معروف بالفقه والقضاء والصلاح في بلاد نجد وكان والده يجد فيه حدة في الذكاء حتى إنه زوجه صغيرا ووجده أهلا للإمامة فقدمه للصلاة إماما.
طلب العلم على كبار علماء وقته ورحل في طلب العلم إلى مكة والمدينة والبصرة وبغداد.
درس الفقه والتفسير على والده وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. ثم قصد المدينة للصلاة في المسجد النبوي وطلب العلم.
فأخذ العلم عن شيوخها الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي نزيل المدينة المنورة ومحمد بن حياة السندي وعلي أفندي الداغستاني وإسماعيل العجلوني وعبد اللطيف الإحسائي العفالقي ومحمد الإحسائي الفالقي وانتفع بهؤلاء الشيوخ. ثم سافر إلى البصرة والزبير وأخذ العلم عن شيخها محمد المجموعي ولاقى كثيرا من الأذى من أهل البصرة. ثم سافر إلى الإحساء وانتفع بعلم شيوخها ودرس على شيخها عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ثم توجه إلى حريملاء لأن والده انتقل إليها ثم لازم أباه فاشتغل عليه بعلمي التفسير والحديث وعكف على كتب شيخ الإسلام وتلميذه.
لقد شاهد الشيخ الإمام حالة نجد الدينية والسياسية فرأى المنكرات الأثيمة والشركيات القبيحة والاسسستغاثات المتواصلة بالأنبياء والصالحين.(127/41)
فلقد كانت نجد مرتعا للخرافات والعقائد الفاسدة التي تنافي أصول القيدة الصحيحة فقد كانت كثير من القبور تنسب لبعض الصحابة يحج الناس إليها ويستغيثون بأصحابها. بل الأغرب من ذلك أن في بلدة منفوحة فحل نخل يعتقد العوام فيه تحقيق أمانيهم فالتي لم تتزوج تذهب إليه فتقول:يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول.وكذلك التي لم تحمل وهكذا والحالة أسوأ في الحجاز فالناس يقصدون قبور الصحابة وأهل البيت والصالحين وأعطوهم ما كان لله من صفات. كذلك الحال في العراق والشام ومصر واليمن وسواها فيها جاهلية ووثنية لا يتصورها العقل ولا يقرها الشرع. وحالة نجد والحجاز السياسية كانت سيئة كذلك فقد تمزقت الجزيرة إلى إمارات متناحرة ومقسمة،القوي يأكل الضعيف فآل معمر في العيينة وبنو خالد في الإحساء والأشراف في الحجاز وغيرهم لا يعبا بهم.
بعد أن تأكد الشيخ الإمام الحالة هذه ورأى سكوت العلماء في نجد والحجاز على المنكرات والبدع سارع الشيخ بإعلان دعوة التوحيد من بلدة حريملاء وبين لهم أنه لا يدعى إلا الله ولا يذبح ولا ينذر إلا لله وبين لهم بطلان عقيدة القبور والاستغاثة والتوسل بهم وأمرهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال لكن العاقبة كانت له ولأتباعه الموحدين (1) .
وعلى الرغم من أن المناطق المحاطة بنجد قد دخلت تحت الإدارة العثمانية غير أن نجدا لم تشهد نفوذا مباشرا للعثمانيين قبل دعوة الشيخ الإمام.
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته الإصلاحية)): ص 9- 11.(127/42)
والأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية متردية في الجزيرة العربية كما مر في القرن الثاني عشر الهجري حتى ظهر المصلح الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب ونجد مقسمة إلى إمارات صغيرة لا يعترف بعضهم ببعض ولا بسلطة آل عثمان والمجتمع النجدي مجتمع عربي قبلي تقوم حيلته على الصراع وكان شيوخ القبائل يحكمون نجدا، والحياة الاقتصادية كانت تقوم على تربية الموشي والزراعة والتجارة والاتصال بين أجزاء الجزيرة والبلاد المحيطة بها قريبا (1) .
والأوضاع الثقافية في الجزيرة كانت أسوأ فقد عم الجهل والأمية أنحاء نجد ولا يوجد دراسات شاملة ومنظمة وإن وجد بعض الذين يعرفون القراءة والكتابة وبعض العلماء الذين يدرسون العلوم الإسلامية من الكتاب والسنة والفقه وخاصة الفقه الحنبلي لأن المذهب الحنبلي وجد أرضا خصبة في أرض نجد فهو أقرب المذاهب الإسلامية إلى نصوص الكتاب والسنة (2) .
__________
(1) لمع الشهاب)): ص 59.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص 9.(127/43)
وأدى جهل الناس بدينهم إلى انحراف في العقيدة ودخل كثير من الشر كيات في حياة الناس العقائدية والتعبدية وفشا الشرك في نجد والحجاز وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها والاستغاثة بأصحابها والاستعاذة بالجن والذبح ووضع الطعام لهم وجعله في زاوية البيوت لشفاء المرضى ونفعهم ودفع الضر عنهم وكثر الحلف بغير الله والتوسل والاستغاثة بغيره تعالى واشتهار السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وغلب الإقبال على الدنيا وشهواتها وقلت المساجد من أهلها وانتشر الفساد والمفسدون في كل مكان فلا بد من مصلح يجدد أمر هذه الأمة. في هذه الظروف ولد الشيخ الإمام وحفظ القرآن الكريم دستور الأمة الخالد وعمره عشر سنوات عن ظهر قلب ودرس الفقه والتفسير والحديث ولما بلغ زوجه والده ثم حج بيت الله الحرام ثم توجه لزيارة المسجد النبوي الشريف الذي تشد الرحال إليه وتشرف بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم درس على علماء المدينة كما تقدم(1).
بعد أن توفي والد الشيخ سنة 1153هـ ظهرت دعوته وتبعه الناس من أهل بلده ثم أنتقل إلى العينية التي كان أميرها عثمان بن محمد بن معمر فتلقاه بالإكرام وزوجه ابنته واقتنع بدعوته فأعلن الشيخ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوحيد الله وتطهير العقائد من مظاهر الشرك واقتلع أشجارا تعظم فيها وهدم قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه ولم يصب بأي أذى كما توقع العوام(2).
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص10.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص 2.(127/44)
ولما وصل الأمر بالشيخ إلى تطبيق حد الزنا عظم أمره وانتشرت أخباره فوصل أمره إلى أمير الإحساء والقطيف فكتب إلى عثمان بن حمد بن معمر يأمره بقتل الشيخ فرأى عثمان إخراج الشيخ لأنه لا طاقة له بقتال أمير الإحساء والقطيف. فخرج سنة 1158هـ إلى الدرعية وقصد بيت محمد بن سويلم العريني وكان أمير الدرعية محمد بن سعود فنصره وتبعه وبايعه على النصرة لدين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أن استقر الإمام في الدرعية تسلل إليه أبتاعه الذين كانوا معه في العيينة والأماكن الأخرى وتحولت الدرعية إلى قاعدة مهمة لدعوة الشيخ، انطلق منه الدعاة لنشر المبادئ التي دعا إليها جميعاً، وفي سبيل الله لنشر تلك المبادئ خاض الأمير محمد بن سعود رحمه الله حروباً ضارية مع كثير من القبائل وضحى في سبيل الله بأمواله ورجاله وأولاده وأقاربه.
وكان الشيخ الإمام هو الموجه لتلك الحركة المباركة وكانت الجيوش تنطلق بمشورته وأمره. وبجانب ذلك فإن الشيخ الإمام قام بتوجيه الرسائل أو إلقاء الدروس الخاصة والعامة(1).
وكان لعمره الطويل رحمه الله تأثيراً كبيراً في ترسيخ المعاني والمبادئ والأفكار الإصلاحية التي دعا إليها وظل على ذلك إلى وفاته سنة 1206هـ(2).
__________
(1) تاريخ المملكة العربية السعودية)): ص36-38.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص109.(127/45)
وكان رحمه الله عميق الإيمان شديد الحماس لنصرة الإسلام كثير الذكر لله سبحانه لا يفتر لسانه من قول ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) وأعاد للإسلام هيبته بعد أن كان غريباً ونصر السنة وقمع البدعة ونشر راية الجهاد وعرف التوحيد الصغير والكبير واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام، وكانت ثقافته تعتمد على الكتاب والسنة والفقه الإسلامي وبخاصة الحنبلي وتأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. واستفاد من رحلاته المتعددة.
((مواقف العلماء من دعوة الشيخ رحمه الله))
جُوبه الشيخ الإمام بمعارضة شديدة من علماء زمانه أهل البدع وحاربوا دعوته خاصة في مسائل الشرك التي دعا لنبذها وكان العلماء تجاهه على أقسام:
قسم يرون الحق باطلاً والباطل حقا ويعتقدون أن البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها ودعائها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك، يعتبرونه ديناً وهدى ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين وأبغض أولياء الله.
قسم آخر يجهلون حقيقة الشيخ ولم يعرفوا دعوته بل قلدوا غيرهم وصدقوهم وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه للشيخ من بغض الأولياء ومعاداتهم وإنكار كراماتهم فذموا الشيخ ودعوته ونفَّروا الناس منه.
قسم آخر خافوا على مناصبهم ومراتبهم فعادوه لأجل ذلك لكي لا تذهب عنهم مناصبهم ومراتبهم وهؤلاء كثرة(1).
وظهر علماء أجلاء رحبوا بدعوته ودعوا الناس إليها وأثنوا على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.
نذكر منهم على سبيل الاختصار:
1- الإمام محمد بن علي الشوكاني المفسر الكبير والعالم الشهير صاحب ((فتح القدير)) و((نيل الأوطار)) وقد رثى الشيخ بقصيدة طويلة لما سمع بموته.
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب ودعوته)): ص50.(127/46)
2- الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب التصانيف المعروفة ومنها: ((سب السلام)) وقد مدحه بقصيدة طويلة كذلك(1).
وكذلك قد اجتمع فريق من علماء الشام ومصر في الحج والتقوا بعلماء الدعوة في عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الكبير -رحمهم الله- ودار نقاش بين الفريقين انتهت باقتناع العلماء بدعوة الشيخ وأنه على الحق فيما دعا إليه(2).
3- محمد بن أحمد الحفظي رثاه بقصيدة طويلة.
4- حسين بن غنام الإحسائي صاحب ((روضة الأفكار)) رثاه بقصيدة.
5- عمران بن علي بن رضوان من البلاد الفارسية رثاه بقصيدة.
6- أحمد بن مشرف الإحسائي رثاه بقصيدة.
7- علامة العراق محمود شكري الألوسي في ((تاريخ نجد)).
8- الأمير شكيب أرسلان في ((حاضر العالم الإسلامي)).
9- محمد حامد الفقي في ((أثر الدعوة الوهابية)).
10- عبد المتعال الصعيدي في كتابه ((المجددون)).
11- محمد رشيد رضا في رسائله وكتبه.
12- أحمد عبد الغفور الحجازي في كتابه ((محمد بن عبد الوهاب)).
13- محمد بهجت الأثري علامة العراق في كتابه ((محمد بن عبد الوهاب)).
14- طه حسين وحافظ وهبة في كتاب ((جزيرة العرب)).
15- محمد قاسم في ((تاريخ أوربا)).
16- منح هارون في رده على الكاتب الإنكليزي كونت ويلز.
17- عمر أبو النصر في كتابه ((ابن سعود)).
18- محمد كرد علي في كتابه ((القديم والحديث)).
19- أحمد بن سعيد البغدادي في كتابه ((نديم الأديب)).
20- الزر كلي في ((الأعلام)).
21- محمد عبد الله ماضي في كتابه((حاضر العالم الإسلامي)).
22- محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي.
23- عبد الكريم الخطيب في كتابة((محمد بن عبد الوهاب الفكر الحر)).
24- محمد بشير السهواني الهندي رحمه الله في ((صيانة الإنسان )).
25- محمد جميل بيهم في كتابة ((الحلقة المفقودة في تاريخ العرب )).
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب سيرته ودعوته)): ص34.
(2) الوهابية حركة الفكر)): ص13.(127/47)
26- الدكتور نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي في ((ترجمة القرن التاسع عشر الميلادي)).
27- مصطفى الحفناوي في كتابه((ابن سعود سياسته وحروبه)).
28- عادل زعيتر في ((ترجمة تاريخ العرب )).
29- على الطتطاوي في كتاب ((محمد بن عبد الوهاب)).
30-أبو السمع الظاهري من علماء مصر- في قصيدة.
31- أحمد حسين في كتاب ((مشاهداتي في جزيرة العرب)).
32- محمد عبده في كتاب ((50عاما في جزيرة العرب)).
33- وسماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله في كتبه ورسائله.وأيضا علماء نجد الأعلام.
34- الشيخ أحمد بن علي بن حجر آل أبو طامي البنعلي القطري في كتبه ورسائله وبخاصة كتابه: ((محمد عبد الوهاب دعوته الإصلاحية )).
وهناك أعداد كبيرة من العلماء الأجلاء الذين أثنوا على الشيخ ودعوته المباركة نسأل الله أن يبارك في دعاتها وفيها ويرحم من دعا إليها (1) .
((اتهام الحركة بالعنف والرد عليه ))
إن حركة الشيخ الإمام لم تتصف بالعنف على الإطلاق بل كانت تتسم بالحكمة والموعظة الحسنة وبالدليل القائم على الكتاب والسنة وكان الشيخ وأتباعه يقومون بمجرد الدفاع عن العقيدة ومن يقف في وجهها.
قال الشيخ رحمه الله في رسالة له للعالم العراقي عبد الرحمن السويدي:
((أما القتال فلم نقاتل أحد إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتوا ديارنا. ولكن نقاتل على سبيل المقابلة بالمثل وجزاء سيئة سيئة مثلها لأن منطق تطور الأحداث يؤدي إلى هذا.
لأن الشيخ رحمه الله دعا إلى تطهير الاعتقاد والدعوة إليه وعندما غدت الدرعية قاعدة للحركة الإصلاحية اتخذ كثير من شيوخ القبائل موقفا معاديا منها أدت إلى شن هجمات على الحركة ودعاتها))(2) .
أهم مؤلفات الشيخ :
((كتاب التوحيد )) ألفه في أول حياته.
(( كشف الشبهات )) .
__________
(1) يراجع كتاب (( محمد بن عبد الوهاب دعوته الإصلاحية )) للشيخ آل أبو طامي.
(2) محمد بن عبد الوهاب )) :ص67.(127/48)
(( مسائل الجاهلية )) .
(( أصول الإيمان )) .
((فضائل الإسلام )).
(( مختصر السيرة )) و((كتاب الأحكام والفتن ))و((مختصر زاد المعاد)).
((نصيحة المسلمين )) و((ثلاث عشرة رسالة في التوحيد والإيمان )) وغيرها.
((أهم ما دعا إليه الشيخ الإمام ))
العودة إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما.
العودة إلى التوحيد الخالص ونبذ ما سواه.
توحيد الله في أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
توحيد الألوهية والربوبية.
إنكار البدع في عقائد المسلمين.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إقامة الصلوات والحث على أداتها في أوقاتها.
نبذ التعصب المذهبي الذي يبلغ ممداه في القرون الأخيرة
حب الصحابة وأهل البيت وإنزال كل منهم في مكانه رضي الله عنهم أجمعين.
لقد استطاع الشيخ الإمام بحركته المباركة ودعوته التوحيدية إلى نشر التوحيد الخالص من الشرك في أرجاء المعمورة وأنقذ المسلمين من البدع والجهل والخرافة التي كانت تكدر صفاء العقيدة وجدد مدرسة الكتاب والسنة التي دعا إليها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وتبعه شيخ الإسلام أحمد بن تيميه وتلميذه ابن القيم رحمه الله.
وأفهم أتباعه والناس أجمعين حقيقة التوحيد ومفاسد الشرك وقضى على المشاهد والمزارات والقبور المزخرفة التي عبدت من دون الله.
فكلما دخل الشيخ مدينة أو بلدة أقام فيها المساجد ورتب فيها الدروس في التوحيد والحديث والتفسير والفقه وشرائع الإسلام، وحلت بركة دعوته بلاد المسلمين فوصلت الهند والعراق ومصر والشام وأفريقيا وآسيا وأندونيسيا وماليزيا ولم يبق بلدة من بلاد المسلمين إلا وفيه تلاميذ وأتباع للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعاة للتوحيد .(127/49)
ونرى تأثير الحركة واضحا الآن في اتجاه الفكر الإسلامي المعاصر فالمفكرون والمصلحون الإسلاميون الذين ظهروا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين قد فهموا جميعا العقيدة في إتجاه مذهب السلف الصالح وتركوا التعصب المذهبي ودعوا إلى تركه.وصياغة فقه إسلامي مقارن واتخاذ منطلق للاجتهاد ا ت الفقهية الجديدة. وكانت المناطق التي تحت حكم الإصلاح من دعاة وأمراء في وضع ينعم بالأرض والأمان والاطمئنان والقضاء على الظلم والفساد. والجميع آمنون على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وهذه هي المملكة العربية السعودية تنعم بالأمان والاطمئنان في ظل دعوة التوحيد وتطبيق شرع الله. ثم ببركة دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب واعتناق الأسرة المباركة له ولدعوته واحتضان الداعين إليها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المصادر
القرآن الكريم.
كتب الحديث: البخاري ومسلم والسنن الأربعة وموطأ مالك ومسند أحمد.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب))، عبد الله الصالح العثيمين، ط النهضة بمصر.
((لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب))،د. مصطفى أبو حاكمة.
((تاريخ المملكة ))، صلاح الدين المختار، ط 1 بيروت 1376 هـ.
((عنوان المجد في تاريخ نجد))، عثمان بن بشر، ط 3 الرياض 1385هـ
((محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته))، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ط 2 الرياض 1389هـ.
(( الوهابية حركة الفكر))، عبد الرحمان بن سليمان الر و يشد، ط القاهرة 1397هـ.
((سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أمين سعيد، ط 1بيروت 1384هـ.
((الجامع الفريد ))، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط 2 جدة.
((الهدية السنية في التحفة الوهابية))،سليمان النجدي، مكة 1393هـ.
((صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان))، محمد بشير السهسواني،.
ط 4، الرياض 1386هـ.
((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد))، الشيخ عبد الرحمان بن حسن آل الشيخ ،ط 7، القاهرة 1377هـ.(127/50)
((قادة الفكر الإسلامي عبر القرون))،عبد الله بن سعد الر و يشد، ط الحلبي ، القاهرة .
15- ((قرة عيون الموحدين))، الشيخ عبد الرحمان بن حسن آل الشيخ، دار الإفتاء،1404هـ.
16- ((محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم))،مسعود الند و ي،ط 1371هـ.
17- ((جزيرة العرب في القرن العشرين))، حافظ وهبة.
18- ((أثر الدعوة الوهابية))، محمد حامد الفقي .
19- ((البدر الطالع))، الإمام محمد بن على الشوكاني،.
20- ((الدار النضيد))، الإمام محمد بن على الشوكاني،مصر 1343هـ.
21- ((التحف في مذاهب السلف))، الإمام محمد بن علي الشوكاني، ط الجامعة الإسلامية.
22- (( التنبيهات اللطيفة))، الشيخان عبد الرحمان السعدي وعبد العزيز بن باز.
23-((الفقه الأكبر))، الإمام أبو حنيفة.
24-((المغني))، ابن قد امة الحنبلي.
25- ((شرح العقيدة الطحاوية ))، أبو جعفر الطحاوي الحنفي.
26- ((فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه))، جمع الشيخ عبد الرحمان القاسم وابنه محمد.
27-((التصوف والطريق إليه))،عبد الرزاق نوفل.
28-((سواد العين في مناقب الرفاعي))،.
29- ((حجج الدراويش)).
30-((مدائح الطريقتين القادرية والرفاعية))، لمجموعة من الصوفية.
31-((المجالس الرفاعية))، محمود فاضل السامرائي.
32-((الشيخ محمد بن عبد الوهاب))، الشيخ أحمد بن حجر آل أبوطامي.
33-((الرد على الأخنائي))، شيخ الإسلام ابن تيمية.
34-((حاشية ابن عابدين))، ابن عابدين.
35-(( إعلام الموقعين))، ابن القيم.
36-(( الجامع للإحكام))، ابن عبد البر .
37-((أصول الأحكام))، ابن حزم.
38-(( الفتاوي))، الإمام البسكي.
39-(( الروض الفائق ))،الحريفيش ط المكتبة العلامية- قديمة .
40-الرسائل النجدية ))،الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ،ط دار المنار مصر.
41- ((فقه السنة))،الشيخ سيد سابق.
42- ((جلاء العين في محكمة الأحمدين ))، نعمان شكري الأاوي القاهرة 1381هـ.
43-إلى التصوف يا عباد الله ))،الشيخ أبو بكر الجزائري ط 1404هـ.(127/51)
الفهرس
الموضوع
* الإهداء…
* كلمة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ…
* مقدمة المشرف على الطباعة ، ومقدمة المؤلف…
* أهم الطرق الصوفية في العراق…
* قبل بدء الحوار نصيحة ورجاء…
* بدء الحوار…
* الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم…
* كتب الموالد…
* المولد النبوي …
* الوهابية والأولياء…
* حال بعض كبار المتصوفة وحقيقة تآليفهم…
* زيارة القبور والتوسل…
* السواد الأعظم…
* الحلف بغير الله…
* مخالفة سليمان بن عبد الوهاب…
* رسالة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب اختصرها من رسالة لأبية الإمام رحمهما الله تعالى …
* نبذة مختصرة عن حياة الشيخ الإمام ومن أثنى عليه من العلماء …
* موقف العلماء من دعوة الشيخ رحمه الله…
* اتهام الحركة بالعنف والرد عليه…
* أهم ما دعا إليه الشيخ الإمام…
* المصادر…(127/52)
حوار
مع الصوفية
تأليف
أبو بكر العراقي
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له،وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا كتاب((حوار مع الصوفية))نقدمه للأخوة طلاب العلم عسى أن ينفع الله به وأن يهدي به قوماً قد ضلوا عن سبيل الله عز وجل وجل،دافع فيه مؤلفه عن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-وعن دعوته دعوة التوحيد الخالص فجزاه الله خيرا.
ومؤلف هذا الكتاب أحد الدعاة إلى الله عز وجل وهو أخونا الشيخ:أبو بكر العراقي وفقه الله لما يحبه ويرضاه.
وهو من الذين يدعون إلى الله عز وجل وإلى توحيده وإلى نبذ البدع والخرافات.
وهو ممن يعاصر كثيرا من قضايا هذا الكتاب نسأل الله عز وجل أن يعينه في دعوته وأن يزيده خيرا وثباتا.
وقد أهدى إلى -حفظه الله- نسخة من كتابه هذا فوجدته يبحث موضوعا مهما على اختصاره ورأيته يستحق النشر عسى الله أن ينفع به.
فقمت بالإشراف على طبعه وتصحيحه حسب الاستطاعة.
أسأل الله أن يجنبنا الزلل وأن يغفر لنا وأن يوفق مؤلف هذا الكتاب وأن ينفعه وينفع به ويثبتنا وإياه وأن وينفع قارئه.
ثم إن الدين النصيحة فمن وجد خللا فليرشد ولينصح ومن أراد أن يرسل بنصيحة أو تصحيح أو تنبيه فجزاه الله خيرا وله الشكر والتقدير وهو مأجور إنشاء الله.
وكتب أبو يزيد السبيعي
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
(ويرحم الله عبدا قال آمينا)
الرياض- ليلة الجمعة الموافق3/5/1410هـ
العنوان:ص.ب 60517 الرياض 11555
المقدمة(128/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له عليه توكلت وإليه أنيب اللهم صلي وسلم على نبيك وصفيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فهذا ملخص حوار دار بيني وبين عدد من شيوخ الصوفية في العراق في مجالس متعددة ومحافظات متفرقة حول الدعوة المباركة التي قام بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله ورضوانه، وما يثار حولها من مسائل ويقال عنها من شكوك أجبت في هذا الحوار عن كل المسائل والشكوك المثارة وبينت فيها الحق والصواب الذي كان عليه الإمام وأتباعه وأبطلت كل ما يفتري عليه وعلى أتباعه.
وسميته(( حوار مع الصوفية)).
أسأل الله سبحانه أن يوفقني لخدمة دعوة التوحيد واتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
محب الشيخين أبو بكر العراقي
1/ رمضان/ 1409هـ.
(( أهم الطرق الصوفية في العراق))
الطرق الصوفية بشكل واسع لكثرة الدعاة المضلين لها ولجهل كثير من الناس لأبسط أمور الدين فكيف بأهمها وهو التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل بالدعوة إليه وإبعاد الناس عن الشرك بالله سبحانه وتعالى وأمرهم بعبادته سبحانه وتعالى وحده.
* ومن أهم الطرق الصوفية عندنا في العراق ما يلي:
(1) الطريقة القادرية: التي تنسب زورا وبهتانا إلى الشيخ عبد القادر الجيلي (470هـ 561هـ) وهي أكثر الطرق انتشارا في العراق وتتفرع عنها كثير من الطرق الأخرى كالكسنزانية والفربكانية. ومن شيوخ هذه الطريقة المشهورين المدعو محمد بن عبد الكريم المسمى بالوارث تورث المشيخة عن أبيه مع العلم بأن الأب والابن لا يقيمان لأركان الإسلام كالصلاة والصيام وزنا ولا يؤديان الفرائض ولا النوافل ويعتقد فيهما العوام الولاية، أعاذنا الله من شر الاعتقاد.(128/2)
(2) الطريقة الرفاعية:التي تنسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي قطب الأقطاب وغوث الأغواث وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مد يده الشريفة إليه فقبلها وهذه الأكذوبة لا يصدقها إلا ناقص عقل ودين.
وأهم شيوخ الطريقة الرفاعية في العراق هم:
طه هلول عواد النعيمي الذي أخذ المشيخة عن أبيه إرثا سنة 1389هـ بعد وفاته ولا زال الابن حيا ويسكن كركوك.
إبراهيم عبد الكريم الجنابي.
مصطفى عبد الكريم الجنابي.
ستار الجنابي.
جبار الجنابي، الساكنون جميعا في قضاء الخالصي/ ديالى ويدعي كل من هؤلاء أنه شيخ الطريقة.
عبد الله النامس الرفاعي الذي يسكن (( صلاح الدين)).
محمد عبد الوهاب الذي يسكن بغداد.
إبراهيم الراوي الذي يسكن محافظة الأنبار. وكل هؤلاء يزعمون أنهم شيوخ الطريقة الرفاعية ولا مثيل لهم.
(3) الطريقة النبهانية: وتنسب إلى الشيخ محمد النبهاني الشامي وهي من الطرق الجديدة التي ظهرت في سوريا وانتشرت في العراق بواسطة الشيخين: ناظم العاصي العبيدي، ومحمود مهاوش الكبيسي اللذين توفيا سنة 1403هـ 1983م . وتولى المشيخة بعدهما المدعو ماهر محمود مهاوش الكبيسي إرثا هن أبيه.
(4) الطريقة الخضرية: تنسب إلى الخضر- عليه السلام- وانتشرت حديثا، وليس لها شيخ معترف به باقي شيوخ الطرق الصوفية.
(5) الطريقة النقشبندية: وتنسب إلى ولي الله شاه نقشبند محمد بهاء الدين( 717هـ - 791هـ ) الذي نشأ وعاش في الهند ومن هناك انتشرت في البلاد الإسلامية.
ثم ظهر الشيخ خالد النقشبندي في بلاد الشام ومنه انتشرت في العراق. وظهر من شيوخها في الشام: أبو النصر محمد خلف الجندي الحمصي (1292هـ- 1368هـ). ومن شيوخها في العراق: مصطفى كمال الدين النقشبندي الذي توفي 1408هـ /1988م وتولى المشيخة بعده إرثا عنه الدكتور عبد الله ولا زال يتولاها.
(6) وهناك طرق صغيرة ليس لها كثير أتباع مثل: الملوية والشاذلية.(128/3)
ويتفق كل هؤلاء على جواز التوسل والاستغاثة بغير الله والحلف والاستعانة كذلك وينذرون لأضرحة شيوخهم، ويزورون القبور يطلبون العون والمدد من أصحابها، ويعبدون الله وأكثرهم مشركون.
((قبل بدء الحوار نصيحة ورجاء))
نصيحتي إلى كل مسلم حريص وغيور على دينه وعقيدته أن يقرأ كتب شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله – ويتصل بتلاميذ دعوته وهو كثر والحمد لله، ثم بعد ذلك يحكم على دعوته المباركة وعلى الداعين إليها.
إخوتي في الله لقد كنت تلميذا في المدرسة الدينية في مدينتنا وكان شيخ المدرسة- وهو أحد الصوفية على الطريقة القادرية- يكلمنا عن الشيخ ودعوته بما ينافي الحق والحقيقة.
وكان ينهانا عن قراءة كتبه وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- رحمهم الله تعالى-. حتى إنه رسم لنا صورا مخفية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكان يطلق عليها لفظ الوهابية تنفيرا ويقول بأنه مذهب خامس خارج عن مذاهب الإسلام.
وقد كتب الله تعالى لي الدراسة في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة في كلية الشريعة فرأيت عكس ما سمعت من شيوخ السوء والفتنة رأيت رجال دعوة التوحيد رجال علم وقرآن وخير وبركة متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم محافظين على تعاليم الإسلام ويعتبرون أنفسهم خدما للإسلام ودعوة التوحيد المباركة.
ونهلت من منهل الجامعة الإسلامية وكلية الشريعة منهل الكتاب والسنة. إلا أني لا أكتم سرا إذا قلت أنه حين تخرجي لا زال في بعض ما كنت عليه سابقا قبل دخول الجامعة عالقا في ذهني من أقاويل شيوخ السوء، رغم أنني لم أعترف بالصوفية منذ صغري بل كنت أبغضها بغضا شديدا حيث كنت أرى بنفسي ما يأتون من منكرات ومخالطة الرجال للنساء الأجنبيات والمردان وتركهم الصلاة، والذي يصلي منهم لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، ولا يصومون ويجهرون بالإفطار في رمضان وإذا سألتهم عن هذا أتوك بحجج واهية أوهى من بيت العنكبوت.(128/4)
وبعد تخرجي من الجامعة سنة 1397هـ شاء الله سبحانه أن أقوم بوظيفة الإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد في أحد جوامع مدينتنا المهمة فرأيت البدع منتشرة في الجامع بين صفوف المصلين فبدأت مستعينا بالله تعالى بتغييرها مستخدما الحكمة والموعظة الحسنة.
فأثار هذا العمل المبتدعة وأصحاب المصلح وعلماء السوء والفتنة فقالوا: فلان وهابي ويدعو للمذهب الوهابي لأنه خريج السعودية إلى آخر كلامهم الذي لا يراد به إلا الباطل. وكما يقال: ((رب ضارة نافعة)) فعاهدت الله بعد ذلك بأن أكون أحد خدمة دعوة التوحيد والداعين إليها ولا أخشى في الله لومة لائم فعكفت على دراسة كتب التوحيد كتب شيوخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله تعالى-. وقرأت عن حياة الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- الكثير وبخاصة موقفه من فتنة خلق القرآن الكريم فأثر ذلك على حياتي تأثيرا إيجابيا أعادها إلى حضيرة التوحيد خالصة وإلى الإسلام صافية، والحمد لله رب العالمين. وقلت وقتها كما قال الشيخ عمران بن رضوان- رحمه الله تعالى-:
إن كان تابع أحمد متوهبا ... فأنا المقر بأنني وهاب
ي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي ... رب سوى المتفرد الوهاب
لا قبة ترجى ولا وثن ولا ... قبر له سبب من الأسباب
أيضا ولست معلقا لتيمية ... أو حلقة أو ودعة أو ناب
لرجاء نفع أو لدفع بلية ... الله ينفعني ويدفع ما بي (1)
وبعد ذلك أصبحت أحد تلاميذ الدعوة داعيا إليها موضحا طريقها شارحا سيرة دعاتها فدخل بفضل الله سبحانه غي هذه الدعوة المباركة واستجاب لها عدد كبير من الشباب والشيوخ والنساء والرجال فأصبحوا من المحبين لها الداعين إليها ونبذوا ما كانوا عليه من مسائل الجاهلية والحمد لله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب حياته السلفية)): ص52.(128/5)
فيا إخوتي في الله هذا هو الطريق الحق فسارعوا إليه فمن اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها ودع قول المبتدعة وأهل الشعوذة والدجل وتوكل على الله ومن يتوكل عليه فهو حسبه والله مع الصابرين.
((بدء الحوار))
قال الصوفي: أنت الوهابية مذهب خامس لا تعترفون بالمذاهب الأربعة ولا ترون الاجتهاد بل إن الوهابية تقف عند النصوص ولا تتقيد بمذهب معين.
قلت:
أعرفك أيها الصوفي أولاً بمعنى الوهابية، والوهابية نسبة غير صحيحة إذ لم يكن الشيخ عبد الوهاب والد مجدد الدعوة هو الذي قام بدعوة التوحيد وإنما قام بها الشيخ الابن محمد بن عبد الوهاب رحمها الله.
إذ كان المفروض أن تنسب إليه فيقال: الدعوة المحمدية بدلا من الوهابية لأنها النسبة الصحيحة، لكن أعداء الدعوة عكسوا الأمر للتنفير فنسبوها إلى الأب دون الابن لغاية في أنفسهم.
وقد تنسب الدعوة إلى الوالد أو الجد كما يقال الشافعية أو الحنبلية وهذا لا عيب فيه ونسبة دعوة التوحيد إلى الشيخ عبد الوهاب كذلك.
لكن ما معنى الوهابية؟ الوهاب: اسم من أسماء الله الحسنى معناه: المعطي المانح الواهب فهي تسمية مباركة نسبت بأحد أسماء الله الحسنى ((الوهاب)) فالوهابية على هذا معناها المعطية تعطي الإنسان عقيدة سليمة وتمنحه السير على الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وتهبه الأمان أمان العقيدة الصافية الخالية من الشرك والشعوذة والدجل.(128/6)
أما كون الوهابية مذهب خامس فهو مما ينكره الواقع ويدفعه المنطق لأن الشيخ في الأصول والعقائد على عقيدة السلف الصالح- رضي الله عنهم أجمعين- وفي الفروع على مذهب الإمام المبجل أحمد بن محمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- ولم يكن يخرج عن مذهبه في الفروع كخروج شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رغم اجتهاد الاثنين في بعض المسائل خالفا فيها المذهب وذلك عندما يتبين له دليل يخالف المذهب فيأخذ به اتباعا للحق وأخذا بالدليل. وهذه كتبه ورسائله تشهد على ذلك. وإنه يعترف بجميع المذاهب السنية كالحنيفية والمالكية والشافعية والثورية وغيرها من مذاهب معترف بها.
فالذي يقول مذهب خامس بين جهله وأنه لا يعرف العلم ولا العلماء فإن الذي قام به الإمام لا يقال له مذهب خامس وإنما دعوة للتوحيد الخالص ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).
وأما ما جرى على ألسن العلماء من قولهم مذهب فلان أو ذهب إليه فلان فإنما يقع في الأحكام لاختلافهم فيها بحسب بلوغ الأدلة وفهمها وهذا لا يختص بالأئمة الأربعة بل مذاهب العلماء قبلهم وبعدهم في الأحكام كثيرة. فقد جرى الخلاف بين الصحابة والفقهاء السبعة من التابعين في مسائل خالف بعضهم فيها بعضا، والمقصود من قول هذا الجاهل مذهب خامس قول فاسد لا معنى له كحال أمثاله من أهل الجدل والزيغ في
زماننا(1).
ثم إن اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرون الاجتهاد وأن الاجتهاد لم يرفع إلى قيام الساعة إذا توافرت شروطه.
وكون الوهابية لا يتقيدون بمذهب معين فهذا هو رأي فقهاء الإسلام وقال به أصحاب المذاهب الأربعة وأئمته:
(1) قال الإمام أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- :
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/367- 368).(128/7)
(( إذا صح الحديث فهو مذهبي))(1) وقال- رحمه الله تعالى-: (( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)) – وفي رواية عنه- (( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإنا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا))(2)، وقال أيضا-رحمه الله تعالى-: (( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي))(3).
(2) وقال الإمام مالك بن أنس-رحمه الله تعالى -:
((إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة
فاتركوه)).وقال:
((ليس أحد بعد النبي الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ))(4)
(3) وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي-رحمه الله تعالى-:
((ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي))(5). وقال ((إذا صح الحديث فهو مذهبي))(6)، وقال: ((إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافة فاعلموا أن عقلي قد ذهب))(7)، وقال- رحمه الله تعالى-: ((كل ما قلت فكان خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم فحديث النبي أولى فلا تقلدوني))(8).
__________
(1) حاشية ابن عابدين)): (1/ 63).
(2) الانتفاء)) لابن عبد البر: ص45، و(( إعلام الموقعين)) لابن القيم: (2/309)، و(( حاشية ابن عابدين)) :
( 6/ 293).
(3) إرشاد السالك)): (1/ 227)، ((وأصول الأحكام)) لابن حزم: (6/ 145- 189)، والسبكي في ((الفتاوى)) : (1/148).
(4) الجامع))لابن عبد البر: (2/32)،و((أصول الأحكام ))لبن حزم:(6/149).
(5) أعلام الموقعين)): (2/ 363- 364).
(6) المجموع)) للنووي: (1/ 63).
(7) المنتقي)): (1/ 234).
(8) ابن عساكر: 15/(128/8)
(4) وقال الإمام المبجل أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى-:
((لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا ألا وزعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا))(1). وقال: ((من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكه))(2).
فهذه هي أقوال الأئمة الأربعة كلها تنهى عن التقليد بدون دليل فالواجب على من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتبعه ويبين للأمة.
فقد خالف كثير من أئمة المذهب أقوال شيوخهم للدليل فقد خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة شيخهما في مسألة المسح على الجوربين وغيرهما.
فالوهابية ليست مذهبا خامسا وليست هي التي خرجت عن أقوال أئمة المذاهب فقط وذلك عند وجود الدليل. بل هم أكثر اجتهادا ووقوفا عند النصوص الواردة في الكتاب والسنة لقوله تعالى: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) والله من وراء القصد.
((الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم))
قال الصوفي: الوهابية لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان وينهون المؤذنين برفع الصلوات على المنائر ويقولون إن ما يفعله المؤذنين بدعة. فما قولكم في ذلك؟
قلت:
إن أتباع الإمام محمد بن عبد الوهاب أكثر الناس صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم التزاما بأمره ونهيه وطاعته صلى الله عليه وسلم .
فهل كان بلال أو ابن أم مكتوم وكل من أذن للرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم يفعلون ما يفعله بعض المؤذنين في هذا الزمان من رفع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان؟ وهل فعل في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بسنتهم وكذلك في عهد الأئمة الأربعة وأتباع التابعين أو أحد القرون الثلاثة المفضلة؟ اللهم لا.
ومن قال بخلاف هذا فقد افترى على الإسلام ودعاته الأوائل.
__________
(1) إعلام الموقعين)): (2/ 302).
(2) المناقب)) لا بن الجوزي: ص 82.(128/9)
والذي قيل أن ذلك حدث في زمان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وصلاح الدين ليس شرعا أمرنا بالاقتداء به.
وهل يوجد في صفة الأذان في أي كتاب من كتب الفقه والحديث المعتمدة ما أحدثه المؤذنون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنائر بعد الأذان؟ اللهم إنه لا يوجد حتى في كتب الفقهاء المتأخرين. هذا من جهة الشرع. ومن جهة أخرى فهؤلاء القائلون بالصلاة بعد الأذان ملازمة له لا يصلون عند انقطاع التيار الكهربائي أو انعدام مكبرات الصوت أو عند الاحتفالات وفي أذان المغرب والجمعة فإما أن توجد الصلاة في كل أوقات الأذان وإلا فإن هذا اتباع للهوى فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وكل ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة(1) رضي الله عنها. وكل بدعة في الدين ضلالة في النار. فهذا هو الذي نؤمن به أن كل ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين فعله فهو مردود.
ولا توجد بدعة حسنة وأخرى سيئة في الإسلام.
قال الأستاذ سيد سابق في ((فقه السنة)):
((الأذان عبادة ومدار الأمر في العبادات على الاتباع فلا يجوز لنا أن نزيد شيئا أو ننقص شيئا في ديننا. وفي الحديث الصحيح: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) أي باطل.
ونحن نشير هنا إلى أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير حتى خيل للبعض أنها من الدين وليست منه، من ذلك:
(1) قول المؤذن حين الأذان أو الإقامة أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله. قال الحافظ ابن حجر: إنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة.
__________
(1) صحيح البخاري)): (5/ 221)، و(( صحيح مسلم)): (1718).(128/10)
(2) قال العجلوني في ((كشف الخفا)): مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلها عند سماع قول المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله مع قوله: أشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. رواه الديلمي عن أبي بكر رضي الله عنه قال في ((المقاصد): لا يصح.
(3) التغني في الأذان واللحن فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد مكروه. فإن أدى إلى تغيير معنى أو إبهام محذور فهو محرم.
(4) التسبيح قبل الفجر والنشيد ورفع الصوت. وقبل الجمعة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس من الأذان لا لغة ولا شرعا قاله الحافظ في ((الفتح)).
(5) الجهر بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان غير مشروع بل هو محدث مكروه. قال ابن حجر في ((الفتاوى الكبرى)): الأصل سنة والكيفية بدعة. وقال الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية عندما سأل عن ذلك فقال: جاء في ((الخانية)): إن الأذان خمسة عشر كلمة وآخرها عندنا لا إله إلا الله وما يذكر قبله أو بعده كله من المستحدثات المبتدعة ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين ولا عبرة لمن قال: إن شيئا من ذلك بدعة حسنة لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو سيئة ومن أدعى أن ذلك ليس فيه تلحين فهو كاذب(1).
(6) وأزيد على ذلك ما يسمى بالتمجيد ليلة الجمعة وما فيه من توسلات واستغاثات غير مشروعة وما أحدثه المؤذن في زماننا كثير.
أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فنحن أعرف الناس بها وإليك بعض فضائلها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم :
(1) قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
__________
(1) فقه السنة)): (1/ 121- 123).(128/11)
(2) عن أبي العلية: صلاة الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند الملائكة. رواه البخاري.
(3) قال ابن كثير: جمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا.
(4) عن عبد الله بن عمروا بن العاص رضي الله عنه رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) رواه مسلم.
(5) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(6) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود وقال: صحيح.
(7) عن أوس الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة على،فقالوا:يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت؟قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه وأحمد.
(8) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام)) رواه أبو داود.
(9) عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال:أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس يرى في وجهك البشر قالوا:يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر قال: (( أتاني آت من ربي عز وجل فقال من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليها مثلها)) رواه الإمام أحمد بن حنبل والنسائي وابن حبان في صحيحه.(128/12)
(10) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يكال له بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد)) رواه أبو داود والنسائي.
(11) عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قلت: (( يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت،قلت:الربع، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت:النصف،قال:ما شئت فإن زدت فهو خير لك،قلت:الثلثين،قال:ما شئت فإن زدت فهو خير لك،قلت: أجعل صلاتي كلها قال:إذا تكفى همك،ويغفر لك ذنبك)) رواه الترمذي.
وهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.لهذا جمهور الفقهاء على وجوب الصلاة كلما ذكر اسمه الشريف واستحبوا كتابة الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه،ذكره الخطيب عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.ويجمع بين الصلاة والسلام عليه،ذكره النووي.وتستحب الصلاة على الأنبياء والملائكة استقلالا.
(12) عن أبي مسعود الأنصاري عن بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنهما قال :أمرنا أن نصلي عليك يا رسول الله كيف نصلي عليك؟قال:فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم ))رواه مسلم.
هذا هو الذي نؤمن به ونتعبد الله به لاكما يقول الصوفية من اقتصار ذلك على المؤذنين فوق المنائر ويعتبرونه جزاء من الأذان ولم يقم الدليل على ما يقولون والله المستعان(1).
(( كتب الموالد ))
__________
(1) فقه السنة)): (1/ 612- 615).(128/13)
قال الصوفي : إن الوهابية حرموا قراءة كتاب(( دلائل الخيرات ))وأحر قوة، وكذلك ((روض الرياحين)) وكتب الموالد الأخرى حرموا قراءتها وفيها مدح للرسول صلى الله عليه وسلم .
قلت:
لم يحرم الشيخ مجمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه قراءة هذه الكتب وإنما نهى عن الاشتغال بها وترك كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحسناً فعل الشيخ رحمه الله تعالى،فقد استبدلتم معشر الصوفية قراءة ((دلائل الخيرات))بقراءة كتاب الله. وفي ((دلائل الخيرات))ما فيه من افتراءات وأكاذيب على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وقد حشي بالأحاديث الموضوعة والمكذبة.
وكذلك ما يسمى ((روض الرياحين)) وحري أن يسمى روض الشياطين وأزيد عليهما مجربات الديربي الذي قدموه على كتاب الطب النبوي لابن القيم و((الروض الفائق))، و((مجالس العرائس)) و((مولد ابن حجر)) و((مواج ابن عباس )) رضي الله عنهما- استغنى معشر الصوفية بهذه الكتب الضارة التي جمعت بين الغث والموضوع والبدع والتشجيع عليها بوضع الأحاديث لها. وتركوا كتب الحديث المعتمدة كـ ((الصحيحين)) و((السنن)) و((الموطأ)) و((المسند)) وغيرها من دواوين الإسلام الحديثية الزاخرة بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وإليك بعض الأمثلة من كتبهم السابقة:
يذكر صاحب ((مجالس العرائس)) أن الله خلق الأرض على قرن ثور، وأن مد البحر وجزره يحدث بسبب تنفس الثور وأن الله خلق العرش على الماء فاضطرب فخلق الحية فالتفت حول العرش فسكن (1) .
فهل بعدا هذا الكذب من كذب يا معشر الصوفية أفلا تعقلون؟!
__________
(1) مجالس العرائس)):ص 3-4.(128/14)
أما صاحب ((الروض الفائق)) المسمى بالحريفيش فيذكر من الغرائب والعجائب والخرافات ما يفوق((صاحب المجالس )).يقول الحريفيش:عن أبي سعيد المغربي إمام مسجد الخشابين في البصرة إنه كان يذهب إلى الحج وهو يصلي في مسجده الأوقات الخمسة لا ينقطع منها في أي وقت أبدا وذكر حكاية طويلة في هذا المجال (1) فهل يعقل هذا الهراء صاحب عقل ودين فكيف يحج وهو يصلي في مسجده في البصرة الأوقات الخمسة وهل حدث مثل هذه الخارقة الكاذبة للرسول صلى الله عليه وسلم .
ويذكر أيضا: أن قضيب البان المدفون في الموصل من العراق قد خدم شيخا أربعين سنة فأخبره شيخه قبل موته بثلاثة أيام انه سيموت على غير دين الإسلام فكان الشيخ المزعوم فقال له قضيب البان خادمه: وكيف عرفت ذلك؟قال:اطلعت على اللوح المحفوظ فوجدت فيه ذلك وذكر حكاية طويلة.فهذه بعض حكايات الحريفيش.
أما ((روض الشياطين)) فيقول صاحبه في جل حكاياته:روي بأن جارية كانت..وحكي أن امرأة فعلت ..وأن قلانا وسماه وليا التقى بفتاة..وذكر بأن ذا النون المصري التقى بجارية وقال:يا كريم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا كريم حتى ذكر حكاية طويلة قال في نهايتها بأن الأعرابي قال:إن حاسبني ربي لأحاسبنه فهبط جبريل عليه السلام وقال:يا رسول الله بلغ الأعرابي بأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يا معشر الصوفية من شيء فدلائل الخيرات قرآن الصوفية رغم ما فيه من منكرات.وهذه الكتب هي كتب حديث الصوفية.
وكتب الموالد لا تقل الجرأة فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سابقتها.
يذكر في أحد هذه الكتب عن أبي بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قال:من أنفق درهما في المولد فكأنما حج سبعين حجة فهل قال هذا الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل كان المولد معروفا زمن النبوة والخلافة الراشدة
والقرون المفضلة ؟ لا والله .بل إنه من محدثات الفاطميين .
__________
(1) 2 ) ((الروض الفائق)):ص 61.(128/15)
فالحذر أخي المسلم من قراءة هذه الكتب المسمومة الكاذبة أو شراؤها .وعليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخذها من مصادرها المعتمدة وهي دواوين الحديث المشهورة كـ ((الصحيحين)) و((السنن)) و((المسانيد)) و((المصنفات)) و((الموطآت)) وغيرها من كتب الحديث المعتبرة .فإنها تغنيك عن كل الكتب المسمومة .
ومن الكتب النافعة في هذا المجال ((جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام))لابن القيم و((الأذكار)) للنووي و((رياض الصالحين)) له أيضا ؛ و((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض ؛ و((الكلم الطيب ))لابن تيمية رحمهم الله
جميعاً .
((المولد النبي))
قال الصوفي: لماذا الوهابية يقولون إن الاحتفال بالمولود النبوي بدعة؟ مع العلم بأن الاحتفال بالمولود مظهر من مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم .
قلت:
الوهابية تلتزم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهبه .
لذلك نسأل الصوفية هل احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بمولده أو أمر به أو حث عليه أو أوصى من بعده بالاحتفال لبليلة المولد؟وهل احتفل الخلفاء الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم رضوان الله عليهم أجمعين حيث قال صلى الله عليه وسلم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)) رواه أهل السنن .
وهل احتفل أهل القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم :((خير الناس قرني ثم الذين يلو نهم ثم الذين يلو نهم )) متفق عليه.
اللهم إنه لم يحتفل بليلة المولد كل هؤلاء ، وهم أهل الإيمان الصادق والعقيدة الصافية.
وإن هذه البدعة السيئة بدعة الاحتفال بالموالد ابتدعها الفاطميون الشيعة ، كمولد الإمام علي بن أبي طالب ومولد الزهراء والإمام القائم ومنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإن هذا الاحتفال ليلة ثاني عشر من ربيع أول بدعة لا أصل لها من كتاب أو سنة أو عمل أحد من سلفنا الصالح. وإنما حدث متأخرا.(128/16)
قال الإمام الفاكهاني: ((تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع أول ويسمونه المولد هل له أصل في الدين؟ وقصدوا الجواب على ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا فقلت: وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا من كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة أحدثها الباطلون وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وكذلك يحدثه بعض الناس- إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم- وتعظيما من اتخاذ مولده عيدا مع اختلاف الناس في يوم مولده فإن هذا لم يفعله السلف الصالح ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رحمهم الله تعالى: ((وكذلك ما يحدثه بعض الناس-إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيس عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم-وتعظيما من اتخاذ مولده عيداً مع اختلاف الناس في يوم مولده فإن هذا لم يفعله السلف الصالح ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رحمهم الله أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان))(1) .
فأتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقولوا هذا القول عن الاحتفال بالمولد دون دليل واتباع.بل سبقهم من أفضل منهم علما وتقوى وصلاحا من السلف الصالح رحمهم الله..
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية)): العدد 23/ ص362-363.(128/17)
وإن ما يحدث في موالد هذا الزمان تقشعر منه الأبدان من اختلاط النساء بالرجال ومصاحبة المردان وإلقاء السماع والأغاني والأناشيد والأشعار المحرمة التي تحتوي على كثير من الشرك والتوسل والاستغاثة بغير الله تعالى ولمن أراد المزيد فعليه بالكتب التالية:
(1) رسالة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في حكم الاحتفال بالمولود.
(2) ((القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل)) للشيخ إسماعيل الأنصاري.
وغير ذلك من كتب أئمة السلف وأتباع دعوة التوحيد رحمهم الله تعالى.
((الوهابية والأولياء))
قال الصوفي: الوهابية يكفرون غيرهم ومن لا يسير على طريقتهم. ويطعنون بالأولياء ولا يؤمنون بوجود الأبدال والأغواث والأقطاب والأوتاد. ويكفرون ابن عربي والحلاج وابن الفارض وغيرهم فما قولك؟
قلت:
قال شيخ الإسلام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: لا أعلم مستندا لهذا القول وهو التكفير والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال. والفرح بمثل هذه القضية قد يكون له أسباب متعددة لا سيما وقد كثر الهرج وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقال التمسك بالكتاب والسنة، وقل من يعرفهما ويدري حدود الله في الأحكام الشرعية كالإسلام والإيمان والكفر والنفاق. وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما)) رواه الخطيب وأحمد والبخاري عنه بلفظ : ((إ ذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحد هما )).(128/18)
وروى أبو داود((أيما مسلم كفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر)).
فإطلاق القول بالتكفير دليل الجهل وعدم العلم بمدارك الأحكام .
وتأول أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي كما في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- عنه عليه الصلاة والسلام: (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) رواه الجماعة إلا أبا داود. ونحو هذا الحديث تأولوه على أنه كفر عملي ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة كما جزم به ابن القيم. وقد ذكر شيخ الإسلام: إن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- لم يكفر الخوارج المقاتلين له والمكفرين له ولعثمان بن عفان- رضي الله عنه-.(1)
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني في كتاب(( صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)) : إن الإنسان إذا دخل في الإسلام وحكم بإسلامه لا يخرجه من الإسلام ما يفعله من الكبائر كالسرقة والزنا وشرب المسكر وأخذ الأموال ظلما وعدوانا وإنما يخرجه من الإسلام إلى الكفر الشرك بالله وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين بعد معرفته بذلك وإقامة الحجة عليه. (2)
وقال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: فأهل السنة مذهبهم أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك. وقال أيضا: إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر والبدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكن يقاتل معنا سبحانك هذا بهتان عظيم.
فالذي نعتقده وندين الله به أن من دعا نبيا أو وليا وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات إن هذا من أعظم الشرك الذي كفر بالله به المشركين حيث اتخذوهم أولياء وشفعاء ويستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم الضر بزعمهم فمن جعلهم وسائط بينه وبين الله بهذا الوجه فهو كافر حلال الدم. (3)
__________
(1) المرجع السابق: (3/22).
(2) صيانة الإنسان)) : ص414.
(3) صيانة الإنسان)) : ص 415- 416.(128/19)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: ومذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الأسلم والأعلم والأحكم خلافا لمن: طريقة الخلف أعلم.
وما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق بأننا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ وأنا نحط من رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم ونقول هو رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع منه وأننا لننهى عن الصلاة عليه .
ونحرم زيارة القبور إلى آخر الافتراءات فإنا نقول : سبحانك هذا بهتان عظيم (1) .
والذين كفروا من خالف التوحيد الخالص وأشرك بالله، كثيرون جدا منهم :شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن عقيل وصاحب الفتاوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي والزبيدي والصنعاني والشوكاني وصاحب الإقناع وابن حجر المكي والبكري الشافعي وابن كثير وابن عبد الهادي ومحمد بن أحمد الحفظي وغيرهم وليس الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وحده (2) .
أما أولياء الله المتقون الذين يتقربون إليه بالطاعات ويجتنبون المعاصي الآمرون بالمعروف الناهون عن المكر المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الذين يقيمون الفرائض ويؤدون النوافل، فإنا نحبهم في الله أمثال الإمام الحسن البصري وسفيان والثوري وابن عيينة والجنيد البغدادي وأحمد بن حنبل والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله جميعاً.
أما قول الصوفي بأنا لا نؤمن بالأقطاب والأغواث والأوتاد والأبدال فهذا مما لا نشك فيه لأننا لم نجد دليلاً من كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل عليهم وكل ما ورد فيهم من الآثار فهي أحاديث باطلة ولا صحة لها. ولفظ أبدال فقط ورد في حديث ضعيف بل موضوع أو منقطع.
__________
(1) صيانة الإنسان )):ص421-422 من رسالة اختصرها ولده الشيخ عبد الله .
(2) المرجع السابق:ص431.(128/20)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما روي بأن غلاماً للمغيرة بن شعبة واحد من السبعة فهو كذب باتفاق أهل العم، وإن كان رواه أبو نعيم في ((الحلية)). وكذا حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والأقطاب والنقباء والنجباء والأوتاد مثل أربعة أو سبعة أو اثنى عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا لفظ الأبدال وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو حديث نقطع ليس بثابت. وكذلك ما يرويه بعضهم عنه صلى الله عليه وسلم أنشد منشد:
قد لسعت حيّة الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت بردته عن منكبه فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم مزَّق ثوبه وأن جبريل أخذ قطعة فعلقها على العرش. فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم عنه من أظهر الأحاديث كذباً عليه صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما يرويه بعضهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي. كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث(1).
وسأل شيخ الإسلام عن حديث الأبدال وغوث الأغواث وقطب الأقطاب وقطب العالم والقطب الكبير وخاتم الأولياء. فأجاب رحمه الله:
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/167- 168).(128/21)
((أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النسّاك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى. ولا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال فقد روى فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أن فيهم الأبدال الأربعين كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً. ولا توجد هذه الألفاظ في كلام السلف))(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً:
((وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد. ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت دار الهجرة والسنة والنصرة ومستقر النبوة وموضع الخلافة وبها انعقدت بيعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه فلماذا لا يكونوا في المدينة دار الخلافة؟ ويكونوا في الشام ولم تفتح بعد!! وعندما فتحت كانت ضد الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكان في جيش علي من هو أفضل من معاوية فكيف يكون الأبدال في جيش معاوية ولم يكونوا في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/433- 434).
(2) مجموع الفتاوى)): (11/436- 437).(128/22)
أما لفظ الغوث والغياص فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين فلا يجوز لحد الاستغاثة بغيره لا بملك مقرب ولا نبي مرسل. ومن زعم أن أهل الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث فهو كاذب ضال مشرك فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } . فكيف يكون المؤمنين يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب؟ وهو القائل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } . وهؤلاء الذين يدّعون هذه المراتب فيهم مضاهات للرافضة من بعض الوجوه(1).
أما الأوتاد فقد يوجد في كلام البعض أنه يقول فلان من الأوتاد يعني أن الله يثبت به الإيمان والدين في قلوب من يهديهم الله به. كما يثبت الأرض بأوتادها وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء وليس محصورا في أربعة ولا أقل ولا أكثر بل جعل هؤلاء أربعة مضاها بقول المنجمين في أوتاد الأرض (2).
وكذلك الأقطاب والأبدال قطب الأقطاب ولا بدل البدلاء ولم يرو بذلك أثر صحيح أو ضعيف وكل ما ورد موضوع ومنقطع.
__________
(1) مجموع الفتاوى)): (11/437- 439).
(2) مجموع الفتاوى)): (11/ 440)).(128/23)
وكذا لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له وأول من ذكره محمد بن علي بن حكيم الترمذي وانتحله طائفة منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن عربي وغيره من الشيوخ الضالين وكل يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه إلى غير ذلك من الكفر والبهتان وكل ذلك طمعا في رئاسة خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وخير هذه الأمة بهد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم. بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما (1) .
((حال بعض كبار المتصوفة وحقيقة تآليفهم))
قال في(( مجموعة الرسائل النجدية)) حول(( إحياء علوم الدين)) للغزالي:
قد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين وكسا الفلسفة لحاء الشريعة حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق، من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام. وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار. وقد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، بل أفتى بحرقها علماء المغرب الذم والتشنيع وزيف ما فيه من التحوير والترقيع وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولكن أبو حامد أدخل أشياء من الفلسفة وهي عند ابن تيمية عقيل زندقة.
__________
(1) مجموع الفتاوى)) : (11/444).(128/24)
قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد الخروج فلم يحسن.
قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر عن أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه.
وقال أبو بكر ابن العربي- أيضاً-: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع.
وقال القاضي عياض: أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة غلا في التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داهية في ذلك، وأحرقت كتبه في المغرب (1) .
أما ابن العربي النكر(561- 368هـ) فله أقوال شاذة وأفعال منكرة ونصوصة تشهد على ذلك قال بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ونجاة فرعون ودخوله الجنة وأن الكافرين لا يخلدون في النار إلى غير ذلك من أقواله المنكرة.
قال ابن حجر في (( لسان الميزان)) : حط عليه ونسب إليه سوء الاعتقاد.
وقال ابن حيان قال في( الشذرات) بالغ ابن المقري في (( الروض)) فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن العربي.
ونقل علي القاري عن ابن دقيق العيد قوله: لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعدت لها جوابا بين يدي الله تعالى وقد سألت شيخنا سلطان العلماء العز بن عبد السلام فقال: شيخ سوء كذاب يقول بقدم العال ولا يحرم فرجا.
قال أبو زرعة: لاشك في اشتمال النصوص المشهورة على الكفر الصريح الذي لاشك فيه.
قال ابن حيان: ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج وابن العربي وابن الفارض وابن سبعين والعفيف التلمساني وتلاميذهم وكل من رضي بمذهبهم، قال ابن المقري: أن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر ظاهر. وقال: إن من اعتقد أحقية عقيدة ابن عربي كافر بالإجماع من غير نزاع. ومن شركيات ابن عربي قوله:
العبد رب والرب عبد ... فليت شعري من المكلف
وقال الحلاج:
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/ 131- 133) بتصرف.(128/25)
جحودي لك تقديس ... وعقلي فيك منهوس
فما آدم إلا كا
... وما في الكون إبليس(1)
أما أبو حفص عمر بن الفارض (576- 632هـ) كان له جوار يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد وكان يقول بالحلول والاتحاد ووحدة على مذهب ابن عربي ومن منكراته قوله:
لها صلواتي في المقام أفيها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواى ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة (2)
وابن سبعين عبد الحق الإشبيلي ت669 هـ بمكة المكرمة.قال عنه الذهبي:كان من زهاد الفلاسفة ومن القائلين بوحدة الوجود،له تصانيف وأتباع يتقدمهم يوم القيامة.
قال المناوي::كان يقول بالوحدة المطلقة شنع عليه غير واحد من العلماء والفقهاء لا رحمه الله (3)
أما الحلاج المقتول أبو مغيث الحسين بن منصور الفارسي نشأ في العراق،صحب الجنيد البغدادي وقال بمذهب ابن عربي في الوحدة والاتحاد والحلولية قتل سنة 309هـ بعد أن أأفتى بقتله فقهاء الإسلام وعارفوه من أهل الشريعة ومن أقواله الشنيعة:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا (4)
قال الذهبي:الحلاج سافر إلى الهند وتعلم السحر وحصل له به حال شيطاني وهرب منه الحال الإيماني ثم بدت كفريات منه أباحت دمه وكسرت صنمه.
__________
(1) جلاء العينين)) : ص69- 70، وانظر: ((ديوان الحلاج)) : ص59، ط 2، 1404 بغداد.
(2) جلاء الغينين)):ص 78، وانظر: ((ديوان ابن الفارض)): ص 35.
(3) جلاء العينين)) : ص 81-82.
(4) ديوان الحلاج :ص 77.(128/26)
وقال الصولي :جالست الحلاج فرأيت جاهلا يتغافل وغبيا يتباله وفاجرا يتزهد كان ظاهره النسك فإذا رأى أهل بلد يرون الاعتزال اعتزل أو التشيع تشيع أو التسنن تسنن وكان يعرف بالشعبذة والكيمياء والتطبب ،وادعى الربوبيه وصار يقول لأصحابه: أنت آدم أنت نوح ولهذا محمد ويدعي التناسخ وأن أرواح الأنبياء إليهم.
قال ابن الشحنة: وجدوه يقول من نظف بيتا وصلى فيه كذا وطاف به كذا وتصدق بكذا أغناه الله عن الحج. وقد أفتى العلماء بقتله فقتل لعنه الله.
وقال السامي في((تاريخ الصوفية)): الحلاج كافر خبيث.
وهتك الخطيب البغدادي ستره وبين حاله فقال: كان ساحرا سيء الاعتقاد وكان يعارض القرآن، وأفتى العلماء بقتله وكفره.
وكان يخبر الناس بما أكلوا وشربوا وصنعوا في بيوتهم ويتكلم ما في ضمائرهم وفتن كثيرا من الناس واعتقدوا فيه الحلول.وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من قال بولايته من عدة وجوه: الأول:أن أئمة الدين وفقهاء المسلمين اتفقوا على حل دم الحلاج وأمثاله.
الثاني: أن الإطلاع على أولياء الله تعالى لا يكون ممن يعرف طريق الولاية وهو الإيمان والتقوى ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يجتنب مقالة أهل الإلحاد كأهل الحلول والاتحاد فمن وافق لحلاج على مثل هذه المقالة لم يكن عارفا بالإيمان والتقوى فلا يكون عارفا بطر يق أولياء الله تعالى فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله سبحانه وغير هم .
الثالث :أن هذا القائل أخبر أنه يوافقه على مقالته فيكون من جنسه بشهادته له بالولاية كشهادة اليودي والنصراني لنفسه أنه على الحق وشهادة المرء لنفسه فيما لا يعلم فيه كذبه ولا صدقه مردودة.
فكيف تكون لنفسه ولطائفة الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم أهل الضلال؟
الرابع: أن يقال أما كون الحلاج عند الموت تاب فيما بينه وبين الله تعالى أولم يتب فهذا غيب يعلمه الله سبحانه منه.
(( زيارة القبور والتوسل))(128/27)
قال الصوفي: إن الوهابية يحرمون زيارة القبور ويقولون أن التوسل بأصحابها شرك مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور فما هو ردكم حول هذه المسألة؟
قلت:
نحن لا نحرم زيارة القبور مطلقاً ولا نجيزها مطلقاً، نحرم من جهة إذا كانت الزيارة شركية وبديعة ويقصد بها الزائر التوسل بأهل القبور ودعائهم.
أما إذا كانت الزيارة للاعتبار والاتعاظ بأهل القبور فنحن نقول بسنيتها ابتاعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((كنت نهيتكم عن بزيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة))، وفي أخرى، وفي أخرى: ((الموت)) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي: لما صعبت التكاليف على الجهلة الطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها وإلزامها لما نهى عنه الشرع من إيقاد السرج وتقبيلها وخطاب الموتى بقضاء الحاجات وإفاضة الطيب عليها وشد الرحال إليها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أم سؤال الميت والغائب نبياً كان أو غيره فهو من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين وهذا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فإن أحداً منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقضِ حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبور الأنبياء ولا الصلاة عندها(1).
__________
(1) مجموعة الرسائل النجدية)): (3/394- 395).(128/28)
قلت: كثير من الصوفية لا يدعون إلا الأموات يطلبون منهم أشد مما يطلبون من الله كطلب الرزق أو الأولاد أو الزواج أو النجاح والشفاء من الأمراض والأوجاع وهذا أمر واقع مشاهد فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولقد رأيت أحد هؤلاء المبتدعة وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالي المهمة يقول: دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق وذهبت إلى شيخي مصطفة النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الأولاد حتى رزقت بطفلين توأمين، فهل بعد هذا الشرك من شيء؟
ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون ويندفع عنهم الأعداء والبلاء، وأن السيدة نفسية خفيرة مصر والقاهرة والدسوقي والبدوي وهكذا، والشيخ عبد القادر قطب بغداد وخفيرها وفلان خفير الشام والحجاز ووضعوا لكل بلد خفراء، ولم يكن هذا معروفاً على عهد الصحابة والتابعين ولكن حدث بعدهم.
روى محمد بن الحسين الصوفي (325- 412هـ) أن أحمد بن العباس قال: خرجت من بغداد هارباً منها فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة فقال لي: من أين خرجت فقلت: من بغداد وهربت منها لما رأيت فيها الفساد خقت أن يخسف بأهلها، فقال: ارجع ولا تخف فإن فيها قبوراً أربعة من أولياء الله هم حصن لها من جميع البلايات. قلت: من هم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وبشر الحافي ومنصور بن عمار الواعظ فرجعت ولم أخرج. رواه أبو عبد الرحمن السلمي والسلمي تكلموا فيه وكان يضع الحديث(1).
وهذا الجنس ليس مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إباحة ولا ندباً ولا استحبه أحد من أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عنه كله ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ القبور مساجد فقال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً.
__________
(1) الرد على الأخنائي)) لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص53- 54 بتصرف.(128/29)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)) رواه أبو حاتم وغيره(1).
ولا ريب أن أهل البدع يحجون إلى قبور الأنبياء والصالحين ويزورونها زيارة غير شرعية لا يقصدون الدعاء لهم كالصلاة على جنائزهم، بل الزيارة عندهم والسفر لذلك من باب التعظيم والدعاء بهم وعندهم وطلب الحوائج منهم وغير ذلك مما يُقصد بعبادة الله تعالى(2).
يقول صلى الله عليه وسلم: ((من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر عمل بها إلى يوم القيامة)) رواه مسلم.
فنحن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونقتدي به وبسنته فلنا أجرنا واجر من تبعنا إلى يوم القيامة -إن شاء الله- وأنتم معشر الصوفية عليكم الوزر.
أما البدع فلم تكن من شرع الله تعالى ولم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) رواه البخاري.
فإن قيل الزائر في الحياة إنما أحبه لأن الله أحبه والمؤمنون يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين فيزورونهم ويزورون قبورهم.
نقول لهم: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات الدينية، وأنه أحب إلينا من أموالنا وأهلينا وأولادنا وأنفسنا والناس أجمعين. لأنه أولى بنا من أنفسنا يقول تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } . فحبه وطاعته وتعزيزه وتوقيره لا يختص بمكان دون مكان وزيارة قبره الشريف مشروعة ومسنونة.
__________
(1) المرجع السابق: ص61 -62.
(2) المرجع السابق: ص57.(128/30)
والمانعون للزيارة والتوسل إنما كفَّروا من كفَّروا لأجل عبادتهم لغير الله كدعائهم للأموات بحيث يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وكالذبح والنذر لهم والتوكل عليهم بعد تعريف الصواب والتنبيه عليه ولم يقولوا أن الناس هم مشركون في مجرد توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصالحين وفي مجرد زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم. هذا افتراء بحت وبهت محض إنما أشركوا بالتوسل والزيارة الذين يشتملان على عبادة غير الله من الدعاء والذبح والنذر، أما التوسل بتصديقه صلى الله عليه وسلم على الرسالة والإيمان بما جاء به وطاعته في أمره ونهيه ودعائه في حياته والتوسل بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزيارة الشرعية لا يمنعها أحد.
نعم التوسل بحق وشد الرحال لمجرد الزيارة منهم من يمنعه ومنهم من يجيزه، والصحيح أنها من البدع غير المكفرة ما لم يأتوا بمكفر(1).
((السواد الأعظم))
قال الصوفي: نحن السواد الأعظم وأنتم الوهابية قلة والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى في الحديث أن نكون مع السواد الأعظم فما هو قولكم في هذه المسألة؟
قلت:
إن كنتم تقصدون أن السواد الأعظم هم على الحق دائما فهذا من المحال لأن أهل الحق هم على الدوام الصفوة المختارة والقلة المباركة ابتداء من عهد نوح عليه السلام الذي لم يؤمن به إلا قليل وهم بلا شك أهل الحق والسواد الأعظم لم يؤمنوا وإنما كفروا وهم على الباطل بلا شك ومن قال غير ذلك فقد كفر.
وكذلك إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الرحمن كان المؤمنون به هم القلة. وموسى كليم الله، وعيسى روح الله، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعا قليلي الأتباع وأعداؤهم الكثرة فالسواد الأعظم دائما هم أهل الباطل وأهل الضلال.
__________
(1) صيانة الإنسان)): ص433.(128/31)
ولأن الأكثر قد يخطئ والأقل قد يصيب وأن الخير والرشد في الناس قليل والشر كثير والضلالة كثير، قال تعالى: { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } وقال سبحانه: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ،وقال تعالى: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، وقال تعالى: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ، وقال تعالى: { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } .
ففي كل هذه الآيات إشارة واضحة إلى قلة أهل الخير وكثرة الشر وأهله قال تعالى: { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا } ، وقال تعالى: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } ، وقال تعالى: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، وقد تكرر مثل هذه الآيات في قصص أنبياء الله نوح وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
فكيف يصح القول بإتباع السواد الأعظم أو جمهور الناس أو أكثريتهم اللهم إنه لا يقول هذا الكلام إلا من فقد عقله ودينه أولم يقرأ القرآن الكريم ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة تدبر وتمعن.
أما حديث ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم)) الذي رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه ففي سنده معان بن رفاعة وهو لين الحديث كثير الإرسال. وفيه أبو خلف الأعمى وهو متروك كذبه يحيى بن معين. قاله العلامة بشير السهسواني في(( صيانة الإنسان)) (1) .
__________
(1) صيانة الإنسان)) :ص 313.
وقال الألباني: ضعيف جدا دون الجملة الأولى فهي صحيحة أ.هـ انظر: (( ضعيف سنن ابن ماجة)) : ص 318ط المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى. ولا شك أن الإجماع حجة وهذا غير داخل في استدلال الصوفي فاستدلاله بالسواد الأعظم وقد تبين وهن دليله فبطلت حجته.(128/32)
فحديث السواد الأعظم ضعيف بل منكر على أقل الاحتمالات فلا يحتج به. والسواد الأعظم هم أتباع إمام المسلمين وهم جماعة الصحابة الكرام وهم الذين يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الحق والخير ولا عبرة بمن خالفهم.
قال الإمام أبو شامة في((الحوادث والبدع)) : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق وإتباعه وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم ولا نظر لكثرة أهل الباطل بعدهم.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي دلت على أن المتمسكين بحبل الله المتين وصراطه المستقيم هم الجماعة وهم الذين أمرنا بالتمسك بهم وعدم مفارقتهم.
فقول الصوفي: بأن أهل الشر والباطل والمبتدعة من المتصوفة هم السواد الأعظم وهم الجماعة وعلى غيرهم التمسك بهم.
والوهابية يتوسلون بالله ويخافون الله ويستغيثون بالله ويتوكلون عليه ويرجونه ويخشونه وينذرون ويذبحون له. يتوسلون ويستغيثون بالأموات وينذرون لهم ويحلفون بهم ويصفون الله بما لا يوصف.
فأهل الحق هم السواد الأعظم والجماعة المباركة وإن قلوا، وغيرهم على الباطل وإن كثروا والله ولي المؤمنين.
(( الحلف بغير الله))
قال الصوفي: الوهابية يقولون أن من حلف بغير الله تعالى كافر أو مشرك وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف بأبيه فقال الأعرابي أفلح وأبيه إن صدق فما قولكم بعد ذلك؟
قلت:
ليست الوهابية هي التي حرمت الحلف بغير الله تعالى، وإنما اتبعت في ذلك سنة رسول. حيث ورد النهي عن الحلف بغير الله في الأحاديث الصحيحة الصريحة نذكر منها ما يلي:(128/33)
(1) أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الله عنه كان غفي ركب يسير وكان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم قال: (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو لينذر))، وفي رواية أخرى: ((أو ليصمت))، وفي ثالثة: (( من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله)).
(2) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول قال: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) وفي رواية أخرى: (( فقد كفر)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وأبو داود وابن حبان وأحمد.
قال الحاكم: كل يمين يحلف بها دون الله شرك.
وقال كعب: إنكم تشركون في قول الرجل كلا وأبيك أو والكعبة أو حياتك وأشباه هذا، احلف بالله صادقا أو كذبا ولا تحلف بغيره. رواه ابن أبي الدنيا في(( الصمت)) وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو أحد أسمائه أو صفاته العلى ومنعوا الحلف بغيره تعالى.
قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى بالإجماع ولا إعتبار لقول بعض المتأخرين بأنه مكروه لأنه مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه عن ذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لئن أحلف بالله صادقا أو كذبا خير من أن أحلف بغيره صادقا فهذا يدل على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات.
فإن قال الصوفي فإن الله أقسم ببعض المخلوقات! فنقول: إن الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه للدلالة على قدرته ووحدانيته وألوهيته وملكه وغير ذلك من صفات كماله.
قال الشعبي رحمه الله تعالى: للخالق أن يقسم من خلقه ولا يقسم المخلوق إلا بالخالق ولأن أقسم بالله فأحنث خير إلى من أقسم بغيره فأبر.
وقال مطرف بن عبد الله رحمه الله: ‘نما أقسم الله بهذه المخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ودلالتها عند الخالق.(128/34)
أما قول الصوفي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف بأبيه، وأن الله قال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) فيدل على جواز الحلف بغير الله تعالى.
قلت هذه اللفظة(( وأبيه)) فيها أقوال:
(1) قال ابن عبد البر رحمه الله: هذه اللفظة منكرة وغير محفوظة وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر(( أفلح والله إن صدق)) وهي أولى من رواية(( أفلح وأبيه))؛ لأن الآثار تدل على ردها ولم تقع برواية مالك أصلا.
(2) وقال غيره: إنها مصحفة عن قوله أفلح والله فحذف لفظ الجلالة وصحف بلفظ وأبيه.
(3) إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم بدون قصد القسم به.ذكره البيهقي وارتضاه سفيان الثوري رحمهما الله تعالى.
(4) إن أراد به التعظيم فهو مني عنه وإن أراد به التأكيد فلا بأس به فهو جائز وهذا بعيد عن الصواب؛ لأن الحلف بغير الله ورد النهي عنه مطلقا بدون تفريق قصد التعظيم أو غيره يؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حلف مرة باللت والعزى ساهيا أو ناسيا فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإن جرى على لسانه دون قصد الحلف أو ناسيا أو مخطئا فهو الذي عفي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).
(5) قال المارودي والسهيلي وعليه أكثر الشراح وأيده ابن العربي المالكي أن الحلف بالآباء كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وروي أنه كان ليعه الصلاة والسلام كان يحلف بأبيه حتى نهي عنه.
وهذا القول الأخير هو الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن الحلف بالآباء شائعاً في الجاهلية وصدر الإسلام كالعادات الأخرى مثل شرب الخمر فنهى الإسلام عن هذه العادات بالتدرج ومنها الحلف بغير الله للأدلة المتقدمة كحديث عمر وابن عمر وسعد بن أبي وقاص لما حلف باللات والعزى فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: ((قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم أنفث عن يسارك ثلاثاً ثم تعوذ ولا تعد)) رواه البخاري وابن ماجه.(128/35)
وقال المجوزون أيضاً: إن الملائكة حلفت بحياة لوط عليه السلام فقالوا: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) فهو دليل على جواز حلف المخلوق بالمخلوق. فهذا الكلام غير صحيح. قال ابن العربي وابن أبي الجوزاء والشوكاني وأجمع عليه المفسرون: بأن الله سبحانه حلف بحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وليست الملائكة. واستدلوا أيضاً بأن الله حلف بحياة محمد أو لوط عليهما الصلاة والسلام وقلنا -كما سبق- إن الله عز وجل له أن يحلف بما شاء من مخلوقاته.
أما حكم من حلف بغير الله فنقول:
((الحلف بغير الله شرك أصغر إلا إذا اقترن مع الحلف تعظيم للمحلوف به كتعظيم الله وإجلاله كإجلال الله والرغبة والرهبة إليه ومنه فهو شرك أكبر مخرج من الملة)).
فهذا قولنا وهذه أدلتنا حول الحلف بغير الله تعالى ومن أصر على رأيه وجوز الحلف بغير الله فقد بطل سعيه وحبط عمله ولا يضرنا من خالفنا حتى يأتي أمر الله.
أما ما يفعله عبَّاد القبور من الصوفية -اليوم- إذا طلبت منهم اليمين بالله أعطوك ما تريد صدقاً أو كذباً وإذا طلبت منهم اليمين بالشيخ أو الولي أو النبي وصاحب القبر لم يقدم عليه كاذباً أبداً فماذا يقول بعد ذلك الصوفية أعاذنا الله من الجدال في الباطل وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
((مخالفة سليمان بن عبد الوهاب))
قال الصوفي: إن محمد بن عبد الوهاب خالفه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ورد عليه في كتاب سماه ((الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)) وهذا دليل على أن ابن عبد الوهاب قد خرج عن الحق؟!
قلت:(128/36)
رغم أن الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قد رجع عن ضلالته وعن محاربته للدعوة السلفية وألَّف في ذلك بعض الرسائل رغم هذا فإنه لا يضر دعوة التوحيد ودعاتها وبخاصة الإمام محمد بن عبد الوهاب ولنا في أهل الحق أسوة حسنة فنوح عليه السلام أو رسل الله حاربه ابنه وزوجته، وإبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام حاربه أبوه وخالفه، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حاربه عمه أبو لهب وأبناء عمومته من قريش. فهل ضرَّ هؤلاء المعاندون دعوات التوحيد على مرِّ التاريخ؟! اللهم لا وإنما انتصر الحق والعاقبة للتقوى.
رسالة للشيخ
عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب
اختصرها من رسالة لأبيه الشيخ الإمام رحمهما الله تعالى
وللحق أبين رسالة مهمة للشيخ العلامة عبد الله ابن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى يبين فيها سيرة أبيه وما عليه أتباعه من الحق ومحبة دعوة التوحيد.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
((إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد ولا ننكر على من قلد الأئمة الأربعة دوت غيرهم لعدم ضبط مذاهب غيرهم كالرافضة والزيدية والإمامية فلا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد يدعيها لدينا إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نهي جلي من كتاب الله أو سنّة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والأخوة فإنا نتقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه.(128/37)
وإذا اطلعنا على نهي جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة والاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم للنص وإن خالف المذهب وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من علماء المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن اجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي وكذلك البيضاوي والبغوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم. وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصاً الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً وجميع علم الأمة. ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما توقع الناس في الكفر كروض الرياحين أو يحصل بسببه خلل في العقائد كعلوم المنطق فإنه قد حرمه كثير من العلماء على أنا لا نفحص على مثل ذلك وكالدلائل إلا إن تظاهر به صاحبه معانداً أتلف عليه, وما اتفق لبعض البدوان في إتلاف كتب أهل الطائف إنما صدر لجهله وقد زجر هو وغيره عن مثل ذلك.(128/38)
ولا نرى قتل النساء والأطفال وأما ما يكذب علينا ستراً للحق وتلبيساً على الخلق بأنا نقرأ القرآن لرأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شروح ولا نعول على شيخ وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه وليس له شفاعة وأن زيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه (فاعلم أنه لا إله إلا الله) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد أقوال العلماء ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل وأنا مجسمة وأنا نكفر الناس على الإطلاق ومن بعد الست المائة إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقط عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم وأنا نجبر على تزويج غير الكفؤ لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً على مرافعة لدينا ولا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً ما كان جوابنا عليه في كل مسألة من ذلك إلا ((سبحانك هذا بهتان عظيم)) فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا ورأى مجلسنا وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه جماهير أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كالقتل للمسلم بغير حق والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر ذلك منه لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحداً لله في جميع أنواع العبادة.(128/39)
والذي نعتقده في مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنها أعلى مراتب المخلوقات على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل إذ هو أفضل منهم بلا ريب وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته في الاشتغال بالصلاة عليه الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه كما جاء في الحديث))(1) أهـ.
فعقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وابن المبارك والبخاري وابن تيمية وابن القيم والذهبي وسواهم كثير
ويؤمن بتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات ويبرأ من كل ما يتعارض معها.
والإيمان بالله وملائكته والرسل والكتب واليوم الآخر والبعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار.
ويؤمن بالقدر خيره وشره ويبرأ مما قالته القدرية والنفاة والمجبرة والمرجئة ويوالي الصحابة الكرام وأهل البيت ويسكت عما شجر بيتهم ويعتقد بأفضلية أبي بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنه أجمعين.
ويوالي كافة علماء الإسلام من أهل الفقه والحديث والتفسير والزهد والعبادة لاسيما الأئمة الأربعة إلا من طعن في عقيدته ودينه أمثال الرافضة والإمامية (2)
يقول الشيخ الإمام رحمه الله تعالى:إني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم الدين. لكني بينت للناس إخلاص الدين ونهيتهم عن دعوة الأحياء الغائبين والأموات من الصالحين وغيرهم (3)
__________
(1) صيانة الإنسان)): ص483-484.
(2) الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية)): ص 15- 33 بتصرف.
(3) صيانة الإنسان)): ص 483.(128/40)
نبذة مختصرة من حياة الشيخ الإمام
ومن أثنى عليه من العلماء
ولد رحمه الله سنة 1115هـ وتوفي سنة 1206هـ نشأ في بيت علم ودين حيث كان أبوه رحمه الله قاضي مدينة العيينة وجده معروف بالفقه والقضاء والصلاح في بلاد نجد وكان والده يجد فيه حدة في الذكاء حتى إنه زوجه صغيرا ووجده أهلا للإمامة فقدمه للصلاة إماما.
طلب العلم على كبار علماء وقته ورحل في طلب العلم إلى مكة والمدينة والبصرة وبغداد.
درس الفقه والتفسير على والده وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. ثم قصد المدينة للصلاة في المسجد النبوي وطلب العلم.
فأخذ العلم عن شيوخها الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي نزيل المدينة المنورة ومحمد بن حياة السندي وعلي أفندي الداغستاني وإسماعيل العجلوني وعبد اللطيف الإحسائي العفالقي ومحمد الإحسائي الفالقي وانتفع بهؤلاء الشيوخ. ثم سافر إلى البصرة والزبير وأخذ العلم عن شيخها محمد المجموعي ولاقى كثيرا من الأذى من أهل البصرة. ثم سافر إلى الإحساء وانتفع بعلم شيوخها ودرس على شيخها عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي ثم توجه إلى حريملاء لأن والده انتقل إليها ثم لازم أباه فاشتغل عليه بعلمي التفسير والحديث وعكف على كتب شيخ الإسلام وتلميذه.
لقد شاهد الشيخ الإمام حالة نجد الدينية والسياسية فرأى المنكرات الأثيمة والشركيات القبيحة والاسسستغاثات المتواصلة بالأنبياء والصالحين.(128/41)
فلقد كانت نجد مرتعا للخرافات والعقائد الفاسدة التي تنافي أصول القيدة الصحيحة فقد كانت كثير من القبور تنسب لبعض الصحابة يحج الناس إليها ويستغيثون بأصحابها. بل الأغرب من ذلك أن في بلدة منفوحة فحل نخل يعتقد العوام فيه تحقيق أمانيهم فالتي لم تتزوج تذهب إليه فتقول:يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول.وكذلك التي لم تحمل وهكذا والحالة أسوأ في الحجاز فالناس يقصدون قبور الصحابة وأهل البيت والصالحين وأعطوهم ما كان لله من صفات. كذلك الحال في العراق والشام ومصر واليمن وسواها فيها جاهلية ووثنية لا يتصورها العقل ولا يقرها الشرع. وحالة نجد والحجاز السياسية كانت سيئة كذلك فقد تمزقت الجزيرة إلى إمارات متناحرة ومقسمة،القوي يأكل الضعيف فآل معمر في العيينة وبنو خالد في الإحساء والأشراف في الحجاز وغيرهم لا يعبا بهم.
بعد أن تأكد الشيخ الإمام الحالة هذه ورأى سكوت العلماء في نجد والحجاز على المنكرات والبدع سارع الشيخ بإعلان دعوة التوحيد من بلدة حريملاء وبين لهم أنه لا يدعى إلا الله ولا يذبح ولا ينذر إلا لله وبين لهم بطلان عقيدة القبور والاستغاثة والتوسل بهم وأمرهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال لكن العاقبة كانت له ولأتباعه الموحدين (1) .
وعلى الرغم من أن المناطق المحاطة بنجد قد دخلت تحت الإدارة العثمانية غير أن نجدا لم تشهد نفوذا مباشرا للعثمانيين قبل دعوة الشيخ الإمام.
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته الإصلاحية)): ص 9- 11.(128/42)
والأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية متردية في الجزيرة العربية كما مر في القرن الثاني عشر الهجري حتى ظهر المصلح الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب ونجد مقسمة إلى إمارات صغيرة لا يعترف بعضهم ببعض ولا بسلطة آل عثمان والمجتمع النجدي مجتمع عربي قبلي تقوم حيلته على الصراع وكان شيوخ القبائل يحكمون نجدا، والحياة الاقتصادية كانت تقوم على تربية الموشي والزراعة والتجارة والاتصال بين أجزاء الجزيرة والبلاد المحيطة بها قريبا (1) .
والأوضاع الثقافية في الجزيرة كانت أسوأ فقد عم الجهل والأمية أنحاء نجد ولا يوجد دراسات شاملة ومنظمة وإن وجد بعض الذين يعرفون القراءة والكتابة وبعض العلماء الذين يدرسون العلوم الإسلامية من الكتاب والسنة والفقه وخاصة الفقه الحنبلي لأن المذهب الحنبلي وجد أرضا خصبة في أرض نجد فهو أقرب المذاهب الإسلامية إلى نصوص الكتاب والسنة (2) .
__________
(1) لمع الشهاب)): ص 59.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص 9.(128/43)
وأدى جهل الناس بدينهم إلى انحراف في العقيدة ودخل كثير من الشر كيات في حياة الناس العقائدية والتعبدية وفشا الشرك في نجد والحجاز وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها والاستغاثة بأصحابها والاستعاذة بالجن والذبح ووضع الطعام لهم وجعله في زاوية البيوت لشفاء المرضى ونفعهم ودفع الضر عنهم وكثر الحلف بغير الله والتوسل والاستغاثة بغيره تعالى واشتهار السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وغلب الإقبال على الدنيا وشهواتها وقلت المساجد من أهلها وانتشر الفساد والمفسدون في كل مكان فلا بد من مصلح يجدد أمر هذه الأمة. في هذه الظروف ولد الشيخ الإمام وحفظ القرآن الكريم دستور الأمة الخالد وعمره عشر سنوات عن ظهر قلب ودرس الفقه والتفسير والحديث ولما بلغ زوجه والده ثم حج بيت الله الحرام ثم توجه لزيارة المسجد النبوي الشريف الذي تشد الرحال إليه وتشرف بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم درس على علماء المدينة كما تقدم(1).
بعد أن توفي والد الشيخ سنة 1153هـ ظهرت دعوته وتبعه الناس من أهل بلده ثم أنتقل إلى العينية التي كان أميرها عثمان بن محمد بن معمر فتلقاه بالإكرام وزوجه ابنته واقتنع بدعوته فأعلن الشيخ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوحيد الله وتطهير العقائد من مظاهر الشرك واقتلع أشجارا تعظم فيها وهدم قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه ولم يصب بأي أذى كما توقع العوام(2).
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص10.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص 2.(128/44)
ولما وصل الأمر بالشيخ إلى تطبيق حد الزنا عظم أمره وانتشرت أخباره فوصل أمره إلى أمير الإحساء والقطيف فكتب إلى عثمان بن حمد بن معمر يأمره بقتل الشيخ فرأى عثمان إخراج الشيخ لأنه لا طاقة له بقتال أمير الإحساء والقطيف. فخرج سنة 1158هـ إلى الدرعية وقصد بيت محمد بن سويلم العريني وكان أمير الدرعية محمد بن سعود فنصره وتبعه وبايعه على النصرة لدين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أن استقر الإمام في الدرعية تسلل إليه أبتاعه الذين كانوا معه في العيينة والأماكن الأخرى وتحولت الدرعية إلى قاعدة مهمة لدعوة الشيخ، انطلق منه الدعاة لنشر المبادئ التي دعا إليها جميعاً، وفي سبيل الله لنشر تلك المبادئ خاض الأمير محمد بن سعود رحمه الله حروباً ضارية مع كثير من القبائل وضحى في سبيل الله بأمواله ورجاله وأولاده وأقاربه.
وكان الشيخ الإمام هو الموجه لتلك الحركة المباركة وكانت الجيوش تنطلق بمشورته وأمره. وبجانب ذلك فإن الشيخ الإمام قام بتوجيه الرسائل أو إلقاء الدروس الخاصة والعامة(1).
وكان لعمره الطويل رحمه الله تأثيراً كبيراً في ترسيخ المعاني والمبادئ والأفكار الإصلاحية التي دعا إليها وظل على ذلك إلى وفاته سنة 1206هـ(2).
__________
(1) تاريخ المملكة العربية السعودية)): ص36-38.
(2) عنوان المجد في تاريخ نجد)): ص109.(128/45)
وكان رحمه الله عميق الإيمان شديد الحماس لنصرة الإسلام كثير الذكر لله سبحانه لا يفتر لسانه من قول ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) وأعاد للإسلام هيبته بعد أن كان غريباً ونصر السنة وقمع البدعة ونشر راية الجهاد وعرف التوحيد الصغير والكبير واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام، وكانت ثقافته تعتمد على الكتاب والسنة والفقه الإسلامي وبخاصة الحنبلي وتأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. واستفاد من رحلاته المتعددة.
((مواقف العلماء من دعوة الشيخ رحمه الله))
جُوبه الشيخ الإمام بمعارضة شديدة من علماء زمانه أهل البدع وحاربوا دعوته خاصة في مسائل الشرك التي دعا لنبذها وكان العلماء تجاهه على أقسام:
قسم يرون الحق باطلاً والباطل حقا ويعتقدون أن البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها ودعائها من دون الله والاستغاثة بها وما أشبه ذلك، يعتبرونه ديناً وهدى ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين وأبغض أولياء الله.
قسم آخر يجهلون حقيقة الشيخ ولم يعرفوا دعوته بل قلدوا غيرهم وصدقوهم وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه للشيخ من بغض الأولياء ومعاداتهم وإنكار كراماتهم فذموا الشيخ ودعوته ونفَّروا الناس منه.
قسم آخر خافوا على مناصبهم ومراتبهم فعادوه لأجل ذلك لكي لا تذهب عنهم مناصبهم ومراتبهم وهؤلاء كثرة(1).
وظهر علماء أجلاء رحبوا بدعوته ودعوا الناس إليها وأثنوا على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.
نذكر منهم على سبيل الاختصار:
1- الإمام محمد بن علي الشوكاني المفسر الكبير والعالم الشهير صاحب ((فتح القدير)) و((نيل الأوطار)) وقد رثى الشيخ بقصيدة طويلة لما سمع بموته.
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب ودعوته)): ص50.(128/46)
2- الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب التصانيف المعروفة ومنها: ((سب السلام)) وقد مدحه بقصيدة طويلة كذلك(1).
وكذلك قد اجتمع فريق من علماء الشام ومصر في الحج والتقوا بعلماء الدعوة في عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الكبير -رحمهم الله- ودار نقاش بين الفريقين انتهت باقتناع العلماء بدعوة الشيخ وأنه على الحق فيما دعا إليه(2).
3- محمد بن أحمد الحفظي رثاه بقصيدة طويلة.
4- حسين بن غنام الإحسائي صاحب ((روضة الأفكار)) رثاه بقصيدة.
5- عمران بن علي بن رضوان من البلاد الفارسية رثاه بقصيدة.
6- أحمد بن مشرف الإحسائي رثاه بقصيدة.
7- علامة العراق محمود شكري الألوسي في ((تاريخ نجد)).
8- الأمير شكيب أرسلان في ((حاضر العالم الإسلامي)).
9- محمد حامد الفقي في ((أثر الدعوة الوهابية)).
10- عبد المتعال الصعيدي في كتابه ((المجددون)).
11- محمد رشيد رضا في رسائله وكتبه.
12- أحمد عبد الغفور الحجازي في كتابه ((محمد بن عبد الوهاب)).
13- محمد بهجت الأثري علامة العراق في كتابه ((محمد بن عبد الوهاب)).
14- طه حسين وحافظ وهبة في كتاب ((جزيرة العرب)).
15- محمد قاسم في ((تاريخ أوربا)).
16- منح هارون في رده على الكاتب الإنكليزي كونت ويلز.
17- عمر أبو النصر في كتابه ((ابن سعود)).
18- محمد كرد علي في كتابه ((القديم والحديث)).
19- أحمد بن سعيد البغدادي في كتابه ((نديم الأديب)).
20- الزر كلي في ((الأعلام)).
21- محمد عبد الله ماضي في كتابه((حاضر العالم الإسلامي)).
22- محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي.
23- عبد الكريم الخطيب في كتابة((محمد بن عبد الوهاب الفكر الحر)).
24- محمد بشير السهواني الهندي رحمه الله في ((صيانة الإنسان )).
25- محمد جميل بيهم في كتابة ((الحلقة المفقودة في تاريخ العرب )).
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب سيرته ودعوته)): ص34.
(2) الوهابية حركة الفكر)): ص13.(128/47)
26- الدكتور نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي في ((ترجمة القرن التاسع عشر الميلادي)).
27- مصطفى الحفناوي في كتابه((ابن سعود سياسته وحروبه)).
28- عادل زعيتر في ((ترجمة تاريخ العرب )).
29- على الطتطاوي في كتاب ((محمد بن عبد الوهاب)).
30-أبو السمع الظاهري من علماء مصر- في قصيدة.
31- أحمد حسين في كتاب ((مشاهداتي في جزيرة العرب)).
32- محمد عبده في كتاب ((50عاما في جزيرة العرب)).
33- وسماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله في كتبه ورسائله.وأيضا علماء نجد الأعلام.
34- الشيخ أحمد بن علي بن حجر آل أبو طامي البنعلي القطري في كتبه ورسائله وبخاصة كتابه: ((محمد عبد الوهاب دعوته الإصلاحية )).
وهناك أعداد كبيرة من العلماء الأجلاء الذين أثنوا على الشيخ ودعوته المباركة نسأل الله أن يبارك في دعاتها وفيها ويرحم من دعا إليها (1) .
((اتهام الحركة بالعنف والرد عليه ))
إن حركة الشيخ الإمام لم تتصف بالعنف على الإطلاق بل كانت تتسم بالحكمة والموعظة الحسنة وبالدليل القائم على الكتاب والسنة وكان الشيخ وأتباعه يقومون بمجرد الدفاع عن العقيدة ومن يقف في وجهها.
قال الشيخ رحمه الله في رسالة له للعالم العراقي عبد الرحمن السويدي:
((أما القتال فلم نقاتل أحد إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتوا ديارنا. ولكن نقاتل على سبيل المقابلة بالمثل وجزاء سيئة سيئة مثلها لأن منطق تطور الأحداث يؤدي إلى هذا.
لأن الشيخ رحمه الله دعا إلى تطهير الاعتقاد والدعوة إليه وعندما غدت الدرعية قاعدة للحركة الإصلاحية اتخذ كثير من شيوخ القبائل موقفا معاديا منها أدت إلى شن هجمات على الحركة ودعاتها))(2) .
أهم مؤلفات الشيخ :
((كتاب التوحيد )) ألفه في أول حياته.
(( كشف الشبهات )) .
__________
(1) يراجع كتاب (( محمد بن عبد الوهاب دعوته الإصلاحية )) للشيخ آل أبو طامي.
(2) محمد بن عبد الوهاب )) :ص67.(128/48)
(( مسائل الجاهلية )) .
(( أصول الإيمان )) .
((فضائل الإسلام )).
(( مختصر السيرة )) و((كتاب الأحكام والفتن ))و((مختصر زاد المعاد)).
((نصيحة المسلمين )) و((ثلاث عشرة رسالة في التوحيد والإيمان )) وغيرها.
((أهم ما دعا إليه الشيخ الإمام ))
العودة إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما.
العودة إلى التوحيد الخالص ونبذ ما سواه.
توحيد الله في أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
توحيد الألوهية والربوبية.
إنكار البدع في عقائد المسلمين.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إقامة الصلوات والحث على أداتها في أوقاتها.
نبذ التعصب المذهبي الذي يبلغ ممداه في القرون الأخيرة
حب الصحابة وأهل البيت وإنزال كل منهم في مكانه رضي الله عنهم أجمعين.
لقد استطاع الشيخ الإمام بحركته المباركة ودعوته التوحيدية إلى نشر التوحيد الخالص من الشرك في أرجاء المعمورة وأنقذ المسلمين من البدع والجهل والخرافة التي كانت تكدر صفاء العقيدة وجدد مدرسة الكتاب والسنة التي دعا إليها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وتبعه شيخ الإسلام أحمد بن تيميه وتلميذه ابن القيم رحمه الله.
وأفهم أتباعه والناس أجمعين حقيقة التوحيد ومفاسد الشرك وقضى على المشاهد والمزارات والقبور المزخرفة التي عبدت من دون الله.
فكلما دخل الشيخ مدينة أو بلدة أقام فيها المساجد ورتب فيها الدروس في التوحيد والحديث والتفسير والفقه وشرائع الإسلام، وحلت بركة دعوته بلاد المسلمين فوصلت الهند والعراق ومصر والشام وأفريقيا وآسيا وأندونيسيا وماليزيا ولم يبق بلدة من بلاد المسلمين إلا وفيه تلاميذ وأتباع للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعاة للتوحيد .(128/49)
ونرى تأثير الحركة واضحا الآن في اتجاه الفكر الإسلامي المعاصر فالمفكرون والمصلحون الإسلاميون الذين ظهروا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين قد فهموا جميعا العقيدة في إتجاه مذهب السلف الصالح وتركوا التعصب المذهبي ودعوا إلى تركه.وصياغة فقه إسلامي مقارن واتخاذ منطلق للاجتهاد ا ت الفقهية الجديدة. وكانت المناطق التي تحت حكم الإصلاح من دعاة وأمراء في وضع ينعم بالأرض والأمان والاطمئنان والقضاء على الظلم والفساد. والجميع آمنون على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وهذه هي المملكة العربية السعودية تنعم بالأمان والاطمئنان في ظل دعوة التوحيد وتطبيق شرع الله. ثم ببركة دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب واعتناق الأسرة المباركة له ولدعوته واحتضان الداعين إليها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المصادر
القرآن الكريم.
كتب الحديث: البخاري ومسلم والسنن الأربعة وموطأ مالك ومسند أحمد.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب))، عبد الله الصالح العثيمين، ط النهضة بمصر.
((لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب))،د. مصطفى أبو حاكمة.
((تاريخ المملكة ))، صلاح الدين المختار، ط 1 بيروت 1376 هـ.
((عنوان المجد في تاريخ نجد))، عثمان بن بشر، ط 3 الرياض 1385هـ
((محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته))، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ط 2 الرياض 1389هـ.
(( الوهابية حركة الفكر))، عبد الرحمان بن سليمان الر و يشد، ط القاهرة 1397هـ.
((سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أمين سعيد، ط 1بيروت 1384هـ.
((الجامع الفريد ))، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ط 2 جدة.
((الهدية السنية في التحفة الوهابية))،سليمان النجدي، مكة 1393هـ.
((صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان))، محمد بشير السهسواني،.
ط 4، الرياض 1386هـ.
((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد))، الشيخ عبد الرحمان بن حسن آل الشيخ ،ط 7، القاهرة 1377هـ.(128/50)
((قادة الفكر الإسلامي عبر القرون))،عبد الله بن سعد الر و يشد، ط الحلبي ، القاهرة .
15- ((قرة عيون الموحدين))، الشيخ عبد الرحمان بن حسن آل الشيخ، دار الإفتاء،1404هـ.
16- ((محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم))،مسعود الند و ي،ط 1371هـ.
17- ((جزيرة العرب في القرن العشرين))، حافظ وهبة.
18- ((أثر الدعوة الوهابية))، محمد حامد الفقي .
19- ((البدر الطالع))، الإمام محمد بن على الشوكاني،.
20- ((الدار النضيد))، الإمام محمد بن على الشوكاني،مصر 1343هـ.
21- ((التحف في مذاهب السلف))، الإمام محمد بن علي الشوكاني، ط الجامعة الإسلامية.
22- (( التنبيهات اللطيفة))، الشيخان عبد الرحمان السعدي وعبد العزيز بن باز.
23-((الفقه الأكبر))، الإمام أبو حنيفة.
24-((المغني))، ابن قد امة الحنبلي.
25- ((شرح العقيدة الطحاوية ))، أبو جعفر الطحاوي الحنفي.
26- ((فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه))، جمع الشيخ عبد الرحمان القاسم وابنه محمد.
27-((التصوف والطريق إليه))،عبد الرزاق نوفل.
28-((سواد العين في مناقب الرفاعي))،.
29- ((حجج الدراويش)).
30-((مدائح الطريقتين القادرية والرفاعية))، لمجموعة من الصوفية.
31-((المجالس الرفاعية))، محمود فاضل السامرائي.
32-((الشيخ محمد بن عبد الوهاب))، الشيخ أحمد بن حجر آل أبوطامي.
33-((الرد على الأخنائي))، شيخ الإسلام ابن تيمية.
34-((حاشية ابن عابدين))، ابن عابدين.
35-(( إعلام الموقعين))، ابن القيم.
36-(( الجامع للإحكام))، ابن عبد البر .
37-((أصول الأحكام))، ابن حزم.
38-(( الفتاوي))، الإمام البسكي.
39-(( الروض الفائق ))،الحريفيش ط المكتبة العلامية- قديمة .
40-الرسائل النجدية ))،الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ،ط دار المنار مصر.
41- ((فقه السنة))،الشيخ سيد سابق.
42- ((جلاء العين في محكمة الأحمدين ))، نعمان شكري الأاوي القاهرة 1381هـ.
43-إلى التصوف يا عباد الله ))،الشيخ أبو بكر الجزائري ط 1404هـ.(128/51)
الفهرس
الموضوع
* الإهداء…
* كلمة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ…
* مقدمة المشرف على الطباعة ، ومقدمة المؤلف…
* أهم الطرق الصوفية في العراق…
* قبل بدء الحوار نصيحة ورجاء…
* بدء الحوار…
* الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم…
* كتب الموالد…
* المولد النبوي …
* الوهابية والأولياء…
* حال بعض كبار المتصوفة وحقيقة تآليفهم…
* زيارة القبور والتوسل…
* السواد الأعظم…
* الحلف بغير الله…
* مخالفة سليمان بن عبد الوهاب…
* رسالة للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب اختصرها من رسالة لأبية الإمام رحمهما الله تعالى …
* نبذة مختصرة عن حياة الشيخ الإمام ومن أثنى عليه من العلماء …
* موقف العلماء من دعوة الشيخ رحمه الله…
* اتهام الحركة بالعنف والرد عليه…
* أهم ما دعا إليه الشيخ الإمام…
* المصادر…(128/52)
حوار مع المالكي
في
رد ضلالاته ومنكراته
تأليف
عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
وعضو هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
الطبعة الرابعة
1404هـ - 1983م
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واهتدى بهداه ، أما بعد :(129/1)
فقد اطلعت على أمور منكرة في كتب أصدرها محمد علوي مالكي ، وفي مقدمتها كتابه الذميم الذي سماه ( الذخائر المحمدية ) . من تلك الأمور نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفات هي من خصائص الله سبحانه وتعالى ، كقوله: بأن لرسول الله مقاليد السموات والأرض ، وأن له أن يقطع أرض الجنة ، ويعلم الغيب والروح والأمور الخمسة التي اختص الله تعالى بعلمها ، وأن الخلق خلقوا لأجله ، وأن ليلة مولوده أفضل من ليلة القدر ، وأنه لا شيئ إلا وهو به منوط يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك إقراره قصائد نقلها في الذخائر مشتملة على الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والاستجارة به ، وأن إليه الفزع عند الكروب ، وأنه إذا لم يستجب فإلى أين يفزع المكروب ، وأشياء أخرى مما جاء استعراض بعضها في هذا الكتاب الذي ألفه صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن سليمان بن منيع أحد قضاة محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضو هيئة كبار العلماء المسمى ( حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالاته ) والذي يسرني التقديم له . وقد ساءني كثيراً وقوع هذه المنكرات الشنيعة والتي بعضها كفر بواح من محمد علوي المذكور ، كما أثار بما نشره في كتبه من ضلالات وشركيات وبدع منكرة كثيراً من أهل العلم وفي مقدمتهم هيئة كبار العلماء حيث أصدروا قرارهم رقم 86 وتاريخ 11 / 11 / 1401 هـ باستنكار ما اتجه إليه المذكور من الدعوة إلى الشرك بالله سبحانه والدعوة إلى البدع والمنكرات والضلالات والبعد عما عليه سلف هذه الأمة من سلامة العقيدة وصدق العبودية لله تعالى في ألوهيته وربوبيته وكمال ذاته وصفاته . ولم يكن في نيتي الاكتفاء بالاشتراك مع زملائي أعضاء هيئة كبار العلماء في إصدراهم القرار المستنكر ما عليه المذكور من سوء المعتقد وخبث الاتجاه فقد كنت عازماً على تتبع أغلاطه ومنكراته والرد عليها بما ندين الله به من عقيدة ، مستمدين ذلك من كتاب الله تعالى وسنة(129/2)
رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد أن اطلعت على مؤلف الشيخ عبدالله ابن منيع المذكور حمدت الله تعالى أن وفق فضيلته للرد على هذا المبتدع الضال ، واكتفيت بذلك عن الرد على المذكور ، حيث إن فضيلة الشيخ عبدالله قد أتى بالكثير مما في نفسي ، فقابل الحجة بالحجة الدامغة والدليل القاطع ، وبيّن للناس ما عليه المذكور من سوء عقيدة وخبث اتجاه وبُعد عن الحق والصواب ، فجزاه الله خيراً عن غيرته الإسلامية ، وإنكاره المنكر وكشفه شبه أهل الضلال بالبراهين الساطعة والحجج النيرة من كتاب الله المبين وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم .
وقد جاء كتابه المذكور بحمد الله شافياً كافياً مقنعاً لطالب الحق ، لوضوح أدلته وحسن أسلوبه وإنصافه لخصمه على ضوء الكتاب والسنة ، فأجزل الله مثوبته وزاده من العلم والهدى ، وجعلنا وإياه من أنصار الحق والدعاة إليه على بصيرة إنه سميع قريب ، كما نسأله سبحانه أن يهدي محمد علوي مالكي إلى الصواب وأن يرده إلى رشده ويمن علينا وعليه بالتوبة النصوح ، إنه جواد كريم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الرئيس العام
لإدارات البحوث والعلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
تقديم وإعذار
~~~~~
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وكمال ذاته وصفاته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين وقائد الغر المحجّلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً وبعد :(129/3)
فكم يعزعلينا أن نستثقل نسبة أوصاف التكريم والتقدير لرجل كان أمل الاستقامة والصلاح وسلامة المعتقد ، لنشأته في بيئة ذهب عن كثير من أهلها أدران البدع ومظاهر المنكرات وتدرجه في المراحل الدراسية حتى النهائية ، إلا أنه مع الأسف بعد أن شب عن الطوق ووصل إلى درجة يفترض أنها بداية النضج الفكري ; أخذ ينحدر في فكره وعلمه ومعتقده ونوع اتجاهه إلى حال من السخافة وسوء المعتقد والدعوة إلى الذرائع الموصلة إلى الوثنية والجاهلية بما يقوله بلسانه ويكتبه بقلمه ويقرره في مجالس تعليمه ، وبما ينشره هذه الأيام من مؤلفات فيها الأثم وسوء المعتقد ، تدعو حالها إلى اعتباره في طليعة الدعاة إلى البدع والخرافات والشرك بالله في ألوهيته وربوبيته ; كما يتضح ذلك من المقتطفات الآتي نقلها قريباً من كتابه " الذخائر المحمدية " .
ذلك الرجل هو من نستكثر عليه أوصاف الفضيلة والمكانة العلمية الراقية ، ونكتفي بدعوته محمد علوي مالكي . ذلك الرجل الذي آثر ممن غرر بهم وأضلهم وأعماهم لحسهم يده وركوعهم له ، وتبركهم بآثاره وأعضائه وملابسه ; آثر ذلك على الدعوة إلى الله دعوة إسلامية نقيّة صافية متمحضة عن سلامة العقيدة وصفاء الطوية والاقتداء بالسلف الصالح من القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان .
لقد تتابعت سموم هذا الضال المضل على العقيدة السلفية بما ينشره من مؤلفات أطمها وأغمها وأكثرها بلاء ومقتاً وفحشاً كتابه " الذخائر المحمدية " ، وآخرها فيما علمنا أن يكون آخرها في مجال الدعوة إلى البدع والضلالات رسالته البتراء المسماة " حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف " ، وهي رسالة تشتمل على الكثير من المغالطات والتلبيسات والتشبيه على العقول ، يتضح ذلك من مناقشتها والرد عليها .(129/4)
لقد كنت في شهري جمادى وشهر رجب من عام 1402هـ في إجازة ، وفي إحدى زياراتي لسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله ناولني الرسالة ، وطلب مني أثناء تمتعي بالإجازة أن أرد عليها بعد أن أبدى استياءه واستنكاره وغضبه وتمعّره من هذا الرجل ومكابرته وسوء معتقده وخروجه عن ربقة الإسلام بما ينشره من شركيات وضلالات ومنكرات، يتضح ذلك عنه بما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علمه الروح والغيب والخمس التي اختص الله بعلمها ، وأنه يقطع أرض الجنة ، وأن آدم وبنيه خُلِقوا لأجله إلى غير ذلك مما لا نعلم صدور مثله من أقطاب التصوف ودُعاة الضلال . فاستجبت لسماحته وانعقد مني العزم على الرد على هذه الرسالة البتراء ، وبيان ما هي عليه من تهافت وتناقض وتلبيس وتزييف وشنشنة نعرفها من أخزمها .
إلا أننا قبل الرد عليها نحب أن نؤكد ما يعلمه الله من أننا لا نريد التنديد بالمذكور وتعريته أمام طلبة العلم بقدر ما نريد من رد زيفه وضلاله ، وما لبّس به من شبه وضلالات ومتاهات في سبيل ترويج البدع وذرائع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته مما قد يغتر به من لا يعرف المذكور وما هو عليه من حب الظهور والوجاهة والتمتع بهوان المغرورين به حينما يتهافتون عليه بلحس الأيدي والانحناء والخضوع والتذلل أمام غطرسته ودجله وتضليله .
ولعل القارئ الكريم قد استكثر منا هذا القول في هذا الرجل ، ولكننا نعتقد أنه سيعذرنا حينما يعرف أن الدافع لذلك هو الغيرة لله في تحقيق التوحيد وكماله ، والغيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان شديد الحرص على أن تعرف أمته مكانته من الله تعالى . فلقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله ) (1) .
__________
(1) - أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .(129/5)
وسيعذرنا القارئ الكريم حينما يعرف أن هذا المبتدع قد أصدر كتاباً بعنوان ( الذخائر المحمدية ) جاء فيه ما يقضي بتشريك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه في النفع والضر ، والمنع والعطاء ، والسلطة الشاملة على ملكوت السموات والأرض ، وحق الإقطاع في الجنة ، وأن آدم وذريته خلقوا لأجل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى غير ذلك مما سنورده ونشير إلي صفحاته من كتابه ; للدلالة على صحة ما نقول في المذكور من نكارة وضلالة وسوء معتقد وسخافة عقل وسوء طوية .
لقد أصدرت هيئة كبار العلماء إقراراً بعدد 86 في 11 / 11 / 1401هـ جاء فيه ما نصه :
في الدورة السادسة عشرة المنعقدة بالطائف في شوال عام 1400 هـ ، نظر مجلس هيئة كبار العلماء فيما عرضه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد مما بلغه من أن لمحمد علوي مالكي نشاطاً كبيراً متزايداًً في نشر البدع والخرافات والدعوة إلى الضلال والوثنية ، وأنه يؤلف الكتب ويتصل بالناس ويقوم بالأسفار من أجل تلك الأمور ، واطلع على كتابه " الذخائرالمحمدية " وكتابه " الصلوات المأثورة " ، وكتابه " أدعية وصلوات " ، كما استمع إلى الرسالة الواردة إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد من مصر ، وكان مما تضمنته :
( وقد ظهر في الأيام الأخيرة طريقة صوفية في شكلها لكنها في مضمونها من أضل ما عرفناه من الطرق القائمة الآن ، وإن كانت ملة الكفر واحدة .(129/6)
هذه الطريقة تسمى " العصبة الهاشمية والسدنة العلوية والساسة الحسنية الحسينية ) ، ويقودها رجل من صعيد مصر يسميه أتباعه ( الإمام العربي ) ، وهو يعتزل الناس في صومعة له ويمرون عليه صفوفاً ويسلمون عليه ويحدثونه ويمنحهم البركات ويكشف لهم المخبوء بالنسبة لكل واحد ، وهذا كله من وراء ستار فهم يسمعون صوته ولا يرون شكله اللهم إلا الخاصة من أحبابه وأصحابه فهم المسموح لهم بالدخول عليه وعددهم قليل جداً ، وهولا يحضر مع الناس الجمع ولا الجماعات ، ولا يصلي في المسجد الذي بناه بجوار صومعته ، ويعتقد أتباعه أنه يصلي الفرائض كلها في الكعبة المشرفة جماعة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعتقدون كذلك أنه من البقية الباقية من نسل الأئمة المعصومين ، وأن المهدي سيخرج بأمره . وقد أنشأ لطريقته فروعاً في بعض مدن مصر يجتمع روادها فيها على موائد الأكل والشرب والتدخين ، ويأمرون مريديهم بحلق اللحى وعدم حضور الجماعة في المسجد ، وذلك تمهيداً لإسقاط الصلاة نفسها ، ويخشى أنهم امتداد لحركة باطنية جديدة ، فإن هناك وجه شبه بينهم وبين خصائص الباطنية . فإنهم بالإضافة إلى ما سبق ; محظورعلى أتباعهم إذاعة أسرارهم ، والسؤال عن أي شيئ يرونه من شيوخهم ، كذلك الإسم الذي سمّوا به حركتهم والشعار الذي اتخذوه لها هو ( فاطمة ، علي ، الحسن ، الحسين )، ومما يؤيد هذا الظن أنهم يجاورون الضاحية التي دفن فيها( أغاخان ) زعيم الإسماعيلية ، حيث لا تنقطع أتباع الإسماعيلية عن زيارة قبره ، والاتصال بالناس هناك ، وقد دفن أغاخان في مصر لهذه الغاية .
وقد ازداد أمر هؤلاء في نظرنا خطورة حين علمنا أن لهم اتصالات ببعض أفراد في السعودية ، وقد هُيأت لبعض أتباعهم فرص عمل في المملكة عن طريق هؤلاء لأفراد الذين لم نتعرف على أسمائهم بعد ; نظراً للسرية التي يحيطون بها حركتهم ، ونحن في سبيل ذلك إن شاء الله .(129/7)
ولكن الذي وقفنا عليه وعرفناه يقيناً لا يقبل الشك أن الشيخ ( محمد علوي بن عباس المالكي المكي الحسني ) يتصل بهم اتصالاً مباشراً ، ويزور شيخهم المحتجب ويدخل عليه ويختلي به ويخرج من عنده بعد ذلك طائفاً بأتباعه متحدثاً معهم محاضراً فيهم خطيباً بينهم كأنه نائب عن الشيخ المزعوم ، ثم يختم زيارته بالتوجه إلى ضريح أبي الحسن الشاذلي الشيخ الصوفي المعروف المدفون في أقصى بلاد مصر ، ومعه بطانة من دهاقنة التصوف في مصر، وهو ينشر بينهم مؤلفاته التي اطلعنا على بعضها فاستوقفنا منها كتابه المسمى" الذخائر المحمدية " وتحت يدي الآن نسخة منه ، بل الجزء الأول ، وهو يقع في 354 صفحة من الحجم الكبير ذي الطباعة الفاخرة ، وطبع بمطبعة حسان بالقاهرة ، ولا يوزع عن طريق دار نشر ، وإنما يوزع بصفة شخصية وبلا ثمن .
والذي يقرأ هذا الكتاب يجد المؤلف هداه الله قد أورد فيه كل المعتقدات الباطلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن بطريق ملتو فيه من المكر والدهاء ما فيه ; حتى لا يُؤخذ على المؤلف خطأ شخصي ، فهو يذيع تلك العقائد عن طريق النقل من بعض الكتب التي أساءت إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ، والتي وصلت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة من الغلو ما قال بها كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل ورد بشأنها النهي الصريح عن مثل هذا الزيغ والزيف والضلال ) اهـ .(129/8)
ثم ذكر أمثلة مما جاء في الكتاب من الضلال وختم رسالته بقوله : ( ونحن إنما نهتم بتعقب مثل هذه الأخطاء والخطايا من أجل أن ننبه إلى خطورتها وخطرها من باب نصح المسلمين وإرشادهم وتحذيرهم مما يخشى منه على العقيدة الصحيحة والإيمان الحق ، وإنما نكتب لكم به كذلك لتتصرفوا حياله بما فيه الخير للإسلام والمسلمين ، فكما أن مصر مستهدفة من أعداء الإسلام بحكم عددها وعدتها وإجماعها من حيث الأصل عى السنة ; فإن السعودية مستهدفة بنفس القدر إن لم يكن أكثر بحكم موقعها من قلوب المسلمين ، وبحكم عقيدتها القائمة على حماية جناب التوحيد ، وعلى توجيه الناس إلى السنّة الصحيحة ، واهتمامها بنشر هذه العقيدة في كل مكان .
فلا أقل من أن ننبه إلى بعض مواطن الخطر لتعملوا على درئه ما استطعتم ، والظن بكم بل الاعتقاد فيكم سيكون في محله إن شاء الله ، فإن الأمر جد خطير كما رأيتم من بعض فقرات الكتاب ) ا هـ .
وقد تبيّن للمجلس صحة ما ذكر من كون محمد علوي داعية سوء ويعمل على نشر الضلال والبدع، وأن كتبه مملوءة بالخرافات والدعوة إلى الشرك والوثنية . ورأى أن يعمل على إصلاح حاله وتوبته من أقواله ، وأن يبذل له النصح ، ويبيّن له الحق . واستحسن أن يحضر المذكور لدى سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء ، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن بازالرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، ومعالي الشيخ سليمان بن عبيد الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين، لمواجهته بما صدر منه من العبارت الإلحادية والصوفية ، وإسماعه الكتاب الوارد من مصر ومعرفة جوابه عن ذلك ، وما لديه حول ما ورد في كتبه .(129/9)
وقد حصل هذا الاجتماع وحضر المذكور في المجلس الأعلى للقضاء يوم الخميس الموافق 17 / 10 / 1400 هـ . وأعُدّ محضر بذلك الاجتماع تضمّن إجابته بشأن تلك الكتب ، وما سأله عنه المشايخ مما جاء فيها . وجاء في المحضر الذي وقّع فيه أن كتاب " الذخائر المحمدية " و كتاب " الصلوات المأثورة " له ، أما كتاب " أدعية وصلوات " فليس له ، وأما الرجل الصوفي الذي في مصر فقد قال أنه زاره ومئات من أمثاله في الصعيد ولكنه ليس من أتباعه ويبرأ إلى الله من طريقته ، وأنه لم يلق محاضرات في مصر ، وأنه أنكر عليه وعلى أتباعه ، وقد ذكر للمشايخ أنه له وجهة نظر في بعض المسائل ، أما الأمور الشركية فيقول أنه نقلها عن غيره وأنه خطأ فاته التنبيه عليه .(129/10)
ولما استمع المجلس إلى المحضر المذكور وتأكد من كون الكتابين له ، وعلم اعترافه بأنه جمع فيها تلك الأمور المنكرة ناقش أمره وما يتخذ بشأنه ، ورأى أنه ينبغي جمع الأمور الشركية والبدعية التي في كتابه " الذخائر المحمدية " ، مما قال فيها أنه خطأ فاته التنبيه عليه وتطبق على المحضر ، ويكتب رجوعه عنها ، ويطلب منه التوقيع عليه ، ثم يُنشر في الصحف ، ويذاع بصوته في الإذاعة والتلفزيون ، فإن استجاب لذلك وإلا رُفع لولاة الأمور لمنعه من جميع نشاطاته في المسجد الحرام ومن الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة ، كما يُمنع من السفر إلى الخارج حتى لا ينشر باطله في العالم الإسلامي ، ويكون سبباً في فتنة الفئام من المسلمين . وقد قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بقرآءة كتابيه المذكورين اللذين اعترف أنهما له ومن إعداده وتأليفه ، وجمع الأمور الشركية والبدعية التي فيهما، وإعداد ما ينبغي له، ويُطلب منه أن يذيعه بصوته ، وبعث له عن طريق معالي الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين بكتاب سماحة الرئيس العام رقم 788 / 2 وتاريخ 12 / 11 / 1400 هـ فامتنع عن تنفيذ ما رآه المجلس ، وكتب رسالة ضمنها رأيه ، و وردت إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد مشفوعة بكتاب معالي الرئيس العام لشئون الحرمين رقم 2053 / 19 وتاريخ 12 / 12 / 1400هـ .(129/11)
وجاء في كتاب معاليه أنه اجتمع بالمذكور مرتين وعرض عليه خطاب سماحة الشيخ عبدالعزيز وما كتبه المشائخ ، ولكنه أبدى تمنعاً عما اقترحوه ، وأنه حاول إقناعه ولم يقبل ، وكتب إجابة عما طلب منه مضمونها التصريح بعدم الموافقة على إعلان توبته . وفي الدورة السابعة عشرة المنعقدة في شهر رجب عام1401هـ في مدينة الرياض نظر المجلس في الموضوع ، وناقش الموقف الذي اتخذه حيال ما طلب منه ، ورأى أن يحاط ولاة الأمور بحاله والخطوات التي اتخذت لدفع ضرره وكف أذاه عن المسلمين ، وأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بياناً يشتمل على جملة من الأمور الشركية والبدعية الموجودة في كتاب " الذخائر المحمدية " منها :
نقل في صفحة 265 من الأبيات التي جاء فيها :
ولما رأيت الدهر قد حارب الورى ،،،، جعلت لنفسي نعل سيده حصنا
تحصنت منه في بديع مثالها ،،،، بسور منيع نلت في ظله الأمنا
نقل قصيدة للبكري في الصفحتين 158 – 159 تتضمن أنواعاً من الشرك الأكبر وفيها إعراض عن الله عز وجل ، قال فيها :
ما أرسل الرحمن أو يرسل ،،،، من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه ،،،، من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده ،،،، نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها ،،،، يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به من كل ما تشتكي ،،،، فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به من كل ما ترتجي ،،،، فإنه المأمن والمعقل
وحط أحمال الرجا عنده ،،،، فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة أنشبت ،،،، أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه ،،،، وخير من فيهم به يُسأل
كم مسني الكرب وكم مرة ،،،، فرّجت كرباً بعضه يذهل
فبالذي خصك بين الورى ،،،، برتبه عنها العلا تنزل
عجّل بإذهاب الذي أشتكى ،،،، فإن توقفت فمن ذا أسأل
3- ذكر في ص (25) أن ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر . وهذا خطأ واضح ، فليلة القدر أفضل الليالي بلا شك .(129/12)
4 - ذكر في الصفحات الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين والخامسة و الأربعين قصيدة لابن حجر الهيتمي فيها إثبات حياة النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق ، وإنه يصلي الصلوات الخمس ويتطهر ، ويجوز أن يحج ويصوم ولا يستحيل ذلك عليه ، وتعرض عليه الأعمال . ونقل عن الهيتمي استجارته بالرسول صلى الله عليه وسلم وأقرّه على ذلك ، والإستجارة بغير الله نوع من الشرك الأكبر .
5 - أورد في الصفحات (52) إلى (55) ما نصه :
" من استغرق في محبة الأنبياء والصالحين حمله ذلك على الإذن في تقبيل قبورهم والتمسح بها ، وتمريغ الخد عليها " ا هـ . ونسب أشياء من ذلك إلى بعض الصحابة ، وأقرّ ذلك ولم ينكره ، مع أن تلك الأمور من البدع ووسائل الشرك الاكبر ، ونسبتها إلى بعض الصحابة باطلة .
6 - ذكر في صفحة (60) أن زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم من كمال
الحج ، وأن زيارته عند الصوفية فرض ، وأن الهجرة إلى قبره عندهم كالهجرة إليه حيا . وأقرّ ذلك ولم ينكره .
7 - ذكرعشر كرامات لزائر قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها رجم بالغيب وقول على الله بلا علم .
8 - دعا إلى الاستجارة به صلى الله عليه وسلم والاستشفاع به عند زيارته ، فقال ما نصه : " ويتأكد بتجديد التوبة في هذا الموقف الشريف وسؤال الله تعالى أن يجعلها لديه نصوحا، والاستشفاع به صلى الله عليه وسلم في قبولها ، والإكثار من الاستغفار والتضرع بتلاوة الآية المذكورة ، وأن يقول بعدها وقد ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، وأتيت بجهلي وغفلتي أمراً كبيراً ، وقد وفدت عيك زائراً وبك مستجيراً " أ هـ . ص (100) ، ومعلوم أن الاستشفاع والاستجارة به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من أنواع الشرك الأكبر .
9 - ذكر في صفحة (10) شعراً يقال مع الدعاء عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، ومنه :
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له ،،،، إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي
ومنه :(129/13)
ضيف ضعيف غريب قد أناخ بكم ،،،، ويستجير بكم يا سادة العرب
يا مكرم الضيف يا عون الزمان ويا ،،،، غوث الفقير ومرمى القصد والطلب
ونقل عن بعضهم في ص (102) شعراً تحت عنوان فضائل نبوية قرآنية :
أترضى مع الجاه المنيع ضياعنا ،،،، ونحن إلى أعتاب بابك ننسب
أفضها علينا نفحة نبوية ،،،، تلم شتات المسلمين وترأب
وهذه الأبيات الخمسة من الشرك الأكبر والعياذ بالله .
10 - نقل في صفحة (54) بيتاً من الهمزية هو :
ليته خصني برؤية وجه ،،،، زال عن كل من رآه العناء
وهذا كذب وباطل ، وقد رآه في حياته عليه الصلاة والسلام أقوام كثيرون فما زال عنهم عناؤهم ولا كفرهم .
11 - نقل في صفحة (157) غلواً في نعال الرسول صلى الله عليه وسلم في البيتين التاليين :
على رأس هذا الكون نعل محمد ،،،، سمت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد ،،،، إلى العرش لم يُؤمر بخلع نعاله
12- ذكر في صفحة (166) قصيدة شركية للشيخ (عمر الباقي الخلوتي ) منها:
يا ملاذ الورى وخير عيان ،،،، ورجاء لكل دان قصي
لك وجهي وجهت يا أبيض ال ،،،، وجه فوجه إليه وجه الولي
13- نقل في كتابه " الذخائر المحمدية " ص (284) عن ابن القيم من كتابه جلاء الإفهام ما يوهم أن الطريق إلى الله وإلى جنته محصور في اتباع أهل البيت، يعني أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتصرف في كلام ابن القيم فلم ينقله على حقيقته ، لأن ابن القيم في كتابه المذكور تكلم على إبراهيم الخليل وآله من الأنبياء ، وذكر أن الله سبحانه بعث جميع الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ، وجعل الطريق إليه مسدوداً إلا من طريقهم ، ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .(129/14)
فترك الشيخ محمدعلوي مالكي نقل أصل كلام ابن القيم رحمه الله وتصرف فيه ، فنقل ما يوهم القرآء أن المراد أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى أن هذا الرأي هو مذهب الرافضة الإثني عشرية ، وأنهم يرون أن الأحاديث الواردة من غير طريق أهل البيت لا يُحتج بها ولا يُعمل بها ، ولو كان الراوي لها أبا بكر الصديق أو عمر أو عثمان أو غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ... وهذا منكر عظيم وفساد كبير وتدليس شنيع أراد به تحقيق مقصد سيئ خطير . ومثل ما تقدم ما ذكره في الصفحتين الرابعة والخامسة من كتابه " الصلوات المأثورة " حيث يقول من جملة الدعاء الذي نقله: " وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني قي عين بحر الوحدة " ، وقوله : " ولا شيئ إلا وهو به منوط " يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد رُفع البيان إلى صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء مشفوعاً بكتاب سماحة الرئيس العام رقم 1280 / 2 وتاريخ 28 / 7 / 1401 هـ . وفي الدورة الثامنة عشرة للمجلس المنعقدة في شهر شوال عام 1401هـ أعيدت مناقشة موضوعه بناء على ما بلغ المجلس من أن شره في ازدياد ، وأنه لا يزال ينشر بدعه وضلالاته في الداخل والخارج ، فرأى أن الفساد المترتب على نشاطه كبير ، حيث يتعلق بأصل عقيدة التوحيد التي بعث الله الرسل من أولهم إلى آخرهم لدعوة الناس إليها ، ولإقامة حياتهم على أساسها . وليست أعماله وآراؤه الباطلة في أمور فرعية اجتهادية يسوغ الإختلاف فيها ، وأنه يسعى إلى عودة الوثنية في هذه البلاد وعبادة القبور والأنبياء ، والتعلق على غير الله ، و يطعن في دعوة التوحيد، ويعمل على نشر الشرك والخرافات والغلو في القبور ، ويقرر هذه الأمور في كتبه ، ويدعو إليها في مجلسه ، ويسافر من أجل الدعوة لها في الخارج ، إلى آخر ما جاء في قرار المجلس .(129/15)
وعلاوة على ما ذكره المجلس في قراره المذكور من نقول مأخوذة من كتابه " الذخائر المحمدية " ، فإننا نذكر من النقول ما يلي :
أولاً : جاء في الصفحة 98 نقله عن الجرداني وابن الجوزي ما نصه :
( من أجَلِّ ما ابتدع من أجل القربات والطاعات وما جرت به العادة من العناية بالمولد الشريف ، والفرح فيه بسيد السادات ) . إلى أن قال : ( ومما جرب أن من عمل المولد كان أماناً له في ذلك العام ، وبشرى عاجلة بنيل المرام ) ، إلى أن قال : ( ومن أجل ما ابتدع أيضاً ما جرت به العادة من قيام الناس حين ذكر مولده صلى الله عليه وسلم، فيستحب ذلك لما فيه من تعظيمه وإظهار الفرح به ، بل أفتى بعض الحنفية بكفر من تركه حين يقوم الناس ) إلى آخره .
ثانياً : جاء في الصفحات التاسعة والتسعين ، والمائة ، والمائة وواحد ، ذكره صيغة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربي عز وجل ) ، ثم ذكر مجموعة من الصيغ للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها نثر وبعضها شعر ، وقد جاء من الشعر ما نصه :
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له ××× إلا جنابك يا سؤلى ويا أملي
ثالثاً : في الصفحة (107) ذكره صلاة صوفي جاء فيها : ( إن من واظب على هذه الصلاة وهي : اللهم صلي على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي ، وعلى آله وصحبه وسلم في اليوم والليلة خمسمائة مرة لا يموت حتى يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ) .
رابعاً : في الصفحة (110) قام بشرح صلاة الفاتح وقال في شرحه :(129/16)
(فكل الأرزاق من كفه - الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم - ، وفي الحديث أوتيت مفاتيح خزائن السموات والأرض - أي التي قال الله تعالى فيها : { له مقاليد السموات والأرض } أي مفاتيحها ، فقد أعطاها عز وجل لحبيبه صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث أيضاً : الله معط وأنا القاسم ) أهـ (1) .
خامساً : في الصفحة (112) مانصه :
( اعلم أن ما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم ُأمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموماً، فقد بلغه صلى الله عليه وسلم ، وما ُأمِر بكتمه فقد كتمه صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ منه حرفا، وهو جميع الأسرار التي لا تليق بالأمة ) إلى آخر ما ذكره ، ولم ينقل هذا القول عن أحد . ولا شك أنه بذلك يوطد للقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخرجه به عن المجال البشري إلى المحيط الرباني ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
سادساً : في الصفحة (116) ما نصه :
__________
(1) - لعل المالكي يعني ما ذكره ابن الجوزي في كتابه " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " في قوله : " باب اعطائه مقاليد الدنيا " ، حيث ذكر بإسناده عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أوتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق عليه قطيفة من سندس " .
قال ابن الجوزي : " هذا حديث لا يصح ، وفي إسناده علي بن الحسين ، قال أبو حاتم ضعيف الحديث [ انظر العلل المتناهية الجزء الأول ص 174 ] .(129/17)
( وأما قوله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، قال العلماء : هو في الدنيا قطعاً ولو عند الموت لمن وفق لذلك ) . إلى أن قال ( وقد يكون في الدنيا لأهل الكمال من المؤمنين وصفاء البصيرة الذين وصفهم الله تعالى ، ووصف قلوبهم ومعارفهم بقوله :{ كمشكاة فيها مصباح } ، إلى آخر الآية ، إلى أن قال: ( فمثل هذا القلب هو المؤهل لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة وسائر المغيبات أيضاً ) أهـ .
وقد كان يكون هذا تمهيداً وتوطيداً لإلزام العامة بترهات وضلالات دجاجلة يروم المالكي أن يكون منهم حينما يأتي واحدهم ويدعي أن له من صفاء القلب وكمال الإيمان ما سوّغ له رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ، وأنه قال له وأوصاه وعمده وكلفه ، إلى آخر ما يتصور للدجاجلة من طرق سوء .
لا شك أن علماء التفسير واللغة وأهل العلم مجمعون على أن النور في الآية الكريمة نور الله تعالى ، وأن التشبيه تشبيه لنوره تعالى وتقدّس .
سابعاً : في الصفحة (183) نص على أن ماء زمزم أفضل من الكوثر ، لأن الله تعالى اختاره ليلة الإسراء لغسل قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثامناً : في الصفحة (201) ما نصه :
( ثم اعلم أن كل ما مال إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لأحد البحث فيه ، ولا المطالبة بدليل خاص فيه ، فإن ذلك سوء أدب ، فقل ما شئت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح لا حرج ) اهـ .
تاسعاً : في الصفحة (202) ما نصه :(129/18)
( خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أول النبيين خلقاً ) إلى أن قال ( و خلق آدم وجميع المخلوقات لأجله ) اهـ. ، الضمير في لأجله عائد للرسول صلى الله عليه وسلم (1) .
عاشراً : في الصفحة (205) ما نصه :
( وجمع له بين النبوة والسلطان ، وأوتي علم كل شيئ حتى الروح والخمس التي في آية إن الله عنده علم الساعة ) اهـ.
أحد عشر: في الصفحة (207) ما نصه :
( وأسماؤه توقيفية كأسماء الله تعالى بحكم التبعية ) اهـ.
إثنا عشر : في الصفحة (222) من خصائصه صلى الله عليه وسلم ما نصه :
__________
(1) - لعل المالكي يعني حديث " لولاك لما خلقت الأفلاك " قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه " سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " : ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) موضوع . كما قال الصاغاني في " الأحاديث الموضوعة " صحيفة 7 ، وأما قول الشيخ القاري صحيفة 67 – 68 : " لكن معناه صحيح فقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً : أتاني جبريل فقال : يا محمد لولاك ما خلقت الدنيا ، ولولاك ما خلقت النار . وفي رواية ابن عساكر " لولاك ما خلقت الدنيا " ، فأقول الجزم بصحة معناه لا يليق إلا بعد ثبوت ما نقله عن الديلمي ، وهذا مما لم أر أحداً تعرض لبيانه ، وأنا وإن كنت لم أقف على سنده فإني لا أتردد في ضعفه ، وحسبنا في الدليل على ذلك تفرد الديلمي به . وأما رواية ابن عساكر فقد أخرجها ابن الجوزي أيضاً في حديث طويل عن سلمان مرفوعاً ، وقال إنه موضوع ، وأقرّه السيوطي في " اللآلئ" . [ انظر ج 1 ص 299 – 300 ] . وقال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : حديث لولاك لما خلقت الأفلاك ، قال الصاغاني موضوع [ ص 326 ] .(129/19)
( وبإباحة النظر إلى الأجنبيات والخلوة بهن وإردافهن ... والنكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء ، وبلا ولي وبلا شهود ، وفي حال الإحرام ، وبغير رضا المرأة ، وإذا رغب في نكاح المرأة حرم على غيره خطبتها بمجرد الرغبة ، وإذا رغب في مزوّجة وجب على زوجها طلاقها لينكحها ) اهـ .
ثلاثة عشر : في الصفحة (223) ما نصه :
( وله أن يقطع أرض الجنة ) اهـ.
أربعة عشر : في الصفحة (226) ما نصه :
(ولم يقع ظله على الأرض ، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمرلأنه كان نوراً ) اهـ.
خمسة عشر : في الصفحة (227) ما نصه :
( وهو حيّ في قبره ، يصلي فيه بأذان وإقامة ، وكذلك الأنبياء ، وقرآءة أحاديثه عبادة يُثاب عليها كقرآءة القرآن، ويستحب الغسل لقرآءة حديثه والطيب ) اهـ .
ستة عشر : في الصفحة (228) ما نصه :
( ومن خصائص ابنته فاطمة رضي الله عنها أنها كانت لا تحيض ، وكانت إذا ولدت طهرت من نفاسها بعد ساعة حتى لا تفوتها صلاة ) ، إلى أن قال: ( وكان إذا ابتسم في الليل أضاء البيت ... وكان له قرآءة القرآن بالمعنى ) اهـ.
سبعة عشر : في الصفحة (248):
في معرض حديثه عن روضة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نصه :
( والعاكفين عليها ) اهـ.
ثمانية عشر : في الصفحة (249) :
رأيه في أن شجرة بيعة الرضوان لم يقطعها عمر إلا لأن الناس اختلفوا في تعيينها فقطعها لئلا تنسب لبيعة الرضوان والحال أنها ليست كذلك .
تسعة عشر : في الصفحة (259) ما نصه :
( روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم حاضرة في كل مكان ، فهي تشهد أماكن الخير ومجالس الفضل ) اهـ.
وهذا من المالكي توطيد وتمهيد لترسيخ عقيدة حضور الحضرة النبوية في الاحتفال بالمولد النبوي ، وسيأتي بسط القول في الرد على هذه الضلالة إن شاء الله .(129/20)
هذه نماذج لما في كتابه " الذخائر المحمدية " من الخروج عما عليه أهل العلم والتقوى والصلاح والمعتقد السليم فيما يجب لله تعالى وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم . وقد أوردنا ما أوردناه من كتابه" الذخائر المحمدية " على سبيل الاستشهاد ، على أن المذكور ضال مضل متنكب عن صراط الله المستقيم ، آخذ بما أخذ به أهل الزيغ والضلال ; لا على سبيل الحصر ، لأننا لو أردنا أن نحصر ما في كتابه من المنكرات لوجدنا أكثر صفحاته البالغة أربعة وخمسين وثلاثمائة صفحة طافحة بسقط القول ، وسفاهة المنطق ، وسوء الاعتقاد ، والدعوة إلى الضلال .
هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافيه من داء الغرور والتعالي حتى يعود إلى دائرة سلفنا الصالح ممن أعطوا ربهم ما يستحقه من الإجلال والتقديس والعبادة والكمال ، وأعطوا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ما يستحقه من المحبة والتقدير والوصف الذي ارتضاه له ربه وأمر صلى الله عليه وسلم أمته بالإقتصار عليه ، فقال : " إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله " . فإننا نثق في عقل المالكي وفي تفكيره وفي قدرته على إدراك ما يستطيع أن ترتفع به منزلته عند الله تعالى ، فمن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس . ونسأل الله تعالى أن يهديه ويصلحه ويبعده عن مزالق الشر والضلال ، وأن يوفقه لإدراك ما هو محض حق لله تعالى ، وما هو حق رسوله صلى الله عليه وسلم من غيرغلو ولا تنطع ولا إطراء ولا إفراط، فهو الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل .
تمهيد وتأصيل
سبق لنا في مقدمة هذا الرد أن وصفنا رسالة المالكي – حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف – بأنها بتراء ، حيث بدأها بقوله :(129/21)
( كثر الكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي ...) إلى آخره ، فلم يستعن بالله في كتابتها ، ولم يحمده تعالى فيها ، ولم يصلِ على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في مقدمتها ، كما ينبغي ذلك في مستهل المؤلفات العلمية الصادرة من أهل العلم ذوي الصلاح والتقى وصدق الاقتداء ، وكما هو المقتضى الشرعي في كل أمر ذي بال، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع ، وفي رواية أجذم ، وفي رواية أبتر ، قال الحافظ بن حجر: ( وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية ) اهـ .
ولعل الله سبحانه وتعالى صرفه عن ذلك ، ليكون ذلك أبلغ في بتر هذه الرسالة و انقطاعها وجذمها ، ولتنزه صيغة البركة والإستعاذة عن أن تكون فاتحة رسالة تنادي بإحياء البدعة، والتنكب عما عليه سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم . وليصدق على هذه الرسالة أنها ليست ذا بال في محيط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان حكم الله للعباد، وإنما هي دعوة إلى الابتداع في الدين بما لم يأذن به الله في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
لقد استهل المالكي رسالته البتراء بقوله: كثر الكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي وما كنت أود كتابة شيئاً في هذا الموضوع ، وذلك لأن ما شغل ذهني وذهن العقلاء المسلمين هو أكبر من هذه القضية .. إلى آخره .
أقول كم نتمنى أن يكون المالكي قد أعفى نفسه وقلمه من الكتابة في هذا الموضوع الجانبي على حد قوله ، وأراح عباد الله من التلبيس عليهم بما يعلم أهل العلم والعقل بطلانه وفساده ، واتجه إلى ما يشغل ذهنه وذهن العقلاء من المسلمين من مواضيع الساعة ومشكلات العصر .(129/22)
فلقد انتشر الربا وبضروب مختلفة وأسباب متغايرة وطرق متعددة ، وانتشرت وسائل التحايل على أكل أموال الناس بالباطل ، وشاعت في الناس مذاهب عقائدية تلتقي مع الشيطان في الضلال والإضلال والبعد عن الله تعالى ، ونشط ما يسمى بالتبشير بالديانة النصرانية في كثيرمن البلاد الإسلامية وغيرها ، ولقى المسلمون من أعداء الله كثيراً من الشبه والتكشيك في الإسلام وأصوله ومبادئه ومقتضياته . فعلى سبيل الافتراض بأن محمد مالكي نال شهادة الدكتوراه عن جدارة علمية ; فإنه قادرعلى أن يدلي بدلوه في معالجة هذه المشكلات ، وفي الرد على شبهات أعداء الله ، وفي الكتابة فيما يعود على عموم المسلمين بالخير والنفع والصلاح . إنه لو فعل ذلك لرأى منا إخوة له أوفياء، يحفظون له فضله وعلمه وحسبه ، ويعتزون به وبما يحمله من رسالة كريمة في سبيل العلم و إشاعته وصرفه في مصارفه الشرعية . ولكنه والعياذ بالله تنكب عن الصراط المستقيم ، واشتغل بما أشغل برده وتفنيد زيفه وضلاله عباد الله من الدعوة إلى البدع والمنكرات والرجوع بالأمة إلى الجاهلية الجهلاء ، وإلى الاستهانة بما وهبها الله من عقل وبصيرة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
لقد ذكر المالكي في رسالته البتراء ثلاث مسائل أحب أن يركز عليها في بيان مذهبه في المولد والاحتفال به قبل أن يسرد أدلته على جواز الاحتفال بذلك . ونحن بدورنا نحب أن نقف معه عند كل مسألة من هذه المسائل الثلاث قبل الدخول معه في رد أدلته وبيان زيفها ومجانبتها الصواب .
ذكر المالكي المسألة الأولى بقوله :
( إننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد الشريف ، والاجتماع لسماع سيرته والصلاة والسلام عليه ، وسماع المدائح التي تقال في حقه ، وإطعام الطعام ، وإدخال السرور على قلوب الأمة ) أهـ .(129/23)
هذا القول يدل على أنه لا يرى مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ، لأن مشروعية الأمر تعني وجوبه أو استحبابه ، وبالتالي إثابة فاعله ، وعقوبة تاركه إن كان واجباً ، أما جواز ذلك فمعناه إباحته ، فلا إثابة على فعل ، ولا عقوبة على ترك . ولو تتبعنا ما ذكره في رسالته البتراء ، أو ما ذكره في كتابه الذخائر المحمدية ، أو ما ذكره في غير هذين الكتابين من رسائله الأخرى ، أو بما يفعله ويشد له رحله مما تطيب له إقامة الاحتفال بالمولد النبوي فيه ; لوجدناه يقول بمشروعية ذلك ويؤكده . ففي المسألة الثانية من مسائله الثلاث في رسالته البتراء يشير إلى القول بسنة الاحتفال بالمولد في ليلة غير مخصوصة ، وفي كتابه " الذخائر المحمدية " يقول بتفضيل ليلة المولد على ليلة القدر التي نزل القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر . فقد جاء في الصفحة الخامسة والعشرين من الذخائر المحمدية ما نصه قال : قلت : إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلاً فأيهما أفضل ليلة القدر أو ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ؟ أجيب بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة :
أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له .. إلى آخره .
الثاني : أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها ، وليلة القدر شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم فيها .. إلى آخره .
الثالث : أن ليلة القدر وقع التفضل فيها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وليلة المولد الشريف وقع الفضل فيها على سائر الموجودات .. إلى آخره .(129/24)
قد يقول المالكي أن مقصودي بالتعبير بالجواز عدم المنع ، وهذا لا يعني حصر ذلك في الإباحة ، فإن الشيئ إذا لم يكن ممنوعاً فقد يكون مأموراً به على سبيل الوجوب أو الاستحباب ; لينتفي عنه التناقض ويستقر له مذهبه في مشروعية الاحتفال بالمولد . وعلى أي حال فإن قال بإباحة الاحتفال بالمولد من غير أن يكون واجباً أو مسنوناً ألزمناه بالتناقض في قوله ، على ما سبق إيضاحه ، وبمطالبته بالدليل على الإباحة ، مع أن المحتفلين بذلك والمالكي معهم يرون عملهم عبادة ، والعبادات مبينة على التوقيف ، فلا عبادة بلا شرع . وإن قال بمشروعيتها على سبيل الاستحباب أو الوجوب طالبناه بمستنده على ذلك من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو من عمل الصحابة الذين هم أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أو عمل من نقلوا لنا ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلونه . وإذا ادعى أن له استنباطات تدل على مشروعية الاحتفال بالمولد مما ذكره فيما زعمه من دلائله التي أوردها في هذه الرسالة ; فسيكون لنا معه موقف أو أكثر في كل دليل ذكره .
وذكره المالكي المسألة الثانية بقوله :
( الثانية : أننا لا نقول بسنيّة الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة ، بل من اعتقد بذلك فقد ابتدع في الدين ، لأن ذكره صلى الله عليه وسلم والتعلق به يجب أن يكون في كل حين ، ويجب أن تمتلئ به النفوس . نعم إن في شهر ولادته يكون الداعي لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيذكرون بالحاضر الماضي، وينقلون من الشاهد إلى الغائب) اهـ.
هذه المسألة تحتاج منا إلى أن نقف معه عندها الوقفات التالية :(129/25)
الوقفة الأولى : فيما يتعلق بنفيه سنية الاحتفال بالمولد في ليلة مخصوصة ، واعتقاده بدعية ذلك . فهذا حكم منه على نفسه وعلى أتباعه بالابتداع ، فإنهم لا يقيمون هذا الاحتفال إلا في ليلة ميلاده صلى الله عليه وسلم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام . وهذا من المالكي مغالطة ، وإلا فهو يدرك ويعرف أن الاحتفال بالمولد لا يكون إلا في الليلة الدورية لليلة مولده صلى الله عليه وسلم .
ولا يخفى أن ولادته صلى الله عليه وسلم لم تتكرر حتى يقال أن الاحتفال بمولده
لا يكون في ليلة مخصوصة معينة ، وإنما ولادته صلى الله عليه وسلم جاءت ليلة الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول على القول المشهور بين أهل العلم ، فإذا أقيم الاحتفال في ليلة دورية غير دورية هذه الليلة ; لم يكن ذلك احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم ، وهو يعرف ذلك ويدركه ، ويحافظ على أن يكون احتفاله واحتفال أتباعه في ليلة مولده صلى الله عليه وسلم في الثاني من شهر ربيع الأول من كل عام ، ولكنها المغالطة والتلبيس وإن كانت هذه المغالطة قد كلفته الشيئ الكثير في حكمه على نفسه وعلى اتباعه بالابتداع في اتخاذ ليلة مخصوصة بإقامة الاحتفال بالمولد فيها .
الوقفة الثانية : عند قوله بسنيّة الاحتفال بالمولد في ليلة غير مخصوصة . وقد سبق منا مطالبته بما يدل على الاستحباب ، من مصادر التشريع المعتبرة في محيط العبادة التي مبناها علىالتوقيف ، لا على الاستحسان ، ولا على الاستصلاح . ووعدنا بمناقشة ما زعمه له دليلاً على ذلك في رسالته البتراء ، وتفنيد زيفها وزيغها وبطلانها .(129/26)
الوقفة الثالثة : عند قوله : لأن ذكره صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون في كل حين . ونقول له صدقت في هذه العبارة ، وبالحق فيما اشتملت عليه نطقت ، فذكره صلى الله عليه وسلم مشروع في كل حال ، وفي كل زمان ومكان ، نذكره صلى الله عليه وسلم في صلاتنا ، ونذكره في دعائنا ، ونذكره في أذاننا و إقامتنا وخطبنا ابتداء وختاماً . ونكثر من الصلاة عليه لا في ليلة معينة ، ولا في وقت محدد ، بل نذكره ونصلي عليه ونسلم عليه ونثني عليه بما هو أهله وبما ينبغي لمقامه مع ربه ، ونحبه محبة لا تدانيها محبتنا لأنفسنا وأموالنا وأولادنا وكل محبوب عندنا ، فهو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل ذلك .
أما التعلق به فإذا كان المقصود بذلك التعلق بأوامره ونواهيه ، وألاَّ نعبد الله إلا بما شرعه صلى الله عليه وسلم; فذلك ما يجب ويتأكد على كل مسلم .
وإن كان المقصود بذلك التعلق به - صلى الله عليه وسلم - لما يزعم المالكي وأحزابه ، من أنه صلى الله عليه وسلم يملك من الضر والنفع ، والمنع والعطاء ، وغير ذلك مما جاء ويجيئ في المدائح النبوية التي أورد بعضها المالكي في كتبه ومنها " الذخائر المحمدية " منشرحاً بها خاطره ، مؤيداً لما تقتضيه من غلو وإطراء وإشراك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه في مقاليد السموات والأرض كما تنطبق بذلك الصفحة (110) من كتابه " الذخائر المحمدية " عند شرحه صلاة الفاتح المغلق ، وقد سبق منا نقل ذلك .
إذا كان التعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الوضع ; فهذا مما نتبرأ إلى(129/27)
الله منه ، ومن الأخذ به ، ونشهد الله على أنا نعتقد فمن يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التعلق أنه مشرك بالله غيره ، ومعتقد ما يتنافى مع مقتضى لا إله إلا الله ، وأن شركه أعظم من شرك أبي جهل وأبي لهب وأبيّ ابن خلف ، وغيرهم من أقطاب المشركين الذين يعبدون مع الله غيره ، ولا يقولون بأن معبوداتهم تشترك مع الله تعالى في مقاليد السموات والأرض ، وتملك حق الإقطاع في الجنة ، وعندها علم كل شيئ ، حتى الروح والخمس المغيبات التي في آية إن الله عنده علم الساعة، وأنها نورلا ظل لها في شمس ولا في قمر، وأن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجلها ، حيث ينص المالكي في كتابه " الذخائر المحمدية " على ذلك وغيره في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سبق لنا إيضاحه بنقله من صفحاته ، ولكنهم يقولون في تبريرعبادتهم غير الله : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } .
وذكر المسألة الثالثة بقوله :
( المسألة الثالثة أن هذه الاجتماعات هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله ، وهي فرصة ذهبية ينبغي ألا تفوت ، بل يجب على الدعاة أن يذكّروا الأمة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعبادته) إلى أن قال( ومن لم يستفد شيئاً من ذلك فهو محروم من خيرات المولد الشريف)اهـ .(129/28)
وتعليقنا على هذا القول هو أن الدعوة إلى الله تعالى ليست حولية ، والتذكير برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعبادته ليس حولياً . إننا حينما نقتصر على ذلك فهذا يعني هجران رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنكب عن ذكراه ، إلا عند ذكرى مولده ليلة من كل عام ، يحصل فيها من الهرج والمرج واللغط والغلط ; ما يغضب الله ورسوله . وإذا كان المالكي ينفي بلسانه ما يكون في ليالي الموالد من المنكرات مما لا يخفى عليه ، وهو يحضره ويؤيده بحضوره ، فنحن نؤكد للمالكي أنه يقول بلسانه ما يكذبه فيه فعله وفعل أتباعه ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
وإذا كان المالكي صادقاً فيما يقوله : من أن ليالي الموالد عبارة عن الدعوة إلى الله تعالى والتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأين نتائج قوله ؟!
إنه لو قال : إن هذه الموالد تعطّل المواهب العقلية التي منحنا الله إياها ، وتجعل المؤمن بها رهن التخيلات والتوهمات ، وأعطانا دليلاً على ذلك بوجود شخصيات لها اعتبارها وثقلها في الميزان الاجتماعي ، من حيث الثقافة العامة والوجاهة وسعة الإدراك ، ورجاحة العقل والإعتبار الاجتماعي ، هذه الشخصيات تشارك في هذه الاجتماعات وتقوم بتمويلها المالي لقلنا له : صدقت .
إنه لو قال : إن هذه الاجتماعات المحتفلة بالمولد النبوي يختلط فيها الرجال بالنساء ، وتنشد فيها الأشعار بمختلف المعازف ، وتدار فيها أنواع المشروبات وقد يكون فيها الحرام ، وتقدم فيها صنوف المأكولات، ويحضرها البرّ والفاجر ، وقد تحاكي هذه الليالي الليالي الحمراء في دور اللهو والهوى ، لو قال ذلك ، وقال إن مولدنا يخلو من بعض ما ذكر لقلنا له : يمكن ذلك ، بحكم ما لبلادنا من بيئة خاصة تفرض ذلك وتلزم به .(129/29)
إنه لو قال : إن هذه الموالد صارت سبباً في فرقة المسلمين ، وتعدد طوائفهم وفرقهم وطرقهم ومعتقداتهم في حضور مجالسهم حضرات مباركة على حد زعمهم ، تأمر وتنهي وتشرع وتحظر ، وتشير بالشقاوة والسعادة إلى عباد الله ، مما كان له أثره السيئ في فساد عقول بعض المسلمين ، وانسياق عواطفهم ومشاعرهم إلى متاهات وترهات وخرافات تندد بها العقول السليمة ، وتنحى باللائمة عليها طوائف الصلاح والإصلاح ، من علماء المسلمين ومحققيهم ، كما كان لذلك أثره السيئ في تفريق الأمة الإسلامية إلى طوائف تحقق بوجودها ما ذكره صلى الله عليه وسلم من تفرق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، هي من كان على مثل ما عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فما الكثير من ملل القدرية والجهمية والمعتزلة والشيعة ، وأنواع الطرق الصوفية ، إلإ نموذج لتفرق المسلمين ونتيجة لإضلالهم بمثل ما يدعو إليه المالكي وأحزابه ، مما فيه تعطيل لموارد النقل والعقل ، وأخذ بقواعد التبعية والابتداع .(129/30)
إنه لو قال ذلك ، لقلنا له صدقت، وفي الأرض أكثر من شاهد على تحقيق ذلك ، فلا حول ولا قوة إلا بالله . على أي حال وعلى أي افتراض فإن القول بمشروعية أمر ما سواء كان ظاهره الاستحسان أو الاستصلاح ; يحتاج إلى التأمل والنظر ، فإن كان من أمور الدنيا ورجحت مصلحته على مفاسده ، اتجهت مشروعيته ويتعين الأخذ به ، وإن كان من أمور الآخرة ومن أمور العبادة ; فإن مبنى القول بالمشروعية على التوقيف ، فإن وجدنا مستند مشروعيته من كتاب الله تعالى، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو من عمل أصحاب رسول الله والتابعين من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرة والفضل ، قبلنا ذلك ، وأخذنا به واعتقدنا مشروعيته وجوباً أو استحباباً . أما إن انتفى عن ذلك الأمر المزعومة مشروعيته ما يسنده منكتاب الله تعالى أو سنة رسوله ، أو عمل من يحتج بقوله وفعله من الصحابة ، ولو كان حسناً في ظاهره ، فهو مرفوض ومحكوم عليه وعلى الآخذ به بالبدعية والابتداع ، ولو كان خيراً وحقاً لسبقنا إليه من أهم أحرص منا على الخير ، وأصدق منا محبة للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهم سلف هذه الأمة وصالحوها من الصحابة والتابعين وتابع التابعين . وقبل أن ندخل مع المالكي في مناقشة مزاعمه الاستدلالية بجواز الاحتفال بالمولد النبوي، نحب أن نمهد لذلك بذكر ما نعتقده في رسول صلى الله عليه وسلم ، وما يجب علينا نحوه من محبة وتقدير ، وما يجب علينا الأخذ به فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم ، مما وجهنا إليه صلى الله عليه وسلم وحذرنا من تجاوزه لئلا نكون في مسار أهل الكتاب ، ممن غلوا في أنبيائهم ورسلهم ، حتى جعلوهم آلهة تعبد مع الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
لقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على صفة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم :(129/31)
قال تعالى :{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(1) .
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }(2).
وقال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى }(3).
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }(4).
وقال تعالى :{ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(5).
وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }(6) .
وقال تعالى :{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ }(7).
وقال تعالى :{ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ }(8).
__________
(1) - سورة الأحقاف ، الآية : 9 .
(2) - سورة الأحزاب ، الآية : 45 – 46 .
(3) - سورة الإسراء ، الآية : 1 .
(4) - سورة المائدة ، الآية : 67 .
(5) - سورة الرعد ، الآية : 7 .
(6) - سورة الكهف ، الآية : 110 .
(7) - سورة يونس ، الآية : 2 .
(8) - سورة الأنعام ، الآية : 50 .(129/32)
وقال تعالى:{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(1).
وقال تعالى :{ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}(2).
وقال تعالى :{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (3).
وقال تعالى :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }(4) .
وقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ }(5).
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ }(6).
وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ }(7) .
وقال تعالى :{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (8).
وقال تعالى :{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (9).
وقال تعالى :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(10).
__________
(1) - سورة الأعراف ، الآية : 188 .
(2) - سورة الجن ، الآية : 21 .
(3) - سورة الزمر ، الآية : 30 .
(4) - سورة آل عمران ، الآية : 144 .
(5) - سورة الفرقان ، الآية : 20 .
(6) - سورة النساء ، الآية : 59 .
(7) - سورة النساء ، الآية : 64 .
(8) - سورة النساء ، الآية : 80 .
(9) - سورة التوبة ، الآية : 128 .
(10) - سورة الحشر ، الآية : 7 .(129/33)
وقال تعالى :{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلأئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} (1).
هذه الآيات الكريمات وغيرها من عشرات الآيات أو مئاتها تبين صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونوع رسالته ، ونسبته إلى ربه ، فهو رسول من رب العالمين ، ما عليه إلا البلاغ ، وأنه ليس عليهم بمسيطر ، وأنه لا يعلم الغيب ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ، وأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وأنه لم يكن بدعاً من الرسل ، وأنه لا يدري ما يُفعل به ولا ما يُفعل بنا ، وأنه بشر مثلنا أرسله الله إلينا شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وأنه صلى الله عليه وسلم من أنفسنا عزيز عليه عنتنا ، حريص علينا بالمؤمنين منا رؤوف رحيم، وأنه عبدالله ورسوله يناله من الطبائع البشرية ما ينال بني جنسه .
قال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }(2).
__________
(1) - سورة الإسراء ، الآيات : 90 – 93 .
(2) - سورة فصلت ، الآية : 6 .(129/34)
إلا أنه صلى الله عليه وسلم معصوم مما لا يحبه الله ولا يرضاه ، لا يدانيه في معرفة حق ربه أحد ، له من الله تعالى مقام محمود ، وحوض مورود ، وخصائص تكريمية خصه الله بها ، إلا أن هذه الخصائص لا تصل إلى حد خصائص الربوبية والألوهية ; في المنع والعطاء ، والنفع والضر ، والسلطة الكاملة ، والهيمنة الشاملة ، والخلق والملك والتدبير، والتفرّد بكمال الجلال والتقديس ، والتفرد بالعبادة بمختلف أحوالها وأنواعها ومراتبها .
وقد عرف صلى الله عليه وسلم قدر نفسه تجاه ربه . فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتني لله نداً . بل ما شاء الله وحده " رواه النسائي وصححه ، وابن ماجه ، وابن مردويه وغيرهما .
وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : " شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ }(1) .
__________
(1) - سورة آل عمران الآية : 128 .(129/35)
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (1) ، فقال : يا معشر قريش أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس ابن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ ، لا أغني عنك من الله شيئاً " . وفي الصحيحين عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله . فقالا له : أترغب عن ملة عبدالمطلب ؟ ، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله عز وجل:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى }(2) . وأنزل الله في أبي طالب :{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(3) .
وفي سنن أبي داود بسند جيد ، عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : السيد الله تبارك وتعالى ، فقلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولا ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان .
__________
(1) - سورة الشعراء ، الآية 214 .
(2) - سورة التوبة ، الآية 113 .
(3) - سورة القصص ، الآية 56 .(129/36)
وفي سنن النسائي بسند جيد عن أنس رضي الله عنه أن أناساً قالوا : يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . فقال : يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد ، عبدالله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل .
وروى الطبراني بإسناده إلى عباده ابن الصامت رضي الله عنه قال : كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله عز وجل .
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والغلو . رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه .
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً .
وفي سنن ابن ماجه بسنده إلى أبن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه ، فقال له: هوّن عليك ، فإني رجل لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد .
فهذه أحاديث صحيحة وصريحة ، وكلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على حماية جناب التوحيد ، وعلى أن تنزله أمته منزلته التي أنزله الله إياها ، فلا غلو ولا تنطع ، ولا إطراء ولا إفراط ، قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان . لقد صدق الله ، فكم كان صلى الله عليه وسلم حريصاً علينا بالمؤمنين منا رؤوفاً رحيما .
أما ما يتعلق بمنزلته صلى الله عليه وسلم في قلوبنا معشر أمته ، فإن ابتناء هذه المنزلة مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله محمد صلىالله عليه وسلم ، ومن ذلك ما يلي :(129/37)
قال تعالى :{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }(1).
وقال تعالى :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(2) .
وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }(3) .
وقال تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(4) .
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
ولهما عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار .
وعن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به . قال النووي حديث صحيح ، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح . وفي الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم أجر كبير ، واستجابة كريمة لأمر الله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا}(5) .
__________
(1) - سورة النساء ، الآية : 80 .
(2) - سورة الحشر ، الآية : 7 .
(3) - سورة آل عمران ، الآية : 31 .
(4) - سورة التوبة ، الآية : 24 .
(5) - سورة الأحزاب ، الآية : 56 .(129/38)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِ عليّ .
وقال : من صلى عليّ واحدة ، صلى الله عليه بها عشراً .
وقال من حديث جبريل عليه السلام : رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصلِ عليك ، قل آمين ، فقلت : آمين .
والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أحد أركان الصلاة ، من تركها عامداً بطلت صلاته ، ومن تركها ناسياً لم تصح صلاته حتى يأتي بها . وهي أحد أركان خطبة الجمعة .
والدعاء له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود الذي لا يكون لغيره صلى الله عليه وسلم ، وذلك عقب الأذان أمر محبوب ومسنون ، وفيه فضل كبير . وقد أدى صلى الله عليه وسلم رسالة ربه وبلغها أتم بلاغ وأكمله ، فترك صلى الله عليه وسلم أمته على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك . وأدى الأمانة و نصح للأمة ، وجاهد في الله حق جهاده . فنفسي وأبي وأمي فداه صلى الله عليه وسلم .
وقد أكد صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يتم له إيمان حتى يكون صلى عليه وسلم أحب إليه من نفسه وماله وأهله والناس أجمعين ، فما معنى هذه المحبة ..؟
لاشك أننا نحبه صلى الله عليه وسلم في شخصه ، وكم نتمنى أن نكون حظينا بصحبته صلى الله عليه وسلم ، وبالاشتراك مع أصحابه والتزاحم معهم في تتبع آثاره ، والاستمتاع بأحاديثه ومجالسه ومخالطته ، ولكن هيهات هيهات ، فقد حيل بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم ، فبقي لنا كمردود إيجابي للقول بحبه والدلالة على صدق ذلك منا التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وتعلماً وتعليماً وإيثاراً ، وأمراً ونهياً عن تنكبها ، والتأسي به صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وآدابه وشمائله ، والدفاع عن سنته صلى الله عليه وسلم ، ورد كل مالم يكن من سنته من بدع ومحدثات ، مهما كانت ظواهرها حسنة ومقبولة .
وننطلق لرد البدع والمحدثات من حرصه صلى الله عليه وسلم وأمره هذه الأمة بالاتباع وترك الابتداع .(129/39)
ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحدث من أمرنا هذا ماليس منه فهو رد . وفي رواية : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد .
وفي سنن أبي داود والترمذي عن العرباض ابن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منه القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كانها موعظة مودع فأوصنا . قال : " أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة " .
فإن الابتداع في الدين يعني التزاما اتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقصير في التبليغ ، والتقصير في نصح الأمة ، والتقصير في أداء الأمانة ، حيث لم يبلغ صلى الله عليه وسلم أمته هذه المستحسنات المزعومة ، حتى جاء أهل القرون المتأخرة من رافضة وقرامطة وصوفية ودجاجلة ، فقالوا في الدين ابتداعاً هذا حسن وهذا مقبول ، وهذا مراد به محبة الله ، وهذا مراد به محبة رسول الله إلى غير ذلك مما يوحى به بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ومع ذلك يقولون زوراً وبهتاناً بأنهم أصدق محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يتهمونه بما هو منه برئ .
فما من خير إلا دل الأمة عليه ، وما من شر إلا حذرها عنه ، فلو كانت هذه البدع خيراً حقاً ، لشرعها صلى الله عليه وسلم لأمته ، ولسبقنا إليها من هم أحرص منا على الاقتداء والتأسي برسول الله ، وأتقى الله ، وأصلح قلوباً ، وأنقى سرائر ، وأعمق إيماناً ، وأخلص محبة ، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم وأتباع أتباعهم .(129/40)
إن تحمسنا لرد البدع والمنكرات ، نابع من إيماننا بالله رباً، وبالإسلام ديناً ، و بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، وهو بالتالي ثمرة لمحبتنا الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، محبة تبرئه من التقصير في تبليغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، والنصح للأمة ، محبة تقتضي منا التمسك بما هو عليه صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه أصحابه الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين ، محبة تقتضي منا إنزاله صلى الله عليه وسلم منزلته التي أنزله الله إياها ، محبة تقتضي منا أن نعبد الله بما شرعه صلى الله عليه وسلم ، وذلك بإفراد الله تعالى بالعبادة والإجلال ، وكمال التعلق وفقاً وتحقيقاً لما تلقيناه توجيهاً وتعليماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محبة تقتضي منا التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وتقريراً ، ونبذ كل مالم يكن من سنته صلى الله عليه وسلم ، مما أحدث في الدين ، مما لم يكن عليه أمره صلى الله عليه وسلم ، محبة تقتضي منا اتخاذه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، وقدوة صالحة في أقوالنا وأفعالنا وأخلاقنا وآدابنا وطريق التعامل مع ربنا ، محبة تقتضي منا اعتبار البدع والمحدثات قدحاً في الرسالة ، وإشارة إلى تقصير المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيان الخير للأمة ، حاشاه صلى الله عليه وسلم وكلا .
وانطلاقاً من هذه المحبة ; فإننا لا نبالي في تجريح من يتعرض لرسالة نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بالقدح والخدش والتنقص بما يحدثه للناس من أمور يدّعي حسنها وخيرها وقبولها عند الناس .(129/41)
كم بلغت فرحتنا ، وكم بلغ ابتهاجنا ، وكم كان انشراح صدورنا ، حينما قيل لنا بأن محمد علوي مالكي أخذ شهادة عليا . لقد نشرنا أملنا في أن تكون شهادته نبراساً له يستضيئ بها في طريق الدعوة إلى الله ، بما يرتضيه جده صلى الله عليه وسلم على افتراض صحة نسبه إليه ، فهو على ذلك الافتراض من أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أولى الناس بالدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما يعتبر قدحاً في بلاغه الرسالة، وأدائه الأمانة ، ونصحه للأمة . وإذا كان المالكي يدعي شيئاً من ذلك بما يقوله في دروسه ، وبما يكتبه في مؤلفاته ، فإن دعواه باطلة . لقد جعل رسول الله إلهاً مع الله في ربوبيته وألوهيته ، وأخذ يقرر مشروعية بدع ومحدثات ما كان لها وجود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه وأتباعهم ، وادعى أن فيها خيرا ، وفيها فضلا ، وفيها أجرا وثوابا. إنه بذلك بين أمرين وكلاهما شر ، وأحلاهما المر ، أما أنه يعتقد صدق ما يقول فيكون بذلك قادحاً في كمال الرسالة مدعياً على سبيل الاستلزام تقصير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدائها ; حيث لم يبين لأمته ما في هذه البدع والمحدثات من الفضل والأجر والخير الكثير على حد زعمه . وأما أن يكون المالكي كاذباً فيما يقول بينه وبين نفسه ، ولكنها الرغبة في الوجاهة والظهور، ودعوى الولاية والدراية ، وللتضليل على العامة ، والتلبيس عليهم بترهات يخرج عليهم بها في لباس الولي المطلع على أسرار الكون وخصائصه ، ليقدموا له ثمن ذلك لحس الأيدي وانحناءات التعظيم و التبجيل ، وطلب البركة في أثوابه وآثاره، كما هو الحال فيما نراه ونسمعه منه و عنه، فيا ويله من هذا الغرض السيئ ، وهذا الاتجاه الأثيم ، والله حسيبه وكافيه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(129/42)
والآن وبعد أن قدمنا هذه المقدمة التي أوضحنا فيها ما نعتقده في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحوافز التي جعلتنا نستنكر من المالكي مسالكه الشائنة ; في ترويج البدع وفتح أبواب الجاهلية على هذه الأمة ، وأن ذلك كله منا نابع من صدق محبتنا لرسول الله ، وصدق اتباعنا رسول الله ، وسلامة اقتدائنا بسنة رسول الله ، ومقتضى إيماننا بوحدانية الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وكمال ذاته وصفاته ، وأنه الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والمانع والمعطي ، والنافع والضار ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، لا يأتي بالخير إلا هو ، ولا يدفع الشر إلا هو ، أكمل الدين ببلاغ رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام ديناً .
وبعد تقديمنا ما قدمناه ، يطيب لنا الآن أن ندخل مع المالكي في مناقشة دلائله على جواز الاحتفال بالمولد ، ورد هذه الدلائل ، وبيان زيفها وزيغها وبعدها عن مواطن الاستدلال ، والله المستعان .
رد أدلة المالكي على جواز الاحتفال بالمولد النبوي
~~~~~
الدليل الأول مناقشته ثم رده :-
ذكر المالكي الدليل الأول من هذه الأدلة بقوله :
الأول : إن الاحتفال بالمولد الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقد انتفع به الكافر، وقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي :
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه ××× بتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما ××× يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ××× بأحمد مسروراً ومات موحدا
لنا مع صاحب هذا الدليل الوقفات التالية :(129/43)
الوقفة الأولى : إن السرور والفرح والتمتع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مولده وفي بعثته وفي هجرته وفي جهاده وفي إبلاغه رسالة ربه ، وفي رأفته ورحمته بأمته وحرصه عليهم ، وألمه صلى الله عليه وسلم من عنت من يعنت منهم إلى غير ذلك من أحواله ، إن السرور بذلك يجب أن يكون في كل حال وزمان ومكان ، وألا يختص ذلك بليلة حولية من كل سنة ، يكون في الاجتماع عليها من المنكرات والمعتقدات الباطلة ، والإسراف في موائد المآكل والمشارب ، والاستماع إلى مدائح ترتقي بالممدوح فيها إلى مقام الألوهية و الربوبية . إننا حينما نفترض جدلاً سلامة هذه الليلة من المنكرات ، فإن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة حولية من كل عام يعتبر ضرباً من الهجران والصدود والغفلة، وذلك حينما لا نذكر ولا نعرف شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما في حياته من جوانب إشراق إلا بعد مضي ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما.
الوقفة الثانية : عند حديث تخفيف العذاب عن أبي لهب :-
لقد تناول العلماء هذا الحديث بالشرح والتعليق ، واستنباط ما يمكن أن يدل عليه
من أحكام وفوائد، فلم يستدل به واحد منهم على مشروعية الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)
__________
(1) - جاء في كتاب الشيخ أبي بكر الجزائري " الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف " الرد على الاحتجاج بعتق ثويبة مولاة أبي لهب ، ودعوى التخفيف على أبي لهب بذلك لاستبشاره بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
الشبهة الأولى : في الأثر التاريخ وهو ما روي من أن أبا لهب الخاسر رؤي في المنام فسُئل فقال : إنه يعذب في النار إلا أنه يخفف عنه كل ليلة اثنين ، ويمص من بين أصبعيه ماء بقدر هذا ، وأشار إلى رأس أصبعه ، وأن ذلك كان له بسبب إعتاقه جاريته ثويبة لما بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم لأخيه عبدالله بن عبدالمطلب وبإرضاعها له صلى الله عليه وسلم. وردّ هذه الشبهة وإبطالها من أوجه :-
1 - أن أهل الإسلام مجمعون أن الشرع لا يثبت برؤى الناس المنامية، مهما كان ذو الرؤيا في إيمانه وعلمه وتقواه ، إلا أن يكون نبي الله ، فإن رؤيا الأنبياء وحي ، والوحي حق .
2 - أن صاحب هذه الرؤيا هو العباس بن عبدالمطلب ، والذي رواها عنه رواها بالواسطة ، فالحديث إذاً مرسل ، والمرسل لا يُحتج به ، ولا تثبت به عقيدة ولا عبادة ، مع احتمال أن الرؤيا رآها العباس قبل إسلامه ، ورؤيا الكافر حال كفره لا يُحتج بها إجامعاً " اهـ .[ انظر ص 30-31] .
3 - أكثر أهل العلم من السلف والخلف على أن الكافر لا يُثاب على عمل صالح عمله إذا مات على كفره وهو الحق لقول الله تعالى { وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءاً منثوراً }، وقوله عز وجل { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سألته عائشة رضي الله عنها عن عبد الله ابن جدعان الذي كان يذبح كل موسم حج ألف بعير ، ويكسو ألف حلة ، ودعا إلى حلف الفضول في بيته ، هل ينفعه ذلك يا رسول الله ؟ فقال : لا ، لأنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين . وبهذا يتأكد عدم صحة هذه الرؤيا ، ولم تصبح شاهداً ولا شبهة أبداً .
4 - إن الفرح الذي فرحه أبو لهب بمولود لأخيه فرح طبيعي لا تعبدي ، إذ كل إنسان يفرح بالمولود يولد له أو لأحد إخوته أو أقاربه ، والفرح إن لم يكن لله لا يُثاب عليه فاعله ، وهذا يضعف هذه الرواية ويبطلها ، مع أن فرح المؤمن بنبيّه قائم بنفسه لا يفارقه أبداً ، لأنه لازم حبه ، فكيف نحدث له ذكرى سنوية نستجليه بها . اللهم إن هذا معنى باطل ، وشبهة ساقطة لا قيمة لها ولا وزن ، فكيف يثبت بها إذاً شرع لم يشرعه الله لا عن عجز ولا عن نسيان ، ولكن رحمة بعباده المؤمنين ، فله الحمد وله المنة " اهـ . [ انظر ص 40- 41 ] .(129/44)
.لا شك أن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت أول فتح من الخير على هذه الأمة ، وحصل في ليلة ولادته صلى الله عليه وسلم أمور كانت إنذراً لعناصر الشر ودول الباطل ، إلا أن ذلك كله لا يعني اعتبار هذه الليلة عيداً حولياً من الأعياد الإسلامية ، فلقد عاش صلى الله عليه وسلم بعد ولادته ثلاثاً وستين سنة ، لم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه ، ولا عن التابعين ومن تبعهم من القرون الثلاثة المفضلة أنهم اعتبروا هذه الليلة من الأعياد تقام فيها الاحتفالات ابتهاجاً بهذه المناسبة ، ولو نقل لنا شيئاً من ذلك لكنا والله أسرع الناس إلى الاقتداء والامتثال والتأسي . ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصين على الاقتصارعلى ما شرعه الله تعالى في كتابه، أوعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وابن مسعود رضي الله عنه وهو أحد أكابرالصحابة وعلمائهم وفقهائهم يؤكدعلى الناس قوله : " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد
كفيتم " .
الوقفة الثالثة : عند أبيات الحافظ الدمشقي :
فنحن ندعو للحافظ الدمشقي بالرحمة والمغفرة ، نؤكد معه قوله الصادق :
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ××× بأحمد مسروراً ومات موحدا
فهو رحمه الله يرجو ربه بسروره برسول الله صلى عليه وسلم طول عمره ، لا
أنه يرتجي ثواب سروره برسول الله في ليلة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة .(129/45)
ثم إنه رحمه الله يربط رجاءه الثواب بموته موحداً الله تعالى بما هو أهله ، وبما يستحقه تعالى من العبادة والتعظيم ، وصدق التعلق ، لا بنسبة النفع والضر والمنع والعطاء لغير الله مع الله ، ولا بالقول بالاشتراك مع الخالق تعالى و تقدس في مقاليد السموات والأرض ، ولا بالقول بأن آدم وذريته خلقوا لأجل محمد خلافاً للآية الكريمة : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(1) ، كما تصرخ بذلك المدائح النبوية التي تقال في الموالد ، فيترنح للإيمان بها حاضرها ، وقد أورد المالكي في كتابة الذخائر المحمدية بعضاً منها على سبيل الاستحسان والتأييد ، والدعوة إلى القول بها ، واعتقاد ما تدل عليه من غلو وتنطع وابتداع .
الدليل الثاني مناقشته ثم رده :-
وذكر المالكي الدليل الثاني بقوله :
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده ، ويشكر الله تعالى فيه نعمته الكبرى عليه ، وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود، إذ سعد به كل موجود . وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام ، كما جاء في الحديث عن أبي قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال : " فيه ولدت و
فيه أنزل عليّ " . رواه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .
وهذا في معنى الاحتفال به ، إلا أن الصورة مختلفة ، ولكن المعنى موجود ، سواء كان ذلك لصيام أو إطعام طعام ، أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو سماع شمائله " . اهـ .
هذا الدليل ، لنا مع صاحبه عدة وقفات :
الوقفة الأولى : عند قوله : بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده بالصيام .
__________
(1) - سورة الذاريات ، الآية : 65 .(129/46)
إن صيامه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، وبيانه أن سبب ذلك ولادته فيه ، وبدء الإنزال عليه ; ليس تعظيماً لذلك اليوم ، وإنما هو شكر لله تعالى على أن منّ عليه بنعمة النبوة والرسالة ، أشبه شكر الله تعالى بصيام العاشر من شهر محرم ، حيث نجى الله فيه موسى وأهلك فرعون ، ومع ذلك فلم يدع أصحابه إلى إقامة احتفال بليلة مولده ، ولم يشرع لهم صيام يوم الإثنين ، لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه، وإنما شرع لهم صيامه على سبيل الاستحباب ، لأنه يوم تعرض فيه أعمال العباد على الرب ، فيستحسن أن يعرض عمل العبد وهو صائم .
كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسمح لأحدٍ من أمته أن يرفعه بالمديح فوق منزلته التي أنزله الله إياها ، ولم يحتفل بليلة مولده صلى الله عليه وسلم أحد من أصحابه ، الذين هم أحرص الناس على اتباع ما يحبه ويرضاه ، وأصدق الناس حباً له صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك فلو اقتصر المالكي وأتباعه على صيام يوم الاثنين من كل أسبوع ابتهاجاً بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لوجد منا تأييداً وإنكاراً على من ينكر عليه ذلك . أما أن يعمل من الحبة قبة ، ومن السنة بدعة ، ويحتج على الابتداع والإحداث في الدين بما لا يصلح له دليلاً ; فهذا ما لا يصلح له ولا يستقيم (1)
__________
(1) - جاء في كتاب الشيخ أبو بكر الجزائري " الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف " رد على الاحتجاج بصيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين على مشروعية إقامة المولد ، حيث قال : " ورد هذه الشبه وإبطالها وإن كانت أضعف من سابقاتها من أوجه :-
الأول : أنه إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول ربه به وهو الصوم ، وعليه فلنصم كما صام ، وإذا سئلنا قلنا إنه يوم ولد فيه نبينا فنحن نصومه شكراً الله تعالى ، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه لأن الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب ، وهم يريدون ذلك ، فتعارض الغرضان ، فآثروا ما يحبون على ما يحب الله ، وهي زلة عند ذوي البصائر والنهي .
والثاني : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أنه كذلك وإن صام يوم الإثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات أو أكثر ، وبناء= =على هذه فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الإثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكاً على الشارع ، وتصحيحاً لعمله ، وما أقبح هذا إن كان والعياذ بالله تعالى .
والثالث : هل النبي صلى الله عليه وسلم لما صام يوم الإثنين شكراً على نعمة الإيجاد والإمداد وهو تكريمه ببعثته إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً ; أضاف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب ؟ والجواب : لا ، وإنما اكتفى بالصيام فقط ، إذاً ألا يكفي الأمة ما كفي نبيها ، ويسعها ما وسعه ؟؟؟
وهل يقدر عاقل أن يقول : لا . وإذاً ، فلمَ الافتيات على الشارع ، والتقدم بالزيادة عليه ، والله يقول : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، ويقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " ، ويقول : " إن لله حدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها " أخرجه بن جرير ، ورواه الحاكم ، وصححه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه .ا هـ . [ انظر ص 44- 45 ] .(129/47)
.
الوقفة الثانية : عند قوله : إذ سعد به كل موجود .
كم نتمنى أن يسعد به صلى الله عليه وسلم كل موجود ، فيسلم المجتمع الإنساني من دعاة جهنم ، من مشرك وكافر وملحد ، وكائد للإسلام والمسلمين ، ولكنها السجعة أعجبت شيخ البدعة ، فأوردها وهو لم يدر معناها مع أنه يزعم أنه عالم كبير ودكتور نحرير.
الوقفة الثالثة : عند قوله : وهذا معنى الإحتفال به ، إلا أن الصورة مختلفة ، ولكن المعنى موجود .
يقصد المالكي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بصيامه يوم ولادته يوحي إلى أمته وفي طليعة الأمة أصحابه وتابعوهم بإقامة احتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ، إلا أنهم من الغباء والجهل والبعد عن إدراك مقاصده صلى الله عليه وسلم بمكان حجب عنهم ذلك ، حتى جاء الرافضة والقرامطة والفاطميون ومن نحا نحوهم من أهل البدع والمحدثات كالمالكي وأضرا به ، فأدركوا بثاقب بصرهم ونفاذ بصيرتهم وقوة إيمانهم وشدة محبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أدركوا مقصده صلى الله عليه وسلم بصيامه يوم الإثنين ، فدعوا إلى إقامة الاحتفالات بالموالد .
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ××× كلاهما وحتى سامها كل مفلس
حقاً إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . هل يجوز لنا يا محمد مالكي أن نقول : أن مشروعية الصلاة في الأوقات الخمس تعني مشروعية الصلاة في الجملة ؟ ، وأنه يجوز لنا أن نحدث وقتاً أو وقتين زيادة على الصلوات الخمس المكتوبة ؟
هل يجوز لنا أن نقول : أن مشروعية صيام رمضان ، تعني مشروعية الصيام في الجملة ؟ وأنه يجوز لنا أن نحدث صيام شهر آخر غير رمضان على سبيل الوجوب ؟
هل يجوز لنا أن نقول : أن مشروعية الحج في زمان مخصوص ، تعني مشروعيته في الجملة ، وأنه يجوز لنا أن نقول بتوسعة وقت الحج طوال العام كالعمرة تخفيفاً على الأمة وتوسعة عليها ؟(129/48)
إننا حين نقول بذلك ، لا نقول بأن الصورة مختلفة ، بل إن الصلاة هي الصلاة ، والصوم هو الصوم ، والحج هو الحج ، إلا أن الجديد في ذلك الزيادة على المشروع فقط . يلزم المالكي أن يقول : بجواز ذلك كما قال : بأن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مولده ، يدل على جواز إقامة الاحتفال بذكرى ذلك من كل عام . وبالتالي نقول لأصحاب رسول الله أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والستة الباقين من العشرة ، والحسن والحسين وأمهما فاطمة ، وأمهات المؤمنين أزواجه صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، إنكم لم تقدروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره كما قدره المالكي وأضرا به ، فلم تقيموا احتفالات حولية بذكرى ولادته صلى الله عليه وسلم ، كما يوحي بذلك على حد زعم المالكي وفهمه السقيم وعقله السخيف صومه صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين . حقاً إن الهوى يعمي ويصم .
إننا نؤكد ونكرر أن ذكراه صلى الله عليه وسلم ، والاستبشار بمولده ومبعثه وهجرته وجهاده ، وجميع ما يتعلق بحياته صلى الله عليه وسلم ، يجب أن تصاحب حياتنا في كل وقت ، فنجتمع على مذاكرة سنته ، وعلى تلاوة سيرته ، وما يتعلق بشمائله صلى الله عليه وسلم ، ليس مرة في السنة ، ولكن كل ما سنحت لنا فرصة ذلك . أما أن نتخذ ذلك على شكل عيد حولي ، وبعقيدة مشروعية ذلك ، فهذا ما لا نقول به ، ونجهل المالكي وأضرابه حينما ينادون بذلك ويحبذونه ، وقولاً وعملا .
الدليل الثالث مناقشته ثم رده :-
وذكر المالكي الدليل الثالث بقوله :
الثالث : أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن، من قوله تعالى :
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا }(1)، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة ، قال الله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(2) . اهـ .
__________
(1) - سورة يونس ، الآية : 58 .
(2) - سورة الأنبياء ، الآية : 107 .(129/49)
لاشك أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب من أمته ، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، ولكن الاستدلال بذلك على الصفة المبتدعة بقوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا }(1) استدلال من يتعسف النصوص ويخضعها لهواه وما يحب .
فلقد فسر هذه الآية الكريمة كبار المفسرين ، كابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي وابن العربي وغيرهم ، ولم يكن في تفسير واحد منهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية ، وهو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين}(2) ذلك هو القرآن الكريم ، ونزولاً منا على رد مغالطة المالكي وتعسفه في إخضاع النصوص لما يريد منها ، نورد بعضاً من تفسير أهل العلم ، ليرى القارئ الكريم كيف سمح المالكي لنفسه بالجنوح والشطط في النظر ، وشابه بذلك بعض الرافضة حينما قالوا إن المقصود بقوله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمئِنة ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}(3) إن المقصود بذلك الحسن بن علي .
قال ابن كثير في تفسيره ما نصه :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (4) .
__________
(1) - سورة يونس ، الآية : 58 .
(2) - سورة يونس ، الآية : 57 – 58 .
(3) - سورة الفجر ، الآية :27 – 30 .
(4) - سورة يونس ، الآية : 57- 58 .(129/50)
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي زاجر عن الفواحش ، { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي من الشبه والشكوك ، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ، { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به ، والمصدقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى :{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }(1) . وقوله :{ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء }(2) ، وقوله تعالى :{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا }(3) . أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به " اهـ (4) .
قال ابن جرير ما نصه :
" القول في تأويل قوله تعالى : { قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }(5) . قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك ، وبما أنزل إليك من عند ربك ، بفضل الله أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ودعاكم إليه ، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم ، وذلك القرآن فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ، بقوله فإن الإسلام الذي دعاهم إليه ، والقرآن الذي أنزله عليهم خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها " اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه :
__________
(1) - سورة الإسراء ، الآية : 82 .
(2) - سورة فصلت ، الآية : 44 .
(3) - سورة يونس ، الآية 58 .
(4) - ج 2 ، ص 421 .
(5) - سورة يونس ، الآية : 58 .(129/51)
" قوله تعالى :{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا }(1) ، قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام . وعنهما أيضاً فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله . وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة فضل الله الإيمان ورحمته القرآن على العكس من القول الأول " اهـ .
وإذا كنا نقرر أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب من الأمة ، فإن الفرح ليس معناه أن نحدث في دينه وفي أمره ما ليس منه ، مما يستلزم اتهامه صلى الله عليه وسلم بالتقصير في بلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح للأمة ، وندعو الناس إلى الابتداع في الدين ، ونشرع لهم من الدين مالم يأذن به الله ، ونقول لهم إنكم باحتفالكم بذكرى ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ; تحيون ليلة هي أفضل من ليلة القدر ، كما تصرخ بذلك كتب المالكي ومن نقل عنه من أئمة الضلال والابتداع .
ولكن الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني التمسك بسنته ، والعض عليها بالنواجذ ، والبعد عن المحدثات والمبتدعات ، وألا نعبد الله تعالى إلا بما شرعه صلى الله عليه وسلم ، انقياداً وتحقيقاً وامتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم ، : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " . هذا هو الفرح برسول الله، وهذا هو حب رسول الله، وهذا هو تقدير رسول الله ، وهذا هو تعزير رسول الله ، وهذا هو توقير رسول الله ، وهذا هو معنى انتفاء الإيمان من العبد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين . وبما قدمنا يتضح لأهل العلم والعدل والانصاف أن دليل المالكي هذا لا يستقيم له ، وأنه ضرب من التعسف وتحميل النصوص غير ما تحمله وتدل عليه .
الدليل الرابع مناقشته ثم رده:-
وذكر المالكي الدليل الرابع بقوله :
__________
(1) - سورة يونس ، الآية : 58 .(129/52)
الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت ، فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها وتعظيم يومها لأجلها ، ولأنه ظرف لها .
وقد أصّل صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة بنفسه ، كما صرح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة ، ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، سأل عن ذلك فقيل : " إنهم يصومون لأن الله نجى نبيهم وأغرق عدوهم ، فهم يصومون شكراً لله على هذه النعمة " ، فقال صلى الله عليه وسلم : " نحن أولى بموسى منكم " ، فصامه وأمر بصيامه " . اهـ .(129/53)
أظن أن المالكي نفسه لو أبعد عن خاطرة سلطان الهوى ; لعرف أن استدلاله هذا متهافت ، ولتورد خجلاً وهو يورد هذا دليلاً على دعواه مشروعية الاحتفال بالمولد . إن الأمة الإسلامية جمعاء تدرك مشروعية صيام يوم عاشوراء ، ويوماً بعده أو يوماً قبله ، على سبيل الاستحباب امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشكراً لله تعالى على تأييد الحق وإزهاق الباطل . ولكن ليس في علماء المسلمين ممن يُعتد بعلمهم ، ويُعترف لهم بالفضل وطول الباع في العلم والتقى والصلاح وصدق الاقتداء ، ليس فيهم من يعتبر في هذا التوجيه النبوي الكريم بصيام يوم عاشوراء تأصيلاً لقاعدة إقامة الموالد ، وإحداث مواسم دينية ، لترتبط الأزمنة بالأحداث ، كما يقول المالكي ، فتتعدد الأعياد وتكثر المناسبات ، ويعيش المسلمون كل أيامهم ولياليهم في احتفالات بالموالد والإسراء والمعراج ، والهجرة ، وذكرى الغزوات ، وغير ذلك مما يحدثه المالكي وأتباعه وأحزابه ، وأئمته ومشائخه في الابتداع . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاغة والفصاحة والقدرة على جوامع الكلم ، والحرص على تبليغ الرسالة ، وتوجيه أمته إلى كل خير ، إنه صلى الله عليه وسلم بحال لا يعجز فيها أن يعطي قاعدة تدل على مراعاة الأمة لارتباط الزمان بحوادثه الدينية العظمى ، لتذكرها وتعظم أيامها ، وأن يفرع صلى الله عليه وسلم من هذه القاعدة جزئيات تطبيقية ، فيها من الوضوح والبيان القولي والعملي ; ما يعتبر حاسماً لمجال النظر والتأمل ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئاً من ذلك لأمته ، إكمالاً لإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، والنصح للأمة ، وعليه فإن أمره صلى الله عليه وسلم أمته بصيام يوم عاشوراء شكراً لله على إنجائه نبيه موسى لا يعني اتخاذه عيداً من الأعياد ، ولا يعني الاستدلال به على إقامة الموالد ، وإنما يعني القيام بشكر الله تعالى ، وفقاً لما شرعه صلى الله عليه وسلم ، ومن أحدث من(129/54)
أمرنا ماليس منه فهو رد .
الدليل الخامس مناقشته ثم رده :-
وذكر المالكي الدليل الخامس بقوله :
الخامس : أن الاحتفال بالمولد لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم ، فهو بدعة ولكنها حسنة ، لا ندراجها تحت الأدلة الشرعية ، والقواعد الكلية ، فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعية، لا باعتبار أفرادها، لوجود أفرادها في العهد النبوي ، كما سنعلم ذلك تطبيقاً إن شاء الله " . اهـ .
لنا مع المالكي في دليله هذا عدة وقفات :
الوقفة الأولى : عند اعترافه بأن الاحتفال بالمولد بدعة ، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لا شك أن الاحتفال بدعة ، وأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالرغم من أن عهده صلى الله عليه وسلم مليئ برجال هم أحرص الناس على حب رسول الله ، وأحرص الناس على الفرح برسول الله ، وأحرص الناس على الاستبشار برسول الله ، وأحرص الناس على إظهارالسرور برسول الله ، وأخلص الناس تضحية وفداء ووقوفاً مع رسول الله ، وأدق الناس اقتداءاً وتأسياً برسول الله ، وأولى الناس وأقربهم التصاقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم . فهل يستطيع المالكي أن يقول إن القرامطة و والفاطميين والرافضة والصوفية وغيرهم من أهل البدع والمحدثات ومن هم سلف المالكي وقدوته ; هل يستطيع أن يقول : بأنهم أعظم من أصحاب رسول الله محبة ونصحاً وفرحاً واسبشاراً وسروراً وتعلقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم هل يستطيع المالكي أن يقول : أن القرامطة والفاطميين والرافضة والصوفية وغيرهم من أسلافهم أعلم من أصحاب رسول الله بحق رسول الله ؟ وأفقه من أصحاب رسول الله بما يقصده رسول الله ؟ وأكثر فطنة وإدراكاً ومعرفة لأسرار شرع رسول الله من أصحاب رسول الله ؟ .(129/55)
نعم لم يكن الاحتفال بالمولد في عهد رسول الله ، ولا في عهد أصحاب رسول الله ، ولا في عهد تابعي أصحاب رسول الله ، ولا في عهد الأئمة الأعلام في الفقه والحديث ومقاصد التشريع ، أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم . فهل نقبل أمراً أتى به شر من وطأ الحصا ; القرامطة والفاطميون وغيرهم ، ممن يشهد التاريخ الإسلامي بتدنيسهم محيا الإسلام ، ونترك ما عليه أصحاب القرون الثلاثة المفضلة ، من صحابة وتابعين وعلماء أجلاء ، لهم أقداحهم المعلاة في العلم والتقى ، والصلاح والاستقامة ، وسلامة المعتقد ودقة النظر وصدق الاتباع والاقتداء بمن أمرنا الله تعالى أن نجعله أسوة لنا ، وقدوة لمسالكنا وهو رسولنا وحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
الوقفة الثانية : عند قوله بأن الاحتفال بالمولد بدعة ، إلا أنها بدعة حسنة .
كم نتمنى من المالكي أن يتقي الله تعالى ، وأن يقف مع حماة الإسلام ، وألا يشترك مع غيره في فتح ثغرات شر وابتداع على المسلمين . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم ، وله من الفصاحة والبلاغة والقدرة على القول المبين ما يستطيع أن يبين به أقسام البدعة ; إن كان للبدعة أقسام ، و أن يبين من هذه الأقسام ما يجوز ومالا يجوز ، ولكنه صلى الله عليه وسلم عمم فقال : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . وفي رواية : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " . وقال : " وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار" . فالتعبير بكل محدثة ، والتعبير بكل بدعة ، والتعبير بكل ضلالة ، ماذا يعني ؟ هل يعني ذلك العموم ، أم يعني التقسيم ؟(129/56)
ولئن قال بالتقسيم بعض أهل العلم ، فإن المحققين منهم ينحون باللائمة على ذلك الاتجاه ، الذي فتح للبدع والمحدثات الأبواب على مصاريعها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين ، وإن كانت في الأصل مذمومة كما دل عليه الكتاب والسنة ، سواء في ذلك البدع القولية أو الفعلية ، وقد كتبت في غير هذا الموضوع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل بدعة ضلالة ، متعين ، وأنه يجب العمل بعمومه ، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح ، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على المنهي فقد أخطأ كما يفعل طائفة من المتفقهة والمتكلمة والمتصوفة والمتعبدة ، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع; ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يُقال : كل ما نهي عنه ، أو كل ما حرم ، أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة . وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة ، وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم ، إما أن يُقال ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة ، كما قال عمر : نعمت البدعة هذه ، وإما أن يقال هذا عام خصت منه هذه الصورة ، لمعارض راجح كما يبقى فيما عداها ، على مقتضى العموم ، كسائر عموميات الكتاب والسنة ، وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم ، وفي قاعدة السنة والبدعة وغيره "(1) اهـ .
وقال رحمه الله في موضع آخر ما نصه :
" ومعلوم أن كل ما لم يسنّه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم ; فإنه يكون من البدع المنكرات ، ولا يقول أحد في مثل هذا إنه بدعة حسنة "(2) . اهـ .
وقال رحمه الله في موضوع آخر ما نصه :
__________
(1) - المجموع ص 370 – 371 ، ج 10 .
(2) - المجموع ، ص 152 ، ج 27 .(129/57)
" وليس لأحد أن يقول إن مثل هذا من البدع الحسنة ، مثل ما أحدث بعض الناس الأذان في العيد ، والذي أحدثه مروان بن الحكم فأنكر الصحابة والتابعون لهم بإحسان ذلك ، هذا وإن كان الآذان ذكر الله إلا أنه ليس من السنّة ، وكذلك لما أحدث الناس اجتماعاً راتباً غير الشرعي ، مثل الاجتماع على صلاة معينة أول رجب ، أو أول ليلة جمعة فيه ، وليلة النصف من شعبان ، فأنكرذلك علماء المسلمين . ولو أحدث ناس صلاة سادسة يجتمعون عليها غير الصلوات الخمس لأنكر ذلك عليهم المسلمون ، وأخذوا على أيديهم .
وأما قيام رمضان ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّه لأمته ، وصلى بهم جماعة عدة ليال ، وكانوا على عهده يصلون جماعة وفرادى ، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة ، لئلا تفرض عليهم ، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم استقرت الشريعة ، فلما كان عمر رضي الله عنه جمعهم على إمام واحد ، وهو أبيّ بن كعب ، الذي جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعمر بن الخطاب هو من الخلفاء الراشدين ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ " يعني الأضراس ، لأنها أعظم في القوة . وهذا الذي فعله هو سنة ، لكنه قال " نعمت البدعة هذه " ، فإنها بدعة في اللغة ، لكونهم فعلوا ما لم يكونوا(129/58)
يفعلونه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني من الاجتماع على مثل هذه ، وهي سنة من الشريعة . وهكذا إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، وهي الحجاز واليمن واليمامة وكل البلاد الذي لم يبلغه ملك فارس والروم من جزيرة العرب ، وتمصير الأمصار كالكوفة والبصرة ، وجمع القرآن في مصحف واحد ، وفرض الديوان ، والآذان الأول يوم الجمعة ، واستنابة من يصلي بالناس يوم العيد خارج المصر ، ونحو ذلك مما سنه الخلفاء الراشدون ، لأنهم سنّوه بأمر الله ورسوله ، فهو سنة وإن كان في اللغة يسمى بدعة "(1). اهـ .
وقال في معرض كلامه على صلاة الرغائب ما نصه :
__________
(1) - المجموع ، ج 22 ، ص 233 – 235 .(129/59)
" وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها ، بل هي محدثة ، فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى " ، إلى أن قال : " فلو أن جماعة اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره ، لكن اتخاذ عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه ، لما فيه من تغيير الشريعة ، وتشبيه غير المشروع بالمشروع ، ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى ، أو بين الظهر والعصر ، أو تروايح في شعبان ، أو آذان في العيدين ، أو حج إلى صخرة بيت المقدس ، وهذا تغيير لدين الله ، وتبديل له ، وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها " ، إلى أن قال : " فمن جعل شيئاً ديناً وقربة بلا شرع من الله ، فهو ضال مبتدع ، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " كل بدعة ضلالة " ، فالبدعة ضد الشرع ، والشرع ما أمر الله به ورسوله ، أمر واجب إيجاب أو أمر استحباب ، وإن لم يفعل على عهده كالاجتماع في التراويح على إمام واحد ، وجمع المصحف ، وقتل أهل الردة والخوارج ، ونحو ذلك ، ومالم يشرعه الله ورسوله فهو بدعة وضلالة ، مثل تخصيص مكان أو زمان واجتماع على عبادة فيه ، كما خص الشارع أوقات الصلوات وأيام الجمع والأعياد " (1) .
وقال رحمه الله في موضع آخر ما نصه :
" وأيضاً فإن الله عاب على المشركين شيئين : أحدهما أنهم أشركوا به مالم ينزل به سلطاناً . الثاني تحريمهم مالم يحرمه الله ، كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث عياض عن مسلم ، وقال : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ }(2) ، فجمعوا بين الشرك والتحريم ، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن بها الله ، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة و
__________
(1) - المجموع ، ج 23 ، ص 132 – 133 .
(2) - سورة الأنعام ، الآية : 148 .(129/60)
إما مستحبة ، ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب به إلى الله ، منهم من ابتدع ديناً عبد به الله ، كما أحدثت النصارى من العبادات . وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله ، أو تحريم مالم يحرمه . ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم ; أن الأعمال عبادات وعادات ، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله ، وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به " (1) اهـ .
وقال الشاطبي رحمه الله ما نصه :
" الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عامة لا يخص محدثة دون غيرها ، ويدخل تحت هذه الترجمة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها ، فاعلموا رحمكم الله أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه :
أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها ، لم يقع فيها استثناء ألبته ، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ، ولا شيئ من هذه المعاني ، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان ، أو أنها لاحقة بالمشروعات ، لذكر ذلك في آية أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يختلف عن مقتضاها فرد من الأفراد .
__________
(1) - المجموع ، ج 4 ، ص 195 – 196 .(129/61)
والثانية : أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية ، أو دليل شرعي كلي ، إذا تكررت في مواضع كثيرة ، وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ، ولم يقترن بها تخصيص ولا تقيد مع تكرارها وإعادة تقررها ، فدل ذلك على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ، كقوله تعالى : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى }(1) ، وما أشبه ذلك ، وبسط الاستدلال على ذلك هنالك ، فما نحن بصدده من هذا القبيل ، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى ، وبحسب الأحوال المختلفة .
إن كل بدعة ضلالة ، وإن كل محدثة بدعة ، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ، ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية منها ، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على العموم وإطلاقها .
والثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم ، على ذمها كذلك وتقبيحها، والهروب عنها وعمن اتسم بشيئ منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف و لا مثنوية ، فهو بحسب الاستقراء إجماع ثابت ، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل .
__________
(1) - سورة النجم ، الآية : 38 ، 39 .(129/62)
الرابع : أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع ، وإطراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، و أن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم ، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشقة الشارع ، وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني . وأيضاً فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع ، أو استثناء بعضها عن الذم ; لم يتصور، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة ، من غير أن تكون كذلك ، وكون الشارع يستحسنها دليل مشروعيتها ، إذ لو قال الشارع المحدثة الفلانية حسنة ، لصارت مشروعة ، كما أشاروا إليه في الاستحسان ، حسبما يأتي إن شاء الله . ولمّا ثبت ذمها ، ثبت ذم صاحبها ، لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل من حيث اتصف بها المتصف ، فهو إذاً المذموم على الحقيقة ، والذم خاصة التأثيم فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الإطلاق والعموم، ويدل على ذلك أربعة أوجه ، إلى آخر ما ذكره "(1).
وقال في موضوع آخر في معرض شرحه تعريف البدعة ما نصه :
" وقوله في الحد تضاهي الشرعية ، يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية ، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة " – وذكر مجموعة أمور ثم قال : " ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادته صلى الله عليه وسلم عيداً وما أشبه ذلك "(2) . اهـ .
وقال ابن رجب رحمه الله في معرض شرحه حديث العرباض بن سارية قال ما نصه :
" فقوله صلى الله عليه وسلم وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ،
__________
(1) - الاعتصام ج 1 ، ص 180 – 182 .
(2) - الاعتصام ج 1 ، ص 34 .(129/63)
تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة ، وأكد ذلك بقوله كل بدعة ضلالة . والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة ، وإن كان بدعة لغة . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : إن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة . وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبدالله المزني ، وفيه ضعف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً " ، إلى أن قال : " وكل بدعة ضلالة " ، من جوامع الكلم لايخرج عنه شيئ ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة والدين برئ منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة و الباطنة ، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد ، وخرج ورآهم يصلون كذلك ، فقال : " نعمت البدعة هذه " . وروي عنه أنه قال : " إن كانت هذه بدعة ، فنعمت البدعة " . وروي أن أبيّ بن كعب قال له : إن هذا لم يكن ، فقال عمر : " ولكنه حسن " . ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ، ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها . فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان ، و يرغّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا ، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ،(129/64)
ثم امتنع من ذلك معللاً بأنه خشي أن يُكتب عليهم ، فيعجزوا عن القيام به ، وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر ، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين ، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم . ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه ، وأقرّه علي ، واستمرعمل المسلمين عليه " . إلى أن قال : " وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناد عن إبراهيم بن الجنيد قال: سمعت الشافعي يقول : البدعة بدعتان بدعة محمودة ، وبدعة مذمومة ، فما وافق السنّة فهو محمود ، وما خالف السنّة فهو مذموم . واحتج بقول عمر رضي الله عنه : نعمت البدعة هذه . ومراد الشافعي رضي الله عنه ما ذكرناه من قبل ، أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة يرجع إليه ، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنّة ، يعني ما كان لها أصل من السنّة ترجع إليه ، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا، لموافقتها السنّة ، إلى آخر ما ذكره " (1) .
وقال ابن حجرالعسقلاني في كتابه( فتح الباري شرح صحيح البخاري) من كتاب
الاعتصام ، في معرض شرحه حديث : " إن أحسن الحديث كتاب الله " ، ما نصه :
__________
(1) - جامع العلوم والحكم ، ص 233 – 235 .(129/65)
" والمحدَثات بفتح الدال جمع محدَثة ، والمراد منها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع بدعة . وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة ، بخلاف اللغة ، فإن كل شيئ أحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً . وكذا القول في المحدَثة ، وفي الأمر المحدَث الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها : " من أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، كما تقدم شرحه ، ومضى بيان ذلك في كتاب الأحكام ، وقد وقع في حديث جابر المشار إليه : ( وكل بدعة ضلالة ) ، وفي حديث العرباض بن سارية ( وإياكم وحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) ، وهو حديث أوله ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ) فذكره ، وفيه هذا . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان والحاكم ، وهذا الحديث في المعنى قريب من حديث عائشة المشار إليه ، وهو من جوامع الكلم ، قال الشافعي البدعة بدعتان محمودة ومذمومة ، فما وافق السنّة فهو محمود ، وما خالفها مذموم – إلى أن قال – وثبت عن ابن مسعود أنه قال : قد أصبحتم على الفطرة ، وإنكم ستحدثون و يحدث لكم ، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول – إلى أن قال – وقد أخرجه أحمد بسند جيدعن غضيف بن الحارث، قال بعث إلي عبدالملك بن مروان فقال : إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة ، وعلى القصص بعد الصبح والعصر ، فقال : أما إنهما أمثل بدعكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيئ منهما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة . انتهى . وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها ، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها . – إلى أن قال – وأما قوله في حديث العرباض: ( فإن كل بدعة ضلالة )، بعد قوله : ( وإياكم ومحدثات الأمور ) فإنه يدل(129/66)
على أن المحدث يسمى بدعة ، وقوله كل بدعة ضلالة قاعدة شرعية كلية ، بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال حكم كذا بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى ، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان ، وانتجتا المطلوب ، والمراد بقوله : كل بدعة ضلالة ، ما أحدث ولا دليل من الشرع بطريق خاص ولا عام " (1). اهـ.
وقال ابن النحاس في كتابه ( تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ) ما نصه :
" قال الإمام المحقق أبو محمد عز الدين بن عبدالسلام رحمه الله تعالى : البدعة ثلاثة أضرب :
أحدها : ما كان مباحاً ، كالتوسع في المأكل والمشرب والملبس والمناكح ، فلا بأس بشئ من ذلك .
الثاني : ما كان حسناً وهو مبتدع موافق لقواعد الشريعة ، غير مخالف لشئ منها ، كبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في العصر الأول ، فإنه موافق لما جاء بشأن الشريعة من اصطناع المعروف ، والمعاونة على البر والتقوى ، وكذلك الاشتغال بالعربية ، فإنه مبتدع ، ولكن لا يتأتى تدبر القرآن وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك ، فكان ابتداعه موافقاً لما أمرنا به من تدبر آيات القرآن ، وفهم معانيه . وكذلك تدوين الأحاديث وتقسيمها إلى الحسن والصحيح والموضوع والضعيف ; مبتدع حسن ، لما فيه من حفظ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله ما ليس منه ، وأن يخرج منه ما هو منه ، وكذلك تأسيس قواعد الفقه واًصوله ، كل ذلك مبتدع حسن ، موافق لأصول الشرع غير مخالف لشئ منها .
الثالث : ما كان مخالفاً للشرع ، أو ملتزماً لمخالف الشرع ، فمن ذلك صلاة الرغائب ، فإنها موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه .
__________
(1) - فتح الباري ج 13 ، ص 253 – 254 .(129/67)
وقال غيره : البدع خمسة أقسام : بدعة واجبة ، وهي مثل كتب العلم ، وشكل المصحف، ونقطه . ومستحبة كبناء القناطر والجسور والمدارس وما أشبه ذلك . ومباحة كالمنخل والأشنان وما أشبه ذلك . ومروهة مثل الأكل على الخوان وما أشبهه . ومحرمة وهي أكثر من أن تحصر . اهـ . واعلم أني أذكر في هذا الباب جملاً من القسم الخامس وهي البدع والمحرمات "(1) . اهـ .
ثم قال بعد إيراده جملاً كثيرة من البدع استغرقت قرابة خمسين صفحة من الكتاب :
" ومنها ما أحدثوه من عمل المولد في شهر ربيع الأول ، قال ابن الحاج : ومن
جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات ما يفعلونه من المولد ، وقد احتوى ذلك على بدع محرمات . ثم ذكر منها استعمال الأغاني بآلات الطرب ، وحضور المردان والشباب ، ورؤية النساء لهم وما في ذلك من المفاسد . ثم قال : فإن خلا المولد من السماع وعمل طعاماً فقط ونوي به المولد ، ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره ، فهو بدعة بنفس نيته ، إذ أن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين ، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد بنيته مخالفة لما كانوا عليه .
قلت : وليته يسلم من المناظرة والمفاخرة والرياء والتكلف ، ومهما علم بقرائن الأحوال أن الباعث على ذلك ما ذكرناه، كره أكل ذلك الطعام لأن النبي صلى الله
__________
(1) - تنبيه الغافلين ، ص 320 – 321 .(129/68)
عليه وسلم نهى عن أكل طعام المتبارزين . وقد يكون الباعث على ذلك التعرف بالكبار الذين يدعونهم من القضاة والأمراء والمشائخ ، وقد يكون الباعث لبعض المشائخ طلب التوسعة على نفسه بما يفضل عن حاجته ، مما يحمل الناس إليه بسبب المولد على نوع المساعدة أو الهدية أو الحياء أو المناظرة لأقرانه من محبي الشيخ واتباعه ونحو ذلك . وقد يكون من أهل الشر وممن يتقى لسانه ، ويخشى غضبه ، فيفعل المولد ليحمل إليه ضعفاء القلوب ، ومن يخاف منه ما تصل قدرته إليه خوفاً من ذمه وطول لسانه في عرضه ، وتسببه في أذى يصل إليه ونحو ذلك . وقد يكون الباعث خلاف ذلك مما لا ينحصر لتنوع المقاصد الفاسدة واختلافها ، فهو يظهر أن قصده إكرام النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والسرور بمولده ، والتصدق بما يفعل على الفقراء ، وباطن قصده خلاف ذلك ، مما ذكر ، وهذا نوع من النفاق ولو كان ذلك الفعل قربة في نفسه ، لصار بذلك القصد الباطل من أسباب البعد ، يأثم به فاعله وحاضره والساكت عن إنكار ما تحقق منه ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل "(1). اهـ .
إننا بتأملنا ما أوردناه من نقول لأهل العلم ، ممن يُعتد بهم ويُعترف لهم بالفضل والتقى والصلاح وسلامة الاتجاه وصحة المعتقد ، فضلاً عما أوتوه من بسطة في العلم والفهم والإدراك ، بتأملنا ما ذكروه يتضح لنا جلياً وضوح العموم في تبديع كل محدثة ، حتى لو كان ظاهرها حسناً ومقبولاً ، وتنجلي عنا شبهة القول بتقسيم البدعة إلى مذموم ومحمود ، أو إلى حسنة وسيئة ، وأن مقصود بعض سلفنا الصالح بالبدعة المقبولة عنده البدعة بمدلولها اللغوي فقط ، وأما البدعة بمفهومها الشرعي فهي مرفوضة ومردودة على أصحابها ، وهي ضلالة وفي النار كما ذكر ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
ولو أردنا أن نستزيد من أقوال أهل العلم في الحديث عن البدعة والتحذير منها ،
__________
(1) - تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ، ص 381 – 382 .(129/69)
وتسفيه القول بتقسيمها إلى حسن وسيئ ومذموم وممدوح ، لاستطعنا أن نسجل أسفاراً من ذلك، ولكننا نعتقد أن فيما قدمناه من أقوال لشيخ الإسلام ابن تيمية و ابن رجب والشاطبي وابن حجر وابن النحاس يكفي لطلاب الحق وأهل النصف .
نعم إن أقوالهم تدل على أن البدعة بدعة ، مهما كان لها من الحسن في الظاهر ، وأن النصوص الواردة في التحذير عنها عامة في تناول كل بدعة مهما كانت ، وأن تقسيم البدعة إلى حسن ومذموم هو تقسيم من حيث اللغة ، فالبدعة الحسنة عندهم ليست في الواقع بدعة ، وإنما هي في الدين ومن الشرع ، ومن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن سموها بدعة فمقصودهم المعنى اللغوي كقول عمر رضي الله عنه في إقامة صلاة التراويح جماعة : نعمت البدعة هذه .(129/70)
و ذكروا رحمهم الله نماذج للبدع اللغوية مما له أصل في الشريعة الإسلامية كتدوين العلوم وجمع المصاحف وإنشاء الأربطة والمدارس ونحو ذلك ، ولم يذكروا أن الموالد والصلوات المحدثة كصلاة الرغائب ، وصلاة الفاتح لما أغلق ونحو ذلك من المحدثات في الدين ; لم يذكروا أن هذه الأنواع من البدع الحسنة ، بل نصّوا على أنها من البدع المنكرة والمذمومة والسيئة كما مرت النقول بالتصريح بذلك . كما نصوا على أن كل أمر لا تقف معه النصوص الشرعية ، فهو محدث وضلالة ، وأصحابها في النار ، وإن كان ظاهرها الحسن ، وإن لم يكن لها من الخلفيات والمردودات السيئة شيئ ، فيكفي لردها نية الابتداع ، فكيف إذا صاحب البدعة أمور منكرة ، كاختلاط الرجال بالنساء ، واستعمال لمختلف أنواع المعازف ، والإسراف في الموائد المنشورة لرواد هذه الاحتفالات والاستجداء بهذه الموالد حسبما ذكره ابن النحاس في كتابه ( تنبيه الغافلين ) ، و نقله عن ابن الحاج من مدخله ، بل ما يتأتى في هذه الاحتفالات من المدائح النبوية المليئة بالغلو والتنطع والإفراط ، حتى إنها لترفع ممدوحها إلى مقام الربوبية والألوهية ، كما هو الحال في الموالد ، وإن نفي ذلك المالكي .
وعلى سبيل التنزل مع المالكي في أن موالده تخلو من الاختلاط والمنكرات في المشارب والمآكل ، فإنه يقول ويدافع عن القول بحضور الحضرة النبوية عند التحدث في شأن ولادته صلى الله عليه وسلم ، ويقرر جواز القيام للحضور الوهمي، وهذه عقيدة سيئة تفتح أبواب الدجل على العامة على أوسع مصاريعها ، وتعطي لأهل الطرق مجالات واسعة في أفساد عقائد العامة ، وجعلهم أكثر سرعة إلى تصديق الترهات والخرافات ، والإيمان بالأرواح الوهمية ، التي يزعم دجاجلة هذه الاجتماعات أنها تغدو على مجامعهم وتروح ، وتأمر وتنهي ، وترضى وتغضب ، حسبما يقرر ذلك قادة هذه المجامع الآثمة ، فكيف يقول المالكي إن المولد يبعث على مشروع فهو مشروع ؟!.(129/71)
حقاً إن واقع المالكي هو ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في قراره الإجماعي الذي جاء فيه ما نصه :
" وأنه يسعى إلى عودة الوثنية في هذه البلاد ، عبادة القبور والأنبياء ، والتعلق على غير الله ، ويطعن في دعوة التوحيد ، ويعمل على نشر الشرك والخرافات ، والغلو في القبور وتقرير هذه الامور في كتبه ، ويدعو إليها في مجالسه ، ويسافر من أجل الدعوة إليها في الخارج .. إلى آخره " اهـ .
الوقفة الثالثة : عند قول المالكي فهي بدعة ، باعتبار هيئتها الاجتماعية لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبوي .
لا ندري ما مقصود المالكي بدعواه وجود أفراد للاحتفالات بالمولد ، في العهد النبوي !، هل أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفرده أو معه زوجاته احتفالاً
بمولده ؟ أو أقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزوجته فاطمة ، وولداه الحسن والحسين احتفالاً بمولده ؟ أو أقام آل العباس احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم ؟ أو أقام أبو بكر وعمر أوغيرهما من أصفياء رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفالاً بمولده ؟ هل يعني بأفراد بدعته صومه صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لكونه يوم ولادته ؟ .
لقد سبقت مناقشة ادعاء الاستدلال بهذا على مشروعية إقامة الاحتفال بالمولد فلا حاجة لإعادته وتكراره .
لقد وعد المالكي بذكر أفراد للمولد في رسالته هذه فلننظر وفاءه بوعده ، ثم نقف مع كل جزئية يحتج بها على الاحتفال بالمولد ، لتذهب مع غيرها جفاء ، ثم هباء تذروه الرياح .
الدليل السادس مناقشته ثم رده :-
ثم ذكر المالكي الدليل السادس بقوله :(129/72)
" السادس أن المولد يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسْليماً} ، وماكان يبعث المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً ، فكم للصلاة عليه من فوائد نبوية وإمدادات محمدية يسجد القلم في محراب البيان ، عاجز عن تعداد آثارها ومظاهر أنوارها " اهـ .
لنا مع المالكي في دليله هذا الوقفات التالية :
الوقفة الأولى : عند قوله إن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين .
ما أجفاك أيها المالكي وأضرابك !!
وما أبعدكم عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وإن كنتم تتشدقون بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمتع والاستبشار بسيرته ، لا لصدق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم; وإنما لترويج بدعة وضمان وجاهة عند العامة . فهل ترضى أيها المالكي من نفسك أن تكون صلاتك وتسليمك على المصطفى صلى الله عليه وسلم في ليلة من ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ؟ أليس هذا هو الجفاء ؟ أليس هذا هو الصدود والغفلة عن تذكر مقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؟ ، أترضى ألاَّ ينبعث داعي الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ليلة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ؟
إن الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون في كل صلاة من الصلوات المكتوبة والمسنونة كل يوم ، وأن تكون عند كل ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أكثر مواطن ذكره .
وينبغي أن يتقرب بأدائهما إلى الله تعالى كلما أراد العبد التقرب إلى الله ، فما أحوج العبد إلى ذلك دائماً ، وفي كل حال ، إن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نصلي ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل وقت ، كما هو مقتضى إطلاق الآية الكريمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا }(1) .
__________
(1) - سورة الأحزاب ، الآية : 56 .(129/73)
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول : " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ " . و
يقول: " من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً " .
ويذكر صلى الله عليه وسلم أن من ذكر عنده فلم يصل عليه فقد رغم أنفه . إن الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن تكون منا في كل وقت ، وعند كل مناسبة ، في الصلاة وبعد الأذان وغيرهما من مواطن الصلاة عليه ، ويتأكد ذلك في يوم الجمعة وليلتها ، وخطبتها ، وفي أول كل دعاء . أما أن يُقال بإيجاد مناسبة للصلاة والتسليم عليه ، هي ليلة المولد ، ليلة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ; فهذا ما لا يتفق مع محبة ولا تقدير ، ولا انقياد وامتثال تامّين لأمر الله تعالى بالصلاة والسلام على رسوله .
الوقفة الثانية : عند قوله وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً .
أقول : ليست الموالد مما تبعث على الصلاة والسلام - صلى الله عليه وسلم - ، بقدر ما تبعث على إيذائه بالغلو في شخصه ، والإفراط في مدحه ، والتنطع في ذكر المدائح النبوية التي ترفع مقامه صلى الله عليه وسلم إلى مقام ربه ، في شمول السلطان وكمال القدرة على النفع والضر ، والمنع والعطاء ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
لقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية جناب التوحيد ، حريصاً على توجيه الأمة وتحذيرها عن الغلو والإطراء ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله " .(129/74)
هل المولد الذي يبعث على اعتقاد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقاليد السموات والأرض ، وأن له حق الإقطاع في الجنة ، وأن من جوده نفع الدنيا وضرتها ، ومن علومه علم اللوح والقلم ، وأن قبره صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ، وأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر ، وأن آدم وجميع المخلوقات خلقت لأجله صلى الله عليه وسلم ، وأنه نور لا ظل له في شمس ولا قمر ، وأنه حيّ في قبره يصلي الصلوات الخمس ، ويُؤذن ويصوم ويحج ، إلى غير ذلك مما يقوله المالكي في كتابه ; هل المولد الذي يدعو إليه المالكي والذي يبعث على اعتقاد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو محض حق لله تعالى مطلوب شرعاً ؟
أوصيك أيها المالكي ونفسي بتقوى الله تعالى ، واعلم أنك ستقف أمام رب العالمين ، وسيحاسبك حساباً عسيراً إن لم ينفذ عليك قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }(1) ، وقوله تعالى :{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }(2) . فإن لله تعالى وحده مقاليد السموات والأرض ، وهو المانع والمعطي ، وهو النافع والضار ، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لأقرب الناس إليه ، فاطمة ابنته : " سليني ما شئت ، فإني لا أملك لكِ من الله شيئاً " . ويقول الله تعالى له وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب ، وقد سبقت عليه من الله الشقاوة : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }(3) .
__________
(1) - سورة النساء ، الآية : 48 .
(2) - سورة المائدة ، الآية : 72 .
(3) - سورة القصص ، الآية : 56 .(129/75)
الوقفة الثالثة : عند قوله فكم للصلاة عليه من فوائد نبوية، وإمدادات محمدية . أما فوائد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنها كثيرة ، ويكفي أنها استجابة لله تعالى ، حيث أمرنا بذلك اقتداء به تعالى وملائكته الأبرار ، حيث قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا }(1) .
وأما الإمدادات المحمدية فلا ندري ما هو مقصود المالكي بها ، ولعلها نتيجة اعتقاده أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مقاليد السموات والأرض ، وأن له حق الاقطاع في الجنة، وأن من جوده الدنيا وضرتها، ومن علومه علم اللوح والقلم ، وأن الخلق خلقوا لأجله ، إلى غير ذلك من عبارات الغلو والإطراء والتنطع والتشدق والتفيهق . فهل يريد من صلواته على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدداً محمدياً لا مدداً إلهياً ؟!
إننا لا نستطيع تصور الشرك بالله إذا لم يكن هذا الاتجاه من المالكي وأضرا به أبشع ألوانه ، وأظهر مثال له ، وعليه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
إن التعبير من المالكي بالإمدادات المحمدية ، تذكرنا بحال العامة من المتصوفة وأهل الطرق ، حينما يقع أحدهم في ضائقة أو مصيبة ، فيسارع إلى تكرار : يا محمد مدد ، يا رفاعي مدد ، يا بدوي مدد .
إننا نتقطع أسى حينما تصل الحال بمحمد علوي مالكي ، ذلك الشاب الذي رضع من العلم الشرعي في المدارس الحكومية بمختلف مراحلها ، حتى شبع وعرف العقيدة السلفية ، وذكر عنه بعض الإخوان تحمسه لها وتأثره بها ، وعاش في عصر العلم ، والارتفاع بمستوى العقل إلى إدراك ما عليه الخرافيون وأصحاب الطرق من انحطاط بمستوى عقولهم ، بحيث تجري على عقولهم ما لا يصدقه العقلاء .
__________
(1) - سورة الأحزاب ، الآية : 56 .(129/76)
نعم ، نتقطع أسى حينما تصل الحال بمحمد مالكي إلى أن يكون أحد رجال الطرق ، وأحد مروجي البدع والخرافات والشركيات ، وأحد من يُؤثر الدنيا على الآخرة ، حينما يكون ممن يغررون بالعامة ، ليكونوا لهم عبّاداً يلحسون أيديهم ، ويقدمون لهم واجب التقدير والإجلال ، بالإنحناءات وطلب البركات ، وأحد من يدعو الناس إلى عبادته .
إنه سيقف أمام رب العالمين ، وسيكون إن لم يمنّ الله عليه بتوبة عاجلة مع المغضوب عليهم ممن عندهم علم فلم يعملوا به .
الوقفة الرابعة : عند قوله يسجد القلم في محراب البيان عاجزاً عن تعداد آثارها
ومظاهر أنوارها .
وهذه أيضاً ضرب من عبارات الغلو والإطراء والتنطع والإفراط ، فما هذه الأنوار التي يسجد القلم عاجزاً عن تعدادها ؟
إن القلم ليسجد عاجزاً عن تعداد كلمات ربي ، عاجزاً عن تعداد نعم ربي ، عاجزاً عن تعداد صنوف العبادة لربي ، الحي القيوم المانع المعطي النافع الضار القادر على كل شيئ ، مالك يوم الدين العزيز الجبار المتكبر المهيمن الرحمن الرحيم . أما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمع ما فيها من الفوائد والأجر الجزيل فإن مقدار ذلك في علم الغيب عند من لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ويكفينا منها أنها استجابة كريمة لله رب العالمين .
الدليل السابع مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل السابع بقوله :
" السابع : أن المولد الشريف يشتمل على ذكر مولده الشريف ومعجزته وسيرته والتعريف به، أولسنا مأمورين بمعرفته ومطالبين بالاقتداء والتأسي بأعماله ، و الإيمان بمعجزاته والتصديق بآياته؟، وكتب المولد تؤدي هذا المعنى تماماً " اهـ .
ونقف مع المالكي في دليله هذا الوقفة التالية :(129/77)
لا شك أن النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم من مولده حتى وفاته أمر محبوب ومطلوب ومتعين ، فبمعرفة ذلك نستطيع الاقتداء والتأسي ، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صور إشراق ، ففيها الإيمان الثابت ، والصبر والتذلل لرب العالمين ، والجهاد في سبيله ، وشكر الله على نعمه قولاً وعملاً ، حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم من العبادة ، إلى غير ذلك من جوانب الإشراق ، ولكن النظر في ذلك وتدارسه وتأمله واستخراج صور العبر والاتعاظ من حياته صلى الله عليه وسلم لا تكون في ليلة واحدة بعد مضي ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ، بل ينبغي أن يكون ذلك في كل وقت ، وأن تكون مما يدرس في المساجد والمجالس العامة والخاصة ، وفي المراحل الدراسية حتى نهايتها .
حقاً إننا مأمورون بمعرفته صلى الله عليه وسلم ، ومطالبون بالاقتداء به والتأسي بأعماله والإيمان بما جاء به ، ولكن ذلك كله ليس في كتب الموالد ، ولكنه في كتب الحديث وشروحه ، وفي كتب السير والتواريخ ، فلقد عني علماء الإسلام بذلك عناية جعلتنا ونحن نقرأ ونتدارس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ; نستشعر العيش معه ومع أصحابه ، في إيمانهم بالله ، وفي خالص عبادتهم لله ، وفي جهادهم في سبيل الله .(129/78)
أما كتب الموالد ; فالمالكي نفسه يعلم أنها كتب تشتمل على المدائح النبوية ، التي ترفع مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مرتبة الإله ، وللمالكي باع عريض في ترويجها وشرحها ونشرها ، نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، أن يهديه ويرده إلى جادة الصواب ، فلقد أشرك بعض أصحاب هذه الموالد مع الله غيره ، في الملكوت وفي السلطة وفي القدرة والعلم ، والنفع والضر ، والمنع والعطاء ، وغير ذلك مما هو محض حق الله تعالى ، لا يصلح لأحدٍ غيره ، لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل . فهذه هي كتب موالد المالكي التي يدعي زوراً وبهتاناً وإثماً مبيناً أنها تؤدي إلى معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتأسي به، والإبمان بما جاء به ، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم .
الدليل الثامن مناقشته والرد عليه
ويذكر المالكي الدليل الثامن بقوله :-
الثامن : التعرض لمكافأته ، بأداء بعض ما يجب له علينا ، ببيان أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة ، وقد كان الشعراء يفدون إليه صلى الله عليه وسلم بالقصائد ، ويرضى عملهم ويجزيهم على ذلك بالطيبات والصلات ، فإذا كان يرضى عمن مدحه ، فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله النبوية ، ففي ذلك التقرب له عليه السلام باستجلاب محبته ورضاه . اهـ .
ونقف مع المالكي في دليله هذا الوقفات التالية :
الوقفة الأولى : عند قوله التعرض لمكافأته بأداء بعض ما يجب له علينا .
إن الله تعالى قد أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : أنه لا
يسألهم على أداء الرسالة أجراً ، فإن أجره على الله ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا }(1) .
__________
(1) - سورة الفرقان ، الآية : 56 - 57 .(129/79)
وقال تعالى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }(1) .
وقال تعالى : { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ }(2) .
وغير ذلك من الآيات الكثيرة والصريحة في هذا المجال . فهو صلى الله عليه وسلم رسول من رب العالمين ، أرسله الله بالرسالة ، وأمره بتبليغها ، ووعده الأجر العظيم لقاء ذلك ، وأمره أن يبلغ الأمة أنه لا يريد منهم جزاءً ولا شكورا. ومحمد صلى الله عليه وسلم كغيره من الرسل الذين ذكر القرآن صوراً من حياتهم، وطرق تبليغهم الرسالة إلى أقوامهم،وقد كانوا يصرّحون وينادون في ملأ قومهم أنهم لا يريدون منهم جزاءً ولا شكورا، قال تعالى حكاية عن أحدهم :{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ } (3) . وقال تعالى :{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }(4) .
لا شك أن لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فضلاً كبيراً علينا معشر أمته ، وأننا نحبه أكثر من محبتنا لأنفسنا وأهلينا أجمعين ، إلا أن محبته صلى الله عليه وسلم ليست فيما يكره ، ولا فيما يغضبه ، ولا فيما يسلب عن ربه إفراده تعالى بالخلق والتدبير والعبادة .
إن محبته صلى الله عليه وسلم لا تعني رفع مقامه إلى مقام الربوبية والألوهية ، مما هو محض الشرك بالله ، فلقد مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً يحارب الشرك بالله ، ويدعو الناس إلى توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
__________
(1) - سورة سبأ ، الآية : 47 .
(2) - سورة يوسف ، الآية : 104 .
(3) - سورة هود ، الآية : 51 .
(4) - سورة آل عمران آية : 114 .(129/80)
حقاً إن إقامة المولد ليست مكافأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو في حد ذاته منكر لكونه بدعة ، ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو يغضبه ويأباه صلى الله عليه وسلم ، وإذا انضم إيه ما هو لازم له عند المهتمين به والمحافظين على إقامته من منكرات وشركيات وخرافات سبق منا إيضاحها ; تحوّل ذلك المنكر من أمر بدعي إلى عيد جاهلي . لو كان صلى الله عليه وسلم حياً لجرّد سيوف القتال لمحاربتهم ، فلقد أنكر صلى الله عليه وسلم على أحد أصحابه حينما قال له : " ما شاء الله وشئت" ، قال : " أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده " (1) .
إن محبته صلى الله عليه وسلم تعني اتباع سنته ، والتأسي به صلى الله عليه وسلم ، وأخذ العبر والعظات من حياته صلى الله عليه وسلم ، وحياة أصحابه من بعده { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ }(2) . إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة والصريحة ; في أن محبته صلى الله عليه وسلم ليست في الغلو في شخصه ، ولا في مجاوزة الحد في مدحه وإطرائه ، ولا في نسبة شيئ من أفعال الله تعالى وخصائصه إليه صلى الله عليه وسلم .
إننا بالصدق في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم نستطيع أن نقول : إننا نحبه ونقدره ولا نمنّ عليه بشي من ذلك ، على اعتبار أننا نكافؤه ، فأجره على الله تعالى ، والله يجزيه عن بلاغه الرسالة ، وأدائه الأمانة ، ونصحه لأمته ، خير جزاء وأكمله وأتمه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الوقفة الثانية : عند قول المالكي : إن الشعراء كانوا يفدون إليه صلى الله عليه وسلم بالقصائد ويرضى عملهم .. إلى آخره .
__________
(1) - حديث رواه النسائي عن ابن عباس .
(2) - سورة الحشر ، الآية : 7 .(129/81)
حقاً لقد وقف حسّان بن ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف المجاهد والمدافع ، وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بأن لسانه على المشركين أشد وقعاً من السيوف على أرقابهم . ومدحه كعب بن زهير ، وعبدالله بن رواحة وغيرهم من شعراء الصحابة ، وكان صلى الله عليه وسلم يسرّ بذلك ونحن ندعو الله تعالى أن يثيب من يمدح رسول الله بمدائح تليق بمقام النبوة والرسالة مما يستحقه صلى الله عليه وسلم ، لمواقفه مع ربه في سبيل إبلاغ الرسالة ، والصبرعلى ما كان يلاقيه صلى الله عليه وسلم من العنت والسخرية والتسفيه ، حتى أكمل الله له دينه ، وأتم نعمته ، ودخل الناس في دين التوحيد أفوجاً .
ونحن بما ذكره المالكي في دليله هذا نتذكر قول الشاعر :
ألم ترَ أن السيف ينقص قدره ××× إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ونعجب منه ومن عقليته في قياسه مدائح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمدائح قومه أهل الموالد ، أمثال البوصيري ، والبكري وغيرهما ، ممن يجعلون المصطفى صلى الله عليه وسلم شريكاً لربه ، في شمول الإدراك والقدرة على النفع والضر، وملك مقاليد السموات والأرض، وغير ذلك من خصائص الربوبية والألوهية كقوله :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ××× سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ××× فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ××× ومن علومك علم اللوح والقلم
وقول الآخر :
ما أرسل الرحمن أو يرسل ××× من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه ××× من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده ××× نبيّه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها ××× يعلم هذا كل من يعقل
وناده إن أزمة أنشبت ××× أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه ××× وخير من فيهم به يُسأل
قد مسني الكرب وكم مرة ××× فرّجت كرباً بعضه يُذهل
عجل بإذهاب الذي أشتكي ××× فإن توقفت فمن ذا يُسأل
وقول الآخر في نعل النبي صلى الله عليه وسلم :(129/82)
ولما رأيت الدهر قد حارب الورى ××× جعلت لنفسي نعل سيده حصنا
تحصنت منه في بديع مثالها ××× بسور منيع نلت في ظله الأمنا
فبربك يا مالكي : أما تستحي أن تجعل أمثال هذه المدائح التي هي في الواقع دعوات صارخة إلى الشرك بالله ، في الربوبية والألوهية ، وإلى الجاهلية الجهلاء ، والوثنية العمياء ; شبيهة بقصائد حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن زهير وغيرهم من أهل الصدق في الإيمان والعدل في المدح والثناء والشدة على الأعداء ؟؟!
إن قصائد موالدك يا محمد علوي مالكي لو ألقيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اكتفى بحثو التراب في أفواه قائليها ; بل لحاربهم كما حارب أبا جهل و أبا لهب وغيرهما من أقطاب الكفر والشرك بالله .
فسبحان الله كيف استوت عندك يا مالكي الظلمات والنور ، والتوحيد الخالص و الكفر البواح ، وأنت ذلك الرجل الذي يدعي الرفعة في العلم !
حقاً إن الهوى يعمي ويصم ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
الدليل التاسع مناقشته ورده
وذكر المالكي الدليل التاسع بقوله :
التاسع : إن معرفة شمائله ومعجزاته وإرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به عليه الصلاة والسلام وزيادة المحبة ، إذ الإنسان مطبوع على حب الجميل خَلقاً وخُلقاً ، علماً وعملاً ، حالاً واعتقاداً ، ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم ، وزيادة المحبة وكمال الإيمان مطلوبان شرعاً ، فما كان يستدعيهما مطلوب شرعا. اهـ .
لقد مللنا تكرار القول ، وهذا يعني أن مزاعم المالكي الاستدلالية يمكن أن ترجع الثلاثة أو الأربعة منها إلى دليل واحد، وأنه هو نفسه الذي يكررالقول ، و يدعي
تعدد الأدلة ، وما دمنا قد أخذنا على أنفسنا رد مزاعمه فلنجاره في دعوى تعدد الأدلة ، ونقف معه عند كل دليل يزعم الاستدلال به ، وإن كان مكرراً ومعاداً .(129/83)
لاشك أن معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم ، وما هو عليه من حال ، في جهاده وصبره وأمانته ، وحرصه على أمته ورأفته بهم ، ورحمته إياهم ، كل ذلك يستدعي قوة التعلق بسنته صلى الله عليه وسلم ، وزيادة محبته ، ولكن معرفة ذلك مطلوبة في كل وقت ، لا أن التعرف على ذلك مخصوص بليلة بعد مضي ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة . ثم إن معرفة ذلك ينبغي أن تكون معرفة بحقيقة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه رسول رب العالمين ، لا يملك من خصائص الربوبية شيئاً ، ولا يستحق من خصائص الألوهية شيئاً ، خلافاً لما هو صريح قول المالكي وأضرا به ، فليس له صلى الله عليه وسلم من مقاليد السموات والأرض شيئ ، وليس له سلطة في الإقطاع في الجنة ، وليست الدنيا وضرتها من جوده ، وليس له علم اللوح والقلم ، وليس الملاذ والصمد والملجأ عند حصول المصائب والكربات .
قال تعالى :{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ }(1) . وقال تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(2) . وقال تعالى :{ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ }(3) ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } فقال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً " .
__________
(1) - سورة آل عمران ، الآية : 128 .
(2) - سورة القصص ، الآية : 56 .
(3) - سورة التوبة ، الآية : 80 .(129/84)
فمحبته صلى الله عليه وسلم لا شك أنها مطلوبة شرعاً ، والإيمان به واجب و متعيّن شرعاً ، إذ الإيمان بنبينا محمدٍ رسولاً جزء من الركن الأول من أركان الإسلام ، لا يتم للعبد إسلام وإيمان حتى يشهد برسالته ، إلا أن الاحتفالات بالمولد ليست هي التي تحققها ، بل إنها بحكم ابتداعها والقول لدى أصحاب الابتداع بمشروعيتها، وما تشتمل عليه من منكرات ، وشركيات، واعتقادات وهمية ، إنها تتعارض مع محبته صلى الله عليه وسلم ، فإن محبته صلى الله عليه وسلم وكمال الإيمان به متحقق فيمن كان هواه تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم . وهذه الاحتفالات في هيئتها العامة وما تشتمل عليه من جزئيات آثمة مخالفة تمام المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف أجاز المالكي لنفسه هذه المغالطة المكشوفة الآثمة ! .
إنه الهوى يعمي ويصم ، وصدق الله حيث يقول :{ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }(1) . وحيث يقول : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفلا تَذَكَّرُونَ }(2) .
الدليل العاشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل العاشر بقوله :
العاشر : إن تعظيمه صلى الله عليه وسلم مشروع ، والفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور ، ووضع الولائم والاجتماع للذكر ، وإكرام الفقير ; من مظاهر إظهار التعظيم والابتهاج والفرح والشكر لله بما هدانا لدينه القويم ، وما منّ به علينا من بعثه عليه أفضل الصلاة والتسليم . اهـ .
__________
(1) - سورة الحج ، الآية : 46
(2) - سورة الجاثية ، الآية : 23 .(129/85)
هذا القول مر تكراره ، ومر تكرار مناقشته ، وحينما نفرح بميلاده صلى الله عليه وسلم فإن بعثته بالرسالة الأولى أولى بالفرح والابتهاج ، وعلى أي حال فميلاده صلى الله عليه وسلم وبعثته وهجرته ومواقفه المشرفة في ميادين الصبر والنضال والجهاد والتعليم ، وإبلاغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وترك هذه الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها ; كل هذه الأمور نفرح بها ، وننتشي لسماع أخبارها ، وتنشرح خواطرنا بصدق الإيمان وقوة الثبات وجميل الصبر ، ونستلهم من هذه الجوانب والصور المشرقة العبر والعظات . ولكن ذلك كله لا يكون في ليلة واحدة من السنة ، وإنما يُشرع في كل وقت ، وفي كل مكان في المساجد والمجالس العامة والخاصة ومدرجات الجامعات ، ليس مكان ذلك عند خوانات الموائد وأدوات المعازف ، ومجالس الاعتقادات الوهمية ، ونوادي المدائح المتسمة بالإفراط و الغلو والتنطع والتفيهق والإطراء ، ونسبة خصائص الربوبية والألوهية إلى غير الله تعالى ، مما يغضب الله ورسوله . وإنما يجب أن يكون الفرح بشمائله صلى الله عليه وسلم وحياته المشرقة مما ذكره أهل العلم والعقل والتقى والصلاح من أهل الحديث وشرّاحه ، وأهل التفسير والسيَر . ولا نشك أن المالكي بحكم نشأته في عصرنا هذا يدرك حقيقة وصدق ما نقول ، و بطلان ما يدعو إليه ، ولكنه الإبقاء على لحس الأيدي ممن غرر بهم وأضلهم، والإبقاء على ما يطالبهم به من تقديم آيات الاحترام والتبجيل بالإنحناءات وطلب البركات ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
الدليل الحادي عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل الحادي عشر بقوله :
الحادي عشر : يُؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة ، وعد
مزاياه ، وفيه ولد آدم تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام ، فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين .(129/86)
ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه ، بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً، مهما تكرر ، كما هو الحال في يوم الجمعة ، شكراً للنعمة ، وإظهار المزية النبوية ، وإحياء للحوادث التاريخية الخطيرة ، ذات الإصلاح المهم في تاريخ الإنسانية ، وجبهة الدهر وصحيفة الخلود . كما يُؤخذ تعظيم المكان الذي ولد فيه نبي ، من أمر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين ببيت لحم ، قال له : أتدري أين صليت ؟ قال : لا ، قال : صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى . اهـ .
هذا الدليل لنا مع صاحبه الوقفات التالية :
الوقفة الأولى : حول ما يتعلق بفضل يوم الجمعة والاستدلال بفضله على الفضل لأيام أخر بمعيار القياس .
لقد سبق منا تكرار القول باننا مأمورون بالاتباع لا بالابتداع ، فما جاءت بمشروعيته النصوص الشرعية من كتاب أو سنة قبلناه ، وأخذناه على العين والرأس ، واعتبرناه أمراً مشروعاً على سبيل الوجوب أو الاستحباب ، حسبما تقضي بذلك تلك النصوص، وقد جاءت النصوص الشرعية الصريحة الثابتة بفضل يوم الجمعة ، واعتباره أحد أعياد المسلمين، واختصاصه بخصائص ليست لغيره . فنحن نقف مع النصوص الشرعية حيث وقفت ، ونسير معها حيث اتجهت :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(1) ، ولا نبيح لأنفسنا أن نشرع لنا تفضيل يوم بعينه لم يرد النص بتفضيله ، إذ لو كان خيراً لشرع لنا تفضيله ، كما شرع لنا تفضيل يوم الجمعة { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }(2) .
__________
(1) - سورة الحشر ، الآية : 7 .
(2) - سورة مريم ، الآية : 64 .(129/87)
ولو جاءت نصوص شرعية تنص على فضل يوم ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لكنا بتوفيق الله وهدايته أسرع الناس إلى اعتبار ذلك والأخذ به ، امتثالاً لقوله تعالى :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }(1) ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }(2) ، { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }(3) ، وتحقيقاً للإيمان بالله ربا، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً و
رسولا .
أما يوم الجمعة فهو يوم فاضل ، وعيد من أعياد المسلمين ، يكون لصلاة الجمعة فيه وضع خاص ، ومغاير لصلوات الظهر في أيام الأسبوع السائرة ، فيه يجتمع المسلمون ويسمعون من المواعظ والتوجيهات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد ; ما يمكن أن يكون زاداً روحياً لمسيرتهم في بقية أيام الأسبوع . ولكن فضل هذا اليوم لا يعطينا الحق في القياس عليه ، فنقول بتفضيل يوم آخر ، سواء كان ذكرى مولد أو مهاجر أو إسراء أو معراج ، أو غير ذلك من الحوادث التاريخية ، مالم يكن لدينا في ذلك مستند قولي أو فعلي ، ممن له حق التبليغ عن رب العالمين ، فإن الأمر في ذلك كما قال سيد المرسلين وحبيب رب العالمين : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس هذا ما ليس منه فهو رد " .
الوقفة الثانية : عند قوله ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه، بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً . اهـ .
__________
(1) - سورة الحشر ، الآية : 7 .
(2) - سورة النساء ، الآية : 59 .
(3) - سورة آل عمران ، الآية : 31 .(129/88)
هذا القول يقتضي أن نقيس في العبادات ، ولا يخفى ما عليه أهل العلم من علماء الأصول وفقهاء الأمة ، ممن يقولون بالقياس من أنهم يمنعون القياس في العبادات ، لأن القياس مبني على اتحاد المقيس والمقيس عليه في العلة ، و العبادات مبناها على التوقيف والتعبد، سواء كانت علة التشريع ظاهرة أو خفية ، فلا يجوز أن نقيس على أصل مشروعة الصلاة بتشريع صلاة سادسة بين الفجر والظهر مثلاً ، ولا بتشريع صيام آخر بعد رمضان أو قبله ، ولا بزيادة ركعة أو أكثر على ركعات صلاة من الصلوات الخمس ، كزيادة ركعة في صلاة المغرب وركعتين في صلاة الفجر ; بحجة أن التشريع في الصلوات أو في الصيام أو في غيرهما من أنواع العبادة لها خصوصاً ولنوعها عموماً .
إن الله تعالى حينما فضل يوم الجمعة على غيره من الأيام الأخرى ، وتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ذلك التفضيل ويؤكده ; قادر على أن يقرر تفضيل غيره من الأيام ، كيوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بعثته أو هجرته ، ويعطي عباده نصوصاً صريحة من قوله تعالى ، أو قول رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ، في تفضيل ذلك اليوم كما هو الحال في يوم الجمعة ، وفي ليلة القدر . وأما ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم فلم نجد أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ما أخذه به المالكي وأحزابه ، أخذاً عن أسلافهم في ذلك القرامطة والفاطميين والرافضة والمتصوفة ، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } (1) . وما كان صلى الله عليه وسلم مقصراً في جناب إبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، و النصح للأمة فيما يعود عليها بالخير والقرب من الله تعالى .
__________
(1) - سورة مريم ، الآية : 64 .(129/89)
وما كان المالكي وأحزابه وأسلافه من القرامطة والفاطميين والرافضة أشد حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان ، ولا أخلص اتباعاً، ولا أنقى سريرة ، ولا أكثر تقى وصلاحاً ، فهم رضوان الله عليهم صفوة أمته . وما كان المالكي و أحزابه وأسلافه وأئمته من القرامطة والفاطميين أكثر علماً وإدراكاً لأسرار التشريع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ، ولكنها الفتنة بأبواب الشر ومغاليق الخير ، والتشبث بما فيه ترويج البدع و المنكرات ، ولكنه الزبد يذهب جفاء ، والباطل يندمغ ، فإذا هو زاهق ، و يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
لا شك أن بعض الأزمنة أفضل من بعض ، وأن بعض الأمكنة أفضل من بعض ، إلا أن الفضل في ذلك لا يكون بالرأي والقياس ، ولا بالاستحسان ، ولا بقول من ليس له اختصاص في تبليغ رسالة إلهية ، ولكن فضل ذلك يُؤخذ من رب العالمين ، وممن يبلغ عن رب العالمين . فمتى وجدنا نصاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله ، يقضي بتفضيل زمان أو مكان على غيرهما ; أخذنا بذلك النص واقتصرنا عليه ، ولم نوسع مدلوله فيما لا يحتمله النص ، فنقول كما يقول المالكي : " هذا له خصوص ولنوعه عموم " ، فنقع فيما وقع فيه من اللغط والغلط ، والقول على الله وعلى رسوله بالزور والبهتان والعدوان ، نسأل الله لنا وله الهداية ، والله المستعان .
الدليل الثاني عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل الثاني عشر بقوله :
الثاني عشر : إن المولد أمر يستحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد ، و جرى به العمل في كل صقع ، فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف ( ما رآه المسلمون حسناً فهوعند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) اهـ .
ونقول للمالكي : من هم العلماء والمسلمون الذين يستحسنون المولد ؟ هل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قطعاً لا ..(129/90)
هل هم التابعون ؟ قطعاً لا ..
هل هم تابعوا التابعين ؟ قطعاً لا ..
هل من العلماء والمسلمين من يقيم المولد من أهل القرون الثلاثة المفضلة ؟ قطعاً لا ..
مَن مِن علماء المسلمين الذين يستحسنون المولد ؟
هل هم أهل الحديث وشرّاحه أمثال البخاري ومسلم والنسائي وأحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود والبيهقي والطبراني ، وغيرهم من أئمة الحديث ورجاله ممن عرفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونذروا أنفسهم لخدمتها والتبصير بها ، ورد ما ليس منها مما يُراد أن يكون منها ؟ قطعاً لا ..
هل هم أئمة الفقهاء أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن حزم و الأوزاعي والثوري ، وغيرهم من فقهاء الأمة وعلمائها ؟ قطعاُ لا ..
هل هم علماء التفسير أمثال ابن كثير وابن جرير والبغوي والقرطبي وابن العربي ، وغيرهم ؟ قطعاً لا ..
هل هم قادة القرامطة والفاطميين والرافضة بمختلف طوائفهم ونحلهم ؟؟
اللهم نعم .
هل هم أهل الطرق الصوفية من تيجانية وسنوسية ورفاعية وشاذلية ونقشبندية ونحوهم ؟ اللهم نعم ..
هل هم عوام مغرّر بهم من المالكي وأحزابه وأسلافه من دعاة البدع والمحدثات ؟ اللهم نعم .
وإذا كان كذلك ; ولا شك أن الأمر كما قلنا ، والمالكي يعترف بأن المولد بدعة باعتباره لم يكن في الصدر الأول من الإسلام ، ولكنه يناقض نفسه حينما يقول بأن المسلمين والعلماء قد استحسنوا المولد ، والحال أن علية الأمة الإسلامية وصفوتها ورعيلها الأول من أهل القرون الثلاثة المفضلة من علماء وزهاد و عباد ، من صحابة وتابعين وأتباع تابعين ، لم يكن المولد على عهدهم ولا عهد لهم به . إنها المغالطة من إذا لم نقل أنه الجهل المركب منه .(129/91)
ثم مَن المسلمون المعتبرون في اعتبار الحسن والقبح كما جاء به الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ؟ هل هم القرامطة والفاطميون وأصحاب الطرق ممن عشش الشيطان في عقولهم فأفسدها ، فأصبح الحسن عندهم ما رآه الشيطان حسنا ، والقبيح لديهم ما رآه قبيحا ؟.
هل يستطيع المالكي وأحزابه وأعوانه وشيوخه وأئمته أن يأتوا لنا بقول أو فعل
أو استحسان للموالد والاحتفال بها من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابع التابعين ، وصلحاء الأمة من فقهائها ومحدثيها ، وزهّادها وعبّادها ؟ .
لا شك أنهم سيعجزون عن أن يأتوا بما تحديناهم أن يأتوا به ، ولهذا نكتفي بهذا التحدي ، لثقتنا الكاملة في جدواه ، نكتفي بذلك عن أن ندخل مع المالكي في مناقشة لأثر ابن مسعود رضي الله عنه ، من حيث ثبوته ، والمقصود به ، وما ذكره أهل العلم بخصوصه . ونختم رد هذا الدليل بما ذكره الشاطبي في هذا الخصوص، فقد عقد الشاطبي رحمه الله باباً في كتابه( الاعتصام) الجزء الثاني ، ذكر فيه الفرق بين البدعة وبين الاستحسان والمصالح المرسلة اللذين أخذ بهما مجموعة من أهل العلم ، واحتج بهما على مشروعية الابتداع أهل البدع ، نقتطف من قوله رحمه الله ما يتسع المجال لاقتطافه ، ونحيل طالب الاستزاده والتحصيل إلى الكتاب نفسه .
قال رحمه الله : الباب الثامن في الفرق بين البدع ولامصالح المرسلة والاستحسان :(129/92)
( هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة ، فإن كثيراً من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً ، ونسبوها إلى الصحابة و التابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات . وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد . وأيضاً فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين ، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ، ولا كونه قياساً بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ، وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة ، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية – في زعم واضعيها – في الشرع على الخصوص ، وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح حقا ; فاعتبار البدع المستحسنة حق ، لأنهما يجريان في واد واحد ، وإن لم يكن اعتبار البدع حقا ; لم يصح اعتبار المصالح المرسلة ) – إلى أن قال - ( فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع ، أن يستدلوا على بدعتهم من جهته ، كان من الحق المتعين النظر في مناط الغلط ، الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع ، في ورد ولا صدر بحول الله ، والله الموفق فنقول : المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله ، فلا إشكال في صحته ولا خلاف في إعماله ، وإلا كان مناقضة للشريعة ، كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف ، وغيرها .(129/93)
والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله ، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها ، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي ، بل إذا ظهر المعنى ، وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ; فحينئذ نقبله ، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته ، في حق الخلق في جلب المصالح ودرء المفاسد لا يستقل العقل بدركه على حال ، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل برده ; كان مودوداً باتفاق المسلمين . ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء ، أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان ، فقال : عليك صيام شهرين متتابعين ، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء ، وقالوا له : القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم ، والصوم وظيفة المعسرين ، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين . فقال لهم : لو قلت عليك إعتاق رقبة لاستحضر ذلك وأعتق عبيداً مراراً ، فلا يزجره إعتاق الرقبة ، ويزجره صوم شهرين متتابعين . فهذا المعنى مناسب لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره إلا صوم شهرين متتابعين . وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائليّن قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى المفتى لا قائل به ) - إلى أن قال : -(129/94)
( الثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه ، فهذا على وجهين ، أحدهما : ألا يرد نص على وفق ذلك المعنى ، كتعليل منع القتل للميراث بالمعاملة ، بنقيض المقصود ، وعلى تقدير أن لم يرد نص على وفقه ، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالنص ، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر ، فلا يصح التعليل بها ، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله . والثاني : أن يلائم تصرفات الشارع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة ، بغير دليل معين ، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة ) ، - ثم ذكر عشرة أمثلة لتوضيح ذلك ، ثم قال : ( فهذه أمثلة عشرة ، توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة، وتبيّن لك اعتبار أمور :
أحدها : الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ، ولا دليلاً من دلائله .
الثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها ، وجرى على وفق المناسبات المعقولة ، التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء والصيام والصلاة في زمان مخصوص دون غيره ، ونحو ذلك فليتأمل الناظر الموفق ، كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية .
ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جداً لما يظهر لبادئ الرأي ، فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، فإذا خرج المنى أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد ، دون المخرج فقط ، ودون أعضاء الوضوء ... ثم التراب ومن شأنه التلويث، يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف ) .(129/95)
ثم استمر رحمه الله في استعراض أنواع العبادة ، من صلاة وصوم وحج وغير ذلك من أنواع العبادة ، وأوضح أن التشريع فيها أمر تعبدي لا يعقل فيه معنى تفصيلي ، ثم ذكر الأمر الثالث بقوله :
( الثالث : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضاً مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، فهي إذاً من الوسائل ، لأن المقاصد ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد ) - إلى أن قال - ( إذا تقررت هذه الشروط ; علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة ، لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ، والتعبدات من حقيقتها ألا يعقل معناها على التفصيل ) - إلى أن قال - ( فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري ، من باب الوسائل أو التخفيف ، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ، ولا الزيادة في المندوبات ، لأن البدع من باب الوسائل ، لأنها متعبد بها بالفرض ، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف ، فحصل من هذا كله ألا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغي باتفاق العلماء ، وحسبك به متعلقاً ، والله الموفق . وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبقَ إلا الوقوف عندما حده ، والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان من بدعة ) - ثم قال - ( فصل وإما الاستحسان فلأن لأهل البدع(129/96)
أيضاً تعلقاً به، فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن، وهو إما العقل أو الشرع ، أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ، لأن الأدلة اقتضت ذلك ، فلا فائدة لتسميته استحساناً ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة و الإجماع ، وما ينشأ عنها من القياس والإستدلال ، فلم يبق إلا العقل هو المستحسن ، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة ، لا إلى غيرها ، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن ، ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان إنه يستحسنه المجتهد لفعله ، ويميل إليه برأيه ، قالوا وهوعند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد ، وتميل إليه الطباع ، فيجوز الحكم بمقتضاه ، إذ لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام . ثم بين أن من التعبدات ما لا يكون عليه دليل ، وهو الذي يسمى بالبدعة ، فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، إذ ليس كل استحسان حقا ) - إلى أن قال - ( وقد أتوا بثلاثة أدلة : أحدها : قول الله سبحانه:{ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ }(1) ، وقوله :{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ }(2) ، وقوله :{.. فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }(3) هو ما تستحسنه عقولهم .
والثاني : قوله عليه السلام : " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن " وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم ، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون ، إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم ، فلم يكن للحديث فائدة فدل على أن المراد ما رأوه بعقولهم .
__________
(1) - سورة الزمر ، الآية : 55 .
(2) - سورة الزمر ، الآية : 23 .
(3) - سورة الزمر ، الآية : 18 .(129/97)
والثالث : أن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ، ولا تقدير مدة اللبث ، ولا تقدير الماء المستعمل ، ولا سبب ذلك إلا أن المشاحة في فعله قبيحة في العادة ، فاستحسن الناس تركه ، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة أو مدة الاستئجار ، أو مقدار المشترى إذا جهل ; فإنه ممنوع وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل ، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليل . فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضاً ، لمن أراد أن يبتدع فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن، وإذا كان كذلك فلابد من فضل اعتناء بهذا الفصل حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم ) . ثم ذهب رحمه الله في تعريف الاستحسان ومناقشة تعاريفه المختلفة ، وأقوال أهل العلم في اعتباره وشروطه . ثم قال بعد ذلك ( فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولاً فإن من حد الاستحسان بأن ما يستحسنه المجتهد بفعله ويميل إليه برأيه .
فكان هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك ، بل يجوز أن يرد بأن ماسبق إلى أوهام العوام مثلاً ، فهو حكم الله عليهم ، فيلزمهم العمل بمقتضاه ، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التبعد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون ، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشرايع من جهة العقل .
وأيضاً فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم ، حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد ، إلى ما فهموه من الأمور الثابتة ، ولم يقل أحد منهم إني حكمت في هذا بكذا ، لأن طبعي مال إليه ، أو لأنه يوافق محبتي وحناني ، ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير ، وقيل له من أين لك أن تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس وهوى القلب هذا مقطوع ببطلانه .(129/98)
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ، ويحصرون ضوابط الشرع . وأيضاً فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان ; لم يكن للمناظرة فائدة ، لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ، ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضاً ، لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر ، والشريعة ليست كذلك .
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحداً ، ولا يفاتحون عالماً ولا غيره فيما يبتغون خوفاً من الفضيحة ألا يجدوا مستنداً شرعياً ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالماً أو لقوه أن يصانعوا ، وإن وجدوا جاهلاً عامياً ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ، ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ; ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئاً فشيئاً ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المنكبّون عليها ، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصته . وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون عليهم ) - إلى أن قال ( وأما الدليل الأول فلا متعلق به ، فإن أحسن الاتباع اتباع الأدلة الشرعية ، وخصوصاً القرآن، فإن الله تعالى يقول:{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا }(1) الآية ، وجاء في صحيح الحديث الذي أخرجه مسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : " أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله " ، فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا ، فضلاً عن أن يكون من أحسنه .
__________
(1) - سورة الزمر ، الآية : 23 .(129/99)
وقوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }(1) الآية ، يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً ، وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول ، كما تقدم ، وهذا كله فاسد ، ثم إنا نعارض هذا الاستحسان ; بأن عقولنا تميل إلى إبطاله وأنه ليس بحجة ، وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع ، وأيضاً فيلزم عليه استحسان العوام ، ومن ليس من أهل النظر ، إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطبع ، وذلك محال للعلم بأن ذلك مضاد للشريعة فضلاً عن أن يكون من أدلتها .
وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه :
أحدهما : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن ، والأمة لا تجتمع على باطل ، فاجتماعهم على حسن شيئ يدل على حسنه شرعاً ، لأن الإجماع دليلاً شرعياً ، فالحديث دليل الحكم عليكم لا لكم .
والثاني : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يُسمع .
والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم ; فيلزم عليه استحسان العوام ، وهو باطل بإجماع ) إلى أن قال ( فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة ..) إلى آخر ما ذكره .
الدليل الثالث عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل الثالث عشر بقوله :
الثالث عشر : أن المولد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي ، فهو سنة ، وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة ، وجاءت الآثار الصحيحة بها ، وبالحث عليها . اهـ .
ونقف مع المالكي في دليله هذا الوقفات التالية :-
الوقفة الأولى : مع ما ذكره من أن المولد اجتماع ذكر وصدقة . إلى آخر قوله .
و نقول للمالكي :
__________
(1) - سورة الزمر ، الآية : 18 .(129/100)
إن الاحتفالات بالمولد تشتمل على اجتماع كما ذكر ، ولكنها اجتماعات مشوبة بالمنكرات ، ففيها الإختلاط بين الرجال والنساء ، وفيها المعازف بمختلف أنواعها ، وإذا كانت موالد المالكي لا تشتمل على شيئ من ذلك كما نفاه في رسالته هذه ; فإنه أثبت لنا بطريق الإعتراف والإقرار أن موالده تشتمل على تربية العقول على الأوهام والتخيلات الباطلة ، والاعتقادات السخيفة ، حينما يعتقد من يحضر احتفالاته بالمولد بحضور الحضرة النبوية ، وتعين القيام لها ، فاجتماع يشتمل على السخرية بالعقول ، والأخذ بالاعتقادات السخيفة ، يضاف إلى ذلك ما يحيط به من منكرات الاختلاط ، والأغاني والإسراف في المآكل والمشارب ، والاستجداء من هذه الاحتفالات ، إلى غير ذلك مما يعرفه المالكي وأحزابه داخل البلاد وخارجها . هل يكون هذا الإجتماع بهذا الوضع المزري ، وبهذه الحال السيئة مطلوب شرعاً ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
وإذا كان هذا الإجتماع يشتمل على ما يزعم المالكي على الذكر والصدقة ومدح وتعظيم الجناب النبوي ; فإن الذكر يعني تلاوة كتب الموالد ودلائل الخيرات ، وغير ذلك مما يصرخ بالشركيات والبدعيات ، والغلو في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع مقامه إلى مقام الربوبية والألوهية ، والصدقة تعني تقديم موائد الأكل والشرب للمشاركين في هذا الاحتفال ، من برّ وفاجر ، وغني وفقير ، وتعنى كما ذكره أهل العلم والعارفون بخصائص الموالد ; الإستجداء ، حيث يتقدم الحاضرون لهذه الاحتفالات بما تجود به نفوسهم المأخوذة بدواعي التغرير والتضليل والإغراء الكاذب ، فيجتمع لدى المختص بجمع الأموال ما يزيد بكثير عن المستلزمات المالية للاحتفال بالمولد ، فيأخذه المالكي وأحزابه زعماء الموالد وقادتها .(129/101)
أما المدح والتعظيم للجناب النبوي فذلك بيت القصيد ، إن لم يكن ذلك قميص عثمان . ففي هذه الاحتفالات الترنم ببردة البوصيري وغيرها من المدائح النبوية التي ترفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الربوبية والألوهية كقوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وقول البكري :
ولذ به في كل ما ترتجي فإنه المأمن والمعقل
ونادهِ إن أزمة أنشبت أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يُسأل
قد مسني الكرب وكم مرة فرّجت كرباً بعضه يعضل
عجّل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل
إلى آخر ما في المدائح النبوية من الغلو والإطراء ، والإفراط ومخالفة أمر و رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرصه الشديد في أن تعرف أمته قدره عند ربه ، فلا تطريه وترفعه إلى مقام لا يرتضيه : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبدالله ورسوله " .
فهل في مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي في الإتيان بما يغضب رسول الله ، وهل الغلو في رسول الله بما لا يرضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل في ذلك سنة ومطلوب شرعاً ؟ أم أن ذلك عين المحظور ، وجوهر التنكب عن الصراط المستقيم ! .
الوقفة الثانية : عند قوله : إن الآثار الصحيحة جاءت بها وبالحث عليها .
ونقول للمالكي :(129/102)
إن كان قصدك أن ذكر الله تعالى ، والتحدث بنعمه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتصدق على من يستحق الصدقة ، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه بما لا يخرجه عن مقامه ولا منزلته التي أنزلها الله إياها ; إن كان قصدك أن هذه الأمور مأمور بها ومطلوبة شرعاً ; فهذا حق وصدق و عدل . إلا أن ذلك ليس خاصاً بليلة واحدة في السنة ، وإنما هي وغيرها مما أمر به في كتابه ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ، مطلوبة منا شرعاً وفي كل وقت وفي كل مكان ومن كل فرد ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بمشروعيتها ، وبالحث عليها ، وهذا لا يعني أننا نسلم للمالكي بدليله هذا ، فقد وقفنا معه الوقفة الأولى وبينا بعده عن مواطن الاستدلال وأن الذكر والصدقة والمدائح النبوية التي يُقام الاحتفال للمولد بها ; ليست الأمور المطلوبة شرعاً ، بحكم ما يخالطها ويمازجها من المنكرات والشركيات والتلاعب بالعقول ، وإنما هي أمور محظورة شرعاً ، تغضب الله وتغضب رسوله ، وتتنافى مع مقتضى شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتربى العقول على الأخذ بالخيالات والترهات والوهميات ، فهل خلط عقل المالكي فالتبست عليه المتضادات ؟ أم أنه الهوى يعمي ويصم ؟ .
رحمك الله أيها الشاطبي ، فحقاً ما قلت : بأن أهل البدع لا يستطيعون المناظرة ومقابلة الحجة بالحجة ، لأنهم يشرعون بعقولهم المجردة عن أي مستند شرعي .
وهذا المالكي من أجناس من قصدت رحمك الله .
الدليل الرابع عشر مناقشته ثم ردّه
وذكر المالكي الدليل الرابع عشر بقوله :
الرابع عشر : أن الله تعالى قال : { وَكُلاَّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ(129/103)
فُؤَادَكَ }(1)، يظهر منه أن الحكمة في قص أنباء الرسل عليه تثبيت فؤاده الشريف بذلك ، ولا شك أننا اليوم نحتاج إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره ، أشد من احتياجه هو صلى الله عليه وسلم .اهـ .
حقاً إننا محتاجون دائماً وأبداً وفي كل وقت ، وليس في ليلة واحدة بعد مضي ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ، محتاجون إلى ما يثبت أفئدتنا ويقوى عزائمنا ويزيد في إيماننا ، وذلك باتباع أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالتزام الطاعة والعبادة وفق ما شرعه صلى الله عليه وسلم ، وما هو عليه من صبر وإيمان وجهاد ، ورأفة تامة بأمته وحرص منه صلى الله عليه وسلم على اهتدائها ، وغير ذلك من جوانب الإشراق في حياته صلى الله عليه وسلم .
لا شك أن في دراسة ذلك وتأمله ومتابعته تقوية لأفئدتنا ، وزاداً لعزائمنا ، و إيماناً بحكمة وجودنا في هذه الحياة ، إلا أن ذلك ينبغي أن يكون في كل وقت وعلى أي حال وفي كل مناسبة ، في مساجدنا ومدارسنا ومجالسنا وأجهزة إعلامنا ، فنحن في أشد وأحوج إلى ما تقوى به عزائمنا ، وتثبت به أفئدتنا ، ولا شك أن أفئدتنا ستكون أشد زعزعة ، وعزائمنا أكثر ضعفاً إذا كنا لا نسمع أخباره صلى الله عليه وسلم ، ولا تقص علينا سيرته صلى الله عليه وسلم إلا مرة في السنة ، فيها من التلاعب وتسفيه الأحلام ، والسكوت على المنكرات أو المشاركة بها ما يعرفه المالكي وأحزابه ، فهل بعد هذا الجفاء جفاء ؟ ، وهل بعد هذا الحرمان من حرمان ؟ ، وهل بعد هذه القطيعة من قطيعة ؟ .
__________
(1) - سورة هود ، الآية : 120 .(129/104)
لقد أمر الله تعالى أن تكون صلة عباده به قوية ومتماسكة ومستمرة ، فقد أوجب على عباده خمس صلوات في كل يوم وليلة ، وجعل في الصلوات من الأذكار والأقوال ما يرتفع بها ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما هو الواقع في التشهد الأول وما فيه من سلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وشهادة له بالرسالة ، وما في التشهد الثاني فوق ذلك من الصلاة عليه وعلى آله والدعاء لهم بالبركة .
إن المالكي يتشدق ويظن أنه بهذيانه في رسالته البتراء وفي غيرها من كتبه و
رسائله ; يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يستحقه ، وما يدري الجاهل المسكين أنه بدعوته لإقامة الموالد يبعد الناس عن سيرة رسول الله ، وعن جوانب الإشراق في حياة رسول الله ، وعن موجبات الاتعاظ وأخذ العبر من جهاد رسول الله ، حينما لا يكون تذكر ذلك إلا في ليلة واحدة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة ، ينشغل فيهن الناس بأمور الدنيا وزخارفها ومتعها ، وينسون ما سمعوه في ليلة المولد إن سمعوا فيها حقاً وصدقاً ، وما أقل ذلك وأندره .
الدليل الخامس عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل الخامس عشر بقوله :-
الخامس عشر: ليس كا ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكرة سيئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها، بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة الشرع ، فما اشتمل على مصلحة فهو واجب ، أو على محرم فهو محرم ، أو على مكروه فهو مكروه ، أو على مباح فهو مباح ، أو على مندوب فهو مندوب ، وللوسائل حكم المقاصد . ثم قسم العلماء البدعة إلى خمسة أقسام : واجبة كالرد على أهل الزيغ وتعلم النحو ، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنابر ، وصنع إحسان لم يعهده في الصدر الأول ، ومكروهة كزخرفة المساجد وتزوةيق المصاحف ، ومباحة كاستعمال المنخل والتوسع في المآكل والمشارب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ، ولم تشمله أدلة الشرع العامة ، ولم يحتو على مصلحة شرعية .اهـ .(129/105)
الواقع أن العلماء وحمهم الله لم يهملوا هذه المسألة بل بحثوها وحققوها تحقيقاً ظهر منه ما يعتبر بدعة ومالا يعتبر بدعة . وقد سبق أن قدمنا في الفصل التمهيدي للدخول مع المالكي في مناقشة أدلته وردها ; قدمنا نصوصاً لأهل العلم والمحققين منهم أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي والعز بن عبدالسلام وابن رجب ، وغيرهم مما يغني عن إعادته .
تحدثوا رحمهم الله البدعة وعن الإحداث في الدين ، وفندوا رأي من يقسم البدعة إلى حسن وقبيح ، وذكروا رحمهم الله أن النصوص النبوية في رد البدعة والتحذير منها نصوص عامة شاملة ، لا يمكن أن يخرج من أجزائها أو أفرادها ما يعتبر حسناً مشروعاً ، لما في ذلك من الخلل والخطأ ، والبعدعن روح التشريع ، من إتهام الدين بالنقص والرسول بالتقصير في أداء الرسالة ، و زعزعة الإيمان بمقتضى مدلول قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسَْلامَ دِينًا}(1). ولا شك أن ما أحدث فينبغي عرضه على أدلة الشرع ، فما اشتمل على مصلحة ظاهرة ، وأدلة الشرع العامة تؤيده وتدعو إليه ، كالرد على أهل الزيغ والبدع والضلال ، والنظر فيما يحفظ كتاب الله من جمع ونشر ، وتصنيف علوم القرآن واللغة والحديث ، ونحو ذلك مما تؤيده القواعد العامة للتشريع ; فهذا ليس من قبيل الابتداع ، ولا نقول بأن السلف الصالح لم يكن على عهد به ، وقد أحدث بعدهم ، فالعبرة من هذه الأمور المستحدثة بنتائجها، ولا شك أن نتائجها محصلة لدى سلفنا الصالح، فكتاب الله في صدروهم ، وهم أهل اللغة سليقة ، فليسوا في حاجة إلى علوم اللغة ، إلى أن اختلت ألسنة أولادهم ، بحكم اختلاطهم بالأعاجم ، فأشار الخليفة الراشد على بن أبي طالب رضي الله عنه بإيجاد علم النحو لحفظ اللسان العربي ، ثم تتابعت علوم القرآن واللغة تحقيقاً لضرورة العناية بكتاب الله حفظاً
__________
(1) - سورة المائدة ، الآية 3 .(129/106)
وتعلماً وتعليماً ، ورد سلفنا الصالح على أهل الزيغ والضلال حاصل منهم بالفعل ، فقد ردت عائشة رضي الله عنها على الحرورية ، ورد علي بن أبي طالب رضي الله عنه على غلاة الشيعة ، وأصل ذلك تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من دعاة السوء والضلال ، من خوارج وغيرهم ، وأنه إن أدركهم ليقاتلنهم .
ولا نقول بأن إيقاف الربط ليس له عهد لدى سلفنا الصالح ، فأين المالكي عن الصفة وأهل الصفة ، فهي رباط على فقراء الصحابة ، وهي أصل في مشروعية وقف الأربطة على الفقراء . ولا نقول بأن المدارس محدثة ، فأين المالكي عن دار الأرقم المدرسة الأولى في الإسلام ؟ فهي كذلك أصل في إيجاد مدارس يتعلم فيها أبناء المسلمين أمور دينهم ودنياهم . أما الأذان على المنابر فلا يخفى أن الأذان شرع للإعلام بدخول وقت الصلاة ، وأن المؤذنين في الصدر الأول من الإسلام كانوا يؤذنون على سطوح المساجد والبيوت ابتغاء التوسع في الإبلاغ ، فإذا كان التوسع في الإبلاغ بدخول الوقت مطلباً شرعياً ; فأي وسيلة إليه مطلوبة شرعاً ، ولا تعتبر حدثاً لوجود أصلها في الجملة . أما زخرفة المساجد والمصاحف فالحمد لله على الإقرار بكراهيتها ، مع أن النصوص النبوية متوفرة بمنع ذلك والحمد لله . وأما الأمور المباحة مما لا يُقصد باستعمالها أمر تعبدي ; فهي مشمولة بالنص النبوي الكريم " أنتم أعلم بأمور ديناكم " ، فما استحدثه الناس في أمور حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص العامة في مراعاة الإقتصاد والإباحة العامة ; فلا يُعتبر بدعة ، فقد عرّف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين .(129/107)
وقد ذكر المالكي ما ذكره بعض أهل العلم من أن البدعة تجري عليها الأحكام الخمسة : الوجوب ، والاستحباب ، والإباحة ، والكراهة ، والحظر ، وذكر أمثلة لكل نوع ، وجرت مناقشته على تقسيم البدعة ، ومناقشته على الأمثلة التي ذكرها للأحكام الأربعة ، وبقي القسم الخامس المتعلق بالتحريم لمخالفته السنة ، ولأنه لا يحتوي على مصلحة شرعية ، ولم تشمله أدلة الشرع العامة ، ونقول إن هذا القسم الخامس هو البدعة بعينها ، وأن الموالد والاحتفال بها ولها; أمور البدعة محرّمة لمخالفتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن السنة في اصطلاح أهل العلم هي أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته ، وما عدا ذلك فهو عمل ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحداث في الدين ما ليس(129/108)
منه ، وقد اعترف المالكي أن المولد بدعة ، وأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عهد أصحابه ولا عهد التابعين وتابعيهم ، من القرون المفضلة الذين هم الصدر الأول للإسلام ، والمولد بحكم ابتداعه ونية التعبد به بلا مستند شرعي ; بدعة ، وهو بحكم ما يشتمل عليه من المنكرات في الاجتماع من اختلاط وغناء وإسراف في المآكل والمشارب وانتهاك لحرمة العقول ، حيث تجبرعلى تصديق التخيلات والتوهمات والخرافات من حضور الحضرة ، ووجوب تقديم آيات الإجلال والتقدير بالقيام لها ، واستشعار الرهبة والخشية والخشوع والتذلل لتوهم حضورها ، إن المولد بحكم ابتداعه ويحكم ما يشتمل عليه مما ذكرنا ، وما لم يذكره مما يعرفه المالكي وأحزابه ، لا يكفي أن نقول إن أدلة الشرع العامة لا تشمله ، ولم يحتو على مصلحة شرعية ، ولكننا نقول إنه يشتمل على مخالفات شرعية ، ومضار شرعية ، وبدع ومنكرات وشركيات تجعل المخلوق شريكاً للخالق في مقاليد السموات والأرض، وتجعل لرسول الله منزلة إلهية ، حيث يكون من جوده الدنيا وضرتها ومن علومه علم اللوح والقلم ، وأن الخلق خلقوا لأجله ، وأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر التي نزلت بفضلها وتفضيلها على ألف شهر سورة كاملة ، وأن قبره أفضل من الكعبة ، إلى غير ذلك مما يقرأ ويعرض ويتلى في اختفالات المولد . فهل يستطيع المالكي وأحزاب المالكي ، وأئمة المالكي وشيوخ المالكي ، ومن يسلك مسلك المالكي أن يجدوا للاحتفالات بالمولد في تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام ؟، وهل يجدون للمولد مكاناً غير القسم الخامس ، لما فيها من مخالفة السنة ، وانتفاء أدلة الشرع العامة على مشروعيتها ، وخلوها من المصالح العامة ؟ إنهم إن حكموا عقولهم العامة وطوحوا بأهوائهم عرض الحيطان ; فسيسلمون لنا بذلك ، وإن ركبوا رؤوسهم فسيأتون من القول بالعجب العجاب ، ولكنه الزبد يذهب جفاء ، والباطل يندفع فيكون زهوقاً .(129/109)
الدليل السادس عشر مناقشته ثم ردّه
وذكر المالكي الدليل السادس عشر بقوله :
السادس عشر : ليست كل بدعة محرمة ، ولو كان كذلك لحرم جمع أبي بكر وعمر وزيد رضي الله عنهم القرآن ، وكتبه في المصاحب خوفاً على ضياعه بموت الصحابة القرآء رضي الله عنهم ، ولحرم جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة القيام ، مع قوله نعمت البدعة هذه ، وحرم التصنيف في جميع العلوم النافعة ، ولوجب علينا حرب الكفار بالسهام والأقواس ، مع حربهم لنا بالرصاص والمدافع والدبابات والطيارات والغواصات والأساطيل ، وحرم الأذان على المنابر واتخاذ الربط والمدارس والمستشفيات والإسعاف ودار اليتامى والسجون ، فمن ثم قيد العلماء رضي الله عنهم حديث كل بدعة ضلالة بالدبعة السيئة ، ويصرح لهذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين ، من المحدثات التي لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ونحن اليوم قد أحدثنا مسائل كثيرة لم يفعلها السلف ، وذلك كجمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح ، وكختم المصحف فيها ، وكقرآءة دعاء ختم القرآن ، وكخطبة الإمام ليلة سبع وعشرين في صلاة التهجد وكنداء المنادي بقوله : صلاة القيام أثابكم الله ، فكل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من السلف ، فهل يكون فعلنا له بدعة ؟ .
هذا الدليل لنا مع صاحبه عدة وقفات :
الوقفة الأولى : عند قوله ليست كل بدعة محرمة .(129/110)
هذا القول قد تكرر منه عدة مرات في أدلته السابقة ، وتكررت منا الإجابة عليه تبعاً لتكرار إيراده ، ونقتصر الآن على القول بأننا لا نسلم للمالكي قوله : ليست كل بدعة سيئة ، وسبق أن ذكرنا أقوال المحققين من أهل العلم في ذلك أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والشاطبي والعز بن عبدالسلام ، وردهم على من يقول بقول المالكي ، بتقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة ، وتمسكهم بعموم النصوص الدالة على الشمول والإطلاق ، وانتفاء التخصيص أو القيد . وذكرنا أن مَن يقسم البدعة إلى خمسة أقسام ، لا يعني بالأقسام الأربعة : الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهة ; البدعة الشرعية ، وإنما يعني بذلك البدعة اللغوية ، بدليل أن أمثلة الأقسام الثلاثة مندرجة تحت نصوص عامة ، وخاصة من كتاب الله تعالى ، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والقسم الرابع وهو الإباحة لا تعلق له بالدين ، وإنما هو من أمور العباد الدنيوية المندرجة تحت قوله صلى الله عليه وسلم : أنتم أعلم بشئون دنياكم . أما القسم الخامس وهو المحرم; فهو البدعة الشرعية بعينها ، سواء كان تحريمها لمخالفتها السنة ، أو لانتفاء مشروعيتها من الأدلة الشرعية العامة ، أو لخلوها من المصلحة كما هو الحال في الموالد والاحتفال بها ، فهي مخالفة للسنة لكونها مما لم يكن عليه أمر هذا الدين في الصدر الأول من الإسلام ، ولا شتمالها على المدائح النبوية المشتملة على الغلو والإطراء والإفراط ، وقد تواترت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، على التزام القصد في الثناء ، والنهي عن الغلو والتنطع ، ومجاوزة الحد في المدح ، وحماية جناب التوحيد ; من أن يأتي العباد في تصرفاتهم بما يخدش كمال التوحيد . كما أن المصالح الشرعية منتفية عنها ، و فيها من المضار والمنكرات ما لا يخفى على عاقل منصف يحب الله ورسوله ، ويعرف ما الله من حق ، وما لرسوله من مقام .(129/111)
الوقفة الثانية : عند اعتباره جمع القرآن من أبي بكر وعمر وزيد بن ثابت بدعة .
لا نعتقد أن أحداً من أهل العلم ممن يعتد بهم في علمهم وتقاهم وصلاحهم وسلامة اعتقادهم يرى أن جمع القرآن بدعة شرعية ، لأن البدعة هي الطريقة المحدثة في الدين ، على غير مثال ، والله تعالى أمر بحفظ كتابه ، وحض على ذلك رسول الله صلى الله وسلم ، وأكد الله سبحانه وتعالى ضمان حفظه كتابه بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) ، فعمل أبو بكر وعمر وعثمان هو في الواقع تطبيق عملي لنصوص شرعية من الكتاب ، والسنة تأمر بذلك وتؤكده ، وفضلاً عن ذلك فهو من عمل من أعمال الخلفاء الراشدين المهديين من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلقته الأمة بالقبول والارتياح التامين ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعليه الخلفاء الراشدون سنة ، وأمرنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين ، حيث يقول : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ " . فقد برأ صلى الله عليه وسلم ما عليه الخلفاء الراشدون من الابتداع ، وسمى ما هم عليه سنة ، وطهرها من أن تكون من المحدثات . فهل يستقيم للمالكي قول معتبر في تشبيه عمل الصحابة بعمل القرامطة والفاطميين وأتباعهم أشياخ المالكي وأئمته ؟ سبحان الله ! .
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني
إن التشبيه لا يستقيم له تشبيه الليل بالنهار، والظلمات بالنور، والجهل بالعرفان .
الوقفة الثالثة : عند اعتباره جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة قيام الليل بدعة .
__________
(1) - سورة الحجر ، الآية : 9 .(129/112)
ماقلناه في اعتباره جمع القرآن بدعة في ردنا ذلك نقوله في هذا ، وإذا كان عمر رضي الله عنه يقول : " نعمت البدعة هذه " ; فقد أجمع أهل العلم ، المعتد بهم على أن المراد ببدعة عمر ; البدعة اللغوية ، فعمر رضي الله عنه لم يبتدع هذه الصلاة ; كما ابتدع أحزاب المالكي صلاة الرغائب والفاتح لما أغلق ، وغيرها من الصلوات المردودة على أصحابها بأوزار ابتداعها ، فأصل قيام الليل مشروع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن جبير بن نفير عن أبي ذر قال : " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثم لم يقم بنا في الثالثة ، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل ، فقلنا يارسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه ؟ فقال إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة . ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر ، فصلى بنا في الثالثة ، ودعا أهله ونساءه ، فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح . فقلنا له وما الفلاح ؟ قال : السحور " رواه الخمسة ، وصححه الترمذي . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " صلى بالمسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى الثانية فكثر الناس ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح قال : رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ، وذلك في رمضان " متفق عليه . وفي رواية " كان الناس يصلون في المسجد بالليل أوزاع ، يكون مع الرجل الشيئ من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو السبعة أو أقل من ذلك أو أكثر ، يصلون بصلاته ، قالت : فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنصب له حصيراً على باب حجرتي ففعلت ، فخرج إليهم بعد أن صلى عشاء الآخرة ، فاجتمع إليه من في المسجد ، فصلى بهم .." وذكرت القصة . بمعنى ما تقدم غير أن فيها أنه لم يخرج إليهم في الليلة الثانية ، رواه أحمد(129/113)
.
وعن عبدالرحمن بن عبدالقادر قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل بصلاته الرهط ، فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بي كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، فقال عمر " نعمت البدعة هذه " رواه البخاري .
فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة صريحة في مشروعية قيام الليل ، وأدائها جماعة ، وإذا كان عمر رضي الله عنه قد جمع الناس وراء قارئ واحد ، فقد اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أن حديث عائشة رضي الله عنها صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين قيام رمضان ، إلا أنه لم يداوم على ذلك خشية أن يُفرض عليهم ، فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وانقطع الوحي ، واستقرت الشريعة ، وصار الأمن مما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم من فرضه على الأمة ; أنفذ عمر رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع الناس وراء إمام واحد . فهل في هذا الإجراء من الخليفة الراشد المأمورين باتباع سنته مشابهة لما ابتدعه القرامطة والفاطميون من الاحتفالات بذكرى المولد وغيره ؟ سبحانك هذا ضلال مبين .
الوقفة الرابعة : عند اعتباره تصنيف العلوم النافعة ، وحرب الكفار بالمعدات الحديثة ، والأذان على المنابر ، واتخاذ الربط والمدارس والمستشفيات ، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان ، اتخاذ ذلك بدعة .
لقد سبقت منا مناقشة هذا الاعتبار في الدليل الخامس عشر ، وقد مللنا التكرار ، فيغني ذلك عن إعادته . إلا أننا نذكر المالكي حينما يرى أن محاربة الكفار بالمعدات الحديثة بدعة، نذكره بقوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }(1) ، فهل يكون في امتثال أمر الله ابتداع ؟
__________
(1) - سورة الأنفال ، الآية : 60 .(129/114)
رحمك الله أيها الشاطبي ، فقد أكدت لنا القول بان أهل البدع لا يستطيعون المناظرة مع أهل العلم لفقرهم إلى ما يسندهم في بدعهم من الأدلة الموجبة للإقناع .
الوقفة الخامسة : عند قوله : ويصرح بهذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين من المحدثات ، التي لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم .
ونقول للمالكي إن كان قصدك من هذا جمع القرآن ونشره ، وجعل الناس وراء إمام واحد في قيام رمضان ، وقتال أهل الردة ; فقد مرت الإجابة عن ذلك بما يغنى عن إعادته ، وإن كان القصد أن الصحابة والتابعين قد أحدثوا في الدين ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإن هذا كذب وافتراء وزور وبهتان ، فهم رضوان الله عليهم أبعد الناس عن المخالفة ، وأولى الناس بالاتباع والاقتداء ، وأحرص الناس على الوقوف عند سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتحدى المالكي وأحزابه وأبالسة الإنس والجن من دعاة السوء والابتداع أن ياتوا لنا بما يصدق عليه أن يكون بدعة مما يدعيه المالكي من إحداثات الصحابة وابتداعهم .
سبحان الله ، يروي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ، إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، ما أحدث قوم بدعة إلا رفع الله مثلها من السنة " . وما روي موقوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول ابن مسعود : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ، وقول حذيفة رضي الله عنه : كل عبادة لم يتعبّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبّدوها ، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القرآء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم .(129/115)
سبحان الله ، يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة الصريحة في محاربة الابتداع والتحذير منه ، ثم يبتدعون ! ، إنه لبهتان عظيم ، نشهد ببراءة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ونسأله تعالى أن ينتقم لأصحاب رسول الله ممن رماهم بهذا البهت والافتراء .
الوقفة السادسة : عند قوله : ونحن اليوم قد أحدثنا مسائل كثيرة لم يفعلها السلف إلى آخر الدليل .
تمثيل المالكي على دعواه بأننا في هذا العصر قد أحدثنا بجمع الناس على إمام واحد آخر الليل لأداء صلاة التهجد مردود بأن قيام رمضان ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الترغيب في قيام رمضان ، فقد قال من قام رمضان إيمناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ولم يعين صلى الله عليه وسلم صلاة محدودة للقيام ، ولا وقتاً له معيناً من الليل ، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قم أول الليل ووسطه وآخره ، وانه صلى الله عليه وسلم صلاها جماعة .
ففي كتاب قيام الليل لأبي عبدالله محمد بن نصر المرزوي قال :
باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ليلاً تطوعاً في شهر رمضان ،. فذكر حديث عائشة رضي الله عنها ، وحديث جبير بن نفير عن أبي ذر المتقدميّن مما أوردنا ، وذكر حديث النعمان بن بشير بسنده ، قال : قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى نصف الليل ، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى خفنا ألا ندرك الفلاح ، وكنا نسميه السحور .
وقال في باب اختيار قيام الليل على أوله :(129/116)
طاووس سمع ابن عباس يقول : دعاني عمر أتغذى عنده ، يعني السحر ، فسمع هيعة الناس ، فقال : ما هذا ؟ فقلت: الناس خرجوا من المسجد ، قال ما بقي من الليل أفضل مما مضى. وقال الحسن : كان الناس يصلون العشاء في شهر رمضان في زمان عمر بن الخطاب وعثمان بن عثمان ربع الليل الأول ، ثم يقومون الربع الثاني ، ثم يرقدون ربع الليل ويصلون فيما بين ذلك . وكان علي بن أبي طالب إذا تعشى في شهر رمضان هجع ثم يقوم إلى الصلاة فيصلي .
فهذه الآثار صريحة في أن قيام الليل غير محدد بوقت ، ولا بعدد معين من الصلاة ، وأن إقامة صلاة الليل جماعة سواء كان ذلك في أول الليل أووسطه أو آخره ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أن تعدد أداء صلاة القيام في رمضان ثابت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تلقت الأمة ذلك بالقبول ، ولم يقل أحد من أهل العلم أن قيام التهجد آخر الليل جماعة بدعة ، إلا المالكي وأحزابه ممن لا يعتد بهم في قول أو عمل ، ولم يكن له ولأحزابه قصد في محاربة الابتداع ، وإنما قصده في ذلك التلبيس والتدليس على الأمة بمشروعية الابتداع ، هداه الله وأعاده إلى الصواب . ومثّل المالكي للابتداع في زمننا بختم القرآن في قيام الليل ، وهذا أيضاً مردود بالآثار الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم ، وكلها تنص على الترغيب في تلاوة كتاب الله في قيام الليل حسبما تقتضي بذلك أحوالهم وقواهم .
ففي قيام الليل لأبي عبدالله المروزي تحت باب مقدار القرآءة في كل ركعة في قيام الليل قال ما نصه :(129/117)
( السائب بن يزيد : أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما للناس في رمضان ، فكان القارئ يقرأ بالمئتين ، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلى في فروع الفجر ) ، إلى أن قال ( أبو داود سأل أحمد عن الرجل يقرأ القرآن مرتين في رمضان ، يؤم الناس ، قال : هذا عندي على قدر نشاط القوم ، وإن فيهم العمال ، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ أفتان أنت ؟ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه :
( وأما قرآءة القرآن في التراويح فمستحب باتفاق أئمة المسلمين ، بل من أجلّ مقصود التراويح قرآءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله ، فإن شهر رمضان فيه نزل القرآن ، وفيه كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وإن أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن )(1) . اهـ .
وفي المغنى لابن قدامة رحمه الله ما نصه :
( وسُئل أبو عبدالله عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة ، ترى لمن خلفه أن يقرأها ؟ قال : نعم ، ينبغي أن يفعل ، قد كانوا بمكة يوكلون رجلاً يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها ، فإذا كان ليلة الختمة أعاده ، وإنما استحب ذلك لتمم الختمة ويكمل الثواب )(2) . اهـ .
وأما دعاء ختم القرآن في تروايح رمضان أو قيامه ، فليس كما ذكره المالكي من الأمور المبتدعة ، وإنما هو من أعمال السلف الصالح ، وفي ذلك يقول ابن قدامة رحمه الله في المغنى نقلاً عن إمام أهل السنة وقامع البدعة ، الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ما نصه :
__________
(1) - انظر 23 ، ص 122 من مجموع الفتاوى .
(2) - انظر ج 2 ، ص 172 من المغنى .(129/118)
( قال الفضل بن زياد : سألت أبا عبدالله أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التروايح ؟ قال : اجعله في الراويح حتى يكون لنا دعاءين اثنين . قلت : كيف أصنع ؟ ، قال : إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع ، وادع بنا ونحن في الصلاة ، وأطل القيام . قلت : بمَ أدع ُ ؟ ، قال : بما شئت . قال : ففقلت بما أمرني وهو خلفي يدعو ويرفع يديه .
قال حنبل سمعت أحمد يقول في ختم القرآن : إذا فرغت من قرآءة { قل أعوذ بربِ الناس } فارفع يديك بالدعاء قبل الركوع . قلت : إلى أي شيئ تذهب في هذا ؟، قال: رأيت أهل مكة يفعلونه ، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة . قال العباس بن عبدالعظيم : وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة . ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً ، وذكر عن عثمان بن عفان )(1). اهـ .
وأما نداء المنادى بقوله : صلاة القيام أثابكم الله ، فعلى فرض أنه بدعة ، فليس لها وجود في غير الحرمين ، ولعلها من بقايا أمور زيلت ، ورؤي أن الخطب في هذه يسير ، فبقيت مع أنها في الواقع مستندة إلى أصل هو مشروعية الإبلاغ للدخول في وقت الصلاة ، وهذا نوع من الإبلاغ ، وفيه مصلحة شرعية ، ويستند إلى أصل عام ، ولا يترتب عليه من المنكرات شيئ مطلقاً ، كما أنه لا ينطبق عليه تعريف البدعة، فليس الإبلاغ للدخول في الصلاة محدث في الدين ،
ومع ذلك فلو استغنى عنه واقتصرعلى ما عليه بقية البلاد لكان ذلك أسلم و أكمل .
إلا أننا لا نسلم للمالكي تشبيهه هذه المسألة بالموالد والاحتفال بها ، إلا مع الفارق الكبير ، كالفارق بين السماء والأرض ، والعلم والجهل ، والنور و الظلمات ، والحق والباطل ، لأن الموالد فضلاً عما هي في واقعها بدعة واضحة جلية ; فإنها تشتمل على منكرات وشركيات ، لو كانت في حد ذاتها مشروعة لاتجه القول بحرمتها أشبه مسجد الضرار .
__________
(1) - انظر ج 2 ، ص 171 في المغنى .(129/119)
الوقفة السابعة : عن تساؤل المالكي في هذا الدليل ، بعد إيراده جمع الناس على
إمام واحد في التهجد ، وختم القرآن فيه ، ودعاء ختم القرآن ، وإعلام الناس بالقيام ، واعتباره كل ذلك بدعاً ، إذا اعتبرنا احتفاله بالمولد بدعة .
ونقول له :
إنك بتشبيهك هذه الأمور بالمولد بين أمرين : إما أنك جاهل وفاقد لحاسة الإدراك العلمية ; لأنك تجمع في تشبيهك بين متضادين ومتناقضين ومتباينين ، كمن يجمع بين الحق والباطل ، والظلمات والنور ، لأن هذه الأمور مؤصلة شرعاً ، وقد تلقاها الخلف عن السلف الصالح ، وذكر السلف الصالح مستندهم في اعتبارها مما مر ذكره وإيضاحه . أما الاحتفالات بالموالد فلم تعرف إلا بعد أن انقرضت القرون الثلاثة المفضلة بأهلها أهل العلم والإيمان والتقى والصلاح والاتباع والاقتداء ، ثم ابتدعها ونادى بها من هو من شر خلق الله القرامطة و الرافضة والفاطميون ، وتلقاها عنهم أهل التصوف والدجل والغرام بالمحدثات ،
وجعلوا للاحتفالات بها هيئة تشتمل علىالكثير من المنكرات مما مر ذكره و تكراره .
وإما أنك أيها المالكي تدرك تنكبك عن الصرط السوي ; إلا أنك تريد المغالطة ، وإثارة الشبه ، وبلبلة الأفكار كما يفعل المغضوب عليهم ممن عندهم علم لكنهم لم يعملوا به .
ولثقتنا بعلم المالكي وذكائه وقوة إداركه وحبه للظهور ، وابتغاء الوجاهة بأي وسيلة ; فإننا نظن به الثانية ، لتبقى له قاعدته الشعبية من الرعاع والسذج ، تقدم له آيات الإجلال والتقدير بالإنحناءات والخضوع ، ولحس الأيدي ، وتلمس البركات .
وإلا فنحن على ثقة كبيرة من أنه يدرك أن الاحتفالات بالمولد تجمع من المنكرات والشركيات والوهميات والخيالات ما لا يخفى مما مر ذكره وتكراره .
يُلاحظ في هذا ، أن صاحب الرسالة البتراء لم يذكر الدليل السابع عشر لسهو أو غير ذلك مما يعرفه المؤلف .
الدليل الثامن عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل الثامن عشر بقوله :(129/120)
الثامن عشر : قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة ، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو محمود . اهـ . وجرى الإمام العز بن عبدالسلام والنووي كذلك وابن الأثير على تقسيم البدعة إلى ما أشرنا إليه سابقاً . اهـ .
سبق أن أوردنا نصوصاً عن مجموعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب والعز بن عبدالسلام والشاطبي وابن النحاس وابن حجر العسقلاني ; فيها انتقاد صريح وواضح لتقسيم البدعة إلى جائز ومحظور ، وقد تنزل بعضهم وأخذ بالتقسيم ، إلا أن الأقسام الجائزة عندهم لا تسمى بدعة إلا على سبيل اللغوي ، كما قال عمر في جمع الناس في التراويح على إمام واحد : نعمت البدعة هذه . مما له أصل معتبر في الشرع ، وليس له مردود سيئ .
وقد مر بنا استعراض ما ذكروه من ذلك ، كجمع القرآن ونشره وتدوين علوم القرآن والحديث واللغة ، وإيجاد الأربطة والمدارس والمستشفيات والمدارس ; والرد على اعتبار ذلك بدعاً شرعية ، وذلك في الرد على الدليل الخامس عشر ، وتحدثنا عن كل مسألة من هذه المسائل ، وبينا أن لها أصلاً معتبراً في الشرع ، وفي الصدر الأول من الإسلام ، وأن إيرادها لتشبيهها بالمولد والاحتفال به ، أو تشبيه المولد بها يعتبر مغالطة وسفهاً من المالكي ، إن لم يكن ذلك منه جهلاً وضلالا .(129/121)
وإذا أصر المالكي على أن هؤلاء العلماء الأجلاء يقصدون بتقسيمهم البدعة إلى حسن وقبيح ، إجازة إحداث بدع ، فنحن أولاً لا نوافقه على إصراره ، لأن هؤلاء العلماء الذين ذكرهم مقاماً محموداً في الاتباع والاقتداء والاهتداء والوقوف عند الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحذر من تجاوزها . لهم في ذلك مقام لا يجاريهم فيه إلا أسلافهم من الصحابة والتابعين . وعلى افتراض موافقتنا المالكي على فهمه السيئ عن هؤلاء العلماء الأجلاء ; فكل يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى:{ وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(1) ، وقال صلى الله عليه وسلم :" إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " . وقال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ". وقال: " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
فهذه أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأخذها وقبولها والعمل بما تقتضيه ، وكلها ألفاظ صريحة وواضحة جاءت بلفظ العموم والحصر ، فليس فيها تخصيص عموم ولا قيد إطلاق ولا استثناءات ولا تقسيمات .
فبربك أيها المالكي ; أيجوز لنا أن نترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من أمر ونهي وإلزام وتحذير وعموم ; ونقول قال فلان وقال فلان ؟ .
__________
(1) - سورة الحشر ، الآية : 7 .(129/122)
أين محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتشدقك بالتعلق به ، والفرح والاستبشار بسيرته وشمائله ، والحال أنه صلى الله عليه وسلم ينهي عن البدع والمحدثات ، بلفظ العموم والحصر والإختصاص ، وتقول : قال فلان وقال علان ; إن البدعة تنقسم إلى قسمين جائز وممنوع ، وقبيح وحسن ، وممدوح ومذموم ؟
لقد اشتد نكير ابن عباس رضي الله عنهما على من اعتبر قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، في أن الإفراد بالحج أفضل ، وكان ابن عباس يرى التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ، لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم التبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ، ويحلوا إذا طافوا بالبيت ، وسعوا بين الصفا والمروة ، فقال سراقة : ألعامنا هذا ، أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد . فقد جاءه رضي الله عنه من قال له : إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلىالحج ، ويريان أن إفراد الحج أفضل . فقال رضي الله عنه : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟ . فإذا كان هذا قول بن عباس رضي الله عنه في الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دونهما ؟ .
وقد ثبت عن الشافعي رحمه الله قوله : أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، يذهبون إلى رأي سفيان . والله تعالى يقول :{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1) ، أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك . لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيئ من الزيغ فيهلك . اهـ .
__________
(1) - سورة النور ، الآية : 63 .(129/123)
أهذه من المالكي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقول صلى الله عليه و سلم بالعموم وبالحصر وبالاختصاص في رد البدعة والتحذير منها ، وبيان مصيرها ومصير أصحابها والعاملين بها . يقول صلى الله عليه وسلم : " وكل بدعة ضلالة " ، ويقول المالكي : لا ، ليست كل بدعة ضلالة . أهذا هو الفرح والإستبشار بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
أنترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من قول واضح ونص صريح وتوجيه راشد ، ونقول : قال الشافعي ، قال النووي ، قال ابن الأثير ، قال فلان ، قال علان ؟ !
حقاً يوشك أن تنزل على أهل هذا الاتجاه السئ حجارة من السماء مسوّمة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد .
الدليل التاسع عشر مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل التاسع عشر بقوله :
الدليل التاسع عشر : كل ما تشمله الأدلة الشرعية ، ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة ولم يشتمل على منكر فهو من الدين ، وقول المتعصب إن هذا لم يفعله السلف ; ليس دليلاً له ، بل هو عدم دليل . كما لا يخفى على من مارس علم الأصول ، فقد سمى الشارع بدعة الهدى سنة ، و وعد فاعلها أجراً ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئ " . اهـ .
هذا الدليل هو في الواقع تكرار للدليل الخامس عشر ، وإذا كان الدليل الخامس عشر قد بسطه المالكي بقول جرت مناقشته ورده جملة وتفصيلا ، فإن هذا الدليل التاسع عشر هو إجمال واختصار للدليل الخامس عشر ، ونجاري المالكي في تكراره الممل ، ونقول له :(129/124)
إن الاحتفال بالمولد لم تشمله الأدلة الشرعية العامة أو الخاصة ، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم احتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ، لا بشكل جماعي ، ولا بشكل فردي ، ولم تلق قصائد مدحه صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده المتكررة بتكرر السنين والأعوام ، وإنما كانت تلقى في مناسبات تقتضيها الأحوال . وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من صومه يوم الإثنين من كل أسبوع ، وتعليله ذلك بأنه يوم ولد فيه ; لا يُعتبر دليلاً على إقامة احتفال سنوي ; فيه من المنكرات والشركيات والترهات ماالله به عليم ، فالأول خير محض ، والثاني إن لم يكن شراً محضاً فضرره لا يقابل ما فيه من خير إن وجد . والنبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل عن صوم يوم الإثنين والخميس ، قال : " إنهما يومان تعرض الأعمال فيهما على الله ، فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم " . فصيام يوم الإثنين مسون لعدة أحكام : أهمها أنه يوم ولد فيه ، ويوم أنزل عليه القرآن فيه ، ويوم تعرض فيه أعمال العباد .(129/125)
ونقول له أيضاً إن المولد أمر محدث مخالف للشريعة الإسلامية ، فليس له أصل في الإسلام ، ولم يكن ممن يعتد بهم وتقتفى آثارهم في الاتباع والاهتداء والاقتداء من صحابة أو تابعين أو أتباع تابعين ، وإنما هو من ابتداع شر أهل الأرض القرامطة والرافضة ، ولو كان خيراً لسبقنا إليه من هم أحرص منا على ابتغاء الخير ، وأفقه منا في معرفة طريق الخير ، وأتقى منا في تتبع ما يهدي إلى الخير ، وأصدق منا محبة لرسول الله صلى الله عليه وسسلم ; وفيما تعنيه محبته من مناهج الخير ، وقد مات صلى الله عليه وسلم بعد أن تركها لنا محجة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، وبعد أن نزلت عليه آخر آية من كتاب الله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} ، ولم يكن في إكمال الدين وإتمام النعمة وارتضاء الإسلام ديناً لنا أمر يدعو إلى إقامة الاحتفال بالمولد ، فهل كان ربك نسيا ؟ تعالى وتقدٍّس .
أم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قصّر في أداء الرسالة ; حينما أغفل الأمر بإقامة الاحتفالات بمولده صلى الله عليه وسلم ؟ هل أراد حرماننا من الأجر العظيم والقربة إلى الله تعالى ; حينما بخل علينا ببيان ما في إقامة المولد من الفضل الجمّ ، والخير الواسع ;على ما يدعيه ويزعمه شيخ البدعة محمد علوي مالكي ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم .
أما القول بأن المولد لم يشتمل على منكر ، فهذا قول مردود جملة وتفصيلا، والمالكي نفسه يعلم كذبه وبطلان قوله .
ففي الموالد اختلاط الرجال بالنساء ، واستعمال أنواع المعازف ، وما فيها من الرقص والغناء أفراداً وجماعات ، وفيها من الإسراف في تقديم الموائد المشتملة على المآكل والمشارب مما تعرف منه وتنكر ، وفيها الاستجداء بطريق التحايل على العقول المعطلة .(129/126)
وإذا كان المالكي يبرئ موالده من هذه الأمور المنكرة ; وإن كانت في الواقع هي الخصائص الرئيسية للاحتفالات بالمولد ; إذا كان المالكي ينكر هذه الأمور في موالده فإنه لا يستطيع أن ينكر ما هو أدهى فيها وأمر ، لا يستطيع أن ينكرما يتلى في موالده من المدائح النبوية المشتملة على الغلو والإطراء والإفراط والتنطع ، ورفع منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مقام الربوبية والألوهية من المنع والعطاء والإحاطة الشاملة ، واعتباره ملجأ وملاذاً وصمداً ، وأن له مقاليد السموات والأرض ، وأنه نور لا ظل له في شمس ولا قمر ، وأن الخلق خلقوا لأجله ، وأن قبره أفضل من الكعبة ، وليلة مولده أفضل من ليلة القدر ، وأن له الحق في الإقطاع في الجنة ، وأنه يعلم الأمور الخمسة التي استأثر الله تعالى بعلمها :{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }(1) ، وأن أعمال أمته تعرض عليه ، إلى غير ذلك مما لم يقل به أبو جهل وأبو لهب وأبيّ بن خلف وغيرهم من أئمة الكفر والشرك والطغيان ، ممن يعترفون لله تعالى بتوحيد الربوبية ويقولون في تبرير دعوتهم أصنامهم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(2) .
__________
(1) - سورة لقمان ، الآية : 34 .
(2) - سورة الزمر ، الآية : 3 .(129/127)
كما أن المالكي لا يستطيع أن ينكر ما تشتمل عليه موالده من الخيالات والوهميات في حضور الحضرة النبوية ، ووجوب القيام لها إجلالاً واحتراماً . حيث فتح هذا الاعتقاد للشيطان وأعوان الشيطان وأتباع الشيطان من الإنس والجن أبواب اختلال الأمة ، وإبعادها عن الموارد الصافية في الشريعة الإسلامية ، حيث أعطى هذا الاعتقاد مردوداً سيئاً في تفرق الأمة ، وفساد اعتقادها ، وانتشار فرق الضلال فيما بينها ; من قاديانية واسماعيلية ونصيرية وطرق متعددة للمتصوفة والروافض .
أفبعد هذا يستطيع المالكي أن يقول أن موالده لا تشتمل على منكر ؟ ، وإن كنا قد كشفنا ما عليه موالده من منكرات وشركيات ، وإذا كان المالكي بقدر ما وهبه الله من عقل يستطيع به إدراك الحق من الباطل ، فهل يعترف لنا بعد ذلك ببدعية موالده ، وأنها خالية من الدليل الشرعي ، ومخالفة للمقتضيات الشرعية ، ومشتملة على المفاسد والمنكرات ، وفتح أبواب الشرك بالله على أوسع مصاريعها ؟ .
الدليل العشرون مناقشته ثم رده
وذكر المالكي الدليل العشرين بقوله :
الدليل العشرون : أن الاحتفال بالمولد إحياء لذكرى المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وذلك مشروع عندنا في الإسلام ، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة ، فالسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات ولاذبح بمنى ; كلها حوادث ماضية سابقة يحي المسلمون ذكراها بتجديد صورتها في الواقع .اهـ .(129/128)
لقد كنا نحسن الظن بالمالكي ، وبأنه على مستوى طيب من العلم والفهم والإدراك ، ولكننا بعد ان قرأنا له ما سجلته يده الزائغة المشلولة ويراعه المسموم ، أدركنا أن الرجل في غياهب الجهالات والضلالات ، ومن أطوع جنود إبليس للدعوة إلىالشرك بالله ، والزج بالأمة إلى جاهلية جهلاء ، بل إلى ما لم تكن عليه جاهلية أبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف وغيرهم من أقطاب الكفر والشرك والطغيان ، وإنما إلى جاهلية تكفر بوحدانية الله تعالى في ربوبيته ، حينما ينادي المالكي وأتباعه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ، شريك لله في مقاليد السموات والأرض، وأن له حق الإقطاع في الجنة ، وأن له العلم الشامل ، ومن ذلك علم اللوح والقلم والروح و الأمورالخمسة التي ذكر الله اختصاصه بها ، وأن قبره أفضل من الكعبة ، وليلة مولده أفضل من ليلة القدر ، وأنه نور لا ظل له في شمس ولا قمر ، إلى آخر ترهات المالكي وأباطيله ، ومحدثاته وغرائبه وعجائبه مما ذكره في كتابه السيئ ( الذخائر المحمدية ) ، وإلى جاهلية تكفر بوحدانية الله تعالى في ألوهيته ; حينما يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقديس والإجلال ما يجب أن يختص الله تعالى به ، فيعتبره الملجأ والملاذ ومفرّج الكربات العظام ، وأنه إن توقف عن تفريج الكربة فمن ذا
يُسأل بعده .
قال إمامه البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ××× سواك عند حلول الحادث العمم
وقال إمامه البكري :
وناده إن أزمة أنشبت ××× أظفارها واستحكم المعضل
قد مسني الكرب وكم مرة ××× فرّجت كرباً بعضه يعضل
عجّل بإذهاب الذي أشتكي ××× فإن توقفت فمن ذا أسأل(129/129)
كم أنا متألم من قسوتي على المالكي ، ووصفه بأوصاف مؤلمة ، ولكنه الغضب في سبيل الله تعالى ، والقسوة في مجال توحيد الله تعالى ، والغيرة على حقوق الله تبارك وتعالى ، والتأسي بعبد الله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان شديد الغيرة على حقوق الله ، شديد الحرص على حماية جناب التوحيد ، شديد الحرص على أن تعرف أمته منزلته التي أنزله الله إياها . ففي سنن النسائي بسند جيد عن أنس رضي الله عنه ، أن ناساً قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا ، و ابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : " يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبدالله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " ، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم عليهم قولهم هذا الإطراء ، وعلل ذلك بأن الشيطان قد يدخل على الناس لإفساد دينهم من هذا الباب ، فسدّه صلى الله عليه وسلم ، وقطع دابر كل ذريعة توصل إليه . والله سبحانه وتعلى حسيب المالكي وأشياخه وأئمته وأتباعه الذين قاموا بفتح باب الشرك بالله على هذه الأمة ، وغلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطروه كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإن النصارى قالوا : إن عيسى ابن الله . والمالكي وأحزابه قالوا إن محمداً شريك الله في مقاليد السموات والأرض ، وأنه الملتجأ والملاذ ، وأن من علومه علم اللوح والقلم والروح ، وأنه مفرج الكربات إلى آخر ما في قائمة المالكي من أنواع الشرك بالله في ربوبيته وألوهيته .
نعم إن المالكي في دليله العشرين ، يقول : طالما أن الحج عبارة عن إحياء ذكريات لوقائع تاريخية ; في السعي و في رمي الجمار وفي الذبح فلماذا لا نسجل مثل هذه الوقائع كالموالد والإسراء والمعراج ونحو ذلك .
سبحان الله لم يكتف المالكي بإشراك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه في الألوهية والربوبية ، حتى تطاولت نفسه على الاشتراك مع الله تبارك وتعالى في التشريع .(129/130)
لا ندري هل الرجل في مستوى علمي يسمح لنا بأن نكرر عليه ما سبق أن ذكرناه عن أهل العلم ; من منعهم القياس في العبادات ، وأن تشبيه الابتداع في الدين برعاية المصالح أو الاستحسان تشبيه في غير محله ، لأن العبادات مبنية على التوقيف وخفاء العلل التفصيلية التي هي شرط في قيام القياس ، وذكرنا كلاماً طويلاً للشاطبي يبين ويوضحه ؟ ، نعم لا ندري هل الرجل في مستوى علمي يسمح لنا بمناقشته المناقشة العلمية ، أم أن الرجل غاو في متاهات الابتداع والإحداث ، والعمل على ابتناء قاعدة شعبية تسودها روح الغباء والجهل و الضلال والسذاجة ، وطرح العقول في رفوف الزوايا ، حتى يتم له الدجل والتهريج ، وتقدم له آيات الإجلال والتقدير من الأقوال والأفعال .
لقد كررنا القول بأننا ملزمون بالاتباع لا بالابتداع ، وأننا ملزمون بالاقتداء والاهتداء بما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأننا محذرون بلسان رسول رب العالمين ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، من لا ينطق عن الهوى ، من أمرنا الله تبارك وتعالى بطاعته ، وأخذ ما آتانا به :{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(1) ، محذرون عن الابتداع والإحداث في الدين .
__________
(1) - سورة الحشر ، الآية : 7 .(129/131)
فلقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد . إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . وتأدب أصحابه بأدبه صلى الله عليه وسلم في إنكار الابتداع والحذير من الوقوع فيه ، فابن مسعود رضي الله عنه يقول : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم . وحذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل عبادة لم يتعبّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبّدوها ، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القرآء ، فخذوا بطريق من قبلكم . فلقد تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . لا خير إلا دل الأمة عليه ، ولا شر إلا حذرها عنه ، بلغ الرسالة أتم بلاغ ، وأدى الأمانة أحسن أداء ، ونصح صلى الله عليه وسلم لأمته نصحاً كان تحقيقاً وتأكيداً وتطبيقاً عملياً ، لقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }(1) .
فهل بعد هذا نترك هذه المحجة البيضاء ، وهذه الشريعة السمحة الكاملة لنسمع مع المالكي مقالة إبليس على لسانه ؟ .
__________
(1) - سورة التوبة ، الآية : 128 .(129/132)
إن قول المالكي بأن في الحج ذكريات لوقائع تاريخية ، يجدر بنا أن نأخذ بمثلها في المولد ونحوه ، يذكرنا بقصة حدوث الشرك في الأرض وكيف بدؤه . ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }(1) ، قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا و لم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم ;عبدت .
قال ابن القيّم رحمه الله : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم . اهـ .
الدليل الحادي والعشرون مناقشته ثم رده
ذم ذكر المالكي الدليل الحادي والعشرين بقوله :
واحد وعشرون : كل ما ذكرناه سابقاً من الوجوه في مشروعية المولد ; إنما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار عليها ، أما إذا اشتمل المولد على شيئ مما يجب الإنكار عليه كاختلاط الرجال بالنساء ، و ارتكاب المحرمات ، وكثرة الإسراف مما لا يرضى به صاحب المولد الشريف صلى الله عليه وسلم ; فهذا لا شك في تحريمه ومنعه ، لما اشتمل عليه من المحرمات ، لكن تحريمه حينئذ يكون عارضاً لا ذاتياً ، كما لا يخفى على من تأمل ذلك . اهـ .
هذا في الواقع ليس دليلاّ وإنما هو احتراز منه ، بأن موالده لا تشتمل على الرقص والغناء والاختلاط والإسراف في الموائد ، فإذا اشتمل المولد على شيئ من ذلك كان محرماً لا لذاته ; وإنما لما اعترضه من منكر يزال ، فتبقى للمولد مشروعيته ، هكذا يريد المالكي ويقرر.
__________
(1) - سورة نوح ، الآية : 23 .(129/133)
لقد كررنا القول بأن ما تشتمل عليه موالد المالكي من الكفر بالله في ألوهيته و ربوبيته ، وانتهاك حرمات العقول بإلزامها بالأخذ بحضور الحضرات الصالحة من نبوية وغيرها لهذه الاجتماعات ، وتعين القيام لها احتراماً وإجلالاً ; هذه الموالد المشتملة على هذه الأمور الشركية أشد إثماً وأعظم ذنباً، وأولى بالإنكار ، وأجدر ألا تكون ممن يؤمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً . وما نفاه المالكي عن موالده يعتبر من المعاصي التي يدخل أصحابها تحت رحمة الله ومشيئته ، إن شاء عذبهم بها ، وإن شاء رحمهم فغفر لهم . وما أثبتته كتبه في الموالد يعتبر من الأمور الشركية التي قال الله تعالى عنها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا }(1) ، وقال :{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنصار}(2) .
وبناء على ما سبق لنا من بسط وتوضيح وتفصيل لوجوه ردنا موالد المالكي ، و إن خلت من الاختلاط والأغاني والرقص ; فإننا نكتفي بذلك ، ونحيل عليه .
رد افتراء المالكي
على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه أجاز المولد
~~~~~~~
وبعد أن استكمل المالكي مزاعمه الاستدلالية الواحدة والعشرين ; أورد ما زعمه رأياً لشيخ الإسلام ابن تيمية في المولد ، وقد أورده بشكل فيه التلبيس والتدليس ، وعلى طريقة من يقف على المصلين في قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}(3) ، أو على من لا يستحي في قوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}(4) .
__________
(1) - سورة النساء ، الآية : 116 .
(2) - سورة المائدة ، الآية : 72 .
(3) - سورة الماعون ، الآية : 4 – 5 .
(4) - سورة البقرة ، الآية 26 .(129/134)
ولو كان المالكي ذا أمانة علمية وخوف من الله تعالى ; لما تجرأ على أن ينسب لعالم كبير يعتبر من أشد عباد الله إنكاراً للبدعة ، وأولاهم تحقيقاً وتطبيقاً للسنة ، أن ينسب له رأياً في إجازة المولد ، حيث قال عنه ما نصه: ( رأي الشيخ ابن تيمية في المولد يقول : قد يُثاب بعض الناس على فعل المولد ..) إلى آخر ما ذكره .
وقد سبق أن ذكرنا رأيه رحمه الله في الجزء الثالث والعشرين من مجموع فتاواه ، ويحسن بنا أن نعيد ماله تعلق بالموضوع ، فقد قال رحمه الله :
( فلو قوماً اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع ، من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره . لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه ، لما فيه من تغيير الشريعة ، وتشبيه غير المشروع بالمشروع ، ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى ، أو بين الظهر والعصر ، أو تراويح في شعبان ، أو أذان في العيدين ، أو حج إلى الصخرة ، وهذه تغيير لدين الله ، وتبديل له ، وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها ). اهـ.
ونجدنا الآن مضطرين إلى نقل ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) عن البدعة ونقد تقسيماتها ، ورأيه في المولد ، ونعتذر للقارئ عن طول ما سننقل عن الشيخ من كتابه ، لأننا في الواقع مضطرون إلى
ذلك لأمرين :(129/135)
أحدهما : أن مقام الابتداع أمر خطير ، وباب دخل منه الشيطان لإفساد العقيدة على المسلمين ، فقام بإيحاته ووساوسه وهمزاته ولمزاته ونفثاته ، ففرق المسلمين إلى ما تفرق عليه أهل الكتاب ، وإذا أعطانا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نَفَسه في الحديث عن موضوع ما فإنما هي درر العلم وجواهره ، فهو رحمه الله ينظر بنور الله ، يعطي المقام حقه ، والخصم مستحقه ، وقد أعطانا رحمه الله نفسه في بحث البدعة ونقد نقسيماتها ، وذكر الأمثلة التطبيقية لها ، وذلك بأسلوب علمي مبني على التأصيل والتقعيد ، مما لا يسع الخصم المنصف إلا التسليم والقبول .
الأمر الثاني : أن المالكي عامله الله بعدله فيما نسبه للشيخ ; قد افترى على شيخ الإسلام ابن تيمية ، وذكر عنه أنه يقول بجواز المولد وبإثابة فاعله . فنحن هنا نورد كلامه رحمه الله وإن كان طويلاً إلا أنه يوضح رأيه في الموضوع ، ويظهر حقيقة الافتراء عليه من المالكي ، ويرد شبهاته وشبهات أشياخه مشائخ الابتداع ، فقد قال رحمه الله :-
فصل
ومن المنكرات في هذا الباب : سائر الأعياد والمواسم المبتدعة .
فإنها من المنكرات المكروهات ، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه .
وذلك : أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهى عنها لسببين :
أحدهما : أن فيها مشابهة للكفار .
والثاني : أنها من البدع .
فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب ، لوجهين : أحدهما : أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات ، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش ، يقول : صبحكم ومساكم . ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين – ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى – ويقول : أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .(129/136)
وفي رواية للنسائي ( وكل ضلالة في النار ) . وفيما رواه أيضاً في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). وفي لفظ في الصحيحين ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافاً كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ . وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) . وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع ، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً . قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }(1) .
فمن ندب إلى شيئ يتقرب به إلى الله ، أو أوجبه بقوله أو فعله ، من غير أن يشرعه الله ; فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله . ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله ، شرع له من الدين ما لم يأذن به الله .
__________
(1) - سورة الشورى ، الآية : 21(129/137)
نعم قد يكون متأولاً في هذا الشرع ، فيغفر له لأجل تأويله ; إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ، ويثاب أيضاً على اجتهاده ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك ، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولاً أو عملاً قد علم الصواب في خلافه ، وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً ، وقد قال سبحانه : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(1) ، قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله ، ما عبدوهم، قال ما عبدوهم ، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم ، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ) .
فمن أطاع أحداً في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب او إيجاب ; فقد لحقه من هذا الذم نصيب ، كما يلحق الآمر الناهي أيضاً نصيب .
ثم قد يكون كل منهما معفواً عنه لاجتهاده ; ومثاباً أيضاً على اجتهاده ، فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه ، أو لوجود مانعه ، وإن كان المقتضى له قائماً ، ويلحق الذم من يبين له الحق فيتركه ، أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له ، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك . وأيضاً فإن الله عاب على المشركين شيئين .
أحدهما : أنهم قد أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً .
والثاني : تحريمهم ما لم يحرمه الله عليهم .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيما رواه مسلم عن عياض بن حمار ، عن
__________
(1) - سورة التوبة ، الآية : 31 .(129/138)
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : إني جعلت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به سلطاناً ) ، قال سبحانه : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ }(1) ، فجمعوا بين الشرك والتحريم ، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها ، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة ، وإما مستحبة ، وإن فعلها خير من تركها . ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله ، ومنهم من ابتدع ديناً عبدوا به الله في زعمهم ، كما أحدثه النصارى من أنواع العبادات المحدثة .
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين : إما اتخاذ دين لم يشرعه الله ، أو تحريم ما لم يحرمه الله . ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم ، أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينا، ينتفعون بها في الآخرة ، أو في الدنيا والآخرة ، وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم . فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله .
وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به ، كما سنذكره إن شاء الله .
واعلم أن هذه القاعدة – وهي الاستدلال بكون الشيئ بدعة على كراهته – قاعدة عامة عظيمة ، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك : أن من الناس من يقول : البدع تنقسم إلى قسمين : حسنة وقبيحة ، بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التروايح ( نعمت البدعة هذه ) ، وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست بمكروهة ، أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس .
__________
(1) - سورة الأنعام ، الآية : 148 .(129/139)
وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس ; من كثير من العادات ونحوها . فيجعل هذا أيضاً من الدلائل على حسن بعض البدع ، إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعاً ، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك ، أو يستنكر تركه لما اعتاده ، بمثابة من { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا }(1) ، وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها .
والغرض : أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع ; معارضة بما دل على حسن بعض البدع ، إما من الأدلة الشرعية الصحيحة ، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين ، أو المتأولين في الجملة .
ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان :
أحدهما : أن يقولوا : إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح ; فالقبيح ما نهانا عنه الشرع ، أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح ، بل قد يكون حسناً . فهذا مما قد يقوله بعضهم .
المقام الثاني : أن يُقال عن بدعة سيئة ; هذه بدعة حسنة ، لأن فيها من المصلحة كيت وكيت ، وهؤلاء المعارضون يقولون : ليست كل بدعة ضلالة . والجواب : إما أن القول ( أن شر الأمور محدثاتها ، وأن كل محدثة بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) والتحذير من الأمور المحدثة ; فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ، ومن نازع في دلالته فهو مراغم .
وإما المعارضات ، فالجواب عنها بأحد قولين :
إما بأن يُقال : ما ثبت حسنه فليس من البدع ، فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه .
__________
(1) - سورة المائدة ، الآية : 104 .(129/140)
وإما أن يُقال : ما ثبت حسنه فهو مخصوص من هذا العموم ، فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه ، وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم ; والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص ، فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص ، وإلا كان ذلك العموم اللفظي موجباً للنهي .
ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً .
وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها ، وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك ; فليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعارض به .
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسن مجمع عليها ، بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها ; فهو مخطئ في هذا الاعتقاد . فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة. ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين ، فكيف بعمل طوائف منهم ؟ . وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك ، بل رأوا السنة حجة عليهم ، كما هي حجة على غيرهم ، مع ما أوتوه من العلم والإيمان ; فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة ، أو من قيدته العامة ، أو قوم مترئسون بالجهالة ، لم يرسخوا في العم ، ولا يعدون من أولي الأمر ، ولا يصلحون للشورى ، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله ، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير رويّة أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهيدن من الأئمة والصديقين ؟ .(129/141)
والاحتجاج بمثل هذه الحجج ، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم ، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس ، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين ، وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها ليس مستنداً آخر من الأدلة الشرعية ; وإن كان شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليس مأخوذة عن الله ولا عن رسوله ، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان ، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ، ودفعاً لما يناظره .
والمجادلة المحمودة : إنما هي بإبداء المدارك ، وإظهار الحجج ، التي هي مستند الأقوال والأعمال ، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل ، فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل .
وأيضاً : لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة) على البدعة التي نهى عنها بخصوصها ، لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث ، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي ; قد علم بذلك النهي أنه قد أبيح محرم ، وسواء كان بدعة أو لم يكن بدعة ، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه ، سواء كان مفعولاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن وما نهى عنه ; فهو منكر ، سواء كان بدعة أو لم يكن ، صار وصف البدعة عديم التأثير لا يدل وجوده على القبح ، ولا عدمه على الحسن ، بل يكون قوله ( كل بدعة ضلالة ) ، بمنزلة قوله ( كل عادة ضلالة ) ، أو ( كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة) ، ويراد بذلك أن ما نهي عنه من ذلك فهو الضلالة ، وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد ; ليس من نوع التأويل السائغ ، وفيه من المفاسد أشياء .
أحدها : سقوط الاعتماد على هذا الحديث ، فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه(129/142)
فقد علم حكمه بذلك النهي ، وما لم يعلم فلا يندرج في هذا الحديث ، فلا يبقى في هذا الحديث فائدة ، مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يخطب به في الجمع ، ويعده من جوامع الكلم .
الثاني : أن لفظ البدعة يكون اسماً عديم التأثير ، فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى تعليق له بما لا تأثير له ; كسائر الصفات العديمة التأثير .
الثالث : أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر – وهو كونه منهياً عنه – كتمان لما يجب بيانه ، وبيان لما لم يقصد ظاهره ، فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص ، إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص ، وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة ، فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر ; تلبيس محض ، لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلساً ، كما لو قال ( الأسود ) وعني به الفرس أو ( الفرس ) وعني به الأسود .
الرابع : أن قوله ( كل بدعة ضلالة ، وإياكم ومحدثات الأمور) ، إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على ما لا يكاد يحيط به أحد ، ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ، ومثل هذا لا يجوز بحال .
الخامس : أنه إذا أريد به ما فيه من النهي الخاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع ، فإنك لو تأملت البدع التي نهي عنها بأعيانها ، وما لم ينه عنها بأعيانها; وجدت هذا الضرب هو الأكثر ، واللفظ العام لا يجوز أن يُراد به الصور القليلة أو النادرة .
فهذه الوجوه وغيرها ; توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد ، لا يجوز حمل الحديث عليه ، سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف أو لم يعضده ، فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ، ثم بيان الدليل الصارف إلى ذلك .
وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث ، فهذا الجواب عن مقامهم الأول .(129/143)
وأما مقامهم الثاني فيقال : هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح ، فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالاً على قبح الجميع ، لكن أكثر ما يقال : أنه إذا ثبت هذا حسن ; يكون مستثنى من العموم ، وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة .
فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من إنه حسن وهو بدعة ; إما بأنه ليس بدعة ، وإما بأنه مخصوص ، فقد سلمت دلالة الحديث ، وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه .
فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة ، او أمور يجوز أن تكون حسنة ، ويجوز أن لا تكون حسنة ; فلا تصلح المعارضة بها ، بل يجاب عنها بالجواب المركب ، وهو : إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة ، أو يكون مخصوصاً ، وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم .
وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين فعلى التقديرين : الدلالة من الحديث باقية ، لا ترد بما ذكروا ، ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله وسلم الكلية ، وهي قوله ( كل بدعة ضلالة ) بسلب عمومها ، وهو أن يقال : ليست كل بدعة ضلالة ، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل .
بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال ، التي قد يقال هي بدعة ، إن هذا العمل المعين مثلاً ليس ببدعة ، فلا يندرج في الحديث ، او إن اندرج ; لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا ، الذي هو أقوى من العموم ، مع أن الجواب الأول أجود .
وهذا الجواب فيه نظر . فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة ، فلا يعدل عن مقصوده – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
فأما صلاة التراويح : فليست بدعة في الشريعة ، بل هي سنة ، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله ، فإنه قال ( إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننن لكم قيامه ) .(129/144)
ولا صلاتها جماعة بدعة ، بل هي سنة في الشريعة ، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين ، بل ثلاثاً ، وصلاها أيضاً في العشر الآواخر في جماعة مرات ، وقال : ( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) ، لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح . رواه أهل السنن .
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد .
وفي قوله هذا ; ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام ، وذلك أوكد من أن يكون سنّة مطلقة . وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم ، ويقرّهم ، وإقراره سنّة منه صلى الله عليه وسلم .
وأما قول عمر ( نعمت البدعة هذه ) ، فأكثر المحتجين بهذا - لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه – لقالوا ( قول الصاحب ليس بحجة ) ، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث .
فعلى التقديرين : لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب . نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف ، على إحدى الروايتين ، فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة ، أما غيرها فلا .
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة ; مع حسنها، وهذه تسمية لغوية ، لا تسمية شرعية ، وذلك أن ( البدعة ) في اللغة : تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق ، وأما البدعة الشرعية : فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي .(129/145)
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته ، أو دل عليه مطلقاً ولم يعمل به بعد موته ; ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة ، لأنه عمل مبتدأ ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بدعة ، ويسمى محدثاً في اللغة . قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة ( إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ، ولم يدخلوا في دين الملك ، وجاءوا بدين محدث لا يُعرف ) .
ثم إن ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة ، وإن سمى بدعة في اللغة ، فلفظ ( البدعة ) في اللغة أعم من لفظ ( البدعة ) في الشريعة ، وقد عُلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( كل بدعة ضلالة ) لم يُرد به كل عمل مبتدأ ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل ; فهو عمل مبتدأ ، وإنما أراد : ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم .(129/146)
وإذا كان كذلك ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى ، وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا : ( إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يُفرض عليكم ، فصلوا في بيوتكم ، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) ، فعلل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض ، فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم ، وأنه لولا الافتراض لخرج إليهم . فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد ، وأسرج المسجد ، فصارت هذه الهيئة – وهي هيئة اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج – عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل ، فسمي بدعة ، لأنه في اللغة يُسمى كذلك ، وإن لم يكن بدعة شرعية ، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض ، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم ، فانتفى المعارض .(129/147)
وهكذا جمع القرآن ، فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل ، فيغيّر الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت ، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه ، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم ، والمقتضى للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وسلم ، فعمل المسلمون بمقتضى سنته ، وذلك العمل من سنته ، وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة ، وصار هذا كنفي عمر ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهم من أرض العرب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عهد بذلك في مرضه ، فقال: ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ) ، وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة ، وبشروعه في قتال فارس والروم ، وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم ، فلما تمكن من ذلك ; فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة ، كما قال له اليهود ( كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم ؟ ) ، وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم ، وقالوا ( كتابك بخطك ) فامتنع من ذلك ، لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان محدثاً بعده ، مغيراً لما فعله هو صلى الله عليه وسلم .
وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفاً ، وقوله : ( قاتل به المشركين ، فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره ) ، فإن كسره لسيفه وإن كان محدثاً حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن هو بأمره صلى الله عليه وسلم .(129/148)
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا العطاء ما كان عطاء ، فإذا كان عوضاً عن دين أحدكم فلا تأخذوه ) ، فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية ; كان من امتنع من أخذه متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان ترك قبول العطاء من أولى الأمر محدثاً ، لكن لما أحدثوا ما أحدثواه أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن هذا الباب : قتال أبو بكر لمانعي الزكاة ، فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحداً على إيتاء الزكاة فقط ، لكن لما قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) . وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله ، فلم يعصم بمجرد قولها من منع الزكاة ، كما بينه في الحديث الآخر الصحيح : ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويُؤتوا الزكاة ) ، وهذا باب واسع .
والضابط في هذا - والله أعلم- أن يُقال إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحة ، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ، فإنه لا يدعوا إليه عقل ولا دين .
فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه ، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا ; فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك تركه إن كان المقتضى لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض قد زال بموته .(129/149)
وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه ، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد ; فهنا لا يجوز الإحداث . فكل أمر يكون المقتضى لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل ; يعلم أنه ليس بمصلحة .
وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق ; قد يكون مصلحة . ثم هنا للفقهاء طريقان :
أحدهما : أن ذلك يفعل ما لم يُنه عنه . وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة .
والثاني : أن ذلك لا يفعل ما لم يُؤمر به . وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة . وهؤلاء ضربان :
منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره ، وهم نفاة القياس .
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه ، وهو القياسيون .
فاما ما كان المقتضى لفعله موجوداً لو كان مصلحة ، وهو مع هذا لم يشرعه ، فوضعه تغيير لدين الله تعالى ، وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد ، أو من زل منهم باجتهاد ، كما روي عن النبي صلى الله عليه سلم وغير واحد من الصحابة ( إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم ، أو جدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون ) .
فمثال هذا القسم : الأذان في العيدين ، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته،وإلا لقيل:هذا ذكر الله ، ودعاء للخلق إلى عبادة الله ، فيدخل في العمومات كقوله تعالى : { اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا }(1) ، وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}(2) . أو يقاس على الأذان يوم الجمعة ، فإن الاستدلال على الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع .
بل يقال : ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له مع وجود ما يعتقد مقتضياً، وزوال المانع ; سنّة ، كما أن فعله سنّة .
__________
(1) - سورة الأحزاب ، الآية 41 .
(2) - سورة فصلت ، الآية : 33 .(129/150)
فلما أمر بالأذان في الجمعة ، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة ، كان ترك الأذان فيهما سنّة ، فليس لأحد أن يزيد في ذلك ، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة ، وأعداد الركعات ، أو الحج ، فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال : هذا زيادة عمل صالح ، لم يكن له ذلك . وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره ، لم يكن له ذلك ، وليس له أن يقول : هذه بدعة حسنة ، بل يقال له : كل بدعة ضلالة .
ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها ، أو نعلم ما فيها من المفسدة ، فهذا مثال لما حدث ، مع قيام المقتضى له وزوال المانع ، لو كان خيراً فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة ، أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الترك سنّة خاصة ، مقدمة على كل عموم وكل قياس .
ومثال ما حدثت الحاجة له من البدع بتفريط من الناس تقديم الخطبة علىالصلاة في العيدين ، فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون ، لأنه بدعة ، واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضّون قبل سماع الخطبة ، وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضّون حتى يسمعوا أو أكثرهم .
فيقال له : سبب هذا تفريطك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ، وأنت تقصد إقامة رياستك ، وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم ، فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى ، بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنّة نبيه ، وقد استقام الأمر . وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم .
وهذان المعنيان مَن فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع المحدثة ، فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم
من السنّة مثلها ) .(129/151)
وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم ، وبيّنت أن الشرائع أغذية القلوب ، فمتى ما اغتذت القلوب بالبدع لم يبقَ فيها فضل للسنن ، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث . وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً من السسيات الجائرة ، من أخذ أموال لا يجوز أخذها ، وعقوبات على الجرائم لا تجوز ، لأنهم فرّطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ، و وضعوه حيث يسوغ وضعه ، طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم ، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع ، والقريب والبعيد ، متحررين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله ; لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ، ولا إلى العقوبات الجائرة ، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين ، كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم .
وكذلك العلماء إذا اقاموا كتاب الله، وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله ، وما فيه من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح ، وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم وهي سنته ; لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس ، ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق ، بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة ، حيث يقول الله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }(1) ، ولاستغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون من الحجج الفاسدة ، التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين، ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين ، وما كان من الحجج صحيحاً ، ومن الرأي سديداً فذلك له أصل في كتاب الله وسنّة رسوله ، فهمه من فهمه ، وحرمه من حرمه .
__________
(1) - سورة البقرة ، الآية : 143 .(129/152)
وكذلك العباد ; إذا تعبّدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناُ ، وذاقوا طعم الكلم الطيب ، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله ; لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية ، والمقامات العلية ، والنتائج العظيمة ; ما يغنيهم عما قد حدث في نوعه ، كالتغيير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن ، وأنواع من الأذكار والأوراد لفّقها بعض الناس ، أو في قدره كزيادات من التعبّدات أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها ، وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء قد يكون معذوراً فيما أحدثه لنوع اجتهاد .
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح ، وإن كان التارك له قد يكون معذوراً لاجتهاده ، بل قد يكون صديقاً عظيماً ، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحاً ، وعمله كله سنّة ، إذ قد يكون بمنزلة رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، وهذا باب واسع .
والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها لا يتسع له هذا الكتاب ، وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه ، و التعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع مما يجب العمل بها .
والوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة : ما تشتمل عليه من الفساد في الدين ، واعلم أنه ليس كل واحد ; بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع ، ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة ، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد ، والواجب على الخلق اتباع الكتاب والسنّة ، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة ، فننبّه على بعض مفاسدها .
فمن ذلك ; أن من أحدث عملاً في يوم ، كإحداث صوم أول خميس من رجب ، والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلاً ، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة ، وتوسيع في النفقة ، ونحو ذلك ; فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب .(129/153)
وذلك ; لأنه يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ، وأن الصوم فيه مستحب فيه اسحباباً زائداً على الخميس الذي قبله ، والذي بعده مثلاً ، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع ، خصوصاً ، وسائر الليالي عموماً ، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه ; لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة ، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع .
وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ، ونص على تأثيره ، فهو من المعاني المناسبة المؤثرة ، فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب الغريب ، وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، ومن لا يقول إلا بالمؤثرة ; فلا يكتفى بمجرد المناسبة ، حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم ، وهو قول كثير من الفقهاء أيضاً من أصحابنا وغيرهم . وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم ، في موضوع آخر ، عللوا ذلك الحكم المنصوص به .
وهنا قول ثالث قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضاً وهو : أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به ، ولا يكتفى بكونه علل به نظيره أو نوعه .
وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة :
أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته ، كما قال في الهرة ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) .
فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها ، علمت مناسبتها أو لم تعلم ، فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث ، وإن اختلفوا : هل يسمى هذا قياساً ، أولا يسمى ؟ .(129/154)
ومثاله في كلام الناس: ما لو قال السيد لعبده: لا ُتدخل داري فلاناً ، فإنه مبتدع ، أو فإنه أسود ونحو ذلك ، فإنه يفهم منه : أنه لا يُدخل داره من كان مبتدعاً ، أو من كان أسود . وهو نظير أن يقول : لا تدخل داري مبتدعاً ولا أسودا . ولهذا نعمل نحن بمثل هذا من باب الإيمان ، فلو قال : لا لبست هذا الثوب الذي يمنّ به عليّ فلان ; حنث بما كانت منته فيه مثل منته وهو ثمنه ونحو ذلك .
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته ، لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه ، مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها ، وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة ، فهل نعتقد أن علة النكاح هي الصغر مثلاً ؟ . كما أن ولاية المال كذلك ، أم نقول : بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى ، وهي البكارة مثلاً ، فهذه العلة هي المؤثرة .أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص ، وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم .
فالفريقان الأولان يقولان بها ، وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس ، فإنه يقول : كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان ، كذلك يؤثر فيه في هذا المكان .
والفريق الثالث : لا يقول بها إلا بدلالة خاصة ، لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة .
ومن هذا النوع : أنه صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه ، أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه ، أو يخطب الرجل على خطبة أخيه ) .
فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين ، كما علل به في قوله : ( لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، فإنكم إذا فعلتم ; ذلك ; قطعتم أرحامكم ) . وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه مالا يظهر في الأول ; فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا .(129/155)
وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره من كلام الناس ; أن يقول : لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ، ثم يسأله فقير آخر مبتدع ، فيقول : لا تعطه ، وقد يكون ذلك الفقير عدواً له ، فهل يحكم بأن العلة هي البدعة ، أم يتردد ؟ لجواز أن تكون العلة هي العداوة .
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ، ورأينا فيه وصفاً مناسباً له ، لكن الشارع لم يذ كر تلك العلة ، ولا علل بها نظير لك الحكم في موضوع آخر ; فهذا هو الوصف المناسب الغريب ، لأنه لا نظير له في الشرع ، ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه .
فجوز الفريق الأول اتباعه ، ونفاه الآخران . وهذا إدراك لعلة الشارع ، بنفس عقولنا من غير دلالة منه ، كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه ، والأول إدراك لعلته بنفس كلامه .
ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالسبر ، وبدلالت أخرى .
فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع، المؤثرة في موضوع آخر .
وذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو صيام ، وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص .
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو يوماً بعده ) . وهذا لفظ البخاري .
وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ ، قالت : لا . قال : أتردين أن تصومي غداً ؟ . قالت : لا ، قال : فافطري ) .(129/156)
وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال : ( سألت جابر بن عبدالله وهو يطوف بالبيت : أنَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة ؟ ، قال : نعم ، ورب البيت ) وهذا لفظ مسلم .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصوموا يوم الجمعة
وحده ) رواه أحمد .
ومثل هذا ما أخرجناه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين ، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم ) ، لفظ البخاري ( يصوم عادته ) .
فوجه الدلالة : أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام :
قسم شرع تخصيصه بالصيام ، إما إيجاباً : كصيام رمضان ، وإما استحباباً : كيوم عرفة وعاشوراء .
وقسم نهى عن صومه مطلقاُ : كيوم العيدين .
وقسم إنما نهى عن تخصيصه : كيوم الجمعة وشهر شعبان .
فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره ، فإذا خصص بالفعل نهي عن ذلك ، سواء قصد الصائم التخصيص أو لم يقصده ، وسواء اعتقد بالرجحان أو لم يعتقده .
ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره ; لكان إما أن ينى عنه مطلقاً كيوم العيد ، أو لا ينهى عنه كيوم عرفة ، وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات ، وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة .
فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص ما لا خصيصة له ، كما أشعر به لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به ; قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي ، كما في قوله : ( خالفوا المشركين ) .(129/157)
فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص ، فإذا كان يوم الجمعة يوماً فاضلاً ; يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقرآءة والطهارة والطيب والزينة مالا يستحب في غيره ; كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ، ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره ، لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التخصيص دفعاً لهذه لمفسدة التي لا تنشأ إلا من التخصيص .
وكذلك تلقي رمضان ; قد يتوهم أن فيه فضلا ، لما فيه من الاحتياط للصوم ، ولا فضل فيه في الشرع ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقيه لذلك .
وهذا المعنى موجود في مسألتنا ، فإن الناس قد يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة ، ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه ; نهي عن التخصيص ، إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص .
ومن قال : إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها ; هذا اعتقادي ، ومع ذلك أنا أخصها; فلا بد أن يكون باعثه إما تقليد غيره ، وإما اتباع العادة ، وإما خوف اللوم له ، ونحو ذلك ، وإلا هو كاذب . فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد ، أو عن باعث آخر غير ديني . وذلك الاعتقاد ضلال .
فإنا قد علمنا يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة لم يذكروا في فضل ها اليوم ولا في فضل صومه بخصوصه ، وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها حرفاً واحداً ، وأن الحديث المأثور فيها موضوع ، وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة .(129/158)
ولا يجوز - والحال هذه - أن يكون لها فضل . لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه ولا التابعون ، ولا سائر الأئمة ; امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله ما لم يعلمه التبي صلى الله عليه وسلم ، ولا الصحابة ، ولا التابعون وسائر الأئمة . وإن علموه امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح ، وتعليم الخلق والنصيحة ; أن لا يعلموا أحداً بهذا الفضل ، ولا يسارع إليه واحد منهم .
فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزماً لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله ،أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعادتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه ، وكل واحد من اللازمين منتف : إما بالشرع ، وإما بالعادة مع الشرع ; علم انتفاء الملزوم ، وهو الفضل المدعى .
ثم هذا العمل المبتدع مستلزم : إما لاعتقاد هو ضلال في الدين ، أو عمل دين لغير الله ، والتدين بالاعتقادات الفاسدة ، أو التدين لغير الله ; لا يجوز .
فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعاً أو ظاهراً لفعل ما لايجوز ، فأقل أحوال المستلزم إن لم يكن محرماً أن يكون مكروهاً . وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة .
ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال ، وتلك الأحوال أيضاً باطلة ، ليست من دين الله .
ولو فرض أن الرجل قد يقول : أنا لا أعتقد الفضل ، فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال . والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ، ولو أنه توهم أو ظن أن هذا الأمر ضروري ، فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيئ ; امتنعت مع ذلك أن تعظمه ، ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة .
فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة ; يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ، ومن حيث شعوره بما روي فيه ، أو بفعل الناس له ، أو بأن فلاناً وفلاناً فعلوه ، أو بما يظهر له فيه من المنفعة ; يقوم بفعله وتعظيمه .(129/159)
فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة ، وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله ، وأنها تورث القلب نفاقاً ، ولو كان نفاقاً خفيفاً .
ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل ، أو عبدالله بن أبي سلول ; لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم ، فإذا ذمه الرسول أو بيّن نقصه ، أو أمر بقتله ; فمَن لم يخلص إيمانه ، وإلاَّ يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح ، واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة .
فمن تدبر هذا ; علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان ، ولهذا قيل : إن البدع مشتقة من الكفر .
وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات ، التي لا مزية لها في الشرع ، إذا جاز أن يتوهم لها مزية ، كالصلاة عند القبور ، والذبح عند الأصنام ، ونحو ذلك ، وإن لم يكن الفاعل معتقداً للمزية ، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية . وكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود ، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضاً .
فإن قيل : هذا يعارضه : إن هذه المواسم مثلاً فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم ، وفيها من الفوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه ، من طهارة قلبه ورقته ، وزوال آثار الذنوب عنه ، وإجابة دعائه ونحو ذلك ، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام ، كقوله تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى }(1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الصلاة نور وبرهان ) ، ونحو ذلك .
__________
(1) - سورة إقرأ ، الآية : 9 ، 10 .(129/160)
قلنا: لا ريب أن من فعلها متأولاً مجتهداً أو مقلداً; كان له أجر على حسن قصده ، وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع ، وكان ما فيه من المبتدع مغفوراً له ، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين،وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها ، إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه ; كالصوم ، والذكر، و القرآءة ، والركوع والسجود ، وحسن القصد في عبادة الله ، وطاعته ودعائه ، وما اشتملت عليه من المكروه ، وانتفى موجبه بعفو الله ، لا اجتهاد صاحبه أو تقليده . وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة .
لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها ، والاعتياض عنها بالمشروع الذي لابدعة فيه . كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك ; بل اليهود والنصارى يجدون في عبادتهم أيضاً فوائد . وذلك ; لأنه لابد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما مشروع في جنسه ، كما أن قولهم لابد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الأنبياء ، ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم ، لأن جميع المبتدعات لابد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من خير ، إذ لو
كان خيرها راجحاً لما أهملتها الشريعة .
فنحن نستدل بكونها بدعة على أن أثمها أكبر من نفعها، وذلك هوالموجب للنهي .
وأقول : إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص ; لمعارض الاجتهاد أو غيره ، كما يزول اسم الربا والنبيذ المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف ، ثم مع ذلك يجب بيان حالهما ، وأن لا يقتدى بمن استحلها ، وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها .
وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة .(129/161)
ثم يُقال على سبيل التفصيل : إذا فعلها قوم ذوو فضل ، فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها ، وأنكرها قوم كذلك ، وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها ; فليسوا دونهم في الفضل ، ولو فرضوا دونهم في الفضل ، فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولوا الأمر ، فترد إذن إلى الله والرسول ، وكتاب الله وسنة رسوله ; مع من كرهها ، لا مع من رخص فيها .
ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين، مع هؤلاء التاركين المنكرين .
وأما ما فيها من المنفعة ; فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة :
منها - مع ما تقدم من المفسدة الإعتقادية والحالية - : أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن ، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس .
ومنها : أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن ، وتفتر رغبتهم فيها . فتجد الرجل يجتهد فيها ، ويخلص وينيب ، ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن ، حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ، ويفعل الفرائض والسنن عادة و وظيفة ، وهذا عكس الدين ، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المفغرة والرحمة ، والرقة والطهارة والخشوع ، وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة ، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يفته هذا كله ، فلا بد أن يفوته كماله .
ومنها : ما في ذلك من مصير المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وما يترتب على ذلك من جهالة اكثر الناس بدين المرسلين ، وانتشار زرع الجاهلية .
ومنها : اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة ، مثل: تأخير الفطور ، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة والمبادرة إلى تعجيلها ، والسجود بعد السلام لغير السهو ، وأنواع من الأذكار و مقاديرها لا أصل لها ، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته ، وسلمت سريرته .(129/162)
ومنها : مسارقة الطبع إلى الإنحلال من ربقة الاتباع ، وفوات سلوك الصراط المستقيم . ومن ذلك أن النفس فيها نوع من الكبر ، فتحب أن تخرج من العبودية
والاتباع بحسب الإمكان ، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله : ( ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه ) . ثم هذا مطية لغيره ، فينسلخ القلب عن حقيقته الاتباع للرسول ، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
ومنها : ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين : النوع الأول الذي فيه مشابهة ، والنوع الذي لا مشابهة فيه .
والكلام في ذم البدع لما كان مقرراً في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره ، بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم .
فصل
قد تقدم أن العيد يكون اسماً لنفس المكان ، ولنفس الزمان ، ولنفس الاجتماع .
وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء .
أما الزمان فثلاثة أنواع ، ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال :
أحدها : يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً ، ولم يكن له ذكر في وقت السلف ، ولا جرى فيه ما يُوجب تعظيمه ، مثل أول خميس من رجب ، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب ، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة ، و روي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم ، وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب ، وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم .
والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم; النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة ، وإظهار الزينة ونحو ذلك . حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام ، وحتى لا يكون له مزية أصلاً .(129/163)
وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود . فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا .
النوع الثاني : ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ، من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً ، ولا كان السلف يعظمونه ، كثامن عشر ذي الحجة ، الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم ; مرجعه من حجة الوداع . فإنه
صلى الله عليه وسلم خطب فيه خطبة ، وصى فيها باتباع كتاب الله ، و وصى فيها بأهل بيته . كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه .
فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك ، حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي ، بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية ، وذكروا كلاماً باطلاً ، وعملاً قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيئ ، وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص ، وغصبوا الوصي حقه ، وفسقوا وكفروا إلا نفراً قليلا .
والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ، ثم ما كان عليها القوم من الأمانة والديانة ، وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق ; يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يُمتنع كتمانه .
وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة ، وإنما الغرض : أن اتخاذ هذا اليوم عيداً محدث لا أصل له . فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيداً ; حتى يحدث فيه أعمالاً ، إذ الأعياد شريعة من الشرائع ، فيجب فيها الاتباع لا الابتداع ، وللنبي صلى الله عليه وسلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة ، مثل يوم بدر ، وحنين ، وفتح مكة ، و وقت هجرته ، ودخوله المدينة ، وخطب له متعددة ، يذكر فيها قواعد الدين . ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعياداً ، وإنما يفعل مثل هذا النصارى ، الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً ; أو اليهود . وإنما العيد شريعة ، فما شرعه الله اتبع ، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه .(129/164)
وكذلك ما يحدثه بعض الناس ; إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد(1)
__________
(1) - هذا تعليق من الشيخ محمد حامد فقي رحمه الله قال : كيف يكون لهم ثواب على هذا ؟ وهم مخالفون لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهدى أصحابه ؟ فإن قيل : لأنهم اجتهدوا فأخطأوا ، فنقول : أي اجتهاد في هذا ، وهل تركت نصوص العبادات مجالاً للاجتهاد؟ والأمر فيه واضح كل الوضوح . وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء ، حملت الناس على الإعراض عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين اليهود والنصارى و الوثنيين . فعليهم ما يستحقونه من لعنة الله وغضبه . وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن هديه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه ، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية ؟ ، ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك الأعياد الوثنية ؟ هل هم مالك أو الشافعي أو أحمد أو أبو حنيفة أو السفيانان أو غيرهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم ، حتى يعتذر لهم ولأخطائهم ؟ كلا ، بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم ، وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى ، وأنهم كانوا وبالاً على المسلمين ، وعلى أيديهم وبدسائسهم وما نفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة ; انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم ، حتى كانوا مع المغضوب عليهم والضالين . وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف ما يقول من إثابتهم ، لأن حب الرسول وتعظيمه الواجب على كل مسلم ; إنماهو باتباع ما جاء به من عند الله كما قال الله تعالى (آل عمران : 31 ) {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وقال ( النساء : 60 - 65 ){ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} ، وقال تعالى ( النور : 47 - 52 ) {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }اهـ(129/165)
لا على البدع ، من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف ، مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً ; لكان السلف رضي
الله عنهم أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا ، وهم على الخير أحرص . وإنما كمال محبته وتعظيمه وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان . فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان . وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة ; تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمر بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ، أو يقرأ فيه ولا يتبعه ، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلاً ، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ، و يصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها ، كما جاء في الحديث : ( ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم ) .
وأعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير ، لاشتماله على أنواع من المشروع ، و فيه أيضاً شر من بدعة وغيرها ، فيكون ذلك العمل شراً بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية ، كحال المنافقين والفاسقين .
وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة ، فعليك هنا بأدبين :
أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنّة باطناً وظاهراً في خاصتك و خاصة من يطيعك . واعرف المعروف ، وأنكر المنكر .(129/166)
الثاني : أن تدعو الناس إلى السنّة بحسب الإمكان ، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أومندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه .
ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير ، فعوّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بسئ ، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله ، أو غلى خير منه . فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروهاً، فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون ، فإن منها : ما يكون واجباً على الإطلاق ، ومنها: ما يكون واجباً على التقييد ، كما أن الصلاة النافلة لا تجب ، ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها ، وكما يجب على من أتى الذنوب ; أن يأتي بالكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية ، وما يجب على من كان إماماً ، أو قاضياً ، أو مفتياً ، أو والياً من الحقوق، وما يجب على طالبي العلم ، أو نوافل العبادة من الحقوق .
ومنها : ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة ، ومنها ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم ، وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها .
وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به .
ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من ياتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه ، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه ، كما يؤمر بعبادة الله ، وينهى عن عبادة ما سواه .
إذ رأس الأمر : شهادة أن لا إله إلا الله . والنفوس قد خلقت لتعمل لا لترك ، وإنما الترك مقصوداً لغيره ، فإن لم يشتغل بعمل صالح ، وإلا لم تترك العمل السئ أو الناقص ، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظاً للعمل الصالح .(129/167)
فتعظيم المولد واتخاذه موسماً ; قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده ، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس; ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب . أو كما قال .
مع أن مذهبه : أن زخرفه المصاحف مكروهة . وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط .
وليس مقصود أحمد هذا ، وإنما قصده : أن هذا العمل فيه مصلحة ، وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها .
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا ; وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه ، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ، ككتب الأسماء أو الأشعار ، أو حكمة فارس والروم .
فتفطن لحقيقة الدين ، وانظر ما اشتلمت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد ، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ، ومراتب المنكر ، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة . فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل . فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر ، وجنس الدليل وغير الدليل ; يتيسر كثيراً . أما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل ، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعوا إليه ، وتنكر أنكر المنكرين ، وترجح أقوى الدليلين ، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين . فالمراتب ثلاث :
إحداها : العمل الصالح المشروع الذي لاكراهة فيه .
والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع .
الثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلاً ، إما لكونه تركاً للعمل مطلقاً ، أو لكونه عملاً فاسداً محضاً .
فأما الأول : فهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنها وظاهرها ، قولها وعملها ; في الأمور العلمية والعملية مطلقاً . فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب .(129/168)
والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .
وأما المرتبة الثانية : فهي كثيرة جداً في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضاً ، وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع ، أو من يكون عمله من جنس المحرم ، كالكفر والكذب و الخيانة والجهل ، ويندرج في هذا أنواع كثيرة . فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة ; كالوصال في الصيام ، وترك جنس الشهوات ونحو ذلك ، أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها ; كأول ليلة من رجب ونحو ذلك ; قد يكون حاله خيراً من حال البطال الذي ليس فيه حرص علىعبادة الله وطاعته ، بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله; من العلم النافع، والعمل الصالح أو في أحدهما لا يحبونها ولا يرغبون فيها ، لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع ، فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء ، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع ، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع .
ومع هذا ; فالمؤمن من يعرف المعروف وينكر المنكر ، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهراً في الأمر بذلك المعروف ، والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين . فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها .
النوع الثالث : ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ، ويوم عرفة ، ويومي العيدين ، والعشر الأواخر من شهر رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجة ، و ليلة الجمعة ويومها، والعشر الأول من محرم ، ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة .(129/169)
فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة ، وتوابع ذلك ما يصير منكراً ينهى عنه ، مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش ، والتحزن والتجمع ، وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله ، ولا أحد من السلف ، لا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من غيرهم ) . اهـ المقصود (1) .
وبهذا يظهر لنا وجه تدليس المالكي وتلبيسه ، حيث نقل بعض الكلام ، وترك بعضه مما هو حجة عليه ، فنقل قول الشيخ :
( وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ، لا على البدع ).
ثم انتقل بعد ذلك إلى كلام آخر يعتقد تأييده لما لبس به ، ودلس ، ثم ترك بقية الكلام الذي هذا نصه :
( والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رحمهم الله أحق به منا ..) إلى آخر ما ذكره مما تقدم نقله .
__________
(1) - انظر اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 267 – 299 .(129/170)
ثم ما معنى قول الشيخ وكذلك ما يحدثه بعض الناس ، أنه رحمه الله يستعرض مجموعة من البدع ، ومنها بدعة المولد ، فقال : ومثل ذلك ما يحدثه بعض الناس ... من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إنه رحمه الله أنصف متخذي الموالد إذا كان قصدهم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم إياه ، فذكر أن الله قد يثيبهم على هذا القصد ، لا على القيام بالبدعة ، فإن الآخذين بها مأزورون ومعاقبون بعقوبة الابتداع وهي النار، حيث قال صلىالله عليه وسلم : ( كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) . أشبه من صلى وترك الصيام ، فهو مثاب على صلاته ، مأزور على تركه الصيام . وهذا معنى قوله رحمه الله : ( فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمت لك أنه يحسن من بعض الناس ، ما يُستقبح من المؤمن المسدد ) اهـ .
وهذا القول من شيخ الإسلام محمول على من فعل المولد لتأويل أو تقليد ، أما من عرف أنه بدعة ثم فعله ولو كان عن حسن نية أو لأجل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإن هذا يأثم ولا يُؤجر ، ويُذم ولا يُمدح ، لكونه تعمد على بصيرة فعل ما حرمه الله ، وبكونه ابتدع في الدين مالم يأذن به بالله ، و النصوص من الكتاب والسنة كلها تدل على ذمه واستحقاقه العقوبة لا الإثابة ، كما يعلم ذلك من تدبر النصوص ، وعرف ما دلت عليه من النهي عن البدع ، والتحذير منها وشدة الوعيد في ذلك ، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله يجب أن ينزل على ذلك ، كما دل عليه كلامه في مواضع كثيرة مما تقدم نقله . والقاعدة الشرعية أن المجمل يُفسر بالمبين ، والمشتبه يُفسر بالمحكم ، ولا يجوز عكس ذلك ولا يفعله إلا أهل الزيغ كما في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} والله المستعان .
مفهوم المولد في نظر المالكي(129/171)
ثم ذكر المالكي بعد ذلك مفهوم المولد في نظره ، فقال ما نصه :
( إننا نرى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة ; لابد من الالتزام وإلزام الناس بها ، بل إن كل ما يدعو إلي الخير ، ويجمع الناس إلى الهدى ، ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم ; يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي . ولذلك لو اجتمعنا على شيئ من المدائح التي فيها ذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم وفضله وجهاده وخصائصه ، ولم نقرأ قصة المولد النبوي التي تعارف الناس على قرآءتها ، واصطلحوا عليها ، حتى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلا بها ، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات ، أقول لو فعلنا فإن ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ، ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف . وأظن أن هذا المعنى لا يختلف فيها اثنان ، ولا ينتطح فيه عنزان ) اهـ .
هذا المفهوم سنقف عنده عدة وقفات :
الوقفة الأولى : عند قوله بأن الاحتفال بالمولد يحصل ولو لم يكن على هيئة مخصوصة .
ونقول له :
الاحتفال بالمولد بدعة ، ولو لم يكن على هيئة مخصوصة ، لأن مقيميه يقصدون من إقامته القربة إلى الله تعالى ، فهو لديهم دين ، وأمر مشروع . هذا الدين لم يكن معهوداً في الصدر الأول من الإسلام ، فلم يقمه صلى الله عليه وسلم ، وهو أحرص الناس على فعل الخير ، ولم يقمه أحد من أقاربه ، ولا من أهله ، ولا أقامه احد من أصحابه ، ولا أحد من التابعين أو أتباعهم ، حتى انقضت القرون الثلاثة المشهود لها ولأهلها بالخير . فهو حدث في الدين ، وكل محدثة بدعة . وقد قدمنا من البيان والتوضيح وتوجيه القول ببدعته ، ونقلنا من أقوال أهل العلم المعتد بهم ما فيه الكفاية .
الوقفة الثانية : عند قوله باعتبار الاحتفال بالمولد ، ولو لم يكن على صفة مخصوصة ، ولو لم نقرأ فيه قصة المولد المتعارف عليها .(129/172)
هذا القول يقوله المالكي لذرالرماد في العيون ، وإلا فمعروف لدينا أنه لا يكتفى بإقامة المولد في ليلة المولد في أي مكان تدركه تلك الليلة ، وإنما يشد الرحال إلى المدينة المنورة ، ومعه تلاميذه وأتباعه والمفتونون ببدعه . وفي المدينة له أتباع وسذج غرر بهم ، فهيئوا له ولأتباعه مكان الاحتفال ومستزماته ، ولعل اختياره المدينة مكاناً للاحتفال ، ليختصر للحضره النبوية طريق الوصول إلى احتفاله ، أو بطريق الأحرى والأحق لتكون أذيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر إيلاماً ، لما يلقى في ذلك الاحتفال من شركيات ، وما يشتمل عليه من تخيلات وتوهمات ، إن لم يشتمل على ما تشتمل عليه الموالد الأخرى ، في البلاد الأخرى المفتونة بما فتن به المالكي وأشياخه وأتباعه ، من اختلاط مشين ورقص وغناء واستجداء ، وغير ذلك مما يعرفه الراسخون في علم سرائره وخصائصه ومستلزماته .
الوقفة الثالثة : عند قوله أي اجتماع تلقى فيه المواعظ والإرشادات ، وتلاوة القرآن ، فإن ذلك داخل تحت الاحتفال بالمولد الشريف .(129/173)
أقول : إن نوى بذلك الاجتماع إقامة الاحتفال بالمولد أداء لمشروعية استحبابه حسب عقيدة القائلين به ; فلا شك أن نية الابتداع متوفرة ، وبالتالي فإن الأعمال بنياتها . فمن هاجر إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه . العمل واحد والقصد مختلف ، والجزاء على قدر النية ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وقد سبق لنا نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم الاجتماعات الدورية على الذكر ، أو على صلاة تطوع ، فقال : ( لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه ، لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع ، ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى ، أو بين الظهر والعصر، وتراويح في شعبان ، أو أذان في العيدين ، أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس ، وهذا تغيير لدين الله ، وتبديل له ، وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها ) اهـ .
رأي المالكي في القيام في المولد ومناقشته
ثم انتقل المالكي بعد ذلك إلى الحديث عن القيام في المولد ، فقال :(129/174)
( أما القيام في المولد النبوي عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم ، وخروجه إلى الدينا ، فإن بعض الناس يظن ظناً باطلاً لا أصل له عند أهل العلم فيما أعلم بل عند أجهل الناس ، ممن يحضر المولد ويقوم مع القائمين ، وذاك الظن السيئ هو أن الناس يقومون معتقدين أن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المجلس في تلك اللحظة بجسده الشريف ، ويزيد سوء الظن ببعضهم فيرى أن البخور والطيب له ، وأن الماء الذي يوضع في وسط المجلس ليشرب منه ، وكل هذه الظنون لا تخطر ببال عاقل من المسلمين ) إلى أن قال ( نعم نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم حي حياة برزخية كاملة لائقة بمقامه ، وأن روحه جوّالة سيّاحة في ملكوت الله سبحانه وتعالى ، ويمكن أن تحضر مجالس الخير ، ومشاهد النور و العلم ، وكذلك أرواح خلص المؤمنين من أتباعه ) إلى أن قال ( إذا علمت هذا فاعلم أن القيام في المولد النبوي ليس هو بواجب ولا سنّة ، ولا يصح اعتقاد ذلك أبداً ، إنما هي حركة يعبّر بها الناس عن فرحهم وسرورهم ، فإذا ذكر أنه صلى الله عليه وسلم ولد وخرج إلى الدنيا يتصور السامع في نفس اللحظة أن الكون كله يرقص فرحاً وسروراً بهذه النعمة ، فيقوم مظهراً لذلك الفرح و السرور معبّراً ، فهي مسألة عادية محضة لا دينية ، لأنها ليست عبادة ولا شريعة ولا سنة ، وما هي إلا أن جرت عادة الناس بها ، واستحسن ذلك من استحسنه من أهل العلم ) إلى أن قال ( إن هذا القيام لتصور شخص النبي صلى الله عليه وسلم في الذهن شيئ محمود ومطلوب ، بل لابد أن يتوفر في ذهن المسلم الصادق في كل حين ) إلى آخر ما ذكره (1)
__________
(1) - جاء في كتاب الشيخ أبي بكر الجزائري ( الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف ) ذكر صفة المولد ، حيث قال :
( وكيفيته : أن تذبح الذبائح ، وتعد الاطعمة ، ويدعى الأقارب والأصدقاء وقليل من الفقراء ، ثم يجلس الكل للإستماع ، فيتقدم شاب حسن الصوت فينشد الأشعار ، ويترنم بالمدائح ، وهم يرددون معه بعض الصلوات ، ثم يقرأ قصة المولد حتى إذا بلغ " وولدته آمنة مختوناً " قام الجميع إجلالاً وتعظيماً ، و وقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيلاً منهم وضع آمنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل ، ثم تدار أكؤس المشروبات الحلال فيشربون ، ثم تقدم قصاع الطعام فيأكلون وينصرفون وهم معتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة ) أهـ .(129/175)
.
وكعادتنا فسنقف مع المالكي في القيام عدة وقفات :
الوقفة الأولى : اعترافه بأن القيام عند قرآءة قصة المولد عادة اعتادها الناس ، فليست دينية ولا شرعية ، ولا مستحبة .
ونقول للمالكي بأنه متناقض في قوله ، ولا يخفى علينا أن قصده من هذا القول ذر الرماد في العيون ، وإن كانت عقيدته في مشروعية القيام تأبى عليه الاستمرار في هذه المراوغة ; فقد عقد فصلاً تحدث فيه عن وجوه استحسان القيام في المولد ، لو أدرجه باباً في كتاب الترغيب والترهيب ، وجعله من المسائل المرغب في الأخذ بها ; لكان حديثه في ذلك مشابهاً للحديث في الترغيب في مكارم الأخلاق ، و وجوه التقرب إلى الله .
وفيما يأتي سيكون لنا معه عدة وقفات حول مناقشته عن كل وجه ذكره لاستحسان القيام في المولد .
الوقفة الثانية : عند قوله إن حضور الحضرة النبوية خاصة بروحه الشريفة لا بجسده الشريف ، وتشنيعه الإنكارعلى من يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل إلى مجلس المولد بجسده ، واعتباره ذلك من الجرأة على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونعتقد أن المالكي في هذا متناقض أيضاً مع عقيدته ، فطالما أنه يعتقد بأن من صلى عليه صلاة – وذكر نوعها – في اليوم والليلة خمسمائة مرة ، لا يموت حتى يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة (1) .
فما المانع من أن يحضر صلى الله عليه وسلم هذا الحفل الخاص بذكرى ولادته ، وما يتلى في هذا المحفل من آيات الإجلال والإكبار ، والتقديس والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفع منزلته إلى مقام الألوهية والربوبية ، يحضر هذا المحفل بروحه وجسده ، ما دام نوراً لا ظل له في شمس ولا قمر ، وما دام سيجتمع يقضة بمن يصلي عليه ، الصلاة التي عينها المالكي في كتابه " الذخائر المحمدية " .
__________
(1) - انظر كتابه " الذخائر المحمدية " ، ص 107 .(129/176)
حقاً إن الشاطبي رحمه الله قد أنصف البدعيين وأظهرهم على حقيقتهم ، حينما قال : إنهم لا يستطيعون المجادلة والمناظرة ،لأنهم يفتقدون عناصر الإقناع والاحتجاج لما يعتقدون . ولهذا حكم المالكي على نفسه بأنه قال ما فيه افتراء محض ، وفيه وقاحة وقباحة وجرأة على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدر إلا من مبغض حاقد ، أو جاهل معاند ، وليختر المالكي لنفسه أحد الأمرين وكلاهما شر ، وأحلاهما مر .
الوقفة الثالثة : عند عقيدته أنه صلى الله عليه وسلم حيىّ حياة رزخية كاملة ، لائقة بمقامه صلى الله عليه وسلم .
لاشك أنه صلى الله عليه وسلم حيّ حياة برزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله تبارك وتعالى ، وأن الأموات كلهم يحيون حياة برزخية ، السعيد سعيد بأسباب سعادته ، والشقي شقي بأسباب شقاوته .
أما القول بأن روحه صلى الله عليه وسلم تحضر مجالس الذكر ومشاهد النور ، فالعلم بذلك أمر لا يمكن إثباته إلا بأحد طريقين ، إما النقل الصريح الثابت عمن لا ينطق عن الهوى ، أو الشهادة بذلك ممن جاء من الحياة البرزخية ، وكلا الأمرين متعذر ، فتعين علينا الإيمان بمجمل الحياة البرزخية ، كما جاءت النصوص الصريحة بذلك من كتاب الله تعالى ، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . كما يتعين علينا الوقوف عن التفاصيل العارية عما يثبتها موقف المنكر ، لما في الاعتراف بها من تصديق ما لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي ، فضلاً عما في الأخذ بها من إتاحة الفرص لأرباب الدجل ، وأبالسة الإنس والجن ، لإلزام العامة باعتقاد وجود أرواح أنبياء وشهداء وصدّيقين وأولياء ; تحضر مجالسهم ، وأنهم يأمرون وينهون ، ويوجهون ويحرمون ويحللون .(129/177)
وقد كان لهذا المنطلق السيئ خلفياته السيئة ، ومردوداته الآثمة ، في نشوء فِرَق تدّعي الإسلام ، وترجع في تشريعها إلى ما يقول الأقطاب والأوتاد عن أرواح الأولياء ، من الأمر والنهي والتحليل والتحريم ، وإعفاء من بلغ مبلغاً معيناً من الأقطاب والأوتاد عن الكثير من المقتضيات الشرعية ، باعتباره بلغ درجة يقوم فيها بأعمال جسام في مجال العبادة والخلوات ، لا تدركها العامة أو خاصة العامة .
كما أن عقيدة حضور الحضرة النبوية لمجالس الموالد; أعطى المجذوبين و المخبولين مجالاً للقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه اتصل به ، و أنه غاضب من كذا ، ومنشرح صدره لكذا، وأنه يلزمه الاتصال بالولاة ليعملوا كذا، وينتهوا عن كذا ، إلى آخر المزاعم والإفتراءات التي نسمعها من أولئك ، وقتاً بعد وقت ، وحيناً بعد حين .
وإذا كان المالكي يقول بإمكان حضور الحضرة النبوية ; فإننا نشك في اعتقاده ذلك ، إلا أننا نرى أنه بمقالته هذه ، وبأباطيله وترهاته وأضاليله وتخبطاته مما قال في رسالته هذه ، أو في طامته الكبرى " الذخائر المحمدية " .
إنه بذلك يمهد لأن يكون خليفة للإمام العربي ، قائد العصبة الهاشمية ، والسدنة العلوية ، والساسة الحسنية ، والحسنية . ذلك الذي لا يسمح لأحد بزيارته إلا لمحمد علوي مالكي ، ومن كان على شاكلته . وقد سبق أن أوردنا ما جاء في قرار هيئة كبار العلماء من علاقة المالكي بقائد هذه الفرق الصوفية المتطرفة .
الوقفة الرابعة : عند قوله : إن القيام لتصور شخص النبي صلى الله عليه وسلم في الذهن . وقد سبق أن انتقد القائلين بحضور الحضرة النبوية للمجالس روحاً وجسداً ، وتحدث بما يشعر أنه يرى أن الحضور النبوي إنما هو بالروح فقط ، لأن روحه صلى الله عليه وسلم جوّالة سيّاحة في ملكوت الله سبحانه وتعالى ، وأنه يمكن أن يحضر مجالس الذكر ومشاهد العلم والنور .(129/178)
وهذا من المالكي تخبط في القول و تناقض في الإيراد ، فحضور الروح المجالس غير التصور الذهني . وعلى افتراض التسليم بما ذكره المالكي من أن القيام في المولد إكباراً وتقديراً لمن تم تصوره في الذهن . أفلا يعتبر هذا القيام ضرباً من الهوس والحمق والتصرف الجنوني ; حينما يتصور الذهن فتقوم الأعضاء بتقديم الاحترام لمجرد التصور الذهني ؟ .
لنفترض أن المالكي كان حاضراً في مجلس من المجالس العامة ، ثم تذكر أباه وتصوره تصوراً ذهنياً ، فقام في المجلس أمام الحضور ، ثم جلس ، فسُئل عن ذلك فأجاب بأن قيامه احتراماً لأبيه المتوفى ، حيث تصوره في هذا المجلس تصوراً ذهنياً ، أيسلم له أحد بصحة هذا التصرف ، وصدوره من عاقل ؟ أم يلتفت بعضهم إلى بعض متساءلين عما أصاب صاحبهم من لوثة في عقله و وسوسة في صدره ؟ . ومثل هذا التصرف تصرف من يحكي على نفسه ، لأنه يتصور من يحاكيه في ذهنه ، ثم يحاكيه ، والمجتمع يعرف أن هذا التصرف مبدء مرض عقلي .
استحسان المالكي القيام في المولد لعدة وجوه
جرى مناقشتها ثم ردها
ثم انتقل المالكي بعد ذلك إلى ذكر وجوه استحسان القيام في المولد ، فقال :
الوجه الأول أنه جرى عليه العمل في سائر الأقطار والأمصار ، واستحسنه العلماء شرقاً وغرباً ، والقصد به تعظيم صاحب المولد الشريف صلى الله عليه وسلم ، وما استحسنه المسلمون فهو عند الله حسن ، وما استقبحوه فهو عند الله قبيح ، كما تقدم في الحديث .اهـ .(129/179)
لاندري ما هي أقطار المالكي وأمصاره ؟ ، وإن كنا نظن أنه يعني تلك البلدان التي وجد فيها أجناس من أهل الطرق الصوفية ، و وجد فيها الكثير من المشاهد القبورية ، التي يرتادها من يتمسح بها ويطلب البركة من أهلها ، أولئك الذين جرى منهم العمل ، حينما يقيمون الموالد ، فيقومون عند قرآءة قصة المولد . ونعتقد أن المالكي يعجز كل العجز عن أن يعطينا قطرأً واحداً ، ومصراً واحداً في الصدر الأول من الإسلام في القرون الثلاثة المفضلة، أمثال أهل المدينة ومكة والطائف والكوفة والبصرة والقاهرة ودمشق وغيرها من مدن الإسلام المنتشرة شرقاً وغرباً . ولكنه الآن يستطيع أن يعطينا الكثير من الأقطار الإسلامية مع الأسف ، بعد أن انتشرت البدع والمحدثات ، وأقيمت القباب والمباني الضخمة على القبور ، وأصبحت بعض هذه المشاهد يضاهي الحج إليها الحج إلى بيت الله ; في قيمة ذلك في نفوس حجاجها وعدد من يقصدها ، وعقيدة آميها ، وفيمن قصدوه وحجوا إليه ، كما هو الحال في النجف وفي طنطا وبنها ، وفي غيرهما ، وذلك حصائد ما زرعه القرامطة والرافضة والفاطميون والنصيريون وغيرهم .
فهل يعتبر المالكي عمل هؤلاء حجة فيما ذكره ؟ .
اللهم إنا نستخلفك في عقلية المالكي ، وفي عقيدة المالكي ، وفي العلم الشرعي الذي أخذه المالكي من مدارس حكومته .
فأي المسلمين استحسنوا ذلك ؟ أهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أشد الناس محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواهم تصوراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته ؟ أهم التابعون الذين عاصروا أصحاب رسول الله ، ورأوا ما يعمله أصحاب رسول الله ، ورووا ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم هم أتباع التابعين من أهل القرون الثلاثة المفضلة من الأئمة الأربعة ، ورجال الحديث ، ورجال التفسير، ورجال التاريخ والسير ، ومن كان معاصراً لهم من الزهاد والعباد ؟ .(129/180)
أم أن الاستحسان من القرامطة والفاطميين والروافض والإسماعيليين والعلويين والقاديانيين والتيجانيين ، وغيرهم وغيرهم من الفرق القبورية والصوفية ، ومن قلدهم بغير علم ؟؟!!
لقد استنكر المسلمون البدع والمحدثات واستقبحوها ، وعظموا أمر أوزار القائمين عليها بما في ذلك بدعة المولد جملة وتفصيلاً ، مستضيئين في ذلك بالنصوص النبوية الصريحة الواضحة الثابتة ، وبآثار الصحابة في ذلك ، وقد تقدم لنا الكثير من أقوال أهل العلم في ذلك في مختلف العصور، في عصر الشاطبي وابن رجب والعز بن عبدالسلام ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر و ابن النحاس وغيرهم .
وهذا الشيخ محمد رشيد رضا يتحدث عن المولد وعن بدعة المولد فيقول إجابة عن سؤال وجه إليه عن حكم المولد ، وأول من فعله ، وأي الموالد أحرى أاحسن للقرآءة ، فيقول :
( هذه الموالد بدعة بلا نزاع ، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد أحد ملوك الشراكسة بمصر ، ولم نطلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيراً من الأخبار الموضوعة )(1) اهـ .
وقال في موضع آخر من الفتاوى ما نصه :
( سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له أصل ، فأجاب بقوله : أصل عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة ، ومن لا ; فلا .
وأقول : إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل ، فقد كان أحفظ حفاظ السنّة
__________
(1) - المجلد 4 ، ص 1243 ، فتاوى رشيد رضا .(129/181)
والآثار ، ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط ، فحسبنا من فتواه ما تعلق بالنقل ، وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة ، التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليه ناقلوا سنته بالعمل; فقد زعم أنه صلى الله عليه وسلم لم يُؤد رسالة ربه على الوجه الأكمل .
كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى ، وقد أحسن صاحب عقيدة الجوهرة ، في
قوله :
وكل خير في اتباع من سلف ××× وكل شر في ابتداع من خلف(129/182)
وأما قول الحافظ : إن من عمل فيه من المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة حسنة ، ومن لا فلا; ففيه نظر ، ويعني بالمحاسن قراءة القرآن ، وشيئ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته ، والصدقات ، وهي مشروعة لا تعد من البدع ، إنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص ، بالهيئة المخصوصة ، والوقت المخصوص ، وجعله من قبل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع ، بحيث يظن العوام الجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعاً ، وهو بهذه القيود بدعة سيئة ، وجناية على دين الله تعالى ، وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ، ومن الافتراء على الله ، والقول في دينه بغيرعلم . فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه ، كأنه من قواعد العقائد المعلومة من الدين بالضرورة ، أليس يعد في هذه الحال ، وبين هؤلاء الجهال ، من أكبر كبائر البدع التي تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه ؟ فإن الزيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره ; كالناقص منها ، يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء خاتم النبيين عن الله تعالى القائل فيه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، فهو تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين، وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان دينهم ناقصاً أو كفاراً . وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم قد تركوا التضحية في عيد النحر لئلا يظن الناس أنها واجبة ، كما ذكره الإمام الشاطبي في الاعتصام وغيره (1).
__________
(1) - انظر ص 276 ، ج 2 ، من " الاعتصام " .(129/183)
أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه الحفلات المولدية ، وإن خليت من القبائح ، و اشتملت على المحاسن ) إلى أن قال ( فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى ، كالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقواله وأفعاله ، كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية ، التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات . وأما القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم ، وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك ، فهو من جملة هذه البدع ، وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي، الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم فقال عند ذكر الإنكار على من يقوم عند قرآءة { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ }(1) ، لما ورد في ذلك ، بسبب قد زال ما نصه :
( ونظير ذلك فعل كثير عند ذكرمولده صلى الله عليه وسلم ، و وضع أمه له من القيام ، وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شيئ ) إلى أن قال ( فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة ، ويقال أن منها حسنة وسيئة ، هي البدع في العادات ، وأما البدع في العبادات فلا تكون إلا سيئة ، كما صرح به المحققون ) (2) اهـ .
ثم ذكر المالكي الوجه الثاني فقال :
الوجه الثاني أن القيام لأهل الفضل مشروع ثابت بالأدلة الكثيرة من السنة ، إلى آخر قوله .
ونقف معه عند هذا الوجه وقفتين :
__________
(1) - سورة النحل ، الآية : 1 .
(2) - انظر ج 5 ، ص 2112 ، من فتاوى رشيد رضا .(129/184)
إحداهما : أن القيام في مجالس المولد لم يكن لأهل الفضل بصورة محسوسة ، كدخول ذي فضل أو علم أو جاه مجلس قوم ما ; فيقوم أهل ذلك المجلس احتراماً وتقديراً لذلك الداخل ; ليسلموا عليه ويصافحوه ، وإنما القيام في مجالس الموالد لأمر ادعائي وهمي ، لا يمكن لأي مجتمع ذي وعي عقلي أن يقرّه ، أو يضفي عليه صفة التصرف العقلي المقبول ، فإذا أضيف إلى هذا القيام ما ينبغي أن تشتمل عليه هيئة تلك المجالس من وضع بخور وطيب في وسط حلقة الجلوس ، وماء معطر ويستحسن أن يكون من زمزم ; لتقوم الحضرة النبوية عند حضورها بالشرب من ذلك الماء ، والتطيب من ذلك الطيب ، كملت عندنا صورة التصرف اللاعقلي . وإن أنكر المالكي ما للطيب والماء والبخور من قصد مخصوص بالحضرة النبوية ، فإن لتقية الوافض رائحة فيما يكتب .
الوقفة الثانية : عند قوله : إن القيام لأهل الفضل مشروع وثابت بالأدلة الكثيرة من السنة .
ونقول للمالكي بأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم ، فكما أن هناك أدلة من السنة قد تدل على مشروعية القيام ، فإن هناك أدلة شرعية أخرى صريحة و واضحة تدل على خلاف ذلك ، ومنها ما روى الترمذي بإسناده عن أنس رضي الله عنه ، قال : لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كانوا إذا رأوه لم يقوموا ; لما يعلمون من كراهته لذلك. وقال حديث حسن صحيح غريب ، وقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم ، وقد ذكره الحافظ في الفتح وذكر تصحيح الترمذي له ، وأقره على تصحيحه .
وروى الترمذي أيضاً بإسناده إلى أبي مجلز ، قال خرج معاوية ، فقام عبدالله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه ، فقال : اجلسا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سرّه أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار . قال الترمذي وهذا حديث حسن . وقد أخرجه أحمد وأبو داود .(129/185)
وللترمذي عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا ، فقمنا ، فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يُعظم بعضها بعضا . وأخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجه .
قال الشيخ عبدالرحمن المباركفوري في كتابه " تحفة الأحوذي " في حكم القيام شرحاً لهذه الأحاديث ما نصه :
اعلم أنه قد أختلف أهل العلم في قيام الرجل للرجل عند رؤيته ، فجوّزه بعضهم كالنووي وغيره ، ومنعه بعضهم كالشيخ أبي عبدالله بن الحاج المالكي ، وغيره .
و قال النووي في الأذكار : وأما إكرام الداخل في القيام ، فالذي نختاره أنه مستحب ، لمن كان فيه فضيلة ظاهرة ، من علم أو صلاح أو شرف أو ولاية ونحو ذلك ، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام ، لا للرياء والإعظام ، وعلى هذا استمر عمل السلف والخلف ، وقد جمعت في ذلك جزءاً ، جمعت فيه الأحاديث والآثار وأقوال السلف وأفعالهم الدالة على ما ذكرته ، وذكرت فيه ما خالفها ، وأوضحت الجواب عنه ، فمن أشكل عليه من ذلك شيئ ، ورغب في مطالعته ، رجوت أن يزول إشكاله ، انتهى .
قلت ، وقد نقل ابن الحاج ذلك الجزء في كتابه " المدخل " ، وتعقب على كل ما استدل به النووي ، فمن أقوى ما تمسك به حديث أبي سعيد عند الشيخين :
إن أهل قريضة نزلوا على حكم سعد ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فجاء فقال : قوموا إلى سيدكم الحديث . وقد أجاب عنه ابن الحاج بأجوبة منها : إن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع ، وإنما هو لينزلوه عن دابته ، لما كان فيه من المرض ، كما جاء في بعض الروايات ، انتهى . قال الحافظ : قد وقع في مسند عائشة عند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها ، في قصة غزوة بني قريضة ، وقصة سعد بن معاذ ومجيئة مطولاً، وفيها قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، وسنده حسن . و هذه الزيادة تخدش الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه ، انتهى .(129/186)
ومما تمسك به النووي حديث كعب بن مالك في قصة توبته وفيه : فقام إليّ طلحة بن عبدالله يهرول، فصافحني وهنأني. وأجاب عنه ابن الحاج; بأن طلحة إنما قام لتهنئته ومصافحته ، ولو كان قيامه محل النزاع لما انفرد به . فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قام له ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد ممن حضروا ، وإنما انفرد طلحة لقوة المودة بينهما ، على ما جرى به العادة ، أن التهنئة والبشارة و نحو ذلك ، تكون على قدر المودة والخلطة ، بخلاف السلام فإنه مشروع على من عرفت ومن لم تعرف .
ومما تمسك به النووي حديث عائشة ، قالت : ( ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة ، كانت إذا دخلت عليه قام إليها ، وأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها ) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، وأجاب عنه ابن الحاج باحتمال أن يكون القيام لها لأجل إجلاسها في مكانه إكراماً لها ، لا على وجه القيام المنازع فيه ، لا سيما ما عرف من ضيق بيوتهم، وقلة الفرش فيها ، فكانت إرداة إجلاسه لها في موضعه مستلزمة لقيامه .
ومما تمسك به النووي ما أخرجه أبو داود عن عمرو بن الحارث ، أن عمر ابن السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً ، فأقبل أبوه من الرضاعة ، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر ، فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه .(129/187)
وأجاب عنه ابن الحاج بأن هذا القيام ، لو كان محل النزاع لكان الوالدان أولى به من الأخ ، وإنما قام للأخ إما لأن يوسع له في الرداء أو المجلس . قلت هذا الحديث معضل كما صرح به ابن المنذري في تلخيص السنن ، فلا يصلح للاستدلال . وتمسك النووي بروايات أخرى ، وأجاب عنها ابن الحاج بأنها ليست من محل النزاع . والأمر كما قال ابن الحاج ، وأجاب النووي عن أحاديث كراهية قيام الرجل للرجل ، بما لا يشفي العليل ، ولا يروي الغليل كما بينه ابن الحاج مفصلاً .
قلت حديث أنس المذكور يدل على كراهية القيام المتنازع فيه ، وهو قيام الرجل للرجل عند رؤيته ، وظاهر حديث عائشة يدل على جوازه ، وجواب ابن الحاج عن هذا الحديث غير ظاهر ، واختلف في وجه الجمع بينهما ، فقيل حديث أنس محمول على كراهة التنزيه ، وقيل هو محمول على القيام على طريق الإعظام ، و حديث عايشة على القيام من سفر ، أو للتهنئة لمن حدثت له نعمة ، أو لتوسيع المجلس ، فهو جائز بالإتفاق . نقل العيني في شرح البخاري عمن أبي الوليد بن رشد ، أن القيام على أربعة أوجه : الأول محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يُقام له تكبراً أو تعاظماً على القائمين إليه. والثاني مكروه ، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين ، ولكن يخشى أن يدخل نفسه لسبب ذلك ما يحذر ، ولما فيه من التشبه بالجبابرة. والثالث جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك ، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة . والرابع مندوب ، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر، فرحاً بقدومه ، يُسلم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها ، أو مصيبة فيعزيه بسببها ، انتهى .
وقال الغزالي القيام على سبيل الإعظام مكروه ، وعلى سبيل البر والإكرام لا يُكره ، قال الحافظ في الفتح هذا تفصيل حسن ) اهـ (1) .
وذكر الوجه الثالث بقوله :
__________
(1) - انظر الجزء الثامن " تحفة الأحوذي " ، ص 29 – 33 .(129/188)
الوجه الثالث : ورد في الحديث المتفق عليه قوله صلى الله عليه وسلم خطاباً للأنصار : قوموا لسيدكم . وهذا القيام كان تعظيماً لسيدنا سعد رضي الله عنه ، و لم يكن من أجل كونه مريضاً ، وإلا لقال قوموا إلى مريضكم ، ولم يقل إلى سيدكم ، ولم يأمر الجميع بالقيام ، بل أمر البعض .اهـ .
هذا الحديث أجاب عنه ابن الحاج إجابة ذكرها ابن حجر في الفتح فقال : وقد اعترض عليه الشيخ أبو عبدالله بن الحاج ، فقال ما ملخصه: لو كان القيام المأمور به لسعد هو المتنازع فيه; لما خص به الأنصار ، فان الأصل في أفعال القرب التعميم ، ولو كان القيام لسعد على سبيل البر والإكرام ، لكان هو صلى الله عليه وسلم أول من فعله ، وأمر به من حضر من أكابر الصحابة ، فلمّا لم يأمر به ، ولا فعله ولا فعلوه ; دل ذلك على أن الأمر بالقيام لغير ما وقع فيه النزاع ، وإنما هو لينزلوه عن دابته ، لما كان فيه من المرض ، كما جاء في بعض الروايات ، ولأن عادة العرب أن القبيلة تخدم كبيرها ، فلذلك خص الأنصار بذلك دون المهاجرين ، مع أن المراد بعض الأنصار لا كلهم ، وهم الأوس منهم ، لأن سعد بن معاذ كان سيدهم دون الخزرج ، وعلى تقدير تسليم أن القيام المأمور به حينئذ لم يكن للإعانة ; فليس هو المتنازع فيه ، بل لأنه غائب قدم ، والقيام للغائب إذا قدم مشروع . قال : ويحتمل أن يكون القيام المذكور إنما هو لتهنئته بما حصل له من تلك المنزلة الرفيعة ، من تحكيمه والرضا بما يحكم به ، والقيام لأجل التهنئة مشروع أيضاً . إلى آخر ما ذكره مما يطول إيراده .(1) .
__________
(1) - انظر الجزء 11 ، ص 51 ، فتح الباري شرح صحيح البخاري .(129/189)
فهذا الوجه والوجه الثاني والوجه الرابع ; كلها تدور حول حكم القيام للرجل ، للتقدير والإكرام والإجلال ، ولا يخفي ما في المسألة من خلاف بين أهل العلم ، و قد ذكر ابن حجر رحمه الله في شرحه حديث الأمر بالقيام لسعد رضي الله عنه ملخص ما في المسألة من خلاف ، وما بين العالمين الكبيرين النووي وابن الحاج من أخذ ورد في الموضوع ، جرى منا ذكر ملخصه فيما ذكره المباركفوري في كتابه " تحفة الأحوذي " .
ثم ذكر المالكي الوجه الخامس بقوله :
الوجه الخامس قد يقال : إن ذلك في حياته وحضوره صلى الله عليه وسلم ، وهو في حالة المولد غير حاضر . فالجواب عن ذلك : إن قارئ المولد الشريف مستحضر له صلى الله عليه وسلم بتشخيص ذاته الشرايفة ، فهو عليه الصلاة والسلام قادم في العالم الجسماني من العالم النوراني ; من قبل هذا الوقت بزمن الولادة الشريفة ، وحاضر عند قول التالي : فولد صلى الله عليه وسلم ، بحضور ظلي ، هو أقرب من حضوره الأصلي ، ويُؤيد هذا الاستحضار التشخيصي و الحضور الروحاني أنه عليه الصلاة والسلام متخلق بأخلاق ربه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : أنا جليس من ذكرني . وفي رواية أنا مع من ذكرني . فكان مقتضى تأسيه بربه ، وتخلقه بأخلاقه ، أن يكون صلى الله عليه وسلم حاضراً مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة ، ويكون استحضار الذاكر ذلك موجباً لزيادة تعظيمه صلى الله عليه وسلم .اهـ .
لنا مع المالكي في هذا الوجه الذي ذكره وقفتان :
الوقفة الأولى : عند قوله : قد يقال إن ذلك في حياته وحضوره صلى الله عليه و سلم وهو في حالة المولد غير حاضر .(129/190)
إننا نؤكد على المالكي إن كان محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم و لسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم و لما يرغبه ، وينشرح له صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أن يرجع إلى الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس وأبو أمامه ومعاوية ، فهي صريحة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن القيام ، ومعرفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن ذلك مما يكرهه صلى الله عليه وسلم ، وانهم لذلك لا يقومون له إذا حضر مجلسهم ، هذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، فإذا افترضنا أن روحه صلى الله عليه وسلم تشترك مع المحتفلين بالمولد ; فهل من الأدب مع روحه صلى الله عليه وسلم أن نقابلها بما تكره ؟
ثم إننا نكرر ما قلناه بأن المالكي يتخبط فيما يقول - وإن كنا نعذره في ذلك ، لأن هذه عادة وطريقة أهل البدع والمحدثات - فتارة يقول إن القيام تعظيم لكمال تصوره صلى الله عليه وسلم في الذهن ، ومثلنا لمسألة التصور والقيام تعظيماً لذلك التصور بما يعطي الكفاية من الإزدراء والسخرية بعقول أهل هذا النظر . وتارة يقول بحضور روحه الشريفة مجالس الذكر ، وذكرنا خطأ هذا الاعتقاد و
خطورة القول به على العقيدة ، وأنه أوسع الأبواب للدجل والابتداع والتخريف وانتهاك حرمات العقول .
الوقفة الثانية : عند قوله : بأن مقتضى تأسيه بربه أن يكون حاضراً مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة .
لا شك أن المالكي ينطلق بقوله هذا من عقيدته أن لرسول الله صلى الله عليه و سلم مقام ألوهية وربوبية ، فهو يقول طالما أن الله تعالى يقول : أنا جليس من ذكرني ، أنا مع من ذكرني ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى تأسيه بربه كذلك ، جليس من ذكره وهو من ذكره .(129/191)
إن المالكي بما قرأناه له في كتابه ( الذخائر المحمدية ) من أن الخلق خلقوا لأجل محمد ، وأن محمداً له علم شامل ، يعلم الروح والأمور الخمسة التي اختص الله تعالى بعلمها، وأن له مقاليد السموات والأرض ، وأن له حق الإقطاع في الجنة ، وأنه نور لا ظل له في شمس ولا قمر، وأنه حيّ الآن تعرض عليه أعمال أمته ، ويصلي في قبره بأذان وإقامة ، ويصوم ويحج ، إلى آخر ما ذكره مما جرى استعراضه في كتابنا هذا ، مما هو مناقض لمقتضى قول الله تعالى:{ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً }(1) .
وقوله تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ }(2) .
إن المالكي بحكم عقيدته في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه عنه مما أورده في كتابه ، وأشرنا إلى صفحات ذلك من الكتاب نفسه ; لا يستغرب منه أن يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من القدرة ما لله تعالى ، فيقول : بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أينما كنا ، فهذا في معنى قوله : ( بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر مع ذاكره في كل مقام يذكر فيه بروحه الشريفة ) اهـ . لا شك أنه صلى الله عليه وسلم متأدب بأدب القرآن ، إلا أن ذلك مقيد بطاقته وقدرته البشرية ، إلا فيما يثبت به النقل الصريح من خصوصيات له صلى الله عليه وسلم ، مما هو فوق الطاقة البشرية ، فيجب إثبات ذلك والإيمان به كمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لنا إثبات خلاف ذلك بطريق القياس أو الأولوية مما يخرجه عن محيط البشرية .
مولد ابن الدبيع وما فيه من منكرات
__________
(1) - سورة الإسراء ، الآية : 93 .
(2) - سورة الأحقاف ، الآية : 9 .(129/192)
ثم انتقل المالكي إلى فصل ختامي ، استعرض فيه الكتب المصنفة في قصة المولد ، وأثنى على أصحابها . وقد ذكر فيما ذكر أن قصة المولد عبارة عن استعراض لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولادته حتى وفاته .اهـ
وإذا كان كذلك ، فنحن نعتز ونفتخر باقتناء الكتب المصنفة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونعتبر أسعد وقت هو الوقت الذي نقضيه في تلاوة كتاب الله تعالى ، ومدارسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما اشتملت عليه من جوانب الإشراق الصافية ، من إيمان ثابت وصبر صادق ، وتضحية بالغالي والنفيس ، وجهاد في سبيل الله ، ونصح للأمة ، وأداء كامل للرسالة ، وشكر لله تعالى ، حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم من العبادة ، واحتساب لما يناله من الأذى والمشقة في سبيل إبلاغ الرسالة ، وتفصيل لما أجمله كتاب الله ، وبيان شامل لكل خير ينفع أمته ، ولكل شر يضر أمته . وإذا كان من أهل العلم من ألف كتاباً في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمائله ، وما يتلى في بيوته من آيات الله والحكمة ، وجاء من سمى ذلك مولداً ، فإذا لم يشتمل ذلك الكتاب على مثل ما اشتملت عليه كتب المالكي ، وأخصها كتابه الذميم ( الذخائر المحمدية ) من المبتدعات والشركيات والمنكرات ، ولم يقصد مؤلف ذلك الكتاب التاريخي لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلى ليلة المولد ، حيث إن في قصد ذلك اعترافاً بمشروعية مجالس المولد ، المتفق عليها من القائلين بها أنفسهم أنها بدعة ، إذا لم يكن شيئ من ذلك ; فهل يجوز الإعتراض على مؤلفات في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، وهل يجوز الإعتراض على من استهدف في تأليفه إظهار حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة ; حتى يحصل لها الاقتداء والتأسي والاتعاظ والاعتبار ، والتخلي بأخلاق الإسلام ، و التأدب بآداب القرآن ، ومحاولة التحلي بما تحلى به صلى الله عليه وسلم من كريم الأخلاق ونبل الشمائل ؟ .(129/193)
وقد ذكر المالكي أن ممن ألف في قصص المولد : الحافظ وجيه الدين عبدالرحمن الشيباني اليمني المعروف بابن الدبيع ، وقد صنف مولداً نبوياً مشهوراًً في كثير من البلاد . اهـ .
لقد سُئل عن هذا المولد الشيخ محمد رشيد رضا بسؤال هذا نصه :
من أحد أهالي جوهر في جنوب ميلاي ، أنكر أحد طلبة العلم وهو رجل غريب قرآءة قصة الموالد النوبية للديبعي ، ولعله غير المحدث بدعوى أن فيها كذباً و خرافات ، والقصة المذكورة مما يداوم على قرآءتها للعوام عدد وافر من الذين يعتقد فيهم الولاية ، يقولون للعوام أن روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم تحضره من أوله إلى آخره ، وتحضر في غيره عند القيام فقط ، فترى هجيري أهل هذه البلاد قصة المولد المذكورة ، فهي قد مرت على سمع الجم الغفير من العلماء ، ولم ينكرها غير الرجل المذكور ، فهل هو مصيب ، أم لا ؟ .
فأجاب رحمه الله بقوله :(129/194)
( الصواب ما قال ذلك الطالب الغريب ، ولعله من الغرباء الذين ذكروا في حديث مسلم : ( يبدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " . وقد قرأت طائفة من هذه القصة ، فإذا بصاحبها يقول في فاتحتها : فسبحانه تعالى من ملك ، أوجد نور نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من نوره ، قبل أن يخلق آدم من الطين اللازب ، وعرض فخره على الأشياء ، وقال هذا سيد الأنبياء وأجل الأصفياء وأكرم الحبائب ، قيل هو آدم أنيله به أعلى المراتب . ثم ذكر إبراهيم وموسى وعيسى بمثل هذه الأسجاع الركيكة ، فهذا كذب صريح على الله تعالى ، لم يروه المحدثون . ثم رأيته يذكر في ( ص 6 – 7 ) حديثين أحدهما عن ابن عباس ، رفعه : أن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح الله ذلك النور ، وتسبح الملائكة بتسبيحه ، إلخ . وهذا كذب ظاهر أيضاً ، وقريش كانت قبل الإسلام مشركة ، وعند ظهور الإسلام كان منها أشد الناس كفراً وإيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وصداً عن سبيل الله ، فما معنى ذلك الأصل النوراني الذي يناقضه هذا الفر ع الظلماني ؟ .. والثاني أثر عن كعب الأحبار لا يصح ، وقد سماه مؤلف القصة حديثاً لجهله .
أما قول قراء هذه القصة من المحتالين على الرزق بدعوى الولاية ; أن روحانية المصطفى تحضر مجالسهم التي يكذبون فيها عليه ; فمثله كثير من أولئك الدجالين ، ولا علاج لهذا الجهل إلا كثرة العلماء بالسنّة ، والدعاة إليها بين المسلمين ، وذلك بساط قد طوي ، وإن كثيراً من المسلمين ليعادوننا ولا ذنب لنا عندهم ، إلا الإنتصار للسنّة السنيّة ، والدعوة إلى الله ورسوله بالحق لا بالأهواء )(1) .
__________
(1) - انظر الجزء 2 ، ص 464 من فتاوى محمد رشيد .(129/195)
فهذا مولد ابن الديبع ، وهو المولد المشهور في كثير من البلدان ; كما يذكر ذلك المالكي . وقد اقتطف لنا الشيخ محمد رشيد رحمه الله مقتطفات قد تدل على صحة وحقيقة ما يقوله السائل عن الطالب الغريب ; بأن في قصة مولد ابن الديبع كذباً وخرافات ، وقد يكون هذا المولد نموذجاً للموالد الأخرى . وقد تحصلنا على نسخة من مولد ابن الديبع ، مما أخرجه وعلق عليه محمد علوي المالكي ، وهو منسوب إلى الحافظ المحدث عبدالرحمن الشيباني ، فوجدناه هو المولد الذي اطلع عليه الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ، وسخر منه واستهزأ بمؤلفه ، و وصفه
بالجهل ، وفيه الحديثان اللذان أنكرهما الشيخ محمد رشيد . ولعل المالكي قد تصرف في الحديث الأول فحذف منه : إن قريشاً كانت نوراً بين يدي الله تبارك وتعالى . وقد رأينا في مولد السخاوي هذه العبارة مثبتة من حديث ابن عباس ، و ذكره السخاوي عن القاضي عياض في الشفاء بلا سند . ويظهر لنا أن المالكي حينما تصرف بحذف ما حذف من الحديث ; كان يقصد من ذلك تمرير هذا الحديث دون أن يكون فيه ما يلفت النظر .
وسواء عندنا صدر ذلك المولد عن ابن الديبع المحدث الشهير ، أم صدر عن غيره بذلك الإسم ، أم انتحل اسم ابن الديبع ليكون في ذلك ترويج لهذا المولد ; فالواجب على طالب العلم أن يعرف الرجال بالحق،لا أن يعرف الحق بالرجال ،
ولعل الله سبحانه وتعالى يتيح لنا فرصة أخرى لنتتبع كتب الموالد التي استعرضها المالكي ، ونقول عن كل مولد ما يظهر لنا فيه من حق أو باطل ، جاعلين في الاعتبار غض النظرعن مؤلفه مهما كان ، فإن الرجال يعرفون بالحق كما قلنا .(129/196)
وبعد ، فقد انتهت وقفاتنا مع المالكي في رسالته البتراء ، ونكرر أسفنا وتأثرنا من القسوة التي آثرنا أن يشتمل عليها أسلوبنا في رد ترهاته وأباطيله ، ويعلم الله أن الباعث لهذا الأسلوب القاسي الغيرة لحق الله ، والغضب مما يغضب الله ، و التقرب إليه تعالى برد ما ينافي تحقيق التوحيد وكماله ، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية جناب التوحيد ، وسد كل ذريعة توصل إلى انتهاك حرماته ، والتمعّرغيرة لله في نسبة ما هو محض حق الله لغير الله .
نصيحتي للمالكي
وكم كنت أتمنى أن يكون المالكي وهو يذكر أنه أحد أسباط رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أن يسلك مسالك جده صلوات الله وسلامه عليه ; في تقديرالله حق قدره ، وإنزال رسول الله صلى الله عليه وسلم المنزلة التي أنزله الله إياها ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو ولا تنطع ، ولا إطراء ولا تفيهق ، فهو عبد الله ورسوله ، أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً :
{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ }(1) .
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }(2) .
{ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولا }(3) .
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } (4) .
( إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) .
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) .
( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان ) .
( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) .
__________
(1) - سورة الأحقاف ، الآية : 9 .
(2) - سورة الكهف ، الآية : 110 .
(3) - سورة الإسراء ، الآية : 93 .
(4) - سورة آل عمران ، الآية : 144 .(129/197)
أنصح المالكي أن يتقي الله ربه ، وأن يعرف قدر ربه الحيّ القيوم مالك الملك ذي الجلال والإكرام ، ربه الذي بيده ملكوت كل شيئ ، وهو يجير ولا يُجار عليه ، أحاط بكل شيئ علماً ، وضمن لكل عامل حقه { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }(1) ، { لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}(2) ، صاحب الفضل والمنن والنعم ، أياديه لا تعد، ونعمه لا تحصى ، فسبحانه من إله عظيم ، وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
وأتمنى من المالكي أن يجعل كتاب الله تعالى منهاج حياته العلمية والعملية ، وأن يجعل سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم نبراساً يستضيئ به فيما يقوله ويفعله ، و أن يجعل السلف الصالح من صحابة وتابعين وأتباعهم قدوته في الاتجاه ، وأن يترسم نهج ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فذلك نهج الفرقة الناجية من النار . إنه بذلك يضمن سعادة الدنيا والآخرة ، ويرضى بهذا الاتجاه السليم طموحه ، فإن الطموح النافع للعبد حقيقة هو الطموح إلى ما فيه السعادة بالجنة و النجاة من النار .
وأنصح المالكي أن يراجع مدلول قوله عليه الصلاة والسلام: ( من التمس رضا الله بسخط الناس ; رضي الله عنه وأرضى الناس عنه ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ; سخط الله عليه وأسخط الناس عليه ).
__________
(1) - سورة الزلزلة ، الآية : 7 – 8 .
(2) - سورة الكهف ، الآية : 49 .(129/198)
وأنصح المالكي أن يتنكب عن طرق البدع والضلال ، فهي معاول هدم و تخريب ، وتمكين لإبليس واتباع إبليس أن يشوهوا محيا هذا الدين الحنيف ، و يدخلوا فيه الأفكار الوهمية ، والاستحسانات الصادرة من نفوس حاقدة ، أو عقول ساذجة ، مما يعتبر سبّة على هذا الدين ، وثغرات نقص وازدراء . فقد بالغ صلى الله عليه وسلم في التحذير عن الابتداع مطلقاً ، فقال : ( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ) . وقال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وقال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ ) .
وقال : ( تركتكم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) .
وقال : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قلنا : من هي يا رسول الله ؟ ، قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ، ثم قال: " هذه سبيل الله مستقيماً " ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: " وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }(1) ) . رواه أحمد والنسائي والدارمي وابن حاتم والحاكم وصححه .
__________
(1) - سورة الأنعام ، الآية : 153 .(129/199)
وأتمنى من المالكي وكل ما أتمناه نحوه في صالحه حالاً ومآلاً ; أتمنى أن يتخلى عما هو عليه من زعامة بدعية ، تتضح آثارها فيما يقدمه أتباعه السذج من الخضوع والخنوع ، المتمثل في لحس أياديه ، والتماس البركات من أثوابه وآثاره ، وما يقدمه لهم من المنكرات و البدعيات والشركيات ، المتثمل نوعها في كتابه الذميم ( الذخائر المحمدية ) ، فهذه زعامة وهمية ترتكزعلى قواعد الضلال والإضلال والادعاء ، وستكون عواقبها عواقب بقاء أبي طالب على ملة عبدالمطلب ، وحينها سيتذكر المالكي قول الله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي }(1) .
وقبل أن أختم كتابي هذا ; يسرني إيراد خاتمة ختم بها فضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري ، كتابه الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف ، فقد قال جزاه الله خيراً :
خاتمة :-
لعل بعضاً ممن يقرأون هذه الرسالة قد يتساءلون قائلين : إذا كان المولد النبوي الشريف بدعة محرّمة كسائر البدع ; لم سكت عنها العلماء وتركوها حتى ذاعت وشاعت ، وأصبحت كجزء من عقائد المسلمين ، أليس من الواجب عليهم أن ينكروها قبل استفحال أمرها وتأصلها ؟ ولمَ لمْ يفعلوا ؟؟ .
ونجيب الإخوة المتسائلين ، فنقول :
__________
(1) - سورة الفرقان ، الآية : 27 – 29(129/200)
لقد أنكر هذه البدعة العلماء من يوم ظهورها ، وكتبوا في ردها الرسائل ، ومن قدر له الإطلاع على كتاب المدخل لابن الحاج عرف ذلك وتحققه . ومن بين الردود القيمة رسالة الشيح تاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندري الفقيه المالكي ، صاحب شرح الفاكهاني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، والتي سماها ( المورد في الكلام على المولد ) وسنثبت نصها في هذه الخاتمة . غيرأن الأمم في عصور انحطاطها تضعف عن الاستجابة لداعي الخير والإصلاح ; بقدر قوتها على الاستجابة لداعي الشر والفساد ، لأن الجسم المريض يؤثر فيه أدنى أذى يصيبه ، والجسم الصحيح لا يؤثر فيه إلا أكبر أذى وأقواه . ومن الأمثلة المحسوسة أن الجار الصحيح القوي تعجز عن هدمه المعاول والفؤوس ، والجار المتداعي للسقوط يسقط بهبة ريح أو ركلة رجل . ولذا فلا يدل بقاء هذه البدعة وتأصلها في المجتمع الإسلامي على عدم إنكار العلماء لها ، وها هي ذي رسالة تاج الدين الفكاهاني في تقديمها شاهد على ذلك : قال رحمه الله تعالى بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله :
أما بعد : فإنه قد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمل ه بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد ، هل له أصل في الشرع ، أو هو بدعة وحدث في الدين ؟؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً ، والإيضاح عنه معيناً فقلت وبالله التوفيق :(129/201)
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولاسنة ، ولم يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة ، الذين هم القدوة في الدين ، المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها المبطلون ، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون ، بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة : قلنا إما أن يكون واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً ، وليس هو : بواجب إجماعاً ولا مندوباً ، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشارع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشارع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت . وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سُئلت .
ولا جائزاً ولا بمباحاً ، لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين .
فلم يبقَ إلا أن يكون مكروهاً أو محرماً ، وحينئذ يكون الكلام في فصلين ، والتفرقة بين حالين :
أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه في عياله،لا يجاوزون في ذلك الاجتماع أكل الطعام ، ولا يقترفون شيئاً من الآثام .
هذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة ، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة ، الذين هم فقهاء الإسلام ، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة .(129/202)
والثاني : أن تدخله الجناية ، وتقوى به العناية ، حتى يعطي أحدهم الشيئ ونفسه تتبعه ، وقلبه يُؤلمه ويُوجعه ، لما يجد من ألم الحيف . وقد قال العلماء : أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف ، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيئ من الغناء مع البطون الملآى ، وآلات الباطل من الدفوف والشابات ، واجتماع الرجال مع الشباب المرد ، والنساء الفاتنات إما مختلطات بهم أو مشرفات ، والرقص بالتثني والإنعطاف ، والإستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف . وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن ، رافعات أصواتهن بالتهتيك والتطريب في الإنشاد ، والخروج في التلاوة والذكر غير المشروع ، والأمر المعتاد ، غافلات عن قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } ، وهذا الذي لا يتخلف في تحريمه إثنان ، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب ، وغير المستقلين من الآثام والذنوب . وأزيدك أنهم يرونه من العبادات ، لا من الأمور المنكرات المحرمات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون )(1) اهـ .
وأخيراً أتمنى من الله تعالى أن يهديه ، ويصلحه ، ويردّه إلى جادة الصراط المستقيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
حرر في 3 / 8 / 1402 هـ
أعده وكتبه
عبدالله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
وعضو هيئة كبار العلماء
شكر واعتذار
__________
(1) - انظر : الإنصاف ، ص 53 – 55 . الشيخ أبو بكر الجزائري .(129/203)
قبل أن أضع القلم مودعاً القارئ العزيز ، أجد ضميري يطالبني وبإلحاح بالغ بأن أتقدم بشكري وتقديري إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء و الدعوة والإرشاد ، وعلى رأسها سماحة رئيسها الجليل ، العالم العامل ، المجاهد في الله حق جهاده ، شيخنا عبدالعزيز ابن عبدالله بن باز ، وفضيلة نائبه الصديق الشيخ ابراهيم بن صالح آل الشيخ ، وفضيلة كاتبه وأمين سره التقي الصالح ابراهيم بن عبدالرحمن الحصين ، وفضيلة الدكتور الصديق الصدوق ، والجندي المجهول في ميدان العلم والدعوة إلى الله الشيخ محمد بن سعد الشويعر رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية .
لهؤلاء جميعاً ولغيرهم ممن كان له فضل النظر في هذا الكتاب قبل طبعه ، وتقديم الملاحظة والتوجيه والاستدراك ، وأخص منهم شيخنا الجليل عبدالرزاق عفيفي ، والزميلين الشيخين : الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن بسام ، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .
أقدم لهؤلاء جميعاً شكري وتقديري ، والابتهال إلى الله تعالى ألا يحرمهم أجر ما يقومون به من مجهودات مشكورة في سبيل الدفاع عن عقيدة أهل السنّة والجماعة ، وألا يحرمهم أجر ما قدموه لي من عون في سبيل خروج هذا الكتاب ، كجزء من الدفاع عن هذه العقيدة ، والإبقاء على صفائها ووضوحها محجّة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
وأكرر شكري وتقديري لفضيلة الدكتور محمد الشويعر ، فقد قام بالعبء الأكبر في سبيل إخراج هذا الكتاب في طبعة جيدة ومصححة ، فجزاه الله خيراً ، وثقّل بما قدمه موازينه يوم القيامة .
ولا أنسى وأنا لا أزال في موضوع شكر من يستحق مني الشكر ; أن أترحم على شيخنا الجليل الشيخ عبدالله بن حميد ، وأدعو الله أن يسكنه فسيح جناته ، وألا يحرمه أجر ما في هذا الكتاب ، من دفاع عن العقيدة ، ورد للمنكر والضلال .(129/204)
فقد كان رحمه الله ، وجعل قبره روضة من رياض الجنة ، هو الموجه الأول لي في ذلك ، وهو المشير عليّ بتولي الرد على المالكي .
وأعتذر للقارئ الكريم عن القصور في إيفاء الموضوع ما يستحقه من العناية العلمية في رد المنكر ، لا سيما من كان من القرآء على جانب قوي من الإحساس والشعور بإنكار ما جاء به محمد علوي مالكي من المنكرات و الضلالات ، فهذا مني جهد مقل ، وخير الصدقة جهد المقل .
والله المستعان ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المؤلف
~~~~~~
المراجع والمصادر
1 - القرآن الكريم .
2 - تفسير ابن كثير .
3 - تفسير ابن جرير الطبري .
4 - تفسير القرطبي .
5 - صحيح البخاري .
6 - صحيح مسلم .
7 - سنن النسائي .
8 - مسند الإمام أحمد .
9 - سنن أبي دواد .
10 - سنن الترمذي .
11 - سنن ابن ماجه .
12 - فتح الباري في شرح البخاري ، لابن حجر العسقلاني .
13 - شرح صحيح مسلم ، للنووي .
14 - منتقى الأخبار للمجد وشرحه نيل الأوطار ، للشوكاني .
15 - قيام الليل ، لأبي عبدالله محمد بن نصر المروزي .
16 - جامع العلوم والحكم ، لابن رجب .
17 - تحفة الأحوذي ، للمباركفوري .
18 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، للشيخ محمد بن عبدالوهاب .
19 - فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد ، للشيخ عبدالرحمن بن حسن .
20 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، جمع الشيخ عبدالرحمن بن قاسم .
21 - اقتضاء الصراط المستقيم ، لشيخ الإسلام ابن تيمية .
22 - الإعتصام ، للشاطبي .
23 - المدخل ، لابن الحاج .
24 - تنبيه الغافلين ، لابن النحاس .
25 - المغنى ، لابن قدامه .
26 - فتاوى محمد رشيد رضا .
27 - الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف ، لأبي بكر الجزائري .
28 - ملف قرارات هيئة كبار العلماء .
محتويات الكتاب
- مقدمة الكتاب لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز .
- تقديم وإعذار بقلم المؤلف .(129/205)
- مقتطفات من قرار هيئة كبار العلماء في حق المذكور .
- نماذج من ضلالات المالكي ومنكراته منقولة من كتاب الذخائر المحمدية .
- تمهيد وتأصيل .
- رأي المالكي في حكم الاحتفال بالمولد ، ومناقشته .
- رأي المالكي أن الاحتفال بالمولد لا يلزم أن يكون في ليلة مخصوصة ، ومناقشته بعدة وقفات .
- دعوى المالكي أن الاحتفالات بالمولد نوع من أنواع الدعوة إلى الله ومناقشته .
- عقيدتنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم طبقاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله .
- منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوسنا .
- خيبة الأمل فيما عقدناه على المالكي من خير ونفع وصلاح .
- أدلة المالكي على جواز الاحتفال بالمولد ، ومناقشتها وردها :
- الدليل الأول : الاحتفال بالمولد تعبير عن الفرحة بالمصطفى ، ومناقشة المالكي بعدة وقفات انتهينا بها إلى بطلان ذلك الدليل .
- الدليل الثاني : كان صلى الله عليه وسلم يعظم يوم ولادته بصيامه .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات انتهت إلى بطلانه .
- الدليل الثالث : أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن .
- مناقشته بذكر ما ذكره مشاهير المفسرين .
- الدليل الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية ، وتمثيله بالأمر بصيام يوم عاشوراء .
- مناقشة هذا الدليل ورده .
- الدليل الخامس : أن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل السادس : أن المولد يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل السابع : أن المولد يشتمل على شيئ من سيرة الرسول والتعريف به .
- مناقشة هذا الدليل ورده .
- الدليل الثامن : أن الاحتفال بالمولد تعرض لمكافآته صلى الله عليه وسلم .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل التاسع :أن معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم تستعدي كمال الإيمان به .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .(129/206)
- الدليل العاشر : أن تعظيمه صلى الله عليه وسلم مشروع .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل الحادي عشر : أن اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم أفضل من يوم الجمعة ، وقد جاءت النصوص بفضل يوم الجمعة .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل الثاني عشر : المولد أمر يستحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل الثالث عشر : أن المولد اجتماع ذكر وصدقة .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل الرابع عشر : أن الله قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أنباء الرسل لتثبيت فؤاده إلخ .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل الخامس عشر : ليس كل ما لم يفعله السلف بدعة إلخ .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل السادس عشر : ليست كل بدعة محرمة إلخ .
- مناقشة هذا الدليل بعدة وقفات .
- الدليل الثامن عشر : احتجاجه بقول الشافعي ما أحدث وخالف نصاً فهو البدعة الضالة إلخ .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل التاسع عشر : كل ما تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة ولم يشتمل على منكر فهو من الدين .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل العشرون : الاحتفال بالمولد احياء لذكرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلخ .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- الدليل الحادي والعشرون : مشروعية المولد إنما تكون فيما خلا من المنكرات المذمومة إلخ .
- مناقشة هذا الدليل ثم رده .
- افتراء المالكي على شيخ الإسلام ابن تيمة بإجازته المولد .
- رد ذلك عليه بنقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في البدعة ، ورده تقسيمها وإنكاره لمجموعة من البدع ومنها بدعة المولد .
- مفهوم المولد في نظر المالكي .
- مناقشة هذا المفهوم بعدة وقفات .
- رأي المالكي في القيام في المولد .
- مناقشة هذا الرأي بعد وقفات .
- استحسان المالكي القيام في المولد لمجموعة وجوه جرى مناقشتها ثم ردها .(129/207)
مولد ابن الديبع ومافيه من منكرات .
فتوى الشيخ محمد رشيد رضا في حكم المولد بصفة عامة .
ورأيه في مولد ابن الديبع .
- نصيحتنا للمالكي .
فتوى للشيخ تاج الدين الفاكهاني في حكم المولد .
شكر واعتذار .
المراجع .
المحتويات .
~~~~~(129/208)
حول المولد النبوي
مرزوق سالم الغامدي
مما لاشك فيه أن أياماً كثيرة وعظيمة في حياة الأمة الإسلامية ، فرح بها المتقدمون ، ويفرح بها المسلمون المتأخرون إلى يوم القيامة ، ومن هذه الأيام يوم المولد النبوي ، يوم الإسراء والمعراج ، ويوم فتح مكة ، ويوم الانتصار في بدر ، وأيام أخرى مجيدة . ولاشك أيضاً أن كل مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراُ ـ ، قد يحزن حزناً عميقاً يوم وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، ويود المسلم المحب لنبيه حباً حقيقياً لو أنه خسر ماله وأهله ليحظى برؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو ساعة من نهار ، كما صح الخبر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له قال : ( من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله ) .
* فما هي الكيفية التي يحزن بها ، أو يفرح بها المسلم ؟
* وما هي حدود الفرح والحزن ؟ وبمن نقتدي في التعبير عن ذلك في خلال حياتنا ؟.
ولكي نتعرف على الإجابة الصحيحة ، لابد أن نعرف ما يلي :
• لقد منع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل المدينة من اتخاذ يومين يلعبون فيهما كل عام ، على حسب العادة المتبعة عندهم ، وقال لهم : ( إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر ) ، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه . هذا من جهة.(130/1)
• ومن جهة أخرى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طول حياته ـ وهو الحريص على ما ينفع أمته ويسعدهم في الدنيا والآخرة ـ لم يأمر قرابته ولا صحابته ـ رضي الله عنهم أجمعين • بالاجتماع أو الاحتفال والفرح في ذكرى يوم مولده ، أو يوم الإسراء والمعراج ، أو يوم سبعة عشر رمضان ، أو أي يوم آخر من الأيام التي يحتفل بها الآن ، ولا في غيرها من المناسبات العديدة ، مع وجود الداعي والمقتضي لذلك ، وعدم وجود مانع لإقامة الاحتفال أو الاجتماع .
• من ذلك ومن غيره من الأدلة فهم العلماء من سلفنا الصالح : أن اتخاذ يوم للاحتفال أو الاجتماع لا يكون إلا عن طريق الوحي ، وأن ذلك تشريع وليس من العادات المباحة التي يحق للناس فعلها ، فمثل ذلك مثل القبلة ، والصيام ، ومشاعر الحج ، والآذان والإقامة ، والغسل من الجنابة ...... إلخ .
• والعيد : هو اسم لكل ما يعود من الاجتماع ، فلا يصح تخصيص يوماً للاجتماع للحزن ، أو للذكر ، أو للفرح والسرور ، إلا بدليل شرعي ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إجماع الصحابة ، ولا يتوفر ذلك الدليل إلا ليومي : الفطر والأضحى من كل عام ، وليوم الجمعة من كل أسبوع .
فهذه الأيام الثلاثة هي أعيادنا نحن أمة الإسلام لا رابع لها البتة .
• ولقد مرت القرون الثلاثة وجزء من القرن الرابع الهجري والأمة كلها على هذا الأمر ، لا تعرف إلا عيدين حوليين وعيد أسبوعي حتى ظهرت الدولة العبيدية
في مصر ، والتي تمت بالدولة الفاطمية ، فأقاموا احتفالات المولد النبوي ، وعدة موالد أخرى ، كما ذكر ذلك أهل العلم ومنهم : المقريزي في كتابه ـ الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ـ .(130/2)
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في كتابه البداية والنهاية ـ الجزء الحادي عشر ـ عن تلك الدولة العبيدية : ( ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد ، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد ) . ثم ذكر فتوى علماء القرن الخامس عن حكام تلك الدولة ، والتي جاء فيها : ( أن هؤلاء أدعياء خوارج ولا نسب لهم في ولد علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، ولا يتعلقون بسبب ، وأنه منزه عن باطلهم ، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور ، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين ، وأن هذا الحاكم بأمر الله وسلفه كفار فساق فجار ملحدون ، زنادقه معطلون ، وللإسلام جاحدون .... ا.هـ . ) .
فهؤلاء الحكام العبيديون أبناء اليهودي : عبيدالله بن ميمون القداح ، هم أول من احتفل بالمولد النبوي . فهل ترضى أخي المسلم أن يكون هؤلاء العبيديون قدوتك فتحتفل بالمولد النبوي ؟ .
وإنني أتساءل : هل هؤلاء العبيديون أبناء اليهودي : ابن ميمون القداح ، حقاً يحتفلون فرحاً بالمولد النبوي كل عام في الثاني عشر من ربيع الأول ؟ أم هم يحتفلون فرحاً بموت النبي ؟ لأن اليهود يعتبرون أنفسهم قتلوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة المسمومة .
فهم عليهم لعنة الله والملآئكة والناس أجمعين ، يفرحون بموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإن من العجيب أن يكون أول من ضع بذرة عقيدة التشيع والرفض هو اليهودي : عبدالله بن سبأ ، وأول من ابتدع بدعة المولد النبوي هم العبيديون أبناء اليهودي عبيدالله بن ميمون القداح !!!
• وإن مما يلفت الإنتباه أيضاً ، عدم ثبوت تاريخ يوم ولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأيضاً عدم ثبوت يوم الإسراء والمعراج ، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه لم يخصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذين اليومين اجتماعاً أو احتفالاً فكانت تمر هذه الإيام كغيرها من الأيام .(130/3)
وكذلك كان في عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عهد الأئمة المحدثين ، وفي عهد الأئمة الأربعة ومنهم الفقيه الهاشمي المطلبي : محمد بن إدريس الشافعي ـ رضي الله عنهم ورحمهم رحمة واسعة ـ ، فهل هؤلاء على الصواب أم العبيديون ؟!! . ( أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياُ على صراط مستقيم ) .
• إذاً الأولى للمسلمين ترك ما تركه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مترك ما تركه آل بيته وصحابته ـ رضي الله عنهم أجمعين وترك ما تركه العلماء المحدثون ـ البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة وإسحاق وابن المبارك وسفيان ـ ، وترك ما تركه الأئمة الأربع ـ رحمهم الله أجمعين . فهؤلاء هم القدوة وعلى رأسهم سيدنا وأسوتنا وقدوتنا محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وسلم .
• إن الواقع الذي تعيشه الأمة يبين لنا أن تصنيف الناس في طريقة تعبيرهم للفرح بالمولد النبوي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المتمسكون بالسنة النبوية المتبعون للحديث النبوي الثابت . هؤلاء يقرأون السيرة ويستفيدون منها ويعلمونها لأولادهم ، مستقيمون على شرع الله قدر المستطاع ، ويجتنبون ما نهى الله عنه ، لايفعلون أي قربة إلا إذا ثبت بالدليل الصحيح . يصلون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلاً ونهاراً ويذكرونه في كل أوقاتهم ، لايغيب عنهم منهجه وسنته وسيرته ، يتمنون رؤيته ولو خسروا أموالهم وأولادهم ، وقافين عند سنته لايتجاوزونها ، لسان حالهم يقول : نفعل ما فعله ونترك ما تركه رجاء أن تدركنا شفاعته يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .(130/4)
القسم الثاني : هم أهل الأهواء ، وأصحاب الفرق الضالة ، وأصحاب الأفكار الهدامة كالعلمانية والبعثية ، وأصحاب السلطة التي تحكم بغير ما أنزل الله وتوالي أعداء الله ولا تطبق شرع الله وتعادي الصالحين والمصلحين ، وكل من يعلن الفسق والفجور باسم الفن ، إلى غير هؤلاء من الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا الاسم ، أو ما هو مكتوب في هوياتهم فقط من أصحاب الملل التي خلعت ربقة الإسلام من أعناقها . نسأل الله العافية .
فأصحاب هذا القسم يهتمون اهتماماً بالغاً بالاحتفالات بالموالد وغيرها من المناسبات البدعية ، ويمارسون خلال هذه الاحتفالات بعض المنكرات ، ويستغيثون بالأموات ، ويعتقدون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر هذه الاحتفالات ـ أو روحه الشريفة فقط هي التي تحضر كما يزعم بعضهم ـ . وكل هذه الأمور عشتها وشاهدتها بنفسي حينما كنت من أحد الأتباع قبل أن يمن الله عليَّ بالهداية . فقدوة هؤلاء هم العبيدون وعبدالله بن سبأ ، وتلاميذ أرسطو وأفلاطون كالبسطامي وابن عربي والحلاج ، وقدوتهم أيضاً الكنيسة والرهبان . والعياذ بالله من ذلك .
وأصحاب هذا القسم إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ، كأنهم خشب مسندة ، شعار أكثرهم : الغاية تبرر الوسيلة ، يحادعون الله والذين آمنوا ، ويستهزئون بالصالحين، أسأل الله العظيم أن يهدي جميع المسلمين للصراط المستقيم.
القسم الثالث : أناس طيبون ، غلب عليهم حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحب آل بيته الطاهرين وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ، فاجتمعوا يوم المولد وذكروا الله وقرأوا السيرة أو بعضاً منها ، وصلوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم انفضوا وانصرفوا من مجلسهم راجين من الله القبول ، متمنين أن ينالوا الشفاعة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(130/5)
فهؤلاء يقال لهم : عسى أن يثيبكم على نيتكم وأن يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم ، ولكن نذكرهم بالثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليفعلوا مثله حتى يرافقوه في الجنة ، فحينما علموا عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقالوها وقالوا : هذا النبي قد غفرله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وقال أحدهم : لا أصوم الدهر أبداً ، وقال الثاني : أقوم الليل أبداً ، وقال الثالث : لا أتزوج النساء . - أرادوا بذلك التقرب إلى الله وحصد الحسنات ـ . فحينما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، غضب وقام خاطباً وقال : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ؟ ألا إني أخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم أفطر ، ,اصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
وهذا فيه دلالة عظيمة على أن القربات لا يكفي فيها حسن النية ، ولاتكون بالرغبات الشخصية ، ولا بالأراء و الأذواق وإنما تكون بما وافق سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثابتة عنه ليس إلا .
من هذا الموقف ومن غيره من المواقف التي لا يسع المجال لذكرها عرف الصحابة معنى الإلتزام بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهذا عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يرى في المسجد جماعة قد تحلقت وقد ترأس عليها أحدهم ، وقد جمعوا حصى أمام كل واحد منهم ، فيقول زعيمهم هذا سبحوا مائة ، هللوا مائة ، وهم ينفذون أمره ويعدون تسبيحهم وتهليلهم بالحصى . فماذا قال لهم أبو عبدالرحمن ـ رضي الله عنه ـ ؟ قال : ( عدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبلى ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلاتين ؟ ) قالوا : والله ما أردنا إلا الخير . فقال : ( وكم من مريد للخير لا يدركه أو لا يصيبه ) ، ثم فرقهم .(130/6)
وكذلك فهم التابعون والعلماء المحدثون والأئمة الأربعة ـ رحمهم الله جميعاً ـ . هذا رجل قام يصلي ركعات بعد السنة الراتبة في الفجر ، فنهاه أحد الحاضرين في المسجد ، فقال الرجل : هل يعذبني الله على الصلاة ؟ فقيل له : لا ، ولكن يعذبك على مخالفة السنة .
وآخر يريد أن يحرم من عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنهاه الإمام مالك
ـ رحمه الله ـ وقال له : أحرم من حيث من أحرم رسول الله ، إني أخشى عليك الفتنة، فقال الرجل : وأي فتنة في أميال أزيدها ؟ فقال له الإمام : أي فتنة أعظم من أنك ترى أنك هديت إلى أمر قصر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ .
إني سمعت الله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أتصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . ثم أنني أوجه هذه الأسئلة لأصحاب القسم الثالث ولغيرهم :
س1/ ألا يوجد في السنة النبوية ما يحقق لهم الزيادة في محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحقق لهم شفاعته ؟
س2/ ألم يحقق الصحابة والآل ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون الاحتفال بيوم مولده ؟
س3/ ألا يمكن دراسة السيرة والشمائل طوال العام لنتعظ بها ونتخذها نبراساً لنا في الحياة ؟
س4/ أليس لنا في رسول الله أسوة حسنة ؟ وأليس في صحابته وآل بيته قدوة لنا ؟(130/7)
يا أيها الأخ المسلم : إن كنت من القسم الأول فاحمد الله على ذلك ، فإنه يرجى لك الفوز والنجاة ، وعليك أن تنكر على كل مبتدع على حد سواء ، فلا ينبغي لك أن تنكر على بدعة ما ، وتسكت على أخرى تزلفاً لسلطان أو وطنية أو عصبية جاهلية ، فدعاء ختم القرآن في صلاة التراويح بدعة ، والدعاء للسلاطين والحكام بالتعيين بالاسم على منابر الجمعة بدعة ، وكذلك الدعاء لهم في دعاء القنوت بدعة ، والمهرجان بدعة ، والنيروز وشم النسيم بدعة ، واليوم الوطني بدعة ، وكل الأيام الوطنية أو العالمية أو المرورية أو الصحية أو غيرها من المسميات كلها بدع وأعياد محدثة ما أنزل الله بها من سلطان ، وكذلك اليوبيل الفضي والذهبي والماسي كلها أعياد بدعية .
جاء في الفتوى الصادره من دار الافتاء برقم 17779 وتاريخ 20/3/1416هـ < ... لا تجوز إقامة الحفلات وتوزيع الهدايا وغيرها بمناسبة مرور سنين على ولادة الشخص أو فتح محل من المحلات أو مدرسة من المدارس أو أي مشروع من المشاريع لأن هذا من إحداث الأعياد البدعية في الإسلام ولأنه تشبه بالكفار في عمل مثل هذه الأشياء ، فالواجب ترك ذلك ، والتحذير منه > .(130/8)
أما إذا كنت أخي المسلم من القسم الثالث ، فعليك ألا تعادي أهل القسم الأول ، واحذر من اتهامهم بالتقصير في محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أن ترميهم بما ليس فيهم ، وإنما عليك أن تبغض أهل الصنف الثاني المذكورين سابقاً ، وألا تغتر بما يظهرونه أو يقولونه عن محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاحتفال بمولده فتتغاضى عن بلاويهم وطاماتهم لأنهم اتفقوا معك فس بدعة الاحتفال بليلة المولد ، وعليك أن تزن الأمور بميزان الشرع ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وعليك موالاة من يقيمون شرع الله في نفوسهم وقلوبهم وحياتهم واضعاً نصب عينيك قول الله تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
أسأل الله العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
منا قشة بعض الشبه
من الأمور التي لا يختلف عليها اثنان ، أن كل صاحب بدعة بعد أن يبتدع بدعته يبحث في القرآن والسنة وينقب عن أي شيء ليتخذه دليلاً ـ بزعمه ـ على بدعته ليظهر أمام الناس أنه ممن يتبع الدليل ويستجيب لأمر الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ولو نظرت أخي المسلم فيما يشغب به المستدلون على جواز الاحتفال بالمولد النبوي لوجدت أن أدلتهم لا تخرج عن أحد أربع حالات :
1- أدلة صحيحة لا تصلح للاستدلال على مرادهم .
2- الاستدلال بالكذب والبهتان .
3- الاستدلال بفعل الكفار .
4- شبه متفرقة .
والآن نناقش بعض ما أوردوه على جواز الاحتفال بالمولد باختصار :
1- أدلة صحيحة لا تصلح للاستشهاد بها .
من هذه الأدلة قولهم : قال الله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) وحيث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمةً للعالمين ، والله قد أمرنا بالفرح به ، فلذلك نحن نفرح ونحتفل بيوم مولده .(130/9)
والرد على هؤلاء بأن يقال لهم : من قال أن الفرح في هذه الآية معناه الاحتفال بالمولد ؟ انظروا إلى كتب التفسير كلها فهي موجودة ومتوفرة والحمد لله ، فإنها لم تذكر هذا المعنى الذي تذكرونه أنتم ـ هذا من جهة ـ ومن جهة أخرى يقال لهم:
ألم تنزل هذه الآية على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فلماذا لم يفعل هذا المولد استجابة لأمر الله ؟ ولماذا لم يأمر أصحابه وآل بيته بذلك ؟ وهو الحريص على أمته بأن يعلمهم ما ينفعهم ويقربهم إلى الله . ثم لماذا لم يفهم هذا الفهم الذي فهمتموه من هذه الآية كبار التابعين والمفسرين ، وكذلك العلماء والمحدثون ، وكذلك الأئمة الأربعة ؟ فهل هؤلاء قصروا عن أمرٍ وفهمٍ أنتم يالخلوف توصلتم إليه ؟ .
وما قيل عن هذا الاستدلال ، يقال أيضاً عن الأدلة الأخرى مثل قول الله تعالى: ( وذكرهم بأيام الله ) . وصيام يوم الإثنين من كل أسبوع الذي كان يصومه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحينما سئل عنه قال : ( ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه ) . فالصحابة والآل والعلماء والمحدثون والأئمة الأربعة وأصحاب الكتب الستة كلهم فهموا من هذا الحديث مشروعية صيام يوم الاثنين من كل أسبوع وخاصة أنه جاء حديث آخر يبين أن الأعمال تعرض يومي الاثنين والخميس ، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومهما شكراً لله ولأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم . وأصغر طالب علم أيضاً فهم هذا الفهم ، أما أهل البدع فحولوه إلى أن المراد به الاحتفال بالمولد النبوي ، بينما لا يوجد ما يفيد ذلك لا من قريب ولا من بعيد في هذا الحديث ولا في حديث صيام يوم عاشوراء . فالاستدلال باطل ، والقياس فاسد والحجة واضحة والحمد لله .
وإنني أسأل هؤلاء المبتدعة عن هذه الأسئلة :(130/10)
س/ هل هذا الفهم والقول الذي تستدلون به علم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ وهل هذا الأمر علم به الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ؟ وهل هذا الذي تقولونه علم به أصحاب الكتب الستة ، والأئمة الأربعة ، وعلماء القرون الثلاثة المفضلة ؟
فإن أجبتم بنعم علموا ذلك . أقول لكم هل احتفلوا بيوم مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم تركوا ذلك ؟ والإجابة بالتأكيد : أنهم تركوا ذلك ولم يحتفلوا . إذاً نقول لكم : يسعكم ما وسع القوم ، وعليكم أن تقدوا بهم في ترك ما تركوا فإن في اتباعهم السلامة .
2- الاستدلال بالكذب والبهتان .
من هذه الأدلة قولهم : أن أبا لهب يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين ، لأنه أعتق ثويبة حينما بُشر بولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإذا كان هذا الكافر يخفف عنه العذاب وهو في جهنم لفرحه بمولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف بالمؤمن الموحد . وقبل أن أذكر الرد على هذه الفرية أنقل لكم ما رواه البخاري في كتاب النكاح الباب ( 19 ) عن عروة بن الزبير حيث قال : ( قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب ، وكان أبو لهب أعتقها . فأرضعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرحبية ، قال له : ماذا لقيت ؟ قال له أبو لهب : لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بإعتاقتي ثويبة . أ . هـ ) .
وجاء في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر : أن ثويبة التي أرضعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي مولاة أبي لهب ، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلها وهي بمكة وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها ، فلما هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعتقها أبو لهب ..... إلخ أ . هـ .
يلاحظ من هاتين الروايتين عن ثويبة ما يلي :(130/11)
1/ أن أبا لهب عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لم يعتق ثويبة يوم مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليس في الرواية حتى إشارة من بعيد تشير إلى ذلك ، إنما أعتقها بعد الهجرة .
2/ أن عروة روى رؤيا منام عن شخص مجهول ، قيل أن سبب عدم ذكر اسمه لأنه مشرك .
3/ أن عروة تابعي . والتابعي لا تقبل روايته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يذكر اسم الصحابي الذي أخبره بالرواية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا أمر معروف عن طلاب العلم ، فكيف إذا كانت الرواية من تابعي ، عن مجهول ، تحكي رؤيا منام ؟؟؟ ظلمات بعضها فوق بعض .
4/ وهل يصح أن يرد المسلم أمراً شرعياً ثابتاً بالقرآن والسنة برؤيا منام ؟ فالكافر المعاند المكابر ليس له في الآخرة إلا العذاب الشديد في جهنم . وأبو لهب نزل عليه الحكم بأنه سيصلى ناراً ذات لهب وهو حي يرزق ، لأنه كان يكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكره الإسلام والمسلمين . فهل نرد ذلك كله برؤيا منام !!!
فلاحظ أيها الأخ المسلم كيف تجرأ هؤلاء المبتدعة على تلفيق هذا الخبر وتفصيله على حسب هواهم ، فلا أدري هل هم يقتدون بأبي لهب أيضاً .
3/ الاستدلال بأفعال الكفار .
مثل الاستدلال بفعل النصارى واحتفالهم بعيد الميلاد ؟ على اعتبار أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الرسل ، فمن باب أولى أن يحتفل بعيد ميلاده ، والاستدلال بما تفعله دول الكفر في تمجيد وتعظيم زعمائها وكبرائها ، فمن باب أولى أن يمجد سيد ولد آدم ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقول له : من أسلم طريقة ؟ من يقتدي بهؤلاء الكفار ، أمن يقتدي بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وعبدالله ابن عباس وبقية الآل والصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ؟؟ .
4/ شبه متنوعة .
أ- الاستدلال بجزء من حديث ، وهو : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) .(130/12)
فنقول لهم : أولاً : عليكم الاطلاع على الحديث من أوله إلى آخره ، والقصة التي وقعت وكانت سبباً في ذكره ، وشرح العلماء له ، وفقه الحديث وما يدل عليه حتى يتم الاستشهاد به في الموضع الصحيح .
وثانياً : تكملة الحديث : ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها .... إلخ ) ، فنقول : وما يدرك أيها المبتدع أن ما تفعله سنة حسنة أم سنة سيئة ؟ وهل لديك من الله برهان على ذلك ؟ .
ب- الاستدلال باجتماع الصحابة في عهد عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في صلاة التراويح في رمضان ، وبجمع المصاحف في مصحف واحد في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ وبأمور أخرى فعلها الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم ـ .
فالجواب على ذلك : أن نقول لهم : يا أيها المبتدعة لقد أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نقتدي بأبي بكر وعمر . وأمر نا باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما هو معروف ومعلوم للجميع .. فهل تضعون أنفسكم في منزلتهم ؟ وهل تعتبرون أنفسكم من الخلفاء الراشدين ؟ وتريدون من الناس اتباعكم ؟؟؟(130/13)
ج- قال أحد المذيعين في برنامج في قناة فضائية ، حينما اتصل به شخص ليلة الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام 1422هـ مبيناً أن في بلده يحصل منكرات عظيمة وظاهرة ، وفساد كبير في أماكن الاحتفالات بالمولد النبوي .. فقاطعه المذيع وقال : حتى في عيد الأضحى وعيد الفطر يحصل منكرات فهل نلغي العيدين ؟ وهذا فيه من المغالطة ما فيه ، لأن المسلمين في عيد الفطر أو عيد الأضحى يغتسلون ويتطيبون ويخرجون مهللين ومكبرين ، ثم يجتمعون للصلاة ، وبعد أداء الصلاة يعودون إلى بيوتهم .. هذا هو العيد عندنا نحن أمة الإسلام ، بالإضافة إلى النحر في عيد الأضحى المبارك ، ورمي جمرة العقبة والطواف والسعي بالنسبة للحجاج .. هذا هو العيد وهذه شعائره . فأين المنكرات في هذا أيها المذيع ؟ وإن كنت تقصد ما يفعله الناس بعد العيد ، فيما يسمى سهرات ليالي العيد ، فهذا ليس من العيد ولا يسمى هذا الفعل عيدا ً . بينما الذي يفعل في الموالد من منكرات وأمور مخالفة للشرع ، يكون في وقت الاحتفال وفي مواقع الاحتفال ، وهذا أمر مشتهر ومنتشر في كثير من بلدان المسلمين مع الأسف الشديد . فأين هذا من ذاك أيها المذيع ؟!!!
- وأخيراً : أليس من الأجدر والأولى أن يكون الاحتفال بمولد الشخص في حياته ثم إذا مات يتم الامتناع عن الاحتفال بمولده ، خاصة إذا كان يوم وفاته هو يوم ولادته !!! فاعتبروا يا أولى الأبصار .
كذب وبهتان
إن سبب تركي اتباع الصوفية ـ والحمد لله ـ هو اعتماد الكبراء والزعماء ومن شايعهم على الأكاذيب والخرافات والمنامات ، ولكن كل مطلع على السيرة الصحيحة والأحاديث الصحيحة والتفسير الصحيح يكتشف مدى ما وصل إليه هؤلاء من الجرأة والكذب على الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ـ فمن الأكاذيب التي يرددونها دائماً قولهم :(130/14)
1/ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلق من نور ، وأنه إذا مشى في الشمس ليس له ظل . وهذا القول مخالف لقول الله تعالى : ( قل إنما أن بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ) ، وغيرها من الآيات والأحاديث التي تثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر ، وأن البشر كلهم خلقوا من طين ، وأن الذين خلقوا من نور هم الملائكة . وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس من الملائكة . هذا من ناحية . أما من ناحية أخرى فأقول لهؤلاء : كيف يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له ظل ، ولا يذكر ذلك الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وهم قد وصفوه وصفاً دقيقاً ؟ ثم ألم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرتدي لباساً أم كانت الملابس التي عليه هي الأخرى ليس لها ظل ؟!!!
2/ ومن بهتانهم قولهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم الخمس التي في قوله تعالى : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) .
وأيضاً قولهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في قبره يعلم ما في قلوب من يقفون عند قبره ويعرف أسمائهم ويردد السلام بصوت مسموع يسمعه كل من يسلم عليه !!!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم . فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم من الغيب إلا ما يطلعه الله عليه ، قال تعالى : ( قال إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ) وقال تعالى على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) .(130/15)
وبالرجوع إلى السنة الصحيحة والسيرة الثابتة يتضح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يعلم الغيب ، ولم يكن يعلم من خلف الباب حينما يطرق للاستئذان للدخول عليه . بل إن الكلب دخل بيته ، مما سبب منع دخول جبريل عليه السلام ، وهو لا يدري عنه . وكانت تحدث بعض الأمور للصحابة لايعلم عنها ، مثل زواج عبدالرحمن بن عوف ، وموت المرأة التي كانت تقم المسجد .. إلى غير ذلك من الأحداث الكثيرة التي لا يسع المجال لذكرها . فإذا كان هذا في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكيف وهو في القبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
أما رد السلام بصوت مسموع فهذه فرية لا تستحق منا قشتها ، لوضوح الكذب فيها وضوح الشمس في رابعة النهار.
3/ ومن بهتانهم أيضاً ، الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى حيث يدّعون أن أسماء الله الحسنى هي أسماء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويشغبون على الناس بما ورد في القرآن من صفات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مثل : بشير ونذير ورؤوف ورحيم وسراج منير . وفي هذا مغالطة واضحة .
لقد وصف الله الإنسان في سورة الإنسان بقوله تعالى : ( إنا حلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ) ، فهل يقال لكل إنسان أن من أسمائه السميع والبصير ؟ لا أظن عاقلاً يقول ذلك ، فهاتان صفتان لكل إنسان . والسميع والبصير اسمان للرحمن سبحانه وتعالى . وقد قال الله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، وقال لموسى : ( إنك أنت الأعلى ) ، فهل { الأعلى } اسم من أسماء موسى ؟ كلا إنه صفة لما سيكون عليه أمر موسى– عليه السلام – أمام فرعون – عليه لعنة الله -.
ولو فرضنا أن الصفات التي جاءت في القرآن تصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه سراج منير ورؤوف رحيم إلى آخرها ، لو فرضنا أنها أسماء للنبي(130/16)
ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يزعمون ، فلماذا لا يقفون عندها فقط ؟ لماذا يقولون أن الأسماء الإلهية هي أسماء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل يرضى المسلم أن يقول للنبي أنه هو الله ، الرحمن ، المهيمن ، الجبار ، المتكبر ، البارىء ، المصور ، المحيي ، المميت ، الرزاق ، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى ؟؟؟ سبحان الله عمّا يشركون .
4/ ومن كذبهم إتهام الملائكة بأنهم خروا سجداً وبكيّاً حينما رأوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة المعراج ، وأصغر طالب علم إذا قرأ الحديث الصحيح الذي فيه وصف المعراج ، ينكشف له زيف وكذب هذا الإدعاء ، فالملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون ما يؤمرون . فلا يجوز في حقهم محقرات الذنوب حتى يوصموا بالسجود لغير الله عز وجل .
ولقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة لله الذي أمرهم بالسجود له . وهو تشريق لآدم - عليه السلام - . فهم يطيعون أمر الله ويسبحونه ليلاً ونهاراً لا يفترون . فمن أين لهؤلاء اتهام الملائكة كلهم بالسجود للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع البكاء ؟!!
5/ إدعاءهم كذباً وزوراً أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر إلى مكان الإحتفالات بمولده – أو أن روحه فقط هي التي تحضر كما يقول بعضهم - . فحينما كنت أحضر تلك الإحتفالات معهم ، وعندما يذكر القاص قصة المولد ويذكر حروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بطن أمه للدنيا ، ننهض نحن الحاضرون واقفين مرددين بصوت مرتفع ،
مرحباً يا نور عيني مرحباً مرحباً جد الحسين مرحباً
ويرش ماء الورد على الجميع ، ويؤتى بالبخور ، ونستمر في هذا الوضع ما يقارب خمس دقائق ثم نعود ونجلس في أماكننا ويكمل الإحتفال . فكأن هؤلاء هم الذين يتحكمون في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيخرجونه من قبره عند ذكر ولادته ليحضر إليهم . أو هم الذين يتحكمون في روحه الشريفة ، وينزلونها من الفردوس الأعلى لتحضر احتفالاتهم !!! نسأل الله العافية .(130/17)
وللحق أقول أن بعض الأتباع لا يرضى بهذه الأمور ولا يعتقدها . فهم لا ينطبق عليهم ما ذكرته عن الصوفية ، بل إن من هؤلاء الاتباع أناساً صالحين مصلحين ، ومنهم العباد والزهاد والذين يحافظون على الصلاة في المسجد والذين يحسنون إلى الناس ويتصدقون على الفقراء . وإنما يفعلون هذه الاحتفالات أو يشاركون فيها ظناً منهم أن هذا من الخلاف الجائز بين العلماء ، وأنه من الأمور الإجتهادية التي يسع الناس فعلها . ولكن إذا ما عرف بعضهم الحق واطلع على عقائد هؤلاء الصوفية آب ورجع وتاب إلى الله من المشاركة في تلك الاحتفالات .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و اجعلنا من عبادك الصالحين ، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا واجعل خير أيامنا يوم لقائك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك .(130/18)
دعاوى المناوئين
لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عرض ونقض
إعداد
الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
(لست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمّته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها على الرأس والعين، ولأضربنّ الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق..)(1).
مقدمة
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون } (2)(3).
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (4).
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (5) (6).
أما بعد:
فسيكون الحديث في هذه المقدمة شاملاً للأمور التالية:
أهمية البحث والدواعي لاختياره.
خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث.
__________
(1) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب) - القسم الخامس (الرسائل الشخصية) ص 252.
(3) آل عمران: آية 102.
(4) النساء : آية 1.
(5) الأحزاب : آية 71.
(6) هذه الخطبة المسماة بـ (خطبة الحاجة) انظر رسالة الشيخ ناصر الدين الألباني بعنوان (خطبة الحاجة).(131/1)
جمع المادة العلمية.
أما عن أهمية هذا البحث، فأثناء مدة الاطلاع والبحث عن اختيار موضوع مناسب لتقديمه إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، للحصول على درجة الماجستير، لاحظتُ - من خلال تتبع بعض فهارس المكتبات العربية والإصدارات الثقافية عموماً - كثرة المؤلفات والرسائل ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1) رحمه الله وما تضمنته تلك المؤلفات والرسائل من الأكاذيب والشبهات على هذه الدعوة السلفية التي جددها هذا الشيخ الإمام، ثم علمت - من بعض الثقات - بانتشار هذه المؤلفات في كثير من بلاد المسلمين، وما يحصل لها من القبول والرواج عند فئات كثيرة من المسلمين، خاصة في زماننا هذا الذي نشطت في الصد عن سبيل الله طوائف المبتدعة وأهل الأهواء من صوفيّة ورافضة وأشعرية ونحوهم، وناهضت كل من يدعو إلى عقيدة السّلف الصالح، وناصبته العداء.
ولما عرضتُ هذا الموضوع على بعض أهل العلم وجدت منهم تشجيعاً كبيراً دفعني إلى اختياره والإعداد له، مع قناعتي التامة – ابتداءً - بسعة الموضوع وأهميته، وقصر باع كاتب هذه السطور وضعفه..
ويمكن إيجاز أهمية هذا الموضوع بما يلي:
__________
(1) ألفت كتب كثيرة في بيان ترجمة وسيرة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115هـ - 1206هـ) منها :
- (روضة الأفكار) لابن غنام.
- (عنوان المجد) لابن بشر.
- (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي.
- (الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره) لعبد الله العثيمين.
- (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) لصالح العبود.
- (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) لأحمد حجر آل بوطامي. وغيرها.(131/2)
(1) …كثرة المؤلفات والرسائل التي صنفت ضد دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب السلفية وما حوته من المفتريات التي ألصقت بهذه الدعوة، وما تضمنته من الشبهات المثارة حولها، فلقد سوّد خصوم هذه الدعوة السَّلفيَّة كمية هائلة من الكتب والمؤلفات، ضد دعوة الشيخ وأنصارها – سواء المطبوع منها أو المخطوط -، وأفردوها بالتصنيف والتأليف، وإن كانت هذه المؤلفات – في الحقيقة – مثل الزبد الذي يذهب جفاء …
إلا أننا في عصر قد فشى فيه الجهل، واستحكم عليه التقليد الأعمى فظهرت لأجل ذلك البدعيات، وعمت الشركيات بمختلف أنواعها، مما جعل لمثل تلك المؤلفات قبولاً وانتشاراً عند طوائف من المسلمين.(131/3)
كما أن هناك مراجع وكتب في مختلف العلوم، ولا تخلو منها مكتبة – غالباً -، قد تضمنت شيئاً من الطعن وإثارة الشبهات على هذه الدعوة السَّلفيَّة ومجددها وأنصارها، كما هو ظاهر مثلاً فيما كتبه ابن عابدين في حاشيته(1) والصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين (2)، والرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني (3) ومرآة الجزيرة العربية لأيوب صبري باشا (4)، وتاريخ الدولة العثمانية لمحمد فريد بك (5) وتاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة(6) والفكر الإسلامي في تطوره لمحمد البهي (7)
__________
(1) زعم ابن عابدين أن الوهابيين خوارج … انظر حاشيته على (الدر المختار) ط2، مكتبة الحلبي. مصر 1386, 4 / 262.
(2) شنع الصاوي على الوهابيين ورماهم بأنهم خوارج … انظر حاشيته على تفسير (الجلالين) دار إحياء التراث، بيروت، 3 / 7 30، 308.
(3) وصف البتنوني – في رحلته – الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه أخذ يذيع عقيدة جديدة بين المسلمين، وغلى فيها … انظر (الرحلة الحجازية) ط3، مكتبة المعارف، الطائف، ص87.
(4) انظر مغالطات صاحب (مرآة جزيرة العرب) ترجمة د. أحمد متولي والمرسي، ط1، دار الرياض، بالرياض، 1403هـ ص 140، 141.
(5) تضمن كلام صاحب (تاريخ الدولة العثمانية) الكثير من المغالطات، انظر الكتاب، تحقيق إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، 1401هـ ص 404 – 406.
(6) ادعى أبو زهرة جملة من المفتريات ضد هذه الدعوة السلفية … انظر كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) دار الفكر العربي، ص 208 – 211 وتلقف تلك المفتريات محمد الطاهر النيفر وسطرها في كتابه (أهم الفرق الإسلامية). الشركة التونسية – تونس، 1974 م ص 101 – 104.
(7) لقد كتب د. محمد البهي فصلاً عن محمد بن عبد الوهاب في كتابه (الفكر الإسلامي في تطوره)، ط1 دار الفكر، 1971 م ص 75 – 90.
وقد تحامل فيه – عفا الله عنه – على الوهابية، ووصفهم بما ليس فيهم فرد عليه الدكتور محمد خليل هراس بكتاب سماه (الحركة الوهابية) حيث كشف الحق في ذلك، وأزال ذلك الباطل الذي تلقفه البهي أو فهمه عن الوهابية.(131/4)
، وغيرها.
بل إن بعض الموسوعات العربية، قد تضمنت بعض المعلومات الخاطئة عن هذه الدعوة السلفية (1).
(2) …مع كثرة المؤلفات المناوئة وانتشارها في هذا الزمان، لا نجد في المقابل كثرة وانتشاراً للكتب والرسائل التي سطّرها أئمة هذه الدعوة السلفية، في الرد على اعتراضات المناوئين في هذا الزمان - أيضاً - بل عن الكثير من كتب أئمة الدعوة مما سبق طبعه، أصبح الآن عزيز المنال نادر الوجود، وأذكر منها على سبيل المثال: كتاب (تأسيس التقديس في الرد على داود ابن جرجيس) (2) للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله (3) وكتاب (منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس)(4) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله(5)
__________
(1) انظر على سبيل المثال :
- محمد فريد وجدي (دائرة معارف القرن العشرين)، ط3، دار المعرفة، بيروت 1971م، 10/ 869، 870، (مادة وهابية).
- محمد شفيق غربال (الموسوعة العربية الميسرة)، دار نهضة لبنان، بيروت، 1401هـ ، ص 1968م (مادة وهابية).
(2) طبع مرة واحدة، دار إحياء الكتب العربية مصر 1344هـ.
(3) ولد الشيخ أبو بطين في روضة سدير سنة 1194هـ، وتوفي في شقراء سنة 1282هـ، وتولى القضاء في كثير من المناطق، وله عده مؤلفات، وقد أثنى عليه كثير من معاصريه، وأطلق عليه لقب مفتي الديار النجدية.
انظر : عبد الله بن عبد الرحمن البسام، (علماء نجد خلال ستة قرون)، ط1، دار اليمامة الرياض، 1394هـ، ص 235.
(4) طبع مرتين الأولى : في مدينة بمباي بالهند 1309هـ والثانية : في القاهرة، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366هـ.
(5) ولد الشيخ عبد اللطيف في الدرعية سنة 1225هـ، وتعلم بها، ثم غادرها إلى مصر أثناء سقوط الدرعية، ودرس على مشائخ مصر، ثم عاد إلى الرياض وكان له دروس وتلاميذ، وله مصنفات ورسائل كثيرة، وكان يقرض الشعر. توفي سنة 1293هـ.
…انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 93، (علماء نجد) 1/63.(131/5)
وكذلك كتب الشيخ سليمان بن سمحان (1) – في غالبها – قد طبعت منذ زمن ليس بالقليل، ولم يعد طبعها مع أن الحاجة قائمة إليها (2).
في حين أن كتب الخصوم الذين قصد أئمة الدعوة الرد على مفترياتهم وشبهاتهم، قد تكرر إعادة طبعها ونشرها حتى عم ضررها واستفحل دائها. وقد يقول قائل: إن هذه الكتب التي ألفها بعض أئمة الدعوة في الرد على المخالفين إنما هي مجرد كتب مؤقتة بأحداث انقضت وأزمان مضت، فليست سوى ردود على أشخاص معينين قد أفضوا إلى ما قدموا، فلا حاجة إليها الآن في هذا العصر.
فنقول جواباً على ذلك إن هؤلاء حين ألفّوا تلك الكتب وأجابوا عن اعتراضات الخصوم، لم يكن قصدهم من ذلك إلا الرد على ما تعلق به الخصوم من مفتريات وشبهات أثاروها ضد الدعوة السلفية، فهذه الردود التي ألفها أئمة الدعوة السلفية، فهذه الردود التي ألفها أئمة الدعوة السلفية وأنصارها، هي مؤلفات مناسبة وملائمة للرد - والجواب على تلك الشبهات والاعتراضات، وإن اختلف الزمان أو المكان، مادام أن فكرة الشبهة والاعتراض ومضمونها لا يختلف.
__________
(1) ولد الشيخ سليمان في إحدى قرى أبها سنة 1266هـ، وانتقل إلى الرياض وتعلم بها، واشتهر بكثرة مؤلفاته وردوده، له ديوان من الشعر، توفي في الرياض سنة 1349هـ.
انظر: (مشاهير علماء نجد) ص 290، (علماء نجد) 1/ 279.
(2) مما يثلج الصدر أن نشير إلى أن بعض كتب أئمة الدعوة قد أعيد طبعها من جديد مثل كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاّق)، وكتاب (القول الفصل النفيس)، و (مصباح الظلام)، وغيرها، ولكنها بحاجة إلى الدراسة الجادة والتحقيق العلمي الذي يكشف عن مناسبة تأليفها وبيان أهميتها وقيمتها.(131/6)
وسنلاحظ - كما سيأتي مفصلاً في أبواب البحث - أن دعاوى الخصوم واعتراضاتهم ضد دعوة الشيخ الإمام في زمنه، يتلقفها من بعدهم، ثم الذين يلونهم، وهكذا إلى زمننا هذا، فهذه الدعاوى المثارة ضد الدعوة السلفية - الآن - لا تتجاوز غالباً ما أثاره أسلافهم زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كما أن أولئك الأسلاف تلقفوا كثيراً من شبهاتهم عن أسلافهم السابقين ممن ناهض دعوة السلف الصالح، وعادى مجدديها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، ومن قبلهم من أئمة السلف، فإن جذور هذا الصراع قديمة. ممتدة عبر قرون عديدة. ولعل هذا البحث – المتواضع – يظهر لأجيال الموحدين بعضاً من الجوانب المشرقة من خلال ما كتبه أسلافهم - القريبون -، ويكشف الجهود المكثفة التي بذلها أجدادهم في نصرة الدعوة السلفية، ويستشعر أن هذه الجهود مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجهود السابقة لعلماء السلف، وامتداد لها، مثل جهود الإمام أحمد بن حنبل، والإمام البخاري، وابن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن تيمية، وابن القيم، - رحمهم الله جميعاً - وهكذا، فيكون ذلك عوناً لتلك الأجيال للسير على منهاج السلف والإقتداء بهم.
(3) …الحرص على بيان عقيدة السلف الصالح، ورد الاعتراضات والشبهات المثارة ضدها، فإن مما يجلي عقيدة السلف الصالح ويوضحها هو الرد والدحض لما يلصقه الخصوم بهذه العقيدة والجواب عن شبهاتهم ودعاويهم.
وليس الرد والجواب على الاعتراضات الموجهة إلى دعوة الشيخ الإمام - في الغالب - إلا رد وجواب عن الاعتراضات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بلا أدنى شك هي عين الدعوة لعقيدة السلف الصالح.(131/7)
فأحببت في هذا البحث أن أشارك في خدمة عقيدة الفرقة الناجية، وأن أسعى على قدر جهدي – وهو جهد مقل – في نصرة عقيدة السلف الصالح والذبّ عنها (1).
(2) خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث:
تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة.
وتتضمن المقدمة ما يلي:
1- أهمية البحث والدواعي لاختياره.
2- خطة البحث ومنهجي في أبواب البحث.
3- جمع المادة العلمية.
وأما التمهيد فقد شمل هذين الأمرين:
الأول: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض آثارها.
الثاني: دراسة استقرائية مجملة لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة من هذه المؤلفات المناوئة.
وأما الباب الأول فعنوانه:
مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الرد عليها
ويتكون من ثلاث فصول:
الفصل الأول : الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني : الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم.
الفصل الثالث: فرية إنكار كرامات الأولياء.
وأما عنوان الباب الثاني فهو:
الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ
مع بيان الحق في ذلك
ويتكون من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: التكفير والقتال وفيه سبعة مباحث.
المبحث الأول: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها.
__________
(1) لقد تحدث بعض الكتّاب عن دعاوى المناوئين للدعوة السلفية فكتب كل من : الشيخ محمد الرفاعي، ود. عبد الرحمن عميرة، وعبد الكريم الخطيب، ومحمد يوسف، بحثاً بعنوان (الشبهات التي أثيرت ضد دعوة الشيخ)..، ولكنها بحوث مختصرة، تفتقد لبيان الاعتراض وتوثيق مصدره، كما تفتقد لعمق الرد وقوة مناقشة الدعوى، فموضوع دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب موضوع واسع عميق، ولا يكفي عنه البحث القصير، وأرجو أن يحقق هذا البحث - وإن كان صاحبه قليل البضاعة من العلم - شيئاً من التكامل الذي أقصده وبالله التوفيق.(131/8)
المبحث الثاني: فرية أن الوهابيين خوارج وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها.
المبحث الثالث: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس منها. عرض ثم رد.
المبحث الرابع: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة. عرض ثم رد.
المبحث الخامس: شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة. عرض ثم رد.
المبحث السادس: شبهة تنزيل آيات في المشركين على المسلمين. عرض ثم رد.
المبحث السابع: شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة. عرض ثم رد.
الفصل الثاني: تحريم التوسل.
الفصل الثالث: منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الباب الثالث فعنوانه:
فيما اعترض عليه من
قضايا الدعوة مع المناقشة لها
ويتكون من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: هدم الأبنية على القبور والنهي عن شد الرحال لزيارتها.
الفصل الثاني: تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
الفصل الثالث: إنكار دعاء الموتى.
وآخر البحث خاتمة تتضمن نتائج البحث.
وأما عن المنهج الذي اخترته في كتابة أبواب البحث، فكان على النحو الآتي :
(1) إيراد الدعوى أو الاعتراض من خلال ما كتبة الخصوم – أنفسهم – في مؤلفاتهم، وهذا في الغالب، وأحياناً قليلة أذكر دعاوى المناوئين من خلال ما نقله أئمة الدعوة عنهم أثناء الرد عليهم، حين لا أعثر على تلك المؤلفات المناوئة.
(2) يكون هذا الإيراد لتلك الدعاوى مرتباً – غالباً على حسب الترتيب الزمني لوفيات أولئك المناوئين، ولم ألتزم بذلك مطلقاً، نظراً لأن بعض المناوئين لم أعثر له على ترجمة، وربما كان العثور على ترجمته ومعرفة تاريخ وفاته، بعد كتابة أبواب الرسالة.(131/9)
(3) اقتصرت – في الغالب – عند إيراد دعاوى المناوئين على ما كتبه علماء الطوائف والفرق الإسلامية، وكان باللغة العربية فلم أذكر مطاعن ودعاوى المستشرقين على هذه الدعوة السلفية، شعوراً مني بأن الرد على أولئك العلماء آكد وأهم من الرد على المستشرقين في مثل هذا البحث، خاصة وأن أكثر اعتراضات أهل الاستشراق مبنية على معلومات تاريخية خاطئة عن حياة مجدد هذه الدعوة، وعن تاريخ الدعوة (1)، وأعرضت عن الكتب المؤلفة – ضد هذه الدعوة – باللغات الأخرى غير العربية، مثل الإنجليزية، والأوردية ونحوهما، نظراً للحاجة إلى ترجمتها، والوقت لا يسمح بذلك.
__________
(1) انظر ما يؤيد ذلك في كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) لمسعود الندوي، ترجمة: عبد العليم البستوي، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، 1404هـ ص 163 – 185، ص 195 – 209.
وانظر كتاب (بحوث وتعليقات في تاريخ السعودية) للعثيمين ص 115 – 126.
وانظر المغالطات التاريخية المتعددة في كتاب (مصر في القرن التاسع عشر) لادوارجوان، تعريب محمد مسعود، ط1، القاهرة، 1340هـ ص 436 – 444.(131/10)
(4) بعد إيراد الدعوى، يأتي الجواب عليها من قبل أئمة الدعوة وأنصارها، فأذكر أقوالهم من خلال مؤلفاتهم مراعياً الترتيب الزمني لوفياتهم، مع الاهتمام بشمولية الجواب والرد على تلك الدعاوى، وكذلك الحرص على ذكر أقوال أنصار هذه الدعوة خارج موطنها، فنذكر – مثلاً – ردود الشيخ محمد بن ناصر الحازمي اليمني (1)، وردود السهسواني الهندي (2)، وكذلك ردود محمود الألوسي العراقي (3)، حتى يتضح جلَّياً عالمية هذه الدعوة واتساع آثارها.
__________
(1) نشأ الحازمي في بلدة ضمد، وأخذ عن علمائها، كان محققاً في كثير من العلوم، لاسيما علم الحديث، مات سنة 1283هـ. انظر : محمد بن محمد بن يحيى بن زبارة، (نيل الوطر من تراجم علماء اليمن في القرن الثاني عشر)، المطبعة السلفية القاهرة، 1350هـ، 2 / 322.
(2) …هو محمد بشير بن محمد السهسواني، عالم بالحديث والفقه، ولد في لكهنوء بالهند سنة 1250هـ، وتوفي في دلهي سنة 1326هـ، له عدة مؤلفات .
انظر : مقدمة كتابه (صيانة الإنسان)، وخيري الدين الزركلي، الأعلام، ط6، دار العلم بيروت، 1984 م، 5 / 36.
(3) هو محمود شكري الألوسي، عالم بالشرع والتاريخ والأدب، ولد في رصافة بغداد سنة 1273هـ، وتوفي في بغداد سنة 1342هـ له 52 مؤلفاً، انظر : كتاب تلميذه محمد بهجت الأثري (أعلام العراق) ص36 – 241، ومقدمة محقق كتاب (المسك الأذفر) للألوسي، الأعلام 7 / 172، 173.(131/11)
(5) اقتصرت في الجواب عن دعاوى المناوئين على ما كتبه أئمة الدعوة وأنصارها، دون أن أسوق أقوال علماء السلف السابقين لتلك الدعوة التي تؤيد ما كتبوه، وإن كان سياق أقوالهم يعطي القارئ – بلا شك – تصورا ً صادقاً بأن هذه الدعوة امتداد لدعوة أولئك السلف السابقين لها، ولكن اقتصرت على كتابات أئمة الدعوة حتى لا يتسع الموضوع اتساعاً لا يمكن حده، وحتى لا يخرج عما قصدته من إبراز وإظهار جهود أئمة هذه الدعوة دون من سبقهم. ومع ذلك فلا تخلو بعض مباحث هذا البحث من إيراد أقوال السلف السابقين، مما يؤكد أصالة هذه الدعوة وأنها امتداد للطائفة المنصورة.
(6) جعلت لكل باب من الأبواب الثلاثة لهذا البحث، أسلوباً يلائم موضوع الباب، ويوضح مضمونه، وقد أشرت إلى ذلك في مقدمة كل باب.
وعلى كلًّ فإنني بهذا المنهج الذي ارتضيته في كتابة أبواب البحث، حاولت قدر الاستطاعة الالتزام به، والسير على ضوئه، مع اعترافي بالتقصير فيما التزمته وقصدته، وحسبي أني بذلت جهدي والله يغفر لي.
(3) جمع المادة العلمية:
لما تمت الموافقة على تسجيل هذا الموضوع، شرعت في جمع المصادر والمراجع، وتتبعها، وحرصت على الحصول على ما كتبه الخصوم ضد هذه الدعوة وكذلك ما صنفه أئمة الدعوة وأنصارها في الرد والجواب عن دعاوى الخصوم.
فابتدأت بقسم المخطوطات والمجموعات الخاصة بجامعة الملك سعود، فصوّرت مجموعة مهمة من المؤلفات – منها المخطوط ومنها المطبوع بعضها ضد هذه الدعوة السلفية وبعضها في الدفاع عنها.
كما حصلت من المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود على مجموعة مصورات لبعض المجلات والصحف التي تحوي مقالات ترتبط بهذا البحث.
وحصلت من قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود على صورة مخطوط (فصل الخطاب) للقباني، والذي يعتبر من أقدم المؤلفات ضد دعوة الشيخ الإمام، كما صورت بعض الدوريات المهمة.(131/12)
كما تم لي – ولله الحمد والمنة – الحصول على صور لبعض المصادر الخطية الهامة من المكتبة السعودية، وكذلك يسر الله لي تصوير بعض كتب المناوئين من إدارة مراقبة المطبوعات بدار الإفتاء.
وصورت من قسم الوثائق بدارة الملك عبد العزيز مخطوطاً قديماً ضد الدعوة السلفية (1)، وكذلك رسالة خطية أخرى ضد هذه الدعوة أيضاً.
وحصلت على بعض الأعداد المصورة من جريدة أم القرى عن طريق مكتبة معهد الإدارة.
ولقد أهداني الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سحمان القاضي في محكمة التمييز بالرياض، بعض مؤلفات عمه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله، ومن ضمنها صورة مخطوط لم يسبق طبعه وهو (الحجج الواضحة الإسلامية)(2)، فجزاه الله كل خير.
ولقد تكرم بعض المشايخ والأساتذة بمساعدتي وإعارتي أو إهدائي بعض الكتب المهمة التي تتصل بهذا الموضوع، فجزاهم الله خيراً، وبارك الله فيهم.
وعثرت على صورة خطيّة لأبيات في الرد على الوهابية مع شرحها لمجهول، وذلك من مكتبة أرامكو بالظهران، كما صورت كتاب (النفخة على النفحة) من المكتبة الصالحية بعنيزة (3).
وأرسلت إلى الأستاذ الشهم صبحي البدري السامرائي في العراق، أطلب منه تصوير مجموعة من الكتب التي ألفها بعض علماء الشيعة ضد الدعوة السلفية، فأرسل إليّ مجموعة مما طلبت فجزاه الله خيراً.
كما طلبت من معهد المخطوطات بالكويت تصوير بعض المراجع الخطية مما كتب ضد الدعوة السلفية، فأجابوا وأرسلوا ما طلبت (4)
__________
(1) وهو مخطوط (إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية) لمحمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني.
(2) وقد أفادني الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سحمان في شهر ذي القعدة سنة 1406هـ أن هذا الكتاب هو آخر مؤلفات الشيخ سليمان بن سحمان - الذي هو عم والد الشيخ عبد الرحمن.
(3) لم أعثر على هذا الكتاب في كبرى مكتبات الرياض العامة.
(4) وهي :
- رسالة في الرد على الوهابية لعبد الله بن حسين بلفقيه العلوي.
…- رسالة في الرد على الخوارج ومن نحا نحوهم للمؤلف السابق.
…- المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية لإسماعيل التميمي التونسي.
- مسائل وأجوبة وردود على الخوارج لمحمد بن سليمان الكردي.(131/13)
.
وطلبت عن طريق الجامعة السلفية في مدينة بنارس بالهند بعضاً من الكتب ضد دعوة الشيخ الإمام، فأرسلوا ثلاثة كتب ولكنها باللغة الأردية.
وأرسلت إلى حسين بن حلمي أيشيق صاحب مكتبة الحقيقة في استانبول بتركيا وهو عدوّ لدود للدعوة السلفية – أطلب بعض مطبوعات مكتبته والتي يوزعها مجاناً وهي تحوي الطعن في الشيخ الإمام ودعوته، فأرسل إليّ مجموعة من الكتب – مجاناً – استفدت من أحدها في هذا البحث (1) .
وطلبت من مكتبة الدولة في برلين بألمانيا بعض صور المخطوطات الهامة التي ألفت ضد الدعوة السلفية فأرسلوا إليّ ثلاث صور خطية منها (2).
وكذا أرسلت إلى مكتبة الجامعة الملكية في توبنجن بألمانيا صورة من مخطوط نادر لأحد الأعداء المعاصرين للشيخ الإمام (3) وذلك لما بعثت إليهم بالرغبة في الحصول عليها.
وقد بعثت برسائل أخرى إلى مكتبات متنوعة، ولكن بعضها اعتذر بعدم وجود ما طلبت مثل المتحف البريطاني، وطلبت عن طريق أحد الأساتذة (4) في القاهرة الحصول على صور من مخطوطات متعددة توجد في دار الكتب المصرية (خزانة تيمور) – بناء على المعلومات المدونة في فهارسها فأخبرني بعدم وجودها، وبعض الجهات العلمية أردت منها ما يخدمني في هذا البحث ولكن دون جواب.
__________
(1) وهو كتاب الإيمان والإسلام لخالد النقشبندي البغدادي. وفيه مقدمة طويلة لحسين أيشيق.
(2) وهي:
المشكاة المضيئة في الرد على الوهابية لابن السويدي.
……- رسالة ابن عفالق لعثمان بن معمر.
جواب ابن عفالق على رد ابن معمر.
(3) وهو كتاب (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين) لمحمد بن عفالق.
(4) وهو الأستاذ الكريم الدكتور أحمد فهد الشوابكة.(131/14)
إن من العوائق التي واجهتني أثناء جمع المادة العلمية وتحصيلها هو التأخر الكثير لوصول بعض المراجع الأساسية لهذا البحث، وكنت أطلبها عن طريق المراسلة لبعض المكتبات العلمية، حتى أني مكثت أكثر من سبعة أشهر في انتظار وصول صورتي مخطوطتين من بلاد المغرب، مع أن ابتداء هذه المدة المذكورة من حين الموافقة على تصوير وإرسال تلك المخطوطتين.
كما أن تعدد الاعتراضات وكثرة الدعاوى وتنوع الشبهات ضد دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، كان ذلك عقبة أخرى حاولت اجتيازها بالتركيز على الاعتراضات الأساسية والدعاوى الهامة في مجال العقيدة دون الاعتراضات الأخرى.
وعقبة ثالثة وهو التداخل الكبير، والترابط الكثير بين فصول أبواب الرسالة وسيتضح ذلك أثناء الدخول في فصول البحث فلقد واجهتني أثناء جمع المادة العلمية وأثناء الكتابة، فبذلت جهدي في ترتيب المعلومات وتنظيمها، ولكن كان هناك تلازم واتصال بين بعض معلومات الفصل مما لا يمكن تقسيمه وانفصاله، فألجأ عندئذٍ إلى الإحالة أحياناً، أو أذكر هذه المعلومات بإيجاز في موضع، ثم أوردها بإسهاب في موضع آخر، أو العكس.
وفي ختام هذه المقدمة، أحمد الله حمداً كثيراً كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، على ما منّ به عليّ من الإعانة والتيسير في كتابة هذا البحث، وأرجو منه سبحانه وتعالى أن يجعل هذا البحث باباً إلى تحصيل العلم النافع الذي يرضيه عز وجل وأن يوفقني فيه إلى تحقيق الصواب والسداد.
وكتبه
عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
الرياض - ص.ب: 17999- الرمز البريدي: (11494)
تمهيد
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض آثارها(131/15)
إن ما كتبه الشيخ من المصنفات والرسائل يؤكد يقيناً بأن الشيخ لا يدعو إلا لعقيدة السَّلف الصالح في جميع أبواب الاعتقاد، وليست مصنفاته ورسائله فحسب هي الجواب على هذا فقط، بل إن سيرة الشيخ الإمام وأفعاله وسلوكه جواب آخر، يؤكد بلا أدنى ريب اهتمام الشيخ وحرصه الشديد على تمام التأسي والاقتداء بالسلف الصالح.
كما أن ما كتبه أتباعه - من بعده - وأنصار دعوته السلفية يؤكد أيضا ما اتصف به الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب من تمسك والتزام بمنهج أهل السنّة والجماعة، ويظهر حال وشأن أولئك الأتباع وما كانوا عليه من عضًّ بالنواجذ على عقيدة الفرقة الناجية سواء في أقوالهم أو أفعالهم.
وقد شهد الكثير من العلماء من مختلف البلاد والبقاع، وفي أزمان متفاوتة، بل ومن ديانات متنوعة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى الإسلام كما كان عليه أو ظهوره من صفاء ونقاء ووضوح، بعيداً عن لوثات الفلسفة وأدران الشرك، وخرافات التصوّف، ومحدثات البدع.
وحيث أن مثل هذا الموضوع قد أخذ نصيباً وافراً من الكتابة والتصنيف (1) فلا حاجة للإطالة فيه، بل نقتصر على إيراد بعض النقول الموجزة التي توضح حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ففي إحدى رسائل الشيخ يجيب عن سؤال أهل القصيم لما سألوه عن معتقده فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) انظر على سبيل المثال ما يلي:
- محمود مهدي الاستانبولي، (الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب)، 1400هـ.
…- أمين سعيد (سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب) ط1، شركة التوزيع العربية، بيروت ص 191 – 215.
- أحمد بن حجر آل بوطامي، (الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، مطبعة الحكومة ، مكة المكرمة، ص77 – 120.(131/16)
(أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ،ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } (1) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله وسط بين المرجئة والوعيدية (2). وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج.
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأومن بأن الله فعَّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
__________
(1) الصافات الآيات 181، 182.
(2) الوعيدية هم الخوارج والمعتزلة.(131/17)
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لربَّ العالمين حفاة عراة غرلاً، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه أولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا كما قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (1) وقال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) وقال تعالى: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } (3) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } (4).
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
__________
(1) الأنبياء: آية 28.
(2) البقرة : آية 255.
(3) النجم : آية 26.
(4) المدثر : آية 48.(131/18)
وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوَّته، وأن أفضل أمتَّه أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم، وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملاً بقوله تعالى: { والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } (1) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنّة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام براً كان أو فاجراً، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماضٍ منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
__________
(1) الحشر : آية 10.(131/19)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية المطهرة (1) .
فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل) (2).
وفي رسالته لعبد الرحمن بن عبد الله السويدي (3) أحد علماء العراق يذكر الشيخ الإمام رحمه الله حقيقة دعوته، ومن ذلك قوله:
(أخبرك أني ولله الحمد متبع، ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنّة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بيَّنت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشتراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنَّة والجماعة)(4).
ونورد بعضاً من العبارات التي سطّرها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في بيان دعوة جده الشيخ الإمام، منها قوله:
__________
(1) يظهر من هذه الرسالة تأثر الشيخ محمد بشيخ الإسلام ابن تيمية فهذه الرسالة قريبة بلفظها ومعناها من العقيدة الواسطية لابن تيمية.
(2) محمد بن عبد الوهاب، مؤلفات الشيخ الإمام (الرسائل الشخصية) تصحيح الفوزان والعليقي، الرياض 5 / 8 – 11.
(3) انظر : ترجمته في (المسك الأذفر) ص 131.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ (الرسائل الشخصية) : 5 / 36.(131/20)
(أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما دعا الناس إلى أن يعبدوا الله لا شريك له، ولا يشركوا به شيئاً وهذا لا يرتاب فيه مسلم إنه دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه) (1).
ويقول الشيخ عبد اللطيف في موضوع آخر – حاكياً ما يدعو إليه الشيخ الإمام:
(ثم إن شيخنا رحمه الله كان يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادي لها، وهذا من سنن الهدى، ومعالم الدين كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنَّة، ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه والنهي عنه، وقد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب.
وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنَّة والجماعة، وأما في الفروع والأحكام فهو حنبلي المذهب لا يوجد له قول مخالف لما ذهب إليه الأئمة الأربعة ……) (2).
ويبين الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (3) في رسالته التي بعثها إلى أهل الحجاز وعسير واليمن معتقدهم وما يدعون إليه فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)، ط1، مطبعة المنار، مصر 1344هـ، 3/367.
(2) المرجع السابق 3 / 372، 373.
(3) ولد الشيخ محمد في الرياض سنه 1282هـ، وتوفي بها سنه 1367هـ، تولى القضاء، ورحل إلى عسير داعياً إلى الله، وله مكتبة عظيمة.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 146، (علماء نجد) 3 / 849.(131/21)
(اعلموا أن الذي نعتقده وندين الله به، وندعو الناس إليه ونجاهدهم عليه هو دين الإسلام الذي أوجبه الله على عباده وهو حقّه عليهم الذي خلقهم لأجله، فإن الله خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به في عبادته أحداً من المخلوقين لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما … ونأمر بهدم القباب ونهدم ما بني على القبور، ولا يزاد القبر على شبر من التراب وغيره، ونأمر بإقام الصلاة جماعة في المساجد، ونؤدب من تخلف أو تكاسل عن حضورها وترك الحضور في المسجد ونلزم ببقية شرائع الإسلام كالزكاة والصوم والحج للقادر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وننهى عن الربا والزنا وشرب الخمر، والتتن، وعن لبس الحرير للرجال، وننهى عن عقوق الوالدين، وعن قطيعة الأرحام.
وبالجملة فإنا نأمر بما أمر الله به في كتابه، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وننهى عما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله، ولا نحرم إلا ما حرم الله، ولا نحلل إلا ما حلل الله، فهذا الذي ندعو إليه، ومن كان قصده الحق ومراده الخير والدخول فيه التزم ما ذكرنا وعمل بما قررنا، فيكون له ما لنا وعليه ما علينا) (1) .
وقد جاء هذا المعتقد موجزاً بعبارة جامعة، كما قال أحدهم:
(أن كل ما ثبت في الشريعة الإسلامية مما جاء عن الله ورسوله فهو مذهبنا، ومعتقدنا وديانتنا، سواء ذكرناه وصرحنا به أو لم نذكره، ولم نعالن به، وكل ما نفته الشريعة الإسلامية فهو الذي ننفيه ونرفضه، لذلك فعلى كل من تروى له رواية عنا فليعرضها على كتاب الله وسنة رسوله فإن وافقتها فليعلم وليوقن بأنها رأينا ومذهبنا، وإن خالفتها فليوقن أننا نخالفها..) (2).
__________
(1) عبد الرحمن بن قاسم (جمع)، (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) ط2، المكتب الإسلامي، بيروت 1385هـ، 1 / 290، 291 باختصار.
(2) جريدة أم القرى، ع 130، مقال (البيان الفصل هذا آخر ما عندنا).(131/22)
وبهذا يعلم أن الشيخ الإمام وأتباعه – من بعده – يدعون إلى التمسك بمنهج السلف الصالح، سواء كان ذلك في العقائد، أو السلوك والشرائع، ويتحرون الوسائل والأسباب التي تحقق ذلك، ويفعلونها، ويحرصون كل الحرص على تنفيذ أوامر هذا الدين، والابتعاد عن نواهيه، وهم بذلك مقتدون ومتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
وأما الإشارة إلى آثار هذه الدعوة، فإنه لما كانت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب هي دعوة لتجديد ما اندرس من عقيدة السلف الصالح، لذا حظيت تلك الدعوة بالقبول لها والتأثر بها من قبل كثير من علماء المسلمين والحركات الإصلاحية والكثير من عامة المسلمين، وذلك لما تتميز به عقيدة السلف الصالح التي دعا إليها الشيخ الإمام من ميزات وخصائص تجوب الاعتقاد بها والميل إليها من والوضوح والصفاء واليقين والثبات والآثار الفعلية الإيجابية والنتائج المحمودة الملموسة في واقع الحياة الدنيا، والنعيم السرمدي الأبدي في الحياة الآخرة.
لقد عمت الدعوة وآثارها المباركة بلاد نجد، ثم امتدت إلى الحجاز، ثم سائر بلاد الجزيرة العربية، بل تجاوزت تلك البلاد … فكان لها اتباع وأنصار في مختلف الأمصار، كالشام ومصر والعراق وبلاد المغرب، والهند، والكثير من الأقطار.
ولا تزال - إلى وقتنا الحاضر - آثارها ونتائجها علمية كانت أو عملية ناطقة بذلك، وشاهدة بصدق هذه الدعوة ووضوحها وسلامة منهجها، وستبقى هذه الدعوة - إن شاء الله – منصورة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد أفاض الباحثون في الحديث عن أثر دعوة الشيخ الإمام على بلاد المسلمين وعلمائهم، وأثرها على الدعوات والحركات الإصلاحية، وألفت من أجل ذلك الرسائل والمصنفات في بيان آثارها وأصداءها، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره (1)
__________
(1) انظر على سبيل المثال :
- عقيدة الشيخ محمد عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي للعبود 2 / 608 – 928.
- الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة للسكاكر، ص 209 – 260.
- انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة، لمحمد جمعه ص 63 – 238.
- بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (غالب الجزء الثاني).(131/23)
.
ولكن من المناسب أن نورد بعض الأعلام الذين تأثروا بدعوة الشيخ الإمام، ممن لم يذكرهم هؤلاء الكتّاب ضمن من تأثروا بهذه الدعوة، وذلك على حسب اطلاعنا.
فيذكر المحامي عباس العزاوي من تأثر بدعوة الشيخ في العراق فيقول:
(وكان الأستاذ عبد العزيز بك بن عبد الله بك الشاوي (1) ذهب إلى نجد للحج والمفاوضة مع آل سعود، فاقتنع بمذهبهم وحمله إلى العراق فصار داعيتهم، اقتنع بعد تجربة سنوات، فلم يكتف بالمظاهر والظواهر، وإنما خالط القوم حتى بلغ من المعرفة الصحيحة مبلغها، فاختار أن يكون عقيدته)(2).
كما يذكر العزاوي من العلماء الذين تأثروا بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ علي السويدي (3) ووصفه العزاوي بأنه (عالم دعا إلى اتباع الحديث، وهذا عين مذهب السلف) (4) .
بل ذكر بعضهم أن الشيخ علي السويدي دعا والي بغداد سليمان باشا الصغير إلى الإلتزام بهذه الدعوة (5).
__________
(1) لم أعثر على ترجمته.
(2) عباس العزاوي، ذكرى أبي الثناء الألوسي، شركة التجارة والطباعة، بغداد 1377هـ ص 37.
(3) هو علي بن محمد سعيد السويدي، محدث، مؤرخ، نسابة، أديب، ولد في بغداد، وتوفي بدمشق سنه 1237هـ، له عدة تصانيف من أشهرها (العقد الثمين في بيان مسائل الدين).
انظر : (المسك الأذفر) ص 140، (معجم المؤلفين) 7 / 200.
(4) العزاوي (ذكرى أبي الثناء) ص 37، 38 باختصار.
(5) انظر – خليل مردم بك، (أعيان القرن الثالث عشر) ط2، مؤسسة الرسالة بيروت 1977 م، ص 165.(131/24)
وممن تأثر بهذه الدعوة السلفية الشيخ أحمد بن محمد الكتلاني (1) فألف رسالة بعنوان (الصيّب الهطال في كشف شبه ابن كمال) (2) حيث دافع عن دعوة الشيخ، ورّد الافتراءات والشبهات المثارة ضد هذه الدعوة، وساق الأدلة والبراهين الواضحة التي تؤكد وتقرر أن دعوة الشيخ الإمام هي دعوة لمذهب أهل السنّة والجماعة.
كما تأثر بهذه الدعوة، الشيخ محمد بن ناصر الشريف التهامي اليمني، أحد تلاميذ الإمام محمد بن علي الشوكاني حتى أنه ألفّ كتاباً في الردَّ على دعاوى داود بن جرجيس (3) التي رمى بها دعوة الشيخ، وجعل داود تلك الدعاوى الكاذبة في كتاب سماه (صلح الإخوان) (4)
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة، وقد سألت الشيخ عبد الله الخليفي إمام الحرم المكي في شهر ذي القعدة 1406هـ - لأنه قام بتصحيح كتاب (الصيب الهطال) للكتلاني – عن ترجمته، فلم أحصل منه على جواب.
(2) مما يجدر ذكره أن هذا الكتاب طبع سنة 1385هـ عن طريق المكتب الإسلامي في بيروت ضمن مجموعة كتب، وجعل عنوان هذا الكتاب (جواب الجماعة) وذكر الناشر أن مؤلفه مجهول. والله أعلم.
(3) هو داود بن سليمان البغدادي النقشبندي، ولد وتوفي في بغداد (1231 – 1299هـ)، انتقل إلى نجد ودرس عند الشيخ أبي بطين وله كتب ضد الدعوة السلفية.
انظر : ذيل المسك الأذفر ص 459، الأعلام 2/332.
(4) وعنوان الكتاب كاملاً : (صلح الإخوان) من أهل الإيمان وبيان الدين القيّم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم.
…وهو كتاب مطبوع سنة 1306هـ في مطبعة نخبة الأخبار، بمبي (الهند).(131/25)
فأجابه التهامي بكتاب سماه (إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان) (1) فنَّد فيه دعاوى ابن جرجيس، وأظهر صدق الشيخ الإمام، ودافع عن عقيدة السلف، وسنورد بعض ردوده في ثنايا أبواب هذه الرسالة.
وتأثر بهذه الدعوة الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين الهندي (2) ودافع عنها، ورد على خصومها، فردَّ على دحلان وأبطل دعاويه بكتاب سماه (الحق المبين في الردَّ على اللهابية المبتدعين).
وتأثر الأستاذ صالح بن دخيل الجار الله (3) بهذه الدعوى فسعى إلى نشرها والرد على خصومها، وقد كتب مقالاً مفصلاً في مجلة المقتطف، بيّن حقيقة دعوة الشيخ، ورد على مقالة القس زويمر(4) التي كتبها عن الوهابية، ووضح الأستاذ صالح ما في مقالة زويمر من الاضطراب والتضليل، فكان مما كتبه رحمه الله:
__________
(1) وبعضهم يسمي هذا الكتاب : (فتح المنان في ترجيح الراجح وتزييف الزائف من صلح الإخوان). وتوجد لهذا الكتاب نسخة خطية بجامعة الملك سعود.
(2) لم أعثر له على ترجمة، ويبدو أنه كان معاصراً للشيخ ابن سحمان، كما هو ظاهر في مقدمة كتاب (البيان المجدي) لابن سحمان.
(3) لم أعثر له على ترجمة بهذا الاسم، وإنما ذكره البسام في (علماء نجد) 1 / 282، 296 باسم جار الله الدخيل – وهو عم سليمان بن صالح الدخيل الآتي ذكره وكان جار الله الدخيل وكيلاً لإمارة ابن رشيد في بغداد، ويبدو أن الاسم الصحيح هو ما ذكرناه بدليل في خاتمة كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) ط1، 1319هـ : (تم طبع الكتاب … على نفقة الشيخ صالح بن دخيل الجار الله)، ص 220.
(4) انظر ملخص مقالته : مجلة المقتطف، مجلد 27، ص 295.(131/26)
(واضطرب الناس في الوهابية اضطراباً شديداً لعدم تحقيق أحوالهم، فالناس فيهم ما بين قادح ومادح، فمنهم من جعلهم كالروافض والخوارج والبابية. والحق أنهم متبعون للسنة لا غالون ولا جافون، حتى أني اجتمعت بكثير من مثل هؤلاء بالشام ومصر والعراق سنة 1318هـ وبينت مأخذهم ومعتقدهم ومذاهبهم فأذعنوا لذلك، ووافقوا عليه وقالوا أنه الحق، وطلبوا كتاباً يطبع من تأليفهم يزيل ما لبس على كثير منهم، فإن بعض السّياح يجهل حقيقة حالهم. ولا عبرة ببعض العوام الجهال فطبعت في أواخر رجب سنة 1319هـ كتاب (توضيح توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) فانتشر في الآفاق وتلقاه أهل الإنصاف بالقبول والوفاق لأنه كتاب وحيد في فنه يحتاج إليه المبتدي ولا يستغني عنه المنتهي، وحقيق أن تشد إليه الرواحل وتقطع دون الوصول إليه المنازل …) (1) .
وألف الشيخ سليمان بن صالح الدخيل (2) رسالة بعنوان (حقيقة المذهب الوهابي) (3) يقول د. محسن غياض عجيل عن هذه الرسالة:
(وهي رسالة صغيرة في بيان حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدفاع عنها، وردّ ما لفقه خصومها عنها، وقد أوقف الأستاذ الدخيل كثيراً من وقته وجهده ليشرح للعراقيين خاصة وللناس عامة حقيقية تلك الدعوة وما تهدف إليه)(4).
__________
(1) المصدر السابق ص 893.
(2) الشيخ سليمان بن صالح الدخيل، ولد في بريدة سنه 1290هـ له مؤلفات كثيرة في التاريخ، ومارس الصحافة وأصدر بعض الصحف، توفي في بغداد فقيراً سنة 1364هـ.
(3) طبعت في بغداد سنة 1332هـ -، وهو أول موضوع كتبه الشيخ سليمان الدخيل عن نجد في مجلة لغة العرب. انظر : كتابة عجيل – السابق ذكره، ص21.
(4) د. محسن العجيل، الصحفي المؤرخ النجدي سليمان بن صالح الدخيل ط1، مركز دراسات الخليج، البصرة، 1982م، ص 21.(131/27)
ودافع الشيخ محمود شويل(1) عن دعوة الشيخ الإمام، فردّ على أحد خصوم هذه الدعوة وهو المدعو محمد البكري أبو حراز السوداني حيث ألفّ هذا الجاهل رسالة سماها (الوهابية المهزومة)، وكان رد الشيخ محمود شويل بعنوان (القول السديد في قمع الحرازي العنيد) وقد كشف شويل عن ضلالات الحرازي وأبان الحق بأدلته، وقرر بمختلف البراهين صحة هذه الدعوة، كما ردّ على شبهات الخصم وفندها.
وهذه أمثلة معدودة لبعض الأشخاص الذين تأثروا بهذه الدعوة السلفية وكان لهم جهود فعالة في نصرة هذه الدعوة.
ومما يجدر التنبيه عليه هاهنا أن نشير إلى ما ذكره الدكتور صالح العبود حول ما يقال من تأثر بعض الحركات والدعوات الإصلاحية والشخصيات الإسلامية بدعوة الشيخ الإمام مثل الحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدوية في السودان ونحوهما، ومثل الأفغاني ومحمد عبده إقبال وغيرهم.
يقول الدكتور العبود عن دعوى تأثر تلك الحركات والشخصيات بدعوة الشيخ الإمام:
(كل ذلك يحتاج إلى دقة وتحقيق ودليل يثبت أن هذه الدعوات والحركات تأثرت بعقيدة الشيخ وحركته ودعوته وقيام أنصاره.
والحقيقة أن هذه الدعوات والحركات النابعة من أهلها، وهم بأنفسهم لا يذكرون أنهم من أتباع الشيخ ولا أنهم تتلمذوا عليه أو قرأوا كتبه ومؤلفاته وأرادوا تطبيقها) (2).
__________
(1) محمود شويل المدني، ولد وتوفي بالمدينة (1302 – 1372هـ) درّس في الحرمين وسافر إلى بلدان عديدة له مؤلفات انظر الأعلام 7 / 174.
(2) د. صالح العبود (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، 2 / 918 – 920 باختصار.(131/28)
ويسوق العبود أمثلة في إثبات ما ذكره، فيورد الأدلة على اختلاف الحركة السنوسية (1) والثورة المهدوية عما دعا إليه الشيخ الإمام، وغيرهما من الحركات والثورات.
ومن هذه الأمثلة التي ذكرها العبود موضحاً عدم تأثر بعض الشخصيات الإسلامية بدعوة الشيخ رحمه الله ما أورده الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد التي ألفها فهو لم يورد توحيد العبادة الذي هو أول واجب على كل مكلف، يقول العبود – عقب ذلك -:
(وقد استدرك عليه تلميذه محمد رشيد رضا فقال: فات الأستاذ أن يصرح بتوحيد العبادة وهو أن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوه معه من الصالحين والأصنام. وهذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كل رسول قومه بقوله: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
وقال شيخنا محمد خليل هراس: (وقد غلط الشيخ عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى محمد بعثة الرسل …
ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثراً بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية …) (2).
__________
(1) المصدر السابق 2 / 920، 921 ويبدو أن الشيخ العبود خلط بين صاحب الحركة السنوسية المشهورة، وبين السنوسي صاحب العقيدة المعروفة بـ (أم البراهين)، فالأول هو محمد بن علي السنوسي (ت 1202هـ والآخر هو محمد بن يوسف السنوسي (ت 895هـ) حيث ظن العبود أنهما شخص واحد.
(2) المصدر السابق 2 / 924، 925 باختصار.(131/29)
ويبدو أن أحد الدوافع التي جعلت أولئك الكتّاب يدّعون تأثر مثل تلك الحركات والشخصيات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو لوجود أحد أوجه التشابه بين دعوة الشيخ وبين تلك الدعوات، ثم يحاولوا عندئذ التوصل إلى إثبات هذا التأثر، فبمجرد أنهم عثروا على صفة جزئية تكون موجودة ومشتركة في كل من دعوة الشيخ وتلك الحركات حتى يحكموا بهذا التأثر، دون النظرة الشاملة لمنهج تلك الدعوات ومدى تأثره، حينئذ دعوة الشيخ الإمام رحمه الله.
فمثلا دعوة الأستاذ محمد عبده هاجمت التصوف، مثلما هاجمته – من قبل دعوة الشيخ رحمه الله ولكن شتان بين منهج كل منهما في ذلك الهجوم يقول د. محمد محمد حسين مشيراً إلى الخلط بين المنهجين:
(حتى خلطوا بهم كل من دعا بهذه الدعوة (أي مهاجمة التصوف) واعتبروه منهم غافلين عن أن التصوف يمكن أن التصوف يمكن أن يهاجم من منطلقين مختلفين من منطلق سلفي يهاجم الابتداع، ومن منطلق علماني ينكر الغيبيات ويخضعها للتفكير الحر، ومن هذا المنطق خلطوا بين الأفغاني ومحمد عبده وبين محمد بن عبد الوهاب) (1).
دراسة استقرائية مجملة
لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة
من هذه المؤلفات المناوئة
يلاحظ الباحث - من خلال اطلاع سريع على تاريخ الدعوة – أن هذه الدعوة واجهتها معارضة قوية ضارية، وكانت إما معارضة سياسية من جهة الأمراء والحكام، وإما معارضة علمية من جهة العلماء و (المطاوعة)، بل كان هناك ما يشبه التعاضد والتكاتف بين المعارضتين السياسية والعلمية، كما يبدو في المعارضة الشديدة الطويلة الأمد من دهان بن دواس (2)
__________
(1) محمد محمد حسين (دعوة الإمام بين التأييد والمعارضة). (مع بحوث أسبوع الشيخ)، الرياض 1400هـ ص5 باختصار.
(2) هو دهام بن دواس بن عبد الله، عرف بالطغيان والظلم والجبروت، وقد استكبر وتصدى لعداوة هذه الدعوة السلفية سبعاً وعشرين سنة (1160 – 1187هـ) ثم هرب إلى الإحساء، وتوفي بها.
انظر : ترجمته – كما جاءت في تعليق الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ على كتاب (لمع الشهاب)، ص 34.(131/30)
أمير الرياض ضد هذه الدعوة السلفية، ومعه الخصم العنيد والعدو اللدود لهذه الدعوة، هو سليمان بن سحيم (1) مطوع الرياض.
ويبدو هذا التعاضد أيضاً، في معارضة سليمان بن عريعر(2) أمير الإحساء لعثمان بن معمر(3) أمير العيينة حين آزر الشيخ الإمام في بداية دعوته، وتهديده بقطع معونته الاقتصادية، فقد عزز هذه المعارضة، ما فعله محمد بن عفالق(4)
__________
(1) هو سليمان بن أحمد بن سحيم العنزي، وهو خصم شديد العداوة للدعوة السلفية، وبذل وسائل عديدة في التشنيع بها وتحريض العلماء في الرد عليها، ولد سنة 1130هـ وتوفي في الزبير سنة 1181هـ.
(2) هو سليمان بن محمد بن عريعر، وكان رئيس بني خالد، وامتد سلطانه إلى كثير من البلاد المجاورة للإحساء، ومدة سلطنته سبع عشرة سنة توفي سنة 1266هـ في الخرج من أرض نجد.
انظر : (تحفة المستفيد) ص 124، (لمع الشهاب) ص 167.
(3) هو عثمان بن حمد بن معمر، تولى إمارة العيينة سنة 1142هـ، وقد نصر دعوة الشيخ في أول الأمر، ثم تخلى عنه، قتل سنة 1163هـ.
…انظر : عنوان المجد 1/22-39.
(4) هو محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي، ولد وتوفي في الإحساء (1100 – 1164هـ) له مؤلفات في الفقه والفلك، كما أن له مؤلفات ضد الدعوة السلفية – سيأتي بيانها – لم يذكرها ابن حميد في السحب ولا البسام، ولا صاحب (تحفة المستفيد).
انظر : (السحب الوابلة) ص719 وهو مقال في مجلة العرب بتحقيق حمد الجاسر، س12، ج9، 10، ص 641 – 836، (تحفة المستفيد) ص 396، (علماء نجد) 3/ 818.(131/31)
أحد علماء الإحساء، حيث كتب رسالة لابن معمر، ثم تلاها برسالة أخرى(1) يحرضه ضد هذه الدعوة، ويشككه فيها، ويورد الشبهات والدعاوى التي يحاول ابن عفالق بواستطها إقناع ابن معمر بالتخلي عن هذه الدعوة، والتخلص من صاحبها، وقد نجحت مساعيهم في ذلك، وتخلى ابن معمر عن الشيخ الإمام، فغادر العيينة متوجهاً إلى الدرعية -كما هو معلوم -.
لقد تعددت أوجه هذه المعارضة، وتنوعت سبل المناهضة والعداء، واستنفد الخصوم الكثير من الوسائل والطرق من أجل محاربة هذه الدعوة والقضاء عليها.
وما كتابة المؤلفات والرسائل ضد هذه الدعوة السلفية ومجددها إلا أسلوب من أساليب إعاقة هذه الدعوة والطعن فيها.
وحين نحاول الكشف عن أبعاد هذه المعارضة ومدى حجمها، فإننا نبين - بإيجاز - حال المعارضة في بلاد نجد أثناء ظهور دعوة الشيخ الإمام (2)، وما نتج عن تلك المعارضة المحلية من انتشار واتساع في مكائدها ومطاعنها إلى مختلف البلاد والأمصار.
يصور ابن غنام (3) - المؤرخ الأول لهذه الدعوة - شدة المعارضة وصلابتها، فلما أورد ما فعله الشيخ ومعه ابن معمر في العيينة من هدم القباب وقطع الأشجار التي يتبرك بها، ذكر موقف المعارضين فقال رحمه الله:
__________
(1) وهما رسالتان خطيتان حصلت على صورة منهما عن طريق مكتبة الدولة في برلين بألمانيا.
(2) كتب الأستاذ محمد النويصر رسالة ماجستير بعنوان المعارضة المحلية في نجد لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، منذ ظهورها حتى سقوط الدرعية 1234هـ (غير منشور)، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود.
(3) هو حسين بن أبي بكر ابن غنام، ولد في المبرز بالإحساء، وانتقل إلى الدرعية ودرّس بها، وله مؤلفان : (العقد الثمين), و(تاريخ نجد)، وله قصائد شعرية في الدفاع عن الدعوة السلفية، توفي سنة 1225هـ في الدرعية.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 185.(131/32)
(فأخذوا في رده والإنكار عليه وأتوا بأعظم الأسباب، وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب وضجوا على كلمة الحق بالتكذيب والإكذاب.
وأشر الناس والعلماء إنكاراً عليه، وأعظم تشنيعاً وسعياً بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد، فقد اهتم في ذلك وأنجد وجد في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الإحساء والحرمين والبصرة، فلم ينل من مراده سوى الخزي والعار والحسرة، ولقد كاد وشنع وعادى وحشر علماء السوء ونادى وكذب عليه وبهت وزور، فقاموا معه فوراً بالإنكار، وأفتوا للحكام والسلاطين بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي.
وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع النبوي وتبديله وتجهيله وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله (1).
ويذكر الدكتور عبد الله العثيمين عدداً - تقريباً - لأولئك الخصوم في نجد آنذاك، وتنوع مواقفهم فيقول:
(واضح من رسائل الشيخ (الشخصية) أن دعوته لقيت معارضة شديدة من قبل بعض علماء نجد، فالمتتبع لها يلاحظ أن أكثر من عشرين عالماً أو طالب علم وقفوا ضدها في وقت من الأوقات، ويأتي في مقدمة هؤلاء المعارضين عبد الله المويس (2)
__________
(1) روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد وغزوات ذوي الإسلام ط1، المكتبة الأهلية بالرياض، ص31 باختصار.
(2) هو عبد الله بن عيسى الشهير بالمويس، ولد في حرمة بنجد، وطلب العلم في الشام وكان خصماً شديداً للدعوة السلفية، توفي بحرمة سنة 1175هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص 692 (علماء نجد) 2 / 604(131/33)
من حرمة، وسليمان بن سحيم من الرياض، ويستفاد من هذه الرسائل أن معارضي الشيخ من النجديين كانوا مختلفي المواقف، فمنهم من عارضه واستمر في معارضته مثل المويس، ومنهم من كان يعترف في بداية الأمر بأن ما جاء به الشيخ أو بعضه حق، لكنه غيّر موقفه مع مرور الزمن مثل ابن سحيم، ومنهم – أيضاً – من كان متأرجحاً في تأييده ومعارضته مثل عبد الله بن عيسى (1). (2)
ويتحدث العثيمين عن أبرز أوجه كيد المعارضة النجدية، فيقول:
(تبين الرسائل (الشخصية للشيخ الإمام) أن نشاط المعارضة النجدية كان مختلف الجوانب، وفي مقدمة أوجه ذلك النشاط الكتابة ضدها والمتأمل في هذه الرسائل يرى كثرة تلك الكتابة، وإن كان من المتوقع أن أغلبها لم يكن طويل المحتوى.
الوجه الثاني من أوجه نشاط المعارضة النجدية: مجادلة ابن إسماعيل جماعة الشيخ في ثرمداء، ومجادلة سليمان بن سحيم لابن صالح في مجلس الشيوخ في الرياض.
__________
(1) لم أعثر على ترجمة، وإنما الذي يعرف من الرسائل الشخصية للشيخ الإمام، أن عبد الله بن عيسى هو قاضي الدرعية ومطوعها، وأنه كان عالماً كبيراً، بدليل قول الشيخ (أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا غيره أجل منه) 5/187، وكان الشيخ الإمام قد بعث إليه عدة رسائل.
انظر : مجموعة الشيخ 5 / 240، 276، 280، 304، 314.
(2) الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ)، مركز البحوث بجامعة الإمام 1403هـ / 108، 109.(131/34)
الوجه الثالث: الاتصالات بالعلماء وذوي النفوذ خارج نجد وتحريضهم ضد الشيخ ودعوته، مثل إرسال بن سحيم كتاباً إلى العلماء خارج نجد وشكواه له عند أهل الحرمين، وقد ركب المويس وخواص أصحابه إلى أهل الكواز وقبة رجب يخبرونهم بإنكار الشيخ لما هم عليه، ويستثيرونهم ضده، كما ركب المويس مع ابن ربيعة وابن إسماعيل(1) إلى أهل قبة أبي طالب وأغروهم بعدم اتباع الشيخ.
وواضح أن الاتحاد إلى الاستنجاد بالخارج يعكس إدراك المعارضين النجديين لضعفهم أمام دعوة الشيخ وفشلهم في إيقافها.
الوجه الرابع من وجوه نشاط المعارضين المحليين: ترويج الكتب التي ألفها علماء غير نجديين ضد الدعوة بين الناس، كما روج المويس وابن عبيد كتاب القباني البصري (2)، وكما روج المويس وابن إسماعيل كتاب ابن عفالق(3)(4).
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً وبياناً لبعض مكائد الخصوم وتكالبهم ضد هذه الدعوة السلفية بمختلف السبل، فإننا نورد بعض النقول المختارة من الرسائل الشخصية للشيخ الإمام، والتي تكشف عن ضخامة الكيد والعداء من قبل بعض علماء نجد ومطاوعتهم ضد هذه الدعوة الصادقة، كما تكشف عن حجم المعاناة ومقدار المشقات التي تجشمها الشيخ في سبيل دعوته.
ففي رسالته لأهل القصيم يشير الشيخ إلى كيد سليمان بن سحيم فيقول:
(وبلغني أن رسالة ابن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي)(5).
__________
(1) ابن إسماعيل وابن ربيعة وابن عبيد – كما هو الظاهر من هذا النص من خصوم الشيخ، وممن وقفوا ضد هذه الدعوة.
انظر توضيح ذلك : مجموعة الشيخ 5 / 20، 26، 27، 167، 205، 300.
(2) سيأتي الحديث عن هذين الكتابين.
(3) المرجع السابق.
(4) الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ) 1/111 – 113.
(5) مؤلفات الشيخ 5/11.(131/35)
ويورد الشيخ في رسالته لابن عباد(1) مطوع ثرمداء بعضاً من مناهضة الخصوم – في نجد – ضد الدعوة السلفية فيقول:
(وكذلك أحمد بن يحيى(2) راعي رغبة عداوته لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض لما عرفوه، وإن كان يقر به أحياناً عداوة ظاهرة … وكذلك ابن إسماعيل أنه نقض ما أبرمت في التوحيد، وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة(3) كله من أوله إلى آخره في إنكار توحيد الألوهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان(4) راعي وثيثيه، وقرأه عندكم وجادل به جماعتنا، وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه مثل ابن سحيم وابن عبيد يحتجون به علينا ويدعون الناس إليه..
وكذلك ما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام (5)، وقرأه على جماعتكم يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية..) (6).
وفي رسالة لابن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، ويقول الشيخ بعبارة مؤثرة:
(فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة وزعموا أني أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم)(7).
ويصف الشيخ عداوة الخصوم وفتنتهم في رسالته للسويدي، فيقول رحمه الله:
(ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله..) (8).
__________
(1) هو محمد بن عباد الدوسري، ولد في البير إحدى قرى المحمل، ثم انتقل إلى حوطة سدير، وقرأ على علمائها، وصار قاضياً في ثرمداء، وتوفي بها سنة 1175هـ.
انظر : (علماء نجد) 3/812.
(2) هما من خصوم دعوة الشيخ – كما هو الظاهر من هذا النص وغيره – ولم أعثر لهما على ترجمة.
(3) يعني به : أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني.
(4) هما من خصوم دعوة الشيخ – كما هو الظاهر من هذا النص وغيره – ولم أعثر لهما على ترجمة.
(5) يعني : العام الماضي.
(6) مؤلفات الشيخ 5 / 20 باختصار يسير.
(7) مجموعة مؤلفات الشيخ 5 / 26.
(8) المرجع السابق 5 / 36 ،37.(131/36)
ويهاجم الشيخ الإمام بعض خصومه الألداء كابن سحيم، ويصفه بما يناسب حاله وواقعه فقال رحمه الله:
(لكن البهيم (سليمان بن سحيم) لا يفهم معنى العبادة) (1).
ثم يقول: (فيا سبحان الله ما من عقولهم تفهم أن هذا الرجل من البقر، التي لا تميز بين التين والعنب) (2).
ويذكر الشيخ في رسالته لعبد الرحمن بن ربيعة (3) مطوع ثادق بعضاً من أفاعيل المعارضين في صد الناس عن هذه الدعوة فقال الشيخ رحمه الله:
(فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراء منه، وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه، فإن استقمت على التوحيد وتبينت فيه، ودعوت الناس إليه، وجاهرت بعداوة هؤلاء خصوصاً ابن يحيى؛ لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً، وصبرت على الأذى في ذلك فأنت أخونا وحبيبنا) (4).
ويورد الشيخ في رسالته لأحمد بن إبراهيم(5) ) مطوع مرات نصاً مهماً يتضمن بعض مطاعن الخصوم من نجد وغيره، وشيئاً من شبهاتهم، وما كانوا عليه من حرص على عداوة الدعوة السلفية، يقول رحمه الله:
(وقد صرحوا – أي علماء الحرمين – أن من أقر بالتوحيد كفر، وحل ماله ودمه، وقتل في الحل والحرم. ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون عند ربهم } ، فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر ولسيف العتيقي (6) يرسلونها إليك.
__________
(1) المرجع السابق 5 / 90، 91.
(2) المرجع السابق 5 / 90، 91.
(3) لم أعثر له على ترجمة.
(4) المرجع السابق 5/ 167.
(5) لم أعثر له على ترجمة .
(6) هو سيف بن أحمد العتيقي، ولد في حرمة بسدير، وانتقل إلى الإحساء وتوفي بها سنة 1189هـ، وقد جمع الردود التي بها على الشيخ الإمام، فبلغت سفراً ضخماً وهي التي يقصدها الشيخ الإمام هاهنا.
انظر: (السحب الوابلة) ص671، (علماء نجد) 1/327.(131/37)
وجاءنا بعض المجلد الذي صنفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا، وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادتها وعبادة سية طالب، ويقول في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم وعشرة أنا عاشرهم فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة … وأيضاً مكاتب أهل الحسا موجودة، فأما ابن عبد اللطيف(1) وابن عفالق وابن مطلق (2) فحشوا بالزبيل أعني سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به أو أنكر الشرك)(3)،(4).
ومع شدة هذه الخصومة وضراوتها، وشناعة هذا العناد، واستمراره إلا أن الشيخ رحمه الله قد كان حريصاً على هداية أولئك الخصوم، فيبذل الأسباب والوسائل لتحقيق ما يؤدي إلى استقامتهم والتزامهم بمتابعة الحق المؤيد بالدليل، ويظهر اللين والتلطف معهم، كما هو واضح في رسالته لشيخه عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف أحد علماء الإحساء، حيث يخاطبه فيقول:
(فإني أحبك وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقاً لدين الله) (5).
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الإحساني، وهو أحد شيوخ الشيخ الإمام في الإحساء، وقد راسله الشيخ ودعاه إلى الحق، ولكنه أعرض وألف رسالة ضد الشيخ : انظر (الدرر السنية) 9/216.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/205، 206 باختصار.
(4) اعتنى الشيخ الإمام بمراسلة مطاوعة بلدان نجد، كما هو بيّن جلي في تلك النصوص التي نقلناها، وغيرها، وكان يورد في رسائله كثيراً من الحجج المقنعة في إثبات صدق دعوته، وقد أشار الشيخ في إحدى رسائله إلى مدى أثر المطاوعة في بعض بلدان نجد فقال :
(إذا كان أهل الوشم وأهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف) ( مجموعة الرسائل 5 / 207.
(5) الدرر السنية) 1/ 32.(131/38)
وهذا الشيخ المخاطب قد ألفّ رسالة في الرد على الشيخ الإمام، سماها (سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد)(1).
ويخاطب الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى فيقول:
(فإن كان إني أدع لك في سجودي، وأنت وأبوك أجل الناس إليّ وأحبهم عندي …) (2).
ومع ذلك فقد عانى الشيخ الإمام من الشيخ عبد الوهاب وأبيه معاناة شديدة، وأصابه منها همّ وغمّ كما هو مذكور في بعض رسائله (3).
ويصف الشيخُ الإمام محمد بن فيروز (4) - أثناء رسالته لأحمد بن إبراهيم مطوع مرات – فيقول رحمه الله:
(ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة وينتحل كلام الشيخ (ابن تيمية)وابن القيم خاصة...)(5).
ولكن هذا الخصم - محمد بن فيروز - قد بلغت محاربته ومناهضته لهذه الدعوة حداً لا يوصف، لذا مدحه أحد خصوم هذه الدعوة وهو الحداد (6) حيث قال مادحاً لابن فيروز:
(ولله در الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي لما قام مجتهداً ابتغاء مرضاة الله في إطفاء بدعة هذا الخبيث، كلما رأى وجهاً لبعض أهل المذاهب الأربعة، تبع ذلك الوجه إذا كان مخالفاً لما يعلمه أو يقوله ابن عبد الوهاب البدعي)(7).
__________
(1) انظر (مصباح الأنام) للحداد ص3.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/280.
(3) انظر مجموعة مؤلفات الشيخ 5/280، 314، 315.
(4) هو محمد بن عبد الله بن فيروز، من أهل نجد أصلاً، ولد في الإحساء سنة 1142هـ، مهر في عدة فنون، وله كثير من الشيوخ والتلاميذ، توفي في البصرة سنة 1216هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص721، (علماء نجد) 3/882.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/206.
(6) هو علوي بن أحمد بن الحسن الحداد، من أهل حضرموت، له عدة مؤلفات، توفي سنة 1232هـ.
(7) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام)، المطبعة العامرة، مصر، 1325هـ، ص 60.(131/39)
وبلغ من كيد ابن فيروز أنه – كما قال ابن حميد (1) في السحب الوابلة (2) - (كاتب السلطان عبد الحميد خان يستنجده على قتال البغاة الخارجين بنجد) (3).
ويصل بابن فيروز الإسفاف وشناعة السباب وبذاءة اللسان لدرجة أنه كتب تقريظاً لرسالة تلميذه عبد الله بن داود(4) – أحد أفراخ ابن فيروز وواحد من خصوم الدعوة السلفية -، وتضمن تقريظه ما ذكره مسعود الندوي (5) – رحمه الله – حيث قال:
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن حميد ولد في عنيزة سنة 1232هـ، وكان إمام المقام الحنبلي في مكة، وقد برع في عدة علوم، إلا أنه كان خصماً ضد هذه الدعوة السلفية، توفي في مكة سنة1295هـ.
انظر ترجمته : في مجلة العرب ج9، 10، س12، ص642، (علماء نجد) 3 / 862.
(2) هو كتاب (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) ولا يزال في حكم المخطوط وقد ذكر مؤلفه تراجم الحنابلة من حيث وقف ابن رجب في (ذيل طبقات الحنابلة) سنة 751هـ وقد أعرض عن تراجم أئمة الدعوة – غالباً – بل طعن فيهم كما سيأتي موضحاً –.
انظر : مجلة العرب – الجزء السابق ذكره – ص 648.
(7) مجلة العرب ج9، 10، س12، ص 723.
(3) هو عبد الله بن داود الزبيري، ولد في الزبير، ورحل إلى الإحساء وتعلم بها، له مؤلفات، منها كتاب ضد هذه الدعوة السلفية بعنوان : (الصواعق والرعود)، توفي سنة 1225هـ.
انظر : (السحب الوابلة) ص 687، (علماء نجد) 2/539.
(4) مسعود الندوي (1328هـ - 1373هـ)، باحث إسلامي، وداعية كبير إلى الإسلام واللغة العربية، له عدة كتب.
انظر : (الأعلام) 7/221.
(5) 10) (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه)، ترجمة عبد العليم البستوي، من مطبوعات جامعة الإمام، 1404هـ، ص 170، 171.(131/40)
(وفي بداية هذا التقريظ، يبصر القارئ للعبارة التالية، ولعلة يذوب حياء لمجرد رؤيتها، ولكن نقل الكفر ليس بكفر فاضغط على قلبك واقرأ: (.. بل لعل الشيخ - يعني عبد الوهاب - غفل عن مواقعة أمه – يعني محمد بن عبد الوهاب - فسبقه الشيطان إليها فكان أبا لهذا المارد … الخ إنا لله وإنا إليه راجعون – وهل يستطيع كبار المقذعين أن ينحطوا إلى هذا المستوى من الإقذاع) (1).
من خلال ما سبق يتضح – إجمالاً – شدة كيد الخصوم وقوة المعارضة في بلاد نجد وتنوع أساليبها، وتعدد وسائلها، وذلك أثناء ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وهذا البيان الموجز لموقف الخصوم من العلماء والمطاوعة في نجد أثناء ظهور دعوة الشيخ، هو بمثابة الذي يعطي صورة تقريبية لسلعة المعارضة عموماً وقوة نفوذها في مختلف البلاد.
وناسب - عقب ذلك - أن نذكر بعض ما سطره وكتبه الخصوم من الرسائل والمؤلفات ضد هذه الدعوة، مع مراعاة التدريب الزماني - حسب وفيات أولئك العلماء -، وكذلك مع مراعاة الترتيب المكاني - حسب القرب من موطن هذه الدعوة -، وكل ذلك قدر المستطاع، وقد نشير لبعض أسماء الخصوم ممن عادى هذه الدعوة، ولكن لم يصل إلينا شيئاً مما كتبوه، نظراً لما لهم من أثر في غيرهم بتأليف ما يعارض الدعوة، أو لاتصال جهودهم وارتباطها بمن ألفّ وصنّف ضد هذه الدعوة.
فممن عارض دعوة الشيخ الإمام وناصبها العداء في بلاد نجد أثناء ظهور الدعوة، عبد الله بن أحمد بن سحيم (2).
__________
(1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن سحيم، ولد في المجمعة، وقرأ على علماء سدير، وصار قاضياً على بلدان سدير، وقد كتب له الشيخ الإمام رسالتين مجيباً فيهما على شبهاتي المويس وسليمان بن سحيم.
انظر : (علماء نجد) 2 / 512، (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/ 62، 130.
(2) علماء نجد) 2 / 512.(131/41)
(ت 1175هـ)، وهو من بيت آل سحيم الذي يضم أكثرمن خصم حارب الدعوة السلفية، ولكن المذكور - كما يقول البسام - (أخف عشيرته معاداة ومجابهة للدعوة السلفية) (1).
ومن أشد خصوم هذه الدعوة وأكثرهم عناداً ومناهضة، عبد الله بن عيسى المويس (ت 1175هـ)، ومعاداته وخصومته ظاهرة جلية - من خلال رسائل الشيخ والتي أشرنا إلى بعض منها.
يقول ابن حميد في (السحب الوابلة) (وكان ممن أنكر على ابن عبد الوهاب وعلى أتباعه في ابتداء دعوتهم) (2).
وقد جاهر عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عدوان(3) (ت 1179هـ) بالعداوة للشيخ، (فألف رسالة في نحو ثمانية كراسات من القطع الصغير رد بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (4).
ويبدو أن هذه الرسالة في الوقف (5)، وكان مربد بن أحمد الوهيبي التميمي (6)
__________
(1) ص 692.
(3) ولد ابن عدوان في قرية أثيثية بالوشم، قرأ في عدة علوم، وله نظم، وبعض الرسائل توفي بعد رجوعه من المدينة عند واد يقال له العظيم.
(4) البسام، (علماء نجد) 2 / 474 وقد طلبت هذه الرسالة ممن يملكها فوعدني بها، ومازلت أكرر الطلب وهو يكرر الوعد، ولكن دون جدوى.
(5) لأن حمد الجاسر فيما يبدو فهم أن رسالة الوقف غير الرسالة التي رد بها ابن عدوان على الشيخ الإمام..، مع أن ظاهر عبارة ابن حميد في (السحب الوابلة) يدل على أنهما رسالة واحدة، يقول ابن حميد (منها رسالة في الوقف رد على مبتدع العارض) ولم يذكر ابن حميد غير هذا الرد، كما يبدو أن البسام ذكر الرسالة على أنها رد، ولم يبين أنها في الوقف، والله أعلم. انظر : (السحب الوابلة) ص 682.
(6) نشأ مربد بن أحمد في حريملاء، ثم طلب العلم في دمشق، وصار قاضي حريملاء، قتل سنة 1171هـ في بلدة رغبة.
انظر : (علماء نجد) 3 / 947.(131/42)
من أهل حريملاء من أعداء الدعوة، وبلغ من عداوته وتضليله أن ذهب إلى صنعاء في اليمن، فشوه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مما جعل الصنعاني - على رأي البسام - ينقض مدحه بقصيدة أخرى على وزنها (1).
__________
(1) يذكر البسام في (علماء نجد) 3 / 948، أن الصنعاني رجع عن مدحه، بخلاف بعض من المحققين، ويؤكد خصوم الشيخ أن الصنعاني قد رجع عن مدحه، ونقض قصيدته الأولى، بقصيدة أخرى شرحها حفيده يوسف بن إبراهيم الأمير، بعنوان (محو الحوبة في شرح أبيات التوبة) – انظر : (لفحات الوجد) ق17، و(كشف النقاب) ص 75 – ولقد ألف الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله كتاباً سماه (تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين) دافع فيه عن الإمامين ابن عبد الوهاب والصنعاني، وأكد ابن سحمان بعدة أدلة أن القصيدة التي نقض بها المدح – أولاً – إنما هي موضوعة ومكذوبة على الصنعاني لأنها تخالف ما كان عليه الصنعاني من اتباع السنّة وذم البدع وأهلها، كما هو ظاهر في كتبه، وقد رد ابن سحمان على القصيدة وعلى شرحها، نثراً ونظماً ولقد تضمن شرحه الأبيات كلاماً يخالف مخالفة صريحة لما قرره الصنعاني في كتبه مثل (تطهير الاعتقاد). فمن ذلك أن تلك القصيدة وشرحها قد تضمنتا الزعم بأن دعاء الموتى والاستغاثة بهم كفر عملي، والإمام الصنعاني قد عرف عنه أن الاستغاثة بالموتى ودعائهم من الكفر الاعتقادي المخرج عن دين الإسلام. انظر : (تبرئة الشيخين) ط1، مطبعة المنار مصر، 1343هـ، ص 182 – 195. ومما يؤكد ما ذكره ابن سحمان، أن القصيدة المزعومة قد شرحها يوسف بن إبراهيم الأمير، وهو حفيد الصنعاني، وقد عرف عن هذا الحفيد المناهضة والبغض للدعوة السلفية، فلا يبعد أن يكون هو صاحب القصيدة، خاصة وأن هذا الحفيد يقرظ الشعر. انظر: (لفحات الوجد) ق 18، ق 29، وانظر: المقال في التعريف بـ (لفحات الوجد) بمجلة العرب س 17، ج 9، 10، ص 744.(131/43)
ومن أشد هؤلاء الخصوم عداوة وكيداً، وأعظمهم إفكاً وتضليلاً، سليمان بن سحيم (ت 1181هـ)، فإن عداوته ظاهرة وواضحة كما في الرسائل الشخصية للشيخ الإمام أثناء الرد على مفترياته (1).
ولقد كانت رسالته المملوءة بالأكاذيب والشبهات ضد الدعوة السلفية، من أشد الوسائل تشويهاً للدعوة، وأشنعها تحريفاً وتزويراً لمبادئ هذه الدعوة ولأتباعها، حيث أن هذا الخصم قد بعث بتلك الرسالة إلى سائر علماء الأقطار والأمصار يستحثهم ويحرضهم ضد مجدد هذه الدعوة، ولقد كان لها آثارها وأصداءها السيئة ضد الدعوة ومجددها.
وكتب صالح بن عبد الله الصائغ (2) (ت 1183هـ) قصيدة يرد بها على الأمير الصنعاني لما مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثنى خيراً على دعوته.
ومطلع رد الصائغ:
سلام من الرحمن أحلى من الشهد ………وأطيب عرفاً من شذا المسك والورد
إلى معشر الإخوان أهل محبتي ………وأهل ودادي نعم ذلك من ود
وبعد فقد جاءت إلينا رسالة ………بها قول زور خارج من لدن زيدي (3)
ومن المناوئين لهذه الدعوة سيف بن أحمد العتيقي (ت 1189هـ) ويتجلى عدائه بأنه جمع الردود التي رد بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكانت سفراً ضخماً، ولكن – كما قال البسام – (إن هذا المجموع لا يعرف له وجود إلا بالذكر، وعند التصارع فإن البقاء للصالح من الأعمال والأقوال)(4).
__________
(1) انظر عبد الله العثيمين، بحوث وتعليقات في تاريخ المملكة السعودية ط1، الرياض، 1404هـ (موقف سليمان بن سحيم من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 91 – 113).
(2) ولد الصائغ في عنيزة، ونشأ بها وصار قاضياً لها، له عدة تلاميذ ومؤلفات، توفي في عنيزة.
…انظر : (السحب الوابلة) ص 673، (علماء نجد) 2 / 364.
(3) علماء نجد) 2 / 364، ثم قال البسام بعد إيراد الأبيات الثلاثة السابقة : (وتقع في نحو اثني عشر بيتاً تركت بقيتها عمداً).
(4) البسام، (علماء نجد) 1/ 327.(131/44)
وسعى سليمان بن عبد الوهاب (1) (ت 1208هـ) – شقيق الشيخ الإمام – في معاداة الدعوة وتعددت أساليب خصومته ومناوئته … فقد ألف رسالة سماها (فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب) (2) كان من آثارها نكوص أهل حريملاء عن اتباع الدعوة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت آثار الكتاب إلى العيينة، فارتاب وشك بعض من يدعي العلم – في العيينة – من صدق هذه الدعوة وصحتها (3).
يقول العثيمين عن ذلك:
__________
(1) ولد الشيخ سليمان في العيينة وتولى قضاء حريملاء، وأقام في سدير، وتوفي بالدرعية.
انظر : (علماء نجد) 1 / 302.
(2) ولعل هذا العنوان هو الاسم الصحيح لرد الشيخ سليمان على أخيه الشيخ الإمام، ويدل على ذلك ما ذكره ابن حميد في (السحب الوابلة) ص 699، والبسام في (علماء نجد) 1 / 304، وإليه يميل العثيمين في كتابه (الشيخ ابن عبد الوهاب) ص61، 101، وكذا الشبل في تحقيقه لكتاب (الأخبار النجدية) للفاخري ص 126. ولقد لاحظت أن هذا الكتاب له أسماء أخرى منها :
الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، وقد طبع الكتاب بهذا الاسم في الهند 1306هـ، ثم مصر، وتركيا.
…حجة فصل الخطاب من كتاب رب الأرباب وحديث رسول الملك الوهاب وكلام أولي الألباب في إبطال مذهب محمد بن عبد الوهاب. نسخة خطية في مكتبة الأحقاف بحضرموت.
الرد على من كفر المسلمين بسبب النذر لغير الله نسخة خطية في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد ومما يجدر ذكره هاهنا أني لاحظت أن مخطوط (المشكاة المضيئة) في الرد على الوهابية المنسوب لابن السويدي إنما هو نسخة مكررة حرفياً من كتاب الشيخ سليمان بن عبد الوهاب …، اللهم إلا أن كتاب هذا السويدي يزيد عن كتاب الشيخ سليمان بوجود بعض السباب والألفاظ النابية.
……انظر – مثلاً - : ق2، ق3، ق25.
(3) انظر : مجموعة الشيخ 1 / 281، ابن غنام 2 / 225.(131/45)
(لم يقتصر نشاط سليمان على بلدته – حريملاء – وإنما بذل جهداً لإقناع أهل العيينة بالخروج على الدعوة ودولتها، وكانت وسيلته في ذلك أن أرسل إليهم كتاباً ضمنه آراء تناقض آراء أخيه محمد في مسائل العقيدة..) (1).
ويظهر أن سليمان يخالف أخاه في مسألة الذبح والنذر لغير الله ونحوها فيعتبرهما سليمان من الشرك الأصغر، ويورد الأدلة لكلامه فيدعي أن ابن تيمية وابن القيم على ذلك الرأي الذي يقوله – كما سيأتي موضحاً في موضعه(2)
__________
(1) الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 61.
(2) حول مسألة هل رجع الشيخ سليمان عن ضلالاته وانضم إلى هذه الدعوة أم بقي مصراً على ذلك العداء ؟ يؤكد البسام – في (علماء نجد) 1 / 305 – بكثير من الأدلة عدم صحة رجوع الشيخ سليمان، وقد تعقب الأستاذ محمد السكاكر أدلة البسام بالمناقشة والرد كما في رسالته – لنيل الماجستير – (الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة) ص 126.
وليس المقام هاهنا مقام تفصيل ومقارنة بين أدله الطرفين، وإنما الذي يهمنا أن نذَّكر – ابتداء – بما قاله صلى الله عليه وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم. والأنبياء ثم الصحابة ومن بعدهم من سادات الموحدين، قد وجدوا في آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم العداوة الشديدة والخصومة الظاهرة لدعوة الحق والصواب فلا عجب أن يوجد ذلك فيمن بعدهم كما هو حال الشيخ سليمان – على من يقول بعدم توبته.. – مع أخيه محمد وأمر آخر وهو أن هناك أدلة – لم يذكرها البسام ولا السكاكر – كأنها ترجح عدم رجوع الشيخ سليمان..
منها ما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن :
(وممن أورد هذه الشبهة (عدم طروء الشرك في هذه الأمة) عليه – أي محمد بن عبد الوهاب عبد الله المويس راعي حرمة، وابن إسماعيل في الوشم، وسليمان بن عبد الوهاب في العارض) (مجموعة الرسائل والمسائل) النجدية) 3 / 53.
ويقول أيضاً بعد أن ساق بعض الردود على شبهات ابن منصور :
(وقد اكتفيت بما ذكره شيخنا في رده على سليمان بن عبد الوهاب الذي صدره بحديث عمرو ابن عبسة) (الدرر السنية) 9 / 201.
ولم ترد إشارة إلى توبته، بل يترحم عليه في هذين النصين.
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتابه (منهاج التأسيس). (قال (داود) النقل الرابع والعشرون ذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في رده على أخيه محمد بن عبد الوهاب …) ص 190.
وأثناء رد الشيخ عبد اللطيف على هذا النقل، لم يذكر شيئاً مما يدل على رجوع الشيخ سليمان ويبدو أن الشيخ عبد اللطيف لم يعلم برجوع الشيخ سليمان إلا أثناء تسويده لكتابه (مصباح الظلام)، بدليل أنه وصف سليمان بقصور العلم وقلة التحصيل، ثم قال بعد ذلك مباشرة -.. (وقد وقفت على رسالة تدل على رجوعه أثناء تسويد الكتاب) ص104، 105، وكتاب (مصباح الظلام) ألفه بعد تأليف (منهاج التأسيس) – وإن لم يتم المنهاج – كما دل على ذلك ما جاء في ص 335، 336، من المصباح. فيبعد أن يظل أمر رجوعه خفياً على المجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وكذا ابنه الشيخ العالم عبد اللطيف، ثم لا يعلم الشيخ عبد اللطيف برجوع سليمان إلا أخيراً، والله أعلم، ورحمته أوسع.(131/46)
.
وناهض محمد بن فيروز (ت 1216هـ) دعوة الشيخ الإمام أشنع مناهضة وأشدها، وكاد لها بمختلف أنواع الكيد والمكر، ومن جملة كيده أنه ألف كتاباً في الرد على هذه الدعوة بعنوان (الرسالة المرضية في الرد على الوهابية)(1).
ما ذكرناه – سابقاً – أمثلة معدودة لما كتب ضد الشيخ ودعوته في بلاد نجد، وقبل سقوط الدرعية سنة 1234هـ.
أما عن بلاد الإحساء فقد ألف عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف - وهو أحد شيوخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في الإحساء - رسالة بعنوان (سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد) (2).
كما ألفّ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق (ت 1164هـ) رسالة وجهها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان عنوانها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين) (3)، وقد تضمنت هذه الرسالة أسئلة تعجيزية تهكمية، وبأسلوب يحمل طابع التحدي والغرور، وقد قصد بها ابن عفالق الطعن والتوهين في محمد بن عبد الوهاب، والنيل منه والاستخفاف به - كما هو ظاهر في هذه الرسالة -، كما أن هذه الأسئلة – من خلال الاطلاع عليها - ليست وكذا الجواب عليها من أصول العلم وواجباته، بل أقرب ما تكون إلى فضول العلم وترفه.
ومن هذه الأسئلة – المترفة – التي وجهها ابن عفالق إلى الشيخ لكي يجيب عليها، قول ابن عفالق:
__________
(1) ط. بمباوي 1307هـ انظر : العثيمين (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره) ص 146.
(2) سبق ذكره.
(3) وهي رسالة مخطوطة، في مكتبة الجامعة الملكية في تبونجن بألمانيا، وقد حصلت على صورة منها.(131/47)
(وبعد فأسألك عن قوله تعالى: { والعاديات … } إلى آخر السورة هي من قصار المفصل كم فيها من حقيقة شرعية وحقيقة لغوية وحقيقة عرفية، وكم فيها من مجاز مرسل ومجاز مركب، واستعارة تحقيقية، واستعارة وثاقية واستعارة عنادية واستعارة عامية واستعارة خاصية واستعارة أصلية واستعارة تبعية واستعارة مطلقة واستعارة مجردة واستعارة مرشحة وموضع الترشيح والتجريد فيها وموضع الاستعارة بالكناية والاستعارة التخيلية وما فيها من التشبيه الملفوف والمفروق والمفرد والمركب والتشبيه المجمل والمفصل. إلى آخر هذه الأسئلة)(1).
كما ألفّ ابن عفالق رسالة وجهها إلى عثمان بن معمر أمير العيينة(2) يشككه في دعوة الشيخ، ويطعن فيها حتى يتخلى عثمان عن نصرتها(3) – في بادئ الأمر -، وادعى ابن عفالق أن ابن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم في مسائل التوحيد(4)، وقد كتب ابن معمر رداً على رسالة ابن عفالق يذكر موافقته لدعوة الشيخ، مما جعل ابن عفالق يكتب جواباً عن رسالة ابن معمر(5) وقد شنّع في هذا الجواب على الشيخ الإمام وابن معمر، ورماهما بتكفير المسلمين وتضليلهم(6)، ويظهر من هذه الرسالة إلحاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر بترك نصرة الشيخ (7).
__________
(1) تهكم المقلدين)، ق5.
(2) يوجد جواب بن عفالق على رد بن معمر مخطوطة في مكتبة الدولة في برلين بألمانيا، وقد حصلت على صورة منه.
(3) انظر من تلك الرسالة : ق 39، 40، 49، 52.
(4) انظر من تلك الرسالة : ق42، 44، 50، 52.
(5) يوجد جواب ابن عفالق على رد ابن معمر مخطوطاً في مكتبة الدولة في برلين بألمانيا وقد حصلت على صورة منه.
(6) انظر : ق57، 59، 63.
(7) مثلاً يقول ابن عفالق مخاطباً ابن معمر (وأرسلت لك ما فيه الكفاية) ق 63.(131/48)
وفي المدينة كتب محمد بن سليمان الكردي(1) (ت 1194هـ) أسئلة وأجوبة ضد الدعوة السلفية، حيث تضمنت مخالفة ومعارضة لما قرره وأكده أئمة الدعوة السلفية قديماً وحديثاً (2).
كما كتب الكردي تقريظاً لرسالة سليمان بن عبد الوهاب، مؤيداً له في ذلك، ومادحاً لرسالة سليمان ضد الدعوة السلفية، ومما حواه ذلك التقريظ هذه العبارة – التي يخاطب بها الشيخ الإمام:
(يا ابن عبد الوهاب سلام على من اتبع الهدى فإني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين) (3).
وفي العراق كتب أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني(4)
__________
(1) محمد بن سليمان الكردي، ولد بدمشق سنة 1127هـ، ونشأ في المدينة، وتولى إفتاء الشافعية فيها، وله عدة مؤلفات، توفي بالمدينة. انظر (الأعلام) 6 / 152.
(2) عنوانها : (مسائل وأجوبة وردود على الخوارج)، صورة خطية عن معهد المخطوطات، وطبعت ضمن فتاواه في مصر 1357هـ.
(3) الحداد، (مصباح الأنام)، ص81.
(4) لم أعثر له على ترجمة، ويظهر أن كتابه كان له رواج عند خصوم الدعوة المعاصرين للشيخ كما جاء مدوناً في الرسائل الشخصية للشيخ.
انظر : (مجموعة الشيخ) 5 / 20، 206.(131/49)
(كان حيّا سنة 1157هـ) مجلداً ضخماً سمي بـ (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب) (1) يزيد عن مائتين ورقة، وهذا الكتاب جواب على رسالة ابن سحيم التي بعثها إلى علماء الأمصار تحريضاً لهم على الشيخ وتشويهاً للدعوة السلفية، ويظهر من هذا الكتاب شدة إلحاح ابن سحيم على أولئك العلماء من أجل مناهضة الشيخ الإمام ودعوته، حيث أنه تكرر منه الطلب مرة ثانية – كما يذكر القباني(2) – فكتب القباني هذا المجلد(3).
__________
(1) توجد منه صورة خطية في قسم المخطوطات بجامعة الإمام.
(2) انظر : (فصل الخطاب) ق124.
(3) 10) مما يجدر ذكره هاهنا حول الاسم الصحيح لهذا الكتاب أن القباني أشار في مقدمة هذا الكتاب ق3، 4 ، أن ابن عبد الوهاب أرسل رسالة إليهم يدعوهم لعبادة الله وحده.. فألف القباني كتاباً في الرد على هذه الرسالة، سماه (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب)، فلما قدمت رسالة ابن سحيم وتكرره طلبه سنة 1157هـ، كتب عندئذ – القباني – كتاباً آخر هو اختصار للكتاب السابق وزيادة – كما قاله القباني – ، ومما يؤيد أن الكتاب الذي هو جواب على رسالة ابن سحيم مغاير للكتاب الأول (فصل الخطاب)، أن القباني – يكرر كثيراً (وذكرنا في فصل الخطاب..) انظر : ق31، 34، 48، 50، 53، 138، 166 ويؤكد ذلك ما ذكره الأستاذ عباس العزاوي في كتابه (ذكرى أبي الثناء الألوسي) أن الشيخ الإمام أرسل رسالة إلى البصرة في منتصف سنة 1155هـ، يدعوهم فيها، فأجابه القباني في كتابه (فصل الخطاب) راداً عليه بما وقع من ردود على شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر : ص34.
كما أن الشيخ الإمام أورد عبارة للقباني في تحسين بناء القباب على القبور، وإجماع العلماء على تجويزه – على حد زعمه -، انظر : (مجموعة الشيخ) 5 / 206. وهذه العبارة ليست موجودة – حسب اطلاعي – في الكتاب الآخر الذي هو جواب على رسالة ابن سحيم.(131/50)
وألف عبد الله بن داود الزبيري (ت 1225هـ) كتاباً في مناهضة هذه الدعوة سماه (الصواعق والرعود في الرد على ابن سعود) (1) .
يقول البسام في ترجمته للمذكور أنه (قد شرب من مشائخه (وأعظمهم محمد بن فيروز) عداوة للدعوة السلفية في نجد وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لذا فإنه من أشد الجادين في مجابهتها ومعارضتها، وقد صنف في الرد عليه كتاباً سماه (الصواعق والرعود في الرد على ابن سعود)، إلا أن الله قد أبقى هذه الدعوة الطيبة في نمو وتقديم وتوسع في المشارق والمغارب وذهبت رعوده وبروقه خلباً فالحمد لله على المعتقد الحسن) (2).
ومن خلال الاطلاع على بعض كتب الخصوم، يظهر أن كتاب الصواعق والرعود له أهمية وعناية عند الخصوم، ويحظى مؤلفه بالمدح والتقدير لديهم.
فقد مدح محمد بن محمد القادري (3) هذا الكتاب وبالغ في الإطراء، والتبجيل لمؤلفه، فقال:
(وهو كتاب مخزون بالعجائب، ومشحون بالغرائب، عظيم النفع، جليل الشأن، واضح البرهان، لا نعرف كتاباً في هذا النمط أشرف منه وأعظم، ولا أنفس منه وأتم، من شأنه أن يكتب سطوره بالنور على خدود الحور … ومن أراد أن يعرف دسائس الشيطان التي ألقاها إلى ابن سعود، فعليه بمطالعة (الصواعق والرعود)، فإنه كتاب غريب في صنعه عجيب، وكان التصدي لإبطالها فرض كفاية على علماء المسلمين، لئلا يغتر بها عوام المؤمنين، ويصير الوزر عليهم أجمعين، فجزا الله حضرة الشيخ عبد الله بن داود حيث أبطلها في (الصواعق والرعود) أحسن الجزاء حيث رفع الوزر عنه وعنهم في دار الجزاء (4).
__________
(1) يوجد مخطوطاً في المكتبة الشرقية ببتنة في الهند رقم 1238، ويذكر الحداد في (مصباحه) ص 79 : أن عبد الله بن داود استفاد من رد القباني.
(2) علماء نجد) 2 / 539.
(3) لم أعثر له على ترجمة.
(4) رسالة صغيرة (بدون عنوان) في الرد على الوهابية، توجد في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود – 7 ورقات، ق2.(131/51)
ومدح حسن بن عمر الشطي(1) الصواعق ومؤلفها فقال:
(وقد ألف العلامة المحقق والفهامة المدقق الشيخ عبد الله بن داود كتاباً مشهوراً مسمى بـ (الصواعق والرعود في الرد على ابن مسعود) فقد أطال في ابتداء أمره وسيرته وسيرة من بعده من خلفه، وقد انتشر هذا الكتاب واطلع عليه الفحول وأحسنوا الثناءات على مؤلفه …)(2).
وذكر علوي الحداد الصواعق ومؤلفه، فمدحه بقوله:
(وقد سمعت بكتاب مبسوط في عشرين كراساً سماه (الصواعق والرعود رداً على الشقي عبد العزيز بن سعود)، وقد قرظ عليه أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والإحساء وغيرهم، تأييداً لكلام مؤلفه وثناء منهم عليه، وقد أجادوا وبينوا) (3).
ويقول الحداد: (ومن أراد أن تقر عينه فعليه به أي بكتاب الصواعق والرعود للشيخ العلامة والبحر الفهامة عفيف الدين عبد الله بن داود الزبيري، فما أظنك تجد مثله …) (4)
ووصف ابن حميد هذا الكتاب بأنه (مجلد حافل أجاد فيه) (5)
__________
(1) هو حسن بن عمر بن معروف الشطي، من علماء دمشق، ولد بها سنة 1205هـ، له عدة مؤلفات، وله عدة تلاميذ توفي سنة 1274هـ. انظر (النعت الأكمل) ص 367.
(2) انظر تذييله على رسالة إثبات الصفات ق71، وكذا تذييله على رسالة مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد ق 39.
(3) مصباح الأنام) ص3.
(4) المصدر السابق ص4.
(5) السحب الوابلة) ص 687.(131/52)
وأما هذا الاهتمام والمدح الكبيرين لكتاب الصواعق ومؤلفه، فقد حرصت كثيراً على الحصول والاطلاع عليه، وبذلت جهدي في سبيل ذلك ولكن دون جدوى (1).
وفي اليمن كتب عبد الله بن عيسى الكوكباني (2) (ت 1224هـ) كتاباً في الطعن على دعوة الشيخ رحمه الله سماه (السيف الهندي في إبانة طريق الشيخ النجدي) (3) وقد حوت هذه الرسالة الكثير من المغالطات التاريخية حول تاريخ هذه الدعوة (4).
وفي حضرموت ألفّ علوي بن أحمد الحداد (ت 1232هـ) كتابين في مناهضة الشيخ ودعوته، فصنف كتاب بعنوان (السيف الباتر لعنق المنكر على الأكابر (5) ثم تبعه بآخر عنوانه (مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام).
__________
(1) علمت من خلال كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) …. لمسعود الندوي أن هذا الكتاب يوجد مخطوطاً في مكتبة بتنة، الشرقية بالهند رقم 1238، فأرسلت في طلبه من تلك المكتبات بأكثر من خطاب، فجاء الرد متأخراً بالموافقة على ذلك وبشرط عسير، وهو إرسال كمية (ضخمة) من الكتب المطبوعة مثل (شذرات الذهب) لابن العمار، و(تاريخ بغداد) للخطيب، و(تهذيب التهذيب) لابن حجر وغيرها، ثم حاولت مرة ثانية وثالثة موضحاً صعوبة تحقيق هذا الطلب، أو على الأقل التنازل عن بعضه، فجاء الرد مؤكداً على الطلب السابق، فزهدت – عندئذٍ – في الحصول عليه.
(2) ولد الكوكباني سنة 1175هـ، وتعلم بحصن كوكبان، برز في عدة علوم، وعرف بالأدب وقرظ الشعر له عدة مؤلفات. انظر : (نيل الأوطار) 2 / 92.
(3) انظر : (لفحات الوجد من فعلات أهل نجد) ق 3.
(4) من هذه المغالطات التي ذكرها ابن عيسى ونقلها عنه صاحب اللفحات أن محمد بن عبد الوهاب المقدسي، وكان مبتدأ أمره خروج الشيخ ونزوله على الشيخ عبد العزيز النجدي، الذي لا يعرف حلالاً ولا حراماً ، ق 4، 5.
(5) علوي الحداد، (مصباح الأنام)، ص2.(131/53)
والكتاب الأخير يتكون من سبعة عشر فصلاً، وفي كل هذه الفصول رد على الدعوة السلفية، وتقرير ما يخالفها، فسوّد الحداد (مصباحه) بتقرير جواز الاستغاثة بالأموات والغلو في الأولياء، وتأكيد جواز البناء على القبور وتشييد المشاهد والمزارات لقبور الصالحين..
يقول الحداد في (مصباحه) مهوَّلاً شأن إخوانه من أدعياء العلم ممن أنكر الدعوة السلفية:
(ثم رأيت جواباً للعلماء الأكابر من المذاهب الأربعة لا يحصون بعدّ من أهل الحرمين الشريفين والإحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وبلدان الإسلام نثراً ونظماً أتى إليّ بمجموع رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة الذين في الزبارة والبحرين فيه رد علماء كثيرين..) (1).
وكتب المدعو محمد بن محمد القادري رسالة قصيرة في الطعن على الشيخ والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود(2) (ت 1218هـ)، وذلك لما بلغت – هذا القادري – رسالة الأمير عبد العزيز التي توضح معتقدهم وتبين ما هم عليه، وقد كتب هذا الرد الذي هو أقرب إلى السباب والشتام سنه 1211هـ.. في مدينة حلب (3).
__________
(1) المصدر السابق ص 2، ص79.
وقد ذكر الحداد : منهم. أحمد المصري الإحسائي وعطاء المكي له رسالة بعنوان (الصارم الهندي في عنق النجدي) وألف المنعمي قصيدة في الرد على ابن عبد الوهاب.
انظر (مصباح الأنام) ص 2، 6.
(2) هو الإمام الذي تولى قيادة الدولة السعودية الأولى بعد وفاة والده، وقد امتدت وتوسعت الدولة في عهده …، واشتهر رحمه الله بالعدل والتقوى والإحسان إلى الرعية، مات مقتولا ًوهو يصلي على يد رافضي.
…انظر : (عنوان المجد) 1/167.
(3) انظر : ق7 من هذه الرسالة.(131/54)
وألف عمر المحجوب (1) (ت 1222هـ) من علماء تونس رسالة في الرد على الوهابية (2)، لما بلغته رسالة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وهذه الرسالة – كأختها السابقة – غالباً مجرد طعن وتجريح على الدعوة السلفية، وبأسلوب مسجوع متكلف.
ومن بلاد المغرب كتب محمد بن عبد المجيد بن عبد السلام بن كيران الفاسي(3) (ت 1227هـ) أحد علماء فاس بالمغرب، رسالة بعنوان (الرد على بعض المبتدعين من الطائفة الوهابية) (4) (ت 1229هـ)، وكان سبب تأليف كتابه هو وصول رسالتين من الأمير سعود بن عبد العزيز (5) (ت 1229هـ) إلى تلك البلاد فكتب المذكور هذا الرد على تلك الرسالتين، مقلداً أسلافه الأوائل ممن طعن وأنكر هذه الدعوة الصادقة الحقّة.
وخلف أولئك الخصوم أثناء مدة الدولة السعودية الثانية (1235هـ – 1309هـ) أفراخهم ممن تلقف من شيوخه كره الدعوة والكيد لها، وأشربوا بغض الشيخ الإمام وأتباعه.
فظهر في بلاد نجد محمد بن علي بن سلوم (6)
__________
(1) هو عمر بن القسام بن محجوب التونسي انظر (معجم المؤلفين) 7 / 304.
(2) طبعت في تونس سنة 1327هـ، وانظر مناسبة تأليف هذه الرسالة من كتاب (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) لأحمد بن أبي الضياف 3 / 63، 64.
(3) من فقهاء فاس، مالكي المذهب، له تصانيف. انظر : (الأعلام) 6/178.
(4) طبعت في مصر سنة 1327هـ.
(5) ولد الإمام سعود في الدرعية سنة 1165هـ، وعرف عهده بكثرة الغزوات، وقد تلقى العلم من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان للإمام سعود مجالس علم وذكر. انظر (عنوان المجد) 1 / 225.
(6) هو الفرضي، ولد في العطار بسدير سنة 1161هـ ورحل إلى الإحساء، له عدة مؤلفات، وألغاز في الفقه والفرائض، وتوفي في بلدة سوق الشيوخ.
انظر (السحب الوابلة) ص 827، (علماء نجد) 3 / 909.(131/55)
(ت 1246هـ)، وهو ممن شرق بهذه الدعوة (1)، وقد ترك نجداً، إلى الإحساء، ثم انتقل إلى البصرة مع شيخه محمد بن فيروز والذي هو خصم عنيد لهذه الدعوة كما تقدم.
ومنهم عثمان بن سند البصري (2) (ت 1250هـ)، وعداوته ظاهرة في كتابه المسمى (مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود) (3)، وقد اختصره أمين بن حسن الحلواني المدني (4) (ت 1316هـ)، ومن مفتريات عثمان بن سند أنه يزعم أن أتباع هذه الدعوة يكفرون عموم المسلمين الذين على الكرة الأرضية (5).
__________
(1) يبدو أن البسام يميل إلى أن ابن سلوم ليس من خصوم هذه الدعوة.. وكأنه لم يطلع على ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف في إثبات تلك العداوة.
انظر : (الدرر السنية) 9 / 215، 217، 335.
(2) ولد عثمان في حريملاء سنة 1182هـ ، ورحل إلى الزبير، له عدة مؤلفات كما أن له قصائد شعرية توفي في بغداد.
انظر : (روضة الناظرين) 2 / 73، ولكنه لم يشر إلى تلك العداوة !.
(3) 10) هو مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد، ر قم 5840.
(4) 11) انظر : ترجمته في (الأعلام) 2 / 15، (معجم المؤلفين) 3 / 6.
(5) 12) انظر : مختصر كتاب (مطالع السعود) لثمان بن سند اختصره أمين بن حسن طبعة محب الدين الخطيب، ص 80.
يذكر كاظم الدجيلي – في مجلة لغة العرب س 3، ع4، ص180 – أثناء ترجمة عثمان بن سند بأنه لم يرجع للوهابية لأنه طعن فيهم في هذا الكتاب (مطالع السعود) وقد صنفه في السنة الأخيرة من حياته.(131/56)
ومن أشد الخصوم – في بلاد نجد آنذاك – عداوة وكيداً لهذه الدعوة السلفية وأنصارها عثمان بن منصور(1) (ت 1282هـ)، وأن رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن(2) والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن وغيرهم من علماء الدعوة ممن عاصر عثمان بن منصور، كل ذلك يؤكد شدة تلك العداوة والمناهضة لهذه الدعوة السلفية.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن بعض مؤلفات ابن منصور:
(أما بعد فإنا قد وجدنا في كتب عثمان بن منصور بخطوطه أموراً تتضمن الطعن على المسلمين، وتضليل إمامهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيما دعا إليه من التوحيد، وإظهار ما يعتقده في أهل هذه الدعوة من أنهم خوارج تنزل الأحاديث التي وردت في الخوارج عليهم) (3).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن أحد كتب ابن منصور:
(وقد رأيت كتابه الذي سماه (جلاء الغمة)، ورأيت حشوه من مسبة دين الله، والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى ما لم نر مثله للمويس وابن فيروز والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين ومسبة مشائخ المسلمين) (4).
__________
(1) هو عثمان بن عبد العزيز بن منصور الناصري، ولد في أول القرن الثالث عشر في بلدة الفرعة بسدير، وطلب العلم في العراق، له مؤلفات منها (شرح كتاب التوحيد) للشيخ الإمام وتولى القضاء وتوفي في حوطة سدير. انظر: (علماء نجد) 3 / 6693.
(2) الشيخ عبد الرحمن بن حسن، هو المجدد الثاني و لد في الدرعية سنة 1193هـ درس على كبار علماء نجد وولي القضاء، وبعد سقوط الدرعية، نقل إلى مصر، ودرس على علمائها، ثم عاد إلى نجد حين طلبه تركي بن عبد الله، له عدة مؤلفات، توفي في الرياض.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 78، (علماء نجد) 1 / 56.
(3) الدرر السنية) 9 / 194.
(4) المصدر السابق 9 / 351.(131/57)
وأما كتبه التي ألفها ضد هذه الدعوة ومجددها فهي: جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة (1)، وغسل الدرن عما ركبه هذا الرجل من المحن، وتبصرة أولي الألباب (2).
وله كتاب رابع بعنوان (منهج المعارج لأخبار الخوارج)(3)
__________
(1) انظر : عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، (مصباح الظلام) ط3، دار الهداية، الرياض، ص16.
(2) المصدر السابق ص 30.
(3) وهو محفوظ في دار الكتب المصرية، وقد حصلت على صورة منه عن طريق د. عبد الله الشبل، وهذا المخطوط يصل إلى 186 ورقة تضمن أخبار الخوارج وتاريخهم، ولكنه في المقدمة ق6 ذكر كلاماً يطابق كلامه في كتابه جلاء الغمة – كما نقله الشيخ عبد اللطيف في كتابه (مصباح الظلام) ص 66، ومضمونه الطعن على هذه الدعوة وأتباعها ورميهم بتكفير المسلمين الذين يعمرون المساجد والمدارس …، ولذا ألحقنا هذا الكتاب ضمن المؤلفات المعادية للدعوة خاصة وأن الشيخ عبد الرحمن بن حسن قد لام عثمان بن منصور حين ألف في الخوارج، فكان مما قاله الشيخ عبد الرحمن :
(ومن الأمور الظاهرة البينة أنك تكتب في الخوارج وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم، والواقع في كثير من الأمة أعظم من مقالة الخوارج، عبادة الأوثان وتزيين عبادتها وإنكار التوحيد. والخوارج ما عندنا أحد منهم حتى في الأمصار، ما فيها طائفة تقول بقول الخوارج إلا الإباضية في أقصى عمان، ووقعوا في ما هو أكبر من رأي الخوارج، وهي عبادة الأوثان، ولا وجدنا لخطك وتسمية بالخوارج، وتسمية بالمعارج إلا أن هذه الدعوة الإسلامية التي هي دعوة الرسل إذا كفروا من أنكرها. قلت : يكفرون المسلمين لأنهم يقولون لا إله إلا الله (الدرر السنية) 9 / 231. وانظر حال ابن منصور وتلقيه عن مشايخه ابن سلوم. وابن سند، وابن جديد (عداوة الشيخ الإمام وبغض دعوته من خلال ما كتبة الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف في (الدرر السنية) 9 / 187، 195، 202، 210، 217، 333، 334.
ومن الإنصاف مع الشيخ عثمان بن منصور أن أسجل ما أخبرني به الشيخ أحمد بن عبد الله بن حميد في شهر ذي الحجة 1405هـ والده الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – أنه ذكر – وبطريق موثق – رجوع الشيخ عثمان بن منصور عن ضلالاته.
كما أني اطلعت على رسالة قصيرة لابن منصور بعنوان (الرد الدامغ على الزعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية زائغ) وهي رد على شيخه عثمان بن سند البصري، وهذه الرسالة موجودة بقسم المخطوطات بجامعة الإمام / رقم 2137 (1- 3ب).(131/58)
، كما أنه كتب قصيدة يمدح داود بن جرجيس أحد المناوئين للدعوة، ويحثه على مناهضة أئمة الدعوة السلفية ويسميهم عثمان بالخوارج (1).
وممن كتب ضد الدعوة السلفية – آنذاك – محمد بن عبد الله بن حميد (ت 1295هـ)، وتمثلت هذه الكتابة في إعراضه في كتابه (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) عن إيراد تراجم علماء الدعوة إلا ما ندر مثل ترجمته لشيخه الشيخ عبد الله أبو بطين رحمه الله، وذكره العلماء الذين ناهضوا الدعوة السلفية، وقد شنع ابن حميد في تراجم الخصوم على أهل الحق بالباطل، ومدح الخصوم على ردودهم، كما أنه يطلق بعض الأوصاف الشنيعة على الشيخ الإمام رحمه الله – كما هو واضح أثناء ترجمته لعبد الوهاب بن سليمان والد الشيخ الإمام (2).
وكتب ابن حميد – أيضاً – رسالة تضمنت الدفاع عن أبيات بردة البوصيري، والرد على الشيخ أبي بطين لما أجاب بما هو الحق عن أبيات البردة الشركية (3).
وفي الحجاز تولى أحمد بن زيني دحلان (4) (ت 1304هـ) – وكان مفتي الشافعية في مكة – بث الأكاذيب والمفتريات ضد الدعوة السلفية ومجددها، ولقد كان لتلك الأكاذيب التي تقوّلها على الدعوة وأنصارها، انتشار بين الناس، خاصة عند الحجاج القادمين من سائر أقطار المسلمين.
فمن كتبه (5)
__________
(1) انظر : (الدرر السنية) 9 / 348، 349.
(2) انظر : (السحب الوابلة) ص 698، 699.
(3) انظر : (مجموعة التوحيد) ط آل ثاني، المكتب الإسلامي دمشق، 1381هـ، ص 435، 436.
(4) ولد دحلان بمكة سنه 1232هـ، وتولى فيها الإفتاء والتدريس، له عدة مؤلفات في التاريخ والعقيدة والنحو..، مات في المدينة. يقول عنه محمد رشيد رضا : إن دحلان غير محدث ولا مؤرخ ولا متكلم وإنما هو مقلد للمقلدين ونقال من كتب المتأخرين.
انظر ترجمته : (الأعلام) 1 / 129، (معجم المؤلفين) 1 / 29، مجلة المنار م7، ص 393
(5) يقول فوزان السابق في (البيان والإشهار) :
(قد قال بعض الفضلاء من علماء مكة : تصانيف دحلان كالميتة لا يأكلها إلا المضطر. وقد رد عليه كثير من علماء الهند والعراق ونجد وغيرهم ففضحوه وبينوا ضلاله. وقد سمعت غير واحد ممن يوثق بهم من أهل العلم يقولون : أن دحلان هذا رافضي لكنه أخفى مذهبه وتسمى بتقليد أحد الأئمة الأربعة ستراً لمقاصده الخبيثة، ولنيل المناصب التي يأكل منها. ومن أدل الدليل على رفضه الخبيث، تأليفه لكتاب (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب) الذي ردّ فيه بهواه نصوص الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة) ص 45.(131/59)
التي ألفها ضد الدعوة السلفية رسالته المسماة (الدرر السنية في الرد على الوهابية) وقد طبعت عدة مرات، وهي موجودة ضمن كتابة (خلاصة الكلام) في أمراء البلد الحرام، كما أنها موجودة ضمن كتابه (الفتوحات الإسلامية).
ولقد كان لوجود دحلان في مكة أثر قوي في رواج مفترياته وشبهاته، لذا يقول محمد منظور النعماني (1) – مبيناً مدى انتشار تلك المطاعين بعد سقوط الدرعية 1234هـ.
(صادرت أرض الحجاز مركز دعاية ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعته بعدما أقصت الوهابيين قوات محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك على إيعاز من الحكومة العثمانية.. وأضحت تنتشر في الحجاز – فيما يتصل بالشيخ – أمور مستهجنة إن سمعها مسلم فإنه لا يكره شخصه فحسب.. بل يعتبره أكفر الكافرين في العالم كله.
وبما أن الحرمين الشريفين هما مركز المسلمين الروحي والديني ومهد الدعوة الإسلامية ومنتجع الحجيج من المسلمين في العالم كله، يختلف إليها المسلمون ولا سيما في مناسبة الموسم فساعد كل ذلك على انتشار كل ما يحاك فيهما ضد الوهابيين أو يدور حولهم في المحافل والنوادي أو يقال ويكتب في المؤلفات ساعده على انتشار في طول العالم وعرضه (2).
ولما ردّ بعض علماء الدعوة على شيخ الكذب دحلان – كما يصفه البعض، ودحلان جدير بهذا الوصف -، كتب محمد سعيد بابصيل (3) – من مكة – (وكان حيّاً سنة 1293هـ) رسالة بعنوان (القول المجدي) (4) مدافعاً عن دحلان ومعترضاً على أولئك الأئمة.
__________
(1) ولد محمد منظور النعماني عام 1323هـ في إحدى قرى الهند، حارب البدع والخرافات، له عدة مؤلفات نافعة، لا يزال حياً.
انظر : مقدمة كتابه (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ص 7.
(2) دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الفرقان، الهند، 1400هـ ص 26، 27.
(3) هو محمد بن سعيد محمد بابصيل، له مؤلفات. انظر (معجم المؤلفين) 10 / 36.
(4) انظر : مقدمة كتاب (البيان المجدي) لابن سحمان.(131/60)
وفي اليمن كتب محسن بن عبد الكريم بن إسحاق الحسني (1) من صنعاء (ت 1266هـ) كتاباً ضد الدعوة وأنصارها، سماه (لفحات الوجد من فعلات أهل نجد) (2) وهو عبارة عن أبيات شعرية كتبها ضد الوهابية ثم شرحها في هذا الكتاب، وهو ينقل كثيراً عن أسلافه ممن عادى الدعوة السلفية الوهابية، فقد تلقف كثيراً مما كتبه الكوكباني صاحب (السيف الهندي في إبانة طريق الشيخ النجدي) كما تلقف ما كتبه يوسف بن إبراهيم الأمير (3) - وهو حفيد الصنعاني الأمير – من وصف الوهابيين بالخوارج (4)، وقد جعل في آخر الرسالة بعض المسائل الفقهية التي يعارض فيها أئمة الدعوة (5).
وكتب عبد الله بن حسين بلفقيه العلوي(6)
__________
(1) ولد سنة 1191هـ في صنعاء وتعلم بها، له عدة مؤلفات، كما أن له نظم. انظر : (البدر الطالع) 2 / 78 و(نيل الوطر) 2 / 201.
(2) وتوجد من هذا الكتاب نسختان خطيتان في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وقد حصلت على صورة خطية – من مكتبة أرامكو بالظهران – تحت عنوان (شرح أبيات في الرد على الوهابية) لمؤلف مجهول، ولما قرأت مقالة الأستاذ عبد الله محمد الحبشي في التعريف بكتاب (لفحات الوجد)، لاحظت التطابق التام بين النصوص التي يوردها الحبشي من هذ1 الكتاب ، وبين نصوص ذلك المخطوط الأخر، كما يظهر التشابه الحرفي بين مقدمة كلا الكتابين، وخاتمتها، وكذا المعلومات التاريخية والأعلام والأماكن إلى آخره مما جعلني أكاد أجزم بأن نسخة أرامكو هي مجرد نسخة مكررة من كتاب لفحات الوجد.
انظر : مقال الحبشي في التعريف بهذا الكتاب، مجلة العرب، 17، ح9، 10، ص 744.
(3) انظر : ترجمة في (نيل الوطر) 2/414.
(4) انظر ق 32 – 44، 46 – 62، 75 – 79.
(5) انظر : ق80 – 98.
(6) ولد بلفقيه في تريم بحضرموت سنة 1198هـ وتوفي بها، له عدة مؤلفات.
انظر : (الأعلام) 4/80.(131/61)
(ت 1266هـ) من حضرموت رسالة في الرد على الوهابية (1)، وتتميّز هذه الرسالة بخلوها من الألفاظ النابية والكلمات التجريحية – والتي جرت عادة الخصوم أن يسطروها في كتبهم. وهذه الرسالة تدور حول تقرير أن الشرك في الدعاء لغير الله ليس بأكبر .. وقد تكلّف المؤلف الكثير من الأدلة والمناقشات من أجل تقرير دعواه (2).
وعرف حسن بن عمر الشطي (ت 1274هـ) من الشام بعدائه وبغضه للدعوة السلفية كما هو صريح كتابته التي سطرها تذييلاً على رسالتي (إثبات الصفات)(3) ورسالة (مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) (4)، فقد رمى صاحب الدعوة بادعاء النبوة، والتمثيل في صفات الله، كما ألصق به فرية تكفير المسلمين، وغيرها من الأكاذيب والدعاوى الباطلة(5)، مع أنه قد كتب هذا التذييل - القبيح - بعد اطلاعه وقراءته لرسائل أئمة الدعوة.
__________
(1) 10) حصلت على صورة خطية منها عن طريق معهد المخطوطات بالكويت الذي صورها من مكتبة الأحقاف في تريم بحضرموت.
(2) وله رسالة خطية في (الرد على الخوارج ومن نحا نحوهم) حيث ذكر نفس المسائل الفقهية التي ذكرها محسن بن عبد الكريم صاحب اللفحات، وخالف فيها أتباع الدعوة مثل مسألة المسبحة ووجوب الصلاة في المسجد، ومسألة التبغ (التنباك) وغيرها.
(3) سيأتي التعريف بتلك الرسالتين، والتحقيق في مؤلفهما.
(4) المرجع السابق.
(5) انظر : تذييله على رسالة في (مشاجرة بين أهل مكة ونجد) ق39، 40، وانظر : تذييله على رسالة في (إثبات الصفات)، ق70، 71.(131/62)
وفي بلاد العراق وجد الكثير من الخصوم ممن ناهض هذه الدعوة، وكتب المؤلفات ضدها، نذكر منها: علي نقي اللكنهوري(1) (ت 1289هـ) حيث ألفّ رسالة سماها (كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب)(2) وقد حوى الكتاب الكثير من المطاعن والشبهات على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما ضم الكثير من المعلومات الخاطئة فيما يتعلق بتاريخ الدعوة السلفية وأعمالها.
ومن هؤلاء الخصوم داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي (ت 1299هـ)، وكانت خصومته شديدة جداً، وعداوته ظاهرة ومستفحلة حيث أن المذكور قدم نجداً، وتلقى شيئاً من العلوم الشرعية عن طريق بعض مشايخ نجد(3)، ثم ما لبث أن أظهر العداوة، وطعن في رسائل أئمة الدعوة فزعم أنها تخالف ما قرره السلف الأوائل كابن تيمية وابن القيم وغيرهما(4)، لذا فقد تأثر به بعض أدعياء العلم(5)، كما مدحه ابن منصور - كما تقدم -.
وتظهر عداوته في كتابه المسمى: (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين في تبرئة ابن تيمية وابن القيم) (6) حيث ضم كتابه نقولاً متعددة لابن تيمية وابن القيّم حرّفها وغلط في فهمها متعمداً هذا التحريف والتلبيس ليقرر بها جواز الاستغاثة بالموتى ودعاءهم.
__________
(1) اللكنهوري فقيه إمامي، من أهل كربلاء، له مؤلفات، انظر : (الأعلام) 5 / 30.
(2) طبع في النجف بالعراق، سنة 1345هـ.
(3) انظر (تأسيس التقديس) لابن بطين ص2، 3.
(4) انظر بيان ذلك والرد عليه من خلال كتاب (منهاج التأسيس) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. و (تتمة المنهاج) للألوسي.
(5) انظر : رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لأهل عنيزة معاتباً لهم على إكرام داود بن جرجيس. (الدرر السنية) 9 / 329.
(6) طبع في الهند (بمباي) سنة 1306هـ.(131/63)
وله كتاب آخر سماه (المنحة الوهبية في رد الوهابية) (1) أكد فيه أن للموتى حياة في قبورهم مثلما كان لهم حياة الدنيا، وأن لهم شعور وإحساس كالأحياء، ويقرر ذلك بمختلف الدعاوى، والأقاويل، ليتوصل من هذا التقرير إلى تجويز الاستغاثة بهم ودعاءهم كالأحياء تماماً.
وله رسالة ثالثة في الرد على العلامة محمود الآلوسي في مسألة التوسل(2).
وألف محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني(3) (ت 1303هـ) كتاباً سماه:
(إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية)(4)، ولا يزال مخطوطاً - ولله الحمد - وهو يزيد عن مائة ورقة، وغالب موضوعات الكتاب تدور حول تجويز الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منها، وإباحة طلب الشفاعة من الأموات والحث على الغلو في المشاهد والقبور …
وكتب جعفر النجفي(5) (ت 1303هـ) مؤلفات بعنوان (منهج الرشاد لمن أراد السداد)(6)، وكان سبب تألفيه هو اطلاعه على كتاب من عبد العزيز بن سعود – كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه -، فصنف هذا الكتاب، مقلداً أسلافه في تجويز الاستغاثة بالأموات وسؤالهم المدد، وطلب الشفاعة منهم، ونحو ذلك فكل ذلك جائز مادام أن فاعله يعتقد أن الله هو الفاعل المختار - على حد زعم النجفي وأسلافه -.
__________
(1) طبع أكثر من طبعة. منها طبعة بمباي 1305هـ، وطبعة استانبول سنة 1403هـ.
(2) طبعت مع كتابه (صلح الإخوان) .
(3) هو إمامي من كاظمة بالعراق، له عدة كتب، انظر : (الأعلام) 6/258.
(4) حصلت على صورة منه عن طريق دارة الملك عبد العزيز.
(5) هو جعفر بن الحسين، إمامي، دفن بالنجف له عدة مؤلفات انظر : (الأعلام) 2 / 124.
(6) طبع في النجف بالعراق سنة 1342هـ.(131/64)
وفي تونس صنّف المدعو أبو الفداء إسماعيل التميمي(1) (ت 1248) مجلداً سماه (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية) (2)وهو مخطوط تصل أوراقه إلى تسعين ورقة.
وكتب أحمد سعيد السرهندي النقشبندي(3) (ت 1277هـ) رسالة بعنوان (الحق المبين في الرد على الوهابيين).
ومع بداية الدولة السعودية الثالثة (1319هـ) ظهر خصوم جدد بعد زوال أسلافهم، نذكر بعضاً منهم مع مؤلفاتهم – حسب ترتيب وفياتهم – وبإيجاز:
فكتب إبراهيم السمنودي(4) في مصر (ت بعد 1326هـ) مصنفاً في مجلدين بعنوان (سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية) (5).
وألف المدعو مختار أحمد باشا المؤيد(6) من الشام (ت 1340هـ) رسالة سماها (جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام) (7).
وكتب مصطفى بن أحمد بن حسن الشطي(8) من الشام (ت 1348هـ) رسالة بعنوان (النقول الشرعية في الرد على الوهابية) (9).
__________
(1) فقيه مالكي، من دعاة الحكومة العثمانية، له رسائل وفتاوى، انظر : (الأعلام) 1 / 326، (معجم المؤلفين) 2 / 623.
(2) حصلت على صورة خطية منه عن طريق معهد المخطوطات بالكويت، وانظر مناسبة تأليف هذا الكتاب من تاريخ ابن أبي الضياف 3 / 64.
(3) أحمد سعيد صوفي، ولد سنة 1213هـ، انظر : (معجم المؤلفين) 1 / 232.
(4) إبراهيم بن عثمان السمنودي الأزهري له مؤلفات، انظر : (الأعلام) 1/50 و (معجم المؤلفين) 1/57.
(5) طبع في مصر سنة 1319هـ.
(6) ولد مختار في دمشق سنة 1237هـ، وتوفي بها زار المدينة ومصر، له مؤلفات. انظر : الأعلام 7 / 191.
(7) طبع في دمشق 1330هـ.
(8) ولد سنة 1272هـ، حنبلي صوفي، ولي التدريس والقضاء. انظر : (النعت الأكمل) (ومع الزيادات) ص 413.
(9) طبعت ضمن رسائل ضد الدعوة السلفية، في مصر أكثر من طبعة.(131/65)
أما يوسف النبهاني(1) من بيروت (ت 1350هـ) فله كتاب بعنوان (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) (2) تضمن الطعن في الوهابيين وابن تيمية وغيرهم، لأنهم منعوا الاستغاثة بالموتى.
ونظم القصيدة المسماة (الرائية الصغرى) (3) في الافتراء على الوهابيين.
وكتب جميل صدقي الزهاوي(4) أحد شعراء العراق (ت 1354هـ) كتاباً سماه (الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق) (5) فالشاعر الزهاوي ينكر على الوهابيين تحريمهم الاستغاثة بالأموات وتحريم الغلو فيهم.
وفي الشام - أيضاَ - كتب محمد عطاء الكسم (6) (ت 1357هـ) رسالة بعنوان (الأقوال المرضية في الرد على الوهابية) (7).
وأما يوسف الدجوي(8)(9)
__________
(1) يوسف بن إسماعيل النبهاني عمل في القضاء والصحافة له عدة كتب، كما أن له نظم، يقول عنه محمد رشيد رضا : كتبه مملوءة بالروايات الموضوعة والمنكرة وكان يروج كتبه لكي يمهد بذلك السبيل ادعاء المهدية لنفسه، انظر : (الأعلام) 8 / 218، (المنار) م13، ج10، ص 797.
(2) طبع في مطبعة الحلبي بمصر.
(3) طبعت عدة مرات.
(4) ولد الزهاوي سنة 1279هـ في بغداد، وتوفي بها، تقلب في عدة مناصب له عدة كتب ومقاولات. يقول محمد رشيد رضا عنه : سمعت من كثير من الذين عرفوا الزهاوي في الأستانة أنه ملحد لا يدين بدين وقد تهجم الزهاوي على الشريعة الإسلامية وطعن فيها..
انظر : (الأعلام) 2 / 137، (المنار) م13، ج11 ص 841، أم القرى ع 103.
(5) طبع في مصر سنة 1323هـ، وطبع أخيراً في استانبول بتركيا.
(6) فقيه حنفي، ولد بدمشق وتوفي بها، كان مفتياً لسوريا، وله مؤلفات.
انظر : (معجم المؤلفين) 10 / 293.
(7) طبعت في المطبعة العمومية بمصر سنة 1901 م.
(8) فقيه حنفي، ولد بدمشق وتوفي بها، كان مفتياً لسوريا، وله مؤلفات.
انظر : (معجم المؤلفين) 10 / 293.
(9) من علماء الأزهر، ولد في إحدى قرى مصر سنة 1287هـ، له عدة كتب.
…انظر: (الأعلام) 8/216.(131/66)
من مصر (ت 1365هـ) فقد حشى مجلة نور الإسلام بمقالات متعددة(1)(2) يطعن فيها بعقيدة السلف الصالح التي دعا إليها أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأما محسن الأمين العاملي (3) أحد شيعة العراق (ت 1371هـ) فله كتاب بعنوان (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب) (4) كما أن لأحمد بن داود بن جرجيس (5) (ت 1367هـ) من العراق رسالة بعنوان (المواهب الرحمانية في الرد على الوهابية).
وطعن محمد جميل الشطي(6) (ت 1379هـ) من الشام في الوهابية في كتابه:
(الوسيط بين الإفراط والتفريط) وكتب حسن الطباطبائي (7) من العراق (ت 1380هـ) مصنفاً سماه (البراهين الجلية في تشكيكات الوهابية) (8) دافع فيه عن الإمامية وطعن في الوهابية وعقائدهم.
__________
(1) فقيه حنفي، ولد بدمشق وتوفي بها، كان مفتياً لسوريا، وله مؤلفات.
انظر : (معجم المؤلفين) 10 / 293.
(2) انظر: مجلة نور الإسلام م 1 ص 588 – 591، م 2 ص 29 – 37، ص 114 – 131، 282 – 890، م 4 ص 255 – 260، م 5 ص 519 – 527.
(3) 10) من مجتهدي الإمامية، ولد في إحدى قرى العراق سنة 1282هـ، وتوفي بدمشق له عدة مؤلفات انظر : (الأعلام) 5/287.
(4) 11) طبع بدمشق سنة 1346هـ، وأعاد ابنه طبعه - مع زيادات - سنة 1962 م.
(5) 12) متصوف، عمل مدرساً، ووزيراً، واشتغل بالوعظ له رسائل.
انظر (الأعلام) 1 / 123.
(6) 13) ولد بدمشق سنة 1300هـ له مؤلفات في الأدب والتاريخ اشتغل بالقضاء والإفتاء.
انظر : (النعت الأكمل) ص 431.
(7) 14) لم أعثر على ترجمة، وكان معاصراً للشيخ ابن سحمان (ت 1349هـ) حيث ردّ عليه بكتاب – لا يزال مخطوطاً – سماه (الحجج الواضحة الإسلامية).
(8) طبعت عدة مرات.(131/67)
ومن الكتابات المعاصرة التي ناهضت الدعوة السلفية ما كتبه حسن بن حسن خزبك (1)، فله رسالة بعنوان (المقالات الوفية في الرد على الوهابية) (2). وصنف مصطفى الكريمي (3) رسالة (السنيين في الرد على المبتدعين الوهابيين) (4).
وألفّ عبد القادر الأسكندراني (5) من دمشق الشام رسالة بعنوان (النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية)(6).
ثم جاء المدعو محمد توفيق سوقيه من الشام(7) فكتب ما أسماه (تبيين الحق والصواب بالرد على أتباع ابن عبد الوهاب) (8).
وكتب محمد بن أحمد نور (9) من السودان رسالة في الطعن على عقائد الوهابيين (10)، كما كتب الشيعي المعاصر محمد جواد مغنية رسالة بعنوان (هذه هي الوهابية)(11)، وجمع محمد الطاهر يوسف بعض الأقوال الكاذبة والنقول المتردية في كتاب سماه (قوة الدفاع والهجوم) رداً على الدعوة السلفية وكذلك مالك بن داود (12) من بلا د مالي ألف كتاباً سقيماً بعنوان فضفاض (الحقائق الإسلامية في الرد على المزاعم الوهابية) (13).
__________
(1) لم أعثر له على ترجمة، وقد قرظ كتابه يوسف الدجوي (ت 1365هـ).
(2) طبعت ضمن رسائل ضد الدعوة السلفية أكثر من طبعة.
(3) لم أعثر على ترجمة لمؤلفها.
(4) طبعت هذه الرسالة في مصر.
(5) لم أعثر له على ترجمة، وكان معاصراً للشيخ محمد بن علي بن تركي (ت 1380هـ) حيث رد عليه.
(6) انظر : (النفخة على النفحة) ص 2، 3.
(7) لم أعثر له على ترجمة.
(8) طبعت في دمشق ،وقد نقد محمد رشيد رضا هذين الكتابيين – الأخيرين في مجلة المنار م24، ح4، ص 320.
(9) لم أعثر له على ترجمة.
(10) انظر الرد على هذا الكتاب : تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور للشيخ صالح بن أحمد.
(11) 10) طبعت عام 1964م.
(12) 11) مدير مدرسة بأحد مدن مالي، انظر خاتمة كتابه المذكور.
(13) 12) طبع لأول مرة سنة 1403هـ في تركيا.(131/68)
ومن أشد الخصوم المعاصرين - الآن - عداوة ومحاربة للدعوة السلفية حسين حلمي بن سعيد ايشيق (1) من استانبول بتركيا، وهو صاحب مكتبة تقوم بطبع ونشر الكتب المناوئة للدعوة السلفية التي جددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويوزعها إلى سائر الأقطار وبالمجان، وهذه الكتب إما باللغة العربية، أو الفارسية، أو الإنجليزية وغيرها من اللغات، فكثيراً من كتب المناوئين أعاد طباعتها عدة مرات وإرسالها إلى مختلف البلاد، كما أنه له كتب باللغة التركية، وبعضها مترجم إلى العربية تحوي الطعن والتجريح في الدعوة السلفية.
ومما يجدر التنبيه عليه أن كتبه ومطبوعات مكتبته لها رواج وانتشار في بلاد المسلمين، وهذا ظاهر من خلال الخطابات من بعض الأفراد والمؤسسات التعليمية التي تبدي مشاعرها وشكرها العميق لهذه الكتب المهداة إليهم، والاعتراف بخطر الوهابية ووجوب محاربتها وهذه الرسائل تكون مدونة في آخر الكتب التي يقوم بطبعها.
وليس المراد من إيراد تلك المؤلفات المناوئة (2) هو الحصر وإنما قصدت من ذلك توضيح وبيان هذه الحملة الشرسة ضد الدعوة السلفية، ومدى الكثرة الهائلة لتلك المؤلفات، وسعة انتشارها ورواجها، ليكون ذلك دافعاً من أجل أن يتيقظ حملة عقيدة السلف، فيحرصوا على مجابهة تلك المؤلفات ويبذلوا جهودهم في نصرة معتقدهم الصحيح.
__________
(1) 13) ولد حسين حلمي ايشيق سنة 1905م، التحق بالدراسة العسكرية واشتغل بالسياسة، والتزم بالطريقة النقشبندية يمتلك صحيفة يومية وله نشرات دورية، ويمتلك مكتبة الحقيقة في استانبول، يحرص على طبع الكتب – وبمختلف اللغات – التي تناهض الدعوة السلفية الوهابية، له شطحات وانحرافات متعددة. عن دراسة كتبها الشيخ: إسماعيل بن عتيق حول هذا الرجل وشيء من فكره (غير منشورة) .
(2) لمعرفة مؤلفات مناوئة أخرى :
انظر : فهرست المطبوعات العراقية (1856 – 1972) 1 / 168 – 173.
انظر: فهرست الخزانة التيمورية 4 / 3 – 140.(131/69)
وأما عن موقف علماء الدعوة من تلك المؤلفات المناوئة فهم – رحمهم الله جميعاً – مع انشغالهم بالغزو والجهاد في سبيل الله، وتوليهم القضاء والفتيا وتعليم الناس، مع ذلك الانشغال فقد دافعوا عن الدعوة السلفية فكتبوا المؤلفات المتعددة في دحض أكاذيب الخصوم، والجواب عن شبهاتهم ومناظرتهم ومناقشتهم – وسنورد طرفاً من تلك المؤلفات فيما يلي:
كان الشيخ الإمام من أوائل الذين كتبوا الردود ضد تلك المؤلفات المناوئة فقد كتب جواباً مفصلاً شافياً في الرد على رسالة أخيه سليمان (1)، كما أن الرسائل الشخصية للشيخ قد تضمنت مختلف الردود، وأنواع الأجوبة على دعاوى المناوئين ورسائلهم.
وكتب الشيخ أحمد بن مانع (2) (ت 1186هـ) وهو أحد تلاميذ الشيخ الإمام رسالة رد بها على عبد الله المويس أحد خصوم الدعوة، وكان المويس يثبط الناس عن صلاة الجماعة ويهوّن أمرها، فكتب الشيخ أحمد بن مانع هذا الرد موضحاً وجوب صلاة الجماعة بالأدلة، ومدافعاً عن الشيخ ودعوته بالبراهين الواضحة الدامغة (3).
كما كتب محمد بن غيهب ومحمد بن عيدان (4) – وهما من تلاميذ الشيخ الإمام – إلى المويس رسالة ينصحانه ويدعوانه إلى اتباع العقيدة السلفية (5). وكتب كل من الشيخ محمد بن علي بن غريب (6)
__________
(1) سمي هذا الجواب فيما بعد بـ (مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد) ،وقد أورد ابن غنام هذه الرسالة بدون هذا العنوان، كما أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن نقل من هذه الرسالة ولم يذكرها بهذا الاسم كما جاء في (الدرر السنية) 9 / 201.
(2) هو أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي، من بلدة أشقير، توفي في الدرعية سنة 1186هـ.
انظر : (علماء نجد) 1 / 182.
(3) انظر : (علماء نجد) 1 / 182، 183.
(4) لم أعثر لهما على ترجمة.
(5) انظر (علماء نجد) 2 / 605، 606.
(6) أحد تلاميذ الشيخ الإمام وقد تزوج بنت الشيخ وتلاميذه من كبار علماء نجد، توفي مقتولاً 1209هـ.
انظر : (علماء نجد) 3 / 915.(131/70)
(ت 1209هـ)، والشيخ حمد بن معمر (1) (ت 1225هـ)، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (2) (ت 1242هـ) كتاباً نفيساً بعنوان (التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق) (3)
__________
(1) من كبار علماء نجد، تعلم في الدرعية، ثم درّس بها، بعثه الإمام عبد العزيز الأول سنة 1211هـ إلى مكة ليناظر علمائها، وقد ظهر عليهم وأذعنوا لحجته وعينه سعود الكبير رئيساً لقضاة مكة، توفي بمكة.
انظر : (علماء نجد) : 1 / 239، (مشاهير علماء نجد) ص 202.
(2) ولد في الدرعية سنة 1165هـ، برز في عدة علوم، له رسائل مفيدة، وعرف بالشجاعة، وأبناؤه علماء، توفي في مصر حين نقل إليها.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 48، (علماء نجد) 1 / 48.
(3) الذي دفعني إلى نسبة هذا الكتاب إلى هؤلاء العلماء الثلاثة هو أني عثرت على تعليق خطي كتبه الشيخ سليمان الصنيع رحمه الله على نسخته، ذكر أن هؤلاء هم مؤلفوا الكتاب، ونقل ذلك عن الشيخ محمد بن عبد اللطيف وابن مانع فليس الكتاب من تأليف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ويؤيد ما ذكره الصنيع الأمور التالية :
أن البسام في (علماء نجد) 3 / 916 نفى نسبة الكتاب للشيخ سليمان وأثبته لابن غريب المذكور
جاء في ترجمة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في (الدرر السنية) 12 / 44 : (وله مشاركة في كتاب التوضيح). كما ذكر القاضي في (روضة السنين) 1 / 323 أن من مؤلفات الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق).
وذكر الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) ص 54 أن كتاب (توحيد الخلاق في أجوبة العراق) من مؤلفات حمد بن ناصر بن معمر. وبهذا يعلم أن (كتاب التوضيح) قد اشترك فيه هؤلاء الثلاثة الأعلام، ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ الصنيع ذكر محمد بن علي بن غريب باسم أحمد بن محمد بن غريب، ولم أعثر على ترجمة بهذا الاسم، فلعله خطأ أو تصحيف من الشيخ الصنيع. وفي تعليق الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ على كتاب (عنوان المجد) ذكر – رحمه الله – أن الشيخ محمد بن علي غريب من المخالفين للدعوة (انظر (عنوان المجد) 1/ 133)، وربما كان هذا الحكم ناشئا عن التأثر بمخطوطة (السحب الوابلة) لأن ابن حميد زعم أن ابن غريب كان موافقاً لدعوة الشيخ الإمام في الظاهر، ومخالفاً لهم في البطن، ولا يستغرب الكذب من ابن حميد خاصة وأنه كذب بنفس الأسلوب، وفي نفس الصفحة (انظر : السحب الوابلة) 700، 701) على الشيخ عبد العزيز بن محمد – سبط الشيخ الإمام – فزعم أنه لم تدخل الدعوة في قلبه، بل إن ابن حميد قد افترى أشد وأشنع – مما نقلناه عنه – على الشيخ الإمام. مع الإشارة إلى أن ابن حميد ذكر ابن غريب باسم (عبد الله بن غريب) والمذكور في (عنوان المجد) 1 / 133، أنه محمد بن غريب (وهو الذي صححه صاحب مشاهير علماء نجد) ص 212، وهو الذي أثبته ابن بسام في كتابه (علماء نجد) 3 / 915 والله أعلم.(131/71)
وقد طبع كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق) (1) وهو ردّ على عبد الله الراوي(2) – من العراق – فإنه لما بلغت رسائل الشيخ الإمام – في أواخر القرن الثاني عشر – الوزير سليمان باشا الكبير، كتب عبد الله الراوي رداً عليها... (3) فكان (كتاب التوضيح) جواباً عن ذلك الرد.
ودافع حسين بن غنام الإحسائي (ت 1225هـ) مؤرخ نجد عن شيخه محمد بن عبد الوهاب، وكتب قصيدة في الرد على محمد بن فيروز (4).
وقد تضمنت رسائل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر ردوداً كثيرة وأجوبة نافعة ضد مؤلفات المناوئين ورسائلهم، منها: (النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين)(5) وكذلك رسالة (الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنَّة والكتاب) (6) وغيرهما.
وكتب الشيخ عبد العزيز بن حمد(7) (ت 1240هـ) سبط الشيخ الإمام جواباً بيناً عن الرسالة المسماة (المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية) (8).
__________
(1) طبع الكتاب في مصر سنة 1319هـ بالمطبعة الشرقية، وأعيدت طباعته أخيرا في الرياض سنة 1404هـ.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) انظر : ذكرى أبي الألوسي ص 34، 35.
(4) وتبلغ أبياتها ستة وسبعين بيتاً.
انظر : (تاريخ ابن غنام)، ط أبا بطين 2 / 190 – 192.
(5) وقد طبعت ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 592، وكذا (الدرر السنية) 9 / 3 كما طبعت مستقلة، وهي عبارة عن أجوبة على أسئلة محمد بن أحمد الحفظي اليمني.
(6) وقد طبعت عدة مرات، وهي في الحقيقة إجابة عن أسئلة علماء مكة الذين ناظرهم الشيخ حمد بن معمر سنة 1211هـ.
(7) سبط الشيخ الإمام، تولى قضاء الدرعية، وبعد سقوطها، وتولى القضاء في عنيزة، ثم في سوق الشيوخ في العراق، وتوفي بها.
(8) وقد طبعت ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 564، وسميت بـ (الأجوبة السنية على الأسئلة الحفظية). انظر : (مجموعة الرسائل) 4 / 584.(131/72)
وسطر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كتاباً مهماً في رد دعاوى الشيعة بعنوان (جواب أهل السنّة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية) (1) وهذا الكتاب رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد.
وكتب أحمد بن محمد الكتلاني مؤلفاً نافعاً دافع فيه عن عقيدة الشيخ الإمام، وردّ دعاوى الخصوم وأكاذيبهم، وسمى الكتاب بـ (الصيب الهطال في كشف شبه ابن كمال) (2).
وأما الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين (ت 1282هـ) مفتي الديار النجدية – آنذاك – فله كتاب نفيس ردّ فيه على دعاوى داود العراقي، واسم الكتاب (تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجيس)، وهو كتاب طويل وقد سبق هذا الكتاب رد موجز سماه بعض تلاميذ الشيخ أبو بطين (الانتصار)(3).
وكتب الشيخ محمد بن ناصر الشريف التهامي اليمني (ت 1283هـ) رداً مفحماً وجواباً مقنعاً عن دعاوى ابن جرجيس، واسم كتابه: (إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان).
وأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1285هـ) فمن أشهر ردوده، رده على داود، وهو الكتاب المسمى بـ (القول الفصل النفيس في الرد على داود بن جرجيس)(4)
__________
(1) وقد طبعت هذه الرسالة ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 47، ثم طبعت مستقلة.
(2) سبق الحديث عن الكتاب ومؤلفه.
(3) انظر كتاب (تأسيس التقديس) : ص 3، ص63.
(4) تعددت هذا الكتاب منها :
(الرد النفيس على شبهات ابن جرجيس).
(تأسيس التقديس في الرد على داود بن جرجيس).
(كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس).
انظر : مجلة الدارة س5، ع4، ص 91، 92، مقال (آثار الشيخ عبد الرحمن بن حسن) لأحمد الحكمي. ويبدو – والله أعلم – أن للتلاميذ والأتباع دور في إنشاء تلك الأسماء فيلاحظ أن بعض أئمة الدعوة يكتب رداً أو جواباً بلا عنوان مختار، فيأتي من بعده ويتخذ له عنواناً يناسب محتوى ذلك الكتاب، وهذا أمر ظاهر في رسائل أئمة الدعوة، فمثلاً جواب الشيخ الإمام على أخيه سليمان سمي بـ (مفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد)، والرد الموجز الذي كتبه أبو بطين جواباً على شبهات داود بن جرجيس، سماه بعض تلاميذ أبو بطين بـ (الانتصار) كما ذكر ذلك في مقدمة كتابة (تأسيس التقديس).
كما أن الشيخ عبد اللطيف حين كتب الرد المختصر على ابن جرجيس، لو يذكره باسم المطبوع الآن (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ) أو (تحفة الطالب الطالب والجليس في الرد على ابن جرجيس)، يقول (الشيخ عبد اللطيف في (منهاج التأسيس) – وهو الرد المطول على داود : -
(وقد كتبنا فيما تقدم من الرد المختصر …) ص237، ثم ذكر كلاماً مطابقاً لما ذكره في (دلائل الرسوخ) - الرد المختصر – ص 93.
كما أن جوابه على شبهات الصحاف سمي بـ (الإتحاف في الرد على الصحاف).(131/73)
، وله رسائل متعددة وكثيرة في الرد على عثمان بن منصور، وله رسالة بعنوان (المورد العذب الزلال في كشف شبه أهل الضلال)(1) وهي رد على مفتريات رجل من أهل الخرج، وله رد على ابن حميد صاحب (السحب الوابلة) بعنوان (بيان المحجة في الرد على اللجة) (2)، حيث أن ابن حميد دافع عن الأبيات الشركية في بردة البوصيري، ورد على جواب شيخه الشيخ أبي بطين رحمه الله لما أجاب بما هو حق عن تلك الأبيات، ومن ثم كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن هذا الجواب النافع.
وقد ردّ الشيخ عبد الرحمن بن حسن بقصيدة شعرية على قصيدة ابن منصور التي مدح فيها داود وحثه على مناهضة أئمة الدعوة (3).
كما كتب – أيضاً – الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع (4) (ت 1287هـ) قصيدة راداً على ابن منصور، ومنتصراً للعقيدة السلفية (5).
وقد تعددت مؤلفات الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت 1292هـ) في الرد على مفتريات الخصوم وشبهاتهم، فكتب رداً مختصراً على داود سمي بـ (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)(6)، ثم أتبعه برد مطول بعنوان (منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس) (7).
__________
(1) طبع ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 289 – وطبع مستقبلاً
(2) اللجة : لقب لابن حميد انظر : (مجموعة التوحيد) ط آل ثاني، ص435.
(3) انظر : (علماء نجد) 3 / 696.
(4) ولد في شقراء وطلب العلم في الرياض ولاه الإمام فيصل قضاء القطيف له رسائل وقصائد توفي بالإحساء.
انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 239، (علماء نجد) 2 / 419.
(5) انظر (علماء نجد) 3 / 697.
(6) طبع – أولاً – سنه 1305هـ، ثم طبع ضمن (الدرر السنية) 9 / 287.
(7) طبع مرتين : الأولى في الهند والأخرى في مصر.(131/74)
وأما ردوده على ابن منصور، فقد كتب رحمه الله كتاباً قيماً بعنوان (مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام) (1)، وكتب الشيخ عبد اللطيف رسائل أخرى متعددة في بيان تلبيس ابن منصور ورد كيده (2).
كما أن له قصيدة يرد بها على قصيدة ابن منصور التي يمدحه بها داود العراقي (3) وللشيخ عبد اللطيف قصيدة تبلغ ثلاثة وتسعين بيتاً في الرد على البولاقي المصري الذي كتب قصيدة عارض فيها منظومة الأمير الصنعاني في مدحه للشيخ محمد (4).
وقد زخرت رسائل الشيخ عبد اللطيف بالحجج الدامغة والردود النافعة على دعاوى المناوئين ومؤلفاتهم.
ونظم الشيخ عبد العزيز بن حسن الفضلي(5) (ت 1299هـ) قصيدة يرد بها على ابن منصور لما مدح شيخه داود العراقي (6).
وكتب الشيخ صالح بن محمد الشتري(7) كتاباً مفيداً في الرد على دحلان واسمه (تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان) (8).
__________
(1) طبع ثلاثة مرات : في الهند ثم مصر، وأخيراً في الرياض.
(2) انظر : الدروس السنية (الجزء التاسع (مختصرات الردود).
(3) 10) انظر (الدرر السنية) 9 / 349.
(4) 11) انظر : (الدرر السنية) 9 / 374
(5) 12) ولد في بلدة ملهم، عرف بسرعة البت في القضاء له مراسلات علمية مع بعض العلماء. انظر (مشاهير علماء نجد) ص 242، (علماء نجد) 2/438.
(6) 13) انظر : (علماء نجد) 3 / 6 97.
(7) لم أعثر له على ترجمة، وهو من تلاميذ الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وبينهما مراسلات علمية.
(8) وهو لا يزال مخطوطاً في المكتبة السعودية.(131/75)
وكذلك الشيخ حمد بن عتيق (1) (ت 1301هـ) نظم قصيدة في الرد على ابن منصور (2) وللشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن (3) (ت 1319هـ) رد على أمين بن حنش البغدادي (4).
وألف العالم الهندي محمد بشير السهسواني (ت 1326هـ) كتابه القيم في الرد على أباطيل دحلان، وسماه (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان)(5).
وأما الشيخ حسين بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب (6) (ت 1329هـ) فقد أنشأ قصيدة رائية تبلغ سبعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش، (7) كما أن له قصيدة تصل إلى مائتي بيت في الرد على النبهاني.
وسطر الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن(8) (ت 1329هـ) قصيدة تبلغ أبياتها أربعة وتسعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش البغدادي(9).
__________
(1) ولد الشيخ حمد في الزلفى سنة 1227هـ وطلب العلم في الرياض، تولى القضاء في عدة بلدان، له عدة مؤلفات، توفي في الأفلاج. انظر : (علماء نجد) 1/228 (مشاهير علماء نجد) ص 244.
(2) انظر (علماء نجد) 3 / 697.
(3) ولد بالرياض سنة 1276هـ، وتعلم بها، ثم طلب العلم في الهند له رسائل. توفي بالرياض. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 122، (علماء نجد) 10 / 205.
(4) انظر : (الدرر السنية) 9 / 406.
(5) طبع الكتاب في عهد المؤلف منسوباً إلى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السندي، ثم طبع - بعده - منسوباً إليه عدة طبعات.
(6) ولد بالرياض سنة 1284هـ، وتعلم بها، له مؤلفات كما أن له شعر، نزح إلى عمان، وسكن في جزيرة زعاب وتوفي بها. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص127، علماء نجد 1/219.
(7) ، (10) انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 127، 128.
(8) 11) ولد بالرياض سنة 1280هـ، وتعلم بها، له فتاوى وتلاميذ. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 125، (علماء نجد) 1 / 126.
(9) 12) انظر : (علماء نجد) 1/ 127.(131/76)
وكتب الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى(1) (ت 1329هـ) ردوداً كثيرة على المخالفين للعقيدة السلفية التي جددها الشيخ الإمام، منها كتاب بعنوان (الرد على شبهات المستعينين بغير الله)(2)، وكتاب (الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان)(3)، كما أن له قصيدة رد بها قصيدة ابن منصور في مدحه لابن جرجيس(4) ونظم الشيخ علي بن سليمان اليوسف(5) (ت 1337هـ) قصيدة رد بها على النبهاني في رائيته التي افترى فيها على الوهابيين(6).
__________
(1) 13) ولد بشقراء سنة 1253هـ، وطلب العلم في الرياض ومارس التجارة، له مؤلفات من أهمها شرح نونية ابن القيم، وله تلاميذ وتولى القضاء. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 260 (علماء نجد) 1/155.
(2) 14) ذكر ابن عيسى في مقدمة هذا الكتاب أنه رد على كتاب (أنموذج الحقائق) ولم يذكر مؤلفه، وصاحب كتاب (مشاهير علماء نجد) والبسام يذكران أن هذا الكتاب – الرد على شبهات المستعينين بغير الله – رد على ابن جرجيس وقد طبع الكتاب أكثر من مرة.
(3) يذكر صاحب (مشاهير علماء نجد) أن هذا الكتاب مخطوط، ولم أعثر عليه وقد ذكر البسام أن لابن عيسى كتاب (تهديم المباني في الرد على النبهاني).
(4) انظر : (علماء نجد) 3 / 697. وللشيخ ابن عيسى ردّ طويل بعنوان (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) طبع مع مجموعة كتب 1329هـ، بمصر.
(5) نشأ في بغداد، وتعلم بها، وهو شاعر جيد، انظر : (علماء نجد) 3 / 716.
(6) انظر : (علماء نجد) 3 / 718.(131/77)
وكتب علامة العراق محمود شكرى الألوسي (ت 1342هـ) سفراً نفيساً في الرد على يوسف النبهاني بعنوان (غاية الأماني في الرد على النبهاني)(1)، كما أتم رحمه الله كتاب (منهاج التأسيس) للشيخ عبد اللطيف، حيث أن الشيخ عبد اللطيف مات قبل أن يتمه(2)، فأكمله الألوسي بعنوان (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس رد صلح الإخوان)(3).
ونظم الألوسي قصيدة في الرد على قصيدة النبهاني، حيث أن النبهاني لما اطلع على غاية الأماني، نظم قصيدة طويلة ركيكة سبّ فيها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وغيره من المصلحين فردّ عليه محمود بقصيدة سماها (الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى)(4).
كما أن الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى(5) (ت 1343هـ) نظم قصيدة في نحو مئتي بيت في الرد على رائية النبهاني(6).
أما الشيخ سليمان بن سحمان (ت 1349هـ) فهو صاحب القلم السيال في الرد على مؤلفات الخصوم ورسائلهم، وقد تعددت مؤلفاته وكثرت – ولله الحمد – فمما كتبه في الرد على الخصوم ما يلي:
__________
(1) طبع لأول مرة منسوباً إلى (أبي المعالي الشافعي السلامي) ثم طبع ذلك منسوباً إلى الألوسي عدة مرات.
(2) حيث اشتغل الشيخ عبد اللطيف بالرد على ابن منصور، فألفّ رحمه الله (مصباح الظلام)، انظر المقدمة التي كتبها الشيخ ابن مانع لرسالة (دلائل الرسوخ) ص 9.
(3) طبع مع (المنهاج) في مصر سنة 1366هـ.
(4) انظر : مقدمة كتاب (المسك الأذفر) ص27، (مشاهير علماء نجد) ص 477.
(5) ولد ببلدة أشقير سنة 1270هـ، قام رحلات متعددة، له عناية فائقة بكتابة التاريخ، توفي في عنيزة انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 285، (علماء نجد) 1 / 117.
(6) انظر : (علماء نجد) 1/ 124.(131/78)
(الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد) و (كشف غياهب الظلام عن جلاء الأوهام) – في الرد على مختار أحمد المؤيد -، و (الصواعق المرسلة الشهابية في الرد على الشبه الشامية) – في الرد على محمد عطا الكسم -، و(الضياء الشارق في رد شبهات المارق) – يعني جميل الزهاوي العراقي -، و(تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين) – في الدفاع عن الشيخ الإمام والأمير الصنعاني -، و (البيان المجدي لشناعة القول المجدي) – في الرد على بابصيل المكي – وغيرها (1).
ومن آخر كتبه التي ألفها – رحمه الله – هو كتاب (الحجج الواضحة الإسلامية في رد شبهات الرافضة والإمامية) – وهو مخطوط.
وأما عن ردوده عبر القصائد الشعرية فهي كثيرة جداً، فقد نظم رحمه الله ديواناً بعنوان: (عقود الجواهر المنضدة الحسان)، وغالبه ردود على أئمة الضلال الذين ناهضوا الدعوة السلفية، مثل: دحلان، والزهاوي، وشرف، والنبهاني والعجلي وغيرهم (2) .
ومن أشهر قصائدة رائيته التي ردّ بها على رائية النبهاني، وقد بلغت أربعمائة بيت (3) .
وكتب عبد الكريم بن فخر الدين رداً شافياً على دحلان، بعنوان (الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين).
ونظم الشيخ ناصر بن سعود الشويمي(4) (ت 1350هـ) قصيدة تزيد عن أربعين بيتاً في الرد على أمين بن حنش البغدادي الذي انتصر للشرك وأهله، في قصيدة نظمها (5).
__________
(1) 10) غالب كتب الشيخ ابن سحمان طبع في الهند أولاً، ثم أعيدت طباعته مرة أخرى.
(2) انظر : ديوانه الطبعة الهندية، لأن الطبعة التي بعدها محرفة وناقصة.
(3) وله أيضاً رحمه الله كتب وردود أخرى. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 292.
(4) ولد في شقراء عام 1285هـ وتعلم بها، وطلب العلم في الرياض ثم صنعاء اليمن، ثم جلس للتدريس في شقراء، وتوفي بها انظر : (علماء نجد) 3 / 961.
(5) انظر : (علماء نجد) 3 / 964.(131/79)
وكذلك الشيخ محمد رشيد رضا(1) من مصر (ت 1354هـ) دافع عن الدعوة السلفية في مجلته الشهيرة (المنار)، وحرص على نشر كتب أئمة الدعوة وطبعها، وكان من آثار دفاعه عن تلك الدعوة، ما كتبه في رسالته (السنّة والشيعة أو الوهابية والرافضة)(2) حيث رد على الرافضة أعداء السلف الصالح قديماً وحديثاً.
وأما الشيخ محمد بن عثمان الشاوي(3) (ت 1354هـ) فله رسالة في الرد على أحد خصوم الدعوة، بعنوان: (القول الأسد في الرد على الخصم الألد)(4) كم أن له قصائد في الرد على الهجائيين للدعوة السلفية.
وقد قام الشيخ عبد الظاهر أبو السمح(5) (ت 1370هـ) بالدفاع عن عقيدة السلف الصالح التي جددها الشيخ الإمام، فكان من دفاعه أنه ألفّ رسالة في الرد على المخالفين لتلك العقيدة، وعنوان رسالته (الرسالة المكيّة في الرد على الرسالة الرملية) (6).
وكتب الشيخ محمود شويل (ت 1372هـ) رسالة نفيسة في الرد على أحد خصوم الدعوة السلفية، وكشف اللثام عن وجه الحق، وأزال تلك الاعتراضات واسم كتابه (القول السديد في قمع الحرازي العنيد)(7).
__________
(1) ولد في الشام سنة 1282هـ، وتعلم بها، مارس الصحافة وزار عدة بلدان، وعمل في السياسة، له عدة مؤلفات، توفي بالقاهرة، انظر : (الأعلام) 6 / 126.
(2) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1347هـ.
(3) ولد في البكيرية سنة 1313هـ وتعلم بها، ثم طلب العلم في الرياض، وتولى القضاء والتدريس له تلاميذ، توفي في شقراء. انظر : (مشاهير علماء نجد) ص 337، (علماء نجد) 3 / 797
(4) وهي مخطوطة في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، وهي رد على من سمى نفسه بـ (فتى البطحاء)
(5) ولد سنة 1300هـ وكان إماما في الأسكندرية واستقدمه الملك عبد العزيز إلى مكة وولاه الإمامة والخطابة في الحرم المكي، توفي في القاهرة. انظر (الأعلام) 4 / 11.
(6) 10) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1349هـ.
(7) 11) طبع في مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1372هـ.(131/80)
وأما الشيخ مسعود الندوي (ت 1373هـ) فقد ردّ على دعاوى الخصوم وفندها في كتابة المفيد (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه)(1).
وألفّ الشيخ فوزان بن سابق السابق(2) (ت 1373هـ) كتاباً في الرد على مختار أحمد المؤيد وعنوان الرد (البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار)(3)، وصنف الشيخ محمد بن علي بن تركي(4) (ت 1308هـ) رسالة لطيفة في الدفاع عن هذه والرد على الأسكندراني(5).. وعنوان رسالة الشيخ ابن تركي (النفخة على النفحة والمنحة) (6).
كما أن الشيخ محمد بهجت البيطار(7) كتب رسالة موجزة في الرد على الأسكندراني وعنوان رده (نظرة في النفحة الزكية) (8).
__________
(1) 12) ترجمه إلى العربية عبد العليم البستوي، وطبعته جامعة الإمام سنة 1404هـ
(2) ولد في بريدة عام 1275هـ وتعلم بها، وطلب العلم في الرياض والهند، ومارس التجارة، وصارت له مشاركة في السياسة، توفي في القاهرة. انظر : (علماء نجد) 3 / 759.
(3) طبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1372هـ.
(4) ولد في عنيزة سنة 1301هـ وزار عدة بلدان، وطلب العلم ومارس التجارة وتولى القضاء، توفي في المدينة انظر: (علماء نجد) 3 / 904، (مشاهير علماء نجد) ص402.
(5) وسمى ابن تركي نفسه – أثناء الرد - بـ (ناصر الدين الحجازي) انظر : (علماء نجد) 3 / 906.
(6) طبعت في دمشق سنة 1340هـ.
(7) ولد البيطار سنة 1311هـ وتتلمذ على كبار علماء الشام، وجلس للتدريس، وتولى الخطابة، وعمل في الحجاز، له مؤلفات. انظر : (تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع) لمحمود سعيد ممدوح، ص 126.
(8) وسمى محمد بهجت البيطار نفسه – أثناء الرد – بـ (أبي اليسار الدمشقي). انظر : (علماء نجد) 3 / 906، وطبعت في دمشق سنة 1340هـ، مع الرسالة السابقة – لابن تركي.(131/81)
وكتب أحد علماء نجد رداً على جريدة القبلة الهاشمية (1)، لما أوردت بعض الأكاذيب ضد الدعوة السلفية الوهابية.
ونظم الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم السويح (2) قصيدة في الرد على النبهاني (3)، كما أن الشيخ صالح بن أحمد كتب رداً على محمد بن أحمد نور – أحد المناوئين للدعوة السلفية في السودان – وعنوان رده (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور بالقرآن والحديث) (4).
__________
(1) انظر : الرد في (مجموعة الرسائل والمسائل) 4 / 830 له. وهناك رد آخر على هذه الجريدة أورد بعضه محمد رشيد رضا في (المنار)، واعتذر عن نشر الباقى لشدة الأسلوب. انظر (المنار) م 21، ح9، ص 496.
(2) لم أعثر له على ترجمة.
(3) 10) توجد مخطوطة في قسم الوثائق بدارة الملك عبد العزيز.
(4) 11) طبع في المطبعة السلفية بمصر.(131/82)
وقد كتب عبد الله بن علي القصيمي(1) كتباً قوية وأجوبة دامغة في الرد على مؤلفات الخصوم للدعوة السلفية ورسائلهم، ومن أقوى كتبه وأشهرها: (الصراع بين الإسلام والوثنية)(2) في الرد على محسن الأمين العاملي صاحب (كشف الارتياب)، وله كتاب قوي آخر بعنوان (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية)(14)، وهو رد على يوسف الدجوي في مسائل التوسل.
وله كتاب ثالث بعنوان (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)(3)، تضمن ردوداً ظاهرة وأجوبة ناصعة في رد دعاوى المناوئين. وكتب القصيمي مؤلفاً رابعاً في بيان حقيقة الدعوة الوهابية بعنوان (الثورة الوهابية)(4) .
وألف الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي عدة كتب في الدفاع عن هذه الدعوة ومجددها كما هو ظاهر في كتابه (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) وكتابه الآخر (نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين)، وكتابه الثالث (تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصل الضلال والكفران)(5).
__________
(1) 12) مما يجدر التنبيه على أن القصيمي قد ألفّ كتاب في نصرة الدعوة السلفية ثم ارتد واختار طريق الضلالة والإلحاد وألف كتباً في ذلك وقد تصدى له علماء فردوا عليه مثل ابن يابس والسويح وغيرهما، وسنورد في – هذا البحث – بعض ردود القصيمي، ونستفيد منها متذكرين ما ورد في الحديث (إن الله عز وجل ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وفي رواية : (بأقوام لا خلاق لهم) – انظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة) 4 / 205 – خاصة ونحن لا نعلم بما سيختم الله حياة هذا الرجل، نسأل الله تعالى الثبات على دينه.
(2) 13) يتكون هذا الكتاب من مجلدين ثم ظهر له جزء ثالث – فيما بعد -، طبع مرتين الثانية سنة 1402هـ، (14) طبع في مطبعة المنار بمصر سنة 1350هـ.
(3) طبع في مطبعة التضامن بمصر سنة 1934 م.
(4) طبع في مطبعة الرحمانية بمصر سنة 1354هـ.
(5) وهذه الكتب الثلاثة مطبوعة متداولة.(131/83)
وكتب الشيخ محمد منظور النعماني (1) من علماء الهند رسالة نافعة في الرد على الدعاوى الكاذبة ضد الدعوة السلفية، بعنوان (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) (2).
وبهذه المؤلفات وغيرها من الوسائل والأساليب التي تنافح عن عقيدة السلف الصالح وتذّب عنها، يتحقق وعد الله على الدوام، حيث يظهر الحق ويندحر الباطل، الذي مهما انتفش وانتفخ بكثرة مؤلفاته وأتباعه فهو كالزبد يذهب جفاء.
يقول تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } (3).
ولعل فيما ذكرناه من ردود أئمة الدعوة وأنصارها ما يلفت الباحث - ابتداء - إلى هذا التراث الهائل، فيكون إيراد تلك المؤلفات دافعاً لكل منصف أن يطلع عليها وينظر فيها، وسيدرك - بكل تأكيد - ما تحمله هذه الكتب من الحجج الدامغة والبراهين الساطعة الناصعة، والتي تعكس سعة علم أولئك الأئمة وعمق فهمهم وقوة أدلتهم ووضوح منهجهم.
ومما يستلزم ذكره هاهنا - بعد أن سردنا هذه الكتب الكثيرة سواء المناوئة أو المدافعة - أن نجيب على سؤال هام وهو:
ما هي الدوافع والأسباب التي أدت إلى العداء والمناهضة للدعوة السلفية، حتى صنفت المؤلفات والرسائل والكتب ضد هذه الدعوة وبكميات هائلة، ومن مختلف البلاد والأقطار، وعلى مر السنين والأعوام.
من خلال الاطلاع على بعض المراجع التي أشارت إلى تلك الأسباب ومن خلال مطالعة وتتبع كتب الخصوم، فإن يمكن إيجاز أبرز هذه الدوافع والأسباب بما يلي:
__________
(1) انظر : ترجمته في مقدمة كتابه (دعايات مكثفة)
(2) طبع في لكهنوء بالهند.
(3) الصافات: آية 171 – 173.(131/84)
لعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى تشنيع الخصوم في مؤلفاتهم أثناء ظهور الدعوة السلفية، هو ما كان عليه أولئك الخصوم وكثير من المنتسبين إلى الإسلام من الضلال والغي عن الصراط المستقيم، لقد بلغ الكثير من المسلمين قبيل ظهور دعوة الشيخ الإمام أحط الدركات في الضلال وفساد الاعتقاد، حيث عمَّ الجهل وطغى، فعبد غالب المسلمين ربهم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فظهرت البدع والشركيات بمختلف أنواعها، وصارت هذه الأمور الشركية والمحدثات البدعية من العوائد والمألوفات التي هرم عليها الكبير وشب عليها الصغير، فانعكست الموازين وانقلبت الحقائق، وأصبح الحق باطلاً، والباطل حقاً..
ويوضح ابن غنام الحالة السيئة التي وصل إليها المسلمون في مختلف البلاد، وما كانوا عليه من فساد الاعتقاد واستفحال الكفر والابتداع، فيقول رحمه الله:
(كان غالب الناس في زمانه متضمخين بالأرجاس، متلطخين بوضر الأنجاس، حتى قد انهمكوا في الشرك بعد حلول السنّة المطهرة بالأرماس، وإطفاء نور الهدى بالانطماس …
فعدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وخلعوا ربقة التوحيد والدين فجدوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث... أحدثوا من الكفر والفجور والإشراك بعبادة أهل القبور وصرف الدعاء لهم والنذور) (1).
ويصوّر ابن غنام ضلال بلدان نجد تفصيلاً، فكان مما قاله في ذلك:
__________
(1) روضة الأفكار) 1 / 5، 6 باختصار.(131/85)
(وكان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، وقد مضوا قبل بدوّ نور الصواب يأتون من الشرك بالعجاب وينسلون إليه من كل باب، ويكثر ذلك منهم عند قبر زيد بن الخطاب فيدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } وكان ذلك في الجبيلة مشهوداً وبقضاء الحوائج مذكوراً) (1).
ويحكي الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن حال عصر الشيخ الإمام فيقول:
(كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملَّة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنَّة والقرآن، وشب الصغير لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدرسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدُّوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن بحره الأجاج شاربون، وبه راضون، قد أغشتهم العوائد والمألوفات وحبستهم الشهوات والإيرادات عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات..) (2).
__________
(1) المرجع السابق 1 / 7.
وانظر : ما كتبه الشيخ ابن غنام حول المظاهر الشركية والبدعية في كل من بلاد مكة والطائف وجدة ونجران واليمن والشام والعراق، ومصر، 1 / 8 – 12.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 3 / 381، 382.(131/86)
فلما أظهر الله هذه الدعوة السلفية على يد المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب استنكرها الرعاع وأدعياء العلم والعوام، لأنها خالفت عوائدهم الشركية ومألوفاتهم البدعية، فلما دعاهم الشيخ إلى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وأنه لا يدعى ولا يستغاث إلا بالله وحده، فلا يستغاث بالأولياء أو الأنبياء، استنكر أولئك الجهال هذا الحق، وزعموا أن ذلك انتقاص للأنبياء والأولياء، فخالفوا الحق مع ظهوره وبيان أدلته ووضوح براهينه.
وهناك سبب ثان لهذا التحامل والمعاداة للدعوة السلفية وهو ما ألصق بهذه الدعوة ومجددها وأنصارها من التهم الباطلة والأكاذيب والمفتريات، فقد أصاب هذه الدعوة منذ بدء ظهورها حملة مكثفة شنيعة عمَّت البلاد والعباد، فلقد ألصق بعض أدعياء العلم في هذه الدعوة السلفية ما ليس منها، فزعموا أنها مذهب خامس، وأنهم خوارج يستحلون دماء وأموال المسلمين، وأن صاحبها يدعي النبوة وينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلى آخر تلك المفتريات.
وهذا ظاهر في رسالة ابن سحيم - وهو أحد الخصوم المعاصرين للشيخ - حيث بعث بها إلى سائر علماء الأمصار، يستحثهم ويحرضهم ضد الشيخ وهو في هذه الرسالة العدوانية قد حشد فيها الكثير من المفتريات والأكاذيب ضد الشيخ الإمام.
وأما أثناء مدة الدولة السعودية الثانية، فتبرز آثار مؤلفات دحلان والذي كان مفتياً للشافعية في مكة، فقد عمَّت وطمَّت أكاذيبه ومفترياته ضد هذه الدعوة بين الكثير من حجاج بيت الله الحرام، ثم أذاعها أولئك الحجاج في سائر البلاد.
يقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في ذلك:(131/87)
(سمع الحجاج الوافدون إلى مكة من أشراف الحجاز، وبعض علماء مكة والمدينة التقديس التام من العوام والانقياد الكامل لأقوالهم ضد الشيخ وأتباعه الشيء الكثير من كون أتباع الشيخ لا يحترمون الأولياء والصالحين ويهدمون قبابهم … فلهذا أخذ جمهور الناس في سائر الأقطار فكرة سيئة عن الشيخ وأتباعه (1).
وفي عصرنا الحاضر، يظهر التحامل الشنيع وبث المعلومات الكاذبة عن الدعوة السلفية في كثير من جهود المبتدعة، ومن أبرزها جهود المدعو حسين حلمي ايشيق من استانبول بتركيا، والذي يقوم بتأليف الكتب ضد الدعوة السلفية ونشر المطبوعات والرسائل ضدها، وتوزيعها على سائر بلاد المسلمين، وهذه الرسائل تحوي بين طياتها الكثير من المعلومات المحرفة والأكاذيب المفتراه، فيصدقها الكثير من السذج والبسطاء.
كما أن هذا التجني والكذب على الدعوة السلفية وأئمتها يظهر في بعض الكتب التي ألفت في تاريخ هذه الدعوة وسيرة مجددها، كما هو واضح في كتاب (لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب)، والذي يعتمد عليه الكثير من المؤلفين ممن صنف في تاريخ وسيرة الشيخ محمد، بل أن بعض هذه الكتب يفتعل أحداثاً ويطنب في سردها وسياقها من أجل الافتراء ضد الدعوة والتنفير منها، وهي ليس لها أدنى رصيد من الواقع (2).
ومما يؤسف أن الكثير يتلقف هذا الإفك والبهتان عن أولئك المفترين الوضاعين، دون أدنى تثبت أو تحري في النقل، بل عمدته في ذلك هو مجرد التقليد الأعمى.
__________
(1) سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ص 53، وانظر (دعايات مكثفة ضد الشيخ) ص 26، 27.
(2) انظر على سبيل المثال : مخطوط (هذا تاريخ في شأن الوزير محمد علي باشا) لخليل بن أحمد الرجبي - ويوجد هذا المخطوط في دار الكتب المصرية – فقد افتعل هذا المؤلف أكاذيب متعددة ضد هذه الدعوة.(131/88)
ومما يجدر ذكره - هاهنا - هو أن بعض الخصوم قد استغل ما وقع فيه شرذمة من الأعراب وفي زمن يسير - ممن تابع هذه الدعوة - من التشدد والجفاء، فحكموا - بغياً وعدواناً - على جميع أتباع هذه الدعوة وعلى مر الأزمان بهذا الحكم الجائر، فرموهم أيضاً بالتشدد والجفاء.
ولقد قلدهم في تلك الدعوى بعض الكتّاب، فوصفوا هذه الدعوة السلفية بالتشدد والجفاء والتطرف، وجعلوا ذلك سبباً في عدم قبولها وكثرة أعدائها.
وقد رد الشيخ حمود التويجري على أحد المعاصرين حين رمى أتباع هذه الدعوة بالتشدد، فكان من ردّه أنه قال:
(التشدد الذي أشار إليه إنما وقع في بعض الأعراب في زمن يسير، فأما الحاضرة وكثير من البادية فكانوا على الطريقة السلفية، ولم يكن فيهم تشدد كما يزعمه بعض الناس. فإطلاق التشدد على العموم متعقب على من ادعاه كما لا يخفى من له أدنى معرفة بحال أهل نجد) (1).
وسبب ثالث أدى إلى كثرة تلك المؤلفات المناوئة للدعوة السلفية، وهو النزاعات السياسية والحروب التي قامت بين أتباع هذه الدعوة وبين الأتراك من جهة، وبين أتباع هذه الدعوة والأشراف من جهة أخرى.
وقد أشار بعض الباحثين إلى هذا العامل الخطير وما ترتب عليه من تلك المطاعن والمفتريات والشبهات.
يقول محب الدين الخطيب - رحمه الله - مشيراً إلى ذلك:
__________
(1) إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة)، ط1 مؤسسة النور بالرياض، ص 154.(131/89)
(كان الأستاذ الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه يستعيذ بالله من السياسة ومن كل ما يتصرف منها، لأنها إذا احتاجت إلى قلب الحقائق وإظهار الشيء بخلاف ما هو عليه اتخذت لذلك جميع الأسباب، واستعانت على ذلك بمن لهم منافع شخصية من وراء إعانتها، فتنجح إلى حين في تعمية الحق على كثير من الخلق. ومن هذا القبيل ما كان يطرق آذان الناس في مصر والشام والعراق وسائر بلاد الشرق الأدنى في المائة السنة الماضية من تسمية الدعوة التي دعا بها الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله باسم (الوهابية) اتهاماً بأنه مذهب جديد …) (1).
ويتحدث محمد عبد الله ماضي عن العوامل التي أدت إلى التشنيع على الوهابية.. فيذكر العامل السياسي فيقول:
(عامل سياسي يرجع إلى الخلاف الذي قام بين آل سعود الوهابيين وبين الدولة العثمانية التي كانت الجزيرة العربية جزءاً من أملاكها وقت أن شرع الوهابيون يستقلون بالحكم فيها في القرن الماضى. ذلك الخلاف الذي سبب الحرب النجدية المصرية بين محمد علي والوهابيين، والذي صحبه وترتب عليه كثير من الدعايات ضد الوهابيين خصوم الدولة السياسيين وإظهارهم بمظهر المعتدي على الدين الخارج على تعاليمه حتى تسهل مقاومتهم وتيسير القضاء عليهم.
وكذلك الخلاف السياسي بين آل سعود والوهابيين وبين أشراف مكة ثم بينهم وبين زعماء نجد المحليين …)(2).
ويوضح الشيخ محمد رشيد رضا آثار العداء السياسي مع بداية الدولة السعودية الثالثة، وما فعله الأشراف ضد الدعوة السلفية، فكان مما قاله:
(كانت جريدة القبلة - لسان الملك حسين آنذاك - تكيل التهم والأكاذيب على هذه الدعوة السلفية.
__________
(1) مجلة الزهراء، 1354هـ (صفر)، ص 84، 85.
وقد أشار إلى ذلك مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) ص 147.
(2) النهضات الحديثة في جزيرة العرب)، ط2، دار إحياء الكتب العربية 1372هـ، ص 59.(131/90)
وقد أصدر الملك حسين عدة منشورات في جريدة القبلة سنة 1336هـ، وسنة 1337هـ، رمى الوهابيين بالكفر، وقذفهم بتكفير أهل السنة، والطعن في الرسول ... وقام بعض أهل دمشق وبيروت يتقربون إلى الأشراف بطبع الرسائل في تكفيرهم ورميهم بالأكاذيب، ثم سرى ذلك إلى مصر، وظهر له أثر في بعض الجرائد (1).
(إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي محض كان لتنفير المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز، وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية، ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعاً لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح السياسة).
وهناك سبب رابع أدى إلى تراكم تلك المؤلفات المعادية للدعوة السلفية وهو دفاع هؤلاء الخصوم - وبالأخص الصوفيّة والرافضة - عن معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة.
فإنه لما غلب على حال كثير من المسلمين ظهور الشركيات وانتشار البدعيات، واستفحال الخرافات، والغلو في الأموات والاستغاثة بهم، وظهور تشييد المشاهد وإقامة المزارات على القبور، وزخرفتها وتزيينها وصرف الأموال الطائلة عليها … فلما غلب ذلك على حال عامة المسلمين، فإن هؤلاء المتصوفة والرافضة وجدوا في هذا الواقع الآسن مرتعاً خصباً لبثَّ سمومهم العقديّة.
فلما بدت أنوار هذه الدعوة تكشف غياهب الظلام، وتزيل أدران الشرك ونجاساته، وتدعو الناس إلى تحقيق التوحيد بصفائه ونقائه، أدرك الخصوم أن ظهور هذه الدعوة السلفية نذير بزوال عقائدهم الباطلة، فحشد أولئك الخصوم قواهم وانبروا في التشنيع بهذه الدعوة وأنصارها، وهم أثناء تشنيعهم يذكرون معتقدهم الصوفي أو الرافضي - وغيرهما - ويزينونه للناس ويزعمون أنه الحق (2).
__________
(1) ، (5) المنار، م24، ج 8 ص 584 = بتصرف.
(2) من خلال استقراء كتب الخصوم لاحظت أن غالبهم إما صوفية أو رافضة، فالمتصوفة يجاهرون بذلك وينافحون عن تصوفهم ويدافعون عن أرباب التصوف وكذلك الرافضة يفعلون.(131/91)
فنجد هؤلاء الصوفيّة أثناء ردّهم على الدعوة السلفيّة، يتبجحون بصوفيتهم ويفتخرون بانتسابهم إلى الطرق الصوفيّة كالنقشبندية أو القادرية أو التيجانية... ويدافع عن التصوّف وأدعيائه.
والرافضة أثناء مناهضتهم الدعوة السلفية يدافعون – بكل ما عرف عنهم من كذب وقلب للحقائق – عن معتقدهم، ونوضح ذلك بما حدث منهم لما كتب علماء المدينة سنة 1344هـ الفتوى حول حكم البناء على القبور واتخاذها مساجد وأجابوا بالحق الذي تعضده الأدلة، فلما ظهرت هذه الفتوى، وتم العمل بموجبها، وأزيلت القبب والأبنية على القبور، عندئذ قام علماء الرافضة وضجوا، وسودوا الصحائف والأوراق في الطعن على هذه الفتوى، والنعي للمسلمين على زوال تلك القباب والمزارات فمن هذه الكتب التي سطرت – آنذاك – رسالة في رد الوهابية للأوردبادي، ورسالة في نقض فتاوى الوهابيّة لمحمد حسين، والرد على فتاوى الوهابيين لحسن صدر الدين الكاظمي، وغيرها من الكتب والرسائل التي ألفها أئمة الرافضة، والذين عهد عنهم عمارة المشاهد والقباب، دون المساجد التي أمر الله أن تعمر بطاعته (1).
__________
(1) انظر : أم القرى ع104، مقال (حول هدم القبور للشيخ عبد الله البليهد).(131/92)
هذه بعض الأسباب الظاهرة لشدة عداوة الخصوم للدعوة الوهابية(1)
__________
(1) بالنسبة إلى كلمة (الوهابية) فإن الكثير من الخصوم أطلقوا هذا اللقب على أتباع الدعوة السلفية، ويريدون بذلك توهيم الناس أن الوهابية مذهب جديد أو مستقل عن سائر المذاهب الإسلامية، لذا فإن بعض الباحثين يتحاشون من هذا اللقب. (انظر : تعقيب الشيخ صالح الفوزان على كتاب (محمد بن عبد الوهاب) لعبد الكريم الخطيب (مجلة كلية أصول الدين) ع1، ص68، حيث خطأ الفوزان إطلاق اسم الوهابية على دعوة الشيخ من ناحية اللفظ ومن ناحية المعنى، وانظر :ما كتبه الشيخ عبد الله الجبرين حول هذا الإطلاق في مجلة البحوث الإسلامية ع9، ص129). ولكن فيما بعد – كما هو ظاهر في السنوات الأخيرة – نجد علماء الدعوة وأنصارها لا يتحاشون استعمال كلمة (الوهابية) (انظر : رسالة (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية) لابن سحمان، و(أثر الدعوة الوهابية) لمحمد حامد الفقي، و(الوهابيون والحجاز) لمحمد رشيد رضا و (الثورية الوهابية والفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم) للقصيمي و (حقيقة المذهب الوهابي) لسليمان الدخيل.
يقول أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه عن محمد بن عبد الوهاب :
(ومن معاملة الله لهم – أي خصوم الدعوة - بنقيض قصدهم هو أنهم قصدوا بلقب الوهابية ذمهم، وأنهم مبتدعة، ولا يحبون الرسول كما زعموا الآن لقباً لكل من يدعو إلى الكتاب والسنّة، وإلى الأخذ بالدليل، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ومحاربة البدع والخرافات والتمسك بمذهب السلف) ص 51.
ويقول مسعود الندوي في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) : (وعلى كل حال فنظرا إلى تلك المحاولات التي بذلت لإظهار الوهابية في صورة مذهب مستقل وطائفة ضالة هذا الاسم منتقد أشد الانتقاد ولكن بغض النظر عن هذه الأكذوبة والافتراء فلا أرى حرجاً في هذه التسمية) ص 165.
وانظر : ما كتبه عبد الله العثيمين في كتابه (محمد بن عبد الوهاب) ص 101 – 104.(131/93)
وكثرة المؤلفات المناوئة لهذه الدعوة الصادقة الحقة.
الباب الأول
مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الدحض لها
سيكون المنهج الذي اخترته في كتابة أبواب هذا الفصل، هو أن يبتديء كل فصل بتمهيد يتضمن معتقد الشيخ الإمام، ومعتقد أتباعه من بعده في المسألة التي افتري عليه فيها، ثم أذكر الفرية كما جاءت مدونة في كتب الخصوم، ثم أتبعها بالرد والدحض من خلال ما كتبه أئمة الدعوة السلفية في مؤلفاتهم ورسائلهم، ولا يُكتفى بذلك بل نورد معتقد الخصوم في تلك المسائل التي افتروا وكذبوا فيها، حتى يظهر للمنصف ما كان عليه الخصوم لهذه الدعوة السلفية من ضلال وانحراف في تلك المسائل، فلا يقتصر على الرد والدحض لمفتريات الخصوم، بل نتبعه بما يكشف عن عقائدهم الفاسدة.
الفصل الأول
الافتراء على الشيخ بادعاء النبوة،
وانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم
يظهر من عنوان هذه الفرية أنها تتكون من شقين، الشق الأول: فرية ادعاء النبوة، والشق الثاني: فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا فإننا سنتحدث عن كل شق منهما على حدة، فنورد أقوال الخصوم من مصادرهم، وكتبهم، ثم نتبعها بالدحض والرد.
فنشرع في الحديث عن الشق الأول من هذا الافتراء، وهي فرية أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة، وقبل أن نذكر هذه الفرية، يجدر بنا أن نقف وقفة يسيرة لمعرفة اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه - من بعده - في عقيدة ختم النبوة.
لقد أوضح الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله معتقده في مسألة ختم النبوة في مواضع من مؤلفاته، منها ما ورد في رسالته لأهل القصيم لما سألوه عن عقيدته فقال - بكل وضوح -:
(وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته)(1).
ويقول أيضا في هذه المسألة :
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/10.(131/94)
(وأول الرسل نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم)(1) ويذكر الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسين في إحدى رسائله معتقد الشيخ الإمام في هذا المقام، فيقول:
…(ويعتقد – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود..) (2).
ويوضح صاحب كتاب جواب الجماعة معتقد الشيخ في هذه المسألة:
…(ويؤمن – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته) (3).
يتضح جلياً مما سبق ذكره اعتقاد الشيخ في مسألة ختم النبوة، كما أن أتباع الشيخ – من بعده – تحدثوا عن هذه المسألة في كتبهم ورسائلهم، ونورد منها هذه النماذج التالية:
يقول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود في إحدى رسائله:
(ونؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأفضلهم) (4).
ويقول صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) في تلك المسألة:
(وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالنص والإجماع) (5).
ويقول الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي (1) (ت 1285هـ) – أشهر شعراء الدعوة السلفية – هذه الأبيات التالية حول ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم:
…ثم جميع الأنبياء والرسل ……بينهم تفاوت في الفضل
…لكنهم قد ختموا بالأفضل……منهم نبيناً خاتم الرسل
…فلا نبي بعده كلاَّ، ولا ……مبشرا أو منذراً أو مرسلا
…فما لشرع دينه من ناسخ ……وما لعقد حكمه من فاسخ(6)
__________
(1) المصدر السابق 1/155، 195، 3/8.
(2) الدرر السنية) 1/262.
(3) ص 198.
(4) رسالة الإمام عبد العزيز الأول، ط3، مؤسسة النور، الرياض، ص12.
(5) ص80.
(6) ولد ابن مشرف في الإحساء وتعلم بها، له ديوان شعر مطبوع، تولى القضاء في الإحساء في آخر أيام الإمام فيصل بن تركي. انظر (تحفة المستفيد) 2/401، (عقد الدرر) ص 54.(131/95)
ويمتدح الشاعر أحمد بن مشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم - في قصيدة أخرى - ويذكر مسألة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول:
هو خير الخلق طرّاً (1)وبه ……للنبيين جرى ختم وفتح
فبه قد بدئوا واختتموا ……فهو كالمسك له في الختم نفح(2)
وقد أورد الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته التي بعثها إلى أهالي الحجاز وجنوب الجزيرة العربية، اعتقاد أئمة الدعوة السلفية في نجد، فكان مما قاله – رحمه الله – في مسألة ختم النبوة:
(ونؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين)(3).
ويقول صاحب جواب الجماعة في هذه المسألة:
ثم ختم النبوة والرسالة بصفوة النبيين والمرسلين وصفوته من الخلق أجمعين {ما كان محمداً أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} (4)، (5).
وبهذه النقول المتعددة تكون مسألة ختم النبوة عند الشيخ وأتباعه قد اتضحت وبانت، فالنبوة قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا نبي بعده، والوحي قد انقطع، فهذه العقيدة مسلَّم بها لا يشوبها أدنى شكًّ أو ريب، وما سبق من نقول تأكيد بأن هذه المسألة ليست محلاً للنقاش والجدال عند أئمة الدعوة السلفية، ومادام هذا هو موقف الشيخ من مسألة ختم النبوة، فإنه من المناسب بيان موقف الشيخ ممن اعتدى وتجرأ على هذا الختم وزعم أنه نبي يوحى إليه.
يتحدث الشيخ عن أهل الرَّدَّة - بعد وفاة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم - فيقول:
__________
(1) طرا: أي جميعاً، انظر: (مختار الصحاح) للرازي ص389
(2) المرجع السابق ص 44.
(3) الدرر السنية) 1/289.
(4) الأحزاب : آية 40.
(5) ص167.(131/96)
(قتال أهل الردة: وصورة الردة أن العرب افترقت في ردتها فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام، وقالوا: لو كان نبياً لما مات، وفرقة قالت نؤمن بالله ولا نصلي، وطائفة أقروا بالإسلام وصلّوا، ولكن منعوا الزكاة، وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكن صدقوا مسيلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة، وقوم من أهل اليمن صدقوا الأسود العنسي في ادعائه النبوة وقوم صدقوا طليحة الأسدي، ولم يشك أحدٌ من الصحابة في كفر من ذكرنا، ووجوب قتالهم، إلا مانع الزكاة …) (1).
ويقول في موضع آخر:
(ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان رضي الله عنه على تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم) (2).
وقد أطال رحمه الله في بيان أخبار المرتدين(3)، فذكر قصة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وما أظهره من صلاح.. ثم زعمه في آخر أمره أنه يوحى إليه.
وقال الشيخ بعد هذه القصة:
(وأجمع العلماء كلّهم على كفر المختار – مع إقامته شعائر الإسلام – لما جنى على النبوة) (4).
بل إن الشيخ رحمه الله يصرح بأكثر من ذلك بعبارة موجزة، فيقول في ذكر الحقوق الواجبة على كل مسلم:
(وأعظمها حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع أحداً من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافراً) (5).
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 3/37، 38. وانظر : (مؤلفات الشيخ) 3/42، 43.
(2) المرجع السابق 1/308.
(3) انظر: المرجع السابق 3/257 – 288.
(4) المرجع السابق 3/45.
(5) الدرر السنية) 1/98، 99(131/97)
مما سبق بيانه ندرك أن الشيخ رحمه الله يقرر ويؤكد بأن دعوى النبوة – بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم - كفر وانسلاخ عن دين الإسلام، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشخص الذي يرفع أحداً إلى منزلة النبوة يصير كافراً، حتى ولو كان هذا – الذي رفع منزلته – صحابياً.
ومع كل ما سبق فإننا نرى بعض خصوم هذه الدعوة السلفية يسطرون فرية ادعاء النبوة للشيخ، ويسودون الصحائف بهذا البهتان.
ومن أوائل الذين ألصقوا بالشيخ هذه الفرية، محمد بن عبد الرحمن بن عفالق حيث يقول في رسالته التي ألفها رداً على عثمان بن معمر أمير العيينة آنذاك، حيث يطعن ابن عفالق في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيقول:
(كما ادعا نزيله مسيلمة – أي النبوة – بلسان مقاله، وابن عبد الوهاب حاله) (1).
ويقول ابن عفالق في موضع آخر من هذه الرسالة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه ادعا الرسالة (2)، وفي رسالة أخرى ألّفها رداً على جواب ابن معمر، يقول فيها مخاطباً ابن معمر:
(والله لقد ادعا النبوة بلسان حاله لا بلسان مقاله، بل زاد على دعوى النبوة، وأقمتموه مقام الرسول، وأخذتم بأوامره ونواهيه (3).
ويقول ابن عفالق متهكماً بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومخاطباً ابن معمر: (وأما من قال أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وادعى النبوة، وأرسل رسله إلى سائر الأمصار) (4) .
ويسوق صاحب كتاب (فصل الخطاب) أحمد بن علي القباني نفس الفرية بقوله عن الشيخ أنه متنبي نواحي اليمامة (5).
وفي موضع آخر يقول مخاطباً الشيخ محمد بن عبد الوهاب وساخراً به:
)هل أخذته من بقايا صحف مسيلمة الكذّاب عندكم في نواحي اليمامة) (6).
ويتهكم به مرة أخرى فيقول:
__________
(1) ق 44.
(2) انظر: ق49.
(3) ق59.
(4) ق64.
(5) انظر : ق 36.
(6) ق57.(131/98)
(أترى أن كل هؤلاء العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ضلّوا وأضلّوا من نحو ستمائة سنة إلى أن بعث الله متنبي العيينة داعياً إلى دين الإسلام) (1).
كما أن من أوائل الذين تولوا كبر فرية ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب النبوة، المدعو علوي الحداد في كتابه (مصباح الأنام) حيث يقول:
(وكان يضمر دعوى النبوة، وتظهر عليه قرائنها بلسان الحال، لا بلسان المقال، لئلا تنفر عنه الناس، ويشهد بذلك ما ذكره العلماء من أن عبد الوهاب(2) كان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة الكذّاب وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم)(3).
ويقول رابعهم حسن بن عمر الشطي في تعليقه على رسالة في إثبات الصفات للحازمي: (فإنه - أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كانت لوائح دعوى النبوة تظهر عليه)(4).
ثم جاء أحمد بن زيني دحلان فأشاع هذه الفرية وسطرها في كتبه(5)، وتلقفها من بعده خصوم آخرون كالعاملي(6) وجميل صدقي الزهاوي(7)، ومختار أحمد باشا المؤيد(8)، وعبد القادر الأسكندراني(9)، وغيرهم.
ثم يأتي السمنودي في كتابه (سعادة الدارين)، فيحاول (تلطيف) هذه الفرية وتخفيفها ظنَّا منه أن ذلك أدعى لقبولها وأيسر في التمويه على سواد الناس، فيقول:
__________
(1) ق167، ويزيد القباني – بعد ذلك – شناعة فيقول : (فقبح الله العيينة وأهلها)، ويقول – ق232 -: (وإن زعمتم هذه النبوة لهذا الخارجي) .
(2) هكذا جاء في الكتاب:) عبد الوهاب) !!
(3) ص4.
(4) ق71
(5) 10) انظر: خلاصة الكلام ص 239، (الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص47، ولم يذكرها في كتابه (الفتوحات الإسلامية).
(6) انظر : كتابه (كشف الارتياب عن اتباع ابن عبد الوهاب)ص3.
(7) انظر : كتابه (الفجر الصادق) ص17.
(8) انظر: كتابه (جلاء الأوهام) ص5.
(9) انظر: الرد عليه، (النفخة على النفحة) لناصر الدين الحجازي ص6.(131/99)
(فكان محمد بن عبد الوهاب المذكور بينهم – أي بين أتباعه – كالنبي في أمته لا يتركون شيئاً مما يقول، ولا يفعلون شيئاً إلا بأمره) (1) .
ولكن يجئ خصم آخر – وهو محمد وفيق سوقية – يرفض ذلك التخفيف، ويسعى بزيادة البهتان على أسلافه فيقول:
(وأوحت له نفسه دعوى النبوة، كسلفه مسيلمة الكذَّاب، ولكن كان الضعف يخفيها، ولو وجد قبولاً تاماً من أتباعه النجديين لأظهرها، ودعا الناس إليها، أو لو كان يجد من يمده بالقوة لحمل جميع الأمة لإظهار ما كان يكنه في صدره، نعوذ بالله من الغواية بعد الهداية) (2).
ويقول نفس الكاتب أيضا:
)ولما كان – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – مولعاً بمطالعة أخبار أسلافه الذين ادعوا النبوة، مثل مسيلمة الكذَّاب والأسود العنسي، وسجاح، وطليحة الأسدي، قام بنشر دعوته الإصلاحية للتوصل لدعوى النبوة افتراء) (3).…
ونلاحظ أن بعض الخصوم سطَّر هذه الفرية عبر أبيات شعرية كما فعل المدعو عبد الرحمن بن عمر الإحسائي (4) حيث يقول طاعناً في الشيخ الإمام وأتباعه:
…وفي ذاك دعوى للنبوة ظاهر……فيا فرية حطت وأوهت عن المرقا
…ونحن الأولى بالدين قاموا ومهدوا……وما شعروا أن قد به فتقوا فتقا
…فيا ويحهم من أين جاءهم الهدى ……أوحي أتاهم وهو قد أحكم الغلقا (5)
ويقول يوسف النبهاني في رائيته الصغرى - ناعقاً بهذه الفرية -:
…أولئك وهابية ضل سعيهم ……فظنوا الردى خيراً وظنوا الهدى رشدا
…ضعاف النهى أعراب نجد جدودهم ……وقد أورثوهم عنهم الزور والوزرا
…مسيلمة الجد الكبير وعرسه ……سجاح لكل منهم الجدة الكبرى
__________
(1) 1/36.
(2) تبيين الحق والصواب) ، ص6.
(3) تبيين الحق والصواب)، ص6
(4) لم أعثر له على ترجمة، ولكن يبدو – والله أعلم – أنه عم الشيخ أبي بكر بن محمد بن عمر الملا، وأحد شيوخه، وأبو بكر توفي سنة 1270هـ.
انظر) تحفة المستفيد 2/399هـ.
(5) الحداد، (مصباح الأنام) ص53.(131/100)
…فقد ورثوا الكذّاب إذا كان يدعي ……بأن له شطراً وللمصطفى شطرا (1)
ما سبق نقله بعض النماذج لمزاعم الخصوم ومفترياتهم مأخوذة من كتبهم ومصادرهم، ولعل ما نقلناه عن الشيخ الإمام رحمه الله في اعتقاده في مسألة ختم النبوة، وكذلك اعتقاد أتباعه - من بعده - في هذه المسألة، وموقف الشيخ الإمام من أدعياء النبوة، إن هذا يعتبر بحد ذاته من أعظم وأبلغ الحجج في دحض ورد تلك الفرية الكاذبة الخاطئة، ومع ذلك فسنورد بعض الردود في قمع هذه الفرية، من باب الزيادة في إسقاطها وتهافتها.
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد) راداً على علوي في فريته بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مدعي للنبوة، (والجواب أن يقال لهذا الملحد المفتري: هذا من أبطل الباطل وأمحل المحال وبطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنه زعم أنه يضمر دعوى النبوة، وهذا أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله، فكيف ساغ له أن يدعي علم ما في القلوب مما لا يطلع عليه إلا علام الغيوب.
أيدعي علم الغيب أو أنه يوحى إليه ومن ادعى ذلك فهو كافر ثم ما هذه القرائن التي يزعم هذا الدجال المفتري أنها تظهر عليه بلسان الحال، فهلا ذكر قرينة واحدة من ذلك فإنا لا نعلم إلا دعوة الحق إلى إخلاص العبادة لله وحده، وأن يكون الدين كلّه لله، ثم كيف ساغ له دعوى أن الشيخ يضمر في قلبه دعوى النبوة وهي كذب ظاهر وينفيه بدعواه الباطلة لما قال الشيخ في المشركين عباد القبور: إنهم يعظمون مشاهد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومشاهد الأولياء تعظيماً بليغاً حتى يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى، وهذا أمر معلوم مشهور عنهم واعتقادهم في الأنبياء والأولياء لا ينكره إلا مكابر في الحسيات مباهت في الضروريات، فقول هذا الملحد فمن أين اطلع عليه واعتقد فيهم على سبيل القطع، حتى بنى عليه تكفيرهم إلى آخره.
__________
(1) ص27.(131/101)
فيقال: اطلع عليه بأفعالهم الظاهرة التي لا تصدر إلا عن اعتقاد القلب فيمن يدعونه، ويستغيثون به، ويلجئون إليه في مهماتهم وملماتهم حالاً ومقالاً، بخلاف ما زعمت أنت وأصحابك المفترون من أن الشيخ يضمر دعوى النبوة وهو أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله، مع أنها دعوى كاذبة خاطئة، وبيتم على ذلك تكفيره وتكفير من اتبعه على دين الله ورسوله، واستحلال دمائهم وأموالهم من غير ذكر قرينة حال أو مقال إلا بدعوى مجردة عن الدليل)(1).
من خلال نقل هذا النص للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله يظهر جلياً قوة الحجة التي أدلى بها الشيخ في مواجهة تلك الفرية، ولم يكتف بذلك رحمه الله، بل وضح تناقض الخصم وتضاربه حين ذكر أن الشيخ الإمام رحمه الله يقرر أن المشركين عباد القبور يعظمون المشاهد والأضرحة، ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، فأنكر هذا الخصم محتجاً بأنه لا يطلع على اعتقادهم في تلك المشاهد والأضرحة، مع أن الشيخ الإمام قرر ذلك بقرائن وأدلة تثبت ما يقول، وهذا المفتري زعم أن الشيخ ادعى النبوة، ولم يذكر أي قرينه تدل على دعواه. ثم ذكر ابن سحمان وجهاً آخر للرد على هذه الفرية، فقال:
(إن الشيخ قد ذكر في كتاب التوحيد ما رواه البرقاني في صحيحه قوله في الحديث (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (2)..) إلى أخر الحديث.
__________
(1) ص12
(2) وهذه الرواية عند أحمد وأبي داود وابن ماجه، والحاكم وأبي نعيم في (الحلية) و (الدلائل) بسند صحيح (على شرط مسلم).
عن كتاب) النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)، لجاسم الدوسري، ط1، دار الخلفاء، الكويت، 1404هـ، ص129.(131/102)
وقال (1) في المسائل المستنبطة من هذا الباب، الثامنة: العجب العجاب خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه أنه من هذه الأمة وأن الرسول حق وأن القرآن حق.
وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، فكيف يضمر مع هذا دعوى النبوة، وكيف يزعم هذا ويرمي به الشيخ رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وبهذا تعلم أن هذا من تزوير من شرق بهذا الدين من أعداء الله ورسوله تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله بالعبادة.
وقوله: ويشهد لذلك ما ذكره العلماء من أن ابن عبد الوهاب كان في أول أمره مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأضرابهم.
والجواب أن يقال: وهذا أيضاً من الكذب والفجور وقول الزور بل كان رحمه الله مولعاً بكتب الحديث والتفسير كما قال رحمه الله في بعض أجوبته: ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلَّها لدينا تفسير محمد بن جرير الطبري ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البيضاوي، والبغوي، والخازن، والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروحه كالقسطلاني والعسقلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ونحوهم من كتب الحديث، خصوصاً الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون فروعاً وأصولاً وقواعد وسيراً وصرفاً ونحواً وجميع علم الأمة) (2).
يقول ابن سحمان في كتابه (الضياء الشارق في الرد على شهبات الماذق المارق)، مكذباً هذه الفرية التي تلقفها الزهاوي وسوّد بها كتابه المسمى (الفجر الصادق).
(وأما قوله: وكان محمد هذا باديء بدأته:
__________
(1) أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(2) الأسنة الحداد)، ص12، 13.(131/103)
فالجواب أن نقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال نشأته ودعوته إلى الله تبيّن له أن هذا من الكذب والافتراء وأنه من وضع أعداء الله ورسوله الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب الفساد، يريدون ليطفئون نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (1).
ولا يكتفي الشيخ ابن سحمان – رحمه الله – في دحض هذه الفرية بما كتبه آنفا فقط، بل يشنع على هذه الفرية بقصائد شعرية متعددة.
فيقول رحمه الله في ديوانه، وفي قصيدة له يذكر مفتريات أحمد دحلان على الشيخ الإمام:
…وما قال فيما يدعيه ويفتري ……عليه من البهتان للأعين الرمّد
…كدعواه أن الشيخ يزعم أنه ……نبي ولكن كان يخشى فلم يبد
ثم يورد الرد عليه فيقول:
فويحك كم هذا التجاوز والهذا ……وكم ذا التجري والتجاوز للحد
فجوزيت من مولاك شر جزائه ……وحلّ عليك الخزي في القرب والبعد
أتقفو بلا علم أكاذيب مفتر……وأوضاع أفاك حسود وذي حق (2)
ويقول ابن سحمان في قمع هجاء الملا أبي بكر عبد الرحمن بن عمر الإحسائي:
وأعظم من هذا ضلالاً وفرية ………مقالته الشنعاء بما أظهر الحقا
بأن قال دعواه النبوة ظاهراً ………وذا فرية منهم على أنه الأتقى
نعم قام بالتوحيد والدين الهدى ………ونرجو له الزلفى فيرقى إلى المرقى (3)
__________
(1) ص25، وقد ذكر ابن سحمان قريباً من هذا الجواب في كتابه (كشف غياهب الظلام) ص 98 – 100.
(2) ديوان ابن سحمان (عقود الجواهر المنضدة الحسان) ط1، المطبعة المصطفوية بالهند، سنه 1337هـ، ص 23، 24.
(3) المرجع السابق ص 144.(131/104)
ويشنع ابن سحمان على مفتريات النبهاني في رائيته الصغرى، فيسطر قصيدة طويلة سماها (الداهية الكبرى)(1) وكان مما قاله:
…وقد ورثوا مجداً أصيلاً مؤثلا ………لأهل الهدى منهم فنالوا الفخرا
…مسيلمة الكذاب ليس بجدهم ……وليس له نسل يقرر أو يدرا
…ولا لسجاح ويل أمك فاتئد ………فما الفشر غلا ما هذوت به نشرا (2)
ويأتي رد الشيخ ناصر الدين الحجازي(3) على هذه الفرية بأسلوب آخر، وذلك في رسالته (النفخة على النفحة)، حيث يزعم عبد القادر الأسكندراني - كأسلافه - أن الشيخ الإمام قد ادعى النبوة، فكان جواب الشيخ ناصر الدين الحجازي على هذا الإفك: (أقول (من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة)، ولكن أقول كأن صاحب الرسالة ذهل عن قاعدة: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل، فإن كنت مقلداً لدحلان في نقلك، أليس لك ما تميز به بين الغث والسمين، فتعلم أنه ما نقل عن هؤلاء القوم إلا فكاهات تضحك الثكلى، ويهزأ بها الطفل الصغير فكيف يقبلها عقل رجل بلغ من الذكاء أن أرجع أمة من الجهل إلى العمل بالكتاب والسنّة.
وأما قولك وكان يضمر دعوى النبوة إلا أنه لم يتمكن من إظهارها فهذه دعوى كشف واطلاع على ما في القلوب، فهي بين أمرين إما تصريح بالكذب وإما مشاركة لله تعالى في قوله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)(4).
فاختر أى الشقين شئت، وإن كنت مدعياً فعليك الدليل من كتبه التي طبعت في الهند وفي مصر وسارت في الأقطار (5).
ومما أورده الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) في دحض فرية ادعاء النبوة للشيخ رحمه الله، ننقل هذه السطور رداً على من بهت الشيخ بادعاء النبوة في نفسه.
__________
(1) بلغت هذه القصيدة أربعمائة بيت.
(2) المرجع السابق ص 53.
(3) سبق الإشارة إلى أن ناصر الدين الحجازي هو اسم أطلقه الشيخ محمد بن علي بن تركي على نفسه عند تأليفه لهذا الرد.
(4) سورة غافر: آية 19.
(5) ص7 ،8 باختصار.(131/105)
(إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد اشتهر مذهبه ودعوته التي يدعو الناس إليها في مصنفاته المطولة ورسائله المختصرة، فلم يترك لمعارضيه شبهة إلا كشفها، ولا طريقاً توصل إلى الله وإلى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بينّها وأوضحها. فأي شيء يخفيه في نفسه بعد ذلك أيها الضالون ؟ فلو كان لهذه الفرية أدنى قيمة لأوردت من كلام الشيخ رحمه الله ما يكفي ويشفي في ردها. ولكنها فرية تمثل الزور والفجور، فلا تستحق رداً أكثر من احتقار صاحبها وكشف عورته وليس أبلغ من رد هذا الملحد(1) على نفسه فاسمع إذاً ما يعوله بعد دعواه على الشيخ الكتمان. قال المعترض: فلما مات أبوه في نحو سنة 1143هـ ابتداء ابتدأ لإظهار مذهبه حتى سنة 1151هـ فأشهر أمره وأظهر دعوته وعقيدته في نجد وأطرافها) (2).
فالشيخ فوزان رحمه الله يقرر تفاهة هذه الفرية وحقارتها، بحيث لا يلتفت إليها ولا تستحق الاهتمام أو الرد، ثم يشير إلى عوار هذه الفرية ويكشف تناقض مفتريها وتضاربه، فيقول رحمه الله:
(فنقول لهذا الملحد: إذاً فليس فيه كتمان، كما افتريته على الشيخ، فقد أبطلت دعواك بإقرارك بنفسك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى واشتهر به من الدعوة إلى كتاب الله تعالى واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين، فقد ظهر واشتهر أمره، فلا ينكره إلا معاند مثلك أيها المفتري الذي أكذب نفسه بنفسه فالحمد لله على ظهور الحق وخذلان الباطل وأهله)(3).
ويشير د. عبد الرحمن عميرة في بحثه (الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ..) إلى دحض ذلك الافتراء، فكان مما قال:
__________
(1) وهو مختار أحمد باشا المؤيد، صاحب كتاب (جلاء الأوهام).
(2) ص 57.
(3) ص 57.(131/106)
(والمتفحص لهذه الادعاءات والمفتريات يرى اتفاقها جميعاً على أن ادعاء النبوة عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان إضماراً في داخله ولم يصرح به لأحد مطلقاً.
هذا هو المفهوم من كلامهم ولا يمكن أن يفهم غير ذلك ونقول إذا كان كذلك، وأن الشيخ أضمر النبوة في نفسه، ولم يتمكن – كما يقول الأدعياء – من إظهارها، فمن أطلعهم على هذا الشيء المضمر …؟
هل أوحى الله إليهم بما في سرائر العباد؟ فإن قالوا نعم، فهم الأدعياء حقاً، وتكون قولتهم هذه امتداد لما قاله مسيلمة وسجاح وكل المردة أتباع الشيطان. وإذا لم تكن هذه أتراهم اطلعوا على الغيب وقرأوا ما في اللوح المحفوظ كما كان يدعي بعضهم.
فإن كان هذا هو حالهم. خرجوا عن ملّة الإسلام وألحقوا بإخوانهم في الجاهلية من الكهان وأدعياء البهتان لأن الغيب لا يعلمه إلا الله.
…قال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ً } (1) (2).
…من خلال ما أوردناه من براهين متعددة، وردود متنوعة (3)، في دحض فرية ادعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب النبوة، نأتي على ختام هذا المبحث متذكرين قوله عزَّ وجلَّ { سبحانك هذا بهتان عظيم } (4).
…وننتقل إلى الشق الأخر من هذه الفرية، وهو اتهام الشيخ واتباعه بانتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم..، وسنورد – كما فعلنا في الشق الأول من هذه الفرية – مقدمة موجزة لبيان اعتقاد الشيخ واعتقاد أتباعه في المصطفى صلى الله عليه وسلم.
…يقول الشيخ رحمه الله عن بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة الجن : آية 26.
(2) بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2/55، 56.
(3) وانظر أيضاً : ما كتبه عجيل النشمي في الرد على زعم الخصوم بأن الشيخ ادعى النبوة، (من حلقات ترتيب أوراق سقوط الخلافة) مجلة المجتمع، ع 500.
(4) سورة النور : آية 16.(131/107)
(ولما أراد الله سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى بعث محمداً خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، ومازال في كل جيل مشهوراً، وفي توراة موسى وإنجيل عيسى مذكوراً، إلى أن أخرج تلك الدرة بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل وهداه إلى أقوم السبل، فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره..)(1).
ويتحدث الشيخ الإمام عن معنى شهادة أن محمداً رسول الله فيقول:
(ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع) (2).
فلا يتحقق معنى شهادة أن محمداً رسول الله إلا بتمام الاتباع وكمال الاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
…ويقول الشيخ مشيراً إلى بعض خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم:
…(فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وأدم فمن دونه تحت لوائه). (3)
…كما يذكر الشيخ بأنه صلى الله عليه وسلم (أقرب الخلائق منزلة) (4) وأنه (سيد المرسلين) (5) وفي قصة سبب نزول سورة { تبت } ، يذكر الشيخ (ما فيها من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق الذي لا يقدر غيره أن يقوله) (6).
…ويقول الشيخ ضمن كلامه عن سورة النور: (الأمر بطاعته (سبحانه) وطاعة رسوله وأن الهدى في طاعته، كما قال تعالى: { وإن تطيعوه تهتدوا } (7) (8).
…كما يعرّف الشيخ الصراط المستقيم عند تفسيره لسورة الفاتحة، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) 4/28
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/190، وانظر : ملحق المصنفات ( مجموعة مؤلفات الشيخ) ص82 .
(3) المرجع السابق 5/113 بتصرف يسير .
(4) المرجع السابق 4/339.
(5) المرجع السابق 4/335.
(6) المرجع السابق 4/381.
(7) سورة النور: آية 54.
(8) 10) (مجموعة مؤلفات الشيخ) 4/279.(131/108)
…(والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو { صراط الذين أنعمت عليهم } ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم…)(1).
ويبين الشيخ في تفسير سورة الحجرات أنه (لابد من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته)(2).
ومن المناسب أن ننقل ما سطره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن جده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة، فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصر والمتابعة والطاعة وتقديم سنّته صلى الله عليه وسلم على كل سنّة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، كليه وجزئيه، ما ظهر به فضله وتأكد علمه ونبله) (3).
وحيث أنه من الواجب متابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب يذكر بذلك فيقول:
__________
(1) 11) المصدر السابق 4/17.
(2) المصدر السابق 4/349.
وانظر أيضاً ما كتبه الشيخ في رسالته (فضل الإسلام) – والموجودة في (مجموعة مؤلفات الشيخ)- باب حقوق المصطفى وباب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنّة والترغيب في ذلك 1/260 – 262.
(3) منهاج التأسيس)، ص41، ونقل هذا النص الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن.
انظر : الدرر السنية، 1/264.(131/109)
(وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات، والأقوال والأفعال. قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1)الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان..)(2).
وفي جواب للشيخين حسين(3) (ت 1224هـ) وعبد الله ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب حول معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا:
(وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله هو أن يطاع فيما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه ويترك، فعلى أقواله تعرض الأقوال والأفعال، فما وافق قوله فهو المقبول وما خالفه فهو المردود..)(4) .
ويقول صاحب (التوضيح عن توحيد الخلاق) عن منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة آل عمران : آية 31.
(2) الدرر السنية) 1/235، 236.
(3) ولد الشيخ حسين بالدرعية وتعلّم بها، وكان يؤم المصلين بجامع الدرعية، وتولى القضاء.
انظر (مشاهير علماء نجد) ص 43، (علماء نجد) 1/220.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) 4/542.(131/110)
(.. وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين، أرسله بالهدى ودين الحق، الذي هو التوحيد بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكوراً فأمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، الفارق بين الهدى والضلال فشرح له صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وفرض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه، وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأعماله وأقواله توزن الأخلاق والأعمال والأقوال. فلم يزل صلى الله عليه وسلم مشمراً في ذات الله، لا يرده عنه راد صادعاً بأمره لا يصده عنه صاد، إلى أن بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد.
فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها وامتلأت به الدنيا نوراً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على عباه المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغرَّاء، فصلى الله وسلم وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه..)(1) .
ويبيّن الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن وجوب التعظيم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: (فقد علمت كلام الصادق المصدوق فلا يكون قول الغير في نفسك أعظم من كلام نبيك)(2).
ويقول الشيخ صالح بن محمد الشثري في رسالته (تأييد الملك المنان) مجملاً حقوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ص 21 ، 22 وانظر : ص 40.
(2) الدرر السنية) 1/269(131/111)
(وأما حقوق النبي صلى الله عليه وسلم فهي واجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان، فإن الله أوجب الإيمان به، ومحبته وطاعته، وموالاته ونصرته واتباعه، وأمر بالصلاة والسلام عليه في كل مكان، وسؤال الله له الوسيلة عند كل أذان، وبذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدرة نعمة الله ببعثته على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين بل حتى يكون أحب إليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوق…)(1).
ويقول الشيخ السهسواني حول تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تعظيم جاء في الكتاب والسنة الثابتة سواء كان ذلك التعظيم فعلياً أو قولياً أو اعتقادياً، والوارد في الكتاب العزيز والسنَّة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة.
وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث كشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم، وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل …)(2).
ثم يقول محمد رشيد رضا معلقاً: (من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلهم غلواً فيه، ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم، ومن يليهم في خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشدهم غلواً في القول وابتداعاً في العمل، وترى ذلك في شعر الفريقين)(3)
__________
(1) ق7.
(2) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان،) ط5، مطابع نجد الرياض، 1395، ص 244 باختصار.
انظر ما كتبه السهسواني في شأن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم ص237 – 243.
(3) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) ، ط 5، مطابع نجد، الرياض، 1395هـ، ص 244 باختصار.
وانظر : ما كتبه السهسواني في شأن فضل الرسول صلى الله عليه وسلم ص 237 – 243.(131/112)
.
وحول وجوب إجلال السنة النبوية، يذكر الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته لأهالي جنوب غرب الجزيرة، معتقداً أئمة الدعوة السلفية في نجد، فكان مما قاله:
(وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان، بل نتلقاها بالقبول والتسليم؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد) (1).
ويقول ابن سحمان - حول مقام النبي صلى الله عليه وسلم - شعراً :
ونشهد أن المصطفى سيد الورى………محمد المعصوم أكمل مرشد
وأفضل من يدعو إلى الدين والهدى………رسول من الله العظيم الممجد
إلى كل خلق الله طراً وإنه………يطاع فلا يعصى بغير تردد(2)
وجاء في (البيان المفيد) ما يلي :
(ونعتقد أن أفضل المخلوقين وأكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) (3) وورد: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) (4)...(5).
(ويقول الشيخ عبد الله بن سليمان البليهد(6) (ت 1359هـ):
__________
(1) الدرر السنية) 1/289، 290.
(2) الدرر السنية) 1/295.
(3) لم أعثر عليه بهذا اللفظ، ولكن هناك أحاديث أخرى صحيحة بمعناه.
(4) رواه البخاري.
(5) البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد)، ط 2، مطابع دار الثقافة 1398هـ، ص 9.
(6) ولد في قرية القرعاء بالقصيم سنة 1284هـ، وتنقل إلى عدة بلدان في سبيل طلب العلم، وتولى القضاء في أكثر من بلد، وصار رئيس القضاء في مكة، له مؤلفات وعدة تلاميذ، مات في الطائف.
…انظر (علماء نجد) 2/542، (مشاهير علماء نجد) ص 344.(131/113)
(فحق النبي صلى الله عليه وسلم المقدمة على محبة النفس والولد والوالد والأهل والمال وتصديقه وطاعته(1).
هذه النقول السابقة، ما هي إلا إشارات سريعة تعطي بياناً مجملاً لمعتقد الشيخ – رحمه الله -، ومعتقد أتباعه من بعده في حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم، فما قصدوا – رحمهم الله – من دعوتهم الإصلاحية إلا التأسي بالمصطفى والاتباع ومحاربة الضلال والابتداع.
وأما افتراء الخصوم على الشيخ وأتباعه، بأنهم ينتقصون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد من خلال المصادر التي بين أيدينا، أنها تشير إلى أن سليمان بن سحيم هو من أوائل – إن لم يكن أولهم – المفترين لهذا البهتان، فقد قام سليمان بن سحيم بقذف الشيخ بهذا الإفك، ولم يقتصر على ذلك بل تجاوزه إلى نشر هذا الإفك في سائر البلدان والأمصار، يحرض علماء تلك البلاد على الشيخ، ويشنع عليه ويكيل إليه الأكاذيب والتلفيقات.
يقول ابن سحيم كذباً على الشيخ في انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كتب رسالة إلى علماء الأمصار عند ظهور دعوة الشيخ آنذاك(2)، فكان مما قاله:
__________
(1) خطاب الشيخ ابن بليهد في الاجتماع الذي عقده بين علماء نجد وعلماء مكة ص 21.
(2) أي ظهور دعوة الشيخ في بلدة العيينة، حيث أن رسالة ابن سحيم كانت متقدمة بدليل أن جواب القباني كان سنة 1157هـ، وتضمن الطعن في أهل العيينة الذين ناصروا الشيخ في باديء الأمر، كما أن نفس هذا العام – سنة 1157هـ - هو انتقال الشيخ الإمام من العيينة إلى الدرعية – وقد ذكر بعض الباحثين أن الشيخ انتقل إلى الدرعية سنة 1158هـ.
…انظر : كتاب (محمد بن عبد الوهاب) للعثيمين ص 54، (مشاهير علماء نجد) ص 26.(131/114)
(ومنها أنه أحرق (دلائل الخيرات) (1) لأجل قول سيدنا ومولانا، وأحرق أيضاً (روض الرياحين) (2)، وقال هذا روض الشياطين.. ومنها أنه صح عنه أنه يقول لو أقدر على حجرة الرسول هدمتها.. ومنها أنه قال الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها، هي بدعة وضلالة تهوي بصاحبها في النار..) (3).
وحين أرسل ابن سحيم هذه الرسالة إلى العراق.. كان ممن أجابه أحمد بن علي القباني في مجلد ضخم، فكان مما قاله القباني – معلقاً على كلام ابن سحيم السابق - :
(أقول فعله – أي الشيخ – هذا جرأة منه على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تعظيمه، وإكرام مقامه، وعدم مبالاة بالدين، إذ أقدم على إحراق كتاب موضوع في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وفي كيفية الصلاة عليه…)(4).
…ويقول في موضوع آخر من كتابه:
…(فظهر لك أن قول هذا المخذول - أي الشيخ - لو أقدر على هدم حجرة الرسول هدمتها قول من لم يتبع سبيل المؤمنين، في تعظيم حرمات سيد المرسلين، بل إنما ذلك قول من اتبع واقتدى بإبليس اللعين ومن تنقيص مقام حبيب رب العالمين) (5).…
ثم جاء ثالثهم علوي الحداد، فزاد عليهم إفكاً وبهتاناً وذلك في كتابه (مصباح الأنام) فزعم أن الشيخ:
__________
(1) ألف (دلائل الخيرات) محمد بن سليمان بن عبد الرحمن المغربي، الشاذلي طريقة (ت 854).
(2) ألف (روض الرياحين) عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي (ت 768هـ).
(3) حسين بن غنام (روضة الأفكار) 1/112، 113.
(4) فصل الخطاب)، ق32.
(5) المصدر السابق ق 163.(131/115)
(كان ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: إنه طارش بمعنى أن غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر فيبلغهم ثم ينصرف، وكان بعضهم يقول عصايا خير من محمد، لأنها ينتفع بها بقتل الحيَّة ونحوها، ومحمد قد مات، ولم يبق فيه نفع أصلاً، وإنما هو الطارش ومضى، وبهذا يكفر عند المذاهب الأربعة، ومن ذلك أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتأذى من سماعها وينهى عن الجهر بها على المنابر، ويؤذي من يفعله، ومنع من الإتيان بها على المنابر ليلة الجمعة ولذلك أحرق (دلائل الخيرات) وغيره من كتب الصلاة على النبي من تستر بدعوى أن ذلك بدعة) (1).
ويقول الحداد في موضع آخر من كتابه:
((وكان يقول) أن الربابة في بيت الخاطئة أقل إثماً ممن يناجي ويذكر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنابر) (2).
وساق أحمد بن زيني دحلان في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) (3)، وفي كتابه (الدرر السنية في الرد على الوهابية) (4) قريباً مما ذكره صاحب (مصباح الأنام).
ونقل صاحب (جلاء الأوهام) ما افتراه دحلان، وزاد في بهتانه حيث قال:
(قولهم حيث أن محمداً بلّغ القرآن ومات، فعند نزول آخر آية من القرآن انتهت رسالة محمد، وسقطت عنه حقوق الرسالة. وهذا معنى تسميته (طارشاً)، ومعناه عندهم (مرسل جاء برسالة فبلغها وذهب) فلا علاقة للناس فيه، والالتفات إليه شرك) (5).
ويكذب مرة أخرى فيقول: (قولهم – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه – أن الله أرسل محمداً وأنزل عليه القرآن ليبلغه للناس، وما أذن له أن يشرع للناس أشياء من عنده، فالدين كله في القرآن، وكل ما جاء به الحديث ويسميه المسلمون سنّة واجبة فهو باطل، ولا يجوز التعبد والعمل به)(6).
__________
(1) ص4.
(2) ص67.
(3) ص230.
(4) ص44.
(5) مختار أحمد المؤيد، (جلاء الأوهام) ص6 – 8 -
(6) المصدر السابق نفس الصفحة.(131/116)
واستحدث محسن الأمين العاملي للفرية وجهاً آخر – عدا ما نقله عن صاحب (خلاصة الكلام) فذكر أن اعتقاد (الوهابيين) في ضريح المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه صنم من الأصنام، ووثن من الأوثان بل هو الصنم الأكبر والوثن الأعظم) (1).
وتلقف صاحب (سعادة الدارين) ما افتراه علوي الحداد (2)، وكذا يوسف النبهاني تلقف كلام دحلان، وسوّد به صحائف كتابه الذي أسماه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) (3).
وأنشد أحدهم شعراً في هذه الفرية فقال :
يا محرقاً روض الرياحين الذي ……يحكي حكاي الصالحين الزهد
يا مفتيا بخراب قبة أحمد ……كنز العلوم الهاشمي السيد (4)
وقدم حسن خزبك هذه الفرية بأسلوب آخر، وذلك في كتابه (المقالات الوفية) فقال عن الشيخ:
(وكذا تنقيصه الرسل والأنبياء وهدم قببهم … ومنعه من قراءة خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وضرب رقاب من يناجي في المنارة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) (5).
ثم جاء محمد نجيب سوقية، فسطّر هذه الفرية بأسلوب يتظاهر فيه بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:
(ومما تقشعر منه الجلود ما سمعت عن بعضهم أنهم يقولون محمد كالعصا لا يضر ولا ينفع بل العصا اليوم أنفع من محمد بعد موته …) (6).
__________
(1) انظر : (كتاب كشف الارتياب) ص 139.
(2) انظر : إبراهيم السمنودي، (سعادة الدارين) 1 / 44 ، 53
(3) انظر : (شواهد الحق) ص41.
(4) منظومة في الطعن على الشيخ الإمام، المكتبة السعودية، ق2.
(5) ص 188.
(6) تبين الحق والصواب) ص 29.(131/117)
ثم قال: (إن هذه الفرية تعرضت لسخط الله بإيذائهم لحبيب الله صلى الله عليه وسلم) (1)، وعقد المدعو، محمد الطاهر يوسف فصلاً في كتابه (قوة الدفاع والهجوم)، وهذا الفصل مملوء بالأكاذيب على الشيخ وأتباعه، حيث جعل عنوانه: (بيان استخفاف الفرقة المعتزلة من السنّة النبوية لقدر نبينا وسيدنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم) (2).
ثم عقد فصلا ً آخر قال فيه عن اتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(ومما يدل على استنقاصهم واستخفافهم لقدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه اللفظة المجردة عن الأدب والحياء وهي (محمد لا يعلم الغيب)) (3).
ويزعم صاحب كتاب (إسلامي فرقي) عن الشيخ كذباً وزوراً أن الشيخ يعلن أن تعظيم الرسول شرك (4).
ونختم هذا الإفك المبين بما ذكره الشيخ محمد منظور النعماني في كتابه (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب).
(وقد سمعت وقتئذٍ أكذوبة عجيبة: أن رجلاً يحمل اسم عبد الوهاب النجدي وكان يتزعم الطائفة الوهابية، كان قد بلغ من عدوانه للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ورد المدينة المنورة يتظاهر بالصلاح والتقوى … وسكن بيتاً على الكراء من أجل أن يتخذ في داخل الأرض سرباً من بيته إلى روضة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن من العبث بالجثة المطهرة – نعوذ بالله من ذلك – إلا أنه لم يستطع تحقيق أمنيته حيث تراءى النبي في المنام للملك الذي كان يحكم الحجاز آنذاك، وقال له في المنام: إن رجلاً من نجد خبيثاً رقيعاً يتخذ النفق في الأرض من أجل الغرض الخبيث، فبحث الملك عن الرجل عبد الوهاب النجدي، وقبض عليه فعلاً وضرب عنقه.
ولا أزال أذكر أن الناس كانوا يتناقلون هذه الأكذوبة كحقيقة تاريخية معلومة مقررة، ولذلك فلم أشك فيها قط، لأني لم أجد أحداً يرفضها أو يشك فيها) (5).
__________
(1) المصدر السابق ص 30.
(2) ص 18.
(3) ص 19.
(4) انظر : كتاب (إسلامي فرقي) (أردو)
(5) ص15، 16.(131/118)
ويقول حافظ وهبة في كتابه (جزيرة العرب):
(ولقد سمعت في نجد أن حكام نجد الشمالية أثناء خصومتهم مع آل سعود كانوا يكتبون إلى الأتراك أن آل سعود اتخذوا راية شعارها: لا إله إلا الله محدّ رسول الله (بحذف ميم محمد (أي لا أحد رسول الله وهذا كله تنفيراً للأتراك من خصومهم، وهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب) (1).
وقد بلغت هذه الفرية – أعني فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم - الإمام الشيخ، فكان جوابه عما افتراه عليه ابن سحيم بما يلي:
(سبحانك هذا بهتان عظيم، ولكنه قبل من بهت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه أنه يزعم أن الملائكة، وعيسى وعزير في النار، فأنزل الله في ذلك { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } (2)…) (3).
ويقول الشيخ – رحمه الله – في تكذيب هذا الافتراء:
(وما ذكره المشركون عليّ أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم … فكل هذا كذب وبهتان، افتراه عليّ الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان وأولاد إدريس) (4). (5).
ويقول - أيضاً - في رسالة بعثها إلى عبد الرحمن السويدي أحد علماء العراق، مجيباً عن افتراء ابن سحيم – الذي أرسله إلى سائر البلدان ومنها العراق -.
__________
(1) نقلاً عن كتاب (النهضات الحديثة في جزيرة العرب)، ص 60.
(2) سورة الأنبياء : آية 101.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5 / 64، وانظر : 5 / 12.
(4) هذه بعض أسماء رجال كان بعض النجديين يغلون فيهم. انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/134، وانظر: بحث الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب للعثيمين ضمن بحوث أسبوع الشيخ 1/101.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ، 5 / 52.(131/119)
(يا عجبا كيف يدخل هذا في عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون ؟، وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها (أي من البهتان)، وأما (دلائل الخيرات) (1) فله سبب، وذلك أني أشرت إلى من قبل نصيحتي من إخواني، أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله، ويظنّ أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظٍ كان فهذا من البهتان)(2).
ومما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ذاكراً هذه المفتريات ثم معقباً عليها بالدحض والرد، حين دخل مكة في محرم سنة 1218هـ (وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق بأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه { فاعلم أنه لا إله إلا الله } (3) مع كون الآية مدنية … وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم … فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً كان جوابنا في كل مسألة من ذلك سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى.
ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك.
__________
(1) انظر : جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن (دلائل الخيرات)، (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/38.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5 / 37.
(3) سورة محمد آية 19.(131/120)
والذي نعتقده أن مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته، إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد من ذلك الزيارة … فلا بأس، ومن أنفق أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همَّه وغمَّه كما جاء الحديث عنه …..) (1).
ويقول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود موضحاً وجوب تعظيم المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(وأما قولك أن ناساً من أصحابنا ينقمون عليكم في تعظيم النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فنقول بل الله سبحانه افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلو فيه وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك …) (2).
ومما سطره قلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في كتابه (تأسيس التقديس في كشف تلبيس بن جرجيس) في الرد على داود حيث زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أبو بطين رحمه الله:
__________
(1) الدرر السنية) 1/ 127، 128.
(2) المصدر السابق 1/150.(131/121)
(وسلفه - أي داود – في ذلك عبّاد المسيح لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته، قالوا تنقص المسيح عليه السلام، ونحن إنما نهينا عن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم الذي حذر منه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)(1)، وقوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) (2)، وقوله (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد)(3) وقوله للذي قال: ما شاء الله وشئت، (أجعلتنى لله نداً (4) (5).
ويتعجب علامة العراق محمود شكري الألوسي من هذا الافتراء، فيقول:
(وأعجب من هذا تقوّل هذا العراقي من المبتدعة والغلاة على أهل الحق القاصرين الألوهية على خالق الخلق، إنهم ينتقصون الرسول والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وينسبون إلى جنابه ما لا يليق بأعتابه ….. سبحانه إله الخلق ما أحلمه، وما أجل سلطانه وأعظمه) (6).
وكتب أحد علماء نجد (7) رسالة في الرد على صاحب جريدة القبلة (8) حين زعمت الجريدة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يقولون: إن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم، فاستعظم شناعة هذا الافتراء وقبحه، ثم أعقبه بالتكذيب لهذه الفرية، ثم بيان مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما له من حقوق وواجبات، فكان مما قاله – جواباً على ذلك الكذب -:
__________
(1) رواه البخاري – وتقدم ذكره -.
(2) لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وهناك أحاديث أخرى صحيحة بمعناه.
(3) رواه أبو داود بسند صحيح.
(4) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجة.
(5) ص3، وله كلام قريب من هذا في الدرر السنية) 9 / 275.
(6) محمود شكري الألوسي (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)، ط أنصار السنّة المحمدية، مصر 1366هـ، ص 455.
(7) لم يذكر اسمه (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية).
(8) 10) وكانت هذه الجريدة لسان الشريف الحسين بن علي ضد الدعوة الوهابية.(131/122)
(الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين ينفرون الناس عن الدخول في دين الله، ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون، فمن نسب هذا إلينا وافتراه علينا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وفضحه على رؤوس الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
ويا سبحان الله كيف يتصور وقوع هذا عاقل أو جاهل أو مجنون ؟ ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن ذلك، بل لا يقوله إلا من هو أضل من حمار أهله، نعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.
بل نشهد الله وملائكته وجميع خلقه أنا نشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعاملين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، بعثه للإيمان منادياً وإلى دار السلام داعياً، وللخليقة هادياً.. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره والقيام بحقَّه، وسدَّ إلى الجنَّة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب، لما فتح يفتحها لأحد إلا من طريقه، فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب، لما فُتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين، وعلى منهاجه وطريقه من السالكين، إذا تحققت ما قدمته لك فكيف يصح مع هذا أن نقول أن العصا أنفع من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) (1).
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) 4/ 833.(131/123)
ويقول ابن سحمان في كتابه (كشف غياهب الظلام) في معرض الرد على هذا البهتان:
(وأما قوله: ولا يتحاشون من الطعن بالرسول عليه الصلاة والسلام بكل بذاءة. فالجواب أن نقول سبحانك هذا بهتان عظيم، ومن افترى علينا هذا ونسبه إلينا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وفضحه على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) (1).
(وأما قوله: أن محمداً بلغ القرآن ومات … وانتهت رسالته … الخ فالجواب: أن نقول هذا كله كذب وافتراء على الشيخ ما تكلم بهذا، ولا قاله ولا نقله أحد يعتد بنقله، بل هذا من الموضوعات الملفقة، وصريح الإفك والزندقة، وهذه رسائل الشيخ ومصنفاته موجودة، وليس فيها شيء من الترهات والأقاويل الباطلة والتلفيقات، إن هي إلا أوضاع وضعتموها من أنفسكم لتموهوا بها على أعين الناس، وتنفروا بها عن الدخول في دين الله ورسوله بغياً وعدواناً) (2).
ويقول ابن سحمان في كتابه (الأسنة الحداد) دحضاً لهذا الافتراء:
(والجواب أن يقال الله أكبر على هؤلاء الملاحدة الذين يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً، فإن هذه الأكاذيب مما لا يمتري كل عاقل أنها كذب) (3).
ويقول في قصيدة نظمها رداً على دحلان:
ودعواك في مزبور مينك (4) أمره ………بقتل امريء صلّى على خير من يهدي
عليه صلاة الله ما هبّت الصبا ………وما انبعث ورق الحمائم بالغرد
فذا ظاهر البطلان يعلم رده ………على أنه زور من القول في النقد
فمهلاً عداء الدين ليس يشينه ……ملفق مزبور من المين لا يجدي
فلن يضع أعداء الأعداء ما الله رافع ………ولن يرفع الأعداء من كان بالضد (5)
__________
(1) ص 113.
(2) ص114.
(3) ص16.
(4) المين : الكذب. انظر (مختار الصحاح) ص641.
(5) ديوان ابن سحمان) ص53.(131/124)
ويقول ابن سحمان في قصيدة أخرى داحضاً تلك الفرية وراداً على أحمد باشا مؤيد العظمى (1) :
فليس اتباع المصطفى يا ذوي الردى ……يكون معاداة وبغضاً لذوي المجد
ولكنه عين الكمال لأنه ……على وفق ما قد قال في كل ما يبدي ……
وتعظيم أمر المصطفى باتباعه ……وترك الذي يأباه من كل ما يرى
فيأتي الذي يرضاه من كل مطلب ……ويجتنب النهي الذي كان لا يجدي(2)
ويقول أيضاً في قصيدة ثالثة يمتدح المصطفى صلى الله عليه وسلم ويرد على ما ذكره محمد عطا الكسم في كتابه (الأقوال المرضية) (3)، ويورد ابن سحمان – رحمه الله – بعض خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان مما قال:
لعمري لقد أعطاه ربي فضائلاً ………وخص بها الرحمن فضلاً محمداً
فأعطى لواء الحمد والكوثر الذي ………حباه إله العرش حقاً وأصعداً
وقد خصه المولى بما لم نحط به ………ونحصيه علماً أو حساباً محدداً
فدع عنك ما قال الغلاة وأوردوا ………بذلك أخباراً ودراً منضداً
فأخبارهم موضوعة ونظامهم………لعمر إلهي باطل واهي السدا (4)
ويقول الشيخ محمد بن عثمان الشاوي - رحمه الله - في مؤلفه (القول الأسد في الرد على الخصم الألد) أثناء الرد على خصوم الدعوة السلفية، ذاكراً هذه الفرية والجواب عليها فكان مما كتبه:
__________
(1) هو صاحب كتاب (جلاء الأوهام)، والذي رد عليه ابن سحمان في (كشف غياهب الظلام) ورد عليه الشيخ فوزان السابق بكتاب (البيان والإشهار).
(2) ديوان ابن سحمان)، ص 60.
(3) وهي رسالة تضمنت الغلو في المصطفى صلى الله عليه وسلم وتجويز التوسل بالذوات، والغلو في الأموات.
(4) ديوان ابن سحمان)، ص64.(131/125)
(وقد رموهم بعظائم يعلم الله تعالى أنها لم تصدر منهم، ونسبتهم إلى تنقص الرسول وعد م الصلاة عليه، وما ذاك إلا أنهم لم يغلوا امتثالاً لقوله (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) (1)، وإلا فهم بحمد الله أعظم الناس محبة للرسول ومتابعة له، ورعاية لحقه، وهو أجل في عيونهم من أن يخالفوا سنته أو يخالفوا أقواله بمجرد العوائد الباطلة، أو الأقيسة الفاسدة بخلاف كثير من هؤلاء الذين جمعوا بين الإفراط والتفريط، فأفرطوا بالغلو فيه وإطرائه، حتى رفعوه من منزلة العبودية إلى منزلة الإلهية والربوبية، وفرطوا في اتباعه، فنبذوا سنّته وراء ظهورهم، ولم يعبأوا بأقواله، وخالفوا نصوصه الصريحة الصحيحة بغير مسوغ ولم يكتفوا بذلك حتى جعلوا يعيبون على من جدّ واجتهد في اتباعه، لما ألفوه من العوائد الباطلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حقه هو تعزيره وتوقيره واتباع ما جاء به، واقتفاء أثره، وتصديقه وتقديم محبته على الأهل والمال، وأما العبادة فهي له وحده لا يشركه فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل)(2).
وقد ساق الشيخ فوزان السابق – رحمه الله – فرية مختار ثم أعقبها بالرد نذكر من ذلك قوله:
(قال الملحد: واعلم يا أخي أن للوهابيين وإخوانهم أعداء الله ورسوله مطاعن كثيرة بالرسول صلى الله عليه وسلم، كلها من المكفرات، وإن كانت بحد ذاتها من المضحكات، تجل عقول الصبيان عن التمسك بها) أ.هـ
__________
(1) رواه البخاري – وتقدم -.
(2) ق7.(131/126)
أقول على زعم هذا المفتري بأننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم..، فزعم أننا أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بغير برهان من الله تعالى، وما حمله على ما رمانا به من الافتراء علينا إلا أننا قد جردنا اتباعنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحققنا ما جاء بهما قولا ً وعملاً مقتفين أثر السلف الصالح …) (1).
…ومما ذكره فوزان السابق أيضاً عن تلك الفرية أنه قال:
(وهذا كله زور وبهتان، بل ظلم وعدوان يراد به الصد عن سبيل الله والبغي على عباده المؤمنين الداعين إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الملحد لم يسند شيئاً مما نسبه إلى الوهابيين، وادعاه عليهم إلى الثقات ولم ينقله عن كتب العلماء الذين يعتمد عليهم، بل كله بهت لا يتصور …) (2).
ومما قاله فوزان السابق – أيضاً - رداً على فرية المدعو مختار بزعمه أن الوهابيين يحرمون الصلاة على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ويكفرون من فعل هذا، فقال رحمه الله:
(والجواب أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم) لا يصدقه عاقل، ولا يسيغه من في قلبه وزن ذرة من إيمان، فهو اختراع شيطان رجيم، نبرأ إلى الله تعالى منه، ومن مخترعه الأثيم، ونؤمن بالله وكتبه ورسله، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله أجمعين، وسيد ولد آدم وأن الله تعالى صلى عليه وملائكته، وأمر عباده بالصلاة والتسليم، وأن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
__________
(1) البيان والإشارة لكشف زيغ الملحد الحاج مختار)، ط1 مطبعة السنة المحمدية، 1372هـ، ص 292، 293 باختصار.
(2) المصدر السابق ص 80.(131/127)
اللهم صلّ وسلّم عليه بعدد من صلى وسلّم عليه، وبعدد من غفل عن الصلاة والتسليم عليه إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم على سيد المرسلين وإمام الحنفاء الموحدين، صلاة دائمة إلى يوم الدين، وإن رغم أنف الحاج مختار العظمى الكذّاب الأثيم، والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل) (1).
ويرد الشيخ محمود شوبل على محمد البكري أبي حراز حين زعم هذا الحرازي أن الوهابيين ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فكان ردّه أنه قال:
(ولا ندري أين وجد الحرازي الكذوب أن الشيخ محمد أو أولاده منعوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه كتبهم طافحة مليئة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر إلا مقروناً بالصلاة والتسليم كلما ذكر، بأبي هو وأمي، والناس أجمعين.
وقد قدمنا أن الشيخ محمد رحمه الله مقلد مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والصلاة على النبي في الصلاة ركن من أركان الصلاة تبطل الصلاة بتركها، فإنا لله وإنا إليه راجعون) (2).
ويقول مسعود الندوي – مستغرباً ذلك الافتراء – في كتابه (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه):
(إن الزمان لغريب، وإن نوادره لعجيبة فالرجل الذي يقوم ويقعد وينام تحت ظل ظليل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنها هي غطاءه وفراشه يتهم بإنكار الحديث) (3).
ويقول صاحب كتاب (النفخة على النفحة) رداً على تلك الفرية:
(وأما المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا تظن أن أحداً من المسلمين على كرة الأرض يهم بتنقيصه، أو يبغضه. وفي مذهب الحنابلة أن شاتم الرسول يقتل تاب أو لم يتب) (4).
__________
(1) المصدر السابق ص 271.
(2) القول السديد في قمح الحرازي العنيد) مطبعة السنة المحمدية، القاهرة سنة 1372هـ، ص 15.
(3) ص 173.
(4) ناصر الدين الحجازي، (النفخة على النفحة) مطبعة الترقي، دمشق 1340هـ، ص 27، 28.(131/128)
ويقول الشيخ صالح بن أحمد في كتابة (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، راداً على كذبه بأن الوهابيين انتقصوا نبي الرحمة، فكان مما قال الشيخ صالح بن أحمد:
(فمن يساوي الأحرار برسول رب العالمين، صاحب المقام المحمود القائل (أنا سيد ولد آدم) (1) فضلاً عن العبيد، ولا شك أن قوله (أنا سيد ولد آدم) يشمل الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، إن هذا لبهتان عظيم، قاتل الله المفترين وما أظن قائل هذا القول يبقى له حظ في الإسلام، لأنه حقّر سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فلو ساواه بخيار أمته لكان محقراً له، فكيف إذا ساواه بالعبيد، ولا غرابة أن هذا دأب أعداء الأنبياء والرسل ومتبعيهم من قديم، ينسبون إليهم كل مستقبح من قول أو فعل) (2).
ويقول عبد الله بن علي القصيمي في كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) داحضاً فرية الرافضة في الكذب على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنتقص الأنبياء والرسل، - كما زعم ذلك العاملي في كتابه (كشف الارتياب) – مع أنه من المعلوم أن الرافضة من أكذب الناس حديثاً، فلا غرابة أن يبهتوا الشيخ بهذه الفرية، يقول القصيمي:
(والجواب أن يقال: ما صدق الرافضي، ولا أنصف، حيث زعم أن هذا الذي ذكره هو اعتقاد الوهابيين في النبي والأنبياء، وقاتل الله الكذّابين وقاتل هذه الفرقة، فما يوجد على الأرض أكذب منها، ولا من يستحل الكذب والظلم والزور مثلها …
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
(2) ص 9، 10.(131/129)
واعتقاد الوهابيين في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يجب على كل مسلم أن يعظمهم التعظيم المشروع كله أحياءً وأمواتاً، وأن يحبهم الحب الصادق العاقل أكثر من حبه لنفسه ولأهله وللناس أجمعين، وأن يعلم أنه لا نجاة له في أخراه وفي أولاه أيضاً إلا بطاعتهم واتباعهم والأخذ بهديهم واقتفاء آثارها أحياءً وأمواتاً، وأن يعلم أنهم هم وحدهم دون البشر – جميعاً – وساطات البلاغ المبين بين الله وبين عباده، وأن يعلم أنهم هم دون غيرهم المعصومون اللذين افترض الله على البشر أن يطيعوهم وأن يصدقوهم في كل ما قالوا وما أخبروا، وفي كل ما نهوا وأمروا…)(1).
ثم يرد عليهم في موضع آخر من نفس الكتاب:
(وأما زعمه أنهم يمنعون تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وأنهم يرونه كفراً وعبادةً للأصنام، فمن الأكاذيب التي سيسود لها وجه مفتريها عند الله يوم تبلى السرائر، بل هم لا يشكون أن تعظيمه التعظيم المشروع هو أصل الإيمان والإسلام ولا يشكون أن من لم يعظمه صلى الله عليه وسلم هذا التعظيم فليس بمسلم ولا مؤمن) (2).
ويقول في موضع ثالث منه.
(أما ما ذكره عن (خلاصة الكلام) تأليف شيخ الكذب دحلان من أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يقول إن العصا خير من الرسول، وأن ذلك كان يقول في حضرة الشيخ فيسمعه ويرضاه، فهذا كله وأمثاله من أرذل الأكذوبات وأرخصها، وأننا نتحدى هذا الرافضي وإخوانه، ونطلب إليهم جميعاً أن يسندوا شيئاً من هذه الأقوال عن أحد الوهابيين، لا نطالبهم أن يسندوه عن الشيخ محمد، ولا عن عالم من علمائهم، فالمسألة أسمى من أن نطلب إليهم ذلك، بل أننا نطالبهم أن يسندوه عن جاهل من جهلائهم، وإلا فالكذب يقدر عليه أقل الناس عقلاً وعلماً وفهماً، وإذا استعان الخصم على خصمه بالكذب والاختلاق فقد لجأ إلى ركن غير وثيق، وأخذ بسبب مقطوع، وباع نفسه وعلمه في سوق الكاسب فيها خاسراً) (3).
__________
(1) 2/56.
(2) 2/61.
(3) 2/666، 667.(131/130)
ويقول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي موضحاً حرص الشيخ الإمام وأتباعه على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به:
(والشيخ محمد رحمه الله ألفّ (مختصر السيرة)، وقد طبع عدة مرات، وانتشر في سائر الأقطار، فلو لم يكن محباً للرسول لما ألف سيرة له، ومن لا يحب الرسول لا يكون مسلماً بل يكون يهودياً أو نصرانياً.. والشيخ وأتباعه يحثون الناس على التمسك بسنّة الرسول الصحيحة، ويشددون النكير على من يخالف سنّة الرسول ويعدونه مبتدعاً، أما هذا دليل على كمال حبهم وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المنحرفين يرون حب الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءة الأناشيد والأشعار والاستغاثات … فمن عمل بهذا فهو محب للرسول، وإن ارتكب الموبقات وتلطخ بقاذورات المبتدعات ومن لا فلا) (1).
ويذكر عبد الرحمن عميرة الدافع إلى افتراء هذه الكذبة، ثم يعقبها بالدحض:
(إن الحاقدين والضالين عن طريق الحق يعلمون مدى حب الأمة الإسلامية لرسولها - صلى الله عليه وسلم -، فأرادوا بتلك الفرية الجديدة أن يوغروا قلوب المسلمين، وأن ينفروا الأتباع من السير في دعوة التوحيد، فاختلقوا هذا الضلال المبين الذي لا يقوم عليه إلا من كان أسود القلب ضال البصيرة، يبغي محاربة الله ورسوله والصد عن سبيله.
ثم يقول: الرجل الذي جاء يدعو المسلمين بالعودة إلى القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تقولوا عليه بأنه يكره الصلاة على الرسول الكريم، إنه الإفك بعينه والادعاء الذي لا يقف على قدمين. الرجل الذي يلتزم بكل ما أمر به القرآن، يقولون عليه يكره الصلاة على النبي.. !
__________
(1) نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين) مكتبة ابن تيمية، الكويت، ص67، 68.(131/131)
أنَسِي هؤلاء أن الصلاة.. على الرسول صلى الله عليه وسلم هي أمر من الله قبل أن تكون من الرسول، إن الله سبحانه وتعالى يقول: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } (1).
أما الذي يكرهه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونهى عنه فهو الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآذان، وعلى المنابر يوم الجمعة فهو بدعة محدثة) (2).
ونؤكد في خاتمة هذه الردود المختلفة والحجج الدامغة في دحض هذه الفرية الكاذبة الخاطئة، أنه بمجرد إلقاء نظرة - ولو كانت عابرة - على مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب أتباعه ورسائلهم سيتضح – يقيناً – مدى شناعة هذا الافتراء، وعظم ذلك البهتان، كما ندرك ما كان عليه الشيخ الإمام وكذا أتباعه – من بعده – ومن سار على نهجه من الحرص التام على تعظيم وإجلال المصطفى صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر (3)
__________
(1) سورة الأحزاب : آية 56.
(2) الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ضمن بحوث أسبوع الشيخ) 2 / 68.
(3) مما يحسن ذكره ها هنا – أن نورد بعض ما كتبه محمد بهجة البيطار (في جريدة أم القرى ع 293، 22 صفر سنة 1349) حيث يقول :
(كنت مرة في زيارة الأستاذ الكريم السيد حمد السنوسي الكبير في دار الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الشهير، وكان في زيارة حضرته طائفة من أهل العلم فجري ذكر إخواننا النجديين بينهم، فأخذ بعضهم يعزو إليهم أشهر مفتريات خصومهم عليهم، ولما ذكرت لهم نبذة من عقائدهم الصحيحة المنشورة في مجموعة الهدية السنية الشهيرة، ومنها قولهم والذى نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية فوق حياة الشهداء إلى آخر ما ذكرت، تعجبوا، وقال لي واحد من أهل العلم : يا فلان هذه عقيدة أهل السنة والجماعة فغلبني الضحك، وقلت لقد كلّت الألسنة والأقلام وهي تذيع بأنهم من صميم أهل السنّة والجماعة وأن ليس بيننا وبين معرفة ما هم عليه إلا مطالعة كتبهم أو مخالطة بعضهم).(131/132)
.
فإن بان من خلال تلك البراهين بعضاً من حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ووجوب متابعته وتعظيمه وتوقيره، كما سطّره علماء الدعوة وأنصارها، فإنه من المناسب أن ننقل شيئاً من أقوال الخصوم في وصف وحق المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يكتمل هذا المبحث، ويقارن - إن كان ثمت مقارنة - بين أقوال أئمة الدعوة واعتقادهم نحو نبينا صلى الله عليه وسلم، وبين اعتقاد هؤلاء القوم.
وسنورد بعضاً من أقاويل الخصوم في هذا الشأن، مع الإشارة - أحيانا- إلى الرد عليها:
يقول صاحب كتاب (إزهاق الباطل):
(إن محمداً وأهل بيته أنوار مقدسة خلق الله الخلق لأجلهم) (1).
(ويحكي القباني بعض المطاعن – الكاذبة – ضد الشيخ الإمام فكان مما تقوّله:
(وتنقيص جناب من خلق لأجله الأكوان) (2).
ويذكر عبد الله القصيمي شيئاً من غلو الرافضة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما نقله محسن العاملي – صاحب كتاب (كشف الارتياب) عن أحد شيوخهم إبراهيم بن يحيى الشيعي الاثنى عشري في امتداح المصطفى فقال:
ساد الورى بفضائل وفواضل ………وأقلها إيجاد هذا العالم(3)
ويقول أبو بطين رحمه الله في كتابه (تأسيس التقديس):
(ومن غلوهم ما قاله داود العراقي: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله صلى الله عليه وسلم).
__________
(1) محمد بن عبد الوهاب ابن داود الهمداني، (إزهاق الباطل) : صورة خطية من دارة الملك عبد العزيز ق 37.
(2) أحمد بن علي البصري الشهير بالقباني (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب) صورة خطية من قسم المخطوطات بجامعة الإمام، ق 223.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية) 2/15.(131/133)
ثم أجاب الشيخ أبو بطين على ذلك قوله: (وهذا حديث لا يصح والله سبحانه قد أعلمنا بالحكمة في خلق هذه المخلوقات كقوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1)، وقوله عزَّ وجلَّ: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}(2). فأخبر سبحانه بالحكمة في خلق هذه الأشياء، وأنه إنما خلقها للحكم التي ذكرها لا لأجل أحد من عباده … ولو صح لم يكن فيه حجة ولا شبهة يستأنس بها لما ادعاه، مع أنه صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على ربه، وأقربهم إليه وسيلة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ولكن نهى عن الغلو فيه فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله …) (3) (4).
ويقرر علوي الحداد كلاماً حول جسد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول:
(إن الجسد الشريف لا يخلو منه زمان ولا مكان، ولا محل إمكان، ولا عرش ولا كرسي، ولا غير ذلك من المخلوقات، وإن امتلاء الكون به صلى الله عليه وسلم كامتلاء الكون الأسفل، وكامتلاء قبره به، فتجده مقيماً طائفاً حوالي البيت قائماً بين الملأ الأعلى بين يدي ربه، لأداء الخدمة، ألا ترى إلى الرائين له يقظاً ومناماً يرونه في وقت واحد في أمكنة بعيدة) (5).
ويجيب ابن سحمان عن ذلك الكلام السابق بقوله:
__________
(1) سورة الذاريات : آية 56.
(2) سورة الملك : آية 2.
(3) رواه البخاري - وتقدم -.
(4) تأسيس التقديس) ص6، 7.
(5) مصباح الظلام) ، ص 29.(131/134)
(واعلم أيها الواقف على ما حرره هذا الملحد وأضرابه من المشركين، أنهم قد تنقصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التنقص، وهضموه أعظم الهضم، فإنهم قد تنقصوه من حيث ظنهم أنهم قد عظموه، فإنهم بهذا الغلو والإفراط حيث زعموا أنه لا يخلو منه زمان ومكان ولا محل …. الخ، فما صانه أعداء الله عن الحشوش والقاذورات، ولا عن بطون الحيوانات من الكلاب والخنازير، ولا من جميع المخلوقات الطيب منها والمستخبثات، ثم أن قولهم قد امتلأ العرش والكرسي أمر مستحيل في الفطر والمعقولات كما هو مستحيل في المنقولات. فأين يكون رب العرش والسموات ؟ فهو من أمحل المحال وأضل الضلال) (1).
ويورد محمد عطا الكسم وصفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم :
(هو قطب الأقطاب، فهو ممد لجميع الناس أولاً وآخراً، فهو ممد كل نبي وولي سابق على ظهوره حال كونه بالغيب، وممد أيضاً لكل ولي لاحق، فيوصله بذلك إلى مرتبة كماله في حال كونه موجوداً في عالم الشهادة) (2).
وينقل حسن خزبك هذه الأبيات مقرراً لها:
فاكشف له كربة أودت بهجته ………يا خير من كشفت عنا به الكرب
فما دعوناك في تفريج شدتنا ………إلا لأنك في تفريجها سبب
وأنت باب العطاء والجود يا أملي………بك الإله على طول المدى يهب (3) …
ويقول القصيمي رداً على فرية الرافضة … ومقرراً تناقضهم وتضاربهم في ذلك:
__________
(1) الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد) ط2، مطابع الرياض، 1376هـ ، ص 80.
(2) الأقوال المرضية في الرد على الوهابية) ط1 المطبعة العمومية مصر 1901 م، ص18.
(3) المقالات الوفية في الرد على الوهابية) (مع مجموعة كتب) ط2، مكتبة التهذيب، مصر، ص222.(131/135)
(ولكن الاعتقاد الباطل الموبق هو اعتقاد الشيعة في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين، وذلك أنهم قد ذهبوا إلى أن الأنبياء ليسوا وحدهم المخصوصين بالعصمة من الخطأ والزلل، وليسوا وحدهم المخصوصين بالوحي، وبنزول الملائكة، بل قد زعموا أن الأئمة معصومون من ذلك، ومن أكثر من مثل الأنبياء والرسل، فإنهم يوحى إليهم كما يوحى إليهم.
وقالوا أنه لولا علي وجهاده، لما اخضر للإسلام عود، وهذا من شر الهجاء لرسول الله ولصحابته وللمسلمين) (1).
وبهذا يظهر بعض تناقض الرافضة وتضارب أقوالهم، فمرة يبلغ بهم الغلو إلى أن يزعموا بأن محمداً خلق لأجله الكون، بل إن إيجاد الكون أقل فضائله - كما مرّ ذكره -، ثم يصل بهم الجفاء في حقه حتى أشركوا معه أئمتهم في العصمة، بل يزيدون على ذلك ويجعلون منزلة أئمتهم فوق منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبالإجمال يتضح ما عليه هؤلاء الأدعياء - صوفيّة أو رافضة أو غيرهما - من الغلو في محمد صلى الله عليه وسلم، ورفعه فوق منزلته، مخالفين بذلك هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومتبعين بهذا اللغو الشنيع غير سبيل المؤمنين(2).
…
الفصل الثاني
__________
(1) الصراع بين الوثنية والإسلام)، 2 / 58، 59 باختصار.
(2) انظر : بعض ما كتبه أئمة الدعوة في الرد على الغلو في المصطفى صلى الله عليه وسلم، مما ورد في بردة البوصيري وغيرها.
- ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/33.
- ما كتبه أبو بطين في (مجموعة الرسائل والمسائل) 2/237.
- ما كتبه الشيخ صالح الشثري في (تأييد الملك المنان) ق18.
- ما كتبه محمود شكري الألوسي في (غاية الأماني) 2/350.
وغيرها كثير.(131/136)
الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم (1)
لقد رمى الخصوم هذه الدعوة السلفية، ورموا أتباعها وأنصارها بفرية التجسيم والتشبيه، وما نقموا منهم إلا أنهم وصفوا الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
وسنورد - كما فعلنا في الفصل الأول - بياناً كافياً يوضح معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في باب أسماء الله وصفاته، ويوضح - أيضاً - معتقد أتباعه وأنصار دعوته في هذا الباب.
وسندرك من خلال عرض سريع أن الشيخ رحمه الله، وأتباعه - من بعده - قد اعتنوا بمسألة الأسماء والصفات، وأعطوها حقها من الإيضاح والبيان.
فمع ما كانوا عليه من الانشغال والحرص التام في تقرير توحيد العبادة وبيان ما يناقصه، والاهتمام به قبل كل شيء، لأنه أول واجب على المكلف ومفتاح دعوة الرسل.
__________
(1) أوردنا عنوان هذا الفصل هكذا : الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم، جرياً على مقالة الخصوم حين زعموا بأن الشيخ مشبه مجسم، بمعنى أنهم يريدون بالتشبيه وبالتجسيم : التكييف والتمثيل. وإلا فإنه من المعلوم عند أهل السنة والجماعة أن لفظ التجسيم من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب ولا السنة، فمثل لفظ (الجسم) لا يطلق حتى ينظر في مقصود قائله، فإن كان مقصوده معنى صحيحاً، قيل لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص الشرعية دون الألفاظ المجملة، وإن كان مقصوده معنى فاسداً – مثل أن يراد بلفظ الجسم أي البدن كما زعم الخصوم أن الشيخ مشبه مجسم بهذا المعنى الذي يقصدوه – رد على قائله.
وعلى كل فعنوان هذه الفرية يدل ابتداء على جهل الخصوم، وإعراضهم عن الألفاظ الشرعية الدينية، وتمسكهم بالألفاظ المجملة الموهمة.(131/137)
إلا إن هذا لم يشغلهم عن بيان توحيد الأسماء والصفات (1) - كما قرره علماء السلف، خاصة بعدما انتشرت هذه الدعوة الإصلاحية خارج بلاد نجد، حيث إن بلاد نجد لم تكن ظاهرة فيها الانحرافات في باب الأسماء والصفات، كما كانت الانحرافات ظاهرة ومشاهدة في باب العبادة والألوهية.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - عن حال أهل نجد في مسألة الأسماء والصفات:
(ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة أهل هذه المقالات)(2) لكن لما انتشرت الدعوة خارج بلاد نجد، احتاج الأمر إلى زيادة بيان في مبحث الأسماء والصفات، لما كان عليه غالب بلاد المسلمين من كثرة الانحراف في باب الأسماء والصفات.
كما أن هذا البيان المفصل - نوعاً ما - سيكون بمثابة الرد - ابتداء - والحجة الدامغة لفرية الخصوم الآتي ذكرها بعد هذا البيان.
وسنورد مفتريات الخصوم - كما جاءت مدونة في كتبهم أو من نقلها عنهم -، ثم نتبعها بالرد والدحض.
ونسوق في خاتمة هذا الفصل - وبإيجاز - بعض ما سطره خصوم أئمة الدعوة في بيان معتقدهم في الأسماء والصفات.
يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عقيدته في باب الأسماء والصفات فيقول - بكل وضوح:-
__________
(1) من المعلوم – أيضاً – أن إثبات التوحيد العلمي الخبري يستلزم إثبات توحيد الألوهية.
(2) الدرر السنية) 9/164.(131/138)
(ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سمّي له ولا كفؤ له، ولا ندَّ له ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً، فنزّه سبحانه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل. فقال: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } (1).
وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلّم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد رسول الله) (2).
ويقول أيضا – رحمه الله – في بيان توحيد الأسماء والصفات :
(و { قل هو الله أحد } متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه وأحديته، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل، فتضمنت إثبات كل كمال، ونفي كل نقص، ونفي إثبات شبيه له، أو مثيل في كماله، ونفي مطلق الشريك…) (3).
ويثني الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله – على جده الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ثناءً حسناً، لما كان عليه من سلامة المعتقد، وتمام الاتباع للسلف الصالح في باب الأسماء والصفات، فيقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) سورة الصافات 180 – 182.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5 / 8.
(3) المرجع السابق 4/35، 36.(131/139)
(ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون، وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها، محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين، وقواعده المهمة التي أصلها الأصيل وأسها الأكبر الجليل معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا تحريف ومن غير تكييف ولا تمثيل) (1).
وقد أورد صاحب (جواب الجماعة) معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في باب الأسماء والصفات فقال:
(وكان رحمه الله يعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة …، فيؤمن بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يلحد في أسمائه، وآياته، ولا يكيف، ولا يمثل صفاته بصفات خلقه …) (2).
فظهر جلياً – مما سبق ذكره – ما كان يعتقده الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في باب الأسماء والصفات، وأنه – رحمه الله – يدين الله بما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
أما عن معتقد أتباعه – من بعده – في هذا الباب، فنبتديء بما قاله الشيخ عبد الله ابن محمد بن عبد الوهاب في بيان معتقدهم، حين دخلوا مكة المكرمة سنة 1218هـ، يقول رحمه الله:
(.. مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم، خلافا لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي أنا نقرُّ آيات الصفات وأحاديثها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى..) (3).
__________
(1) مجموعة الرسائل) 3 / 156، 157.
(2) جواب الجماعة ص. 194.
(3) الدرر السنية 1 / 126.(131/140)
ويورد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معتقدهم في باب الأسماء والصفات – بجواب أوسع من الجواب السابق – فيقول جواباً عن اعتقادهم في آيات الصفات:
(الذي نعتقده والذي ندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة، وأصحابهم رضي الله عنهم أجمعين، وهو الإيمان بذلك والإقرار به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل..، ممن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله تعالى، وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين بل أمروها (1) كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها صادق لا شك في صدقه، فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها(2) فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الأخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها والعدول عن طريقهم، وبيّنوا لنا سبيلهم ومذاهبهم، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف..)(3).
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – مبيّناً ظهور توحيد الأسماء والصفات، ووضوحه عن طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول:
__________
(1) في نسخة الكتاب : أقروها.
(2) أي لم يعلموا كيفية الصفات الإلهية.
(3) مجموعة الرسائل 1/48.(131/141)
(ومن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس، فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، إلى سبيله بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله تعالى بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال هذا وغيره – أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميّز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول..)(1).
ونختم كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب موجزاً مذهب السلف الصالح فيقول في كتابه (جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية):
(مذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وعلى هذا مضى السلف كلّهم، ولو ذهبنا نذكر ما أطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرج بنا عن المقصود في هذا الجواب)(2).
__________
(1) المصدر السابق 1 / 52.
(2) المصدر السابق 4/101.(131/142)
وسئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر بن معمر – رحمهم الله – عن آيات الصفات الواردة في الكتاب كقوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } (1) وكذلك قوله: { ولتصنع على عيني } (2) وقوله: { أسمع وأرى } (3) وقوله: { بل يداه مبسوطتان } (4) وقوله: { لما خلقت بيدي } (5) وقوله: { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } (6) وقوله: { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } (7) وغير ذلك في القرآن. ومن السنّة قوله صلى الله عليه وسلم: (قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن) (8) وكذلك النفس، وقوله: (إن ربكم ليضحك)(9)، وقوله: (حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط) (10) وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس. على ما تحملون هذه الآيات وهذه الأحاديث في الصفات ؟
فكان من جوابهم أن قالوا:
__________
(1) سورة طه : آية 5.
(2) سورة طه : آية 39.
(3) سورة طه : آية 46.
(4) سورة المائدة : آية 64.
(5) سورة ص : آية 75.
(6) سورة الفجر : آية 22.
(7) سورة الزمر : آية 67.
(8) رواه الترمذي وقال : حديث حسن.
(9) 10) أخرجه البخاري ومسلم بمعناه، ولفظهما : يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة.
(10) 11) رواه البخاري ومسلم.(131/143)
(الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها: ما قال الله ورسوله، وما جمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اتبعهم بإحسان، وهو الإقرار بذلك، والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك لما سئل عن قوله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فأطرق الإمام مالك، وعلته الرحضاء – يعني العرق -، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج، ومن أوّل الاستواء بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف. في جميع الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها فيقال في النزول النزول معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة.. إلى أخر جوابهم رحمهم الله) (1).
__________
(1) 12) (الدرر السنية)، 3/185.(131/144)
وللشيخ حمد بن ناصر بن معمر رسالة نفيسة تضمنت بياناً شافياً وكافياً لعقيدة السلف الصالح في الأسماء والصفات (1)
__________
(1) بمناسبة ورود هذه الرسالة للشيخ حمد بن ناصر بن معمر، فقد لاحظت أن بعض الكتّاب يخلطون فينسبون بعض مؤلفات الشيخ حمد بن ناصر بن معمر النجدي إلى الشيخ محمد بن ناصر الحازمي اليمني، مع أن الأول توفي سنة 1225هـ، بينما الآخر توفي سنة 1283هـ، ومن هذا اللبس أن صديق بن حسن القنوجي ذكر في كتابه (أبجد العلوم) (3/200) أن للشيخ محمد بن ناصر الحازمي رسالة في المشاجرة مع أهل مكة، وأخرى في إثبات الصفات، وقد أورد الزركلي في الأعلام (7/122) هاتين الرسالتين (رسالة في إثبات الصفات، ورسالة في مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) ونسبهما إلى الحازمي، وذكر أنهما موجودتان في خزانة الرباط (30ك) فحرصت – عندئذٍ – في الحصول عليهما، فلما حصلت عليهما – من المكتبة الكتابية بخزانة الرباط – لاحظت أن رسالة في إثبات الصفات هي بعينها رسالة الشيخ حمد بن معمر في الصفات، وهي موجودة في (الدرر السنية) (3/207 – 262)، ولكنها غير موجودة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) خاصة وأنه يذكر قوله : (شيخنا محمد بن عبد الوهاب) ومن المعلوم أن الشيخ حمد بن معمر من تلاميذ الشيخ الإمام، ووجدت هذا المخطوط قد طبع – قديماً – في الهند منسوباً إلى الحازمي، ووجدت منه نسخة للشيخ سليمان الصنيع – وهي موجودة في مكتبة جامعة الملك مسعود – وقد صحح الصنيع ذلك، فنسبها إلى ابن معمر بدلاً من الحازمي - كما أن هذه الرسالة وجدتها مخطوطة في مكتبة الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد بعنوان معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونسب تأليفها إلى الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وأما الرسالة الأخرى، وهي رسالة المشاجرة – كما سميت ،– فإنها نفس رسالة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، المسماة بـ الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب) وهي مناظرة الشيخ حمد مع علماء مكة سنة 1211هـ، فقد وهم عمر كحالة في (معجم المؤلفين) : (12 / 72) حين نسب رسالة الفواكه العذاب إلى الحازمي، والله أعلم.(131/145)
، وحشد النصوص والبراهين الدالة على صحة عقيدة السلف الصالح، نقتصر على إيراد هذا النص من هذه الرسالة:
(فشيخنا (1) رحمه الله وأتباعه، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتجاوزون القرآن والحديث، لأنهم متبعون لا مبتدعون، ولا يكيفون، ولا يشبهون، ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقية منزهة عن التشبيه والتعطيل، كما أنه سبحانه له ذات حقيقية منزهه عن التشبيه والتعطيل، فالقول عندهم في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقية لا تشبه الصفات، وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين، وهو مخالف لاعتقاد المشبهين، واعتقاد المبطلين، فهو كالخارج، من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين) (2).
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله، في تقرير توحيد الأسماء والصفات – من خلال سورة الإخلاص:
(فسورة {قل هو الله أحد} فيها توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمدية، ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل، ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول مجامع التوحيد العلمي والاعتقادي الذي يباين صاحبه فرق الضلال والشرك) (3).
ويذكر صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) بيان توسط أهل السنة والجماعة بين الفرق فيقول:
__________
(1) أي محمد بن عبد الوهاب.
(2) الدرر السينة) 3/235، وانظر : الدرر السنية 3/208.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/64.(131/146)
(فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسمائه وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى شبهوه بالمعدوم وبالأموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوق، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف..) (1).
ويبين الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – أهمية الإيمان بأسماء الله وصفاته، فيقول في كتابه (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد) عند شرحه لباب (من جحد شيئاً من الأسماء والصفات):
(لما كان تحقيق التوحيد، بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله، والإيمان بأسمائه وصفاته، نبّه المصنف – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله صاحب كتاب (التوحيد – على وجوب الإيمان بذلك) (2).
ونظرا لخطورة إنكار شيء من صفات الله – عز وجل -، فإن الشيخ سليمان رحمه الله يقوله في شرحه لقوله تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } (3).
(فيه دليل على أن من أنكر شيئاً من الصفات فهو من الهالكين، لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك سواء فهمه أم لم يفهمه، وسواء قبله عقله أو أنكره، فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صحَّ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم) (4).
ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن معتقدهم في باب الأسماء والصفات، وأنه معتقد أهل السنّة والجماعة، فيقول في كتابه (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) عند شرحه باب قول الله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (5):
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص66 = بتصريف يسير.
(2) تيسير العزيز الحميد في شرحه كتاب التوحيد)، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ، ص 574.
(3) سورة الرعد : آية 30.
(4) تيسير العزيز الحميد) ص582.
(5) سورة الأعراف : آية 180.(131/147)
(قلت: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة متقدمهم ومتأخرهم، إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلالة الله إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1)، وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ومثاله، فكما أن يجب العلم بأن لله ذاتاً حقيقية لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقية لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } (2) (3).
ويشير الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى منشأ ضلال المعطلة في مسألة الصفات، فيقول في شرحه لباب (من جحد شيئاً من الأسماء والصفات):
(فإن الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم، فقالوا هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً. هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات، والمعدومات، فشبهوا أولاً، وعطلوا ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته …) (4).
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) سورة النساء : آية 115.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، تحقيق محمد الفقي، ط8، مطابع القصيم بالرياض، 1386هـ، ص 449.
(4) المرجع السابق، ص 402.(131/148)
وحين ختم الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد بقوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } (1)، ثم ساق أحاديث هذا الباب (2).
كان مما سطره قلم الشيخ عبد الرحمن بن حسن شرحاً لهذا الباب أنه قال:
(وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته، وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات لله على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل..
__________
(1) سورة الزمر : آية 67.
(2) من هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } .
انظر : بقية الأحاديث في (كتاب التوحيد (مجموعة مؤلفات الشيخ) 10 / 148 – 150.(131/149)
وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها، أن ظاهرها غير مراد، وأنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان حقاً بلّغه أمينه أمَّته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين) (1).
ومما كتبه الشيخ اسحاق بن عبد الرحمن في مبحث أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته نختار هذه الخلاصة:
(.. والحاصل أنه ما من اسم يسمى الله به، إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد، وأنه سبحانه منزه عن كل ما يلزم من حدوثه أو نقصه، فكما أن علمنا وقدرتنا وإرادتنا وحياتنا وكلامنا ونحوها من الصفات أعراض تدل على حدوثنا، امتنع أو يوصف الله سبحانه بمثلها، فنعوذ بالله من تأويل يفضي إلى تعطيل، ومن تكييف يفضي إلى تمثيل..) (2).
ويورد الشيخ أحمد بن مشرف توحيد الأسماء والصفات بعد توحيد الربوبية وذلك في قصيدته جوهرة التوحيد، فيقول رحمه الله:
والثاني أن يوحد الله على ………أسمائه وفي صفاته العلى
وكل ما به تعالى وصفا………لنفسه على لسان المصطفى
فإن وصفه به جل لزم ………والحكم في أسمائه كذا التزم (3)
ويدافع الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه النفيس (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي)، عن معتقد السلف الصالح في هذا الباب، ويرد على من رماهم بالتشبيه، فكان مما قاله:
__________
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 511، 512 = باختصار يسير، وانظر : ما كتبه في تعريف توحيد الأسماء والصفات في مجموعة الرسائل والمسائل 2/91.
(2) الدرر السنية) 3 / 357.
(3) ديوان ابن مشرف)، ص2.(131/150)
(حاشا السلف من اعتقاد التشبيه، أو أنهم يسكنون عن ظهور البدع ولكنهم لكمال علمهم، وقوة إيمانهم لم يفهموا ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيهاً، وأما المعطلة فإنهم فهموا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله التشبيه والتجسيم، ثم شرعوا في رد الكتاب والسنة بالتأويلات المستنكرة والتحريفات المزورة، فأخطأوا خطأين؛ لأنهم شبهوا، أولاً، ثم عطلوا ثانياً، وأما السلف الصالح، ومن معهم من الخلف الناجح فمسلكهم مسلك بين مسلكين، وهدى بين ضلالتين، أثبتوا بغير تشبيه وتمثيل، ونزهوا بغير تحريف ولا تعطيل، وأنكروا مذهب الجهمية والمعتزلة، وردوا على من قابلهم من المجسمة والممثلة …) (1).
وفي رسالة (تنزيه الذات والصفات من درن الإلحاد والشبهات) (2) لأحد علماء نجد، يذكر معتقدهم في أسماء الله وصفاته فيقول:
__________
(1) تنبيه التنبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) (طبع من مجموعة كتب)، مطبعة كردستان مصر، 1329هـ – ص 241.
(2) توجد هذه الرسالة مخطوطة – ولكنها ناقصة – في قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، رقم 1356، ومنسوبة إلى محمد بن محسن العطاس (كان حيّاً سنة 1305هـ).(131/151)
(اعلم أن إيماننا بما ثبت في نعوته تعالى كإيماننا بذاته المقدسة، إذا الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري ونميّز ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته نؤمن بها ونعقل وجودها ونعلمها في الجملة، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقول كما قال السلف الصالح: آمنا بالله على مراد الله، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فالاستواء معلوم من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وكل ما وصف الله به نفسه وجب الإيمان به، كما يجب الإيمان بذاته والكيف مجهول فيهما لاستحالة تصوره لقوله تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1) ومن ليس له مثل لا يمكن التصور في ذاته وصفاته لا شرعاً ولا عقلاً..) (2).
ويجمل علامة العراق محمود شكري الألوسي عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسألة الأسماء والصفات فيقول الألوسي في (تاريخ نجد):
(قد عرف واشتهر واستفاض من تقرير الشيخ، ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحَّت به الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله بالقبول والتسليم يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها، كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل..) (3).
وقد تضمن (البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد) ما نصَّه:
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/681.
(3) تاريخ نجد)، تحقيق محمد بهجة الأثري، ط السلفية القاهرة، 1343هـ، ص 77.(131/152)
(أما بعد فإنا نعتقد أن الله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته..، فله الأسماء الحسنى والصفات العليا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسله، وبلا تكييف، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وأن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه علا على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون …)(1).
ويقول الشيخ عبد الله بن سليمان بن بليهد في خطابه، موضحاً توحيد الأسماء والصفات، ومبيناً أوجه الاتفاق وأوجه الخلاف في هذا التوحيد عند أصحاب المقالات من الفرق الإسلامية:
(توحيد الأسماء والصفات وهو إثبات ما وصف الرب تعالى وسمَّى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى إثباتاً يليق بجلاله وعظمته، ويختص به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وجميع أصحاب المقالات من الفرق الإسلامية متفقون على إثبات هذه المقدمة وهي أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وإنما اختلفوا فيما هو كمال وما هو نقص أو يلزم منه النقص فمنهم من ظنَّ أن وصف الباري تعالى بما وصف به نفسه يلزم منه التجسيم والتشبيه، فنفى ما أثبته الله تعالى لنفسه، وعطلَّ أسماءه وصفاته، وألحد فيها، ومنهم من أثبت ذلك وغلا في الإثبات حتى شبه صفات الباري تعالى بصفات خلقه، وهدى الله أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية إلى القول بما دلَّ عليه الكتاب والسنة ومضى عليه سلف الأمة من إثبات جميع ما وصف به تعالى نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإمرارها كما جاءت وهذا هو طريق النجاة..) (2).
__________
(1) ص6.
(2) خطاب ابن بليهد أثناء الاجتماع بين علماء مكة ونجد، ص14.(131/153)
ويقول القصيمي في كتابه (الثورة الوهابية) أثناء حديثه عن معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (إيمانه بما تواترت عليه الكتب المقدسة، ولا سيما القرآن من أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش استواءً يليق به لا كما يستوي المخلوق.. وقد نازعه مخالفوه قائلين أن ذلك يقتضي التجسيم وتشبيه الله بخلقه، فرد عليهم قائلا: أن جميع الكتب السماوية مصرحة بذلك تصريحاً لا يقبل الجدل. والله أعلم حيث يصف نفسه، وأعلم بما يجوز في حقه وما لا يجوز، وقائلاً: إن المسلمين قائلون بذلك قبل ظهور هؤلاء المخالفين بلا نزاع بينهم …) (1).
وأخيراً ندرك – من خلال النصوص السابقة – طريق النجاة الذي سلكه أئمة هذه الدعوة السلفية، تأسياً واقتداء بالرعيل الأول، من وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوزون القرآن والحديث في ذلك.
ونلاحظ – كما سيأتي – أن مزاعم خصوم هذه الدعوة السلفية التي تكذب على إمام هذه الدعوة الإصلاحية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتبهته بأنه مجسم ومشبه في الصفات، نلاحظ أن من مبررات الخصوم في القذف بهذا البهتان هو أن الشيخ رحمه الله وكذا أتباعه من بعده يثبتون جميع الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ويمرونها – كما جاءت – على ظاهرها دون تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، ويفوضون العلم بالكيفية إلى الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) الثورة الوهابية، ط1، مطبعة الرحمانية مصر، 1354هـ، ص 12.(131/154)
فجعل الخصوم هذا الإثبات مبرراً في رمي الشيخ بالتشبيه والتجسيم، لذا يأتي مع هذه الفرية غالباً بيان لبعض الصفات التي يثبتها الشيخ لله عز وجل – وهو كما تقدم لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.. مثل صفة الاستواء والعلو، والنزول، ونحوها ويسوق الخصوم هذا الإثبات زعماً منهم أنه تجسيم وتشبيه، ولا يكتفون بذلك، بل يختلقون زيادة في الإفك والبهتان، فيزعمون أن الشيخ يثبت لله الجلوس والجنب واللسان بل يكذبون عليه – أشنع من قبل -، ويبهتونه بأنه يقول إن الله جسم كالحيوان.. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومن أوائل الذين ذكروا هذه الفرية، أحد علماء الزيدية حين كتب رسالة يرد على رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقال هذا الزيدي مخاطباً الشيخ عبد الله:
(وأنت أيضا قد ناقضت كلامك بكلامك، حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه تبارك وتعالى بأنه فوق السموات مستوٍ على عرشه، فقد فسرت كتاب الله وأثبت لله صفة، وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: { الرحمن على العرش استوى } ) (1).
ويشنع علوي الحداد على الشيخ الإمام، فيقول الحداد:
(ومن أعظم بدع النجدي عقده الدروس في التجسيم للباري تعالى الله عن قول الجاحدين والكافرين علواً كبيراً)(2).
ويقول – أيضا – عن الشيخ: (.. ومع ذلك أظهر التجسيم والحركة والانتقال) (3).
ويذكر أحد دجالي بلاد المغرب (4) هذه الفرية.. فكان من دجله أنه قال في كتابه المسمى (المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية):
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/101.
(2) مصباح الأنام، ص 13.
(3) المرجع السابق ص 23.
(4) وهو المدعو : أبو الفداء إسماعيل التميمي.(131/155)
(ويحكي عنهم – أي الوهابية – أنهم اتبعوه – أي ابن تيمية – في القول بالتجسيم، وحملوا على ذلك ظواهر القرآن الكريم تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. وكانوا أجدر باللحوق بأهل الأصنام لأنهم إذا اعتقدوا أن معبودهم جسم لم يعبدوا الله ولا عرفوا منه إلا الاسم..) (1).
وأما المدعو علي نقي اللكنهوري، فقد رمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالأكاذيب والمفتريات، ولكنه أعرض عن هذه الفرية فقال: (ونطوي كشحاً عما يعزي إليهم من التجسيم) (2).
ويورد شيخ الكذب أحمد بن زيني دحلان هذه الفرية، أثناء سرده الأكاذيب على الشيخ، فقال دحلان:
(وإظهار التجسيم للباري تبارك وتعالى، وعقده الدروس لذلك..) (3).
وتلقف أحمد مختار باشا المؤيد هذا الإفك فقال:
(ومن مذهبهم: القول بالتجسيم للباري جل وعلا، وقرروه في دروسهم) (4).
ويستنكر النبهاني في قصيدته (الرائية الصغرى) إثبات الوهابيين لصفة العلو لله سبحانه وتعالى، فكانوا أحق بالوقوع في الشرك؛ لأن هذا تجسيم على حدَّ زعمه، فقال:
وهم باعتقاد الشرك أولى بقصرهم ………على جهة للعلو خالقنا قصرا
هو الله رب الكل جل جلاله ………فما جهة بالله من جهة أحرى
تأمل تجد هذي العوالم كلها ………بنسبة وسع الله كالذرة الصغرى
فحينئذ أين الجهات التي بها ………على الله من حمق بهم حكموا الفكر (5)
ويأتي المدعو (جميل صدقي الزهاوي) بهذه الفرية، ويستطرد في الإفك والبهتان فيقول:
__________
(1) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، معهد المخطوطات، الكويت، ق 9.
(2) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب، ط النجف، العراق، 1345هـ، ص 80.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 56.
(4) نقلاً عن (البيان والإشهار في كشف زيغ الملحد مختار) ص 103.
(5) الرائية الصغرى، ط4، ص 28.
وقد ألف النبهاني رسالة في نفي الجهة – يرد فيها على ابن تيمية.(131/156)
(لقد خبطت (الوهابية) كل الخبط في تنزيهه تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، ثم أثبتت له تعالى الجهة، فقالت هو فوق السموات ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسيّة، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد..)(1).
ويقول الزهاوي أيضاً:
(لقد اعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية.. لقد جعلت الوهابية معبودها جسماً كالحيوان جالساً على عرشه ينزل ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية يتنزه عنه المعبود الحق..) (2).
وقد شنع يوسف الدجوي على أتباع الدعوة في إثباتهم لصفة العلو لله سبحانه، ويقول عبد الله بن علي القصيمي:
(مما ينقمه (الدجوي) من الوهابيين، ويكفرهم من جرائه مسألة (علو الله على خلقه) وقد كتب في ذلك مقالات كثيرة في مجلة نور الإسلام، وفي مجلة الإسلام، وفي بعض الجرائد اليومية..)(3).
__________
(1) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق)، مكتبة المليجي مصر، سنة 1323هـ، ص28.
(2) المرجع السابق ص 118.
(3) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، ط1، مطبعة التضامن من مصر، 1934 م، ص118. وانظر : بعض مقالات الدجوي في مجلة نور الإسلام –م2، ص 282 – 289، ص131 – 638 مقال تنزيه الله عن المكان والجهة.(131/157)
ويورد (شرف)(1) في معرض تهجمه على الوهابية (المجسمة) على حد تعبيره هذا القول حاكياً حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
(.. وأنه مؤول فيها الاستواء بالاستقرار قاتله الله، والله تعالى خال عن الجهات الست)(2).
ويذكر الأسكندراني في نفحته تلك الفرية فيقول:
(ومما تمذهبت به الوهابية في العقيدة إثبات اليد والوجه والجهة للباري وجعله جسماً يصعد وينزل)(3).
وقد أطال محسن الأمين العاملي هذه الفرية، وسوّد الصحائف بتلك الكذبة، فنورد بعضاً من إفكه حيث يقول:
(لقد خرق بنفسه - أي ابن عبد الوهاب - ستور التوحيد، وأنه تكلم في حضرة الله تعالى عما يقول علواً كبيراً تكاد السموات يتفطرن منها، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا، وهي أنه يحمل آيات الصفات على ظاهرها فيقول أن الله جالس على العرش حقيقة وأن له يداً ورجلاً وساقاً وجنباً وعيناً ووجهاً ولساناً ونفساً وغيرها حقيقة، وأنه يتكلم بحرف وصوت، وذلك عين التجسيم الذي أطبق المسلمون على كونه كفراً..)(4).
وبعد أن يسوق بعض الأقوال في معتقد الوهابيين في الصفات، يعقبه بقوله:
(وهذه الأقوال مما تأباه الشريعة الإسلامية والملَّة المصطفوية لملازمتها التجسيم، وأن المجسمة قد أطبق المسلمون على كفرهم فإنه ينافي التوحيد …)(5).
ويقول هذا الأفاك الأثيم:
__________
(1) وهو المدعو شرف اليماني نزيل البحرين، زمن تأليف ابن سحمان الرد عليه حيث تهجم على الدعوة السلفية، وانتصر لإخوانه المفترين مثل دحلان وبابصيل. انظر : مقدمة رسالة (تأييد مذهب السلف) لابن سحمان ص2، 3.
(2) نقلاً عن : (تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعي باليماني شرف)، ط2، المطبعة المصطفوية الهند، سنة 1323هـ، ص3.
(3) نقلا ًعن : (النفحة على النفخة)، ص35.
(4) كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب)، ط1، مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1346هـ، ص8.
(5) المرجع السابق، ص12.(131/158)
(لقد أثبتوا لله جهة الفوق، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء، والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من دون تأويل. وهو تجسيم صريح..) (1).
ونختم هذه الفرية بما أورده محمد جواد مغنية في كتابه (هذه هي الوهابية) حين قال:
(يجمد الوهابيون على ظاهر نصوص الكتاب والسنة في صفات الله سبحانه، ولم يجيزوا تفسير الظواهر وتأويلها بغير ما دلَّت عليه الصورة الحرفية، بل يعتبرون التأويل كفراً؛ لأنه كذب على الله ورسوله، ويرون تنزيه الله بإثبات اليد له والرجل والكف والأصابع والنفس والوجه والعين والسمع والجلوس.. وما إلى ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه، أو جاءت على لسان نبيه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تأويل بما يخالف ظاهرها) (2).
وبهذا يتضح من مزاعم الخصوم، أنهم يلصقون فرية التشبيه والتجسيم بالشيخ الإمام وأنصار دعوته، بحجة أن هؤلاء الوهابيين يأخذون بظواهر النصوص في آيات الصفات وأحاديثها.
إذا انتقلنا إلى مقام الدحض والرد، لفرية التجسيم والتشبيه، فإن من أبلغ الردود وأقواها، ما أوردناه من النقول المتعددة التي تصرح بإثبات الصفات لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف.
وقد أظهر علماء الدعوة الحجج الدامغة والبراهين الساطعة في دحض هذه الفرية الكاذبة الخاطئة.
فيقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرد على (الزيدي) الذي زعم – كما سبق ذكر قوله – أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم، فكان مما قاله الشيخ عبد الله – رحمه الله –رداً عليه:
__________
(1) المرجع السابق، ص 129، وانظر : المرجع السابق أيضاً : ص136، 138.
(2) هذه هي الوهابية) 1964م، ص92.(131/159)
(قوله: وقد أردت أن تنزه ربك بما يلزم منه التجسيم كذب ظاهر؛ لأنا قد بينا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازم الحق حق بلا ريب، ولا نسلم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات ينازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك لا يلزم منه التجسيم، كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة والإرادة والكلام تجسيم وتكييف عند المنازع، ومعلوم أن المخلوق له ذات ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله تعالى إثبات للتجسيم والتكييف تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر، وإما أعراض. وأما في حقه تبارك وتعالى، فلا يعلمها إلا هو بلا تفسير ولا تكييف)(1)
ويقول الشيخ عبد الله – أيضاً -:
(وقوله وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا يلزم منه ذلك عند من قال به، والله سبحانه وتعالى أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع الضلال، يردون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله بهذه الأمور القبيحة…)(2).
ويقول الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي، أحد شعراء هذه الدعوة، رداً على فرية التشبيه، ودحضا لهؤلاء المعطلة الذين عطلَّوا صفات الله..، فيقول ابن مشرف في قصيدة (الشهب المرميّة على المعَّلة والجهمية):
نفيتم صفات الله فالله أكمل …………وسبحانه عما يقول المعطل
زعمتم بأن الله ليس بمستو ………على عرشه والاستوا ليس يجهل
فقد جاء في الأخبار في غير موضع ………بلفظ استوى لا غير متؤول
وقد جاء في إثباته عن نبينا ………من الخبر المأثور ما ليس يشكل(3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) (جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية) 4/118.
(2) المرجع السابق، 4/101.
(3) ديوان ابن مشرف، ص17.(131/160)
…ويُفصَّل الشيخ سليمان بن سحمان – أثناء رده على فرية التجسيم – المراد من إطلاق لفظ (الجسم) على الله سبحانه وتعالى، ويبيّن ما يجوز من هذه المعاني، وما لا يجوز فيقول رحمه الله:
…(الجواب أن نقول أعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي، فمن أطلقه نفياً وإثباتاً، سئل عما أراد به، فإن قال أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا للهواء جسم لغة.. فهذا المعنى منفي عن الله سبحانه عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر المفردة، فهذا منفي عن الله سبحانه قطعاً، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً.
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسيّة، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى بأصبعه رافعاً لها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهداً له لا للقبلة..) (1). …
- إلى أن قال رحمه الله -:
(وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي، أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك مركباً مؤلفاً مشبهاً بغيره، وتسميتكم هذه الصفات تجسيماً وتركيباً وتشبيهاً، فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة، ووضعتم لصفاته ألفاظاً منكم بدأت وإليه تعود، وأما خطاؤكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر.
__________
(1) كشف غياهب الظلام، ص 131-134 باختصار، وانظر: (الضياء الشارق) ص 78 – 132، وانظر (الأسنة الحداد) ص 172، 173.(131/161)
وأشد ما جادل به أعداء الرسول من التنفير عنه هو سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة. ألقوها في مسامع المفترين المخدوعين توصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه..)(1).
وللشيخ سليمان بن سحمان قصيدة شعرية في الرد على المدعو (شرف اليماني) حين رمى هذه الدعوة السلفية بالتجسيم فكان مما قاله:
فلم نؤول كما قد قاله عمها(2) ……ونتبع الجهم فيما قال وانصرفا
ولم نجسّم كما قالوا بزعمهم ……بل نثبت الفوق والأوصاف والشرفا
إن المجسمة الضلاّل ليس لهم ………في غيهم من دليل يوجب النصفا
والله ما قال منا واحد أبداً ……بأنه كان مجسماً إنّ ذا لجفا
بل نثبت الذات والأوصاف كاملة ………كما به الله والمعصوم قد وصفا
ولم نشبه كأهل الزيغ حين بغوا ………واستبدلوا بضياء الحق ما انغسقا(3)
ويبين الشيخ فوزان السابق في كتابه (البيان والإشهار) تدليس المدعو أحمد باشا مختار المؤيد، وتلبيسه الحقائق حين رمى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بفرية التجسيم، فقال الشيخ فوزان:
__________
(1) كشف غياهب الظلام)، ص 134 باختصار.
(2) العمه هو التحير والتردد، انظر : (مختار الصحاح) للرازي ص 456.
(3) ديوان ابن سحمان) ص130، وانظر : رسالة ابن سحمان (تأييد مذهب السلف)، ص 6.
…وانظر : في ديوانه بعض ردوده على تلك الفرية: رده على النبهاني ص 94، رده على الزهاوي ص 152، 281، رده على العجلي ص 261، وغيرها.(131/162)
(أقول: أجمل هذا الملحد فريته، فلم يذكر وجه هذا التجسيم الذي قرره الوهابيون في دروسهم مفصلاً كما زعمه، وقصده في هذا التدليس، إخفاء مذهبه الباطل فهو جهمي معطل، ويعني بالتجسيم إثبات صفات الباري جل وعلا، كما هي واردة في الكتاب والسنة، وكما عليه سلف الأمة من الإيمان بالله وبما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.. فمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في صفات الله تعالى مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن تبعهم..)(1).
ومما كتبه محمد رشيد رضا في دحض كذب الرافضي العاملي، لما رمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب – وكذا ابن تيمية من قبل – بفرية التشبيه والتجسيم، فقال محمد رشيد رضا:
(إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم أباحوا بها حمى التوحيد، وهتكوا ستوره بإثباتهم لله تعالى صفة العلو والاستواء على العرش.. إلخ، وإنما أثبتوا بها كسائر أهل السنة ما أثبته الله تعالى في كتابه المعصوم وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبيّنة له.
فهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل، ولكن مع إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه.
وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام، فبهذه الشبهة عطلوا أكثر صفات الله حتى صارت عندهم في حكم العدم.
__________
(1) ص 103.(131/163)
والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به، وأشد منهم تنزيها للرب – إلى أن قال-: والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } (1) وأن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك، وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام) (2).
ثم يكذّب محمد رضا دعوى هذا الرافضي، حيث يقول:
(زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكره من صفات الله تعالى بدون تأويل وتبعه بعض تلاميذه، ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع المسلمين، وهذا كذب وافتراء، وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل، وجعله عز وجل كالعدم تعالى الله عما يقول المبتدعون علواً كبيراً. فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة..)(3).
ويقول ناصر الدين الحجازي في (النفخة) راداً على بهتان الأسكندراني حين جعل إثبات الوهابية للصفات تجسيماً:
(الوهابية لم يثبتوا ذلك وإنما أثبته الله تعالى لنفسه، غاية الأمر أن الوهابية كغيرهم من السلف، يؤمنون بذلك، ويكلون علمه إلى الله تعالى من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، وبذلك نطقت كتب عقائدهم.
__________
(1) سورة الشورى : آية 11.
(2) السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة)، مطبعة المنار، مصر 1347هـ، ص 74، 75.
(3) المرجع السابق ص 83.(131/164)
ولقد كانت المعتزلة ترمي أهل السنة بأنهم مجسمة وذلك مسطور في كتبهم، وصاحبنا سلك هذا المسلك، فإذا كان المؤلف ينكر إثبات تلك الصفات لله تعالى، فلينكر على من أثبتها، وأما الجسمية فمحال أن يعتقدها مسلم (1)، ومن ادعاها لأمة مسلمة فعليه أن يبرهن عليها بنقل من كتبهم لا بمجرد الإفك والافتراء) (2).
ويهاجم عبد الله بن علي القصيمي أهل الرفض من أمثال العاملي وغيره؛ لأنهم أكذب الناس حديثاً فلا يعول على نقلهم، ويذكر القصيمي ما عليه الرافضة من التشبيه والتجسيم، حيث أنهم من أفراخ اليهود.
يقول القصيمي في كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) في الرد على العاملي بعد أن ساق كلامه:
(يقال إن الذين أباحوا حمى التوحيد وهتكوه ونسفوه، وأضفوا إلى الله ما لا يليق بقدسه وجلاله وكماله من التشبيه والتمثيل، تمثيل الله بخلقه لم يوجد في طائفة من الطوائف المنحرفة مثلما وجدا في طائفة الرافضة.
ولا خلاف بين علماء الملل والنحل أن التشبيه أول ما دخل على الطوائف الدائنة للإسلام إنما دخل عليها من شطر الرافضة، وجانب شيوخها القدامى.
ولا خلاف أيضاً أن التشبيه كان أصلاً ووضعاً في طوائف الشيعة وشيوخها ووضعة مذهبها وبناة نحلتها… حيث أن واضع مذهب الشيعة هو رجل يهودي وهو عبد الله بن سبأ، واليهود هم أهل التشبيه والتنقص لله جلَّ وعلا…)(3).
ثم يقول القصيمي:
__________
(1) النفخة على النفحة) ص 35.
(2) يقصد الحجازي بالجسمية – ها هنا – أي البدن أو المركب من الجواهر المفردة وغيرها من المعاني الباطلة التي من المحال أن يعتقدها موحدَّ.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/515.(131/165)
(وأما دعواه أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وتلاميذه وأهل السنَّة من أهل نجد يقولون أن الله جسم، وأنه في جهة، وأنه يشبه أحداً من خلقه في صفة من صفاته ونعت من نعوته، فهذه دعوى يتقلدها ويبوء بإثمها هو ومن افتجرها له وقلده فيها، ممن تعبدوا الله بالأكاذيب والاختلاق على رجال السنة والحديث تغريراً وتنفيراً وخداعاً مزرياً، ولو لم تكن كتب ابن تيمية وتلاميذه الأبرار وأهل السنة من أهل نجد مطبوعة منشورة في أنحاء العالم، معروفة للخاصة والعامة، لقلنا كذب على غائب مجهول، قد يروج، وقد ينفق، وقد يحسب من الحقائق الصادقة، وقد يكون كذلك، وقد يخادع الكاذب نفسه ويغش علمه ويظلم دينه، أما الكذب على معلوم حاضر فلا يجرؤ عليه إلا أناس قليلون استهانوا بالحق والخلق.. فهذه كتب النجديين موجودة في كل مكان، قد طبع الشيء الكثير منها، وهذه مقالاتهم وآراؤهم في هذه المطالب المتنازع فيها بينهم، وبين هؤلاء الخلوف المخالفين، وهذه أقاويلهم في الله، وفي صفاته، مثل الاستواء على العرش، ومثل كلامه، ونزوله إلى سماء الدنيا، وسائر صفاته تعالى، هل يستطيع أحد من الناس أن يجد فيها أنهم زادوا على النصوص الصحيحة من الآيات والأحاديث الثابتة، أو أنهم قالوا على الله قولاً لم يكن في كتاب الله ولا في سنة نبيه..) (1).
إن هؤلاء الأدعياء ممن رموا هذه الدعوة الإصلاحية بفرية التجسيم والتشبيه، أنهم لم يفقهوا من الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلا صفات البشر، ولم يفقهوا من صفات الله إلا ما فقهوه من خصائص وصفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم – المنحرفة – بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله – كالاستواء والعلو، والكلام، ونحوها -، وشبهوه بالناقصات، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
__________
(1) المصدر السابق 1/526.(131/166)
فهؤلاء جمعوا بين التشبيه بالمخلوق أولاً، ثم التعطيل ثانياً، ثم التشبيه بالناقصات، ولم يكتفوا بذلك الضلال، بل قذفوا – كذباً وزوراً – أئمة هذه الدعوة السلفية بالتجسيم والتشبيه، حين وصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم(1).
ونختم هذا الفصل بذكر مثالين – فقط – لما كتبه الخصوم في مسألة الصفات، ليتضح – جلياً – ضلال القوم وفساد عقائدهم في ذلك.
__________
(1) لزيادة البيان والإيضاح لجهود أئمة الدعوة وأنصارها في تقرير عقيدة أسماء الله سبحانه وصفاته والرد على المخالفين، انظر على سبيل المثال :
(جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية) (في مجموعة الرسائل والمسائل 4/92 – 164) للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
(بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود) (ضمن مجموعة الرسائل 4/320 – 364) للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
(البراهين الإسلامية) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ق3، 4.
(مجموعة الرسائل والمسائل) – رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، 3/99، 116، 118، 121، 221، 238.
(قصيدة الشهب المرمية على المعطلة والجهمية) لأحمد بن مشرف.
(كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس) لابن سحمان.
(تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة) لابن سحمان.
رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صديق حسن خان تنبيهاً على أخطاء وقعت في تفسيره في مسألة الصفات.
(الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، (مبحث علو الله على خلقه والرد على الدجوي ودحض مفترياته ثم البراهين على علو الله على خلقه ص 118 – 166) وغيرها كثير ولله الحمد.(131/167)
والمثال الأول: هو ما كتبه أحد علماء الشيعة، وهو المدعو محمد بن عبد الوهاب ابن داود الهمداني، في رسالته (إزهاق الباطل) (1) حيث ذكر معتقدهم بكل زهو وعجب، على أنه هو المعتقد الحق في ذلك فقال:
(واعلم أنا لما نظرنا بعين البصيرة.. في المذاهب، وجدنا أحقها بالاتباع والانقياد، وأخلصها من شوايب الفساد، وأعظمها تنزيها لله ولرسوله، ولأوليائه الأمجاد مذهب الشيعة، لأنهم اعتقدوا أن الله سبحانه هو المخصوص بالأزلية والقدم، وأن كل ما سواه محدث، وأنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا في مكان، وإلا كان محدثاً، وأنه تعالى غير مرئي، ولا مدرك بشيء من الحواس).
ففي النصَّ السابق، إنكار لبعض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أنكر علوه سبحانه، وأنكر رؤيته سبحانه، كما أن هذا النص تضمن وصف الله تعالى بألفاظ مبتدعة مستحدثة، مع الإعراض عن الألفاظ الشرعية الدينية..
والمثال الثاني: ما ذكره أحد أدعياء التصوف وهو النبهاني في كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) حيث يقول:
(قد ظهر لنا معاشر أهل السنة من السلف والخلف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ظهوراً جلياً ليس معه أدنى شك وارتياب أن الصواب الصراح والحق الأبلج الوضاح هو تنزيه الله عن جميع الجهات العلويات والسفليات، لأنها من أوصاف الحادثات..)(2).
ويقول النبهاني – أيضاً – منكراً صفة العلو:
__________
(1) إزهاق الباطل في رد شبه الفرق الوهابية) نسخة خطية مصورة بدارة الملك عبد العزيز، الرياض، ق36. ويليها رسالة – وللمؤلف نفسه – بعنوان : (الغنية في إبطال الرؤية)!.
(2) يوسف بن إسماعيل النبهاني، (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) مكتبة الحلبي، مصر ص 169.(131/168)
(وأما ما ورد مما يفيد ظاهره أن الله تعالى في جهة العلو وجهة الفوق، وفي السماء، فهذا يجب تأويله قطعاً لأن كمال الله تعالى الثابت المحقق من كل الوجوه عقلاً ونقلاً يقتضي أن لا تحصره تعالى جهة العلو ولا غيرها من الجهات) (1).
ومما قاله النبهاني – شعراً:
(سبحانه من إله ليس يحمله
لو استقر على عرش لكان به
لكن عليه استوى لا كيف نعلمه
جاء المجيء له سعياً وهرولة
والعلو والفوق أيضا والنزول أتى
وقد تعجب من أشياء قد وردت
وهكذا كل لفظ موهم شبها ... عرش بل العرش محمول له وبه
للعرش حاجة محتاج لمركبه
للاستواء أو القهر المراد به
والحب والقرب منه مع تقربه
والضحك مع غضب ويل لمغضبه
كما يليق به معنى تعجبه
فوّضه لله أو أوَّل بلا شبه) (2)
لقد تضمنت تلك النصوص المتردية تعطيلاً لصفات الخالق عز وجل مثل العلو والاستواء والنزول وغيرها، وكما تضمنت تحريفاً للنصوص الثابتة عن مواضعها، مع الافتراء على السلف الصالح، والزعم بأن التعطيل هو مذهبهم، والله المستعان.
الفصل الثالث
فرية إنكار كرامات الأولياء
نتحدث - في هذا الفصل - عما أورده بعض المناوئين لهذه الدعوة السلفية من إفك مبين وكذب عظيم، حيث بهتوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كعادتهم - وافتروا عليها بأنها تنكر كرامات الأولياء.
وسنورد - كما فعلنا في الفصلين السابقين - تمهيداً يتضمن بعض النصوص التي اخترناها من كلام أئمة الدعوة وأنصارها، والتي تبين وضوح موقفهم من كرامات الأولياء..، وأنهم يثبتونها ويقرون بها..، كما كان يثبتها ويقررها إخوانهم من قبلهم من أهل القرون المفضلة ومن تبعهم..
وعقب هذا التمهيد ننقل افتراء الخصوم في ذلك - كما جاء مدوناً في كتبهم - ونعرض لما تضمنته تلك النقول من عناصر وأفكار..
__________
(1) المرجع السابق ص 171.
(2) المرجع السابق ص 179.(131/169)
ثم نتبع – تلك الفرية – بالدحض والرد، مما كتبه أئمة الدعوة وأنصارها، وبما سطروه من أدلة ساطعة وحجج دامغة لتلك الفرية الكاذبة الخاطئة.
يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – إثباته لكرامات الأولياء، فيقول بكل صراحة ووضوح :
(وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله) (1).
ويقول أيضاً:
(وقوله: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } (2) إلى آخره. هذا وحي إلهام، ففيه إثبات كرامات الأولياء) (3).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الواجب في حق أولياء الله الصالحين فيقول: (.. الواجب عليهم حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين) (4).
ويؤكد أتباع الدعوة – من بعد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – هذا الاعتقاد ويقررونه.
فنجد أن الإمام عبد العزيز الأول يشير إلى حقوق أولياء الله، مع بيان الفرق بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية – كذباً وزوراً – فقال رحمه الله:
(وكذلك حق أوليائه محبتهم والترضي عنهم والإيمان بكراماتهم، لا دعاؤهم، ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تعالى، أو ليدفعوا عنهم سوءاً لا يقدر على دفعه إلا هو عز وجل، فإن ذلك عبادة مختصة بجلاله تعالى وتقدس.
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5/10، 11، وحكى هذا القول – عن الشيخ الإمام – صاحب كتاب) جواب الجماعة ص 199.
(2) سورة القصص : آية 7.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ) 4 / 282.
(4) المرجع السابق 1/169.(131/170)
هذا إذا تحققت الولاية أو رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة وعمل بتقوى في جميع أحواله، وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان من أطال سبحته، ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، وليس شكلاً مخصوصاً وجمع الطبول والبيارق، وأكل أموال عباد الله ظلماً وادعاءاً، ورغب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأحكام شرعه)(1).
وبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بعضاً من حقوق الأولياء.. لكن دون الغلو فيهم فيقول رحمه الله:
(ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات، لا حال الحياة، ولا بعد الممات بل يطلب من أحدهم الدعاء في حالة حياته، بل ومن كل مسلم) (2).
وينص الشيخ عبد العزيز الحصين على ما قرره أسلافه فيقول – بياناً لحق الأولياء -:
وحق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى ويدفعوا عنهم سوءاً لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه..) (3).
وقد سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن كرامات الأولياء، فأجاب على ذلك فكان مما قاله:
(مسئلة: كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من المعجزات ؟.
(الجواب: كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة، والولي أعطي الكرامة ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه، إلا إذا كان داعياً لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم بريئاً من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم، فببركة اتباعه يؤيده الله تعالى بملائكته وبروح منه..) (4).
__________
(1) رسالة الإمام عبد العزيز الأول، ص12.
(2) الدرر السنية) 1/128.
(3) المرجع السابق 2/81.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل، 2/83، 84 بتصرف.(131/171)
ويشير محمود شكري الألوسي – رحمه الله – إلى وجوب الإيمان بكرامات الأولياء، فيقول:
(وأما الجواب عن مسألة الكرامات فيقال: إن كرامات الأولياء حق لا شبهة فيه، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، ولشيخ الإسلام قدّس الله روحه كتاب جليل في ذلك سماه الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن)(1).
ويوضح الشيخ سليمان بن سحمان معتقدهم في كرامات الأولياء، فيقول في كتابه (الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد):
(واعلم أننا لا ننكر الكرامات التي تحصل لأولياء الله، إذا صدرت على القانون المرضي والميزان الشرعي، فإن أولياء الله هم المتقون المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر به، وينتهون عمّا نهى وزجر.. فيؤيدهم الله بملائكته وروح منه ،ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين..)(2).
ويقول ابن سحمان في قصيدته (عقود الجواهر واللئالي في معارضة بدء الأمالي)، حيث تحدث عن كرامات الأولياء، وبيّن أن خوارق العادات إما أن تكون أحوالا شيطانية، أو كرامات فقال رحمه الله:
وكل كرامة ثبتت بحق
نوال من كريم حيث كانوا
وليس لهم نوال أو حباء
وإن الخرق للعادات فاعلم
فنوع من شياطين غواه
ونوع وهو ما قد كان يجري
من الرحمن تكرمة وفضلا
ولكن ليس يوجب أن سيدعى
فما في العقل ما يقضي بهذا ... فحق للوليّ بلا اختلال
بطاعة ربهم أهل انفعال
لمن يدعوهمو من كل عال
على نوعين واضحة المثال
لمن والاهمو من ذي الخيال
لأهل الخير من أهل الكمال
لشخص ذي تقى سامي المعالي
ويرجى أو يخاف بكل حال
ولا في الشرع يا أهل الوبال (3)
ونختم هذه النقول النفيسة بما أورده الشيخ عبد الله بن بلهيد – رحمه الله – في خطابه الذي ألقاه أثناء الاجتماع بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، فقال – ذاكرا حقوق أولياء الله -:
__________
(1) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس، ص 413.
(2) ص180.
(3) ديوان ابن سحمان) ص 155.(131/172)
(وكذلك أولياء الله تجب محبتهم، والإقرار بفضائلهم على اختلاف مراتبهم، وما يجريه الله على أيديهم من الكرامات، وخوارق العادات، ولا ينكر كرامات الأولياء إلى أهل الله، لكن يجب أن يفرق بين أولياء الله وغيرهم فإن أولياء الله هم المتقون العاملون لله بطاعته، كما قال تعالى في وصفهم { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون..) (1)
فمن كان مؤمناً تقيا كان لله ولياً ليس إلا..) (2)
من خلال هذه النقول نلاحظ أنها متفقة على إثبات كرامات الأولياء، والإقرار بها، ومتفقة على وجوب محبتهم والاعتراف بفضائلهم ومناقبهم. كما أنها توضح أن الولي لله – حقاً – هو من كان مؤمناً متبعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فليست الولاية مجرد لبس زيّ مخصوص، وإسبال الإزار، وإطالة السبحة، ومد اليد للتقبيل، مع ترك اتباع السنة النبوية..
وهذه النقول تؤكد النهي عن الغلو في الأولياء، فلا يجوز صرف شيء مما يستحقه الله تعالى لهم، فحق الأولياء هو المحبة والتقدير وإثبات الكرامات لهم فلا جفاء في حقهم وليس من حقهم أن تصرف بعض أنواع العبادة – التي يجب أن تكون لله وحده – لهم، فلا غلو في قدرهم
فاختار أئمة الدعوة –بهذا المسلك – دين الله الذي هو وسط بين طرفي في الغلو والجفاء.
ننتقل – بعد ذلك التمهيد – إلى ما افتراه المناوئون وسودوا به الصحائف من قذف الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بفرية إنكار كرامات الأولياء، وسنورد أقوالهم – كما جاءت مسطورة في كتبهم -، ثم نعرض لهذه النقول بنظرة سريعة فيما احتوته من قضايا وأفكار.
يزعم علوي الحداد في مصباحه أن إنكار كرامات الأولياء من جملة هذيان الشيخ ابن عبد الوهاب، فيقول الحداد:
(ومن جملة هذيانه أيضاً إنكاره كرامات الأولياء وما خصهم الله به من الخصوصيات والأسرار والبركات) (3).
__________
(1) سورة يونس : آية 62.
(2) ص21.
(3) مصباح الأنام)، ص 18.(131/173)
ويقول علوي الحداد أيضاً – حين ذكر ما أسماه بضلالات النجدي -:
(وأنه يرى أن الأموات لا نفع منهم للحي وأنه لا كرامة لهم.. وأن من مات انقطعت كرامته، حتى أدخل على العوام الشبه، والنزاع منه في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر، وأيضاً إذا أقر بكرامات الأحياء، فهم أجمعوا بل وأخبروا بوقائع بينهم وبين الأموات، فتكذيبه في حق الأموات تعدي لتكذيبه للأحياء فهو مكذبها معاً..) (1).
ويدعي عمر المحجوب في رسالته – رداً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب – هذه الفرية فيقول:
(كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء وعدم نفع الدعاء وكلها عقائد عن السنة زائغة وعن الطريق المستقيم رائغة) (2).
ويتلقف اللكنهوري هذه الفرية، فيزعم في أحد أبواب كتابه المسمى (كشف النقاب):
(الباب الثالث: عقيدته في الأولياء والصالحين كان منكراً لكرامتهم وزيارتهم وقد بينه هو وأتباعه ببينات طويلة لا طائل تحتها، ونحن ننقل بعض عباراته في هذا المقام ليكون الناظر على بصيرة من نفثات لسانه) (3).
ومما كتبه بن سليمان بن جرجيس عن الغلو في الأولياء، قوله:
(ولما كان يحصل من التوسل والتشفع بالأنبياء والأولياء إنما هو من طريق الكرامة مع كونهم متسببين في دار برزخهم فالولي ما دام لم يصل إلى الآخرة، وهي ما بعد القيامة فهو بدار دنيا، فتكون كراماته موجودة) (4).
__________
(1) المرجع السابق، ص 23 ثم أورد الحداد نقولاً وآثاراً على وقوع الكرامات بعد الموت ص 23 – 29.
(2) رسالة في الرد على الوهابية)، ط1، المطبعة التونسية، تونس 1327هـ، ص7.
(3) ص 41 ولم يبين هذا الكذّاب فريته بالبينات الطويلة التي زعمها، حتى ولا القصيرة.
(4) المنحة الوهبية في رد الوهابية)، مكتبة الحقيقة استانبول، 1403هـ، ص 32، 33، بتصرف يسير.(131/174)
ويتوصل إبراهيم السمنودي في كتابه (سعادة الدارين) إلى فهم أعوج، وقصد سيء حين جعل ما ذكره أئمة الدعوة من انقطاع عمل الميت وعدم قدرته، إلى أنهم يقصدون بذلك إنكار كرامات الأولياء، فقال:
(وأما قول المنكرين للتوسل أن الميت لا يقدر على شيء أصلا ً إلى آخره مازعموه فيقصدون به إنكار كرامات الأولياء، وما ثبت في تصرفهم كالأنبياء والشهداء بعد موتهم لعدم الكرامة فيما بينهم، وذلك أدل دليل على أنهم بدعة كالمعتزلة المنكرين لها)(1).
ويقول حسن الشطي في رسالته (النقول الشرعية):
(وكرامات الأولياء حق، وأنكر الإمام أحمد من أنكرها وضلله، والحاصل أن علماء الحنابلة كغيرهم من أهل السنّة يجمعون على إثباتها حتى طائفة النجدية الوهابية مع غلوهم يثبتونها للأولياء، إلا أن البعض منهم يخصها بالأحياء، ولم يثبت لهم دليل التخصيص أبداً) (2).
ثم ذكر الشطي كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مسألة كرامات الأولياء، فكان مما نقله – هذا المفتري المحرف – ما نصه:
__________
(1) سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية)، إدارة جريدة الإسلام، مصر 1319هـ، 1 / 228.
(2) النقول الشرعية في الرد على الوهابية (ضمن مجموعة كتب)، ط2، مكتبة التهذيب، القاهرة، ص 104.(131/175)
(ولا ننكر كرامات الأو لياء، ونعترف لهم بالفضل وأنهم على هدى من ربهم. مهما ساروا على الطريقة المرضية، والقوانين الشرعية، أحياءً وأمواتاً، إلا إنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادة) ا.هـ كلامه بحروفه (1).
- ثم قال الشطي:
(فانظر إلى عبارة إمامهم المذكورة لا تجدها مخالفة لما عليه الجمهور من إثبات الحياة والكرامة للشهداء والأولياء والصالحين بعد وفاتهم كحال حياتهم … فكيف يسوغ الآن من هذه الطائفة أو من غيرهم بتخصيص الكرامة في حال الحياة وبنوا عليها تخصيص التوسل والطلب في حال الحياة فقط حتى من إمامهم المذكور، فما هو إلا من غلوهم وعنادهم وغلبة جهلهم …) (2).
ويأتي أفّاك أثيم، فيزيد على سابقيه بالكذب والبهتان وهو المدعو عثمان بن يحيى العلوي (3) حيت يقول:
(وكذا كفَّر – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – من اعتقد كرامات الأولياء) (4).
(وأنه أنكر كرامات الأولياء).
__________
(1) هكذا يزعم المحرف : انتهى كلامه بحروفه وكان من اللائق أن يقول : انتهى كلامه بعد تحريفه، فيلاحظ من نقل هذا الأفاك الأثيم، أنه ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، فقد حرف كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فلم يقل الشيخ عبد الله – كما زعم المفترى – (ولا ننكر كرامات الأولياء …أحياءً وأمواتاً..) بل قال رحمه الله – كما نقلنا قوله من قبل – (ولا ننكر كرامات الأولياء، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات) (انظر : الدرر السنية) : 1 / 128). ويريد الشطي بذلك التحريف تجويز الاستغاثة بالموتى … فانظر إلى شناعة هذا التبديل ونجاسة ذلك التغيير ولم يقف هذا الشطي عند هذا القدر بل تجاوزه إلى رميهم بالتناقص والعناد، حتى يتحقق له ما ينبغي من الغلو والاستغاثة بالأموات.
(2) النقول الشرعية في الرد على الوهابية) ص 104، 105.
(3) لم أعثر له على ترجمة .
(4) ، (6) (فصل الخطاب في بيان الصواب)، ص42.(131/176)
ويتبع العلوي من الإمعان في الإفك والزيادة في الإثم والبهت، ما زعمه المدعو محمد بن توفيق سوقية في رسالته (تبيين الحق والصواب) فيقول:
(وإما إ نكارهم لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسنة، فأمر لا يخفى على أدنى ممارس لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكرامة لا تقع إلا على يد من بالغ في الاتباع للشريعة حتى بلغ الغاية، فأنى تراها الوهابية مع انحرافهم عن الجادة)(1).
ويكذب سوقية مرة أخرى فيقول:
(ولا عبرة بإنكار الوهابية للكرامات حيث لا يعدون في العير، ولا في النفير، ولا ينظر لكلامهم البتة بعد ما ثبتت الكرامات..) (2).
ويستمر في كذبه – كعادته – فيقول:
(ولما كانت الوهابية لا إمام لها في كل شيء تقوله وتدين به سوى اختراع دين جديد حباً في الظهور قالت بإنكار الكرامات.. (3).
ويقول حسن خزبك في (مقالاته):
(ومن قال بأن كرامات الأولياء لا تكون إلا في حياتهم فقط، وتزول بعد الموت فقوله غير معتد به، لأن الكرامة أمر خارق للعادة.. يظهرها الله على يد رجل صالح متمسك بدينه الحق..)(4).
ومن أواخر هؤلاء المفترين الكذّابين ممن افترى على هذه الدعوة السلفية فرية إنكار كرامات الأولياء، ما كتبه المدعو مالك بن داود في كتابه (الحقائق الإسلامية):
(من أعظم خطئهم بعد تكفير المسلمين، إنكارهم على أولياء الله وكراماتهم مع أنهم يصدقون بالاختراعات العصرية.
ثم يقول: فهناك جماعة غير قليلة من الوهابيين ينكرون على أولياء الله وكراماتهم، ويرفضون حصول الكرامات والخوارق لهم.. ولهم في ذلك أقوال أعتذر عن حكايتها مراعاة للأدب ولعدم مناسبتها لحضرة أولياء الله تعالى..) (5).
__________
(1) ص 22.
(2) المرجع السابق ص 25.
(3) المرجع السابق ص 26.
(4) المقالات الوفية في الرد على الوهابية) ص 206.
(5) مالك بن داود، (الحقائق الإسلامية في الرد على المزاعم الوهابية)، ط1، مكتبة الحقيقة، استانبول، 1403هـ ص 25.(131/177)
ويجدر بنا عقب هذا النقل لمفتريات خصوم الدعوة السلفية في مسألة كرامات الأولياء - أن نلقي نظرة عابرة.. لما تضمنته تلك النقول من أفكار نوجزها بما يلي:
(1) …يظهر تناقض الخصوم واضطرابهم في كذبهم، وافترائهم، حين زعموا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - وكذا أتباعه وأنصاره ينكرون كرامات الأولياء، فمرة يزعمون أن هذا الإنكار لكرامات الأولياء إنما هو بالنسبة للأموات، كما هو واضح فيما كتبه علوي الحداد.
مع أن بعض الخصوم أقر واعترف بإثبات أئمة الدعوة لكرامات الأولياء، ومن ذلك ما كتبه محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي في رسالته (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية) حيث يقول:
…(وهذا المبتدع (1) مصرح في رسالته الكبرى بإثبات الكرامات، حيث قال الواجب عليك الإقرار بكراماتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) (2).
ويورد محمد جواد مغنية اعترافه بإقرار أئمة الدعوة السلفية بكرامات الأولياء، ولكنه يورده مستنكراً عليهم هذا الإقرار، لأن الكرامة عنده هي الصدق والإخلاص(3)، يقول مغنية:
(ويعتقد الوهابية بكرامات الأولياء، وأن الله يجري على أيديهم خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات…) (4).
__________
(1) يعني به الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود حيث إن الإمام سعود أرسل رسالتين إلى أمير المغرب – آنذاك -، فعرضها ذلك الأمير علي بن عبد المجيد بن كيران، فكتب الأخير رداً على تلك الرسالتين، بعنوان (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية) انظر : مقدمة كتابه المذكور ص3.
(2) محمد بن عبد المجيد بن كيران الفاسي، (الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية،) ط1، مطبعة التقدم، مصر، 1327، ص19.
(3) انظر : كتاب (هذه هي الوهابية) ص 106.
(4) المرجع السابق ص 105.(131/178)
(2) …يتبين مما سبق نقله -، أن هؤلاء الخصوم لا يرون أيّ فرق بين إثبات الكرامات للأحياء، بين إثباتها للأموات، فليس هناك دليل يخص الكرامة بالأحياء دون الأموات.
(3) …نلاحظ ضلال الخصوم في تعريفهم الكرامة وبيان حدّها، فهم يظنون أن الكرامة فعل الولي، مع أن الكرامة في الحقيقة هي فعل الله لا فعل للولي فليس له قدرة عليها ولا تأثير.
(4) …نجد هؤلاء الخصوم قد جعلوا كثيراً من الشركيات ومحدثات الأمور ضمن إثبات كرامات الأولياء، فأجازوا الاستغاثة بالأولياء – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، ودعاؤهم بحجة أن هذا – الشرك – ضمن إثباتهم كرامات الأولياء، ومن باب محبتهم وتقديرهم. ومن أنكر هذه الشركيات فهو منكر للكرامات، ومما يدل على أن الكثير من الشركيات قد صارت ديناً وأمراً مشروعاً، لأنها ضمن الإقرار بكرامات الأولياء، ما نجده مسطوراً في كتب هؤلاء الخصوم، ونذكر على ذلك مثالين:
الأول: ما قاله القباني في (فصل الخطاب): (وإغاثة الأولياء كرامة لهم) (1).
الثاني: ما كتبه الزهاوي في فجره: (المراد بالاستغاثة بالأنبياء، والصالحين، والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل كرامة لهم..) (2).
وتبدو هذه الأمور الأربعة ظاهرة جلية، حين نعرض لها بالرد والدحض بما كتبه أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في هذا المقام.
سنورد - في مقام الرد والدحض لفرية إنكار كرامات الأولياء - ما ذكره بعض أئمة الدعوة في رد هذه الفرية ودحضها.
ثم نشير إلى ما قالوه من عدم الاغترار بخوارق العادات عموماً، وضرورة التفريق بين الولي – حقاً – وبين مدعي الولاية – كذباً وزوراً -.
وعقب ذلك نشير إلى ما قرره علماء الدعوة في بيان حد الكرامة وتعريفها.
ثم نورد بعض الردود على ما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء وصرف شيء مما يستحقه الله إليهم.
__________
(1) ق42.
(2) ص53.(131/179)
(وقد ردّ الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – على من اتهمه بانتقاص الصالحين فكان مما قاله:
(مما ذكره المشركون عليّ أني أتكلم في الصالحين أو أنهى عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان افتراه عليّ الشياطين)(1).
ويقول – أيضاً – في هذا المقام:
(وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم، ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة قال الله: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (2) (3).
ويكذّب الشيخ سليمان بن سحمان هذه الدعوى فيقول:
(والجواب أن يقال أن هذه الدعوى دعوى كاذبة خاطئة، فإن الشيخ رحمه الله لا ينكر كرامات الأولياء بل يثبتها ولا ينكر إلا خوارق الشيطان، فإن أولياء الرحمن لهم علامات يعرفون بها، فمن علامات أولياء الله محبة الله، ومحبة رسوله والتزام ما أمر الله به ورسوله، وتقديم ما دلّ عليه الكتاب والسنة على ما يخطر ببال أحدهم أنه كرامة …)(4).
ويقول ابن سحمان في دحض ما أورده الحداد من الحكايات في كرامات الأولياء بعد الممات:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5 / 52 باختصار.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) مجموعات مؤلفات الشيخ) 5 / 101. وانظر : (الدرر السنية) 1 /65، ومما يحسن ذكره – هاهنا – أن نسوق ما حكاه الشيخ أبو بطين في كتابه (تأسيس التقديس) ص 85، وهو أن رجلاً من أهل مكة ينسب إلى علم قال لرجل عامي من أهل نجد : أنتم ما للأولياء عنكم قدر والله يقول في الشهداء أنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } ، قال له العامي : هل قال يرزقون يعني بفتح الياء أو قال يُرزقون يعني بالضم، فإن كان يعني بالفتح فأنا أطلب منهم، وإن كان يعني بالضم فأنا أطلب من الذي يرزقهم، فقال المكي : حجاجكم كثيرة وسكت.
(4) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد)، ص 128(131/180)
(ذكر الملحد أحاديث وأخبار وحكايات في كرامات الأنبياء والأولياء منها ما هو صحيح مؤول وباطل مقول ؟، ومنها ما هو خرافات ومنامات وخزعبلات وحكايات لا يثبت بها حكم شرعي، ولا يدل ما صح منها من الكرامة على أنهم يدعون من دون الله أو يستغاث بهم في الشدائد والمهمات، أو يطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات …) (1).
ويدحض ناصر الدين الحجازي تلك الفرية بهذا الأسلوب فيقول:
(.. ثم أن كرامات الأولياء ما سمعنا من أحد إنكارها، وإذا كان ثم إنكار فإنما هو على أشياء مكذوبة لا تطابق عقلاً ولا نقلاً، وكيف ينكرها قوم يتلون كتاب الله وسنة رسوله، لكن صاحبنا أخذ يلتقط أشياء من أفواه العامة، ويسوّد به صحيفته، ومثل هذا يكون الكلام معه ضائعاً، فلا يلتفت إليه وإن أطال مهما أطال، ونحن نكلفه أن يثبت مدعاه بالنقل من كتاب موثوق به، فإن وجد شيئاً من ذلك فنحن نشاركه في الرد على المنكر، لكن على طبق الشرع وصحة النقل..) (2).
وحيث أن الإقرار سيد الأدلة، وقد أوردنا – في مقدمة هذا الفصل – من النقول عن أئمة الدعوة السلفية، وعلى رأسهم مجددها الشيخ محمد بن عبد الوهاب مما يؤكد ويقرر إثباتها لكرامات الأولياء، فلسنا بحاجة إلى زيادة – عما سبق ذكره - ردود على تلك الفرية الساقطة.
ولكن مع أن هؤلاء الأئمة – رحمهم الله تعالى – يثبتون كرامات الأولياء، إلا إنهم لا ينخدعون بكل ما هو خارق للعادة، فإن خوارق العادات كما تحصل لأولياء الرحمن، فربما تقع بعض خوارق العادات لأولياء الشيطان من السحرة والدجالين والمشعوذين، فعلامة ولي الرحمن أنه مؤمن تقي متبع لسّنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالقصد طلب الاستقامة – لا طلب الكرامة.
لذا يقول الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب – أثناء ذكره لفوائد قصة آدم مع إبليس -:
__________
(1) المرجع السابق، ص 179.
(2) النفخة على النفحة) ص50.(131/181)
(ومنها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة، إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله، ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة) (1).
ويبين الشيخ – أيضاً – الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيقول:
(بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (2) الآية، وآية في سورة المائدة وهي قوله: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } (3) الآية، وآية في سورة يونس، وهي قوله: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } (4).
ثم صار عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم) (5).
ويبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من صفات أهل الجاهلية أنهم يعتقدون في خوارق السحرة أنها من كرامات الأولياء الصالحين، يقول رحمه الله:
(العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة … وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه لسليمان عليه السلام) (6).
ويورد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح – رحمه الله – جهل عبّاد القبور حين اعتقدوا أن الكرامات هي مجرد الخوارق فقط، فأقحموا أفعال السحرة والدجالين ضمن الكرامات، يقول أبو السمح في (الرسالة المكية):
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 4 / 95.
(2) سورة آل عمران : آية 31.
(3) سورة المائدة : آية 54.
(4) سورة يونس : آية 62.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1 / 395.
(6) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/ 340.(131/182)
(ومن جهل عباد القبور أنهم يعتقدون أن الكرامات هي الخوارق فقط لا أكثر ولا أقل. فهم يعتقدون كرامة كل من أظهر شيئاً خارقاً في نظرهم، وإن كان من السحرة والمشعوذين، ويعدونه ولياً، وإن لم يصم) (1).
وكما أن هناك فرقاً بين الولي الحق، وبين مدعي الولاية – كما أشرنا إلى ذلك -، فهناك – أيضاً – فرق بين حال الأولياء في حياتهم وبين حالهم بعد مماتهم، وليس كما يزعم هؤلاء الخصوم بأن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة.
لذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله – في الرد على داود بن جرجيس حين زعم أن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة، فقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: { وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } (2) فلم يجعلهم الله سواء بل فرق بين الأحياء والأموات، وشبّه بهم من لم ينتفع بسماع الهدى) (3).
وعقب ذلك، نورد ما قرره بعض علماء الدعوة في حدَّ الكرامة وتعريفها وسيتضح خطأ وضلال الخصوم في فهمهم لمعنى الكرامة، وترتب على ضلالهم في معناه، الكثير من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة – كما ستظهر بوضوح حين نتحدث عما أورده بعض علماء الدعوة من الردود فيما وقع فيه الخصوم من الغلو في الأولياء – يقول الشيخ محمد بن ناصر التهامي – رحمه الله -:
(الكرامات فعل الله يكرم بها من يشاء من عباده، كما أنه سخر بعض العباد لبعض، وليس إلى المعتقد شيء من الكرامات بل هي إلى الله..)(4).
__________
(1) الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية)، ط1، مطبعة المنار، مصر، 1349هـ، ص 25.
(2) القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس)، ط2، دار الهداية الرياض، 1405هـ، ص36.
(3) إيقاظ الوسنان على بيان الخلل الذي في صلح الإخوان) مخطوط بجماعة الملك سعود، ق 20.
(4) له ترجمة في (معجم المؤلفين) 5 / 24.(131/183)
ويقول الشيخ صنع الله الحنفي الحلبي(1) في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة.
(الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم …)(2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بيان معنى الكرامة:
(الكرامة أمر يجعله الله للعبد لا صنع للبشر فيه. فالذي أوجد الكرامة لمن شاء من عباده هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فإن الكرامة إنما تقع لبعض الموحدين المخلصين بسبب توحيدهم وإخلاصهم لله تعالى)(3).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في (البراهين الإسلامية):
(والمعروف في حد الكرامة أنها خرق الله العادة لوليه من غير تحد..) (4).
ثم يوضح ذلك فيقول: (ولا يخفى أن الملحدين وعبّاد القبور القائلين بالتصرف يموهون على الناس بأن تصرف الأولياء كرامة، وأن من نفاه فقد نفا الكرامة … وأهل الحق لا ينكرون الكرامة التي جاء بها القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون } (5)، وقوله: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } (6).. الآية.
فيثبتون خرق العادة للأولياء في بعض الأحيان، لكن ليس في هذا دليل على أنهم يتصرفون ولا تلازم بين التصرف والكرامة؛ لأن الكرامة خرق الله العادة لوليه، من غير فعل من ذاك الولي …) (7).
ويورد علامة العراق محمود شكري الآلوسي تعريف الكرامة، فيقول رحمه الله:
__________
(1) نقلاً عن : (الانتصار لحزب الله الموحدين)، ط3، مكتبة الصحابة، الكويت، ص45.
(2) سورة فاطر: آية 22.
(3) القول الفصل النفيس)، ص 52.
(4) البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية)، مخطوط بالمكتبة السعودية، ق 24.
(5) سورة يونس : آية 62.
(6) سورة الأحقاف : آية 13.
(7) البراهين الإسلامية) ق42.(131/184)
(كل من يذكر تعريف الكرامة وحدها يقول: هي خرق الله العادة لوليه لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها، ولا إرادة، فلا تكون سبباً يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له، ومن أي وجه دلّت الكرامة على هذا ؟) (1).
ويؤكد الشيخ عبد الظاهر أبو السمح أن الكرامة من فعل الله، فيقول:
(الكرامات لا يملكها أحد لنفسه بل الله يكرم من يشاء من عباده بالإيمان والتقوى { ومن يهن الله فما له من مكرم } (2) …) (3).
فالكرامة – إذن – هي فعل الله، وهي خرق الله العادة لوليه، فلا فعل للولي فيها، بل هي فعل الله تعالى، وقد لا يكون طالباً لها، وإنما قصده وغايته الاستقامة والاتباع للسنة النبوية، لأن الكرامة قد تقع للمفضول دون الفاضل، لذا كانت الكرامة في عهد التابعين أكثر منها في عهد الصحابة، كما أن الكرامة قد تحصل لضعفاء الإيمان لزيادة إيمانهم(4).
لذا قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (ليست الكرامة من لوازم المنزلة وعلو الدرجة، مشى قوم فوق البحار، ومات عطشاً من هو أفضل منهم وأقوى إيماناً) (5).
لقد ترتب على خطأ وضلال هؤلاء المناوئين في تحديد وتعريف الكرامة، أنهم أقحموا – ضمن معنى الكرامة – الكثير من الكفريات والمحدثات، فجعلوا دعاء الأموات والاستغاثة بهم واتخاذ قبور الأولياء أعياداً والتوسل بالموتى والتشفع بهم، كل ذلك جعلوه ضمن كرامات الأولياء وزعموا أن ذلك هو من محبة الصالحين وتقديرهم.
ورحم الله محمود شكري الآلوسي حيث يقول:
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 413.
(2) سورة الحج : آية 18.
(3) الرسالة المكية)، ص 25.
(4) انظر : تفصيل ذلك في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لابن تيمية.
(5) دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)، ص 52، 53.(131/185)
(من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن من مكايد الغلاة التي كادوا بها العوام أنهم يقولون أن الاستغاثة بالأموات وندائهم في المهمات … هو من علامات محبتهم، ومن أنكر ذلك وأبى ما هنالك، فهو من المبغضين للصالحين، والمنكرين لكرامات الأولياء والصديقين، كبرت كلمة تخرج من أفواهم، فإن من أنكر تلك البدع والضلالات هم المحبون لهم، والمحافظون على هديهم وطريقتهم..) (1).
ولقد قام علماء الدعوة وأنصارها بالرد والدحض لهذا الغلو، وسنورد بعضاً من أقوالهم.
فيقول صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة:
هذا وأنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاً في حياتهم، وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليّات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا فيهما الأجور. قال (الحلبي) وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.
إلى أن قال: فأما قولهم أن للأولياء تصرفاً في حياتهم وبعد الممات، فيرده قول الله تعالى: { أإله مع الله ؟ ألا له الخلق والأمر له ملك السموات والأرض } … فهو سبحانه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه. والكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً وإحياءً وإماتةً وخلقاً.
__________
(1) غاية الأماني في الرد على النبهاني) 1 / 37.(131/186)
إلى أن قال وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جلَّ ذكره: { إنك ميت وإنهم ميتون } (1).. وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) (2) الحديث فهذا يدل على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره بحركة، وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياء لا قصد لهم فيه ولا قدرة … الخ) (3).
ويدحض الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن غلو داود بن جرجيس في الأولياء حيث زعم داود (أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر، واستدل بقوله تعالى { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } (4) وأن المفسرين - ومنهم البغوي، قالوا: رأى يعقوب عاضاً على أنملته يقول إياك وإياها، فلم يفعل، فكان يوسف في مصر، ويعقوب في الشام، فهذا نوع من الكرامة وهي سبب، والقدرة لله) (5) ا.هـ كلام داود.
فقال الشيخ عبد اللطيف في (دلائل الرسوخ) رداً عليه:
(يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج في الغيبة وبعد الممات؛ لأن هذا كرامة، والكرامة يدعى صاحبها وينادى ……
والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية وهي أصل الدين وقاعدته لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
وهو سبحانه المختص بالخلق والرزق اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، فكيف يعارض هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة.
__________
(1) سورة الزمر : آية 30.
(2) رواه مسلم.
(3) نقلاً عن : كتاب (الانتصار) لأبي بطين ص43 – 45 باختصار.
(4) سورة يوسف : آية 24.
(5) انظر : (دلائل الرسوخ) ص 48، 49.(131/187)
هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك بإجماع أهل العلم، والمقدمات كاذبتان؛ لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير.
كما أن أكثر المفسرين على غير هذا، فمنهم من قال إن همّ يوسف من جنس الخطرات، والواردات التي لا تستقر، وليست بعزم فتركها..) (1).
ويذكر الحازمي شيئاً من هذا الغلو والابتداع عند هؤلاء الخصوم، ويجعلونه ضمن معنى الكرامة:
(وليس معنى كرامة الولي أن يبنى قبره، ويتصل بالمسجد، ويعتني به أكثر من المسجد، ويبخر وينقش جداره، وتعلق فيه الألواح المنقوشة والقناديل.. فهذه الأمور لا تسمى كرامة ولا يكرم الله عبداً بمحرم، وهذه محرمات وإضاعة مال، وتقرب إلى الله باقتراف كبائر …) (2).
ويورد عبد الظاهر أبو السمح صورة من صور ضلال من غلى في القبور، فيقول في (الرسالة المكية).
(ومن خبل عبّاد القبور، إنك إذا ذكرت الله وحده وقلت: ادعوه وحده، ولا تلتفتوا إلى سواه، اشمأزت قلوبهم، وغضبوا غضباً شديداً، وعدوا ذلك تنقصاً لأوليائهم الذين لم تثبت ولايتهم ولا بنصف دليل، ولا شبه خبر صحيح، وقالوا: ينكر الكرامات، في حين أنهم بدعاء غير الله ينتقصون ربهم، وبالتفاتهم عنه سبحانه يقعون في عارٍ كبير وظلمٍ عظيم لو فطنوا) (3).
ويقول – في موضع آخر -: (فلو فرضنا أن عدم سؤال الأولياء يستلزم عدم كرامتهم، وهو في الحقيقة لا يستلزم، فإن عدم سؤال الله يستلزم ظن السوء به جل وعلا حقيقة لا فرضاً …) (4).
وإذا نظرنا إلى كتب هؤلاء الخصوم، وما تضمنته من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادة – التي يجب صرفها لله وحده – لهم تحت ستار محبة الأولياء والإيمان بكرامتهم، فإنا نجد فيها من الطامات والدواهي ما لا يعد، ولا يحصى …
__________
(1) دلائل الرسوخ) ص 49 – 53 باختصار.
(2) إيقاظ الوسنان) ق17.
(3) الرسالة المكية) ص25.
(4) المرجع السابق ) ص 39.(131/188)
ونذكر أمثلة معدودة من غلوهم في الأولياء من أحد هذه الكتب، وهو كتاب(مصباح الأنام) لعلوي بن أحمد الحداد، يقول الحداد:
(قال السيد الجليل محمد بن زين بن سميط في كتابه (غاية القصد والمراد من مناقب السيد الحبيب القطب عبد الله الحداد). في الباب الرابع في ذكر الحكايات والوقائع من كراماته. حيث ذكر أن أحدهم قال: لم تأت لي زيارة النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وأنا بمكة، فرأيت النبي في المنام، فقال لي: يا عبد الله لم لا تزورنا أما علمت أن من زار السيد عبد الله الحداد تقضى له سبعون حجة، فما بالك بزيارتنا.
وذكر أن رجلاً من أهل الخطوة وصل من بلد المغرب في سبعة أيام إلى تريم لزيارة السيد عبد الله الحداد، وأمر شيخه بالمغرب لما استشاره للحج فقال له: اخرج لزيارة القطب عبد الله الحداد بالمشرق خير لك من كذا وكذا حجة، قال: فخرجت لزيارة سيد عبد الله) (1).
(وقال السكران باعلوي: في مقبرة تريم ألوف من الأولياء المتصوفون بعد موتهم كحياتهم.
ويقول السيد يوسف بن عابد الفاسي أن بعد أجداده كثر في الاعتقاد فيه قبائل المغرب، فلما دفنه أولاده من حيث لا تعلم للناس، صار كل يطلب دفنه عنده لاعتقاد كل فيه منهم، ففعل كل منهم قبراً أو قبة، وادعى كل أنه عنده، فاجتمعوا على التبيين والتحقيق ومن ظهر عنده يسلمون له ذلك، فبحثوا في كل المشاهد، فوجدوه في كلها، وذلك بمحضر عظيم، وخلائق لا يحصى لهم عدد) (2).
__________
(1) مصباح الأنام) ص 46.
(2) المرجع السابق ص 51.(131/189)
يظهر من هذه الأمثلة المحدودة ما كان عليه خصوم الدعوة السلفية من الغلو الشديد في الصالحين، والاعتقاد الفاسد حين زعموا أن زيارة أضرحة بعض الأولياء أفضل من حج بيت الله الحرام أضعافاً مضاعفة، وأما ما أورده الحداد من قصة ذلك الولي الذي وجد جسده بعد موته في عدة مشاهد وقباب، فهذه من كيد الشيطان لهم وتلبيسه عليهم، فلا عجب أن يتمثل بعض الشياطين على هيئة ذلك الولي الميت، فيظنّ عبّاد القبور أن هذه كرامة لذلك الولي – بعد موته – وتصرفاً له بعد موته، حين وجدوا جثته في عدة قباب وقبور، فيعتقدون فيه ويشركونه في العبادة، وعندئذٍ يتحقق مراد الشيطان (1).
قال الله تعالى:
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً. إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً. لعنه الله. وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً. ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } (2).
الباب الثاني
الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ
مع بيان الحق في ذلك
يظهر من خلال عنوان هذا الباب أن الحديث سيكون متجهاً إلى الشبهات (3)
__________
(1) انظر : ما كتبه ابن تيمية حول هذه المسألة (الفتاوى) 1/ 168، 360.
(2) سورة النساء : آيات 116 - 119.
(3) عرّف الفيروز آبادي الشبهة بأنها الالتباس، وكذا الرازي في مختار الصحاح). (انظر : (ترتيب القاموس المحيط) للزاوي 2/670، و (مختار الصحاح)، ص328).
…وقال الفيومي في (المصباح المنير) ص 358: (والشبهة في العقيدة المأخذ الملّبس، سميت شبهة لأنها تشبه الحق).(131/190)
التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، فإذا كان الباب الأول تضمن الحديث عن أكاذيب ومفتريات ضد هذه الدعوة السلفية، وسيتضمن الباب الثالث – كما سيأتي – ما اعترض على دعوة الشيخ مما هو حق وصدق في حدّ ذاته.
فإن هذا الباب هو وسط بين هذين البابين، فهو بين الكذب الصريح في المفتريات، وبين الصدق والصواب في بعض الاعتراضات، فهو باب يتضمن الشبهات مما يحمل طابع الالتباس والإيهام فيحتاج إلى تفصيل وبيان حتى يزول هذا الالتباس، وينكشف ذلك الإيهام.
الفصل الأول
التكفير والقتال – عرض ثم رد وبيان
إن من أشد الشبهات التي أثيرت على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – شبهة: التكفير والقتال، وحتى يأخذ هذا الفصل حقّه بشيء من الاستيفاء، فإنه من المناسب أن نورد هذه الشبهة بنوع من الإطناب والتفصيل – كما جاءت مسطورة في كتاب المناوئين لهذه الدعوة السلفية – ثم نتبعها بالرد والبيان.
وهناك دوافع وأسباب كثيرة لزيادة العناية بهذا الفصل، والاهتمام به - أكثر من غيره من فصول هذه الرسالة-، نذكر من هذه الأسباب ما يلي:
أولاً: إن مسألة التكفير والقتال من أهم المسائل وأكثرها خطورة في أبواب العقائد، فلابد من إعطاء تصور تام، وفهم شامل لهذه المسألة؛ لأن التصور الناقص والفهم القاصر لهذه المسألة يؤدي إلى الوقوع في طرفي نقيض، فإما غلو في التكفير كحال الخوارج، أو تمييع وتذويب لمسألة التكفير كما هو حال المرجئة ،كما تظهر أهمية هذه المسألة، لما يترتب عليها من النتائج والآثار الخطيرة في كلا الدارين: الدنيا والآخرة كاستباحة الدماء، وحل الأموال، وغيرها – مما جاء مفصلاً في كتب الفقه، في باب حكم المرتد _.
ثانياً: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – وكذا أتباعه من بعده وأنصار دعوته، قد اعتنوا بهذه المسألة عناية فائقة، ووضحوا ما أشكل فيها وبيَّنوها، وفصَّلوها تفصيلاً شافياً كافياً.(131/191)
(كان الشيخ يحذر من نواقص الإيمان ومبطلاته، ويبينها، ويبعدها عن المسلمين، ويبعد المسلمين عنها، بكل ما استطاع.
…ولقد اهتم بذلك أيما اهتمام، حتى كاد أن يستأثر هذا الجانب بكل همته كما كاد أن يستأثر بالواقع في بداية الإصلاح؛ لأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في هذه الناحية، وكيد الشيطان يتركز في هذا الجانب) (1).
ثالثاً: …احتاجت مسألة التكفير والقتال هذا الاهتمام، نظراً لكثرة من رمى هذه الدعوة السلفية بشبهة (التكفير والقتال)، فما أكثر من أثار هذه الشبهة على دعوة الشيخ، وسيتضح ذلك جلياً عند نقل أقوال المناوئين في ذلك.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى أن بعض العلماء المحققين ممن عرف عنهم سلامة المعتقد، قد تأثروا بتلك الشبهة وصدقوا تلك الدعوى – بكل ما فيها من حق أو باطل _.
كما هو واضح من حال الإمام محمد بن علي الشوكاني، حيث يقول الشوكاني – عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه _.
(ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلاً تحت دولة صاحب نجد، وممتثلاً لأوامره خارج عن الإسلام) (1)
__________
(1) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) 2/5.
ويقول عبد العليم البستوي – أثناء ترجمته لكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 177 – معلقاً على عبارة الشوكاني – التي سبق إيرادها – (لقد كتب الإمام الشوكاني البدر الطالع أيام كانت الحروب قائمة على قدم وساق بين الأمير عبد العزيز بن سعود والشريف غالب).
ومن الإنصاف للإمام الشوكاني – رحمه الله – أن نذكر أنه قد وصف هذه الدعوة بأوصاف صادقة، وذلك قبل الكلام الذي نقلناه، ويبدو أنه حين نقل شيئاً من أحوال هذه الدعوة، أنه غير متوثق ومتأكد من تلك الأقوال، لذا نجده يقول : (وتبلغنا عنه أخبار الله أعلم بصحتها)، كما أنه أثنى خيراً على ما تضمنته رسالة الإمام عبد العزيز بن سعود، ووصف ما فيها أنه اعتقاد حسن يوافق الكتاب والسنة، ولا ننسى قصيدته المؤثرة في رثاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.(131/192)
.
كما أن الشيخ محمد بن ناصر الحازمي قد تأثر بتلك الدعاوى.. فذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثنى عليه خيراً، ومدحه بحسن الاتباع …، ولكن أنكر عليه خصلتان , الأولى: تكفير أهل الأرض بمجرد تلفيقات لا دليل عليها..، والأخرى: التجاري في سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا برهان.(1)
وكذا الشيخ محمد صديق حسن، صدّق هذه الشبهات، فأعلن في كتابه. (ترجمان الوهابية) براءة أهل الحديث من الوهابيين، لأن الوهابيين – كما يذكر محمد صديق حسن - يعرفون بإراقة الدماء، وينص محمد صديق – عفا الله عنه – أن مصدره في هذه المعلومات هي كتب العلماء المسيحيين !. (2)
__________
(1) انظر : (أبجد العلوم، 3/194، وقد ذكر صديق حسن خان في كتابه) الحطة في ذكر الصحاح الستة)، ص151 قولاً للحازمي من كتابه (فتح المنان)، أثنى فيه على الشيخ الإمام ثناءً حسناً، ولم يورد شيئاً من المآخذ، ويبدو أن الحازمي قد تغير موقفه، حين تبين له الصواب، فبعد أن كان يتهم الشيخ بالتكفير والقتال، نجده يدافع عنه أصدق دفاع وأقواه في كتابه – المخطوط – (إيقاظ الوسنان).
(2) انظر : كتاب (دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) للنعماني ص103، ص104 ولتحقيق موقف محمد صديق حسن من دعوة الشيخ الإمام يراجع ما كتبه عبد العليم البستوي أثناء ترجمته لكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي ص175 – 177.
ويظهر أن مقام الشيخ محمد صديق حسن عند أئمة الدعوة الوهابية كان مقاماً رفيعاً بدليل أن ابن سحمان أنشد قصيدة في الدفاع عن محمد صديق حسن وكتابه (الدين الخالص) كما يظهر الثناء الحسن والتقدير الكبير في الرسالة التي بعثها الشيخ حمد بن عتيق إلى محمد صديق حسن مبدياً بعض الملاحظات على تفسيره (فتح البيان).(131/193)
وممن تأثر وصدّق هذه الدعاوى، الشيخ أنور شاه كشميري، فزعم – عفا الله عنه – أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – يتسارع إلى الحكم بالتكفير (1).
رابعاً: إن هذه المسألة تميزّت عن غيرها، أن الكثير من المخالفين من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - يوافقونه فيما دعا إليه من بيان التوحيد وتقريره، والنهي عن الشرك والتحذير منه، وسد ذرائعه، دون أن يوافقوه في مسألة التكفير والقتال.
ومما يدل على ذلك ما قاله الشيخ بنفسه رحمه الله حاكياً حال خصومه: (وإذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، أن التوحيد الذي أظهره هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال كان على حق … هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد)(2).
ويقول الشيخ – في موضع آخر – مبيناً وجه مخالفة خصومه:
(فلما أشتهر عنى هؤلاء الأربع (3) (5)، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفس الشرك، وردوا على التكفير والقتال) (4).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – لإخوانه تلك الشبهة والجواب عليها:
__________
(1) انظر : بحث (الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ الإمام).. لمحمد يوسف ضمن بحوث أسبوع الشيخ 2/259، وكتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 182، وكتاب (دعايات مكثفة ضد الشيخ) ص 135 – 146.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5/26.
(3) هذه الأربع بإيجاز.
بيان التوحيد.
بيان الشرك
تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه.
الأمر بقتال هؤلاء المبغضين للتوحيد.
انظر : توضيح هذه الأمور الأربعة في مجموعة (مؤلفات الشيخ) 5/24، 25.
(4) المرجع السابق 5 / 25.(131/194)
(ولكنهم يجادلونكم اليوم، بشبهة واحدة، فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا، إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره (1)، وقتل من أمر به (3) وحسبهم … إلى آخر جوابه رحمه الله) (2).
فهذه بعض الدوافع التي أدت إلى التوسع والإطالة – نوعاً ما – في هذا الفصل، ونظراً لطول هذا الفصل وتعدد قضاياه، فقد قسمته إلى سبعة مباحث على الترتيب الآتي:
المبحث الأول…: مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير مع الرد والدحض لها.
المبحث الثاني…: فرية أن الوهابيين خوارج، وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض.
المبحث الثالث…: شبهة أن الوهابيين أدخلوا في المكفرات ما ليس منها عرض ثم رد.
المبحث الرابع …: شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة – عرض ثم رد.
المبحث الخامس : شبهة عدم طروء الشرط على هذه الأمة - عرض ثم رد.
المبحث السادس : شبهة تنزيل آيات في المشركين على المسلمين - عرض ثم رد.
المبحث السابع : شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة – عرض ثم رد.
المبحث الأول
مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ
محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير – مع الرد والدحض لها
إن كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذا رسائل ومؤلفات أئمة وعلماء الدعوة، وأنصارها، قد بينت مسألة التكفير والقتال، وأعطت المسألة حقها من البيان الوافي، والتفصيل التام.
ومع كل هذا البيان والتفصيل، نجد أن هؤلاء الخصوم يفترون على دعوة الشيخ، الكذب والبهتان، ويختلقون من عند أنفسهم الإفك وإلصاق التهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون، فليس عندهم نقل صحيح، ولا يملكون دعوى بدليل.
__________
(1) ، (3) أي التوحيد.
(2) ط (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/272.(131/195)