477 ... هذا وأمثاله انتهى وقد اجاد وافاد رحمه الله وفي الآية من الفوائد أن الشرك محبط للأعمال وأن إرادة الدنيا وزينتها بالعمل كذلك وأن الله يجازي الكافر بحسناته وكذلك طالب الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة الخامسة شدة الوعيد على ذلك السادسة الفرق بين الحبوط والبطلان قال في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم وتعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وان لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن كم يؤذن له وإن شفع لم يشفع قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله تعس عبد الدينار هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك قاله الحافظ وقال في موضع آخر وهو ضد سعد أي شقي وقيل معنى التعس الكبة على الوجه قال أبو السعادات يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك قوله تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات هو ثوب خز أو صوف معلم وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما وجمعها الخمائص والخميلة بفتح الخاء المعجمة قال أبو السعادات الخميل والخميلة القطيفة وهي ثوب له خمل من اي شيء كان وقيل الخميل الأسود من الثياب قوله تعس وانتكس قال الحافظ هو بالمهملة أي عاوده المرض وقال(112/467)
478 ... أبو السعادات أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة أن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر وقال الطيبي وفيه الترقي بالدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد ان سقط قوله واذا شيك أي اصابته شوكة فلا انتقش قال أبو السعادات أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش وقال الحافظ أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش قال وفي الدعاء عليه بذلك إشارة إلى عكس مقصوده لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن السعي والحركة في تحصيل مصالح الدنيا وقال الطيبي المعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يترحم عليه فإن من وقع في البلاء اذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ويتسلى بعض التسلي وهؤلاء بخلافه بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء أو شماتتهم فان قيل لم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم قيل لما كان هو مقصوده ومطلوبه الذي عمل له وسعى في تحصيله بكل ممكن حتى صارت نيته مقصورة عليه يغضب ويرضى له صار عبدا له قال شيخ الإسلام فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر فيه ما هو دعاء وخبر وهو قوله تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط كما قال تعالى ومنهم من يلمزم في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله(112/468)
479 ... وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة او نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده إلى أن قال وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج الى طعامه وشربه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبدوه فيكون هلوعا ومنها ما لا يحتاج إليه العبد فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها وربما صار مستعبدا معتمدا على غير الله فيها فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقه التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإن منعه اياها سخط وانما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصا قوله طوبى لعبد قال أبو السعادات طوبى اسم الجنة وقيل هي شجرة فيها قلت قد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجا حدثه أن ابا الهيثم حدثه عن أبي سعيد في حديث فقال رجل يا رسول الله وما طوبى قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب(112/469)
480 ... اهل الجنة تخرج من اكمامها رواه حرملة عنه ورواه أحمد في مسنده من حديث عتبة بن عبد السلمي جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي وفيها فاكهة قال نعم وفيها شجرة تدعى طوبى الحديث قال الزجاج في قوله طوبى لهم ومعناه العيش الطيب وقال ابن الأنباري الحال المستطابة لهم لأنه فعلى من الطيب وقيل معناه هنيئا بطيب العيش لهم وهذه الأقوال ترجع إلى قول واحد قوله أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أي في طريق الجهاد قوله أشعث راسه هو بنصب أشعث صفة لعبد لأنه غير مصروف للصفة ووزن الفعل ورأسه مرفوع على الفاعلية لأشعث وهو مغبر الرأس وفيه فضل إصابة الغبار في سبيل الله قوله مغبرة قدماه هو كأشعث في الإعراب والمراد به كثرة الغبار له في سبيل الله لكثرة جهاده ومصابرته قوله إن كان في الحراسة قال بعضهم هو بكسر الحاء أي حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يهجم عليهم عدوهم قوله كان في الحراسة أي امتثل غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما قوله وإن كان في الساقة كان في الساقة أي أن جعل في مؤخرة الجيش صارفيها ولزمها وقال ابن الجوزي المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو فأي موضع اتفق له كان فيه وقال الخلخالي المعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة قلت وفيه فضيلة الحرس في سبيل الله(112/470)
481 ... قوله إن استأذن لم يؤذن له أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له لأنه ليس بذي جاه ولا يقصد بعمله الدنيا فيطلبها منهم ويتردد إليهم لأجلها بل هو مخلص لله قوله وإن شفع بفتح أوله وثانيه مبني للفاعل ويشفع بتشديد الفاء مبني للمفعول والمراد والله اعلم أنه لا يشفع عند الملوك ونحوهم لعدم جاهه عندهم وعلى تقدير شفاعته إن شفع لم يشفع بل يرون شفاعته قال بعضهم قيل إن هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته ويكون عند الله شفيعا مشفعا كما في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا رب أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبره وقال الحافظ فيه ترك حب الرئاسة والشهرة وفضل لخمول والتواضع قلت وفيه أن هذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على الله بل الكرامته وفيه الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات قاله المصنف باب ومن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله ش لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة فإنها طاعة الله بامتثال ما امر به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه(112/471)
482 ... الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها وأنه لا يطاع أحد من الخلق الا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة احد من الخلق استقلالا والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أي علماءهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي فإن قيل قد قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قيل هم العلماء وقيل هم الأمراء وهما روايتان عن أحمد قال ابن القيم والتحقيق بأن الآية تعم الطائفتين قيل إنما تحب طاعتهم اذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الله وامر رسوله والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف وقال على المرء المسلم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة حديثان صحيحان فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة قال وقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر(112/472)
483 ... ش قوله يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة قال أبو السعادات أي يقرب ويدنو ويسرع وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج وكان ابن عباس يأمر بها فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها أي هما اعلم منك وأحق بالاتباع فقال هذا الكلام الصادر عن محض الايمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه كائنا من كان كما قال الشافعي أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب اليه ويجعل قوله عيارا على الكتاب والسنة فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله فالله المستعان وما أحسن ما قال بعض المتاخرين فإن جاءهم فيه الدليل موافقا لما كان للآبا اليه ذهاب رضوه وإلا قيل هذا مؤول ويركب للتأويل فيه صعاب ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية قال المصنف وقال أحمد بن حنبل عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون الى راي سفيان والله تعالى يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة اتدري ما الفتنة الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ش هذا الكلام من أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلو فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة الآية وجعل(112/473)
484 ... يكررها ويقول وما الفتنة إلا الشرك لعله إذا أراد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له إن قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال اعجبت لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الاسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى والفتنة اكبر من القتل فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك شيخ الإسلام قلت وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الراي كثير مشهور قوله عرفوا الاسناد أي اسناد الحديث وصحته أي صحة الاسناد وصحته دليل على صحة الحديث قوله يذهبون الى رأي سفيان أي الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع ومراد أحمد الانكار على من يعرف اسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول الا بعلم ولا يترك هذا الحديث مثلا الا عن علم وإما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالما بكتاب الله عالما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك(112/474)
485 ... ومنسوخه وصحيح السنة وسقيمها عالما بوجوه الدلالات عالما بالعربية والنحو والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف فيقال له هذا إن صح فمرادهم بذلك المجتهد المطلق أما أن يكون ذلك شرطا في جواز العمل بالكتاب والسنة فكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة العلماء بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلاجهال المقلدين وجفاتهم ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم منهم أبو عمر بن عبد البر وغيره قال الله تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وقال تعالى وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتدي إنما المهتدي من عصاه وعدل عن أقواله ورغب عن سنته الى مذهب أو شيخ ونحو ذلك وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب يرى الخروج عنها من العظائم وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة نعم وينكر الاعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة بل إن قرؤا شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما يقرؤون تبركا لا تعلما وتفقها أو لكون بعض(112/475)
486 ... الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلا فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى وقد أتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى إلى قوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فإن قلت فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب قيل يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون الله ورسوله ثم اذا قضى الله ورسوله أمرا وجدت الحرج في نفسك وإن قضى أهل الكتاب يأمر لم تجد حرجا ثم إذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر لم تسلم له وإنما قضوا بأمر سلمت له فقد أقسم الله تعالى سبحانه وهو أصدق القائلين بأجل مقسم به وهو نفسه تبارك وتعالى أنك لست بمؤمن والحالة هذه وبعد ذلك(112/476)
487 ... فقد قال الله تعالى بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنة فكلام أحمد الذي ذكره المصنف كاف عن تكثير النقل عنه وقال أبو حنيفة اذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين واذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين واذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال وفي روضة العلماء سئل أبو حنيفة اذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله قيل اذا كان قول الرسول يخالفه قال اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قيل اذا كان قول الصحابة يخالفه قال اتركوا قولي لقول الصحابة فلم يقل هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولا يخالف كتاب الله حتى أنزلوه بمنزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال اذا قلت قولا وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فما يصح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني وقال الربيع سمعت الشافعي يقول اذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت وتواتر عنه أنه قال إذا صح الحديث أي بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط وقال مالك كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة مثل هذا كثير فخالف المقلدون ذلك وجمدوا على ما وجدوه في الكتب المذهبية سواء كان صوابا أم خطأ مع أن كثيرا من هذه الأقوال المنسوبة إلى الأئمة ليست أقوالا لهم منصوصا عليها وإنما هي تفريعات ووجوه واحتمالات وقياس على أقوالهم ولسنا نقول إن الأئمة على خطأ بل هم إن شاء الله على هدى من ربهم وقد قاموا بما أوجب الله عليهم من الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم(112/477)
488 ... ومتابعته ولكن العصمة منتفية عن غير الرسول فهو الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما العذر في اتباعهم وترك اتباع الذي لا ينطق عن الهوى قوله لعله أي لعل الانسان الذي تصح عنده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله إذا رد بعض قوله أي قول النبي صلى الله عليه وسلم قوله ان يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك هذا تنبيه على أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والاخرة فإذا كانت إساء الأدب معه في الخطاب سببا لحبوط الأعمال كما قال تعالى لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فما ظنك برد أحكامه وسنته لقول أحد من الناس كائنا من كان قال شيخ الاسلام فإذا كان المخالف عن امره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا الى الكفر والعذاب الأليم ومعلوم أن إفضاؤه الى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه الى الكفر إنما هو لما يقترن به من استخفاف بحق الآمر كما فعل ابليس لعنه الله فإذا علمت أن المخالفة عن أمره صلى الله عليه وسلم سبب للفتنة التي هي الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة أو مالك أو غيرهما لهم النصيب الكامل والحظ الوافر من هذه الآية وهذا الوعيد على مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء على أن أصل الأمر للوجوب حتى يقوم دليل على استحبابه(112/478)
489 ... قال عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية فقلت له إنا لسنا نعبدهم قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه فقلت بلى قال فتلك عبادتهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ش هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في السنن وفيه قصة اختصرها المصنف قوله عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور وهو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة وآخره جيم مات مشركا وعدي يكنى أبا طريف بفتح المهملة صحابي شهير حسن الإسلام مات سنة ثمان وستين وله مائة وعشرون سنة قوله فقلت إنا لسنا نعبدهم ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال إنا لسنا نعبدهم قوله أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه إلى آخره صرح صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله قال شيخ الاسلام وهؤلاء الذين تخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله حيث اطاعوهم في تحليل ما حرم الله وعكسه يكونون على وجهين أحدهما أنهم يعلمون انهم بدلوا دين الله فيتبعونهم(112/479)
490 ... على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون الثاني أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من اهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الطاعة في المعروف ثم نقول اتباع هذا المحلل للحرام والمحرم للحلال إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما ستطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه ولكن من علم أن هذا الخطأ فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبعه في ذلك لهواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم ان الحق معه فهذا من أهل الجاهلية فإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما كمن قال في القرآن برايه فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار انتهى ملخصا قال المصنف وفيه تغير الأحوال إلى هذه الغايه صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ولا سيما الولاية وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال الى ان عبد من ليس من الصالحين(112/480)
وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين
491 ... قوله صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع ويسمون ذلك الولاية والسر ونحو ذلك وهو الشرك قوله وعبادة الأحبار هي العلم والفقه أي هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم فيطيعونهم في كل ما يطيعوك سواء وافق حكم الله أم خالفه بل لا يعبأون بما خالف ذلك من كتاب وسنة بل يريدون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلدوه ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما وانما العلم والفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب بل أعظم من ذلك وأطم رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده ويسمونها ظواهر لفظية ويسمون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية ثم يقدمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر وقوله ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وذلك كاعتقادهم في كثير ممن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب وقوله وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين وذلك كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين فيحسنون لهم البدع والشرك فيطيعونهم ويظنون أنهم علماء مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون(112/481)
492 ... باب قول الله تعالى الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الآيات ش لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزما له وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنا واحدا في قوله بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فقد كذب في شهادته وإن شئت قلت لما كان التوحيد مبنيا على الشهادتين إذ لا تنفك أحداهما عن الأخرى لتلازمهما وكان ما تقدم من هذا الكتاب في معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تتضمن حق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد ورسول صادق لا يكذب بل يطاع ويتبع لأنه المبلغ عن الله تعالى فله عليه الصلاة والسلام منصب الرسالة والتبليغ(112/482)
493 ... عن الله والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إذ هو لا يحكم إلا بحكم الله ومحبته علىالنفس والاهل والمال والوطن وليس له من الألهية شيء بل هو عبدالله ورسوله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال صلى الله عليه وسلم انما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النزاع وترك التحاكم إلى غيره كالمنافقين الذي يدعون الإيمان به ويتحاكمون إلى غيره وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة وذلك هو كمال سعادته وهو معنى الشهادتين إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها إن الله تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما انزل الله على رسوله وعلى الانبياء قبله وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر المصنف في سبب نزولها قال ابن القيم والطاغوت كل من تعدى به حده من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو طاغوت اذ قد تعدى به حده ومن هذا كل من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت وجاوز بمعبوده حده فأعطاه العبد التي لا تنبغي له كما ان من دعا الى تحكيم غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت وتأمل تصديره سبحانه الاية منكرا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما انزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله ويتحاكم إليه عند النزاع وفي ضمن قوله يزعمون نفي لما زعموه من الإيمان ولهذا لم يقل ألم ترى إلى الذين آمنوا فإنهم لو كانوا من اهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا الى غير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقل فيهم يزعمون فإن هذا إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب أو منزل منزلة الكاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما(112/483)
494 ... ينافيها قال ابن كثير والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا وقوله تعالى وقد أمروا أن يكفروا به أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للايمان مضاد له فلا يصح الايمان الا بالكفر به وترك التحاكم اليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله وقوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي لأن ارادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعة الشيطان وهو إنما يدعو أحزابه ليكونوا من اصحاب السعير وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما سوى الكتاب والسنة من الفرائض وان التحاكم اليه غير مؤمن بل ولا مسلم وقوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا أي إذا دعوا الى التحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول أعرضوا إعراضا مستكبرين كما قال تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون قال ابن القيم هذا دليل على أن من دعي الى تحكيم الكتاب والسنة فلم يقبل وأبى ذلك أنه من المنافقين ويصدون هنا لازم لا متعد هو بمعنى يعرضون لا بمعنى يمنعون غيرهم ولهذا أتى مصدره على صدود ومصدر التعدي صدا فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم الله سبحانه بنفاقهم فكيف بمن ازداد إلى اعراضه منع الناس من تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما بقوله وعمله وتصانيفه ثم يزعم مع ذلك أنه إنما اراد الإحسان والتوفيق الإحسان في فعله ذلك والتوفيق بين الطاغوت الذي حكمه وبين الكتاب والسنة قلت وهذا حال(112/484)
495 ... كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان إذا قيل لهم تعالوا نتحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول رايتهم يصدون وهم مستكبرون ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك ولا يعقلون بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون وقوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم قال ابن كثير أي فكيف بهم إذا أصابتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك وقال ابن القيم قيل المصيبة فضيحتهم إذا أنزل القرآن بحالهم ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام أعظمها مصائب القلب والدين فيرى المعروف منكرا والهدى ضلالا والرشاد غيا والحق باطلا والصلاح فسادا وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قبله وهوالطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيم غيره قال سفيان الثوري في قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة قال هي أن تطبع على قلوبهم وقوله تعالى ثم جاؤوك يحلفون بالله ان اردنا إلا احسانا وتوفيقا قال ابن كثير اي يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا الى غيرك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة وقال غيره إلا إحسانا أي لا إساءة وتوفيقا اي بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك قلت فإذا كان هذا حال المنافقين يعتذرون عن(112/485)
496 ... أمرهم ويلبسونه لئلا يظن أنهم قصدوا المخالفة لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أو التسخط فكيف بمن يصرح بما كان المنافقون يضمرونه حتى يزعم أنه من حكم الكتاب والسنة في موارد النزاع فهو إما كافر وإما مبتدع ضال وفعل المنافقين الذي ذكره الله عنهم في هذه الآية هو بعينه الذي يفعله المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يقولون إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية بزعمهم التي هي الفلسفة والكلام وبين الأدلة النقلية ثم يجعلون الفلسفة التي هي سفاهة وضلالة الأصل ويردون بها ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة زعموا أن ذلك يخالف الفلسفة التي يسمونها القواطع فتطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة وحملوه على شواذ اللغة التي لا تكاد تعرف وقوله تعالى اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم قال ابن كثير أي هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله اعلم بما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم ببواطنهم وظواهرهم وقوله تعالى فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا قال ابن القيم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء أحدهما الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال وبهذا يعلم أنها غير منسوخة الثاني قوله وعظهم وهو تخويفهم عقوبة الله وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم الى غير رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه الثالث قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلى قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثر به المقول له وهذه المادة(112/486)
497 ... تدل على بلوغ المراد بالقول فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف ويبلغ تأثيره إلى نفس المقول له ليس هو كالقول الذي يمر على الأذن صفحا وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور أحدها عظم معناه وتأثير النفوس به الثاني فخامة الفاظه وجزالتها الثالث كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطب فإن القول كالسهم والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف والقلب كالساعد الذي يضرب به وفي متعلق قوله في أنفسهم قولان أحدهما بقوله بليغا أي قولا بليغا في أنفسهم وهذا حسن من جهة المعنى ضعيف من جهة الإعراب لأن صفة الموصوف لا تعمل فيما قبلها والقول الثاني أنه متعلق بقل وفي المعنى على هذا قولان أحدهما قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم بل مسرا لهم النصيحة والثاني أن معناه قل لهم في معنى أنفسهم كما يقال قل لفلان في كيت وكيت أي في ذلك المعنى قلت وهذا القول أحسن ثم قال تعالى وما ارسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله قال ابن كثير أي إنما فرضت طاعته على من أرسلته اليهم وقال ابن القيم هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة وعظم شأنها وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلا ليطاعوا بإذنه فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم لأن طاعتهم طاعة مرسلهم وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فقد كذب الرسل والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك وتتعين عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم فما لهم لا يطيعونك ويؤمنون بك والإذن ههنا هو الإذن الأمري لا الكوني إذ لو كان إذنا كونيا قدريا لما تخلفت طاعتهم وفي ذكره نكتة(112/487)
498 ... وهي أنه بنفس إرساله تتعين طاعته وارساله نفسه إذن في طاعته فلا تتوقف على نص آخر سوى الارسال بأمر فيه بالطاعة بل متى تحققت رسالته وجبت طاعته فرسالته نفسها متضمنة للاذن في الطاعة ويصح أن يكون الإذن ههنا إذنا كونيا قدريا ويكون المعنى ليطاع بتوفيق الله وهدايته فتضمن الآية الأمرين الشرع والقدر ويكون فيها دليل على أن أحدا لا يطيع رسله إلا بتوفيقه وارشاده وهدايته وهذا حسن جدا والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم فإذا كانت الطاعة المتابعة لغيرهم لم تحصل الفائدة المقصودة من ارسالهم وقوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستفغروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما قال ابن القيم لما علم سبحانه ان المرسل إليهم لا بد لهم من ظلم لأنفسهم واتباع لأهوائهم أرشدهم إلى ما يدفع عنهم شر ذلك الظلم وموجبه وهو شيئان أحدهما منهم وهو استغفارهم ربهم عز وجل والثاني من غيرهم وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إذا جاؤوه وانقادوا له واعترفوا بظلمهم فمتى فعلوا ذلك وجدوا الله توابا رحيما يتوب عليهم فيمحو أثر سيئاتهم ويقيهم شرها ويزيدهم مع ذلك رحمته وبره واحسانه فإن قلت فما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية وهل كلام بعض الناس في دعوى المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده والاستشفاع به والإستدلال بهذه الآية على ذلك صحيح أم لا قيل أما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية(112/488)
499 ... فالاستغفار وأن يتوب إلى الله توبة نصوحا في كل زمان ومكان ولا يشترط في صحة التوبة المجيء الى قبره والاستغفار عنده بالإجماع وأما المجيء إلى قبره والاستغفار عنده والاستشفاع به والاستدلال بالآية على ذلك فهو استدلال على ما لا تدل الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات لأنه ليس في الآية الا المجيء إليه صلى الله عليه وسلم لا المجيء إلى قبره واستغفاره لهم لاستشفاعهم به بعد موته فعلم أن ذلك باطل يوضح ذلك أن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما فهموا هذا من الآية فعلم أن ذلك بدعة وأكثر ما استدل به من أجاز ذلك رواية العتبي عن أعرابي مجهول على أن القصة لا نعلم لها اسنادا ومثل هذا لو كان حديثا أو أثرا عن صحابي لم يجز الاحتجاج به ولم يلزمنا حكمه لعدم صحته فكيف يجوز الاحتجاج في هذا بقصة لا تصح عن بدوي لا يعرف ثم قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال ابن القيم أقسم سبحانه بأجل مقسم به وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم الايمان ولا يكونون من أهله حتى يحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة ما من صيغ العموم ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلون حكمه بالإنشراح ويقابلونه بالقبول لا يأخذونه على إغماض ويشربونه على قذى فإن هذا مناف للإيمان بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر ومتى أراد العبد شاهدا فلينظر في حاله ويطالع(112/489)
500 ... قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد وكم من حرارة في أكبادهم منها وكم من شجى في حلوقهم من موردها ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله ويسلموا تسليما فذكر الفعل مؤكدا له بالمصدر القائم مقام ذكره مرتين وهو الخضوع والانقياد لما حكم به طوعا ورضى وتسليما لا قهرا أو مصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء اليه يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليماته انتهى وقد ورد في الصحيح أن سبب نزولها قصة الزبير لما اختصم هو والأنصاري في شراج الحرة ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا كان سبب نزولها مخاصمة في مسيل ماء قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء فلم يرضه الأنصاري فنفى تعالى عنه الإيمان بذلك فما ظنك بمن لم يرض بقضائه صلى الله عليه وسلم وأحكامه في أصول الدين وفروعه بل إذا دعوا إلى ذلك تولوا وهم معرضون ولم يكفهم ذلك حتى صدوا الناس عنه ولم يكفهم ذلك حتى كفروا أو بدعوا من اتبعه صلى الله عليه وسلم وحكمه في أصول الدين وفروعه ورضي بحكمه في ذلك ولم يبغ عنه حولا وقوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم المعنى والله أعلم أي لو اوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني اسرائيل من(112/490)
501 ... قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل منهم وهذا توبيخ لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد الشجار أي نحن لم نكتب عليهم ذلك بل إنما أوجبنا عليهم ما في وسعهم فما لهم لا يحكمونك ولا يرضون بحكمك ثم قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا واذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما قال ابن القيم أخبر تعالى أنهم لو فعلوا ما يعظهم به وهو امره ونهيه المقرون بوعده ووعيده لكان فعل أمره وترك نهيه خيرا لهم في دينهم ودنياهم وأشد تثبيتا لهم على الحق وتحقيقا لإيمانهم وقوة لعزائمهم واراداتهم وثباتا لقلوبهم عند جيوش الباطل وعند واردات الشبهات المضلة والشهوات المردية فطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي سبب ثبات القلب وقوته وقوة عزائمه وثبات القلب عليها ومخالفته تثمر زيغ القلب واضطرابه وعدم ثباته ثم قال تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما فهذه أربعة أنواع من الجزاء المرتب على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أحدها حصول الخير المطلق بها الثاني التثبت والقوة المتضمن للنصر والغلبة والثالث حصول الأجر العظيم لهم في الآخرة والرابع هدايتهم الصراط المستقيم وهذه الهداية هي هداية ثانية اوجبتها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته صلى الله عليه وسلم ثمرة الهداية السابقة عليها فهي محفوفة بهدايتين هداية قبلها وهي سبب الطاعة وهداية بعدها هي ثمرة لها وهذا يدل على انتفاء هذه الأمور الأربعة عند انتفاء طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم(112/491)
502 ... ثم قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال ابن القيم فأخبر سبحانه أن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب مرافقة المنعم عليهم وهم أهل السعادة الكاملة وهم أربعة أصناف النبيون وهم أفضلهم ثم الصديقون وهم بعدهم في الدرجة ثم الشهداء ثم الصالحون فهؤلاء المنعم عليهم النعمة التامة وهم السعداء الفائزون ولا فلاح لأحد إلا بمرافقتهم والكون معهم ولا سبيل إلى مرافقتهم إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل اليها إلا بمعرفة سنته وما جاء به فدل على أن من عدم العلم بسنته وما جاء به فليس له إلى مرافقة هؤلاء سبيل بل هو ممن يعض على يديه يوم القيامة ويقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا قلت ما لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع إلى مرافقة هؤلاء المنعم عليهم سبيل وكيف يكون له سبيل إلى ذلك وعنده أن من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فهو إما زنديق أو مبتدع وأنى له بطاعة الله ورسوله وهذا أصل اعتقاده الذي بنى عليه دينه ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون إذا حكموا غير الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذوا حكمه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون قال المصنف وقوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أبو بكر بن عياش في الآية إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا الى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض وقال ابن القيم قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان(112/492)
503 ... الشريعة والدعاء الى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة الى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره فالشرك والدعوة الى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هوالمعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته اذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الارض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة الى غير الله ورسوله انتهى وبهذا يتبين وجه مطابقة الآية للترجمة لأن من يدعو الى التحاكم إلى غير ما أنزل الله والى الرسول فقد أتى بأعظم الفساد قال وقوله واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون قال ابو العالية في الآية يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الارض والسماء بالطاعة قلت ومطابقة الآية للترجمة ظاهر لأن من دعا إلى التحاكم الى غير ما أنزل الله فقد أتى بأعظم الفساد وفي الآية دليل على وجوب اطراح الرأي مع السنة وإن ادعى صاحبه أنه مصلح وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل الله والحذر من العجب بالرأي(112/493)
504 ... قال وقوله أفحكم الجاهلية يبغون الآية قال ابن كثير ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير وعدل الناهي عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكز خان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملة الاسلامية وغيرها وفيا كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره فصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير قال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون أي يريدون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء قلت وفي الآية إشارة إلى أن من ابتغى غير حكم الله ورسوله فقد ابتغى حكم الجاهلية كائنا ما كان قال عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة باسناد صحيح ش هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي الشافعي في كتاب الحجة على تارك المحجة باسناد صحيح كما قال(112/494)
505 ... المصنف عن النووي وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة ورواه الطبراني أبو بكر بن عاصم والحافظ وأبو نعيم في الأربعين التي شرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وقال ابن رجب تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ذكرها وتعقبه بعضهم قلت ومعناه صحيح قطعا وإن لم يصح اسناده وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية وقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وقوله فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم وغير ذلك من الآيات فلا يضر عدم صحة اسناده قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الإيمان الواجب ولا يكون من أهله قوله حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال بعضهم هواه بالقصر أي ما يهواه أي تحبه نفسه وتميل اليه ثم المعروف في استعمال الهوى عند الاطلاق أنه الميل الى خلاف الحق ومنه ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقد يطلق على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره وربما استعمل في محبة الحق خاصة والانقياد اليه كما في حديث صفوان بن عسال أنه سئل هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الهوى الحديث قال ابن(112/495)
506 ... رجب أما معنى الحديث فهو أن الانسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع وذم سبحانه من كره ما احبه الله تعالى أو أحب ما كره الله كما قال ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الاتيان بما وجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب اليه منه كان ذلك فضلا وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فازدادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضي بما يرضي به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ورجع الى تكميل المحبة الواجبة فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم الآية وكذلك البدع إنما(112/496)
507 ... تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء وكذلك المعاصي انما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه الله وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب علىالمؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والصديقين والأنبياء والشهداء والصالحين عموما ولهذا كان علامة وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله وتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما وبهذا يكون الدين كله لله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب فتجب عليه التوبة من ذلك والرجوع الى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضى الله ورسوله على هوى النفس ومرادها انتهى ملخصا ومطابقة الحديث للباب ظاهرة من جهة ان الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الحكم وغير فإذا حكم بحكم أو قضى بقضاء فهو الحق الذي لا محيد للمؤمن عنه ولا اختيار له بعده قال المصنف وقال الشعبي كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي نتحاكم الى محمد عرف أنه لا يأخذ الرشوة وقال المنافق نتحاكم الى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما اليه فنزلت ألم تر الى الذين يزعمون الآية ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر بنحوه قوله كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة لم أقف على تسمية(112/497)
508 ... هذين الرجلين وقد روى ابن اسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم قال كان بين الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشير كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فدعوهم الى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله فيهم ألم تر إلى الذين يزعمون الآية فيحتمل أن يكون المنافق المذكور في قصة الشعبي أحد هؤلاء بل روى الثعلبي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشر قوله عرف أنه لا يأخذ الرشوة هي بتثليث الراء قال أبو السعادات وهو الوصلة الى الحاجة بالمصانعة وأصله من الرشاء الذي يتوصل به الى الماء والراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ قلت فعلى هذا رشوه الحاكم هي ما يعطاه ليحكم بالباطل سواء طلبها أم لا وفيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن أعداءه يعلمون عدله في الأحكام ونزاهته عن قذر الرشوة صلى الله عليه وسلم بخلاف حكام الباطل قوله فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة لم أقف على تسمية هذا الكاهن وفي قصة رواها ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في سبب نزول الآية قال فتفاخرت النضير وقريظة فقالت النضير نحن أكرم من قريظة وقالت قريظة نحن أكرم منكم فدخلوا المدينة إلي أبي برزة الكاهن الأسلمي وفي بعض النسخ أبي بردة الأسلمي وذكر القصة وابو برزة هذا غير أبي برزة الصحابي قال المصنف وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما نترافع(112/498)
509 ... الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر الى كعب بن الأشرف ثم ترافعا الى عمر فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك قال نعم فضربه بالسيف فقتله ش هذه القصة قد رويت من طرق متعددة من أقربها لسياق المصنف ما رواه الثعلبي وذكره البغوي عن ابن عباس في قوله الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا الآية قال نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما للنبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه فقال للمنافق أكذلك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول هذه القصة عن مكحول وقال في آخرها فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عمر قد قتل الرجل وفرق الله بين الحق والباطل على لسان عمر فسمي الفاروق ورواه أبو إسحاق بن دحيم في تفسيره على ما ذكره شيخ الاسلام وابن كثير ورواه ابن أبي حاتم وابن مردوية من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود وذكر القصة وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن فأنزل الله فلا وربك لا يؤمنون(112/499)
510 ... الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله فكره الله أن يسن ذلك بعد فقال ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا أنفسكم إلى قوله واشد تثبيتا وبالجملة فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الاسناد ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها وكعب بن الاشرف المذكور هنا هو طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم ذكر ابن اسحاق وغيره أنه كان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة ممن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت امه من بني النضير قالوا فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب الى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الاسلام حتى انزل الله فيه الم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا ثم لما رجع الى المدينة أخذ ينشد الاشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلىالله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله وذكر قصة قتله وقتله محمد بن مسلمة وابو نائلة وابو عبس بن جبر وعباد بن بشر رضي الله عنهم وفي القصة من الفوائد أن الدعاء الى تحكيم غير الله ورسوله من صفات المنافقين ولو كان الدعاء الى تحكيم امام فاضل ومعرفة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من العلم والعدل في الاحكام وفيها الغضب لله تعالى والشدة في أمر الله كما فعل عمر رضي الله عنه وفيها أن من طعن في احكام النبي صلى الله عليه وسلم أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى وفيها جواز تغيير المنكر باليد وإن لم يأذن فيه الإمام وكذلك(112/500)
511 ... تعزير من فعل شيئا من المنكرات التي يستحق عليها التعزير لكن إذا كان الإمام لا يرضى بذلك وربما أدى إلى وقوع فرقة أو فتنة فيشترط إذنه في التعزيز فقط وفيها أن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد فإن اليهود يعلمون أن محمدا رسول الله ويتحاكمون إليه في كثير من الامور باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات أي من أسماء الله وصفاته والمراد ما حكمه هل هو ناج أو هالك ولما كان تحقيق التوحيد بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله والإيمان باسمائه وصفاته نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك وأيضا فالتوحيد ثلاثة أنواع توحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات وتوحيد العبادة والأولان وسيلة إلى الثالث فهو الغاية والحكمة المقصود بالخلق والأمر وكلها متلازمة فناسب التنبيه على الإيمان بتوحيد الصفات قال وقول الله تعالى وهم يكفرون بالرحمن الآية أي يجحدون هذا الاسم لا أنهم يجحدون الله فإنهم يقرون به كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله والمراد بهذا كفار قريش أو طائفة منهم فإنهم جحدوا هذا الاسم عنادا أو جهلا ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي يوم الحديبية اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا(113/1)
512 ... لا نعرف الرحمن ولا الرحيم وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فإنه قبحة الله كان قد تسمى بهذا الاسم وأما كثير من أهل الجاهلية فيقرون بهذا الاسم كما قال بعضهم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق قال ابن كثير وهم يكفرون بالرحمن أي لا يقرون به لانهم يأبون من وصف الله بالرحمن الرحيم ومطابقة الآية للترجمة ظاهره لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرا فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة فإن الجهمية والمعتزلة ونحوهم وان كانوا يقرون بجنس الأسماء والصفات فعند التحقيق لا يقرون بشيء لأن الأسماء عندهم أعلام محضة لا تدل على صفات قائمة بالرب تبارك وتعالى وهذا نصف كفر الذين جحدوا اسم الرحمن وقوله قل هو ربي لا إله إلا الله هو عليه توكلت وإليه متاب أي قل يا محمد رادا عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى هو أي الرحمن عز وجل ربي لا اله الا هو أي لا معبود سواه عليه توكلت وإليه متاب أي اليه مرجعي وأوبتي وهو مصدر من قول القائل تبت متابا وتوبة قاله ابن جرير وفي الآية دليل على أن التوكل عبادة وعلى أن التوبة عبادة واذا كان كذلك فالتوبه الى غيره شرك ولما قال سارق وقد قطعت يده للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم اني أتوب اليك ولا اتوب الى محمد قال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله رواه احمد(113/2)
513 ... قال وفي صحيح البخاري قال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ش هذا الاثر رواه البخاري مسندا لا معلقا لكنه في بعض الروايات علقه أولا ثم ذكر اسناده وفي بعضها ساق اسناده أولا فرواه عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي به ولفظه أتحبون ان يكذب الله ورسوله قوله بما يعرفون أي بما يفهمون قال الحافظ وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبدالله بن داود عن معروف في آخره ودعوا ما ينكرون أي ما يشتبه عليهم فهمه قال وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة رواه مسلم قال ومن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في احاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة الى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب انتهى وما ذكره عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن فهل يقول مالك أو غيره من علماء الاسلام إن(113/3)
514 ... آيات الصفات لا تتلى على العوام وما زال العلماء قديما وحديثا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يقرؤون آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم بل شرط الإيمان هو الإيمان بالله وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين بل نقول من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين ومن وجد في قبله حرجا من ذلك فهو من المنافقين ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى فلما رأوا أحاديث الصفات مبطلة لمذاهبهم قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين لئلا يعلموا ضلالهم وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك وفي الأثر دليل على انه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثم به وليس ذلك على اطلاق وإن كثيرا من الدين والسنن يجهله الناس فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه فلا يترك العالم تحديثهم بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي احسن قال وروى عبدالرزاق عن معمر عن طاوس عن ابيه عن ابن عباس أنه رأى رجلا انتقض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك فقال ما فرق هولاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه انتهى ش قوله روى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني الإمام الحافظ صاحب التصانيف ك المصنف وغيره روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وخلق لا يحصون مات سنة إحدى عشرة ومائتين ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري نزل اليمن ثقة(113/4)
515 ... ثبت مات سنة أربع وخمسين ومائة وله ثمان وخمسون سنة وابن طاووس هو عبدالله بن طاووس اليماني ثقة فاضل عابد مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأبو طاووس بن كيسان اليماني ثقة فقيه فاضل من جلة أصحاب ابن عباس وعلمائهم مات سنة ست ومائة قوله إنه رأى رجلا لم يسم هذا الرجل قوله انتفض أي ارتعد لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستنكره إما لأن عقله لا يحتمله أو لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره قوله فقال أي ابن عباس وهو عبدالله رضي الله عنه قوله ما فرق هؤلاء يحتمل وجهين أحدهما أن تكون ما استفهامية إنكارية وفرق بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع أي ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها والمراد الانكار عليهم فإن الواجب على العبد التسليم والاذعان والإيمان بما صح عن الله وعن رسوله صلىالله عليه وسلم وإن لم يحط به علما ولهذا قال الشافعي آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله والثاني أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء ويجوز تخفيفها وما نافية أي ما فرق هذا واضرابه بين الحق والباطل ولا عرفوا ذلك فلهذا قال يجدون رقة وهي ضد القسوة أي لينا وقبولا للمحكم ويهلكون عند متشابهه أي ما يشتبه عليهم فهمه لأن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم ولأن في القرآن متشابها لا يعرف معناه(113/5)
516 ... كالألفاظ الأعجمية فإن لفظ التشابه والمتشابه يدل على بطلان ذلك وإنما المراد بالمتشابه أي ما يشتبه فهمه على بعض الناس دون بعض فالمتشابه أمر نسبي اضافي فقد يكون مشتبها بالنسبة الى قوم بينا جليا بالنسبة الى آخرين ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج على قوم يتراجعون في القرآن فغضب وقال بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل لأن يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به رواه ابن سعد وابن الضريس وابن مردويه وأما قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فقال ابن كثير يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس او بعضهم فمن رد ما اشتبه عليه الى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال هن أم الكتاب أي أصله الذي يرجع اليه عند الاشتباه وأخر متشابهات أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل أشياء أخرى من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد ولهذا قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ضلال وخروج عن الحق الى الباطل فيتبعون ما تشابه منه أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه الى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما الحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال ابتغاء الفتنة أي الاضلال لأتباعهم(113/6)
517 ... إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم انتهى وقال ابن عباس فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم ويلبسون فلبس الله عليهم وما يعلم تأويله إلا الله قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وقوله وما يعلم تأويله الا الله تقدم كلام ابن عباس وقال مقاتل والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن قلت فهذا التأويل الذي انفرد الله بعلمه هو العلم بحقائق الأشياء وما تؤول اليه وعواقبها كالاخبار بما يكون وما في الجنة من النعيم وما في النار من العذاب فإن هذه الأمور وإن علمناها لكن العلم بحقائقها مما لا يعلمه الا الله ولهذا قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فعلى هذا يكون الوقف على الجلالة كما روي عن جماعة من السلف وقيل الوقف على قوله والراسخون في العلم أي ما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم فأما أهل الزيغ فلا يعلمون تأويله وعلى هذا فالمراد بتأويله هو تفسيره وفهم معناه وهذا هو المروي عن ابن عباس وجماعة من السلف قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال مجاهد والراسخون في العلم يعرفون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس وغيره فقد تبين ولله الحمد أنه ليس في الآية حجة للمبطلين في جعلهم ما أخبر الله به من صفات كماله هو المتشابه ويحتجون على باطلهم بهذه الآية فيقال واين في الآية ما يدل على مطلوبكم وهل جاء نص عن الله أو عن رسوله صلىالله عليه وسلم انه جعل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله متشابها ولكن أصل ذلك أنهم ظنوا أن التأويل المراد في الآية هو صرف اللفظ عن(113/7)
518 ... ظاهره الى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين وهو اصطلاح حادث فأرادوا حمل كلام الله على هذا الاصطلاح فضلوا ضلالا بعيدا وظنوا أن لنصوص الصفات تأويلا يخالف ما دلت عليه لا يعلمه إلا لله كما يقوله أهل التجهيل أو يعلمه المتأولون كما يقوله أهل التأويل وفي الأثر المشروح دليل على ذكر آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم وأن من رد شيئا منها أو استنكره بعد صحته فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل بل هو من الهالكين وأنه ينكر عليه استنكاره قال ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر بالمعنى وقد روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال هذا لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا لا نكتب الرحمن ولا ندري ما الرحمن ولا نكتب الا باسمك اللهم فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن الآية وفيه دليل على أن من أنكر شيئا من الصفات فهو من الهالكين لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك سواء فهمه أم لم يفهمه وسواء قبله عقله أو أنكره فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صح عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذكر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا(113/8)
519 ... باب قول الله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية ش المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية كنسبة النعم الى غير الله فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا من أولي معروفا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره ومن كتمه فقد كفره وفي رواية جيدة لأبي داود من أبلي فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره قال المنذري من أبلي أي من أنعم عليه الابلاء الانعام فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدره الله على يدي انسان من شكره فذكر معروف رب العالمين وآلائه واحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرا قال المصنف قال مجاهد ما معناه هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم لفظه كما في الدر قال المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم قال ابن القيم ما معناه لما أضافوا النعمة الى غير الله فقد انكروا نعمة الله بنسبتها الى غيره فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالأبرص والأقرع الذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراها وقالا إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في انعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم(113/9)
520 ... ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه وقال عون ابن عبدالله يقولون لولا فلان لم يكن كذا ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ولفظه كما في الدر لولا فلان اصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وعون هذا هو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابو عبدالله الكوفي ثقة عابد مات قبل سنة عشرين ومائة قوله لولا فلان الى آخره قال ابن القيم ما معناه هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن وإضافتها الى من لم يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وغايته أن يكون جزءا من أجزاء السبب أجرى الله نعمته على يده والسبب لا يستقل بالايجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه فهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب من إنعامه وهو تعالى كما أنه قد ينعم بذلك السبب فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر وقد يسلبه سببيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة قال ابن قتيبة يقولون هذا بشفاعة آلهتنا ش اب قتيبة هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ صاحب التفسير والمعارف وغيرها وثقة الخطيب وغيره ومات سنة سبع وستين ومائتين او قبلها قوله يقولون هذا بشفاعة آلهتنا قال ابن القيم هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق(113/10)
521 ... إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمه فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له فمن المنعم على الحقيقة سواه قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فالعبد لا خروج له عن نعمة الله وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا ذم سبحانه من آتاه شيئا من نعمه فقال إنما أوتيته على علم عندي قال المصنف وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه الى غيره ويشرك به قال بعض السلف هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير ش قوله وقال أبو العباس هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله قال بعض السلف لم أقف على تسمية هذا البعض قوله كانت الريح طيبة والملاح حاذقا الملاح هو سائس السفينة والمعنى أن السفن اذا جرين بريح طيبة بأمر الله جريا حسنا نسبوا ذلك الى طيب الريح وحذق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما فيكون نسبة ذلك إلى طيب(113/11)
522 ... لريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر الى الأنواء وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره وإنما اراد أنه سبب لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببا أو جزء وسبب ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته فلم يكن سببا أصلا فلا يليق بالمنعم عليه المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير ويضيف النعم إلى غيره بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له فإن ذلك من شكرها وضده من انكارها ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان الى من كان سببا أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق قال المصنف وفيه اجتماع الضدين في القلب باب قول الله فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز بل ربما تجري على لسانه من غير قصد كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر لا يقصدها فإن قيل الآية نزلت في الأكبر(113/12)
523 ... قيل السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره فيما ذكره المصنف عنه بأنواع من الشرك الأصغر وفسرها أيضا بالشرك الأكبر وفسرها غيره بشرك الطاعة وذلك لأن الكل شرك ومعنى الآية أن الله تبارك وتعالى نهى الناس أن يجعلوا له أندادا اي امثالا في العبادة والطاعة وهم يعلمون ان الذي فعل تلك الأفعال فهو ربهم وخالقهم وخالق من قبلهم وجاعل على الأرض فراشا والسماء بناء والذي انزل من السماء ماء فأخرج به من أنواع الشراب رزقا لهم فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أندادا قال ابن القيم فتأمل هذه وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها وظفر العقل بها بأول وهلة وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال فكيف تجعلون له أندادا وقد علمتم انه لا ند له يشاركه في فعله قال المصنف قال ابن عباس في الآية الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو ان تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لو لا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك رواه ابن أبي حاتم ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف وسنده جيد قوله هو الشرك اخفى من دبيب النمل الى آخره أي إن هذه الأمور من الشرك خفية في الناس لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها الا القليل وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل فإنه خفي فكيف إذا كان على صفاة فكيف إذا كانت سوداء فكيف إذا كانت في ظلمة الليل وهذا(113/13)
524 ... يدل على شدة خفائه على من يدعي الاسلام وعسر التخلص منه ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال ايها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه رواه أحمد والطبراني قوله وهو أن تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي اي إن من الحلف بغير الله الحلف بحياة المخلوق وسيأتي الكلام عليه قوله وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص اي السراق والمعنى إن من الشرك نسبة عدم السرقة الى الكلبة التي اذا رأت السراق نبحتهم فاستيقظ أهلها وهرب السراق وربما امتنعوا من اتيان المحل الذي هي فيه خوفا من نباحها فيعلم بهم اهلها كما روى بن أبي الدنيا في الصمت عن ابن عباس قال إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه يقول لولاه لسرقنا الليلة قوله ولولا البط في الدار لأتى اللصوص البط بفتح الموحدة طائر معروف يتخذ في البيوت وإذا دخلها غريب صلح واستنكره وهو الاوز بكسر الهمزة وفتح الواو ومعناها كالذي قبله والواجب نسبة ذلك الى الله تعالى فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون قوله وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت سيأتي الكلام عليها إن شاء الله(113/14)
525 ... قوله وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هكذا ثبت بخط المصنف بلا تنوين والمعنى لا تجعل فيها أي في هذه الكلمة فلان فتقول لولا الله وفلان بل قل لولا الله وحده ولا تقل لولا الله وفلان فهو نهي عن ذلك قوله هذا كله به أي بالله شرك وأعاد الضمير على الله لانه قد تقدم ذكر اسمه عز وجل فتبين أن هذه الأمور ونحوها من الألفاظ الشركية الخفية كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه قال وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ش قوله عن عمر بن الخطاب هكذا وقع في الكتاب وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه احمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان وقال الزين العراقي في اماليه إسناده ثقات قوله من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك قال بعضهم ما معناه رواه الترمذي بأوالتي للشك وفي ابن حبان والحاكم عدمها وفي رواية للحاكم كل يمين يحلف بها دون الله شرك وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وعن بريدة مرفوعا من حلف بالأمانة فليس منا رواه أبو داود والأحاديث في ذلك كثيرة وقد تقدم كلام ابن عباس في عده ذلك من الأنداد وقال كعب إنكم تشركون في قول الرجل كلا وأبيك كلا والكعبة كلا وحياتك وأشباه هذا احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره رواه ابن أبي الدنيا في الصمت(113/15)
526 ... وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره قال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله بالاجماع انتهى ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه فإن هذا قول باطل وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك بل ذلك محرم ولهذا اختار ابن مسعود رضي الله عنه أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات فإن قيل أن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن قيل ذلك يختص بالله تبارك وتعالى فهو يقسم بما شاء من خلقه لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته والهيته وعلمه وحكمته وغير ذلك من صفات كماله وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى فالله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله قال الشعبي الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق قال ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من ان أقسم بغيره فأبر وقال مطرف بن عبد الله إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها ذكرهما ابن جرير فان قيل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الاسلام فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفلح وأبيه إن صدق رواه البخاري وقال للذي سأله أي الصدقة أفضل أما وأبيك لتنبأنه(113/16)
527 ... رواه مسلم ونحو ذلك من الأحاديث قيل ذكر العلماء عن ذلك اجوبة أحدها ما قاله ابن عبد البر في قوله أفلح وأبيه إن صدق هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها اسماعيل بن جعفر أفلح والله إن صدق قال وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح ولم تقع في رواية مالك أصلا وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله وابيه من قوله والله انتهى وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره الثاني أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به والنهي وإنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره البيهقي وقال النووي إنه المرضى قلت هذا جواب فاسد بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حلف مرة باللات والعزى ويبعد ان يكون أراد حقيقة الحلف بهما ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم غاية ما يقال أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه أما أن يكون ذلك أمرا جائزا للمسلم أن يعتاده فكلا وايضا فهذا يحتاج إلى نقل ان ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك(113/17)
528 ... الثالث أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم وانما وقع النهي عما يقصد به التعظيم قلت وهذا افسد من الذي قبله وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه وايضا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق وأيضا فهذا يحتاج الى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم الرابع أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله وهذا الجواب ذكره الماوردي قال السهيلي أكثر الشراح عليه حتى قال ابن العربي روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي ولا يصح ذلك وكذلك قال غيرهم وهذا الجواب هو الحق يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت رواه البخاري ومسلم وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فلا يحلف الا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال ولا تحلفوا بآبائكم رواه مسلم وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد رواه النسائي وابن ماجه وهذا لفظه وفي هذا المعنى أحاديث فما ورد(113/18)
529 ... فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك وقوله فقد كفر أو أشرك أخذ به طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شرك قالوا ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك وقال الجمهور لا يكفر كفرا ينقله عن الملة لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال في الحديث الصحيح من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وفي رواية فليستغفر فهذا كفارة له في كونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به لاأنه لتجديد إسلامه ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقا أو كاذبا فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أرتربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبا فهذا شرك أكبر بلا ريب لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله وهذا ما بلغ اليه شرك عباد الأصنام لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركا منهم فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة والحديث دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقا لأنه لم يذكر فيه كفارة للحلف بغير الله(113/19)
530 ... ولا في غيره من الأحاديث فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد والاستغفار وقال بعض المتأخرين تجب الكفارة بالحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وهذا قول باطل ما أنزل الله به من سلطان فلا يلتفت اليه وجوابه المنع قال المصنف وقال ابن مسعود لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر عن ابن مسعود ولم يعزه وقد ذكره ابن جرير غير مسند أيضا قال وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه ورواه الطبراني باسناد موقوفا هكذا قال المنذري ورواته رواة الصحيح قوله لأن أحلف بالله إلى آخره أن هي المصدرية والفعل بعدها منصوب في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء وأحب خبره ومعناه ظاهر وانما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب اسهل من سيئة الشرك ذكره شيخ الاسلام وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس وفيه دليل على أن الشرك الأصغر اكبر من الكبائر وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لا بد من أحدهما قال وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أبو داود بسند صحيح ش هذا الحديث رواه ابو داود كما قال المصنف ورواه أحمد وابن أبي(113/20)
531 ... شيبة والنسائي وابن ماجه والبيهقي وله علة وله شواهد وهو صحيح المعنى بلا ريب وسيأتي الكلام على معناه في باب ما شاء الله وشئت إن شاء الله قال وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويجوز أن يقول بالله ثم بك قال ويقول لولا الله ثم فلان ولا تقولوا لولا الله وفلان هذا الأثر رواه المصنف غير معزو وقد رواه عبدالرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن مغيرة قال كان ابراهيم يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويرخص أن يقول أعوذ بالله ثم بك ويكره أن يقول لولا الله وفلان ويرخص أن يقول لولا الله ثم فلان لفظ ابن أبي الدنيا وذلك والله أعلم لأن الواو تقتضي مطلق الجمع فمنع منها للجمع لئلا توهم الجمع بين الله وبين غيره كما منع من جمع اسم الله واسم رسوله في ضمير واحد وثم إنما تقتضي الترتيب فقط فجاز ذلك لعدم المانع ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنه الآية باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله أي من الوعيد لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية إذ القلب الممتلىء بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك(113/21)
532 ... قال عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله رواه ابن ماجه بسند حسن ش هذا الحديث رواه ابن ماجه في سننه وترجم عليه من حلف له بالله فليرض حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه فقال لا تحلفوا بآبائكم الحديث وهذا إسناد جيد على شرط مسلم عند الحاكم وغيره فإنه متصل ورواته ثقات بل قد روى مسلم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن ابن عمر بلفظ لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله وليصمت وليس فيه هذه الزيادة قوله لا تحلفوا بآبائكم تقدم ما يتعلق به في الباب قبله قوله من حلف بالله فليصدق أي وجوبا لأن الصدق واجب ولو لم يحلف بالله فكيف اذا حلف به وأيضا فالكذب حرام لو لم يؤكد الخبر باسم الله فكيف إذا أكده باسم الله قوله ومن حلف له بالله فليرض أي وجوبا كما يدل عليه قوله ومن لم يرض فليس من الله ولفظ ابن ماجه ومن لم يرض بالله فليس من الله وهذا وعيد كقوله تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء قال ابن كثير اي فقد برىء من الله وهذا عام في(113/22)
533 ... الدعاوى وغيرها ما لم يفض إلى إلغاء حكم شرعي كمن تشهد عليه البينة الشرعية فيحلف على تكذيبها فلا يقبل حلفه ولهذا لما رأى عيسى عليه السلام رجلا يسرق فقال له سرقت قال كلا والله الذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عيني رواه البخاري وفيه وجهان أحدهما قال القرطبي ظاهر قول عيسى عليه السلام للرجل سرقت أنه خبر جازم لكونه أخذ مالا من حرز في خفية وقول الرجل كلا نفي لذلك ثم أكده باليمين وقول عيسى آمنت بالله وكذبت عيني أي صدقت من حلف بالله وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ سرقة فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق أو ما أذن له صاحبه في أخذه أو أخذه ليقلبه وينظر فيه ولم يقصد الغصب والاستيلاء قلت وهذا فيه نظر وصدق الحديث يرده وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى رجلا يسرق فأثبت صلى الله عليه وسلم سرقته الثاني ما قاله ابن القيم إن الله تعالى كان في قلبه أجل من أن يحلف به أحد كاذبا فدار الأمر بين تهمة الحالف وتهمة بصره فرد التهمة الى بصره كما ظن آدم عليه السلام صدق ابليس لما حلف له أنه ناصح قلت هذا القول أحسن من الأول وهو الصواب إن شاء الله تعالى وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوى كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين فيحلف فيجيب عليه أن يرضى(113/23)
534 ... باب قول ما شاء الله وشئت أي ما حكم التكلم بذلك هل يجوز أم لا وإذا قلنا لا يجوز فهل هو من الشرك أم لا قال عن قتيلة أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت رواه النسائي وصححه ش هذا الحديث رواه النسائي في السنن واليوم والليلة وهذا لفظه في اليوم والليلة أخبرنا يوسف بن عيسى قال ثنا الفضل بن موسى قال أنا مسعر عن معبد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة امرأة من جهينة أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وتشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي عليه السلام إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وقول أحدكم ما شاء الله ثم شئت رواه عن أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني ابراهيم بن طهمان عن مغيرة عن معبد بن خالد عن قتيلة امراة من جهينة قالت دخلت يهودية على عائشة فقالت إنكم تشركون وساق الحديث ولم يذكر عبدالله بن يسار والمشهور ذكره وقد رواه ابن سعد والطبراني وابن منده وأشار ابن سعد الى انها ليس لها غيره قوله عن قتيلة هو بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرا(113/24)
535 ... بنت صيفي الجهنية أو الأنصارية صحابية قوله إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديدا أو شركا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك وقول ما شاء الله ثم شئت وإن كان الأولى قول ما شاء وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره وعلى النهي عن قول ما شاء الله وشئت جمهور العلماء إلا أنه حكي عن أبي جعفر الداودي ما يقتضي جواز ذلك احتجاجا لقوله تعالى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وقوله وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ونحو ذلك والصواب القول الاول فان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وقال لمن قال له ذلك أجعلتني لله ندا وأقرن من أسمائه تنديدا وشركا على تسميته ومن المحال ان يكون هذا أمرا جائزا وأما ما احتج من القرآن فقد ذكروا عن ذلك جوابين أحدهما ان ذلك لله وحده لا شريك له كما انه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا الثاني أن قوله ما شاء الله وشئت تشريك في مشيئة الله وأما الآية فإنما إخبر بها عن فعلين متغايرين فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لانه الذي قدر ذلك ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام والنبي صلى الله عليه و سلم أنعم عليه بالعتق وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد فالكلام إنما هو فيه والمنع(113/25)
536 ... انما هو منه فإن قلت قد ذكر النحاة أن ثم تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم كالواو فلم جاز ذلك بثم ومنع منه الواو وغاية ما يقال إن ثم تقتضي الترتيب بخلاف الواو فإنها تقتضي مطلق الجمع وهذا لا يغير صورة الاشتراك قبل النهي عن ذلك إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعا وهذا لا يحصل إلا بالواو بخلاف ثم فإنها لا تقتضي الجمع إنما تقتضي الترتيب فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ وأما المعنى فلله تعالى ما يختص به من المشيئة وللمخلوق ما يختص به فلو أتى بثم وأراد أنه شريك لله تعالى في المشيئة كلولا الله ثم فلان مثلا لم يوجد ذلك فالنهي باق بحاله بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو مع عدم هذا الاعتقاد ويشبه ذلك الجمع بين اسم الله واسم غيره في ضمير واحد ولهذا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب قال ومن يعصهما فقد غوى فقال له بئس الخطيب أنت قوله فامرهم النبي صلى الله عليه وسلم اذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة تقدم ما يتعلق بالحلف بغير الله قريبا وفي الحديث من الفوائد معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكثير ممن يدعي الاسلام لا يعرف الشرك الاكبر بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح والنذر لغير الله ويظن أن ذلك من دين الاسلام فعلمت أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالا ومعرفة منهم وفيه فهم الانسان إذا كان له هوى كما نبه عليه المصنف وأن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل وقبول الحق ممن جاء به وإن كان عدوا مخالفا في الدين وإن الحلف بغير الله من الشرك وأن الشرك الأصغر لا يمرق به الانسان من الاسلام قال وله ايضا عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله(113/26)
537 ... وشئت قال أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث رواه النسائي كما قال المصنف لكن في اليوم والليلة وهذا لفظه أخبرنا علي بن خشرم عن عيسى عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجعلتني لله عدلا قل ما شاء الله وحده ورواه ابن ماجه في الكفارات من السنن عن هشام بن عمار عن عيسى نحوه ولفظه إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت الحديث وقد تابع عيسى على هذا الحديث سفيان الثوري وعبدالرحمن المجازلي وجعفر بن عون عن الأجلح وكلهم ثقات وخالفهم القاسم بن مالك وهو ثقة فرواه عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر والأول أرجح ويحتمل أن يكون عند الأجلح عنهما جميعا قوله أجعلتني لله ندا هذه رواية ابن مردويه والرواية عند النسائي وابن ماجه أجعلتني لله عدلا والمعنى واحد قال ابن القيم ومن ذلك أي من الشرك بالله في الألفاظ قول القائل للمخلوق ما شاء الله وشئت كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل ما شاء الله وشئت وذكر الحديث المشروح ثم قال هذا مع أن الله قد اثبت للعبد مشيئة لقوله لمن شاء منكم أن يستقيم فكيف بمن يقول أنا متوكل على الله وعليك وأنا في حسب الله وحسبك وما لي إلا الله وأنت وهذا من الله ومنك وهذا من بركات الله وبركاتك والله لي في السماء وأنت لي في الأرض والله وحياة فلان أو يقول نذرا لله ولفلان وأنا تائب لله ولفلان وأرجو الله وفلانا فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول(113/27)
538 ... القائل ما شاء الله وشئت ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم القائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعله ندا بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء بل لعله أن يكون من أعدائه ندا لرب العالمين فالسجود والعبادة والتوكل والانابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعا وتعبدا والطواف بالبيت والدعاء كل ذلك محض حق الله الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به الى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب فلما وقف بين يديه قال اللهم إني أتوب اليك ولا أتوب الى محمد فقال عرف الحق لأهله قلت إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت فكيف بمن يقول فيه فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ويقول في همزيته هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء وأشباه هذا من الكفر الصريح قال ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال رأيت كاني أتيت على نفر من اليهود قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء(113/28)
539 ... الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال هل أخبرت بها أحدا قلت نعم قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث لم يروه ابن ماجه بهذا اللفظ عن الطفيل إنما رواه عن حذيفة ولفظه حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن عبدالملك ابن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان ان رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أما والله إن كنت لأعرفها لكم قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ورواه أحمد والنسائي بنحوه وفي رواية للنسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة نفسه هذه رواية ابن عيينة ثم ذكر ابن ماجة حديث الطفيل هذا فساق اسناده ولم يذكر اللفظ فقال حدثنا ابن أبي الشوارب ثنا ابن عوانة عن عبد الملك عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة اخي عائشة لأمها عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه هذا لفظ ابن ماجة وهكذا رواه حماد بن سلمة وشعبة وابن إدريس عن عبدالملك فقالوا عن الطفيل وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة فقد تبين أن هذا الحديث المذكور لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ لكن رواه أحمد والطبراني بنحو مما ذكره المصنف(113/29)
540 ... قوله عن الطفيل هو ابن سخبرة وفي حديثه هذا أنه أخو عائشة لأمها وكذا قال الحربي وقال الذي عندي ان الحارث بن سخبرة قدم مكة فخالف أبا بكر فمات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبدالرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها وقيل غير ذلك وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث قال البغوي لا أعلم له غيره قوله رأيت فيما يرى النائم كما روى أحمد والطبراني قوله على نفر من اليهود وفي رواية أحمد والطبراني كأني مررت برهط من اليهود فقلت من أنتم فقالوا نحن اليهود والنفر رهط الانسان وعشيرته وهواسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه قال أبو السعادات قوله فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله أي نعم القوم أنتم لولا ما أنتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد إليه وهذا لفظ الطبراني ولفظ أحمد قال أنتم القوم قوله قالوا وأنت لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر فقالوا له هذا الكلام أي نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك وكذلك جرى له مع النصارى قوله فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت وفي رواية أحمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر وفي رواية الطبراني فما أصبحت أخبرت بها أناسا قوله ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعدم(113/30)
541 ... احتجابه عن الناس كالملوك بحيث اذا أراد أحد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقه بل يصلون إليه ويقضي حاجتهم ويخبرونه بما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ويقصون عليه ما يرونه في المنام بل كان صلى الله عليه وسلم يعتي بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي وكان إذا صلى الصبح كثيرا ما يقول هل رأى أحد منكم رؤيا قوله فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية أحمد فلما أصبحوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية الطبراني فما صلى الظهر قام خطيبا ففيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطب وفيه الخطبة في الأمور المهمة وأما معنى الحمد فقد تقدم في باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وأما الثناء فقال ابن القيم هو تكرار المحامد قوله ثم قال اما بعد في رواية احمد والطبراني ثم قال إن طفيلا رأى رؤيا ولم يذكر أما بعد وفي رواية للطبراني فقام نبي الله على المنبر فقال إن أخاكم رأى رؤيا قد حدثكم بما رأى فيه مشروعيه اما بعد في الخطب في هذ الحديث وإلا فلا يضر فإنها ثابتة في خطبه عليه السلام وفي غيره قوله وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها وفي رواية أحمد والطبراني وانكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم بل كان صلى الله عليه وسلم يكرهها ويستحيي أن يذكرها لأنه لم يأمر بإنكارها فلما جاء الامر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها ولم يستحي في ذلك(113/31)
542 ... وفيه دليل على أنها من الشرك الأصغر إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من اول مرة قالوها وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحياء وأنه من الأخلاق المحمودة قوله فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده هذا على سبيل الاستحباب وإلا فيجوز أن يقول ما شاء الله ثم شاء فلان كما تقدم وفيه أن الرؤيا قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام كما في هذا الحديث وحديث الأذان وحديث الذكر بعد الصلوات باب من سب الدهر فقد آذى الله ش مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة لأن سب الدهر يتضمن الشرك كما سيأتي بيانه ولفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشرك والمكروه ذكره الخطابي قال شيخ الاسلام وهو كما قال وهذا بخلاف الضرر فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه لكن يؤذونه اذا سبوا مقلب الأمور وقال وقول الله تعالى وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر الآية(113/32)
543 ... ش قال ابن كثير يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا قال ابن جرير أي ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الموت نموت ونحيا قال ابن كثير أي يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البدأة والرجعة وتقوله الفلاسفة الدورية المنكرون للصانع المعتقدون في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء الى ما كان عليه فزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهي فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا وما يهلكنا إلا الدهر قال ابن جرير أي ما يهلكنا فيفنينا الا مر الليالي والايام وطول العمر إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم ثم روى باسناد على شرط الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فقال الله في كتابه وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا قال فيسبون الدهر فقال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار قوله وما لهم بذلك من علم قال ابن جرير يعني من يقين علم إن هم إلا يظنون قال ابن كثير يتوهمون ويتخيلون فإن قلت فأين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبرا عن الدهرية المشركين(113/33)
544 ... قيل المطابقة ظاهرة لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه وإن لم يشاركهم في الاعتقاد قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر اقلب الليل والنهار وفي رواية لا تسبوا الدهر فان الدهر هو الله ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري ورواه احمد بهذا اللفظ وأخرجه مسلم بلفظ آخر قوله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر فيه ان سب الدهر يؤذي الله تبارك وتعالى قال الشافعي في تأويله والله أعلم إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الاشياء فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الاشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الاشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الاشياء انتهى قلت والظاهر أن المشركين نوعان أحدهما من يعتقد أن الدهر هو الفاعل فيسبه لذلك فهؤلاء هم الدهرية الثاني من يعتقد أن المدبر للامور هو الله وحده لا شريك له ولكن(113/34)
545 ... يسبون الدهر لما يجري عليهم فيه من المصائب والحوادث فيضيفون ذلك اليه من إضافة الشيء الى محله لا لأنه عندهم فاعل لذلك والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيرا ممن يعتقد الإسلام كقول ابن المعتز يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا وانت والد سوء تأكل الولدا وقول أبي الطيب قبحا لوجهك يا زمان كأنه وجه له من كل قبح برقع وقول الطرفي إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم عليك دهر لأهل الفضل قد خانا وقول الحريري ولا تأمن من الدهر الخؤون ومكره فكم خامل أخنى عليه ونابه ونحو ذلك كثير وكل هذا داخل في الحديث قال ابن القيم وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة أحدها سبه من ليس أهلا للسب فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره متذلل لتسخيره فسابه أولى بالذم والسب منه والثانية أن سبه متضمن للشرك فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق العطاء ورفع من لا يستحق الرفعة وحرم من لا يستحق الحرمان وهو عند شاتميه من أظلم(113/35)
546 ... الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدا وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه الثالثة أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والارض وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه وفي حقيقة الأمر فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل والدهر ليس له من الأمر شيء فمسبتهم الدهر مسبة لله عز وجل ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى فساب الدهر دائر بين امرين لا بد له من أحدهما إما مسبة الله أوالشرك به فإنه إن اعتقد ان الدهر فاعل مع الله فهو مشرك وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى انتهى وأشار ابن أبي حمزة إلى ان النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الادنى وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق إلا ما أذن الشرع فيه لأن العلة واحدة قوله وأنا الدهر قال الخطابي معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور قلت ولهذا قال في الحديث وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي رواية لأحمد بيدي الليل والنهار أجده وأبليه وأذهب بالملوك وفي رواية لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك قال الحافظ وسنده صحيح فقد تبين بهذا(113/36)
547 ... خطا ابن حزم في عده الدهر من أسماء الله الحسنى وهذا غلط فاحش ولو كان كذلك لكان الذين قالوا وما يهلكنا إلا الدهر مصيبين قوله وفي رواية هذه الرواية رواها مسلم وغيره قال المصنف وفيه أنه قد يكون سبا ولو لم يقصده بقلبه باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه كأقضى القضاة وحاكم الحكام أو سيد الناس ونحو ذلك أي ما حكم التسمي بذلك هل يجوز أم لا قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله قال سفيان مثل شاهان شاه وفي رواية اغيظ رجل على الله وأخبثه قوله أخنع يعني أوضع ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله إن أخنع ذكر المصنف أن معناه أوضع وهذا التفسير رواه مسلم عن الامام أحمد عن أبي عمرو الشيباني قال عياض معناه أنه أشد الاسماء صغارا وبنحو ذلك فسره أبو عبيد والخانع الذليل وخنع الرجل ذل قال ابن بطال وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا وقد فسر الخليل أخنع أفجر فقال الخنع الفجور وفي رواية أخنى(113/37)
548 ... الأسماء من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهوالفحش في القول وفي رواية اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الاملاك رواه الطبراني قوله رجل يسمى بصيغة المجهول من التسمية أي يدعى بذلك ويرضى به وفي بعض الروايات تسمى بفتح الفوقانية وتشديد الميم ماض معلوم من التسمي اي سمى نفسه قوله ملك الأملاك هو بكسر اللام من ملك والأملاك جمع ملك ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في تحريم التسمي بذلك بقوله لا مالك إلا الله فالذي تسمى بهذا الاسم قد كذب وفجر وارتقى الى ما ليس له بأهل بل هو حقيق برب العالمين فإنه الملك في الحقيقة فلهذا كان أذل الناس عند الله يوم القيامة والفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله وأمره ذكره ابن القيم فالذي تسمى ملك الأملاك أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب ولقد كان بعض السلاطين المساكين يفتخر بهذا الاسم فأذله الله قوله قال سفيان هو ابن عيينة تقدمت ترجمته قوله مثل شاهان شاه هو بكسر النون والهاء في آخره وقد تنون وليس هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا وإنما مثل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم ذكره الحافظ والحديث صريح في تحريم التسمي بملك الأملاك(113/38)
549 ... ونحوه كملك الملوك وسلطان السلاطين قال ابن القيم لما كان الملك لله وحده لا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم وأوضعه عنده وأبغضه له اسم شاهان شاه أي ملك الملوك وسلطان السلاطين فإن ذلك ليس لأحد غير الله فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل والله لا يحب الباطل وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال أنا سيد ولد آدم فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره هو سيد الناس كما لا يجوز له أن يقول أنا سيد ولد آدم عليه السلام وقال ابن ابي جمرة يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة وإن كان قد اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة وقد سلم أهل المغرب من هذا فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة وقد زعم بعض المتأخرين أن التسمي بقاضي القضاة ونحوها جائز واستدل له بحديث أقضاكم علي قال فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض أن يكون أعدل القضاة وأعلمهم في زمانه أقضى القضاة أو يريد إقليمه أو بلده وتعقبه العالم العراقي فصوب المنع ورد ما احتج به بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام قال ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة وسوء الأدب ولا عبرة بقول من ولى القضاة فنعت بذلك فلذ في سمعه واحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع قلت وقد تبين بهذا مطابقة الحديث للترجمة(113/39)
550 ... قوله وفي رواية أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه قال ابن أبي جمرة وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها وسواء كان محقا في ذلك أم مبطلا مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا قلت يعني أن الثاني أشد إثما من الأول باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ش أي لأجل احترامها وهو تعظيمها وذلك من تحقيق التوحيد ويستفاد منه المنع من التسمي بهذا ابتداء من باب الأولى لكن في الأسماء المختصة بالله تعالى قال عن أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو الحكم وإليه الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا فما لك من الولد فقلت شريح ومسلم وعبدالله قال فمن أكبرهم قلت شريح قال أنت أبو شريح رواه أبو داود وغيره ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف ورواه النسائي ولفظ أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن(113/40)
551 ... أبيه هانىء وهو أبو شريح أنه لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال إن الله هو الحكم واليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء الحديث قال ابن مفلح واسناده جيد ورواه الحاكم وزاد فدعا له ولولده قوله عن أبي شريح هو بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر واسمه هانىء بن يزيد الكندي قال الحافظ وقيل الحارثي الضبابي قاله المزي وقيل المذحجي وقيل غير ذلك صحابي نزل الكوفة ولا عبرة بقبول من قال إنه الخزاعي ولا من ظن أنه النخعي والد شريح القاضي فإن ذلك خطأ فاحش قوله إنه كان يكنى ابا الحكم قال بعضهم الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل وأبي المعالي وأبي الخير وأبي الحكم وقد تكون بالنسبة الى الأولاد كأبي سلمة وأبي شريح الى ما يلابسه كأبي هريرة فإنه عليه السلام رآه ومعه هرة فكناه بأبي هريرة وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر قوله إن الله هو الحكم وإليه الحكم أما الحكم فهو من أسماء الله تبارك وتعالى كما في هذا الحديث وقد ورد عدة في الأسماء الحسنى مقرونا بالعدل فسبحان الله ما أحسن اقتران هذين الاسمين قال في شرح السنة الحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى كما قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه وقال بعضهم عرف الخبر في الجملة الأولى وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر وإن هذا(113/41)
552 ... الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره وأما قوله وإليه الحكم أي إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة كما قال تعالى له الحكم وإليه ترجعون وقال إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وفيه الدليل على المنع من التسمي بأسماء الله المختصة به والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكنى بأبي الحكم ونحوه قوله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم أي أنا لم أكن نفسي بهذه الكنية وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء إن لم يكن قاضيا وأنه يلزم حكمه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحسن هذا قال الخلخالي للتعجب أي الحكم بين الناس حسن ولكن هذه الكنية غير حسنة وقال غيره أي الذي ذكرته من الحكم بالعدل وقيل ما أحسن هذا اي ما ذكرت من وجه الكنية قال بعضهم وهو الأولى قلت فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه إذ يبعد أن يكون قاضيا لهم قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن أمر حكام الجاهلية قوله قال شريح ومسلم وعبدالله صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع فلذا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأكبر إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم قوله فأنت أبو شريح أي رعاية للأكبر منا في التكريم والاجلال(113/42)
553 ... فإن الكبير أولى بذلك قال في شرح السنة فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها انتهى وفيه تقديم الأكبر وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره ربي نبه عليه ابن القيم باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن او الرسول ش أي إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة وذلك مناف للتوحيد ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء اجماعا قال وقول الله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب الآية ش يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولئن سألتهم أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب قل أبالله ورسوله وآياته كنتم تستهزؤن لم يعبأ باعتذارهم(113/43)
554 ... إما لأنهم كانوا كاذبين فيه وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورا وعلى التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطؤوا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الايمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب بل ذلك عين الكفر لذلك كان الجواب مع ما قبله لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم قال شيخ الاسلام فقد أمره أن يقول كفرتم بعد إيمانكم وقول من يقول إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر وإن أريد إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء أي صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب فاعترفوا ولهذا قيل لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا وكان كفرا كفروا به فإنهم لم يعتقدوا جوازه وقوله إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة قال ابن كثير أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين(113/44)
555 ... بهذه المقالة الفاجرة قيل إن الطائفة مخشي بن حمير عفا الله عنه وتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة ولم يعلم مقتله ولا من قتله ولا يدرى له عين ولا أثر وقيل إن الطائفة زيد بن وديعة والأول أشهر ويحتمل أن الله عفا عنهما جميعا وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك بل يكفر وعلى أن الساب كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام قال عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ما يلتفت اليه وما يزيد عليه ش هذا الأثر ذكره المصنف مجموعا من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما بنحو مما ذكره(113/45)
556 ... المصنف وأما أثر محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومحمد بن كعب هو محمد كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني قال البخاري إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب والد عبدالرحمن وإخوته يكنى أبا عبدالله ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة وقتادة هو ابن دعامة وتقدم قوله دخل حديث بعضهم في بعض أي إن الحديث مجموع من رواياتهم فلذلك دخل بعضه في بعض قوله إنه قال رجل في غزوة تبوك لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف وعن مجاهد في الآية قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعن قتادة قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم(113/46)
557 ... وفي رواية جابر بن عبدالله عند ابن مردويه كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعة بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف فقيل له ما خلفك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الخوض واللعب فأنزل الله فيه وفي أصحابه ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب إلى مجرمين وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مرديه منهم وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير وأنهم قالوا أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم والله لكأنكم غدا تفرون في الجبال القصة بكمالها فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والمؤمنين فلا يبعد أنهم قالوا ذلك فكل ذكر بعض كلامهم والآية تعم ذلك وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك منهم وديعة بن ثابت وقيل وداعة وزيد ابن وديعة ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه لكنه لم يقل ذلك إنما حضره وفي بعض الروايات أن عبدالله بن أبي هو الذي قال ذلك لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك وذكر ابن اسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فعد جماعة فيحتمل أنهم من المستهزئين ويحتمل أنهم غيرهم ولهذا قال تعالى في المستهزئين قد كفرتم بعد إيمانكم وفي الآخرين ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء القراء جمع قارىء وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه أما قراءته من غير فهم لمعناه فلا يوجد في ذلك العصر وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع قوله أرغب بطونا أي أوسع بطونا الرغب والرغيب الواسع يقال(113/47)
558 ... جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون وكثرة الأكل كما روى ابو نعيم عن شريح بن عبيد أن رجلا قال لأبي الدرداء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئا وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك فأخذه بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل إنما كنا نخوض ونلعب قوله فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه قوله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة بل من النصح لله ورسوله فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة وبين النصيحة لله ورسوله فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة انتهى قوله فوجد القرآن قد سبقه أي جاءه الوحي من الله بما قالوه في هذه الآية ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وفيه دلالة على علم الله سبحانه وعلى قدرته وإلهيته وعلى أن محمدا رسول الله قوله فجاء ذلك الرجل قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك(113/48)
559 ... وفي هذا الحديث من الفوائد أن الانسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به وأشدها خطرا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له ويفيد الخوف من النفاق الأكبر فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء ايمانا قبل أن يقولوا ما قالوه كما قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف قوله باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته الآية ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى(113/49)
560 ... هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي قوله قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى قال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى وإذا خولناه نعمة قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة يخبر أن الانسان في حال الضر يضرع الى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ثم إذا خوله نعمة منا طغى وبغى وقال إنما أوتيته على علم أي لما يعلم من استحقاقي له ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا قال تعالى بل هي فتنة أي ليس الأمر كما زعمتم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع ام يعصي مع علمنا المتقدم بذلك بل هي فتنة أي اختبار ولكن أكثرهم لا يعلمون فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون قد قالها الذين من قبلهم أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الامم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون كما قال تعالى مخبرا عن قارون إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس يصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي(113/50)
561 ... أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون وقال تعالى وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن ثلاثة من بني اسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص قال أي شيء أحب اليك قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب اليك قال الابل أو البقر شك إسحاق فأعطي ناقة عشراء وقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب اليك قال شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا فقال أي المال أحب اليك قال البقر أو الابل فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله له فيها فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب اليك قال أن يرد الله إلي بصري فابصر به الناس فمسحه فرد الله اليه بصره قال فاي المال أحب اليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الابل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت به الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا(113/51)
562 ... فأعطاك الله عز وجل المال فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال ان كنت كاذبا فصيرك الله الى ما كنت به وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أبتلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله الي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك أخرجاه قوله أخرجاه أي البخاري ومسلم والناقة العشراء بصم العين وفتح الشين وبالمد هي الحامل قوله أنتج وفي رواية فنتج معناه تولى نتاجها والناتج للناقة كالقابلة للمرأة قوله ولد هذا هو بتشديد اللام أي تولى ولادتها وهو بمعنى أنتج في الناقة فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد لكن هذا للحيوان وذلك لغيره قوله انقطعت بي الجبال هو بالحاء المهملة والباء الموحدة هي الأسباب قوله لا أجهدك معناه لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي ذكره النووي(113/52)
563 ... وهذا حديث عظيم وفيه معتبر فان الاولين جحدا نعمة الله فما اقرا لله بنعمته ولا نسبا النعمة الى المنعم بها ولا أديا حق الله فحل عليهما السخط وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها الى من أنعم عليه بها وأدى حق الله فيها فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها وهي الاقرار بالنعمة ونسبتها الى المنعم وبذلها فيما يحب قال العلامة ابن القيم رحمه الله اصل الشكر هو الاعتراف بانعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه لم يشكره أيضا ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل الى المنعم ومحبته والخضوع له قوله قذرني الناس بكراهة رؤيته وقربه منهم باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى(113/53)
564 ... الله عما يشركون قال ابن حزم اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبدالكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب وعن ابن عباس في الآية لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال اني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما سمياه عبدالحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فآتاهما فقال مثل قوله فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله جعلا له شركاء فيما آتاهما رواه ابن أبي حاتم وله بسند صحيح عن قتادة قال شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله لئن آتيتنا صالحا قال أشفقا ان لا يكون انسانا وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما قوله باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية حدثنا عبدالصمد حدثنا عمر بن ابراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما ولدت حواء طاف بها ابليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبدالحارث فإنه يعيش فسمته عبدالحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره رواه احمد والترمذي وحسنه وابن جرير والحاكم وصححه(113/54)
565 ... ولهذا ذكر الضمير في آخرها بصيغة الجمع استطرادا من ذكر الشخص الى الجنس ومعنى الآية انه تعالى يخبر عن مبدأ الجنس الانساني وما فيه لله من عجائب القدرة فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف انواعه من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها أي وطئها حملت حملا خفيفا وذلك الحمل لا تجد المرأة له ألما إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة وقوله فمرت به قال مجاهد استمرت عليه وقال مهران استخفته وقال ابن جرير استمرت بالماء وقامت به وقعدت فلما اثقلت أي صارت ذات ثقل بحملها قال السدي كبر في بطنها دعوا الله ربهما اي ان آدم وحواء عليهما السلام دعوا الله لئن آتيتنا صالحا بشرا سويا قال ابن عباس أشفقا ان يكون بهيمة لنكونن من الشاكرين اي لنشكرنك على ذلك انتهى ملخصا من ابن كثر وفيه زيادة وقوله فما آتاهما صالحا جعلا له شركاء أي لله شركاء فيما آتاهما اي لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك بل جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح والبشر السوي بأن سمياه عبدالحارث فإن من تمام الشكر أن لا يعبد الاسم إلا لله وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام فإن فيه غير موضع يدل على ذلك والعجب ممن يكذب بهذه القصة(113/55)
566 ... وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة ويترك تفاسير السلف وأقوالهم وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى وقوله تعالى عما يشركون هذا والله أعلم عائد إلى المشركين من القدرية فاستطرد من ذلك الشخص إلى الجنس وله نظائر في القرآن قوله قال ابن حزم هو ابو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المشهور صاحب كتاب الاجماع والايصال والمحلى وغيرهما من المصنفات قوله اتفقوا الظاهر أن المراد أجمعوا فمقصوده حكاية الاجماع لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين قوله حاشا عبد المطلب قال ابن القيم لا تحل التسمية بعبد علي وعبدالحسين ولا عبد الكعبة وقد روى ابن أبي شيبة عن هانىء بن شريح قال وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال له ما اسمك قال عبد الحجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت عبدالله فقيل كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار الحديث وصح عنه أنه قال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فالجواب أما قوله تعس عبد الدينار فلم يرد الاسم وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه للدينار والدرهم فرضي بعبوديتهما عن عبودية الله تبارك وتعالى وأما قوله أنا ابن عبد المطلب فهذا لبس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الاخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره والاخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم ولا وجه(113/56)
567 ... لتخصيص أبي محمد ذلك بعبد المطلب خاصة فقد كان أصحابه يسمون بعبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فباب الأخبار أوسع من الإنشاء فيجوز فيه مالا يجوز في الإنشاء انتهى ملخصا وهو حسن ولكن بقي إشكال وهو أن في الصحابة من اسمه المطلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب فالجواب أما من اسمه عبد شمس فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله كما ذكروا ذلك في تراجمهم وأما المطلب بن ربيعة فذكر ابن عبد البر أن اسمه عبد المطلب وقال كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير اسمه فيما علمت وقال الحافظ وفيما قاله نظر فإن الزبير أعلم من غيره بنسب قريش ولم يذكر أن اسمه إلا المطلب وقد ذكر العسكري أن أهل النسب إنما يسمونه المطلب وأما أهل الحديث فمنهم من يقول المطلب ومنهم من يقول عبد المطلب وأما عبد يزيد أبو ركانة فذكره الذهبي في التجريد وقال أبو ركانة طلق امرأته وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة دكانه وروى حديثه أبو داود وفي السنن عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة وأخوته أم ركانة وذكر الحديث ثم قال وحديث نافع بن عجير وعبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة أصح لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به فقد تبين أنه ليس في الصحابة من اولاء من تصح له صحبته فعلى هذا لا تجوز التسمية بعبد المطلب ولا غيره مما عبد لغير الله وكيف تجوز التسمية وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية ب عبد النبي وعبد الرسول وعبد المسيح وعبد علي وعبد الحسين وعبد الكعبة وكل هذه(113/57)
568 ... أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به وأيضا فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان وأمره بعبد المطلب كعبد الحارث لا فرق بينهما إلا أن أصدق الأسماء الحارث وهمام فلعله أولى بالجواز لا يقال إن الحارث اسم للشيطان لأنه وإن كان اسما له فلا فرق في ذلك بين جميع من اسمه الحارث فلا يجوز التسمية به وإن نوى عبد الحارث بن هشام أو غيره فإن قلت إذا كان ابن حزم قد حكى الاجماع على جواز التسمية بعبد المطلب فكيف يجوز خلافه قلت كلام ابن حزم ليس صريحا في حكاية الإجماع على جواز ذلك بعبد المطلب فإن لفظة اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا ما لم يكن اسم نبي أو اسم ملك إلى آخر كلامه فيحتمل أن مراده حكاية الخلاف فيه ويكون التقدير اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب أي فإنهم لم يتفقوا على تحريمه بل اختلفوا ويؤيده أنه قال بعده واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا إلى آخره ويكون المراد حاشا عبد المطلب فلا أحفظ ما قالوا فيه ويكون سكوتا منه عن حكاية اجماعا أو خلاف فيه وعلى تقدير أن مراده حكاية الإجماع من جواز ذلك فليس كل من حكى اجماعا يسلم له ولا كل إجماع يكون حجة أيضا فكيف والخلاف موجود والسنة فاصلة بين المتنازعين وغاية حجة من أجازه قوله عليه السلام أنا ابن عبد المطلب ونحوه أو أن بعض الصحابة اسمه عبد المطلب وقد تقدم الجواب عن ذلك وأيضا فلو كان قوله أنا ابن عبد المطلب حجة على جواز التسمية به لكان قوله إنما(113/58)
569 ... بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد حجة على جواز التسمية بعبد مناف ولكن فرق بين إنشاء التسمية وبين الاخبار بذلك عمن هو اسمه قوله في الآية أي المترجم لها قوله تغشاها أي حواء أي وطئها عليهما السلام قوله او لأجعلن له أي لولدكما قوله قرني أيل هو بالتثنية أو الاضافة وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة ذكر الاوعال والمعنى انه يخوفهما بكونه يجل للولد قرني وعل فيخرج من بطنها فيشقه كما قال فيخرج من بطنك فيشقه قوله ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما بغير ما ذكر ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك قوله سمياه عبد الحارث قال سعيد بن جبير كان اسمه في الملائكة الحارث وكان مراده ان سمياه بذلك ليكون قد وجد له صورة الاشراك به فإن هذا من باب كيد إبليس إذا عجز عن الآدمي أن يوقعه في المعصية الكبيرة قنع منه بالصغيرة وأيضا فإنه يحصل له منهما طاعته كما أطاعا أول مرة كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خدعهما مرتين قال زيد خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض قوله فابيا أن يطيعاه فخرج ميتا الخ هذا والله أعلم من الامتحان فان الانسان لا عزم له وإن عاين ماذا عساه أن يعاين من الآيات إلا بتوفيق الله تعالى فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه كما غلبت على الأبوين مرتين مع ما وقع لهما قبل(113/59)
570 ... من التحذير والانذار عن كيد إبليس وعداوته لهما ومع ذلك ادركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث وكان ذلك شركا في التسمية وإن لم يقصدا العبادة للشيطان بل قصدا به فيما ظنا إما دفع شره عن حواء وإما الخوف على الولد من الموت كما روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال اتطيعينني ويسلم ولدك سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت الثالثة فقال أتطيعيني يسلم لك ولدك والا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعاه رواه ابن أبي حاتم قلت وإسناده صحيح ورواه سعيد بن منصور وابن المنذر وعن ابن عباس قال كانت حواء تلد لآدم أولادا فتعبدهم لله وتسميه عبدالله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاها إبليس وآدم فقال إنكما لو تمسيانه بغير ما تسميانه لعاش فولدت له رجلا فسمياه عبد الحارث ففيه انزل هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية رواه ابن مردويه قوله شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث لا أنهما عبداه فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة قال بعضهم تفسير قتادة في هذه الآية بالطاعة لأن المراد بها على كلام كثير من المفسرين آدم وحواء عليهما السلام فناسب تفسيرها بالطاعة لأنهما أطاعا الشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث وقد استشكله بعض المعاصرين بما حاصله أنهم قد فسروا العبادة بالطاعة فيلزم على قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة والجواب ان تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم فإنه لازم العبادة(113/60)
571 ... أن يكون العابد مطيعا لمن عبده بها فلذا فسرت بالطاعة أو يقال هو من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم اي لما كانت الطاعة ملزوما للعبادة والعبادة لازمة لها فلا تحصل إلا بالطاعة جاز تفسيرها بذلك وهو أصح وبالجملة فلا إشكال في ذلك بحمد الله فإن قلت قد سمى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة قلت راجع الكلام على حديث عدي يتضح الجواب قوله أشفقا أي خافا أي آدم وحواء أن لا يكون إنسانا قال أبو صالح أشفقا أن يكون بهيمة فقال لئن آتيتنا بشرا سويا رواه ابن أبي حاتم وفي هذا أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ذكره المصنف وذلك أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلها غير سوية وأن يجعلها من غير الجنس فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه الله له كما يفعل أهل الجاهلية بل يحمد الله الذي جعلها بشرية سوية ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته قوله وذكر اي ذكر ابن أبي حاتم فإنه روى ذلك عمن ذكر المصنف معناه عن الحسن هو البصري قوله وسعيد أي ابن جبير وغيره كالسدي وغيره باب قول الله تعالى ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية(113/61)
572 ... يخبر تعالى أن له اسماء وصفها بكونها حسنى أي حسان وقد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها كما يدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال فاسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمراد محض بل هو على سبيل التقريب والتفهم فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العالم الفقيه والسميع البصير دون السامع والباصر ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفيق والمشوق وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف وكذلك الكريم دون السخي والخالق البارىء المصور دون الصانع الفاعل المشكل والعفو الغفور دون الصفوح الساتر وكذلك سائر أسماء الله تعالى يجري على نفسه أكملها وأحسنها ولا يقوم غيره مقامه فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا نعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون ومن هنا يتبين لك خطأ من أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها لأن اللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه واخبر به عنها أتم من هذا وأكمل وأجل شأنا فإنه يوصف من كل صفة كمال باكملها وأجلها وأعلاها فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بارادته كما قال تعالى فعال لما يريد وبإرادة اليسر لا العسر كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبإرادة الاحسان وتمام النعمة على عباده كقوله تعالى والله(113/62)
573 ... يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإرادة التوبة له وإرادة الميل لمبتغي الشهوات وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وكذلك العليم الخبير أكمل من الفقيه العارف والكريم الجواد أكمل من السخي والرحيم أكمل من الشفيق والخالق البارىء المصور أكمل من الفاعل الصانع ولهذا لم تجىء هذه في أسمائه الحسنى فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملا أو منقسما أو ما يمدح به وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه الا مقيدا وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في اسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا كما أطلقه على نفسه كقوله فعال لما يريد ويفعل الله ما يشاء وقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم فلهذا المعنى والله أعلم لم يجيء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير ولا المتكلم الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وشرف انواعها ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا وأدخله في أسمائه الحسنى فاشتق منها اسم الماكر والمخادع والفاتن والمضل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا انتهى ملخصا من كلام الإمام ابن القيم(113/63)
574 ... وقيل فصل الخطاب في أسماء الله الحسنى هل هي توقيفية أم لا وحاصله أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق من باب الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالقديم والشيء الموجود والقائم بنفسه والصانع ونحو ذلك فادعوه بها أي اسألوه وتوسلوا إليه بها كما تقول اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم فإن ذلك من أقرب الوسائل وأحبها إليه كما في المسند والترمذي ألظوا بياذ الجلال والاكرام والحديث الآخر سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو وهو يقول اللهم اني اسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى رواه الترمذي وغيره وقوله عليه السلام اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك ومنك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك حديث صحيح رواه مسلم وغيره ومنه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام رواه الترمذي بنحوه واللفظ لغيره قال ابن القيم فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند السؤال واعلم أن الدعاء بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة رواه البخاري وغيره وهي ثلاث مراتب المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وأسمائها وعددها(113/64)
575 ... المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما في الآية وهو نوعان دعاء ثناء وعبادة ودعاء طلب ومسألة فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذا لا يسأل إلا بها فلا يقال يا موجود ويا شيء ويا ذات اغفر لي بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا اليه بذلك الاسم ومن تأمل أدعية الرسل لاسيما خاتمهم عليه وعليهم السلام وجدها مطابقة لهذا كما نقول رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن إنك أنت السميع العليم البصير ولكن أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا وهو غالب الأسماء كالقدير والسميع والبصير والحكيم فهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره فتقول يا عزيز يا حكيم يا قدير يا سميع يا بصير وإن انفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه وبه يسوغ لك الإفراد والجمع ومنها ما يطلق عليه مفردا بل مقرونا بمقابلة كالمانع والضار والمنتقم والمذل فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو والعزيز والمعز فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل لان الكمال في اقتران كل اسم من هذا بمقابله لأنه يراد به أنه المتفرد بالبربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم إعطاء ومنعا ونفعا وضرا وانتقاما وإعزازا وإذلالا فأما الثناء عليه بمجرد المنع والانتقام والاضرار فلا يسوغ فهذه الاسماء الممزوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه من بعض ولذلك لم تجىء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فلو قلت يا ضار يا مانع يا مذل لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلتها انتهى ملخصا من كلام ابن القيم وفيه بعض(113/65)
576 ... زيادة وبه يظهر الجواب عما قد يرد على ما سبق ذكر الأسماء الحسنى التي ورد عددها في الحديث لما كان إحصاء الأسماء الحسنى والعمل بها أصلا للعلم بكل معلوم وكانت سعادة الدنيا والآخرة مرتبة عليها فما حصل من آثارها للعباد هو الذي أوجب لهم دخول الجنة ولهذا جاء الحديث الصحيح المتفق عليه أن من أحصاها دخل الجنة وذكرنا مراتب الاحصاء لأن العبد محتاج بل مضطر الى معرفتها فوق كل ضرورة وقد قيل إن الله ذكرها كلها في القرآن ولا ريب أن الله تعالى ذكر أكثرها بلفظها ولم يذكره بلفظه ففي القرآن ما يدل عليه قال شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الاحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول الآخر الظاهر الباطن الولي المتعال البر التواب المنعم المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك(113/66)
577 ... ذو الجلال والاكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور هذا حديث غريب جدا حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء الحسنى في هذا الحديث وقد روى آدم عن أبي إياس هذا الحديث باسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح قلت يشير إلى عدد الأسماء سردا وإلا فصدر الحديث متفق عليه وقد خرجه بالعدد المذكور ابن المنذر وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان والطبراني والحاكم في المستدرك وغيرهم به ولم يذكروا فيه المعطي وإسناده صحيح ولكن المغترب منه ذكر العدد ورواه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن الصنعاني عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج وساق الأسماء وخالف سياق الترمذي والترتيب والزيادة والنقص فأما الزيادة فهي البارىء الراشد البرهان الشديد الواقي القائم الحافظ الناظر السامع المعطي الأبد المنير التام القديم الوتر وعبد الملك لين الحديث وزهير مختلف فيه وحديث الوليد أصح إسنادا وأحسن سياقا وأجدر أن يكون مرفوعا ولهذا قال النووي هو حديث حسن قال بعضهم والعلة في كونهما لم يخرجاه بذكر الأسامي تفرد الوليد بن مسلم عالم الشاميين ثقة وقد قيل إن العدد المذكور مدرج قال في الإرشاد ما معناه ذكر جماعة من الحفاظ المحققين المتقنين أن سرد الأسماء في حديث أبي هريرة مدرج فيه وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن كما روي ذلك(113/67)
578 ... عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وابي زيد اللغوي وقال البيهقي يحتمل أن يكون التفسير للأسماء وقع من بعض الرواة ولهذا الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد في الصحيح قال في البدر والدليل على ذلك وجهان أحدهما أن أصحاب الحديث لم يذكروها والثاني أن فيها تغييرا بريادة ونقصان وذلك لا يليق بالمرتبة العليا النبوية كذل قال وفيه نظر فإن الزيادة والنقصان قد تكون من الرواة وإن كان الحديث صحيحا كما في غير ذلك من الأحاديث وقد رواه الطبراني في الدعاء والحاكم وغيرهما فزادوا الرب الإله الحنان المنان البارىء وفي لفظ القائم الفرد وفي لفظ القادر بدل الفرد والمغيث الدائم الحميد وفي لفظ الجميل الصادق المولى النصير القديم الوتر الفاطر العلام المليك الأكرم المدبر المالك الشاكر الرفيع ذو الطول المعارج ذو الفضل الخلاق ولا أظنه يثبت وإن كان بعض العدد صحيحا وعد جعفر بن محمد منها المنعم المتفضل السريع وقال ابن حزم جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلا ونقل عنه أنه قال صح عندي قريبا من ثمانين اسما واشتمل عليها الكتاب والصحاح من الأخبار فليطلب الباقي بطريق الاجتهاد وقال القرطبي في شرح الأسماء الحسنى العجب من ابن حزم ذكر من الأسماء الحسنى نيفا وثمانين فقط والله يقول ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ساق ما ذكره ابن حزم وفيه من الزيادة على ما تقدم الرب الإله الأعلى الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق الدهر وقد عدها الحافظ فزاد الخفي السريع الغالب العالم الحافظ المستعان وفي هذا نظر يفهم مما تقدم وإن كان قد ذكر بعضها فيما لا يثبت من الحديث فهذه خمسة وستون ومائة اسم أقربها من جهة الإسناد سياق الترمذي وما عدا(113/68)
579 ... ذلك ففيه أسماء صحيحة ثابتة وفي بعضها توقف وبعضها خطأ محض كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث فلا يصح ذلك أصلا وكذلك الدهر والفعال والفالق والمخرج والعالم مع أن هذه لم ترد في شيء من الأحاديث إلا حديث لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وقد مضى معناه وبينا خطأ ابن حزم في عده من الأسماء الحسنى هناك واعلم أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهما قال ابن القيم فجعل أسماءه ثلاثة أقسام قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه وقسم أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه وليس المراد انفراده بالمسمى به لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي انزل بها كتابه ومن هذا قوله عليه السلام في حديث الشفاعة فيفتح علي من محامده بمالا أحسنه الآن وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته ومنه قوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما قوله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالكلام جملة واحدة وقوله من أحصاها دخل الجنة صفة لا خبر مستقبل والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة وهذ كقولك لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها وهذا لا خلاف بين العلماء فيه(113/69)
580 ... وقوله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم قال ابن القيم والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل كما يدل عيله مادة اللحد ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط ومنه اللحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه أحدها أن يسمي الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها وهذا إلحاد حقيقة فهم عدلوا بأسمائه الى أوثانهم وآلهتهم الباطلة الثاني تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك وثالثها وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم يد الله مغلولة وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته ورابعها تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم ويقولون لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوا كماله وجحدوها وعطلوها وكلاهما ألحد في أسمائه ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد فمنهم الغالي والمتوسط والمتلوث وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر وخامسها تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول(113/70)
581 ... المشبهون علوا كبيرا فهذا الإلحاد في مقابله إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى بل أثبتوا له الاسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئا من التشبيه وتنزيههم خاليا من التعطيل لا كمن شبه كأنه يعبد صنما أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء سيجزون ما كانوا يعملون وعيد وتهديد قوله يلحدون في أسمائه يشركون أي يشركون غيره في أسمائه كتسميتهم الصنم إلها ويحتمل أن المراد الشرك في العبادة لأن أسماءه تعالى تدل على التوحيد فالإشراك بغيره إلحاد في معاني أسمائه سبحانه وتعالى لا سيما مع الإقرار بها كما كانوا يقرون بالله ويعبدون غيره فهذا الاسم وحده أعظم الأدلة على التوحيد فمن عبد غيره فقد ألحد في هذا الاسم وعلى هذا بقية الأسماء وهذا الاثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنما رواه عن قتادة فاعلم ذلك قوله وعنه سمو اللات من الإله والعزى من العزيز هذا الأثر معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكذلك الأثر الثاني عن الأعمش معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عنه والأعمش اسمه(113/71)
582 ... سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه ثقة حافظ ورع مات سنة وكان مولده أو سنة قوله يدخلون فيها ما ليس منها أي كتسمية النصارى له ابا ونحوه كما سبق باب لا يقال السلام على الله لما كان حقيقة لفظ الإسلام السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب فإذا قال المسلم السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه وطلب له أن يسلم من الشر كله والله هو المطلوب منه لا المطلوب له وهو المدعو لا المدعو له وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض استحال ان يسلم عليه سبحانه وتعالى بل هو المسلم على عباده كما قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وقال وسلام على المرسلين وقال تحيتهم يوم يلقونه سلام فهو السلام ومنه السلام لا إله غيره ولا رب سواه في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ش قوله في الصحيح أي الصحيحين(113/72)
583 ... قوله قلنا السلام على الله أي يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله قوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله أي والله أعلم لما تقدم وكأن السلام اسمه كما يرشد اليه آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام أنكر عليه السلام التسليم على الله وأخبر أن ذلك عكس ما يجب له سبحانه فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها وهو السلام قال ابن الانباري أمرهم أن يعرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وقال غيره وهذا كله حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد حتى يعرف الله تعالى ما يستحقه من الأسماء والصفات وأنواع العبادات قوله السلام على فلان وفلان اختلف العلماء في معنى السلام المطلوب عند التحية على قولين أحدهما أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله عز وجل ومعنى الكلام نزلت بركة اسم السلام عليكم وحملت عليكم فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم السلام دون غيره ويدل عليه قوله في آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام فهذا صريح في كون السلام اسما من أسمائه فإذا قال المسلم السلام عليكم كان معناه اسم السلام عليكم يدل عليه ما رواه أبو داود عن ابن عمر أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فسلم يرد عليه حتى استقبل الجدار ثم تيمم ورد عليه وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ففي هذا بيان أن السلام ذكر لله وإنما يكون ذكرا إذا تضمنت اسما من أسمائه(113/73)
584 ... الثاني أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية لأنه ينكر بلا ألف ولام فيجوز ان يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستعمل كذلك بل كان يطلق عليه معزفا كما يطلق على سائر أسمائه الحسنى فيقال السلام المؤمن المهيمن فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين فضلا عن أن يصرفه إلى الله وحده بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى ويدل على ذلك عطف الرحمة والبركة عليه في قوله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولأنه لو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستقم الكلام بالإضمار وذلك خلاف الأصل ولا دليل عليه ولأنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء قال ابن القيم والصواب في مجموعهما أي القولين وذلك أن من دعا الله بأسمائه الحسنى يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى كأن الداعي مستشفع اليه متوسل به فإذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك انت التواب الرحيم الغفور فقد سأله أمرين وتوسل اليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه وهذا كثير جدا وإذا ثبت هذا المقام لما كان طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى بلفظها بصيغة اسم من أسمائه تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله تعالى كما في حديث ابن عمر والثاني طلب السلامة وهو المقصود من المسلم فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله وطلب السلامة منه انتهى ملخصا(113/74)
585 ... باب قول اللهم أغفر لي إن شئت ش لما كان العبد لاغناء له عن رحمة الله ومغفرته طرفة عين بل فقير بالذات إلى الغني بالذات كما قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد نهى عن قول ذلك لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته كما سيأتي وذلك مضاد للتوحيد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولمسلم وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله اللهم اغفر لي إن شئت قال القرطبي إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل والا استغنى عنه ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء وكان ذلك دليلا على قلة معرفته بذنوبه وبرحمة ربه وأيضا فإنه لا يكون موقنا بالإجابة وقد قال عليه السلام ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل(113/75)
586 ... قوله ليعزم المسألة قال القرطبي أي ليجزم في طلبته ويحقق رغبته ويتيقن الإجابة فإنه اذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة وعلى أنه مفتقر الى ما يطلب مضطر إليه وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه قوله فإنه لا مكره له أي فإن الله لا مكره له هذا لفظ البخاري في الدعوات ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم على المسألة في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له قال القرطبي هذا إظهار لعدم فائدة تقبل الاستغفار والرحمة بالمشيئة كأن الله تعالى لا يضطره الى فعل شيء دعاء ولا غيره بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء ولذلك قيد لله تعالى الإجابة بالمسألة في قوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فلا معنى لاشتراط المشيئة بقيله قوله ولمسلم أي من وجه آخر قوله وليعظم الرغبة هو بالتشديد فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه يقال تعاظم زيد هذا الأمر أي كبر عليه وعسر قال والرغبة يعني الطلبة والحاجة التي يريد وقيل السؤال والطلب تعظيم على هذا بالإلحاح والأول أظهر أي لسعة جوده وكرمه لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو أكبر من ذلك وهذا هو غاية المطالب فالاقتصار على الداني في المسألة إساءة ظن بجوده وكرمه(113/76)
587 ... باب لا يقول عبدي وأمتي ش أي لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية فنهي عن ذلك أدبا مع جناب الربوبية وحماية لجناب التوحيد قال في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك وليقل سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله لا يقل أحدكم هو بالجزم على النهي والمراد أن يقول ذلك لمملوكه أو مملوك غيره فالكل منهي عنه قوله أطعم ربك بفتح الهمزة من الإطعام قوله وضيء ربك أمر من الوضوء وفيهما في هذا الحديث زيادة اسق ربك و كأن المؤلف اقتصرها قال الخطابي وسبب المنع أن الانسان مربوب معبد باخلاص التوحيد لله تعالى وترك الإشراك به فترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد وأما من لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله رب الدار والثوب قال ابن مفلح في الفروع وظاهر النهي التحريم وقد يحتمل أنه للكراهية وجزم به غير واحد من العلماء فإن قلت قد قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام اذكرني عند ربك وقال النبي صلى الله عليه وسلم(113/77)
588 ... في اشتراط الساعة أن تلد الأمة ربتها فهذا يدل على الجواز قيل فأما الآية ففيها جوابان أحدهما وهو الأظهر أن هذا جائز في شرع من قبلنا وقد ورد شرعنا بخلافه والثاني أنه ورد لبيان الجواز والنهي للأدب والتنزيه دون التحريم وأما الحديث فليس من هذا الباب للتأنيث والنهي عنه أن يقول ذلك للذكر لما فيه من ايهام المشاركة وهو معدوم في الأنثى أو يقال بحمله على الكراهة في الأنثى أيضا لورود الحديث بذلك دون الذكر لأنه لم يرد فيه الا النهي ويقال وهو أظهر إن هذا ليس فيه إلا وصفها بذلك لا دعاؤها به وتسميتها به وفرق بين الدعاء والتسمية وبين الوصف كما تقول زيد فاضل فتصفه بذلك ولا تسميه به ولا تدعوه به قوله وليقل سيدي قيل إن الفرق بين الرب والسيد لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى ولم يأت في القرآن أنه من أسماء الله لكن في حديث عبدالله بن الشخير السيد الله وسيأتي فإن قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح إذ لا التباس وإن قلنا إنه من أسماء الله فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق وأما من حيث اللغة فالسيد من السؤدد وهو التقدم يقال ساد قومه إذا تقدمهم ولا شكر في تقديم السيد على غلامه فلما حصل الافتراق جاز الاطلاق قلت وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير الله بل المراد أن الله هو الأحق بهذا الاسم بأنواع العبارات ما أن غيره لا يسمى به(113/78)
589 ... ومولاي قال النووي المولى يطلق على ستة عشر معنى منها الناظر والمولى والمالك وحينئذ فلا بأس أن يقول مولاي قال في الفروع ولا يقل عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماء الله ولا يقل العبد لسيده ربي وفي مسلم أيضا ولا مولاي فمولاكم الله وظاهر النهي للتحريم وقد يحتمل أنه للكراهة وجزم به غير واحد من العلماء كما في شرح مسلم انتهى كلامه قلت فظاهر رواية مسلم معارضة لحديث الباب وأجيب بأن مسلما قد بين الاختلاف فيه عن الأعمش وأن منهم من ذكر هذه الزيادة ومنهم من حذفها قال عياض وحذفها أصح فظهر أن اللفظ الأول أرجح وإنما صرنا للترجيح للتعارض بينهما والجمع متعذر والعلم بالتاريخ مفقود فلم يبق إلا الترجيح قلت الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة أو على خلاف الأولى قوله ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك كما رواه أبو داود باسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولا يقولن المملوك ربي وربتي وليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب الله عز وجل ورواه أيضا بإسناد صحيح موقوفا فهذه علة له وفي رواية لمسلم لا يقولن أحدكم عبدي فإن كلكم عبيد الله قال في مصابيح الجامع النهي إنما جاء(113/79)
590 ... متوجها إلى السيد إذ هو في مظنه الاستطالة وأما قول الغير هذا عبد زيد وهذه أمة خالد فجائز لأنه يقول إخبارا أو تعريفا وليس في مظنة الاستطالة قلت وهو حسن وقد رويت أحاديث تدل على ذلك وقال أبو جعفر النحاس لا نعلم بين العلماء خلافا أنه ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك وعبدي وإن كان مملوكا وقد حظر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المملوكين فكيف للأحرار قوله وليقل فتاي وفتاتي وغلامي أي لأنها ليست دالة على الملك كدلالة عبدي وأمتي فأرشد عليه السلام إلى ما يؤدي المعنى من السلامة من الايهام والتعاظم مع أنها تطلق على الحر والمملوك لكن إضافته تدل على الإخلاص باب لا يرد من سئل بالله ش أي إعظاما وإجلالا لله تعالى أن يسأل به في شيء ولايجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بابرار القسم وتنازعوا هل هو أمر استحباب أو إيجاب وظاهر كلام شيخ الاسلام التفريق بين أن يقصد إلزامه بالقسم فتجب إجابته أو يقصد إكرامه فلا تجب عليه ولهذا أوجب على المقسم في الأولى الكفارة إذا لم يفعل المحلوف عليه دون الثانية لأنه كالأمر ولا يجب إذا كان للاكرام لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابا بكر بوقوفه في(113/80)
591 ... الصف ولم يقف ولأن أبا بكر اقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم كما في الصحيحين قال لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم قال عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ش قوله من استعاذ بالله فأعيذوه أي من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله كقوله بالله عليك أن تدفع عني شر فلان أو شرك أعوذ بالله من شرك أو شر فلان ونحو ذلك فأعيذوه أي امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم الله تعالى ولهذا قالت الجونية للنبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله منك قال لقد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ولفظ أبي داود من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه قوله ومن سأل بالله فأعطوه وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ومعناه ظاهر وهو يقول أسألك بالله أو بوجه الله ونحو ذلك أن تفعل أو تعطيني كذا ويدخل في ذلك القسم عليه بالله أن يفعل كذا وظاهر الحديث وجوب إعطائه ما سال ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث منها حديث أبي موسى مرفوعا ملعون من سئل بوجه الله وملعون من يسأل بوجهه ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا رواه الطبراني قال في تنبيه الغافلين ورجال إسناده رجال الصحيح إلا شيخه يحي بن عثمان بن صالح والاكثر(113/81)
592 ... على توثيقه فان بلغ هذا الإسناد أو إسناد غيره مبلغا يحتج به كان ذلك من الكبائر وعن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع مرفوعا ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله رواه الطبراني أيضا وعن ابن عباس مرفوعا ألا أخبركم بشر الناس رجل يسأل بالله ولا يعطي رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بشر البرية قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي رواه أحمد إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سئل بالله أو أقسم به ولكن قال شيخ الاسلام انما تجب على معين فلا تجب على سائل يقسم على الناس وظاهر كلام الفقهاء أن ذلك مستحب كابرار القسم والاول اصح قوله ومن دعاكم فأجيبوه أي من دعاكم الى طعام فأجيبوه فإن كانت وليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في كتب الفقه وجبت الاجابة وإن كان لغيرها استحب إجابتها وتجب مطلقا وهو الصحيح لظاهر الاحاديث وهي لم تفرق بين وليمة العرس وغيرها وان كانت وليمة العرس آكد وأوجب قوله ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه المعروف اسم جامع للخير وقوله فكافئوه أي على إحسانه بمثله أو خير منه وقد اشار شيخ الاسلام الى مشروعية المكافأة لأن القلوب جبلت على حب من أحسن اليها فهو اذا أحسن اليه ولم يكافئه يبقى في قبله نوع تأله لمن أحسن اليه فشرع قطع ذلك بالمكافأة فهذا معنى كلامه وقال غيره انما أمر بالمكافأة ليخلص القلب(113/82)
593 ... من احسان الخلق ويتعلق بالحق ولفظ أبي داود من أتى اليكم معروفا قوله فان لم تجدوا ما تكافئوه هكذا ثبت بحذف النون في خط المصنف وهكذا هو في غيره من اصول الحديث قال الطيبي سقطت من غير ناصب ولا جازم إما تخفيفا أو سهوا من الناسخ قوله فادعوا له الى الخ يعني من أحسن اليكم أي إحسان فكافئوه بمثله فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرا في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها الى الله ونعم المجازي هو وهذا الحديث رواه أيضا أحمد باسناد صحيح وابن حبان والحاكم وصححه النووي وقد روى الترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعا من صنع اليكم معروفا فقال الفاعل جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء باب لا يسأل بوجه الله الا الجنة أي إعظاما وإجلالا واكراما لوجه الله أن يسأل به الاغاية المطالب وهذا من معاني قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام قال عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل بوجه الله الا الجنة رواه أبو داود أيضا(113/83)
594 ... س قوله عن جابر هو جابر بن عبدالله قوله لا يسأل بوجه الله الا الجنة روي بالنفي والنهي وروي بالبناء للمجهول وهو الذي في الاصل وروي بالخطاب للمفرد وفيه اثبات الوجه خلافا للجهمية ونحوهم فانهم أولوا الوجه بالذات وهو باطل إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجها فلا يسمى الانسان وجها ولا تسمى يده وجها ولا تسمى رجله وجها والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات فيثبتونه لله على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف ولا تحديد إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل قوله إلا الجنة كأن يقول اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة وقيل المراد لا تسألوا من الناس شيئا بوجه الله كأن يقول أعطني شيئا بوجه الله فإن الله أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام قلت والظاهر أن كلا المعنيين صحيح قال الحافظ العراقي وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام تحصيلا أو دفعا كما يشير اليه استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم به قلت والظاهر أن المراد لا يسال بوجه الله إلا الجنة أو ما هو وسيلة اليها كالاستعاذة بوجه الله من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته صلى الله عليه وسلم وتعوذاته ولما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت(113/84)
595 ... أرجلكم قال أعوذ بوجهك رواه البخاري وهذا الحديث رواه أيضا في المختارة أيضا ولكن في اسناده سليمان بن معاذ قال ابن معين ليس بشيء وضعفه عبد الحق وابن القطان باب ما جاء في اللو اعلم أن من كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر رضا بالله ربا فإن هذا من جنس المصائب والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والارجاع والتوبة وقول لو لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا الا ما شاء الله فهذا وجه ايراده هذا الباب في التوحيد قال وقول الله تعالى يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا الآية ش قال ابن كثير فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن اسحاق حدثني يحيى بن عبادة بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن عبدالله(113/85)
596 ... بن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا ارسل الله علينا النوم فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم لو كان لنا من الامر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله عز وجل يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه قلت فتبين وجه ايراد المصنف الآية على الترجمة لأن قول لو في الأمور المقدرة من كلام المنافقين ولهذا رد الله عليهم ذلك بأن هذا قدر فمن كتب عليه شيء فلا بد ان يناله فماذا يغني عنكم قول لو وليت الا الحسرة والندامة فالواجب عليكم في هذه الحالة الإيمان بالله والتعزي بقدره مع ما ترجون من حسن ثوابه وفي ذلك عين الفلاح لكم في الدنيا والآخرة بل يصل الأمر الى ان تنقلب المخاوف أمانا والاحزان سرورا وفرحا كما قال عمر بن عبد العزيز أصحبت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر قال وقوله تعالى الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية ش روى ابن جرير عن السدي قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبدالله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم ابو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له ما نعلم(113/86)
597 ... قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنزل الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية وعن ابن جريج في الآية قال هو عبدالله بن أبي الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر وقيل إخوانهم في النسب لافي الدين لو أطاعونا ما قتلوا قال ابن كثير لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين أي ان كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لابد آت اليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين قال مجاهد عن جابر بن عبدالله نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي قلت وكان أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعدم الخروج فلما قدر الله الأمر قال ذلك تصويبا لرأيه ورفعا لشأنه فرد الله عليه وعلى أمثاله قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين فلا تعذرون عن ذلك فعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره أي يستوي الذي في وسط الصفوف والذي في البروج المشيدة في القتل والموت بل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم فلا ينجي حذر عن قدر وفي ضمن ذلك قول لو ونحوه في مثل هذا المقام لأن ذلك لا يجدي شيئا اذ المقدر قد وقع فلا سبيل الى دفعه أبدا واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا(113/87)
598 ... قال في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان أصابك شيء قلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم قوله احرص على ما ينفعك الخ هذا الحديث اختصره المصنف رحمه الله ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك الى آخره فقوله عليه السلام المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف فيه أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب على الحقيقة كما قال يحبهم ويحبونه وفيه أنه سبحانه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال وعليم يحب العلماء ومحسن يحب المحسنين وصبور يحب الصابرين وشكور يحب الشاكرين قلت الظاهر أن المراد القوة في أمر الله وتنفيذه والمسابقة بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يصيب في ذات الله ونحو ذلك لا قوة البدن ولهذا مدح الله الأنبياء بذلك في قوله واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار فالأيدي القوة والعزائم في تنفيذ أمر الله وقوله واذكر عبدنا داود ذا الأيد انه أواب(113/88)
599 ... وقوله في كل خير أي كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف على خير وعافية لاشتراكهما في الإيمان والعمل الصالح ولكن القوي في ايمانه ودينه أحب الى الله وفيه أن محبة المؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض وقوله احرص على ما ينفعك هو بفتح الراء وكسرها قال ابن القيم سعادة الانسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فإنه من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع قوله واستعن بالله قال ابن القيم لما كان حرص الانسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئتة وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام اياك نعبد واياك نستعين فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولاتتم الا بمعونته فأمره بأن يعبده ويستعين به وقال غيره استعن بالله أي اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله لا من غيره كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إن لم يعنه الله عليه فلا معين له على مصالح دينه ودنياه الا الله عز وجل فمن اعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا الحمد لله نستعينه ونستهديه ومن دعاء القنوت اللهم إنا نستعينك وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول اللهم(113/89)
600 ... أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان ذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم ومنه أيضا اللهم أعني ولا تعن علي واذا حقق العبد مقام الاستعانة وعمل به كان مستعينا بالله عز وجل متوكلا عليه راغبا وراهبا إليه فيستحق له مقام التوحيد إن شاء الله تعالى قوله ولا تعجزن وهو بكسر الجيم وفتحها استعمل الحرص والاجتهاد وفي تحصيل ما ينفعك من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وصيانة عيالك ومكارم أخلاقك ولا تفرط في طلب ذلك ولا تتعاجز عنه متكلا على القدر أو متهاونا بالأمر فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعا وعقلا مع انهاء الاجتهاد نهايته وبلاغ الحرص غايته فلا بد من الاستعانة بالله والتوكل عليه والالتجاء في كل الأمور اليه فمن ملك هذين الطريقين حصل على خير الدارين وقال ابن القيم العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجر فهذا ارشاد له قبل رجوع المقدور الى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحريص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها اليه قوله فإن أصابك شيء الى آخره العبد اذا فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز الى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتاح عمله بهذا المفتاح وأمره بالحالة الثانية وهي النظر الى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب(113/90)
601 ... النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال وإن أصابك شيء أي غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل جهده والاستعانة بالله فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فأرشده الى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبه وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية باطنا وظاهرا في حالتي حصول المطلوب وعدمه هذا معنى كلام ابن القيم وقال القاضي قال بعض العلماء هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما وانه لو فعل ذلك لم يصبه قطعا فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله فليس من هذا واستدل بقول ابي بكر الصديق في الغار لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا قال القاضي وهذا ما لاحجة فيه لانه اخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه قال وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من الو كحديث لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم ولو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه ولولا أن أشق على امتي لأمرتهم بالسواك وشبه ذلك وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته فإن قيل ما تصنعون بقوله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة قيل هذا كقوله لولا حدثان قومك بالكفر ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر بل هو اخبار لهم أنه لو استقبل الإحرام بالحج ما ساق الهدي ولا أحرم بالعمرة(113/91)
602 ... بقوله لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة حثا لهم وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره فليس من المنهي عنه بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل ولا خلاف في جواز ذلك وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور قوله فإن لو تفتح عمل الشيطان أي من الجزع والعجز واللوم والسخط من القضاء والقدر ونحو ذلك ولهذا من قالها على وجه النهي عنه فإن سلم من التكذيب بالقضاء والقدر لم يسلم من المعاندة له واعتقاد أنه لو فعل ما زعم لم يقع المقدور ونحو ذلك وهذا من عمل الشيطان فإن قيل ليس في هذا رد للقدر ولا تكذيب به إذ تلك الأسباب التي تمناها من القدر فهو يقول لو أني وقفت لهذا القدر لا ندفع به عني ذلك القدر فإن القدر يدفع بعضه ببعض قيل هذا حق ولكن ينفع قبل وقوع القدر المكروه فأما اذا ما وقع فلا سبيل إلى دفعه وإن كان له سبب إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قول لو كنت فعلت بل وحقيقته في هذا الحال أن يستقبل فعله الذي يدفع به المكروه ولا يتمنى مالامطمع في وقوعه فإنه عجز محض والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به والكيس مباشرة الاسباب التي ربط الله بها بمسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده انتهى ملخصا من كلام ابن القيم باب النهي عن سب الريح ش أي لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء الا بأمر الله فسبها كسب الدهر(113/92)
603 ... وقد تقدم النهي عنه فكذلك الريح قال عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به صححه الترمذي ش قوله عن أبي بن كعب أي ابن قيس بن عبيد بن زيد ابن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر صحابي بدري جليل وكان من قراء الصحابة وقضاتهم وعلمائهم وله مناقب مشهورة اختلف في سنة موته فقال الهيثم بن عدي مات سنة تسعة عشر وقال خليفة بن خياط سنة اثنين وثلاثين يقال فيها مات أبي بن كعب ويقال بل مات في خلافة عمر قلت وقيل غير ذلك قوله لا تسبوا الريح أي لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها فإنها مأمورة مقهورة فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى لعباده وتأديبه رحمة للعباد فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها ولكن سلو الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها رواه أحمد وابو داود وابن ماجة وكونها قد تأتي بالعذاب لا ينافي كونها من رحمة الله وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة اليه رواه الترمذي وقال غريب قال الشافعي لا ينبغي شتم الريح فإنها خلق مطيع لله وجند من جنوده يجعلها الله رحمة إذا شاء ونقمة إذا شاء ثم روي بإسناده حديث(113/93)
604 ... منقطع أن رجلا شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر فقال له لعلك تسب الريح وقال مطرف لو حبست الريح عن الناس لأنتن ما بين السماء والأرض قوله فإذا رأيتم ما تكرهون أي من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها قوله فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح أمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خالقها وأمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء اليه والتعوذ به والاضطرار إليه والاستنكانة له ودعائه والتوبة اليه والاستغفار من الذنوب قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وادبر وأقبل فإذا مطرت سري ذلك عنه فعرفت عائشة ذلك فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا رواه البخاري ومسلم فهذا ما أمر به صلى الله عليه وسلم وفعله عند الريح وغيرها من الشدائد المكروهات فأين هذا ممن يستغيث بغير الله من الطواغيت والأموات فيقولون يا فلان الزمها أو أزلها فالله المستعان(113/94)
605 ... باب قول الله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله الآية ش أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله لأن ذلك من واجبات التوحيد ولذلك ذم الله من أساء الظن به لأن مبني حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة المتوكل عليه فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة لأن كل صفة لها عبودية خاصة وحسن ظن خاص وقد جاء الحديث القدسي قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وانا معه حين يذكرني رواه البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن احدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل رواه مسلم وابو داود وفي حديث عند أبي داود وابن حبان حسن الظن من حسن العبادة رواه الترمذي والحاكم ولفظهما حسن الظن بالله من حسن العبادة قوله يقولون هل لنا من الأمر شيء قال ابن القيم ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم هل لنا من الأمر من(113/95)
606 ... شيء وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله لله ولو كان مقصودهم لما ذموا عليه ولما حسن الرد عليهم بقوله قل إن الأمر كله لله ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية ولهذا قال غير واحد من المفسرين إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه تبعا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان التصرف والظفر لهم فكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه انهم كانوا قادرين على دفعه وإن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء فأكذبهم الله بقوله قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به قلمه وكتابه السابق وما شاء الله كان ولا بد شاء الناس أم أبوا وما لم يشاء لم يكن شاءه الناس أو لم يشاؤوه وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه سواء كان لكم من الأمر شي او لم يكن فإنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج من كتب عليه القتل من بيته الى مضجعه ولا بد سواء كان له من الأمر شيء أو لم يكن وهذا من اظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله وأن يشاء مالا يقع وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي يختبر ما فيها من الإيمان والنفاق فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا ايمانا وتسليما والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه(113/96)
607 ... قوله وليمحص ما في قلوبكم هذه حكمة أخرى وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والاسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه فاقتضت حكمة العزيز الرحيم ان قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعاد نعمته عليهم بنصره وتأييدهم وظفرهم بقدرتهم فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا قوله والله عليم بذات الصدور ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال وطائفة قد أهمتهم انفسهم يعني لا يغشاهم النعاس من القلق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كما قال في الآية الاخرى بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى اهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم الآية وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة انها الفاصلة وأن الاسلام قد باء وأهله قال ابن القيم ظن الجاهلية هو المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وذاته المبرأة من كل عيب(113/97)
608 ... وسوء أو خلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وقد ذكر المؤلف تفسير ابن القيم لهذه الآية وهو أحسن ما قيل فيها وسيأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى وقوله يقولون هل لنا من الأمر من شيء هذا أيضا من حكاية مقال المنافقين والظاهر أن المعنى إنا أخرجنا كرها ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا كما أشار إليه ابن أبي بذلك ولفظه استفهام ومعناه النفي أي ما ان شيء من الأمر أي أمر الخروج وقيل غير ذلك فرد الله عليهم بقوله إن الامر كله لله أي ليس لكم من الأمر شيء ولا لغيركم بل الأمر كله لله فهو الذي إذا شاء فلا مرد له وقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا تقدم الكلام عليها في باب ما جاء في اللو وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي قدر الله هذه الهزيمة والقتل ليختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على من يعلم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير مغمور وليمحص ما في قلوبكم اي يطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته وهذا خاص بالمؤمنين دون المنافقين والله عليم بذات الصدور قيل معناه إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإنه عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم والله أعلم قال وقوله الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية ش قال ابن كثير يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ولهذا قال عليهم دائرة السوء(113/98)
609 ... وغضب الله عليهم ولعنهم أي أبعدهم من رحمته واعد لهم جهنم وساءت مصيرا قال ابن القيم في الآية الأولى فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بانكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره وأنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم فقل من يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وهو موجب حكمته وحمده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب الى الله تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له يقول إنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة والافإني لا إخالك ناجيا ش قوله فسر هذا الظن بأنه سبحانه لاينصر رسوله إلى آخره هذا(113/99)
610 ... تفسير غير واحد من المفسرين وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي وذكر ذلك عنهما ابن جرير وغيره بالمعنى وقوله وإن أمره سيضمحل أي سيذهب جملة حتى لا يبقى له اثر والاضمحلال ذهاب الشيء جملة قوله وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته قال القرطبي وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني التكذيب بالقدر وذلك أنهم تكلموا فيه فقال الله قل إن الامر كله لله يعني القدر خيره وشره من الله وأما تفسيره بإنكار الحكمة فلم أقف عليه عن السلف فهو تفسير صحيح فمن أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن بالله ظن السوء وقد اشار تعالى الى بعض الحكم والغايات المحمودة في ذلك في سورة آل عمران فذكر شيئا كثيرا منها في الآية المفسرة وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور فهذا بعض الحكمة في ذلك فمن أنكره فقد ظن ظن السوء بالله وحكمته وعلمه ورحمته لكمال علمه وقدرته ورحمته ولأن من اسمائه الحق وذلك هو موجب لهيبته وربوبيته قوله لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه اي لأن الذي يليق به سبحانه أنه يظهر الحق على الباطل وينصره فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق قال تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا(113/100)
611 ... قوله ولا يليق بحكمته وحمده أي ان الذي يليق بحكمته وحمده أن لا يكون في السموات ولا في الأرض حركة ولا سكون إلا وله في ذلك الحكمة البالغة والحمد الكامل التام عليها فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي وقع على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى سادات الأولياء رضي الله عنهم فله سبحانه وتعالى في ذلك الحكمة وله عليه الحمد بل والشكر ومن تأمل ما في سورة آل عمران في سياق القصة رأى من ذلك العجب فمن ظن بالله تعالى أنه لا يفعل ذلك بقدرة وحكمة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن به ظن السوء قوله فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق فهذا ظن السوء لأنه نسبه أي سبحانه إلى ما لا يليق بجلاله وكماله ونعوته وصفاته فإن حمده وحكمته وعزته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين المعاندين له فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله قوله أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أي فذلك ظن السوء لأنه نسبة له إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه وعظمته قوله أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قال ابن القيم وكذلك من انكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد وان ذلك انما صدر عن مشيئة(113/101)
612 ... مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هو أحب إلي من قوتها وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقدرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولاخلقها باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قوله ووعده الصادق لأن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر أمره ودينه على الدين كله ولو كره المشركون فمن ظن به تعالى أن دين نبيه سيضمحل ويبطل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء لأنه ظن أنه يخلف الميعاد والله تعالى لا يخلف الميعاد قوله واكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم قال ابن القيم فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل اليهم رسله ولا ينزل إليهم كتبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن انه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الصادقين فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه على فعله سبحانه به أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله وأنه يحسن منه(113/102)
613 ... كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته اي كمحمد صلى الله عليه وسلم فيخلده في الجحيم أو في أسفل سافلين ومن استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه كأبي جهل فيرفعه الى أعلى عليين وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليهم رموزا بعيدة وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فقد ظن به ظن السوء ومن ظن به أن يكون له في ملكه مالا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به وأنه لم يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وأنه أسفل كما أنه أعلى وأن من قال سبحان ربي الأسفل كمن قال سبحان ربي الأعلى فقد ظن به أقبح الظن ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان والفساد ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب عنده أحد وأن ذوات الشياطين في القرب منه كذوات الملائكة المقربين(113/103)
614 ... فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين في كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلده في الحجيم لتلك الكبيرة كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفد عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ووصفه به رسله فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أن له ولدا أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن واسوءه ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه فهو من ظن السوء ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه أو من فعل شيئا لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يغضب على عبده ويعاقبه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأل واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما هو أهله وما لا يفعله ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه ووقع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به(113/104)
615 ... ظن السوء ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته ومماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه وأهل بيته وسلبوهم حقهم واذلوهم من غير جرم ولا ذنب لأوليائه واهل الحق وهو يرى ذلك ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه ولا ينصرهم ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن انتهى اختصارا وهو ينبهك على إحسان الظن بالله في كل شيء فليعتن اللبيب اللب العقل واللبيب العاقل قوله ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا قلت بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارا في أشعارهم وكلامهم قال ابن عقيل في الفنون الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة ودارا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم حتى يقول فلان يصلي الجماعات والجمع ولا يؤذي الذر ولا يأخذ ما ليس له ويؤدي الزكاة اذا كان له مال ويحج ويجاهد ولا ينال خلة بقلبه ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما ترى وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذه حالة قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال أو لهم إبليس فإنه نظر بعقله فقال كيف يفضل الطين على جوهر النار وفي ضمن اعتراضه إن حكمتك قاصرة وأنا أجود واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير مثل الراوندي(113/105)
616 ... والمعري ومن قوله اذا كان لا يحظى برزقك عاقل وترزق مجنونا وترزق أحمقا ولا ذنب يا رب السماء على امرىء رأى منك مالا ينتهي فتزندقا وأمثال ذلك كثير في اولئك الذين ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله وانطلقوا الى أهوائهم واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على الله جل وعلا وكان أبو طالب المكي يقول ليس على المخلوق أضر من الخالق قال ابن الجوزي ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد وكان فقيها غير أنه كان كثير الاعتراض وكان عليه جرب فقال هذا ينبغي أن يكون عى حمد لاعلي وكان يتفقد بعض الأكابر أكول فيقول بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة كثير الصلاة والصوم فمرض واشتد به المرض فقال إن كان يريد أن أموت فيميتني وأما هذا التعذيب فماله معنى والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورا ورأيت آخر تزيا بالعلم اذا ضاق عليه رزقه يقول أيش هذا التدبير وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا وربما قالوا ما يريد يصلي واذا رأوا رجلا صالحا مؤذيا قالوا ما يستحق قدحا في القدر وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة وقال بعض من تزيا بالدين هذا حكم بارد وما فهم ذلك الأحمق فإن لله على الظالم أن يسلط عليه أظلم منه وفي الحمقى من(113/106)
617 ... يقول أي فائدة في خلق الحيات والعقارب وما علم أن ذلك انموذج لعقوبة المخالف وهذا امر قد شاع ولهذا مددت النفس فيه واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا وعلا الخالق بالحكم عليه وهؤلاء كلهم كفرة لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصره وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن الايمان قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم فكيف يصح الايمان مع الاعتراض على الله وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم فقال وراحمتي لك واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك فقال له ابن عقيل ان لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل فان لم تجد استطرحت الفاطر العقل حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك انتهى قوله وفتش نفسك هل أنت سالم قال ابن القيم أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب الى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر المركبة على الجهل(113/107)
618 ... والظلم فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله واسمائه فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرا فكيف بظالم جان جهول وظن بنفسك السوأى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل ومابك من تقي فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل قوله فإن تنج منها أي من هذه الخصلة العظيمة قوله من ذي عظيمة أي تنج من شر عظيم قوله وإني لا إخالك هو بكسر الهمزة أي أظنك والله اعلم باب ما جاء في منكري القدر ش أي من الوعيد والقدر بالفتح والسكون ما يقدره الله من القضاء ولما كان توحيد الربوبية لا يتم الا باثبات القدر قال القرطبي(113/108)
619 ... القدر مصدر قدرت الشي بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرا وقدر إذا حصلت بمقداره ويقال فيه قدرت اقدر تقديرا مشدد الدال فاذا قلنا إن الله تعالى قدر الأشياء فمعناه إنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذي دلت عليه البراهين ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره تنبيها على وجوب الايمان ولهذا عده النبي صلى الله عليه وسلم من اركان الايمان كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الايمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس رواهما مسلم في صحيحه وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت والبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في صحيحه والأحاديث في ذلك كثيرة جدا قد افردها العلماء بالتصنيف قال البغوي في شرح السنة الايمان بالقدر فرض لازم وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم قال الله تعالى والله(113/109)
620 ... خلقكم وما تعلمون فالإيمان والكفر فالطاعة ووعد عليها الثواب ولا يرضى الكفر والمعصية ووعد عليهما العقاب قال الله تعالى ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء قال والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا قال الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وقد سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق لا تلجه فأعاد السؤال فقال سر الله خفي عليك فلا تفشه وقال شيخ الاسلام مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان وهو ان الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الاعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئا الا وهو قادر عليه وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها وقد قدر(113/110)
621 ... مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون اليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف اي مستأنف وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية في آخر عصر عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم وانكروا مقالتهم ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق ولكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته الا أمره فما شاء فقد أمر به وما لم يشأ لم يأمر به فلزمهم أنه قد يشاء مالا يكون ويكون ما لايشاء وأنكروا أن يكون الله خالقا لأفعال العباد أو قادرا عليها أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له وزعموا ان نعمته التي بما يمكن الايمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وابي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بمنزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية لكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة من غير نعمة خص الله بها المؤمنين وهذا قول باطل وقد قال الله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله(113/111)
622 ... يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب الاولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها الثانية كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن كما لا خروخ له عن علمه الرابعة خلقه لها وإيجاده وتكوينه فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق قال وقال ابن عمر والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره رواه مسلم ش قوله وقال ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب قوله لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه الخ هذا قول ابن عمر لغلاة القدرية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى عالم بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منها وإنما يعلمها بعد كونها منهم كما تقدم(113/112)
623 ... عنهم قال القرطبي ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة لذلك تبرأ منهم ابن عمر وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم وأنهم كمن قال الله فيهم وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وهذا المذهب قد ترك اليوم فلا يعرف من ينسب اليه من المتأخرين من اهل البدع المشهورين فقال شيخ الاسلام لما ذكر كلام ابن عمر هذا وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبدالله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم إن المنكرين لعلم الله المتقدم ينكرون القدر وقوله ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فجعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الاسلام ذكر أركان الاسلام الخمسة لأنها أصل الاسلام ولما سئل عن الايمان أجاب بقوله أن تؤمن بالله إلى آخره فيكون المراد حينئذ بالايمان جنس تصديق القلب وبالاسلام جنس العمل والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الايمان على الأعمال كما هما مملوءان باطلاق الاسلام على الايمان الباطن مع ظهور دلالتهما ايضا على الفرق بينهما ولكن حيث أفرد أحمد الاسمين دخل فيه الآخر وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين ومن أراد تحقيق ما أشرنا اليه فليراجع(113/113)
624 ... كتاب الايمان الكبير لشيخ الاسلام اذا تبين هذا فوجه استدلال ابن عمر بالحديث من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الايمان بالقدر من أركان الايمان فمن أنكره فلم يكن مؤمنا إذ الكافر بالبعض كافر بالكل فلا يكون مؤمنا متقيا والله لا يقبل إلا من المتقين وهذا قطعة من حديث جبريل عليه السلام وقد أخرجه مسلم بطوله أول كتاب الايمان في صحيحه من حديث يحيى بن معمر عن ابن عمر ولفظه عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فأكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقت يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواء الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه الى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه فقال يا محمد أخبرني عن الاسلام وذكر الحديث وقوله خيره وشره أي خير القدر وشره أي انه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وإن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته لقوله تعالى وخلق كل شيء فقدره(113/114)
625 ... تقديرا والله خلقكم وما تعلمون إنا كل شيء خلقناه بقدر وغير ذلك فإن قلت كيف قال وتؤمن بالقدر خيره وشره وقد قال في الحديث والشر ليس اليك قيل إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالاضافة إلى العبد والمفعول إن كان مقدرا عليه فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه لا إلى الخالق فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة فهو شر بالاضافة إلى العبد أما بالاضافة الى الرب سبحانه وتعالى فكله خير وحكمة فإنه صادر عن حكمه وعلمه وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة الى الرب سبحانه وتعالى إذ هو موجب أسمائه وصفاته ولهذا قال والشر ليس اليك أي تمتنع إضافته اليك بوجه من الوجوه فلا يضاف الشر الى ذاته وصفاته ولا أسمائه ولا أفعاله فإن ذاته منزهة عن كل شر وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه وأسماؤه كلها حسن ليس فيها اسم ذم ولا عيب وافعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة وهو المحمود على ذلك كله فتستحيل إضافة الشر اليه فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها وكونها ذنوبا تأتي من نفس العبد فان سبب الذنب الظلم والجهل وهما في نفس العبد فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن(113/115)
626 ... نفسه فمن أراد الله به خيرا أعطاه الفضل فصدر منه الاحسان والبر والطاعة ومن أراد به شرا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح وليس منعه من ذلك شرا ولله في ذلك الحكمة التامة والحجة البالغة فهذا عدله وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهوالعلي الحكيم هذا معنى كلام ابن القيم وهو الحق وحاصله أن الشر راجع الى مفعولاته لا إلى ذاته وصفاته ويتبين ذلك بمثال ولله المثل الأعلى لو أن ملكا من ملوك العدل كان معروفا بقمع المخالفين وأهل الفساد مقيما للحدود والتعزيرات الشرعية على أرباب اصحابها لعدوا ذلك خيرا يحمده عليه الملوك ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك فهو خير بالنسبة الى الملوك يمدح ويثنى به ويشكر عليه وإن كان شرا بالنسبة إلى من أقيم عليه فرب العالمين أولى بذلك لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه لإعتبارات وأيضا فلولا الشر هل كان يعرف الخير فإن الضد لا يعرف إلا بضده فإن لم تحط به خبرا فاذكر كلام ابن عقيل في الباب الذي قبل هذا وأسلم تسلم والله اعلم قال وعن عباد بن الصامت أنه قال لابنه يا بني إنك لن تجد طعم الايمان حتى تعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات على غير هذا فليس مني ش قوله يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان إلى آخره ابنه هذا(113/116)
627 ... هو الوليد بن عبادة كما صرح به الترمذي في روايته وفيه أن للايمان طعما وهو كذلك فإن له حلاوة وطعما من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان الحديث وانما يكون العبد كذلك إذا كان مؤمنا بالقدر إذ يمتنع أن توجد الثلاث فيه وهو لا يؤمن بالقدر بل يكذب به ويرد على الله كلامه وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته فإن المحبة التامة تقتضي المتابعة التامة فمن لم يؤمن بالقدر لم يكن الله ورسوله أحب اليه مما سواهما فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه بل إن كان منكرا للعلم القديم فهو كافر كما تقدم ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار باسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه حدثني الصادق المصدوق الحديث ولو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته وذكر كلمة بعدها فهذا كفر صريح نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وقد بين في الحديث كيفية الإيمان بالقدر أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه رواه الترمذي والمعنى ان العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر أي قدر عليه من الخير والشر لم يكن ليخطئه أي يجاوزه فلا يصيبه وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر أي لم يقدر عليه ما لم يكن ليصيبه كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب(113/117)
628 ... من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وقال تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قوله إن أول ما خلق الله القلم قال شيخ الإسلام قد ذكرنا أن للسلف في العرضشوالقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلي الهمداني وغيره أحدهما أن القلم خلق أولا كما أطلق ذلك غير واحد وهذا هو الذي يفهم في ظاهر كتب المصنف في الأوائل للحافظ أبو عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة ابن الصامت وذكر الحديث المشروح والثاني أن العرش خلق أولا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه قي الرد على الجهمية حدثنا محمد بن كثير العبدي أنبأنا سفيان الثوري ثنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى وكان عرشه على الماء على أي شيء قال على متن الريح وروى حديث القاسم بن مرة(113/118)
629 ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون قال البيهقي وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش وذلك في حديث عمران بن حصين الذي اشار إليه وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعا عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ورواه البيهقي كما رواه محمد هارون الروياني في مسنده وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي اسحق عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين عن النبي صلىالله عليه وسلم قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات وذكر أحاديث وآثارا ثم قال ما معناه فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا وقال ابن كثير قال قائلون خلق القلم أولا وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير وبعد القلم السحاب الرقيق وبعده العرش واحتجوا بحديث عبادة والذي عليه الجمهور أن العرش مخلقوق قبل ذلك كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه يعني حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي تقدم قالوا وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم انتهى بمعناه قوله اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة قال شيخ الإسلام(113/119)
630 ... وكذلك في حديث ابن عباس وغيره وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك قوله من مات على غير هذا لم يكن مني أي لأنه إذا كان جاحدا للعلم القديم فهو كافر كما قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله قسمهم قبل خلقهم الى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب القرآن فيكفر بذلك كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور وبالجملة فهم أهل بدعة شنيعة والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منهم كما هو بريء من الأولين وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه وقد رواه أبو داود وهذا لفظه ورواه أحمد والترمذي وغيرهما قال وفي رواية لابن وهب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ش قوله وفي رواية لابن وهب هو الإمام الحافظ عبدالله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه ثقة إمام مشهور عابد له مصنفات منها الجامع وغيره مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة قوله أحرقه الله بالنار أي لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر بل أعظم(113/120)
631 ... قال وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال أتيت أبي ابن كعب فقلت في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي فقال لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار قال فأتيت عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد ثابت كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه ش قوله وفي المسند أي مسند الإمام أحمد والسنن أي سنن أبي داود وابن ماجه فقط بمعنى ما ذكر المصنف وفيه زيادة اختصرها المصنف ولفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا اسحق بن سليمان قال سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن أبي الديلمي قال وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري فأتيت أبي بن كعب فقلت يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر فخشيت على ديني وأمري فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني فقال لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لك مثل أحد ذهبا أو مثل جبل أحد تنفقة في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار ولا عليك أن تأتي يا أخي عبدالله بن مسعود فتسأل فأتيت عبدالله فسألته فذكر مثل ما قال أبي وقال لي لا عليك أن تأتي حذيفة فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قال أئت زيد بن ثابت فاسأله فأتيت(113/121)
632 ... زيد بن ثابت فسألته فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر كله فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار هذا حديث ابن ماجه ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلىالله عليه وسلم بمثل ذلك قوله عن أبي الديلمي هو عبدالله بن فيروز الديلمي وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين بل ذكره بعضهم في الصحابة والديلمي نسبة إلى جبل الديلم وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن قوله وقع في نفسي شيء من القدر أي شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه أو جحد له قوله لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك قوله حتى تؤمن بالقدر أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها وحلوها ومرها ونفعها وضرها وقليلها وكثيرها وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره كما ذكر عن علي رضي الله عنه(113/122)
633 ... باب ما جاء في المصورين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة اخرجاه ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم ولهما عنه مرفوعا من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ولمسلم عن أبي الهياج قال قال لي علي ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة الا طمستها ولا قبرا مشرفا الا سويته فيه مسائل الأولى التغليظ الشديد في المصورين الثانية التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله لقوله ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي الثالثة التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة(113/123)
634 ... الرابعة التصريح بأنهم أشد الناس عذابا الخامسة أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم السادسة أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح السابعة الأمر بطمسها اذا وجدت قوله باب ما جاء في المصورين أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة وهي المضاهاة بخلق الله لأن الله تعالى له الخلق والأمر فهو رب كل شيء ومليكه وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة كما قال الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون فالمصور لما صور الصورة على شكلك ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيا لخلق الله فصار ما صور عذابا له يوم القيامة وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فكان أشد الناس عذابا لأن ذنبه من أكبر الذنوب فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل(113/124)
635 ... عمل يحبه الله من العبد ويرضاه فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد فما اعظمه من ذنب إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قوله ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي حيان بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها وهو من ذرائع الشرك ووسائله فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأرباب القبور وصارت محطا لرحال العابدين المعظيمن لها فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها والذبح لها والنذور وغير ذلك من كل شرك محظور قال العلامة ابن القيم رحمه الله ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور(113/125)
636 ... وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ونهى عن أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث تمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضا قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين يرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها كا روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو دواد عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عيله وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والاحجار قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الآجر على قبورهم والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها(113/126)
637 ... السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب احمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور اشبه تعظيم الأصنام قال ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجر عن حصره فمنها تعظيم الموقع في الافتتان بها ومنها اتخاذها أعيادا ومنها السفر إليها ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها النذر لها ولسدنتها ومنها اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل(113/127)
638 ... غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال الله تعالى للمشركين فقد كذبوكم بما تقولون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ومنها إماتة السنن وإحياء البدع ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة(113/128)
639 ... على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركة منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى انفسهم وإلى الميت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوروا القبور فإنها تذكركم الموت وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على(113/129)
640 ... النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره الى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة وفي الترمذي وغيره الدعاء هو العبادة فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وإسناده جيد ورواته ثقات مشاهير وقوله ولا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيره على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك ولكن ما لجرح بميت إيلام فمن المفاسد اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن(113/130)
641 ... الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدىء ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى اذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة ذوي العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الجحر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتحلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام فيقول لا ولا بججك كل عام هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم(113/131)
642 ... إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقة يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته انتهى كلامه باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب أخرجاه وعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني بسند صحيح وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن(113/132)
643 ... وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته وقال ابراهيم كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار فيه مسائل الأولى الوصية بحفظ الأيمان الثانية الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة الثالثة الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه الرابعة التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي الخامسة ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون السادسة ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث السابعة ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون الثامنة كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد قوله باب ما جاء في كثرة الحلف أي من النهي عنه والوعيد وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا وقال آخرون احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا(113/133)
644 ... والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس فإن القولين متلازمان فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه قوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلف منفقة للسلع ممحقة للكسب أخرجاه أي البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود والنسائي والمعنى أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطى فيها كذا وكذا أو أنه اشتراها بكذا وكذا وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة فيكون قد عصى الله تعالى فيعاقب بمحق البركة فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب قوله وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشميط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه رواه الطراني بسند صحيح وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبدالله أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وشهد الخندق روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما قال النبي صلىالله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت إن الله يحب من أصحابي أربعة عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد أخرجه الترمذي وابن ماجه قال الحسن كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها(113/134)
645 ... ويلبس نصفها توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي قوله ثلاثة لا يكلمهم الله نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه وأن الكلام صفة من صفات كماله والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا ولم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الحال والاستقبال أيضا وذلك في القرآن كثير قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فإذا قالوا لنا يعني النفاة فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة قلت ومعنى قيام الحوادث به تعالى قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره والله اعلم(113/135)
646 ... قوله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات قوله أشيمط زان صغره تحقيرا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور وعدم خوفه من الله وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه بخلاف الشاب فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية فينتهي ويرجع وكذا العائل المستكبر وليس له ما يدعوه إلى الكبر لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له كامن في قلبه فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من اكبر المعاصي قوله ورجل جعل الله بضاعته بنصب الاسم الشريف اي الحلف به جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه قوله وفي الصحيح أي صحيح مسلم وأخرجه أبو داود والترمذي ورواه البخاري بلفظ خيركم قوله عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه(113/136)
647 ... مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن قوله خير أمتي فرني لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون فغلب الخير فيها وكثر أهله وقل الشر فيها وأهله واعتز فيها الاسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب قوله فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه لكن العلماء متوافرون والاسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء فقال ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يشتشهدون لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم قوله ويخونون ولا يؤتمنون يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم قوله وينذرون ولا يوفون اي لا يؤدون ما وجب عليهم فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم(113/137)
648 ... قوله ويظهر فيهم السمن لرغبتهم في الدنيا ونيل شهواتهم والتنعم بها وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها وفي حديث أنس لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم قال أنس سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف قلت بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه قوله وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قلت وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك وهذا هو الغالب على الأكثر والله المستعان فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف فكن من الناس على حذر قوله قال إبراهيم هو النخعي كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من أفضل الجهاد ولا يقوم الدين إلا به وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(113/138)
649 ... باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقوله وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا وعن بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم الى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا ان يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا(113/139)
650 ... تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن نخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا رواه مسلم فيه مسائل الأولى الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين الثانية الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا الثالثة قوله اغزوا بسم الله في سبيل الله الرابعة قوله قاتلوا من كفر بالله الخامسة قوله استعن بالله وقاتلهم السادسة الفرق بين حكم الله وحكم العلماء السابعة في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا قوله باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد وكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الآية قال العماد بن كثير وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود(113/140)
651 ... والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ولهذا قال ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ولا تعارض بين هذا وقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وبين قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم أي لا تتركوها بلا تكفير وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها وفي رواية وكفرت عن يميني لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان الواردة على حث أو منع ولهذا قال مجاهد في الآية يعني الحلف أي حلف الجاهلية ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام الا شدة وكذا رواه مسلم ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه الى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه وقوله تعالى إن الله يعلم ما تفعلون تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها قوله عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه قاله في المفهم قوله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش او سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم قال الحربي السرية الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها والجيش ما كان أكثر من ذلك وتقوى الله التحرز بطاعته من عقوبته(113/141)
652 ... قلت وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه قوله ومن معه من المسلمين خيرا أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا من الرفق بهم والإحسان إليهم وخفض الجناح لهم وترك التعاظم عليهم قوله اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له قلت فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله قوله قاتوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ومن لم يبلغ الحلم وقد قال متصلا به ولا تقتلوا وليدا وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منها قتال غالبا وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا قلت وكذلك الذراري والأولاد قوله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلول الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها والغدر نقض العهد والتمثيل هنا التشويه بالقبيل كقطع أنفه وأذنه والعبث به ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر وفي كراهية المثلة قوله وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة ومعنى الخلال والخصال واحد قوله فأيتهن ما اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهن على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر وما زائدة ويكون تقدير الكلام فإلى أيتهن أجابوك(113/142)
653 ... فاقبل منهم كما تقول جئتك إلى كذا وفي كذا فيعدى إلى الثاني بحرف الجر قلت فيكون في ناصب أيتهن وجهان ذكرهما الشارح الأول منصوب على الاشتغال والثاني على نزع الخافض قوله ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود وكتاب الأموال لأبي عبيد لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال وقوله ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين يعني المدينة وكان في أول الأمر وجوب الهجرة الى المدينة على كل من دخل في الإسلام وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم قوله فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب فلم ير لهم من الفيء شيئا وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ومصرف كل مال في أهله وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين وجوزا صرفهما للضعيف قوله فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو غيره كتابيا كان أو غيره وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم وقال الشافعي لا تؤخذ إلى من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه وتؤخذ من المجوس(113/143)
654 ... قلت لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية فقال مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق وهل ينقص منها الضعيف أولا قولان وقال الشافعي فيه دينار على الغني والفقير وقال ابو حنيفة رحمه الله والكوفيون على الغني ثمانية وأربعون درهما والوسط أربعة وعشرون درهما والفقير اثنا عشر درهما وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله وقاتل يهودا والنصارى وعصبة ال مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد على الأدون اثني عشر درهما افرضن وأربعة من بعد عشرين زد لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ثمانية مع اربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فإن وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لاممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم قوله وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات فمن وافقه فهو(113/144)
655 ... المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء قوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك ان تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه الحديث الذمة العهد وتخفر تنقص يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته اجرته ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد كجملة الأعراب فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى والله أعلم قوله وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال قال وهو أن مالكا قال لا يقاتل الكفار قبل ان يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوا وبغضا والله أعلم باب ما جاء في الإقسام على الله عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم(113/145)
656 ... وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد قال أبو هريرة تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته فيه مسائل الأولى التحذير من التألي على الله الثانية كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله الثالثة أن الجنة مثل ذلك الرابعة فيه شاهد لقوله إن الرجل ليتكلم بالكلمة الخ الخامسة أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه قوله باب ما جاء في الإقسام على الله ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل والله لا يغفر الله لفلان قال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم قوله يتألى أي يحلف والألية بالتشديد الحلف وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة وساق بالسند إلى عكرمة ابن عمار قال دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال يا يمامي تعال وما أعرفه قال لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة قلت ومن أنت يرحمك الله قال أبو هريرة فقلت إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في(113/146)
657 ... العبادة والآخر كأنه يقول مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال فيقول خلني وربي قال فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا قال فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي قال لا يا رب قال اذهبوا به الى النار قال أبو هريرة والذي نفسي بيده تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته رواه أبو داود في سننه وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول كان رجلان في بني إسرائيل متآخين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول اقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا قال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا فقال للمذنب اذهب فادخل الجنة وقال للآخر اذهبوا به الى النار قوله وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد يشير إلى قوله في هذا الحديث أحدهما مجتهد في العبادة وفي هذه الاحاديث بيان خطر اللسان وذلك يفيد التحرز من الكلام كما في حديث معاذ قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم والله أعلم(113/147)
658 ... باب لا يستشفع بالله على خلقه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله سحبان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما الله إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد وذكر الحديث رواه أبو داود فيه مسائل الأولى إنكاره على من قال نستشفع بالله عليك الثانية تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة الثالثة أنه لم ينكر عليه قوله نستشفع بك على الله الرابعة التنبيه على تفسير سبحان الله الخامسة أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء قوله باب لا يستشفع بالله على خلقه وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال(113/148)
659 ... ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته قال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار قوله ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه والخير كله بيده لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ولهذا أنكر على الأعرابي قوله وسبح الله كثيرا وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده وإن شأن الله أعظم من ذلك وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه وأن عرشه فوق سمواته وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا كما عليه السلف الصالح والأئمة(113/149)
660 ... ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته قال بعد ذلك والثاني أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب الى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة اليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الأمر بإحياء قوم وإماته آخرين واعزاز قوم وإذلال آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها من جبر كسير وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة لملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف لعدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفد في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عاليا لعزته فيسجد بين يدي(113/150)
661 ... الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها الى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من أعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب اه كلامه رحمه الله وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك وهذا هو الذي يشرع في حق الميت وأما دعاؤه فلم يشرع بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه كما قال تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة اي ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر والصحابة رضي الله عنهم لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته حتى في أوقات الجدب كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج(113/151)
662 ... ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه وهم كذلك يدعون ربهم فمن تعدى المشروع إلى مالا يشرع ضل واضل ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة اليه أسبق وعليه أحرص وبهم أليق وبحقه أعلم وأقوم فمن تمسك بكتاب الله نجا ومن تركه واعتمد على عقله هلك وبالله التوفيق باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال انطلقت في وفد بني عامر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال السيد الله تبارك وتعالى قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان رواه أبو داود بسند جيد وعن أنس رضي الله عنه أن أناسا قالوا يا رسول الله ياخبرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال يا ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل رواه النسائي بسند جيد(113/152)
663 ... فيه مسائل الأولى تحذير الناس من الغلو الثانية ما ينبغي أن يقول من قيل له أنت سيدنا الثالثة قوله لا يستجرينكم الشيطان مع أنهم لم يقولوا إلا الحق الرابعة قول ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي قوله باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله لا تطروني كما اطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وتقدم قوله إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل ونحو ذلك ونهى عن التمادح وشدد القول فيه كقوله لمن مدح انسانا ويلك قطعت عنق صاحبك الحديث أخرجه ابو داود عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قطعت عنق صاحبك ثلاثا وقال إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود وفي هذ الحديث نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا وقال السيد الله تبارك وتعالى ونهاهم أن يقولوا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا وقال لا يستجرينكم الشيطان وكذلك قوله في حديث انس أن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا إلى الخ كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم الى الغلو وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه ولو بما هو فيه من عمل الشيطان لما(113/153)
664 ... نقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه وذلك غاية الذل في غاية المحبة وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا اذا كان يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإدارات ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه والمادح يغره من نفسه فيكون آثما فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسا والنهي عنه صيانة لهذا المقام فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد وإذا أداه المدح الى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منها عذبته وفي الحديث لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر أمته أن يقع منهم فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك كما تقدمت الإشارة الى شيء من ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام وأرشد الى ترك ذلك نصحا لهم وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم(113/154)
665 ... ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات وحسنة من اعظم الحسنات وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم ونقل عن مالك واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا سيدنا قال السيد الله تبارك وتعالى وجوزه قوم واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار قوموا الى سيدكم وهذا أصح من الحديث الأول قال هؤلاء السيد أحد ما يضاف إليه فلا يقال للتميمي سيد كندة ولا يقال الملك سيد البشر قال وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على هذا الاسم وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك والمولى والرب لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق انتهى قلت فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى قل أغير الله أبغي ربا أي إلها وسيدا وقال في قول الله تعالى الله الصمد إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل هو السيد الذي انتهى سؤده وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار قوموا الى سيدكم فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم باب ما جاء في قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا(113/155)
666 ... قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على اصبع والأرضين على اصبع والشجر على اصبع والثرى على اصبع وسائر الخلق على اصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على اصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله وفي رواية للبخاري يجعل السموات على اصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع آخرجاه ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون وروي عن ابن عباس قال ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن الا كخردلة في يد أحدكم وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد حدثني أبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال وقال أبو در رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(113/156)
667 ... ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض وعن ابن مسعود قال بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرضشلا يخفى عليه شيء من أعمالكم أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبدالله قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال وله طرق وعن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون كم بين السماء والأرض قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء الى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره فيه مسائل الأولى تغسير قوله تعالى والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الثانية أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها الثالثة أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك(113/157)
668 ... الرابعة وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم الخامسة التصريح بذكر اليدين وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى السادسة التصريح بتسميتها الشمال السابعة ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك الثامنة قوله كخردلة في كف أحدكم التاسعة عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء العاشرة عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي الحادية عشرة أن العرض غير الكرسي والماء الثانية عشرة كم بين كل سماء إلى سماء الثالثة عشرة كم بين السماء السابعة والكرسي الرابعة عشرة كم بين الكرسي والماء الخامسة عشرة أن العرش فوق الماء السادسة عشرة أن الله فوق العرش السابعة عشرة كم بين السماء والأرض الثامنة عشرة كثف كل سماء مائة سنة التاسعة عشرة أن البحر الذي فوق السموات أسفله واعلاه خمسمائة سنة والله أعلم(113/158)
669 ... قوله باب قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى يقول تعالى ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته قال مجاهد نزلت في قريش وقال السدي ما عظموه حق عظمته وقال محمد بن كعب لو قدروه حق قدره ما كذبوه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه والأمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه(113/159)
670 ... قال الإمام أحمد حدثنا معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر قال وأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا الحسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه واشار بالسبابة والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم قال البخاري حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبدالرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه فيقول أنا الملك أين ملوك الأرض تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم ابن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون(113/160)
671 ... السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب تعالى نفسه أنا الجبار المتكبر انا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخزن به قوله ولمسلم عن ابن عمر الحديث كذا في رواية مسلم قال الحميدي وهي أتم وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه وأخرجه البخاري من حديث عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه وأخرجه مسلم من حديث عبيدالله ابن مقسم قلت وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته وكلها تدل على كماله وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر(113/161)
672 ... صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها إن ظاهرها غير مراد وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه فلو كان هذا حقا بلغه أمينه أمته فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا كما قال تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئا من الصفات ولا قال أحد منهم إن ظاهرها غير مراد ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة قال شيخ الإسلام أحمد بن تميمية رحمه الله تعالى وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله تعالى بل رفعه الله إليه وقوله تعالى ذي المعارج(113/162)
673 ... تعرج الملائكة والروح إليه وقوله تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقوله تعالى ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه الآية فذكر التوحيدين في هذه الآية وقوله تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وقوله تعالى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان(113/163)
674 ... مقداره ألف سنة مما تعدون وقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته وقوله تعالى أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فغذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير وقوله تعالى تنزيل من حكيم حميد وقوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقوله تعالى وقال فرعون يا همان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا انتهى كلامه رحمه الله قلت وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قالت الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح قال وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال لما سئل ربيعة بن أبي عبدالرحمن كيف الاستواء قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق وقال(113/164)
675 ... ابن وهب كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبدالله الرحمن على العرش استوى كيف استوى فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا ولفظه قال الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه قال الذهبي فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير ونفوا عنه الكيفية قال البخاري في صحيحه قال مجاهد استوى علا على العرش وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول الرحمن على العرش استوى أي ارتفع وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى أي علا وارتفع وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم فمن ذلك قول عبدالله ابن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناده إلى علي بن الحسين بن شقيق قال سمعت عبدالله بن المبارك يقول نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على العرش استوى بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية قال الدارمي حدثنا حسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن(113/165)
676 ... ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقد تقدم قول الأوزاعي كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه ونؤمن بما وردت به السنة وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته وقال في هذا الكتاب أيضا أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ثم ساق بسنده عن مالك قوله الله السماء وعلمه في كل مكان ثم قال في هذا الكتاب أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله وهو معكم أينما كنتم ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وهذا لفظه في كتابه وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ونفوا عنه مشابهة المخلوقين ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب وقال الحافظ الذهبي أول من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم وكذلك أنكر جميع الصفات وقتله خالد بن عبدالله القسري وقصته مشهورة فأخذ هذه المقالة عند الجهم بن صفوان إمام الجهمية فأظهرها واحتج لها بالشبهات وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبدالواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي أنبأنا(113/166)
677 ... أبو عبدالله الحافظ أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد حدثنا ابراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير من فتح الباري قوله عن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرا والذي في سنن أبي داود عن العباس بن عبد المطلب قال كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال ما تسمون هذه قالوا السحاب قال والمزن قالوا المزن قال والعنان قالوا والعنان قال أبو داود لم أتقن العنان جيدا قال هل تدرون ما بين السماء والأرض قالوا لا ندري قال إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاثة وسبعون سنة ثم السماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب وقال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا ونيف وسبعون سنة على سير(113/167)
678 ... البريد لأنه يصح أن يقال بينا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة وثلاثة أيام باعتبار سير البريد وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه هذا آخر كلامه قلت فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(113/168)
جلاء البصائر
في الرد على
كتابي شفاء الفؤاد والذخائر
كتبه/ سمير بن خليل المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ]الأنعام: 1[.
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين.إنما هو إله واحد فإياي فارهبون.وله ما في السموات والأرض وله الدين واصباً.أفغير الله تتقون.وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون.ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون.ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } ]النحل: 51-55[.
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم.فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ]البقرة: 21-22[.
{ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون.لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون.لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون.أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم.هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون.وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ]الأنبياء: 21- 25[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقر بربوبيته، شاهد بوحدانيته، مذعن له بطاعته، معترف بنعمته، فار إليه من ذنبه وخطيئته، مؤمل لعفوه ورحمته، طامع
في مغفرته، بري إليه من حوله وقوته.
لا يبتغى سواه رباً، ولا يتخذ من دونه ولياً ولا وكيلاً، عائذ به ملتج إليه، لا يروم عن عبوديته انتقالاً ولا تحويلاً.
وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً وأسمعهم لديه شفاعة، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه.
رفع له ذكره، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.(114/1)
أرسله الله على حين فترة من الرسل، والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال، يعبدون الأصنام ويدعون الأوثان ويتخذون الأنداد، وقد جمعوا إلى ذلك ألواناً من الفواحش والمنكرات، كالقتل والزنا وشرب الخمر ونكاح المحارم ووأد البنات، وزيادة في الكفر وإمعاناً في الغي والضلال.
فقام فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بما أوجبه الله عليه من الدعوة والتبليغ والإنذار خير قيام، ودعاهم إلى توحيد الله وترك الإشراك به ونبذ الآلهة والأصنام، فأبوا عليه وعاندوه وكذبوه، ثم تمالؤا عليه فآذوه وأخرجوه، هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
وظل - صلى الله عليه وسلم - مشمراً في تبليغ هذا الدين لا يرده عنه راد، صادعاً بما أمره الله لا يصده عنه صاد، حتى أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بدعوته القلوب بعد شتاتها، وعز جند الرحمن وذل حزب الشيطان وظهر نور الفرقان وقامت حجة الله على الإنس والجان.
فلما أظهر الله دينه وأكمله، وأتم على عباده نعمته وفضله، قبض إليه عبده ورسوله، تاركاً أمته على محجة بيضاء نقية وطريقة واضحة سوية لا يزيغ عنها إلا هالك.
* وظل نور النبوة ساطعاً في القرن الأول لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم يلتبس بظُلَم الآراء، حتى فتح عليهم باب الفتنة بعد مقتل الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونشأت من يومها الفرقة في الأمة، وظهرت البدع والأهواء، وخرجت الفرق الضالة كالخوارج والشيعة والقدرية وأهل الإرجاء.
* ثم كثرت في القرنين الثاني والثالث وتفرعت وافترقت، وازدادت كثرة في القرون التي تلت.(114/2)
* ولم تزل تنمو وتكثر وتتعدد، تحقيقاً لقضاء الله الكوني، وتصديقاً للحديث النبوي الذي أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.وهذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هي التي بقيت موصولة بالعهد القديم والنهج القويم، مستمسكة بحبل الله المتين متبعة صراطه المستقيم، مستضيئة بنور السنة والكتاب، مستنيرة بمنهج الأصحاب، قائمة بما أمر الله به من النصح والبيان والجهاد باليد واللسان والبنان.
ولقد سطر التاريخ حوادث متنوعة ووقائع متعددة من جهاد سلف هذه الأمة الخيرة، لدعاة البدع والأهواء مع ظهور أول بدعة في الدين، بدعة التكفير التي أسسها الخوارج، فقام الصحابة بواجب الرد والإنكار، فجادلهم حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وحاجهم، فهدى الله به جماعة منهم، وأصر الباقون على بدعتهم فقاتلهم الصحابة في وقعة مشهورة.
* ورد علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الشيعة بدعتهم، ولما أصر غلاتهم على الكفر حرقهم بالنار ليكونوا عبرة لأولي الأبصار.
* وأنكر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما على معبد الجهني رأس القدرية وتبرأ منه ومن بدعته.
* وأنكر الحسن البصري رحمه الله في عصر التابعين، على واصل بن عطاء رأس المعتزلة، وهجره وأمر بعزله عن مجلسه.
* ولما ظهر الجعد بن درهم رأس علماء الكلام وأول من قال بخلق القرآن، أنكر عليه وهب بن منبه وغيره من الأئمة وحذروه.
فلما أصر على كفره ضحى به خالد بن عبدالله القسري.
* وناظر الإمام الشافعي رحمه الله بشراً المريسي رأس الجهمية في وقته، وكفره أكثر الأئمة، وألف في الرد عليه الإمام عثمان الدارمي.(114/3)
* ولما صار للمعتزلة الجهمية صولة وسطوة في عهد المأمون الذي تبنى بدعتهم ودعا إليها وامتحن الناس عليها، وقف الأئمة منها موقفاً مشرفاً وعلى رأسهم إمام أهل السنة في عصره بلا منازع أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، وقد ألف فيهم كتابه المشهور "الرد على الجهمية والزنادقة".
* ولم يزل دأب أئمة السلف في الرد على أهل البدع والأهواء والتصدي للمخالفين عبر تلك القرون الطويلة، خاصة بعد حدوث النحل الخبيثة، القرامطة والباطنية والفلاسفة الملاحدة، وهذه الفرق هي أشد نكبة نكب بها الإسلام وأهله منذ أن خلق الله الخليقة إلى يومنا هذا، وقد قيض الله لها من يردها ويدحرها وينتصر للسنة وأهلها، إماماً عبقرياً من أئمة الهدى، وهو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عليه رحمة الله فناظرهم وجادلهم وحاجهم وألف في الرد عليهم وكشف زيفهم وباطلهم وله في الرد على كل الفرق المخالفة والمذاهب المنحرفة، مؤلفات عديدة، فكان بحق إمام أهل السنة في عصره وحامل لواء الذب عن عقيدة السلف والدفاع عن حوزة السنة والدفع في وجه كل بدعة مضلة.
ولا تزال مصنفات ذلك الإمام الفذ ورسائله في كل فن، وخاصة في تقرير مذهب السلف والرد على المخالفين، هي المرجع الأساس لكل من جاء من بعده من علماء الأمة.
ومن أجل ذلك عاداه أصحاب تلك النحل الفاسدة واجتمعوا عليه وتكالبوا ورموه عن قوس واحدة، ولما أعجزهم في مقام الحجة والبيان والمناظرة لجأوا إلى مثل ما لجأ إليه أعداء الرسل حين تنقطع منهم الحجة ويخرسهم منطق الحق { قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } .
وتفصيل الكلام على جهاد ذلك الإمام الهمام وردوده ومناظراته مع المخالفين لا تكفيه هذه الأسطر، ولا مئات الأسطر، ويكفينا الإشارة إلى بعضها، على سبيل المثال لا الحصر:(114/4)
فقد رد على غلاة المتصوفة وكفرهم، كابن عربي والحلاج وابن الفارض والعفيف التلمساني، ورد على الفلاسفة، كابن سينا والفارابي، وعلى الأشاعرة، كالرازي والباقلاني وأبي حامد الغزالي، وغيرهم.
* وظل الجهاد ماضياً بين أهل السنة والمخالفين، يقوى تارة ويفتر أخرى، إلى أن جاء عهد قويت فيه شوكت البدع وسرت في الأمة سريان النار في الهشيم، وبلغ الجهل بالدين مبلغاً يندى له الجبين، فعبدت الأصنام والأشجار والأحجار، وذبح عندها القرابين، وانتهكت المحارم وظهرت الفواحش والمنكرات وغدت أمور الدين وأركانه وفرائضه لدى كثير من أبناء
المسلمين نكرة من النكرات.
فقيض الله لهذه الأمة شيخ الإسلام، الإمام المصلح الرباني، محمد بن عبدالوهاب التميمي، الذي جدد الله به الدين ونصر به الملة وأعلى به السنة وقمع به الباطل ودحر به البدعة، فطفق يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك الإشراك به، ويبث فيهم مذهب السلف، وله مصنفات في تقرير مسائل التوحيد والرد على المخالفين، وأوذي من أجلها وامتحن حتى كتب الله له القبول في الأرض، فعمت دعوته أرجاء المعمورة، ونفع الله بها أمماً وخلائق لا يحصى عددهم إلا الخالق.
* واستمر الأمر على ذلكم المنوال، والخلاف قائم بين الطائفتين، دعاة السنة والائتلاف ودعاة البدعة والاختلاف، والحرب بينهما سجال، غير أن الحق دائماً منصور، والباطل مهزوم مدحور { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
أما بعد، وكان ممن حمل لواء البدعة في هذا الزمان، وانتصر لها، ونشرها بين الناس ودعا إليها وجادل عنها وماحل، الشيخ الدكتور محمد بن علوي المالكي(1) - هداه الله وأصلحه - الذي أعادها جذعة وأثارها فتنة وأحياها سنة جاهلية.
__________
(1) : يجتمع والدي مع الدكتور في الأب الثالث عبد العزيز المالكي.(114/5)
ولم يقتصر الشيخ في بث بدعة ومخالفاته ونشرها من خلال تلك المجالس والمحافل التي كان يعقدها هنا وهناك، فحسب، بل ألف في ذلك جملة من المؤلفات، أكثرها، إن لم يكن كلها، نقول من كتب أسلافه من المخالفين نقلها بعُجَرها وبُجَرها، فغدت كتبه ومؤلفاته مجمع أخطاء وسوءات ومحفل أغلاط ومنكرات.
ومن أشنع كتبه ومؤلفاته الجامعة لكل بلية في الدين ومصيبة في الاعتقاد، كتابا "الذخائر المحمدية" و "شفاء الفؤاد"، فقد شحنهما وسود صحائفهما بجملة من المخالفات والدواهي العظام التي تهدم قواعد الدين وأركانه وتنقض عرى الإسلام وكيانه.
ولأن الأمر فوق ما وصفت وأكبر مما ذكرت، فسوف أذكر خلاصة موجزة لأهم ما ورد في الكتابين المذكورين وأعرض مُثلاً مما سُطر فيهما لتستبين طريقته، وتنجلي حقيقته، فليس الخبر كالمعاينة، ثم أشرع بعدها في التعقيب والرد، مستعيناً بالله وحده مستلهماً منه التوفيق والرشد.
* * *
1- "الذخائر المحمدية"
تعريف
اسم الكتاب: "الذخائر المحمدية" القسم الأول.
حجم الكتاب: يقع في 354 صفحة من القطع المتوسط.
اسم المؤلف: "محمد بن علوي بن عباس المالكي المكي الحسني" كذا كتب على الغلاف.
طبع الكتاب: بمطبعة حسان بالقاهرة سنة 1978.
موضوع الكتاب: ذكر المؤلف في مقدمته أنه مجموعة مباحث متفرقة غير مرتبة، متعلقة بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ابتدأها بذكر نسبه الشريف وولادته وطرف من سيرته وشمائله ودلائل نبوته، وجملة من خصائصه وختم الكتاب بوفاته - صلى الله عليه وسلم -.
مصادر الكتاب: ذكر المؤلف مصادره في ثنايا الكتاب ومنها:
"المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" للقسطلاني المصري المتوفى سنة 923هـ، وشرحه للزرقاني المالكي المتوفى سنة 1122هـ.
ومنها: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض اليحصبي المتوفى سنة 544هـ.
و"الخصائص الكبرى" للسيوطي المتوفى سنة 911هـ.
و"الذخائر القدسية" لعبدالحميد قدسي.(114/6)
قلت: ولعله اقتبس اسم الكتاب من هذا الأخير فسماه "الذخائر المحمدية".
الردود والتعقيبات
* كتب في الرد على كتاب "الذخائر" الشيخ أبوبكر الجزائري جزءاً صغيراً سماه "كمال الأمة في صلاح عقيدتها" اقتصر فيه على بعض مسائل الكتاب بأسلوب سهل لطيف.
* وتبعه الشيخ عبدالله المنيع بكتاب "حوار مع المالكي" وكشف فيه كثيراً من أخطائه وضلالاته.
* والشيخ سفر الحوالي في عدة شرائط صوتية بعنوان "الرد على الخرافيين" تناول جذور المنهج الصوفي الذي ينتمي إليه مؤلف "الذخائر" وجلى بوضوح حقيقة هذه النحلة وطرائقها من واقع ما كتبه أقطابها، ومن أشهرهم: عبدالوهاب الشعراني المتوفى سنة 973هـ في كتاب "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار" وهو المعروف باسم "طبقات الشعراني الكبرى".
* وجاءت الردود والتعقيبات على الشيخين الجزائري، وابن منيع، ومنها:
1- "الرد المحكم المنيع" للشيخ يوسف الرفاعي رد به على الشيخ ابن منيع.
2- "التحذير من الاغترار بما جاء في كتاب الحوار" للشيخ عبدالكريم المغربي والشيخ عبدالحي العمراوي.
3- "إعلام النبيل بما في شرح الجزائري من التلبيس والتضليل" للشيخ راشد المريخي.
* فتعقبهم الشيخ الجزائري في جزء لطيف ممتع سماه "وجاءوا يركضون..مهلاً يا دعاة الضلالة".
* * *
2- عرض وتحليل
جاء في مقدمة الكتاب ما نصه (أما بعد، فهذه مباحث لطيفة وفوائد شريفة مختلفة ومتعددة لا يجمعها باب ولا يربطها فصل ولا يتصل بعضها ببعض، وإنما يربطها شيء واحد ذلكم أنها تتعلق بحضرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فهذه هي النقطة الجامعة بين مباحث هذا الكتاب.
وهو ليس جهد سنة ولا سنتين، بل هي ثمرات مطالعات طويلة ونتائج مدارسة قديمة اشتغلت بجمعها وتقييدها منذ عرَّفت نفسي أن طلاب العلم الشريف غذاؤهم المطالعة
بل هي روحهم وريحانهم وقرة أعينهم.(114/7)
ومنها خواطر في تفسير بعض الحقائق النبوية أو تحليل ما قد يستشكله بعض الناس في هذا الباب وردت على قلبي معانيها فأثبتها خشية ضياعها.
وما كنت أود إظهار هذه المجموعة المباركة لأنني مشتغل بجمعها، ولكن أشار على من
لا تسعني مخالفته بإبراز ما يمكن إبرازه ليستفيد منه من يحب ذلك..) اهـ.
قلت: ومن هذه المقدمة يظهر لك أمران:
أحدهما يتعلق بالمؤلف، وهو اعتداده بنفسه وشأنه وتفخيمه لعلمه وقلمه، كما يظهر من كلامه، مثل قوله (منذ عرَّفت نفسي..)، فالشيخ أكبر من أن يعرفه أحد أو يعلمه أحد
بل هو الذي عرَّف نفسه بنفسه وهو الذي علمها وأدبها، فلا غرو إذاً أن يكثر الشذوذ في آرائه وأفكاره، والنكارة في أقواله وأفعاله، ولله في خلقه شئون { قال إنما أوتيته على علم،
بل هي فتنة } .
والثاني: متعلق بالكتاب، وهو قوله (ليس جهد سنة ولا سنتين، بل هي ثمرات مطالعات طويلة..) الخ، وهذا يعني أن ما تضمنه الكتاب من أغلاط وشناعات ليست عثرة قلم
ولا زلة بنان، وإنما هي مسائل محررة ونقول مختارة بعناية لم تسطر إلا بعد تأمل ودراسة، ومطالعة ومدارسة، وهذا يدل على تمام الرضا وكمال الموافقة لكل ما نقله وسطره، خاصة وهو يسوق تلك الأقوال في معرض الرد على مخالفيه، ثم أكد رضاه التام بكل ما نقله بما كاله من عبارات الإطراء والتفخيم والتبجيل والتعظيم لأولئك القائلين وأقوالهم.
ومن أمثلة ذلك ما جاء في صحيفة (43) تحت عنوان (حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الدكتور:(كتب في هذا البحث الإمام الحافظ الفقيه ابن حجر الهيتمي قصيدة غراء، وشرحها العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي شرحاً موجزاً ذكرنا أكثره بعد القصيدة) ثم نقل القصيدة وقال عقبها في (ص46):(شرح هذه القصيدة العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي ، وقد رأيت شرحه هذا واستفدت منه هذه الفوائد الآتية).ثم ذكر الفوائد المستفادة من الشرح المذكور.(114/8)
قلت: أفمن يمدح قائلاً بمثل هذا المديح (الإمام الحافظ الفقيه) ويصف قصيدته بأنها (غراء) ألا يكون راضياً بما قال متابعاً له فيما نقل ؟
ثم وصفه لشارحها بـ (العلامة) وقوله عن الشرح :(واستفدت منه هذه الفوائد الآتية)
ألا يدل على أنه معتقد بقوله راض بحكمه موافق له في مذهبه ؟!
لقد حكم الله عز وجل في كتابه على من جالس أصحاب المعاصي في حال فعلهم للمعصية بأنهم مثلهم إذا لم ينكروا عليهم أو يقوموا عنهم، لأن ذلك دليل على رضاهم بالمعصية وقبولهم لها كما قال تعالى: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } ]النساء: 140[.
قال القرطبي رحمه الله (5/418):(فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر.قال الله عز وجل { إنكم إذاً مثلهم } فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء.
وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية).
ثم قال القرطبي:(وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى) اهـ.
قلت: فهذا حكم من جالسهم فقط، فكيف لو وافقهم وأظهر الرضا بكلامهم واحتفى به وأثنى عليه، ثم نقله إلى الآخرين محتجاً به مجادلاً عنه منتصراً له، ثم زاد على ذلك كله بأن خلع عليه وعلى قائليه حلل التفخيم وغلائل التقديس ؟!
* ولننظر الآن ما جاء في تلك القصيدة (الغراء)!! كما زعم :
قال (ص43-45):
تواترت الأدلة والنقول فما يحصي المصنف ما يقول
بأن المصطفى حي طري هلال ليس يطرقه أفول
إلى أن قال:
وصوم ثم حج كل عام يجوز عليه بل لا يستحيل
ويطهر للصلاة بماء غيب ويقضيها بذا ورد الدليل(114/9)
يصلي في الضريح صلاة خمس دواماً لا يمل ولا يميل
إلى أن قال:
وبقعته التي ضمته حقاً رياض من جنان تستطيل
كذا اللحد الذي ضم الطوايا تشرف حين حل به النزيل
وأفضل من عرش ومن جنان عدن وفردوس بها خير جزيل
وفي القبر الشريف تراه حياً إلى كل البقاع له وصول
ولولا أنه حي حري بإدراك كما نقل الفحول
لما سعت الشموس إليه حقاً تسلم حين تطلع أو تزول
وما كان الحجيج إليه يسعى ويرجو أن يكون له قبول
إلى أن قال:
ويلقاهم إذا وفدوا عليه وينظرهم إذا ازدحم القفول
ثم قال:
ومن لم يعتقد هذا بطه يقيناً فهو زنديق جهول
عُبيد هيتمي مستجير بمن حطت بساحته الحمول
قلت: ولست بصدد التعقيب والرد على ما حوته هذه الأبيات من أغلاط شنيعة وأخطاء جسيمة، فهذا له موضع آخر ستراه إن شاء الله في هذا الكتاب.
لكن تأمل معي قول الناظم:(ومن لم يعتقد هذا بطه يقيناً فهو زنديق جهول)، فهو يؤكد ما ذكرته من أن المخالف موافق لما ينقل راض به غاية الرضا، وإلا لكان داخلاً في جملة المحكوم عليهم بالجهل والزندقة (أي الكفر) !
وهو بين أمرين أحلاهما مُر، إما أن يكون معتقداً بما في تلك القصيدة (الغراء) !،
كما وصفها، موافقاً لناظمها (الإمام الحافظ الفقيه)!، كما وصفه، مقلداً له في كل
ما ذهب إليه:
* من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في قبره الصلوات الخمس متطهراً بماء الغيب، وأنه يصوم ويحج مع المسلمين كل عام فيقف بالمشاعر ويؤدي المناسك، ثم يستقبل حجاج قبره ويتلقاهم حين يفدون إليه، وأن قبره أفضل من الكعبة والمسجد الحرام ومن السموات والأرض وجنة عدن بل أفضل حتى من العرش الذي استوى عليه الرحمن !!
* وأن من لم يعتقد بمثل هذا الاعتقاد يقيناً من غير شك فهو في نظر هذا المؤلف: كافر زنديق خارج عن الإسلام حلال الدم والمال.(114/10)
* وإما أن يكون المؤلف منكراً لما جاء في تلك الأبيات من اعتقادات باطلة، فيكون في عداد المحكوم عليهم بذلك الحكم الجائر، الكفر والجهل، وعليه فكيف يسوغ له عقلاً وشرعاً أن يحتفي بها ويمتدحها وقائلها ويعظمها ويعظمه ؟ إلا إذا كان راضياً بذلك الحكم مغتبطاً به والعياذ بالله !
أقول: ولا شك أن الأمر الأول هو الظاهر، وإنما أوردت الاحتمال الآخر على وجه الإلزام إذ لا يعقل أبداً أن يحكي الإنسان قولاً ويصبغه بتلك الحفاوة ويبالغ في تعظيمه وإطرائه ويجادل به وينافح عنه إلا وهو معتقد به كل الاعتقاد راضٍ به غاية الرضا.
* مثال آخر: في صحيفة (158) ذكر تحت عنوان (فأنت باب الله) ما نصه: (للقطب الكبير سيدنا محمد بن أبي الحسن البكري المصري، وهي مجربة لقضاء الحوائج تقرأ في آخر الليل بعد ما تيسر من الصلاة، يكرر بيت: عجل بإذهاب الذي أشتكي 73 مرة) ثم ذكر القصيدة.
قلت: ومن كانت هذه عباراته في الثناء والإطراء البالغين على القائل، أيكون موافقاً له أم مخالفاً ؟!
وقوله عن أبيات القصيدة إنها مجربة لقضاء الحوائج، ثم وصيته بتكرير بيت منها خاصة 73 مرة، دليل على رضاه بها واعتقاده وقبوله لها أم العكس؟
والجواب معلوم ببداهة العقول، ولننظر الآن ماذا قال سيده (القطب الكبير)!:
ما أرسل الرحمن أو يرسل من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به في كل ما تشتكي فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به في كل ما ترتجي فإنه المأمن والمعقل
وحط أحمال الرجا عنده فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة أنشبت أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة فرجت كرباً بعضه يذهل
إلى قوله:
عجل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل
فحيلتي ضاقت وصبري انقضى ولست أدري ما الذي أفعل
إلى قوله:(114/11)
فأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
* مثال آخر: في صحيفة (201) ذكر تحت عنوان (خلاصة مفيدة في الخصائص النبوية) ما نصه: (اعتنى العلماء بالخصائص النبوية وألفوا فيها كثيراً من الكتب وأشهرها "الخصائص الكبرى" للحافظ السيوطي وقد لخصه السيوطي في رسالة موجزة، ونحن نلتقط منه هذه الدرر مع التهذيب وجملة هذه الخصائص تنحصر في ثمانية أقسام سنذكرها بعد هذه المقدمة).
قلت: فاختياره وتهذيبه لتلك الخصائص (الدرر)، على حسب وصفه لها، لا يكون
إلا مع تمام الموافقة وكمال الرضا والقبول.
ونسوق إليك أخي - القارئ - درراً من تلك الخصائص المزعومة "الذخائر المحمدية"
(ص201-228):
1- (خُصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أول النبيين خلقاً).
2- (وخَلْق آدم وجميع المخلوقات لأجله).
3- (وكتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت).
4- (وذكر الملائكة له في كل ساعة).
5- (وبأنه سمي من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسماً).
6- (وأوتي علم كل شيء حتى الروح والخمس التي في آية { إن الله عنده علم الساعة } ).
7- (وكان يسمع حفيف أجنحة جبريل وهو في سدرة المنتهى، ويشم رائحته إذا توجه بالوحي إليه).
8- (وسأل ربه أن لا يَدخل النارَ أحدٌ من أهل بيته فأعطاه ذلك).
9- (وإذا رغب في مزوَّجة وجب على زوجها طلاقها لينكحها).
10- (وأن يزوج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها، ويزوجها لنفسه).
11- (وكان يُقطع الأراضي قبل فتحها لأن الله ملَّكه الأرض كلها، وله أن يُقطِع أرض الجنة من باب أولى).
12- (ولا يجوز التزوج على بناته، ومنع بعض العلماء التزوج على ذرية بناته وإن سفلن إلى يوم القيامة) قال:(ووجهه ظاهر).
13- (وردت إليه الروح بعد ما قبض ثم خير بين البقاء في الدنيا والرجوع إلى الله فاختار الرجوع إليه).
ثم ختم الخصائص، التي استغرقت منه ثلاثين صفحة، بقوله:(قال الإمام الشعراني(114/12)
رضي الله عنه وقد كتبت هذه الخصائص من خط سيدنا وشيخنا خاتمة الحفاظ الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله ونفعنا بعلمه والمسلمين).
* * *
2- "شفاء الفؤاد"
1- تعريف
اسم الكتاب:"شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد".
حجم الكتاب:يقع في 237 صفحة من القطع المتوسط.
اسم المؤلف: (السيد محمد بن السيد علوي بن السيد عباس المالكي الحسني.خادم العلم الشريف في البلد الحرام).كذا كتب على الغلاف.
طبع الكتاب: طبع على نفقة وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية. الطبعة الأولى سنة 1411هـ.
موضوع الكتاب: متعلق بزيارة القبر النبوي الشريف وآداب الزيارة ومشروعية شد الرحال إليه وأحوال الزائرين ومقاماتهم، وذكر مجموعة من الأوراد والأذكار التي تقال عند القبر.
ثم ختم الكتاب بجملة من القصائد ابتدأها من صفحة 203 إلى نهاية الكتاب.
تقريظ الكتاب: قدم للكتاب وزير الشئون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية، قرظ فيها الكتاب وأطرى مؤلفه، ومما قاله في مقدمته: (أما بعد فهذا السِفر الجليل والبحث النفيس...لمؤلفه الشريف العلامة الجليل سماحة الدكتور السيد محمد بن علوي..قد جلا فيه وجه الصواب..وأوضح سبيل الرشد بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة بأسلوب علمي دقيق وتوفيق رائع عميق فقضى بذلك على الشقاق والخلاف..وجمع بذلك كلمة المسلمين).
مصادر الكتاب: ذكر المؤلف مصادره في الكتاب وقد بلغ تعدادها 86 مصدراً، ومن أهم
مصادره التي اعتمد عليها في كتابه: "شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام" لتقي الدين السبكي المتوفى سنة 756هـ وقد اعتمد عليه اعتماداً كلياً، ونقل منه أكثر مباحث الكتاب حتى المقدمة والعنوان.
واعتمد أيضاً على كتاب "الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم" لابن حجر الهيتمي المكي المتوفى سنة 973هـ.
الردود والتعقيبات(114/13)
* لا أعلم أحداً من أهل العلم صنف في الرد على الكتاب سوى الشيخ سفر بن عبدالرحمن الحوالي، حيث كتب ورقات في بيان بعض الأخطاء الشنيعة التي حواها الكتاب، وله درس مسجل في شريط صوتي ألقاه في أحد المساجد رد فيه على بعض ضلالات المؤلف وأغلاطه في مسائل الاعتقاد، وهو رد لطيف سهل مفيد.
* وتعقب الشيخ سفر، أحد تلامذة الدكتور العلوي في شريط صوتي، لكنه لم يذكر اسمه
ولا نسبه وإلى هذه اللحظة هو مجهول الاسم والحال والصفة.
2- عرض وتحليل
قال المؤلف في مقدمة الكتاب (أما بعد: فهذه مباحث لطيفة ومسائل شريفة تدور حول زيارة أعظم خلق الله وأكرم رسل سيدنا محمد بن عبدالله عليه صلوات الله.نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل ذلك منا وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه سميع قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه: السيد محمد بن علوي بن عباس المالكي الحسني).
قلت: وقد حوت مباحث الكتاب (اللطيفة) ومسائله (الشريفة) كسابقه على جملة وافرة من الأخطاء الشرعية في مسائل شتى في التفسير والحديث والفقه، وأشنعها تلك المتعلقة بأصول الاعتقاد.
وما قيل في الكتاب السابق يقال في هذا، حيث جمع المؤلف سقطات المخالفين وساقها بقلم الحفاوة والرضا، ممجداً أصحابها مضيفاً عليهم ألقاب التعظيم والتفخيم.ومن أمثلة ذلك:
* في صفحة (97) قال: (قال محيي السنة ومميت البدعة ابن الحاج في كتابه "المدخل"، وهو معاصر لابن تيمية وتوفي بعده بسنوات، في فصل زيارة القبور:(114/14)
وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيأتي عليهم الزائر، ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع وليحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره..) إلى أن قال (ثم يتوسل إلى الله بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك..فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم، هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عموماً.
قال رضي الله عنه: فصل: وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه فكل ما ذكر يزيد أضعافه، أعني في الانكسار والذلة والمسكنة..) إلى أن قال: (فمن توسل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يرد ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار)
ثم قال: (إن الزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته إذ
لا فرق بين موته وحياته، أعني في مشاهدته لأمته ومعرفة أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم وذلك عنده جلي لا خفاء فيه...) اهـ.
* وفي صفحة 120 قال: (ذكر الإمام العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد القشاشي صيغة زيارة تقال عند المواجهة الشريفة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وتستشعر جوابه - صلى الله عليه وسلم - لك عند ذلك ولو بالغيب، فالإيمان بالغيب حصول على المغيب بالغيب يقيناً وتقول: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا باطن، السلام عليك يا ظاهر..) إلى أن قال: (ويقال: إن ذلك من تحية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ).(114/15)
* وفي صفحة 131 تحت عنوان (حقيقة الزيارة وتعريفها) قال ما نصه: (قال الإمام العارف بالله الشيخ أحمد المعروف بالقشاشي: الزيارة الحقيقية مضبوطة شرعاً بالقصد له في مسجده ومدينته والوقوف عنده والسلام عليه والتوسل به في تحقيق وجوب الشفاعة له) إلى أن قال: (فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات: الشفاعة والبشرى بالموت على
الإسلام..فقد أتم الله للحبيب المضاهاة بكل الحالات) انتهى نقله باختصار.
* ثم عقد المؤلف فصلاً خاصاً سماه (الزيارة النبوية والشعر) ابتدأه من (ص201) إلى (ص237) وأنهى به الكتاب.
قال أوله: (وسنذكر في هذا المبحث جملة من غرر القصائد النبوية والمدائح المحمدية التي يستحسن أن تقال أمام المواجهة النبوية وفي حضرة الزيارة المحمدية حيث اشتملت على خطابه صلى الله عليه و سلم بأجمل أنواع الخطاب وأبلغ أساليب السلام..).
قلت: ثم ساق القصائد المذكورة ودبجها بعبارات المديح والثناء والإطراء، ومن أمثلتها:
القصيدة الأولى: (قصيدة الحجرة النبوية الشريفة) قال الدكتور (ص203):
(أنشأ هذه اليتيمة العصماء السلطان عبدالحميد خان..واستحقت بإخلاص ناظمها وحبه الصادق لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنقش على الحجرة النبوية).
ومما جاء فيها:
يا سيدي يارسول الله خذ بيدي مالي سواك ولا ألوي عل أحد
فأنت نور الهدى في كل كائنة وأنت سر الندى يا خير معتمد
وأنت حقاً غياث الخلق أجمعهم وأنت هادي الورى ذي المدد
إني إذا سامني ضيم يروعني أقول يا سيد السادات يا سندي
وانظر بعين الرضا لي دائماً أبداً واستر بفضلك تقصيري مدى الأمد
واعطف علي بعفو منك يشملني فإني عنك يا مولاي لم أحد
إني توسلت بالمختار أشرف من رقى السموات سر الواحد الأحد
رب الجمال تعالى الله خالقه فمثله في جميع الخلق لم أجد
* القصيدة الثانية: (القصيدة الوترية البغدادية) قال عنها الدكتور (ص205-206):(114/16)
(هذه القصيدة العصماء هي إحدى القصائد الوترية في مدح خير البرية - صلى الله عليه وسلم - للإمام الفاضل الأديب الكامل الواعظ الصالح الزاهد أبي عبدالله مجد الدين) إلى أن قال: (وقد حظيت أن ينقش أكثرها أمام المواجهة النبوية الشريفة).
وجاء فيها:
بنور رسول الله أشرقت الدنا ففي نوره كل يجيء ويذهب
براه جلال الحق للخلق رحمة فكل الورى في بره يتقلب
بعزته سدنا على كل أمة وملتنا فيها النبيون ترغب
بذلي بإفلاسي بفقري بفاقتي إليك رسول الله أصبحت أهرب
بجاهك أدركني إذا حوسب الورى فإني عليكم ذلك اليوم أحسب
* القصيدة الثالثة: (القصيدة الحدادية الداخلية) قال الشيخ الدكتور (207-209):(هذه القصيدة العصماء للإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد الولي الكبير العارف بالله تعالى الشهير السيد الحبيب النسيب الشيخ عبدالله بن علوي الحداد..رضي الله تعالى عنه)..
إلى أن قال: (وقد حظيت أن تنقش داخل الحجرة النبوية الشريفة لإخلاص ناظمها وحبه الأكيد).
وجاء فيها:
نزلنا بخير العالمين محمد نبي الهدى بحر الندى سيد العرب
ملاذ البرايا غوث كل مؤمل كريم السجايا طيب الجسم والقلب
كريم حليم شأنه الجود والوفا يرجى لكشف الضر والبؤس والكرب
وقفنا على أعتاب فضلك سيدي لتقبيل ترب حبذا لك من ترب
توجه رسول الله في كل حاجة لنا ومهم في المعاش وفي القلب
عليك سلام الله ما سار مخلص إليك يقول: الله والمصطفى حسبي
عليك سلام الله أنت ملاذنا لدى اليسر والإعسار والسهل والصعب.
* القصيدة الخامسة: قال الدكتور(ص212-213): (للإمام العارف بالله عبدالرحيم البرعي).
جاء فيها:
يا صاحب القبر المنير بيثرب يا منتهى أملي وغاية مطلبي
يا من نرجيه لكشف عظيمة ولحل عقد ملتو متعصب
يا من يجود على الوجود بأنعم خضر تعم عموم صَوْب الصَّيب
يا غوث من في الخافقين وغيثهم وربيعهم في كل عام مجدب
يا رحمة الدنيا وعصمة أهلها وأمان كل مُشرق ومغر(114/17)
يا من نناديه فيسمعنا على بعد المسافة سمع أقرب أقرب
يا سيدي إني رجوتك ناصراً من جور دهر خائن متقلب
فأقل عثار عُبيدك الداعي الذي يرجوك إذ راجيك غير مخيب
واكتب له ولوالديه براءة من حر نار جهنم المتلهب
واقمع بحولك باغضيه وكل من يؤذيه من متمرد متعصب
واشفع له ولمن يليه وقم بهم في كل حال يا شفيع المذنب
وعليك صلى ذو الجلال أتم ما صلى وسلم يا رفيع المنصب
* القصيدة العاشرة: قال الدكتور (ص220-223): (للإمام عبدالله بن علوي الحداد).
جاء فيها:
وقفنا وسلمنا على خير مرسل وخير نبي ما له من مناظر
فرد علينا وهو حي وحاضر فشرف من حي كريم وحاضر
هو الساس وهو الرأس للأمر كله بأولهم يدعى لذاك وآخر
ألا يا رسول الله عطفاً ورحمة لمسترحم مستنظر للمبارر
ألا يا حبيب الله غوثاً وغارة لذي كربة مسودة كالدياجر
ألا يا أمين الله أمناً لخائف أتى هارباً من ذنبه المتكاثر
ألا يا صفي الله قم بي فإنني بكم وإليكم يا شريف العناصر
ويا غوث كل المسلمين وغيثهم وعصمتهم من كل خوف وضائر
* القصيدة الرابعة عشرة: قال الدكتور (ص227- 228): (للشيخ جمال الدين يحيى الصرصري).
جاء فيها:
جئناك نطوي القفار الشاسعات على عيس لهن بنا وخد وإرقال
فاعطف على وفدك الراجين فضلك يا من عنده للعطاء الغمر إجزال
وها عُبيدك يحيى قد أتاك مستأنساً وجلاً مما يزخرف حاوي المكر محال
فاسأل الله أن أحيا على سنن سننتها فبها قد ينعم البال
* القصيدة السادسة عشرة: (زيارة حبشية) قال الدكتور (ص230- 231): (للإمام العارف بالله الحبيب علي بن محمد الحبشي رضي الله عنه).
جاء فيها:
يا ملاذ الكل يا أهل الندى يا كريم الأصل يارب الحور
يا غياث الخلق يا ذا الفضل والجود والإحسان في بحر وبر
يا لجا اللاجين يا خير نبي ورسول جاء حقاً بالسور
أنت بباب الله لا يقصده الشخص إلا فاز حقاً بالوطر
يا رسول الله غوثاً عاجلاً يدفع البلواء عنا والضرر(114/18)
قد لجونا نحو بابك سيدي ووقفنا ننتظر منك الخبر
وارحم الأمة جميعاً إنهم لم يزالوا في عناء وكدر
وأرحمهم من عنا هذا الوبا واطلب الرحمن يسقيهم مطر
فبحق الطهر طهر سيدي لجميع الأرض من هذا الضرر
وبحق الحسنين ارفع لما قد عرى وارحم فقد زاد الحذر
* القصيدة الثامنة عشرة: قال الدكتور (ص234): (للسيد محمد أمين كتبي).
جاء فيها:
مالي من الأعمال ما أرجو به فوزاً ولكن في نداك رجائي
فامنن علي بنظرة وبتوبة وصيانة وسلامة وشفاء
واشفع لدى المولى الكريم تفضلاً لأكون صاحب صفحة بيضاء
فلأنت في الدنيا وفي الأخرى وفي كل المواطن عدتي وندائي
فامنن علينا بالزيارة عاجلاً في صحة وسلامة وهناء
حسبي بجاهك مأمناً ومثابة وببحر جودك مورد استغنائي
* القصيدة التاسعة عشرة: قال الدكتور (ص235): (للإمام العارف بالله السيد محمد أمين كتبي).
جاء فيها:
كلما لحت للملائك خروا في السموات سجداً وبكيا
ومددت الأكوان شرقاً وغرباً مدداً في كيانها كليا
3- الخلاصة
وبعد، فلعل فيما تقدم من عرض وتحليل لمجمل ما في الكتابين "الذخائر" و "شفاء الفؤاد"، كفاية في الدلالة على بقية محتوياتهما، وبيان حقيقة منهج المؤلف وطريقته ونحلته التي يدعو إليها، وهي كما رأيت ليست أخطاءً هينة ولا مخالفات يسيرة مما يسوغ فيه الاجتهاد ويقبل الخلاف تبعاً لدلالات النصوص وتباين المدارك والفهوم بل هي أغلاط منكرة وعقائد زائغة وضلالات جسيمة تخالف شريعة الإسلام بالكلية وتناقض أسسه وقواعده وأصوله.
هذا وما نقلته لك إنما هو غيض من فيض متراكم ونقطة من بحر متلاطم، والأمر- والله - أعظم مما وصفت وأكبر مما رأيت، ولو رمت سرد كل مغالطات المؤلف وسقطاته، مجرد سرد، دون تعقب، لأفضى إلى التطويل المفضي إلى الإملال، إذ لم تكد تخلو صفحة مما كتب من خطأ واضح جلي في مسائل التوحيد وقضايا الاعتقاد.(114/19)
* لقد مر بك قوله(1): (ما أرسل الرحمن أو يرسل، من رحمة تصعد أو تنزل..إلا وطه المصطفى عبده.. واسطة فيها وأصل لها)، وهذه منازعة للرب عز وجل في صفة الرحمة.
* وقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:(إذ لا فرق بين حياته وموته.. في مشاهدته لأمته ومعرفة أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم)، وهذه منازعة للرب سبحانه في صفة العلم.
* وقوله أيضاً: (يا من نناديه فيسمعنا على بعد المسافة سمع أقرب أقرب) وهذه منازعة للرب جل وعلا في صفة القرب.
* وقوله كذلك إنه (سمي من أسماء الله تعالى ينحو سبعين اسماً) بل ذهب أبعد من ذلك فزعم أن له - صلى الله عليه وسلم - كل أسماء الله الحسنى(2)، فلم يُبق لله اسماً يختص به.
* وسمعت قوله: (يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي، مالي سواك ولا ألوي على أحد) وقوله أيضاً: (عجل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل ؟) وهذه منازعة صريحة في الألوهية.
__________
(1) : لعل معترضاً يقول هذه الأخطاء المذكورة إنما نقلها المؤلف عن غيره، ليست هي من قوله، فكيف تنسبها إليه؟
فالجواب أن يقال: نعم. أكثر الأخطاء الواردة في كتابيه من إنشاء غيره، لكن المؤلف ساقها راضٍ بها، محتجاً بها، منتصراً لها، معظماً لقائليها، ومجادلاً خصومه بها، وليس هو مجرد ناقل لها فحسب، كما تقدم تقرير ذلك والتدليل عليه، فمن ثم يصح أن تنسب إليه على وجه الإلزام من غير أن ينقص من أوزار قائليها شيئاً.
ثم إن هذا الأمر لن يغضب المؤلف، كما يظن المعترض، بل هو يفرحه كثيراً، وإلا لما كانت تلك الحفاوة البالغة لهاتيك المنكرات ولأصحابها، كما مر معنا عند عرض الأمثلة، وإنما يغضب لذلك من ينكرها ويتبرأ منها ومنهم، والله تعالى أعلم.
(2) : أنظر "شفاء الفؤاد" (ص126).(114/20)
* ولما كانت الصفة الغالبة على المؤلف في اختياره ونقله وتقريره واجتراره لمسائل الكتابين هي مخالفة النص الصريح من القرآن والسنة وإجماع السلف، مع الإصرار على تلك المخالفة والتأكيد على الإصرار فقد أطلقت عليه اسم "المخالف"، وهو أقل وصف يستحقه بعد الذي رأيته من نصوص كلامه، وما ستراه أشد وأنكى.
* ولا أدل على إصراره على المخالفة وتشبثه بها وعضه عليها، من تكراره لنفس الأخطاء الشنيعة والطامات الموبقة التي أكثر منها في كتابه الأول "الذخائر"، وإعادتها بمثلها وأعظم منها وأشنع في كتابه الأخير "الشفاء"، مع طول الفترة بين التأليفين والتي قاربت العشرين عاماً.
* ثم إنه نوقش بما في كتابه الأول، ورُد عليه وبُين له وجه الخطأ وعُقد له مجلس مشهود مع بعض أهل العلم، وكان الظن به وبمن هو في منزلته وعلمه أن يتوب ويرجع، ولو فعل لكان خيراً له وللناس وأقوم، ولكنه - هداه الله - أصر واستكبر وأعاد الكرة في الكتاب الآخر بأسلوب أصرح وأوضح من ذي قبل، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
* ولا ينقضي عجبي من أولئك الذين عرفوا حقيقة هذا "المخالف" وظهر لهم إصراره على المخالفة ثم يستهلكون في الدفاع عنه وتكلف الأعذار له، ولو على حساب الدين والعقيدة والإيمان !
أقول لهم: ما رأيكم بمن يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتي علم الغيب ومفاتحه الخمس وعلم الروح، وإنه يملك حق الإقطاع في الجنة لمن شاء، وإن أسماءه مطابقة لأسماء الله الحسنى، وإنه المنعم على كل الوجود، الممد بالخير والبر لكل موجود، لجا اللاجين، وغياث المستغيثين، غافر الذنب وقابل التوب، الذي من أجله خُلق الكون وله يسجد من في السموات ومن في الأرض، وقبره خير من الجنة والعرش...وهلم جراً ؟!
أوقفهم على كل هذه العظائم ومثلها ومثلها ومثلها...فيتكلفون له الأعذار ويتمحلون عنها الجواب:
* فمن قائل: (هذه الأقوال مدسوسة عليه وعلى كتبه، ولا يمكن صدورها عنه)!(114/21)
* ومن قائل: (هذه الأقوال يمكن أن تُؤَوَّل وتُحمل على أحسن محمل)!
* ومن قائل: (هلا ناقشته وبينت له وأوضحت له فلعله يقنعك أو يقتنع، وإن أخطأ فلعله إذا روجع أن يرجع)!
وأنا أقول لهؤلاء المتكلفين: اربعوا على أنفسكم وأريحوها من هذا التكلف العسير، فقد
قدمت إليكم ما يؤكد تأكيداً جازماً لا شك فيه أن الكلام كلامه والقول قوله وهو لا يفتأ
يكرره في مصنفاته، وإن كنتم في ريب مما أقول فاسألوه يخبركم الخبر اليقين.
وأما تأويل الكلام ولي عنقه وحمله على محامل حسنة لتوافق الصواب، فهو أمر جد عسير بل هو ضرب من المستحيل في أكثر الأحيان.
* إذ كيف يمكن تأويل قوله: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي علم الخمس والروح وله حق الإقطاع في الجنة لمن شاء)؟
* وكيف نتأول قوله: (كلما لحت للملائك خروا، في السموات سجداً وبكياً) ؟
* وبم نتأول خطابه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (وانظر بعين الرضا لي دائماً أبداً، واستر بفضلك تقصيري مدى الأمد)؟
* وكذا قوله له: (واعطف علي بعفو منك يشملني، فإنني عنك يا مولاي لم أحد)؟
وقل مثل ذلك في سائر الأقوال المنكرة التي يستحيل تأويلها لصراحتها ووضوح نكارتها.
وليس أدل على ما ذكرت من عجز أولئك "المتكلفين"، عن الجواب عن تلك المنكرات الشنيعة التي شحن بها المخالف كتابيه، فحادوا عنها إلى مسائل أخرى دندنوا حولها وشغبوا بها، ليوهموا العوام بأنها هي أس الخلاف القائم بين الفريقين، وليستروا بها تلك الفضائح التي هي أصل الخلاف وحقيقة الاختلاف.
وأضرب لهم مثلاً على ذلك، مسألة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، التي دأبوا على إثارتها وإكثار الجدال فيها ليوهموا من لا دراية له بحقيقة الأمر أنها أكبر ما يؤخذ على هذا المخالف وينكر. وليس الأمر كما زعموا، فالأمر أعظم من ذلك وأخطر.
فإن قيل: فما قولكم في "المولد"؟(114/22)
فالجواب: إن ذلك يحتاج إلى تفصيل، لا تحتمله هذه الورقات، وليس هو موضوع هذا الكتاب، ولكن يمكن أن ألخص الكلام فيه في هذه النقاط العشر:
1- المولد النبوي نفسه، بمعنى وقت ولادته، اختلف في تحديد يومه وشهره بين علماء المسلمين ممن كتب في السير والملاحم والتاريخ، مع اتفاقهم على أنه يوم الاثنين كما ورد بذلك الخبر الصادق عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- ومن دوَّن فيه وكتب من أهل العلم، فلكونه من أحداث السيرة النبوية، فيذكرون الإرهاصات السابقة لمولده - صلى الله عليه وسلم - ثم مولده ونشأته وحياته قبل البعثة وبعدها إلى يوم وفاته.
3- وأما الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - فهو ممكن عقلاً لمن حضر ذلك اليوم الذي ولد فيه،
وأما بعده فلم يبق إلا حدثاً وسيرة كسائر الأحداث والسير التي مرت في حياته - صلى الله عليه وسلم -.
4- ومعلوم أن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدت ثلاثة وستين عاماً، منها أربعون قبل البعثة وثلاثة وعشرون بعدها، فكل يوم فيها هو يوم من حياته الشريفة المباركة ولا يقل شرفاً ولا أهمية عن يوم ولادته بل قد يفضل عليه، كيوم بعثته مثلاً.
5- والاحتفال بمولده بمعنى إحياء ذكرى ذلك اليوم واتخاذه عيداً يتكرر على الدوام،
لم يفعله صاحب الشأن نفسه ولم يرغب فيه حتى مات - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفعله صحابته الكرام
ولا أزواجه ولا أهل بيته ولا التابعون ولا أتباعهم ولا الأئمة الأعلام.
6- ومضت تلك القرون الفاضلة والأمر على ما هو عليه من ترك الأمة كلها من شرقها إلى غربها الاحتفال بذكرى المولد أو غيره من الأيام، التي كما ذكرت لا تقل عنه أهمية، فهي جزء من حياة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.(114/23)
7- هذا وقد كثرت مجالسهم في فنون العلم، في التفسير والحديث والفقه واللغة والأدب والشعر، وسائر العلوم والفنون، ولم يخصوا مجلساً واحداً ولا محفلاً واحداً من تلك المحافل على تنوعها، باحتفال بذكرى أي يوم من تلك الحياة الشريفة الحافلة.
8- حتى إذا حدث النقص في الأمة في القرون التالية للقرون الفاضلة وتقلد زمام الأمر فيها فرقة باطنية ضالة، أبطنت الكفر والزندقة وأظهرت الإسلام والتشيع، وصارت لها دولة، هي الدولة العُبيدية، وهي المسماة بالدولة الفاطمية، فأحدثت الاحتفال بذكرى المولد النبوي، وكان ذلك في سنة 361هـ.
فتأمل - رحمك الله - كيف يمكن أن يهمل خير هذه الأمة وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قربة من أعظم القرب، ويغفلون عنها، وفيهم ومن بينهم من لو وزن بالأمة كلها لرجح بهم، ويتتابعون على هذا الإهمال وذلك الإغفال كابراً بعد كابر، وجيلاً بعد جيل، ثم يهتدي إليه ويسبقهم إليه أصحاب تلك النحلة الخبيثة الباطنية!!!
9- وإن تعجب، فعجب قولهم (إن لنا على ذلك الاحتفال أدلة)، أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين دليلاً، بعضها من القرآن وبعضها من السنة وبعضها أدلة عقلية!!
وليت شعري، كيف فات النبي - صلى الله عليه وسلم - استنباطها من القرآن وهو ينزل عليه، ومن السنة وهو الناطق بها ؟
ثم كيف فات أكابر الصحابة وعلماءهم وفضلاءهم، والله تعالى يقول: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ؟
وقل مثل ذلك في التابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الأمة، كيف عميت عليهم معاني تلك النصوص وغبي عليهم فهمها، وهم أساطين العلم والفهم والعقل؟
10- وأخيراً فإن أكثر الناس لا يعرفون هذه الحقائق، وتختلف أفهامهم ومقاصدهم من حضور تلك الاحتفالات:
* فمنهم من يقصد بها دراسة السيرة النبوية، ولا يفهم من معنى"المولد" إلا هذا، وهؤلاء هم السواد الأعظم من الحاضرين والمحتفلين.(114/24)
* ومنهم من يقصد بها التبرك بحضور مجالس الذكر، فكل مجلس ذكر عندهم يمكن أن يطلق عليه "مولد".
* ومنهم من يحضرها إجابة للدعوة ومشاركة في الاجتماع، ويعتبرها من أمور العادات.
وعلى كل حال فإن قضية "المولد"، بمعنى الاحتفال بذكراه، ونحوه من المبتدعات ليست أصل النزاع بين "المخالف" وبين خصومة من أهل العلم ممن تعقبه ورد عليه، كما زعم أولئك المتكلفون، مع أنها محل خلاف بين الفريقين، ولكن أصل النزاع - معشر المؤمنين - هو كما ذكرت في أصول الدين وأركانه.
فإن كان الخلاف في أصول الدين وأركانه، فالأمة كلها معنية به، ومن حق المسلمين جميعاً، بل من الواجب المتحتم عليهم أن ينصروا الحق ويعلوا رايته، ويوالوا أهله، وأن يقمعوا الباطل ويدمغوا رايته، ويعادوا أهله ويتبرءوا منهم، عملاً بقول الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .وإذعاناً لأمره ونهيه إذ قال: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .وقال أيضاً: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ]التوبة:71[.
ووقوفاً عند حده في قوله: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون } ]المجادلة:22[.فذلك هو أقل الواجب وأضعف الإيمان، أن يتبرأ المؤمنون من هؤلاء المخالفين وأضرابهم وأن يتبرءوا إلى الله من أقوالهم وأفعالهم وبدعهم ومنكراتهم.
وثمة واجب آخر فرضه الله عز وجل على طائفة من عباده المؤمنين، لا يسعهم النكوص عنه ولا التنصل منه، وهو النصيحة في الدين، وجهاد المخالفين، وفاءً بعهد الله وميثاق الكتاب المبين.(114/25)
قال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } ]آل عمران: 187[، وقال: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } ]البقرة:159[.
قلت: من أجل ذلك كتبت هذا الرد، واقتصرت فيه على أمهات الأخطاء الواردة في كتابي "الذخائر" و "شفاء الفؤاد"، وتركت بقيتها بغية الاختصار.وجعلته في مقدمة، ذكرت فيها أصل الدين وحقيقة الإسلام ومعنى لا إله إلا الله، وذكرت نبذة عن الشرك ونشأته في الأمم من زمن قوم نوح عليه السلام، وأشرت إلى وسائله وطرقه الموصلة إليه وأهمها: الغلو في الصالحين والعكوف على قبورهم.
ثم شرعت في بيان أخطاء المخالف والرد عليها، وضمنتها في ثلاث أبواب:
الباب الأول: بينت فيه حقيقة ما يدعو إليه المخالف من الدعوة إلى الشرك بنوعية: شرك العبادة، وشرك الربوبية.
الباب الثاني: ذكرت فيه افتراء المخالف على الملائكة الكرام ورميهم بالشرك والكفر.
الباب الثالث: برهنت فيه على نقض المخالف أركان الإيمان الأربعة:
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسول صلى الله عليه وسلم، وبه ختمت الكتاب، وهو القسم الأول من الرد، وسميته: "جلاء البصائر في الرد على كتابي شفاء الفؤاد والذخائر".
وبعد، فقد بقيت مسائل مهمة أوردها المخالف في كتابيه المذكورين، وهي مما يحتاج إلى جلاء وتوضيح، ومنها على سبيل المثال:
* محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي من أولى المسائل التي أثارها المخالف وجعل يدندن حولها في كل مجلس وفي كل تأليف، وهي من الدعاوى العريضة التي دأب المخالفون على التشغيب بها والتستر بها على مر العصور.
* ومنها مسألة شد الرحل إلى القبر النبوي، وقد طال فيها الجدال والمراء من عهد بعيد.
* ومنها مسألتا التوسل والاستشفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(114/26)
* ومنها حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره.
إلى غير ذلك من المسائل التي أثار فيها المخالف الجدال وأورد حولها الشبهات.
ولأن الكلام فيها يطول فقد أفردتها في كتاب آخر وهو القسم الثاني من الرد، وسميته:
"الكشف والتبيين عن شبهات المخالفين" .
والحمد لله في الأولى وفي الآخرة وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله.
* * *
المقدمة
* اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
* ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.
* وقالوا لا تذرن آلهتكم.
* سد ذرائع الشرك.
* ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.
* لا تغلوا في دينكم.
{ اعبدوا الله ما لكم إله غيره }
اعلم - رحمك الله - أن حقيقة دعوة الرسل وأسها على توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة وإخلاصها له وعدم إشراك شيء معه، أياً كان هذا الشيء، ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو حجراً أو شجراً أو غير ذلك من الأوثان والأنداد والأصنام.
ولم يخلق الله الخلق ولا بعث إليهم الرسل إلا لهذه الغاية العظمى، عبادة الله وحده
لا شريك له.قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ]الذاريات:56[، أي ليوحدوني. "تفسير القرطبي" (17/56).
وقال: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ]النحل:36[.
وقال عز وجل: { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ]الأعراف:59[.
وهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك، ولم تزل كذلك دعوة من بعده، هود وصالح وشعيب عليهم السلام { اعبدوا الله مالكم من إله غيره } .
وهذه الدعوة حقيقة معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم وسائر أنواع العبادات القولية والعملية، ويدل على ذلك قوله تعالى:
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ]الأنبياء:25[.(114/27)
وكذلك كانت دعوة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - لقومه وللناس كافة، أمرهم بتوحيد الله وقول لا إله
إلا الله فأبوا عليه إلا قليلاً ممن آمن، وكان يرسل إلى الملوك يدعوهم إلى التوحيد، كما جاء في
رسالته إلى هرقل: { و { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } } (1).
ولما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال له: { إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول
ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله } وفي لفظ: { إلى عبادة الله } وفي لفظ: { إلى أن يوحدوا الله } (2).
فدلت هذه النصوص وغيرها على أن عبادة الله وحده وعدم الإشراك به هو أصل الدين وهو معنى لا إله إلا الله، وهو ما يسميه العلماء توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، ولم تخل شريعة من شرائع الرسل من هذه الدعوة لأنها هي الإسلام الذي لا يرضى الله عز وجل ديناً غيره كما قال: { إن الدين عند الله الإسلام } ]آل عمران: 19[.وقال { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ]آل عمران:85[.
ولقد فهم المشركون الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى كلمة التوحيد لما دعاهم إليها فقالوا كما حكى القرآن عنهم: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } ]ص:5[.
فهموا أن معناها ترك الآلهة والأنداد وما يتبع ذلك من أمور الجاهلية، وتوحيد الخالق بالعبادة، والتي تستلزم كمال الخضوع له والانقياد، المستلزم زوال طاغوت الجاهلية.
إذ العبادة (هي الطاعة والخضوع، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء.
والتعبد هو التنسك، والعبودية هي الخضوع والتذلل.وقول الله تعالى { إياك نعبد } أي: إياك نوحد.
__________
(1) : رواه البخاري (1/32) ومسلم (1773).
(2) : رواه البخاري (3/261) و (3/322) و (13/347) ومسلم (19).(114/28)
والعابد هو الخاضع المستسلم المنقاد لأمر المعبود)(1).
وتأتي العبادة أيضاً بمعنى الدعاء والطلب كما في قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ]غافر:60[، وكقوله تعالى: { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً.فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } ]مريم:48-49[.
وقد تكرر ذكر العبادة في القرآن بمعنى الدعاء والقصد والطلب، إذ كانت هذه أكثر عبادة المشركين في كل أمة لأصنامهم وأنداد هم ومعبودا تهم.
قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ]الزمر:3[
وقال عز وجل: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً } ]الفرقان:55[.
وقال سبحانه مخاطباً عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين } ]غافر:66[.
وقد صح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { الدعاء
هو العبادة } ثم قرأ قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.. } الآية(2).
ولقد كان أكثر عبادة المشركين الأولين لأصنامهم وأنداد هم وأوثانهم بدعائهم وسؤالهم من
دون الله، وهم مع ذلك كانوا يعبدون الله ويدعونه ويلجأون إليه، فجمعوا بين الإيمان به والشرك معه، كما قال تعالى عنهم: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ]يوسف: 106[.
* * *
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله }
__________
(1) : "لسان العرب" (3/ 270- 274 مادة عبد).
(2) : رواه أبو داود (1479) والترمذي (2973)(114/29)
ثم اعلم - رحمك الله - أن المشركين الذين بعث فيهم رسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بوجود الله وبربوبيته وتصرفه وتدبيره للأمور، وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، وأن آلهتهم التي يعبدونها لا تفعل شيئاً من ذلك وإنما يدعونها ويلجأون إليها لتشفع لهم عند الله، ويجعلونها بمثابة الوسطاء عند الملك يرفعون إليه حاجة من توسل بهم، ويزعمون أن الله لا يستجيب لهم حتى يشفع هؤلاء الوجهاء المقربون.
* ومن الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله. فقل: أفلا تتقون } ]يونس:31[.
وقوله: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله. قل أفلا تتقون.قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون.قل فأنى تسحرون } ]المؤمنون:84-89[.
* وأما اتخاذهم أصنامهم ومعبودا تهم شفاء ووسطاء فيدل عليه قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما
لا يعلم في السموات ولا في الأرض.سبحانه وتعالى عما يشركون } ]يونس:18[.
وقال سبحانه وتعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون.قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون } ]الزمر:43-44[.
ففي الآية الأولى أخبر سبحانه عنهم سبب عبادتهم لهم وهو اتخاذهم إياهم شفاء، ثم سماه عز وجل شركاً فقال: { سبحانه وتعالى عما يشركون } .(114/30)
وفي الآية الثانية تأكيد للأولى، وبيان آخر وهو أن الشفاعة كلها لله لا لأحد من الخلق، وإنما هي ملك له وحده يأذن لمن يشاء، بخلاف شفاعة الخلق لبعضهم عند بعض كشفاعة الوجهاء عند الرؤساء فهذه شفاعة تليق بحال المخلوقين من الضعف والعجز والقلة والذلة، كما أن شفاعة الخالق سبحانه تليق بجلاله وعظمته وكمال سلطانه وعزته وغناه عن خلقه، ومن سوَّى بين الشفاعتين فقد غلط غلطاً بيناً وافترى إثماً عظيماًً.
* * *
{ وقالوا لا تذرون آلهتكم }
ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً
ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } أنها (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت)(1).
قال السهيلي: (كانوا يتبركون بدعائهم كلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية، ولا أدري من أين سرت لهم تلك الأسماء؟ من قبل الهند؟ فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح، أم الشيطان ألهم العرب ذلك؟) انتهى نقله من "فتح الباري"، ثم قال الحافظ: (وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: (كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة ثم ائت سِيْفَ جدَّة، تجد بها أصناماً معدة، ثم أوردها تهامة
ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب.قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب)(2) اهـ.وذكر الحافظ أن عمراً هذا هو عمرو بن لحي.
__________
(1) : أنظر "صحيح البخاري" (8/667).
(2) : "الفتح" (8/668).(114/31)
قلت: وثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { رأيت
عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب } وفي لفظ:
{ رأيت عمرو بن لحي } (1).
قال الحافظ في "الفتح": (وأورده ابن إسحق في "السيرة الكبرى" عن محمد إبراهيم التيمي عن أبي صالح أتم من هذا ولفظه:(سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: { رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة وحمى الحامي } )(2).
ثم قال الحافظ: (وذكر ابن إسحق أن سبب عبادة عمرو بن لحي الأصنام أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحداً منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة وهو هبل، وكان قبل ذلك في زمن جرهم قد فجر رجل يقال له إساف بامرأة يقال لها نائلة في الكعبة فمسخهما الله جل وعلا حجرين فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة فصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة)(3) اهـ.
والخلاصة: هي كما قال الحافظ: (وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك)(4)، وأن أول من دعا إلى عبادتها في العرب هو عمرو بن لحي بن قمعة الخزاعي، ويقال له عمرو بن ربيعة أو عمرو بن عامر نسبة إلى جده.والله تعالى أعلم.
سد ذرائع(5) الشرك
__________
(1) : " أخرجه البخاري (6/547) ومسلم (2856).
(2) : "السيرة" لابن هشام (1/78) وأخرجه الحاكم (4/605) بنحوه، إلا أنه قال: { غير دين إبراهيم } .
(3) : "الفتح" (6/549).
(4) : "الفتح" (8/669).
(5) : الذريعة: هي السبب إلى الشيء، يقال: فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك.وسد الذرائع معناه إذاً: حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها.انظر "لسان العرب" (8/96) و "الفروق" للقرافي (2/32).(114/32)
(لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تُفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها.فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها.فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل.
فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ومنعاً أن يقرب حماه)(1)
ولما كان الشرك أعظم الذنوب، فقد سدت دونه كل الوسائل المفضية إليه، والذرائع الموصلة إليه، وأعظمها العكوف على قبور الأولياء والصالحين وتعظيمها، والغلو فيهم بالمحبة والإطراء والتعظيم.
وقد تقدم معنا أن مبدأ الشرك في قوم نوح، كان سببه العكوف على قبور الصالحين، وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وأما عبادة النصارى للمسيح عليه السلام، فكان سببها الغلو في التعظيم والإطراء، وكذا عبادة اليهود لعزير عليه السلام وعبادة المشركين للملائكة، ولذا فقد جاءت النصوص محذرة من هاتين الذريعتين: تعظيم القبور والغلو في أصحابها.
أما الأنصاب والأحجار والأصنام فإنما صنعت على صور أولئك المعبودين المعظمين،
المقبورين منهم وغير المقبورين، فهي ليست معظمة لذاتها، وإنما لكونها صورت على أشكالهم، أو على هيئة اخترعها عبادهم وتخيلوها في أذهانهم فصنعوا لها هياكل تدل عليهم وسموها بأسماء مخترعة أيضاً، كما فعل المشركون حين عبدوا الملائكة على صور أصنام واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل، لأنهم بزعمهم، بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والذين عبدوا القبور والأشجار والأحجار والأنصاب، إنما عبدوها تبركاً بها وتعظيماً للمعبودين إما لكونهم مقبورين فيها، أو لأنها أثر من الآثار الدالة عليهم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من مكايد إبليس، لعنه الله، التي كاد بها أكثر الناس
__________
(1) : "إعلام الموقعين" (3/147).(114/33)
(ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى أن
عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله
تعالى)(1) اهـ.
* * *
{ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد }
ومن أعظم الوسائل المفضية إلى عبادة القبور والشرك بها واتخاذها أوثاناً تعبد من دون الله، العكوف عندها للصلاة والدعاء والعبادة وسائر القرب، فقد تواترت النصوص في النهي عن ذلك، ووردت بأبلغ عبارات التحذير وأشدها، إذ جاءت مقرونة باللعن والقتل والغضب، ووصف فاعلوها بأنهم شرار الخلق عند الرب عز وجل.
1- فعن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } (2).
2- وعن أنس رضي الله عنه: { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة إلى القبور } (3).
3- وعن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } (4).
4- وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: { لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ، قالت عائشة: (يحذر ما صنعوا)(5).
__________
(1) : "إغاثة اللهفان" (1/143).
(2) : أخرجه مسلم (972).
(3) : أخرجه ابن حبان (ح343).
(4) : أخرجه البخاري (1/523) ومسلم (528).
(5) : أخرجه البخاري (1/532) ومسلم (531).(114/34)
5- وعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } قالت: (فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)(1).
6- وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قبل موته بخمس:
{ ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك } (2).
7- وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد } (3).
8- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } (4).
9- وعن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } (5).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان": (ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته، ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً، وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها، ثم
جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى.
وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول:
{ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا
__________
(1) : البخاري (3/200) ومسلم (529).
(2) : أخرجه مسلم (532).
(3) : رواه أحمد (ح 4143،4342).
(4) : رواه أحمد (2/246).
(5) : رواه مالك في "الموطأ" (1/172) مرسلاً.(114/35)
كثيراً } .
قال غير واحد من السلف: "كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ").
قال ابن القيم: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن
أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة …) وذكر الحديث، ثم قال: (فجمع في هذا الحديث التماثيل والقبور.وهذا كان سبب عبادة اللات.فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: "كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ".
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما:" كان يلت السويق للحجاج ".
فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسر واللات إنما كان من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها تماثيل وعبدوها).
ثم ساق رحمه الله الأحاديث السابقة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ثم قال: (وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إني أنهاكم) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب
ما نهاه واتبع هواه،ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. فإن هذا وأمثاله من النبي - صلى الله عليه وسلم - صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه.
فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلواً، كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد).(114/36)
قال ابن القيم: (ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم.
وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.فأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم).
ثم قال:(ومن جمع و من جمع بين سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في القبور، و ما أمر به و نهى عنه،
وما كان عليه أصحابه، و بين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً.
فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة الى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ب- ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد و يسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ج - ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
د- ونهى أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً و مناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
هـ - وأمر بتسويتها، و هؤلاء يرفعونها عن الأرض كالبيت، و يعقدون عليها القباب.
* و المقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.(114/37)
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها، ومنها اتخاذها عيداً، ومنها السفر إليها، ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها.ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب وتقضي الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف..إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها.ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية) انتهى ملخصاً(1).
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": (قال العلماء: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية.
ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي المحذور.
ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقتا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر)(2) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: (وكأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم)(3) اهـ.
__________
(1) : "إغاثة اللهفان" (1/143-154).
(2) : " شرح النووي على مسلم " (5/13-14).
(3) : "فتح الباري" (1/532).(114/38)
وقال في موضع آخر: (والوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيماً ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم)(1)اهـ.
وقال الشيخ أحمد البنا الساعاتي: (أحاديث الباب تدل على تحريم اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين لأن في الصلاة فيها استناناً بسنة اليهود والنصارى، وقد نهينا عن التشبه بهم في العادات فما بالك بالعبادات، وقد لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الاتخاذ.
فأحاديث الباب برهان قاطع لمواد النزاع، وحجة نيرة على كون هذه الأفعال جالبة للعن، واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم.
فمن اتخذ مسجداً بجوار نبي أو صالح بحيث يكون قبره داخلاً في المسجد، رجاء بركته في العبادة ومجاورة روح ذلك الميت فقد شمله الحديث شمولاً واضحاً كشمس النهار، ومن توجه إليه في صلاته خاضعاً له مستمداً منه فلا شك أنه أشرك بالله وخالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تشرع الزيارة في ملة الإسلام إلا للعبرة والزهد في الدنيا وتذكر الآخرة والدعاء بالمغفرة للموتى)(2) اهـ.
* * *
{ لا تغلوا في دينكم }
الوسيلة الأخرى المفضية إلى عبادة الأوثان واتخاذ الأنداد من دون الله، الغلو في الصالحين من الأنبياء والملائكة وغيرهم من عباد الله المكرمين.
وقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن أهل الكتاب والمشركين الذين غلوا في الصالحين من الأنبياء والملائكة وغيرهم من عباد الله المكرمين.
وقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن أهل الكتاب والمشركين الذين غلوا في بعض خلقه فعبدوهم من دون الله واتخذوهم أرباباً وآلهة، يدعونهم ويرجونهم ويحبونهم كحب الله.
* قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض
__________
(1) : "فتح الباري" (1/524).
(2) : "الفتح الرباني" (3/57).(114/39)
وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } ]المائدة: 17[.
* وقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار
وما للظالمين من أنصار } ]المائدة:72[.
* وقال سبحانه: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن
لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم.أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم.ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون } ]المائدة:73- 75[.
* وقال عز وجل: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك
قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ]التوبة:30-31[.
* وقال تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات
وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } ]النساء:171[.
* وقال عز من قائل: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل } ]المائدة: 77[.(114/40)
قال ابن كثير رحمه الله: (ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه.بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ...الآية)(1) اهـ.
وقال ابن جرير- رحمه الله -: ( { لا تغلوا في دينكم } يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم
فتفرطوا فيه ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم
على الله غير الحق لأن الله لم يتخذ ولداً فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابناً.
وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه في الدين: قد غلا فهو يغلو غلواً)(2) اهـ.
* وقال ابن جرير أيضاً في تأويل قوله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } : (وهذا خبر من الله تعالى ذكره، احتجاجاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على فرق النصارى في قولهم في المسيح.يقول مكذباً لليعقوبية في قيلهم: هو الله، والآخرين في قيلهم: هو ابن الله، ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادة الأمهات أبناءهم، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر.وإنما هو لله رسول كسائر رسله الذين كانوا قبله فمضوا وخلوا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعبر، حجة له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه. وأمه صديقة.
__________
(1) : "تفسير ابن كثير" (2/430) ط الشعب.
(2) : "تفسير ابن جرير" (9/170-171)..(114/41)
* وقوله: (كانا يأكلان الطعام) خبر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمه: أنهما كانا أهل حاجة إلى ما يغذوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإن من كان كذلك فغير كائن إلهاً لأن المحتاج إلى الغذاء قوامه بغيره، وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه دليل واضح على عجزه، والعاجز لا يكون إلا مربوباً لا رباً) اهـ."تفسير ابن جرير" (10/484-485).
* قلت: ولأن الغلو في المسيح عليه السلام هو الذي أدى بالنصارى إلى الكفر فألهوه وعبدوه، فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من الغلو في شخصه لئلا تقع في المحذور الذي وقع فيه من قبلهم.
(1) فقال لهم: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله } أخرجه البخاري (6/478) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: { إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين } .رواه أحمد (1/215) والنسائي (5/268) وابن خزيمة (4/274).
(3) وأنكر على من قال له: (ما شاء الله وشئت) وقال: { أجعلتني لله عدلاً بل ما شاء الله وحده } .رواه أحمد (ح 1839) وفيه ضعف، وله شواهد.
(4) وكره أن يقوم له أصحابه، كما قال أنس رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك).رواه الترمذي
(5/90) وصححه.
(5) وكره منهم قولهم له (أنت سيدنا) وقال: { السيد الله تبارك وتعالى } مع أنه أخبر في حديث الشفاعة أنه سيد ولد آدم، سداً لذريعة الغلو فيه بدليل أنه قال: { أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان } .رواه أبو داود (5/154).
قلت: وهذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه على الدوام، كان ينهاهم عن الغلو فيه والمبالغة في تعظيمه خوفاً عليهم أن يقعوا في المحظور الذي وقع فيه من قبلهم من أهل الكتاب.(114/42)
* ولم يقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على جانب الإنكار على الغالين، بل كان هديه التواضع لله والخشية والعبودية له والافتقار إليه في أحواله كلها.
(1) فعندما بلغه نبأ الرهط الذين تقالوا عبادته قال: { أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له } .رواه البخاري (9/104) ومسلم (1401).
(2) وقال: { ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية } رواه البخاري (13/276) ومسلم (2356).
(3) وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه، فلما سُئل عن ذلك قال:
{ ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ فقد عذب قوم بالريح، وقد رأى القوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا } رواه البخاري (8/578) ومسلم (899).
(4) وقال - صلى الله عليه وسلم - : { لن يُدخل أحداً منكم عملُه الجنة } قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: { ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة } .رواه البخاري (11/294) ومسلم
(2816).
(5) وقال أيضاً: { والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي } .رواه البخاري (3/11).
* وكان يذكر أصحابه على الدوام بأنه بشر يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والنسيان والخطأ(1).
1- فقد سها في صلاته أكثر من مرة بالزيادة والنقصان، وقال: { إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني } .متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/114).
2- وقال أيضاً: { إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } .رواه البخاري (12/339) ومسلم (1713).
3- وقال: { إني أوعك كما يوعك رجلان منكم } .رواه البخاري (10/111) ومسلم (2571).
* ومن تواضعه - صلى الله عليه وسلم - مع إخوانه الأنبياء:
__________
(1) 1 ): إلا في مقام التشريع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُقَر على الخطأ والنسيان.انظر "شرح الكوكب المنير" (2/172) و "إرشاد الفحول" (ص35).(114/43)
قوله: { نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: { رب أرني كيف تحيي الموتى } }
وقوله: " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي } متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان " (3/119).
وجاءه رجل فقال له: (يا خير البرية) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { ذاك إبراهيم خليل
الله } .رواه مسلم (2369).
3- ولما سُئل - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم الناس؟ قال { أتقاهم لله } قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: { فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله } .متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/119).
4- ولما بلغه قول الرجل المسلم لليهودي: (والذي اصطفى محمداً على العالمين)
غضب - صلى الله عليه وسلم - حتى رئي في وجهه وقال: { لا تفضلوا بين الأنبياء } وفي لفظ: { لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله } .متفق عليه "جامع الأصول"(8/513).
5- وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً، فقال رجل: (ما أريد بهذا وجه الله).فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فتمعر وجهه وقال: { يرحم الله موسى قد أوذي بما هو أشد من هذا فصبر } .رواه البخاري (10/475) ومسلم (1062).
* وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء والذكر في سائر الأحوال أحسن الهدي وأكمله، ذلة وخضوعاً وخشية وإنابة ورغبة ورهبة لله عز وجل، تحقيقاً لكمال العبودية لربه ومولاه، وإرشاداً لأمته من بعد أن تستن بسنته وتهتدي بهداه، فتلهج قلوبهم وألسنتهم بذكر الله وحده ودعائه وقصده في سائر الأحوال دون سواه.
1- فكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - عند قيامه للصلاة قوله: { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين(114/44)
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت.أنت ربي وأنا عبدك.ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. } الحديث.رواه مسلم (771).
2- وإذا ركع قال: { اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي.. } .رواه مسلم (771).
3- وإذا سجد قال: { اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت.سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين.. } .رواه مسلم (771).
ثم يقول بين التشهد والتسليم: { اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت
وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني.أنت المقدم وأنت المؤخر.لا إله إلا أنت } . رواه مسلم (771).
5- وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا أمسى: { أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله.لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها.. } الحديث.رواه مسلم (2723).
6- وكان يقول إذا أصبح: { أصبحنا وأصبح الملك لله.. } مثله.رواه مسلم (2723).
7- وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الكرب: { لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض، لا إله إلا الله رب العرش الكريم } . رواه البخاري ومسلم "جامع الأصول" (4/294).
قلت: وسائر الأدعية والأذكار على هذا المنوال.
* والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سد على أمته كل الذرائع المفضية إلى الغلو فيه أو في غيره من الناس بمثل هذه السنن القويمة لئلا تقع فيما وقع فيه غيرها من الأمم السابقة.
ويحسن هنا أن نختم هذا الفصل بما فصله ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" في هذه القاعدة العظيمة، قاعدة سد الذرائع، فساق تسعة وتسعين وجهاً، ذكر منها:(114/45)
* الوجه الرابع عشر: (أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها(1) ، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سداً لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مع بعد هذه
الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة) ؟.
* الوجه الثالث والأربعون: (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد } (2)، وذم الخطيب الذي قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى)(3) سداً لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسماً لمادة الشرك حتى في اللفظ.ولهذا قال للذي قال له: (ما شاء الله وشئت): { أجعلتني لله نداً } ؟ فحسم مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد.فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها).
* الوجه التاسع والأربعون:(أنه نهاهم إذا أقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يروه قد خرج (4) لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قيامهم لغير الله، ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهوا عنه).
* الوجه التاسع والثمانون (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجل أن ينحني للرجل إذا لقيه(5)
__________
(1) : رواه البخاري (6/335) ومسلم (828).
(2) : رواه النسائي (7/6).
(3) : رواه مسلم (870).
(4) : رواه البخاري (2/119) ومسلم (604).
(5) : رواه أحمد (3/298) والترمذي (5/75) وحسنه، من حديث حنظلة بن عبدالله عن أنس رضي الله عنه: " أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال: لا.قال: أفيلتزمه ويقبله ؟ قال: لا.قال: أفيأخذ بيده ويصافحه: قال: نعم ".
قلت: حنظلة بن عبدالله فيه ضعف، ولعل الترمذي حسن حديثه لشواهده.انظر " السلسلة الصحيحة" للألباني (ح160).(114/46)
كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم، ممن لا علم له بالسنة.بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلاً حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه، ثم يرفع رأسه من الركوع
كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات.فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها وطائفة ثالثة قيامها، يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في
الصلاة، فتقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة.
والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن انحناء الرجل لأخيه سداً لذريعة الشرك كما نهى عن السجود لغير الله (1)، كما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الإمام وهو جالس(2)
مع أن قيامهم عبادة لله تعالى، فما الظن إذا كان القيام تعظيماً للمخلوق وعبودية له ؟
فالله المستعان) اهـ."إعلام الموقعين" (3/151-167).
الباب الأول
الدعوة إلى الشرك
* أولاً: شرك العبادة.
* فصل: { ..بل هم أضل } .
* ثانياً: الشرك في الربوبية.
* فصل: { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } .
أولاً: شرك العبادة
* علمت مما تقدم أن الإسلام هو إفراد الله بالعبادة والخضوع والذل، وأن الرسل جميعاً ما أرسلوا إلا لدعوة الناس إلى توحيد الله فكلهم كان يقول { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ، وأن شرك الأمم كان بعبادة غير الله مع عبادتهم لله، وهذا هو شرك العبادة، وهو الذي كانت عليه العرب قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) : رواه أحمد (4/381) وابن ماجة (1853) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه أتى الشام فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها، فرأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بذلك، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) : رواه مسلم (413).(114/47)
* أما الربوبية، وهي الإقرار بأن الله هو خالقهم وخالق السموات والأرض وأنه مدبر الأمر وأنه يجير ولا يجار عليه، وأن بيده مقاليد السموات والأرض..إلى غير ذلك من أفعال الله، فكانوا مقرين بها كما في قوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } .
* وعلمت أن مبدأ ذلك الشرك كان بالعكوف على قبور الصالحين والغلو فيهم ونحت التماثيل على صورهم وأشكالهم.ثم لما تنسَّخَ العلم عبدوهم فدعوهم من دون الله وسألوهم واتخذوهم شفعاء ووسائط ليقربوهم إلى الله.قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال سبحانه { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم
ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } .
* وأن هؤلاء الشفعاء والوسطاء كانوا إما ملائكة وإما أنبياء كالمسيح وعزير عليهما السلام وإما أناساً صالحين كاللات وود وسواع ونحوهم.وأما الجمادات التي يعبدونها كالأصنام والأشجار والأحجار، فهي لم تقصد لذاتها بل لأنها تعبر عنهم وترمز إليهم.
* فالتماثيل والأصنام إما أنها صورت على صورهم حقيقة، كالصالحين من قوم نوح،
وإما على ما صوره خيال المشركين، كصور الملائكة الذين جعلوهم بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
* وأما الأحجار والأشجار ونحوها، فاتخذوها آلهة لأنها أثر من آثارهم، كالذين عبدوا الصخرة التي كان اللات يلت عليها السويق، وكذا الصليب الذي عبدته النصارى لأنه يدل بزعمهم على المسيح عليه السلام، وكذبوا { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } .
* ومن أجل ذلك حرمت الوسائل الموصلة إلى الشرك وسدت الذرائع المفضية إليه من كل وجه ومنها الغلو في الأنبياء والصالحين وتعظيم قبورهم والعكوف عليها واتخاذها مساجد وأعياداً ومشاهد.(114/48)
* فكان موقف المخالف (الدكتور محمد بن علوي المالكي) من تلك القضايا كلها موقف النقض والمعارضة للتوحيد وخرق نسيجه وانتهاك حماه، وسلك عكس ذلك مع الشرك بأنواعه وضروبه ووسائله.
* ففي جانب الغلو في المخلوقين يقول المخالف : (اعلم أن جميع الكرامات والخصائص الواقعة في هذا العالم (من منذ) - كذا - خلق الله تعالى الدنيا لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بحكم الأصالة، وإن وقع شيء منها لخواص الخلق فذلك بحكم التبعية في الإرث له - صلى الله عليه وسلم -.
ثم اعلم أن كل ما مال إلى تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي لأحد البحث فيه ولا المطالبة بدليل خاص فيه فإن ذلك سوء أدب.فقل ما شئت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المدح
لا حرج " اهـ "الذخائر" (ص201).
* وفي شأن تعظيم القبور، ذكر أن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - :(إقرار لصاحب الرسالة محمد بن عبدالله بعظيم الفضل وكمال الإحسان..) إلى أن قال: (وهذا هو عين التوحيد) "شفاء الفؤاد" (ص36)، وجعل زيارة القبر من الهجرة إلى الله ورسوله "شفاء الفؤاد" (ص55)، وفضلها على الحج إلى بيت الله الحرام "شفاء الفؤاد"(ص35،165)، وحرَّف في سبيل إثبات ذلك كل النصوص الدالة على تحريم اتخاذ القبور مساجد وشد الرحال إليها واتخاذها عيداً وعكس معناها لتوافق هواه ومذهبه(1).
* وما صنعه في الوسائل والذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر، صنع مثله بل أضعافه في الشرك نفسه، فشحن كتابيه بأنواعه كلها.ومن أمثلة شرك العبادة:
1- قوله: (فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله) "الذخائر" (ص101)، و"شفاء الفؤاد" (ص109، 117).
__________
(1) : انظر تحريفه لحديث { لا تشد الرحال } وحديث { لا تجعلوا قبري عيداً } وحديث { اللهم لا تجعل قبري وثناً } في كتاب "شفاء الفؤاد" (ص10، 95،99) على الترتيب.(114/49)
2- وقوله عن زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام:(فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، وليحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهداتهم بعين قلبه لا بعين بصره) إلى أن قال: (ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح..لا يردون من سألهم
ولا من توسل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم) "شفاء الفؤاد" (ص97).
3- ثم قال: (وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه، فكل ما ذكر
يزيد أضعافه، أعني في الانكسار والذلة والمسكنة لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته
ولا يخيب من قصده ولا من نزل بساحته ولا من استعان أو استغاث به)"شفاء الفؤاد"
(ص97).
4- ومما جاء في النظم قوله "الذخائر" (ص101) و"شفاء الفؤاد" (ص109):
أنت الشفيع وآمالي معلقة وقد رجوتك يا ذا الفضل تشفع لي
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي
5- وقوله أيضاً:
فلذ به في كل ما تشتكي فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به في كل ما ترتجي فإنه المأمن والمعقل
وحط أحمال الرجا عنده فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة أنشبت أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة فرجت كرباً بعضه يذهل
عجل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل؟
قال المخالف: (وهي مجربة لقضاء الحوائج تقرأ في آخر الليل..ويكرر بيت: عجل بإذهاب الذي أشتكي 73 مرة). "الذخائر" (ص158).
6- ومما جاء من أبيات أيضاً قوله "الذخائر" (ص166):
يا ملاذ الورى وخير عيان ورجاء لكل دان وقصي
لك وجهت وجهي يا أبيض الوجه فوجه إليه وجه الولي.
7- وقوله "شفاء الفؤاد" (ص203):
فالآن ليس سوى قبر حللت به منجى الطريد وملجأ كل معتصم
وإن رمتنا الخطايا وسط مهلكة فأنت ملجأ خلق الله كلهم
فالعفو شيمتك العظمى التي شهرت إذ كانت الموبقات الدهم من شيمي(114/50)
8- وقوله "شفاء الفؤاد" (ص203):
يا سيدي يارسول الله خذ بيدي مالي سواك ولا ألوي عل أحد
إني إذا سامني ضيم يروعني أقول يا سيد السادات يا سندي
وانظر بعين الرضا لي دائماً أبداً واستر بفضلك تقصيري مدى الأمد
واعطف علي بعفو منك يشملني فإني عنك يا مولاي لم أحد
9- وقوله "شفاء الفؤاد" (ص213):
يا سيدي إني رجوتك ناصراً من جور دهر خائن متقلب
فأقل عثار عُبيدك الداعي الذي يرجوك إذ راجيك غير مخيب
واكتب له ولوالديه براءة من حر نار جهنم المتلهب
واقمع بحولك باغضيه وكل من يؤذيه من متمرد متعصب
واشفع له ولمن يليه وقم بهم في كل حال يا شفيع المذنب
10- وقوله "شفاء الفؤاد" (ص222-223):
ألا يا رسول الله عطفاً ورحمة لمسترحم مستنظر للمبارر
ألا يا حبيب الله غوثاً وغارة لذي كربة مسودة كالدياجر
ألا يا صفي الله قم بي فإنني بكم وإليكم يا شريف العناصر
قلت: وهذا الذي نقلته قطرة من بحر وغيض من فيض، وهو كما رأيت صريح الشرك والكفر، إذ لم يدع لله شيئاً من أمور العبادة، كالدعاء والرجاء والسؤال والطلب والاستغاثة والالتجاء والقصد وسائر ما كان يفعله المشركون من قبل بأوثانهم وآلهتهم مما لا يجوز صرفه لغير الله، إلا أشرك فيه غيره معه.
وهو بهذا يكون قد نقض أصل الإيمان وحقيقة الإسلام التي مبناها على توحيد الله بالإرادة والقصد والطلب، وعدم الإشراك به في شيء من أمور العبادة التي من أخصها الدعاء والالتجاء.قال تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين.وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله } ]يونس: 106-107[.
(وحاصل كلام المفسرين أن الله تعالى نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو من دونه ما لا ينفعه(114/51)
ولا يضره، والمراد به كل ما سوى الله فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، وسواء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم كما قال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (الجن:18). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: { إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن
الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا
على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك } .
وفي الآية تنبيه على أن المدعو لابد أن يكون مالكاً للنفع والضر حتى يعطي من دعاه
أو يبطش بمن عصاه، وليس ذلك إلا لله وحده، فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه.
وقوله: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } أي من المشركين.
وهذا كقوله: { فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين } ]الشعراء:213[.
وقوله: { ولقد أحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ]الزمر:65[ وقوله في الأنبياء: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ]الأنعام:88[) اهـ "تيسير العزيز الحميد" (ص236-237).
وقد بين سبحانه في كتابه في أكثر من موضع أنه هو وحده الذي يملك النفع والضر،
لا يملكه أحد غيره، حتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق وأكرمهم وأعظمهم جاهاً، لا يملك لنفسه النفع والضر، فضلاً عن أن يملك إيصاله للغير.قال تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } ]الأعراف:188[.وقال تعالى: { قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً
إلا ما شاء الله } ]يونس:49[.
قال ابن جرير رحمه الله: (أي: لا أقدر لها على ضر ولا نفع في دنيا ولا دين، { إلا ما شاء الله } أن أملكه فأجلبه إليها بإذنه) اهـ(1).
__________
(1) : "تفسير ابن جرير" (15/100)(114/52)
فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً في دنيا ولا دين فكيف يملك شيئاً من ذلك لغيره من العالمين ؟!
ومع وضوح هذا القياس وجلائه، أن من لا يملك لنفسه، أولى وأحرى أن لا يملك لغيره، فقد جاء مصرحاً به في قوله تعالى: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } ]الجن:21[.
كما صرح به هو - صلى الله عليه وسلم - لأقرب الناس إليه محبةً ونسباً ورحماً ولحمة، فقال: { يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً.يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً،
ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً } (متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/52)، فبأي حديث بعده يؤمنون ؟!
وقد أمر الله عز وجل عباده بتوحيده في القصد والدعاء والطلب، في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، كقوله تعالى: { هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين } ]غافر:65[.
وأخبر سبحانه عن إمام الحنفاء قوله: { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } ]الأنعام:79[.
وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في صلاته: { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } (رواه مسلم (771)).
ومما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الذكر والدعاء عند النوم أن يقول: { اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك.. } الحديث.متفق عليه"اللؤلؤ والمرجان"(3/230).
وينقض المخالف ذلك كله ويقول: (لك وجهي وجهت يا أبيض الوجه، فوجه إليه وجه الولي).وهذا عين الكفر والمحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ صرف وجهه عن الخالق إلى المخلوق وعن الرب المالك المدبر إلى المملوك المربوب.(114/53)
ومقتضاه كما هو ظاهر اللفظ: أنه وجَّه وجهه وأسلمه لمعبوده وحده، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سواه، وهذا مستفاد من تقديم المعمول على العامل في قوله: (لك وجهت) الذي يفيد الحصر.
* ولقد كان المشركون الأولون يعبدون الله ويدعونه ويلجأون إليه ويجأرون كما أخبر الله عنهم وهو أصدق القائلين، فقال: { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون.ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } ]النحل:53-54[.
وقال سبحانه: { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين.بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } ]الأنعام: 40-41[.
وقال سبحانه: { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه، ثم إذا خوله نعمة منه نسي
ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله، قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار } ]الزمر: 8[.
والآيات في معنى ذلك أكثر من أن تحصر.والمقصود أنهم كانوا يعبدونه سبحانه ويلجأون إليه في الملمات، بل يخلصون له في الدعاء والقصد والرجاء لكشف الضر وتفريج الكربات.
ومع ذلك فقد حكم عليهم بالشرك والكفر والضلال وجعل مصيرهم إلى النار، دار البوار، لأنهم يشركون معه غيره من الأنداد ويدعونهم ويسألونهم في غير الشدائد من الأوقات.
* أما المخالف فقد وحَّد معبوده من دون الله في كل الملمات وأخلص له الدعاء والرجاء والالتجاء، إذ قال: (هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له، إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي).وهذا الأسلوب أيضاً يدل على الحصر والقصر والاختصاص وهو النفي مع الاستثناء (لا، إلا).
ومثله أيضاً قوله: (فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله).
وقوله: (فالآن ليس سوى قبر حللت به، منجى الطريد وملجا كل معتصم).(114/54)
* ولقد كان يكفيه أن يدعو إلهه من دون الله ويلجأ إليه ويسأله بعض ما يرجوه، ليكون في عداد المشركين، لكنه أبى إلا الإيغال في الكفر والشرك، فصرف كل العبادة للعبد المخلوق، فقال:
فلذ به في كل ما تشتكي فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به في كل ما ترتجي فإنه المأمن والمعقل
وفي هذا دليل على أن شرك المخالف ومن شاكله من المخالفين، أعظم من شرك الأولين، وسيأتي ما يؤكده في الفصول التاليه، إن شاء الله.
* وحتى يكتمل عقد الموافقة والمطابقة لشرك الأولين، ها هو ذا يدعو صراحة إلى عبادة الأصنام واتخاذها آلهى من دون الله، لكن بصورة أخرى أعجب وأغرب من تلك الصورة الساذجة القديمة، والحق أنها من أعجب ما وقفت عليه من بدع المخالفين، على كثرتها واختلافها وتباينها.
نعم، يوجد ما هو أشد منها كفراً، وأعظم خطراً، لكن هذه البدعة امتازت بغرابتها وسخافتها وشذوذها عن سائر البدع.
* أرادوا أن ينحتوا صنماً على صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل المشركون بعظمائهم، فعجزوا عن تصوير وجهه الكريم وجسده الشريف، فانحطوا إلى النعال، ثم عجزوا كذلك، فأوحى إليهم شيطانهم أن يلجأوا إلى الخيال، ففعلوا..وكان المثال.
وما أدراك ما المثال ؟
هو خيال تخيله شيطان لهم لصورة تماثل النعل النبوي، ثم صيَّر ذلك الخيال واقعاً وخطَّه ورسمه، ثم جعل يدعوه ويستغيث به ويستعينه ويسترحمه.
فأراد المخالف أن يتحف هذه الأمة التي أصيبت في دينها وإيمانها، ونكبت في دمائها وأعراضها، وادلهمت بها الخطوب، وتوالت عليها المحن، وتداعت عليها الأمم، فدلهم على ذلك الحصن الحصين الذي ينجيهم من كل كرب ويمنع عنهم كل عدوان وظلم ويمنحهم الأمان والأمن.
فقد عقد المخالف فصلاً من كتاب "الذخائر" بعنوان "اهتمام العلماء بمثال نعل النبي - صلى الله عليه وسلم -"(114/55)
قال فيه (ص263-266): (اهتم بذلك الأئمة الفحول وصنف فيها رسالة خاصة الشيخ المقري، وذكر لها أمثلة وكتب عنها كلمات جليلة مهمة، خلاصتها: اعلم أرشدني الله وإياك إلى سواء السبيل وأوردنا مع الرعيل الأول مناهل الرحيق والسلسبيل، أن جماعة من الأئمة المغاربة المقتدى بهم تعرضوا للمثال الطاهر وحسنه الباهر وأقروا بمشاهدته عين الناظر..).
إلى أن قال: (قال الإمام المقري: وقد بلغني عن بعض الأغمار، ممن هو كمثل الحمار، أنه
أنكر تصويري الأمثلة الشريفة ذات الظلال الوريفة، قائلاً كيف تنهون عن الصور وأنتم
تفعلونها؟
فقلت لمن بلغني عنه ذلك: قل له وأنتم لم تتكلمون في الأمور التي تجهلونها ؟ وليس هذا من تلك الصور، لا في ورد ولا صدر..).
ثم قال: (ولا خفاء أن مثال النعل الشريف تصدر بإضافته إلى ذي الصدر، وخص لذلك برفعة الشأن والقدر، فعلاً على البدر..وما المثال المكرم إلا وسيلة للقدم التي خص الله بأكمل الأوصاف صاحبها - صلى الله عليه وسلم - :
وما حب النعال شغفن قلبي ولكن حب من لبس النعالا
فأكرم بها من نعال، زكت بأطيب الفعال، وشرفت بالمختار وسمت، واتسمت من الفضائل
بما اتسمت، وحاكاها المثال بمحاسنه التي ارتسمت..).
ثم ختم فصل "النعال" بصورة لذلك (المثال) المزعوم، دبجها أبياتاً من الشعر قال فيها:
على رأس هذا الكون نعل محمد علت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع وأحمد على القرب لم يؤمر بخلع نعاله
مثال حكى نعلاً لأشرف مرسل تمنت مقام الترب منه الفراقد
ضرائرها الشبع السموات كلها غيارى وتيجان الملوك حواسد
مثال لنعل المصطفى ما له مثل لروحي به راح لعيني به كحل
فأكرم به تماثل نعل كريمة لها كل رأس ود لو أنه رجل
ولما رأيت الدهر قد حارب الورى جعلت لنفسي نعل سيده حصناً
تحصنت منه في بديع مثالها بسور منيع نلت في ظله الأمنا
إني خدمت مثال نعل المصطفى لأعيش في الدارين تحت ظلالها(114/56)
سعد ابن مسعود بخدمة نعله وأنا السعيد بخدمتي لمثالها.
((((صورة مثال النعل)))
قلت: والأمر كما ترى، دعوة صريحة إلى الشرك وعبادة الأصنام والتماثيل، فقد أبى هذا المخالف أن تقتصر دعوته إلى عبادة المخلوقين، على الدعاء والاستغاثة والرغبة والرجاء، وعلى اتخاذ قبورهم أوثاناً وقصدها بالحج والتعظيم، فأضاف إليها هذا الخيال المخترع في الذهن البليد،، فدعا الناس إلى عبادته من دون الله، إحياءً لسنة السامري: { فاخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي.أفلا يرون ألاَّ يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } ]طه:88-89[.
* ولنا أن نتسأل، من أين له أن هذا (الخيال) الذهني مماثل لذلك النعل النبوي؟ إذ من المعلوم ضرورة أن الصورة المتخيلة يستحيل أن تماثل أصلها إلا بوجود ذلك الأصل واقعاً ماثلاً لعين المتخيل، بحيث يقع نظره عليه ولو للحظة واحدة، ولا يمكن عقلاً أن يتصور الذهن صورة مماثلة لجسم ما بمجرد سماع أوصافه ومعرفتها دون معاينة.
وغاية ما يمكن تحصيله في هذه الحالة هي صورة قريبة من الأصل، أما المثلية فهي بعيدة المنال.
إذاً فزعمه بأنها مثال للنعل النبوي محض كذب وافتراء.
نعم هناك احتمال وارد أن يصادف (الخيال) الحقيقة ويكون الرسم موافقاً للنعل النبوي، لكنه ليس الاحتمال الأوحد، فهناك احتمالات كثيرة بعدد النعال الموجودة على ظهر الأرض، فالله أعلم أيها طابقه الخيال الموهوم.
فليت شعري، كيف لو طابقت نعل فرعون أو أبي جهل أو أبي لهب، أو غيرهم من الكفار والمشركين والمجوس ؟
بل الناظر إلى الشكل الماثل أمامنا الآن يظن أنها صورة نعل هندية، فقد تكون مثالاً مطابقاً لنعل عابد من عباد البقر الهندوس.(114/57)
وأياً كان الأمر، فهو، والله، دليل واضح وعلامة بينة على مبلغ سفه هذا المخالف وأضرابه وضلالهم وغيهم وازدرائهم بأنفسهم وامتهانهم لها، ثم احتقارهم وسخريتهم بعامة الناس، إذ يسطرون مثل هذا الهذيان ويصيحون به على مرأى ومسمع.
* ومن هنا تعلم من الأحق بذلك الوصف الذي ورد في كلام المقري، ونقله المخالف مغتبطاً به، حيث قال: (وقد بلغني عن بعض الأغمار ممن هو كمثل الحمار أنه أنكر تصويري الأمثلة الشريفة..)؟!
* ولم يقتصر في دعوته إلى الشرك وعبادة المخلوق من دون الله على الدعاء والالتجاء، فحسب، بل عداه إلى بقية العبادات:
1- منها الصلاة: فقد ذكر المخالف ما يلزم زائر القبر من آداب، قال"شفاء الفؤاد" (ص189-190): (ومنها، أن يتوجه بعد ذلك، (أي بعد صلاة التحية)، إلى الضريح الشريف مستعيناً بالله في رعاية الأدب بهذا الموقف المنيف، فيقف بخضوع ووقار وذلة وانكسار
غاض الطرف مكفوف الجوارح واضعاً يمينه على شماله كما في الصلاة).
وفي معرض حديثه عن زيارة قبور الأنبياء، قال "شفاء الفؤاد" (ص97): (فإذا جاء فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاظطرار والخضوع، وليحضر قلبه وخاطره إليهم..) إلى أن قال: (وأما زيارة سيد الأولين والآخرين، صلوات الله عليه وسلامه، فكل ما ذكر يزيد أضعافه، أعني في الانكسار والذلة والمسكنة..).
وقال "شفاء الفؤاد"(ص208):
وقفنا على أعتاب فضلك سيدي لتقبيل ترب حبذا لك من ترب
وقال أيضاً "شفاء الفؤاد"(ص114):
نقبل الترب إجلالاً لساكنه فكل موطىء أقدام مقر فم
قلت: فقد أشرك معبوده مع الله في الصلاة، التي هي عمود هذا الدين وأعظم أركانه بعد الشهادتين، وصرف لمعبوده من الصلاة أوسط أركانها وأعلاها: القيام والسجود والذلة والخضوع والخشوع وجمع القلب وحضور الخاطر، وأضاف إليها بعض سننها ومكملاتها، كغض البصر وكف الجوارح ووضع الأيمان على الشمائل.(114/58)
2- ومنها: الحج.قال المخالف "شفاء الفؤاد" (ص131)في ذكر مناسك زيارة القبر الشريف: (ينبغي ضبط الزيارة بما ضبط به الأئمة الاستطاعة في الحج).
وقال أيضاً: (فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات) إلى أن قال: (فقد أتم الله للحبيب المضاهاة بكل الحالات) "شفاء الفؤاد" (131-132).
قلت: وهذا - كما رأيت - صريح الشرك، إذ سوى بين حج بيت المخلوق وحج بيت
الخالق، بل صرح بالمضاهاة بكل الحالات، مؤكداً به الشرك والتسوية.
3- ومنها: إدامة النظر إلى القبة والقبر، وهي من عجائب العبادات التي اخترعها المخالف، إذ قال "شفاء الفؤاد" (ص194) ما نصه: "ويديم النظر إلى الحجرة الشريفة فإنه عبادة، قياساً على الكعبة، فإذا كان خارج المسجد أدام النظر إلى قبتها مع المهابة والحضور).
* * *
فصل: { ..بل هم أضل }
اعلم أن المشركين الأولين كانوا يشركون مع الله في العبادة، بدعاء الأصنام والأنداد والأوثان ورجائهم والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله بهم،كما قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ]الزمر:3[، وقال: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ]يونس:18[.
* لكنهم لم يكونوا مدمنين على تلك الحال، فقد كانوا يخلصون لله الدعاء والالتجاء في بعض الأحوال.
قال تعالى: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } ]العنكبوت:65[.
وقال: { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون } ]الأنعام:63-64[
وقال عز وجل: { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } ]لقمان:32[.
قال ابن كثير "تفسير ابن كثير" (3/452): ( { موج كالظلل } أي كالجبال والغمام).(114/59)
وقال الشوكاني: ( { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوا الله وحده لا يعولون على غيره في خلاصهم لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه، ولكنه تغلب على طبائعهم العادات وتقليد الأموات، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله وأخلصوا دينهم طلباً للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه. { فلما نجاهم إلى البر } صاروا على قسمين: فقسم (مقتصد) أي موف بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر وأخرجه إلى البر سالماً.
قال الحسن: معنى مقتصد، مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة، وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر.
والأولى ما ذكرناه، ويكون في الكلام حذف، والتقدير: فمنهم مقتصد ومنهم كافر، ويدل على هذا المحذوف قوله: { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } الختر: أسوأ الغدر وأقبحه، والكفور: عظيم الكفر بنعم الله سبحانه) انتهى ملخصاً "فتح القدير" (4/244-245).
قلت: فهذا كان حال المشركين السابقين في عبادتهم للآلهة من دون الله، يعبدونها مع الله في الرخاء، توسلاً بها واستشفاعاً إليه، وينسونها إذا اشتد بهم البلاء، ويصرفون وجوههم عنها إليه، ويخلصون له في العبادة والدعاء والرجاء.
وقد سبق بيان موافقة المخالف لأولئك المشركين في أنواع العبادة التي كانوا يصرفونها لأندادهم وأوثانهم وأصنامهم، فهل اكتفى بتلك الموافقة والمطابقة؟
كلا، بل زاد عليهم في الشرك والكفر وأربى، وإليك البيان:
* قال المخالف:
توجه رسول الله في كل حاجة لنا ومهم في المعاش وفي القلب
* وقال:
عليك سلام الله أنت ملاذنا لى اليسر والإعسار والسهل والصعب
قلت: فلم يترك لله حاجة من الحاجات ولا مهمة من المهمات يدعوه فيها ويرغب،
إذ صرف دعاءه ورجاءه في شأنه كله لإلهه ومعبوده من دون الرب !
* وقال المخالف:
يا غياث الخلق يا ذا الفضل والجود والإحسان في بحر وبر
وقال:(114/60)
فلأنت في الدنيا وفي الأخرى وفي كل المواطن عدتي وندائي
وقال:
واعطف علي بعفو منك يشملني فإني عنك يا مولاي لم أحد
قلت: وهذا عين الكفر والضلال، فقد صرف لمعبوده من دون الله دعءه ورجاءه في كل الأوقات، ولم يتخذه وسيلة إلى الله وشفيعاً عنده فحسب، بل جعل معبوده من دون الله هو الأصل فوحده بالقصد والطلب، ولم يكن كذلك شرك الأولين، بل كانوا يتخذون الأنداد من دون الله لتقربهم هي إليه، فهو الإله الأكبر، أو (إله الآلهة) كما كانوا يصفونه سبحانه.وقد كانوا يعبدونه ويتقربون إليه بأنواع القربات مما ورثوه من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام، وكانوا يخلصون له العبادة في الشدة ويجأرون إليه بالدعاء، ويشركون معه آلهتهم في وقت الأمن والرخاء.
أما المخالف فقد صرح في أكثر من موضع من كتابيه بإخلاص العبادة للمخلوق وحده دون الخالق، فهو يسأله كل حاجاته، كما قال: (توجه رسول الله في كل حاجة)، وكقوله: (ولذ به من كل ما تشتكي) ويدعوه في كل أوقاته، كما قال: (يا ذا الفضل والجود والإحسان في بحر وبر)، وكما قال: (أنت ملاذنا لدى اليسر والإعسار والسهل والصعب)، وكقوله: (فلأنت في الدنيا وفي الأخرى وفي كل المواطن عدتي وندائي).
وصرح أكثر من ذلك فقال: (عجل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل)؟
وقال: (فإنني عنك يا مولاي لم أحد) وقال: (هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له إلا جنابك).
والجامع لهذه المعاني كلها كلمة واحدة هي (لا إله إلا أنت) !!
قلت: فأي الفريقين أحق بالكفر والشرك والشقاق، آلذين عبدوا الآلهة وتقربوا إليها بالدعاء والالتجاء، لتقربهم هي إلى الله، في حال الرخاء، ووحدوا خالقهم وأخلصوا له
الدين ونسوا الآلهة في حال الكرب وشدة الغم حين تعود إليهم الفطرة وتذهب عنهم السكرة
فيقولون: { لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين } ؟..(114/61)
أم الذي أخلص الدعاء والرجاء لإلهه ومعبوده من دون الله، وصرف إليه قلبه ووجَّه إليه وجهه وقصده في كل وقت وفي كل حين؟! { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } .
* ويقول المخالف "شفاء الفؤاد" (ص205):
بذلي بإفلاسي بفقري بفاقتي إليك رسول الله أصبحت أهرب
ويقول "شفاء الفؤاد"(ص213):
فأقل عثار عُبيدك الداعي الذي يرجوك إذ راجيك غير مخيب
واكتب له ولوالديه براءة من حر نار جهنم المتلهب
واقمع بحولك باغضيه وكل من يؤذيه من متمرد متعصب
واشفع له ولمن يليه وقم بهم في كل حال يا شفيع المذنب
قلت: وهذا تأكيد منه وإصرار على تماديه في الضلال والشرك والكفر إذ يصرح هذا المخالف بعبوديته الخالصة لإلهه صاحب القبر، فيسأله العفو والنجاة من النار له ولوالديه، وأن يقمع بحوله باغضيه، ويتوسل في دعائه وندائه واستغاثته بإظهار الذلة والعبودية والفقر !!
أما سمعته يقول (عُبيدك)؟! هكذا، بأسلوب التصغير، مبالغة منه في العبودية والتحقير، فطغى به وزاد على عبدة الأصنام والأثان والأنداد، الذين كانوا يسمون: عبد العزى
وعبد الكعبة وعبد مناة وعبد المسيح.
وأوضح منه لبيان المقصود، إضفاؤه صفات الربوبية والألوهية على العبد المخلوق،
إذ سأله ما هو من خصائص الرب عز وجل، الذي يملك وحده العفو عن الذنب ومغفرة العيوب، لا يملكه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وتأكيداً لما سبق بيانه وتقريره من أن شرك المخالف أشد وأخطر، وكفره أعظم وأكبر من شرك الأولين وكفرهم، أسوق إليك هذا الدليل:
* في معرض كلامه عن مناسك زيارة القبر النبوي، ذكر المخالف جملة من الآداب التي ينبغي الإتيان بها على من أراد الحج والعمرة إلى القبر النبوي، جاء فيها:
1- (إخلاص النية فينوي التقرب بالزيارة وينوي معها التقرب بشد الرحل للمسجد النبوي والصلاة فيه).
2- (إذا دنا من حرم المدينة الشريفة وأبصر رباها وأعلامها فليزدد خضوعاً وخشوعاً ويستبشر بالهنا وبلوغ المنى).(114/62)
3- ويسن له (الغسل لدخول المدينة ولبس أنظف ثيابه).
4- و (إذا شارف المدينة الشريفة وتراءت له قبة الحجرة المنيفة فليستحضر عظمتها وتفضيلها).
5- و (يقدم صدقة بين يدي نجواه).
6- (فإذا أراد الدخول - (إلى المسجد) - يقف يسيراً كالمستأذن كما يفعله من يدخل على العظماء).
7- (ثم يتوجه للروضة الشريفة خاشعاً غاضاً طرفه غير مشغول بالنظر إلى شيء من زينة المسجد وغيره، مع الهيبة والوقار والخشية والانكسار والخضوع والافتقار..فيصلي التحية ركعتين خفيفتين يقرأ فيها قل يا أيها الكافرون والإخلاص).
8- (ومحل تقديم التحية إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف، فإن كان: استحبت الزيارة أولاً كما قال بعضهم.ورخص بعض المالكية في تقديم الزيارة على الصلاة).
9- و (يتوجه بعد ذلك إلى الضريح الشريف..فيقف بخضوع ووقار وذلة وانكسار غاض الطرف مكفوف الجوارح وضعاً يمينه على شماله كما في الصلاة).
10- (ولا يستدبر القبر المقدس في الصلاة ولا في غيرها).
11- و (لا يمر بالقبر الشريف ولو من خارج المسجد حتى يقف ويسلم).
12- (ويديم النظر إلى الحجرة الشريفة فإنه عبادة قياساً على الكعبة، فإذا كان خارج المسجد أدام النظر إلى قبتها مع المهابة والحضور).
13- (ولا يركب بها - (يعني المدينة) - دابة مهما قدر على المشيء ويزم نفسه مدة إقامته بزمام الخشية والتعظيم ويخفض جناحه ويغض صوته).
14- (إذا اختار الرجوع فليودع المسجد الشريف بركعتين، يأتي القبر الشريف ويسلم ويدعو ويقول: نسألك يا رسول الله أن تسأل الله أن لا يقطع آثارنا من زيارتك..).
15- و (يتصدق بشيء مع خروجه..وليحذر كل الحذر من مقارفة الذنوب).
* وقال في موضع آخر"شفاء الفؤاد " (ص131-132): (فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات: الشفاعة والبشرى بالموت على الإسلام، وذلك هو المغفرة الحاصلة للواقفين..فقد أتم الله للحبيب المضاهاة بكل الحالات، وذلك حاضر فيه بالنص دون غيره وإن قيس به).(114/63)
قلت: وقد اشتمل كلام المخالف - كما رأيت - على جملة من العظائم المنكرة، التي هي من الشرك الواضح والكفر الصريح الذي لا يقبل التأويل بحال، حيث قال (فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات) وأكده بقوله (فقد أتم الله للحبيب المضاهاة بكل الحالات)، وكذب المخالف، فهو الذي ضاهى بحج بيت الله الحج إلى القبر، وليس الله، وهو الذي سوى بين المنسكين في كل شيء ابتداء بالاغتسال عند الدخول وتحية القدوم وانتهاء بالوداع.بل
لم يكتف بالمضاهاة حتى عداها إلى التفضيل.
* فقد قال ما نصه "شفاء الفؤاد"(ص35): (قال الفاضل ابن حجر رحمه الله: ولقد رأيت أكثر العوام إذا عاد حاجاً ولم يزر النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدون أن ذلك نقص وأي نقص وعار وأي عار، ويسلخصون عنه اسم الحاج الذي هو أشرف الأوصاف عندهم ويصير ذلك مثلة فيهم
إلى أن يموت بل وفي أولاده بعد موته.
ولقد اشتد من تعييرهم وتنقيصهم لمن رجع من غير زيارة ما ألجأه إلى الانقطاع في بيته وعدم الاجتماع بأحد إلى أن خرج مع الحجاج في العام الثاني فحج وزار ورجع إلى بلده فرحاً مسروراً بزوال تلك الوصمة الشنيعة عنه، فتأمل ذلك من العوام تجد أن عظمته - صلى الله عليه وسلم - وعظمة زيارته وقرت في قلوبهم واستحكمت في طباعهم..حتى إنهم يتداينون الديون البليغة مع حسن ظنهم ويوفي الله سبحانه وتعالى عنهم) اهـ.
قلت: ومعلوم - قطعاً - أن الحاج إلى القبر النبوي لا يشترط عليه أن يحج البيت الحرام مع حجة القبر المعظم لأن هذا الحج مشروع طوال العام وذاك موقوت بزمان معين، فهذا وجه من وجوه التفضيل بين الحجتين واضح بين.
الوجه الثاني: أن الله عز وجل أوجب الحج إلى بيته الحرام على من استطاع إليه سبيلاً، وأما غير المستطيع بنفسه أو بغيره فلا يجب عليه الحج اتفاقاً.(114/64)
وقد ذكر أهل العلم أن من كان له عيال فإنه يقدم النفقة عليهم على الحج لأن النفقة على الفور، ورجح بعضهم تقديم النكاح على الحج لمن خشي العنت(1).
أما التداين للحج فلم يستحبه أهل العلم - فيما علمت - بل قدموا قضاء الدين الحال على حجة الفرض.
وهذا المخالف يقول (حتى إنهم يتداينون الديون البليغة) من أجل حج القبر النبوي!!!
فلم يبق شك أو ريب في تفضيله هذا الحج على حج بيت الله الحرام الذي هو فريضة من
فرائض الإسلام وركن من أركانه.
* وإن تعجب، فعجب قوله: (قال الفاضل ابن حجر - رحمه الله -: ولقد رأيت أكثر العوام إذا عاد حاجاً ولم يزر النبي - صلى الله عليه وسلم - يعدون أن ذلك نقص وأي نقص وعار وأي عار، ويسلخصون عنه اسم الحاج..).
قلت: وحسب المخالف وأضرابه عاراً ونقصاً أن يكون دليلهم على ذلك التفضيل، فعل (أكثر العوام)!!
* ومن المنكرات الشنيعة الواردة في مقال المخالف، تشبيهه الوقوف أمام القبر النبوي
عند الزيارة بالوقوف بين يدي الله سبحانه في الصلاة حيث قال: (فيقف بخضوع ووقار وذلة وانكسار غاض الطرف مكفوف الجوارح وضعاً يمينه على شماله كما في الصلاة).
قلت: وليس بعد هذا التصريح بالشرك من تصريح.
* وقوله أيضاً: (يقدم صدقة بين يدي نجواه).
قلت: وهذا نذر وقربان للقبر، إذ الصدقة هنا من أجل القبر المعبود من دون الله، وهو من جنس ما كان المشركون يفعلونه عند أوثانهم وأصنامهم، يتقربون إليها بأنواع النذور والقرابين.
فإن قيل: أليس الله قد أمر المؤمنين في كتابه بتقديم صدقة بين يدي نجواهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة، ذلك خير لكم وأطهر، فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } ]المجادلة:12[.
فالجواب: إن هذا الحكم منسوخ، كما قال المفسرون، ودليل النسخ الآية التالية، وهي قوله
__________
(1) : انظر "المغني" لابن قدامة (3/172) و"المجموع" للنووي (7/68-77)(114/65)
تعالى: { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون } ]المجادلة:13[.
قال ابن كثير رحمه الله (4/326-327): (فنسخ وجوب ذلك عنهم) ثم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: (كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا).ثم قال:(وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: { فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه عليه السلام، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } ..الآية فوسع الله عليهم
ولم يضيق).
قلت: فإذا تقرر أن الحكم قد نسخ، فإن العمل به أو إيجابه بعد نسخه هو من الشرع الذي لم يأذن له الله، قال الله عز وجل: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }
]الشورى:21[.
وهو من الكذب على الله والقول عليه بغير علم، وقد قال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ]الأعراف:33[.
* * *
ثانياً: الشرك في الربوبية
قد ذكرنا من قبل أن شرك الأولين كان في الألوهية والعبادة، وأما الربوبية، وهي الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر للأمر المتصرف في الكون علويه وسفليه، وأن بيده مقاليد كل شيء وأنه لا يجير ولا يجار عليه، فكانوا مقرين بها، كما أخبر الله عنهم في أكثر من موضع في كتابه، فقال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } وقال: { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون.سيقولون لله، قل فأنى تسحرون } ]المؤمنون:86-89[.(114/66)
وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ]يوسف:106[.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون).وقال مجاهد رحمه الله: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا، ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره) "تفسير ابن جرير"
(16/286-287).
قلت: فكان يكفي المخالف أن يقتصر على شرك العبادة فيكون في عداد أولئك المشركين، إلا أنه أبى واستكبر، وأصر على الانحطاط في دركات أبعد في الشرك والكفر فأضفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - خصائص الرب العُلَى، ونازعه في أفعاله وأسمائه الحسنى.ومن أمثلة ذلك:
1- قوله "الذخائر" (ص233) في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الخليفة الأكبر الممد لكل موجود).
وقوله "شفاء الفؤاد" (ص113): (السلام عليك يا معنى الوجود، السلام عليك يا منبع الكرم والجود).
وقوله "شفاء الفؤاد" (ص124): (تختلف أحوال الزائرين في استفادتهم من زيارتهم واستمدادهم من الله بواسطة نبيهم المصطفى وحبيبهم المجتبى - صلى الله عليه وسلم -، وبحسب استعدادهم في تلقي الفيوضات الإلهية والواردات الربانية بواسطة الحضرة المحمدية).
2- ويقول "شفاء الفؤاد" (ص212):
يا من يجود على الوجود بأنعم خضر تعم عموم صَوْب الصَّيب
يا غوث من في الخافقين وغيثهم وربيعهم في كل عام مجدب
ويقول "شفاء الفؤاد"(ص230):
يا غياث الخلق يا ذا الفضل والجود والإحسان في بحر وبر
ويقول "شفاؤ الفؤاد" (ص225):
أنت الكريم الذي إنعامه أبداً للوفد من كفه الفياض مبذول
ويقول "شفاء الفؤاد" (ص205):
براه جلال الحق للخلق رحمة فكل الورى في بره يتقلب
قلت: فهذه الأوصاف المذكورة كلها من خصائص الرب سبحانه وتعالى، فهو الكريم المتفضل على الوجود، كما أخبر سبحانه عن نفسه فقال عز من قائل: { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } ]النحل:53[.(114/67)
وقال: { الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار.وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار.وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } ]إبراهيم:32-34[.
وقال: { خلق السموات والأرض بالحق، تعالى عما يشركون.خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين.والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } إلى قوله: { هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون.ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } إلى قوله: { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } إلى قوله: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون.وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم } ]النحل:3-18[.
وقد تكرر في القرآن ذكر نعم الله عز وجل علىعباده بالخلق والإيجاد والرزق في البر والبحر، وفصلها سبحانه في مواضع كثر، فذكر إنزال المطر وإنبات النبات وإرسال الرياح لواقح وخلق الأنعام وتسخيرها للمطعم والملبس والمركب، وسخر البحار والأنهار كذلك للمطعم والمشرب والحلية والمركب، إلى غير ذلك من النعم الكثيرة التي لا يحصيها إلا رب البرية.
وأعظم هذه النعم على الإطلاق نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم، وهي التي اختص بها عباده الذين أخبر عنهم بقوله: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } ]النساء:69[.
فبين سبحانه في هذه الآية أصناف المنعم عليهم، وأولهم الأنبياء عليهم السلام، الذين جمع الله لهم مع نعمة الهداية نعمة أجل وهي نعمة النبوة.(114/68)
قال سبحانه وتعالى عن عبده ورسوله عيسى عليه السلام: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } ]الزخرف:59[.
قال القرطبي- رحمه الله -: (أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة وجعله مثلاً لبني إسرائيل، أي آية وعبرة يستدل بها على قدرة الله تعالى، فإن عيسى كان من غير أب..)
"تفسير القرطبي" (16/104).
وقال سبحانه لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } ]الطور: 29[.
قال القرطبي - رحمه الله -: ( { فما أنت بنعمة ربك } يعني برسالة ربك { بكاهن } تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي) "تفسير القرطبي" (17/7).
إذاً: فالقول بأن النعم من عند غير الله، ونسبتها إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أحد من الخلق كفر وتكذيب بالقرآن وإنكار للمعلوم بالضرورة من الفطرة والإيمان، وقول على الله بغير علم، إذ هو المنعم على الخلق كلهم بسائر النعم ظاهرها وباطنها، وهو وحده المتفضل على الوجود، الغني عن كل موجود، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه: { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد.إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد.زما ذلك على الله بعزيز } ]فاطر:15-17[.
* وقد يسوق الله عز وجل بعض نعمه على ايدي الخلق ويجعلهم سبباً في إيصالها إلى من يشاء فيصح حينئذ أن تنسب إلى السبب كقوله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } ]الأحزاب:37[.حيث أنعم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتق من الرق وآواه إليه وأحسن إليه إحسان الوالد لولده وكان قد تبناه فكان يُدعى زيد بن محمد ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } ]الأحزاب:5[.(114/69)
وقال تعالى: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ]الليل:19-20[، (أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى) كذا قال القرطبي (20/88).
فنسبة بعض نعم الرب إلى خلقه، نسبة المسبَّبات إلى أسبابها، وليس ثمة حرج في ذلك إذا اعتقد أن الله هو الذي قدرها ويسرها، ولولاه سبحانه لما حدثت نعمة ولا حصل إحسان إذ هو الذي خلق السبب والمسبب.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله - "مجموع الفتاوى" (1/92) في معرض حديثه عن الشرك في الربوبية : (فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، الخافض الرافع، المعز المذل.فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الناقع، أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته.
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك فلينظر إلى المعطي الأول مثلاً فيشكره على
ما أولاه من النعم، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافيه عليه، لقوله عليه السلام:
{ من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم يتجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه } (1) لأن النعم كلها لله تعالى، كما قال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } ]النحل: 53[ وقال تعالى: { كُلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } ]الإسراء:20[ فالله هو المعطي
على الحقيقة فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده، فالمعطي
هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره.فهو الأول والآخر).
3- ويقول المخالف "الذخائر" (ص158):
ما أرسل الرحمن أو يرسل من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل
قلت: وهذا شرك آخر في الربوبية، إذ ما الذي أبقاه للرحمن من صفة الرحمة إذا كان
__________
(1) : رواه أبو داود (ح1672) والنسائي (5/82) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(114/70)
محمد- صلى الله عليه وسلم - أصلاً لكل رحمة في ملكوت الله وملكه تصعد أو تنزل؟!
كلا.بل ما من رحمة في الأرض ولا في السماء ولا في بر ولا في بحر إلا من عند الرحيم الرحمن الكريم المنان.قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء } ]الأعراف:156[، وجاء في دعاء ملائكته: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } ]غافر: 7[.
وقال سبحانه { وربك الغني ذو الرحمة } ]الأنعام:133[، وقال: { وربك الغفور ذو الرحمة } ]الكهف:58[.
وقد تواتر ذكر رحمة الله في القرآن وشمولها للعالمين في كل وقت وفي كل حين، فمن آثار رحمته إرسال الرياح { وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } ]الفرقان:48[، وإنزال المطر { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } ]الشورى:28[، وإحياء الأرض { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } ]الروم:50[.
ومن رحمته إنزال القرآن { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } ]النحل:89[.
والنبوة من رحمته، يختص بها من يشاء من عباده، كما قال سبحانه عن عبده نوح عليه السلام: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده } ]هود:28[
قال ابن جرير - رحمه الله - (15/298): (ورزقني منه التوفيق والنبوة والحكمة).
وقال عن عبده صالح عليه السلام: { قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته } ]هود:63[.
قال ابن جرير - رحمه الله - (15/370): (وأتاني منه النبوة والحكمة والإسلام).
وأخبر سبحانه عن تعنت المشركين واعتراضهم على اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - من دونهم فقالوا: { لولا نُزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } قال الله تعالى رداً عليهم: { أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمت ربك خير مما يجمعون } ]الزخرف:31-32[.(114/71)
قال القرطبي- رحمه الله - (16/83): ( { أهم يقسمون رحمة ربك } يعني النبوة، فيضعونها حيث شاءوا؟ { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } أي أفقرنا قوماً وأغنينا قوماً، فإذا لم يكل(1) أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم).
قلت: ولا شك أن هداية الخلق إلى دين الإسلام وتثبيتهم عليه حتى الممات ثم إدخالهم الجنة من أعظم نعم الله علىالعباد ورحمته بهم، ومن ثم كانت بعثة الأنبياء رحمة لأقوامهم
لأنهم سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولما كانت بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وصفه الله بقوله: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ]الأنبياء:107[.
قال ابن عباس: (كان محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن
لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق) اهـ "تفسير القرطبي" (11/350).
فإرساله - صلى الله عليه وسلم - رحمة من عند الله على العالمين من الجن والإنس لعموم رسالته إليهم،
كما أنها رحمة وإنعام وتشريف وإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام حيث اصطفاه لرسالته الخاتمة وشريعته الناسخة لما سبقها من الشرائع.
* ومن رحمته كذلك، أن جعل هذا النبي الخاتم رؤوفاً رحيماً بهم وجبله على هاتين الصفتين كما قال سبحانه وتعالى ممتناً على عباده المؤمنين: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ]التوبة:128[.
وقال: { فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك }
]آل عمران:159[.
__________
(1) : في النسخة المطبوعة (يكن)، ولعل الصواب ما أثبته.(114/72)
قال ابن رجرير- رحمه الله - (7/341): (فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن من أصحابك { لنت لهم } لتُبَّاعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك
ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم) اهـ.
إذاً فما كانت من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكذا كانت بعثته ونبوته، فهو سبحانه الذي أوجدها وقدرها وساقها إلى من شاء من عباده، كما قدر غيرها من أسباب الرحمة مما تقدم ذكره، فآثار رحمته جل وعلا على عباده ظاهرة في كل حال.
وكما قيل في مسألة الإنعام والتفضيل والإحسان، يقال كذلك في مسألة الرحمة،إن موجدها ومسببها ومقدرها هو الله وحده لا شريك له، فإليه تنسب أصلاً، كما تنسب إلى من أجرى الله على يديه نعمة أو رحمة، على أنه سبب من الأسباب، تبعاً.
ومن هنا تعلم ضلال هذا المخالف الذي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه وراء كل رحمة (تصعد
أو تنزل، من كل ما يختص أو يشمل) إذ هذا الوصف لا يليق إلا بالرحمن الرحيم، فكل رحمة في الكون فهي جزء من رحمته كما فصل ذلك في القرآن الكريم فيما تقدم من آيات بينات، وكما فصله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ووقائع متعددة ومنها:
* حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي غلبت غضبي } (1).
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/239).(114/73)
* وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً.فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبة } (1).
* وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - : { أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ } قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه.قال: { لله أرحم بعباده من هذه بولدها } (2).
قال الحافظ: (وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده، وأن كل من فُرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة) اهـ."فتح الباري" (10/431).
قلت: وهو كلام نفيس جداً فعض عليه بالنواجذ.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه
لا يُدخل أحداً الجنة عمله } قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: { ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة } (3).
ويقول المخالف أيضاً "الذخائر" (ص223)، في معرض حديثه عن خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وكان يُقطع الأراضي قبل فتحها لأن الله ملَّكَه الأرض كلها، وله أن يقطع أرض الجنة من باب أولى - صلى الله عليه وسلم - ) .
قلت: وهذا من الشرك الصريح في الربوبية، إذ أن الذي يملك الأرض ومن عليها هو الله وحده لا أحد سواه، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر.
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/240).
(2) : متفق عليه " اللؤلؤ والمرجان " (3/240).
(3) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/284).(114/74)
قال تعالى: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة } ]الزمر:10[، وقال:
{ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } ]العنكبوت:56[، وقال على لسان عبده صالح عليه السلام: { ويا قوم هذه ناقة الله اكم آية فذروها تأكل من أرض الله } ]هود:64[، وقال تعالى: { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } ]الأعراف:128[.
* وقد تواترت آيات الذكر الحكيم على تقرير ملكية الله تعالى للسموات والأرض
وما بينهما، في أكثر من ثلاثين موضعاً، كقوله تعالى: { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } ]البقرة:284[، وقوله: { ولله ميراث السموات والأرض } ]آل عمران:180[، وقوله: { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } ]الأنعام:12[.
* وكقوله: { له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } ]طه:6[، وقوله: { له مقاليد السموات والأرض } ]الزمر:63[، وقوله: { ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون } ]المنافقون:7[.
وقد رد الله عز وجل بهذه الآية على المنافقين القائلين: { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } ، فلو كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - شرك في الأرض لناسب ذكره في هذا الموضع، إعلاماً لقدر نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبكيتاً لعدوه الذي أراد بمقالته تلك ازدراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من فقراء أصحابه وتعييرهم بالفقر والحاجة.
وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في االسموات
ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له من ظهير } ]سبأ:22[.(114/75)
قال ابن كثير - رحمه الله -: (بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا شريك له بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } أي من الآلهة التي عبدت من دونه: { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } كما قال تبارك وتعالى: { والذين تدعون من دونه
ما يملكون من قطمير } ]فاطر:13[.
وقوله تعالى: { وما لهم فيهما من شرك } أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة، { وما له منهم من ظهير } أي ليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه) (1)اهـ.
قلت: فهذه الآية من أوضح البيان على المطلوب، إذ صرحت بنفي ملكية شيء في السموات والأرض ولو كان مثقال ذرة، عن كل الأنداد المعبودة من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين لا استقلالاً ولا على سبيل الشركة.
إذاً فمن زعم أن أحداً من الخلق يملك ذرة في هذا الكون مع الخالق، فقد أشرك شركاً بيناً، وافترى إثماً عظيماً، وكذب بالقرآن تكذيباً مبيناً، فكيف بمن زعم أن الأرض كلها ملك خالص للمخلوق لا شركة فيه للخالق ؟!!
وحسب هذا القائل إثماً وظلماً أن يكفر بما آمن به عبدة الأوثان في الجاهلية الأولى، الذين شهد لهم القرآن إقرارهم بربوبية الخالق وملكيته التامة للأرض ومن فيها.
قال الله تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون.سيقولون لله.قل أفلا تذكرون } ]المؤمنون:84-85[.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولهذا
__________
(1) : "تفسير ابن كثير" (3/536).(114/76)
قال لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره مع اعترافهم أن الذين عبدوهم
لا يخلقون شيئاً ولا يملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، فقال: { قل لمن الأرض ومن فيها } أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات { إن كنتم تعلمون.سيقولون لله } أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك { قل أفلا تذكرون } أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره)(1) اهـ.
فظهر بهذا أن المخالف ومن على شاكلته من دعاة السوء أشد كفراً وأعظم شركاً من المشركين الأولين.
* وإذا كان الخالق سبحانه قد نزه نفسه عن الشريك في أمر حقير، وهي أرض الدنيا الفانية، التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فكيف يُملك أرض الجنة العظيمة الخالدة، مستقر رحمته ودار كرامته، لأحد من خلقه؟!
فقول المخالف: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يملك حق الإقطاع في أرض الجنة، ظاهر السقوط، مع ما فيه
من الكفر والكذب والتكذيب لنصوص الوحي المصرحة بملكية الخالق وحده وأحقيته في التصرف بما يشاء في الجنة وما فيها، لا شريك له في شيء من ذلك قال تعالى: { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً } ]مريم:63[.
وأخبر سبحانه عن أصحاب الجنة قولهم: { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } ]الزمر:74[.
قال القرطبي - رحمه الله -: (قيل إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين) اهـ (2).
وجاء في دعاء خليل الرحمن عليه السلام قوله: { واجعلني من ورثة جنة النعيم }
]الشعراء:85[.
__________
(1) : "تفسير ابن كثير" (3/252).
(2) : "تفسير القرطبي" (15/287).(114/77)
وقال سبحانه: { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } ]الفجر:30[.
والأدلة من القرآن على ملكية الله الخالصة للجنة أجل من أن تحصر، ومن السنة كذلك.
* فقد جاء في حديث احتجاج الجنة والنار فول الله تبارك وتعالى للجنة: { أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي } وجاء في آخر الحديث قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: { وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشيء لها خلقاً } (1).
* وجاء في حديث أبي هريرة في قصة آخر أهل الجنة دخولاً قول الرجل: { يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك، أليس قد أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله عز وجل منه، ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تمنَّ، فيتمنى، حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله عز وجل: من كذا وكذا أقبل يذكره ربه، حتى إذا انتهت به الأماني قال الله تعالى: لك مثل ذلك ومثله معه } (2).
قلت: فالأمر كله بيد الله، فهو سبحانه الذي يتصرف في الجنة كما يشاء، وهو الذي يقطع فيها من أرضها ونعيمها كما يشاء، فلو كان غيره من الخلق يملك حق الإقطاع ولو في جزء يسير لما صح أن يقول للجنة: { أنت رحمتي أرحم بك من أشاء } ولما كان له أن يقول لذلك الرجل تمنَّ، ثم يزيده ربه أضعافاً مما سأل،إذ قد يتعارض هذا مع شريكه في الملك والتصرف، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/291).
(2) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/44).(114/78)
* ومثله حديث أبي سعيد الخدري حيث جاء فيه: { فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار:بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا } إلى أن قال: { فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه } (1).
* وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرؤيا الطويل حين أتاه في المنام آتيان فأخذاه فانطلقا به حتى رأى قصراً مثل الربابة البيضاء، فقالا له: هذا منزلك.فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : { قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله } (2) الحديث.
قلت: وفي منعه - صلى الله عليه وسلم - من دخول قصره ومنزله في الجنة مع تمنيه ورغبته، دليل آخر يؤكد كذب دعوى المخالف وزعمه أنه - صلى الله عليه وسلم - يملك حق الإقطاع في الجنة للغير، كيف وهو لم يعلم
أصلاً أن ذلك منزله حتى أُخبرِ؟!
* وفي ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحثه أمته على أن يسألوا الله عز وجل له الوسيلة والفضيلة دليل آخر أيضاً على اختصاص الله وحده دون خلقه بكامل نعيم الجنة وثوابها.
وبعد فالأمر، والله، أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح وأبين من أن يفتقر إلى بيان.
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
5- ومن الخصائص النبوية المزعومة قول المخالف: (وأوتي علم كل شيء حتى الروح والخمس التي في آية: { إن الله عنده علم الساعة } ) (3).
وقال في موضع آخر: (إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهداته لأمته ومعرفة أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم وذلك عندي جلي لا خفاء فيه) (4).
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/46).
(2) : رواه البخاري (12/439).
(3) : "الذخائر" (ص205).
(4) : "شفاء الفؤاد" (ص79، 97).(114/79)
قلت: وهذا شرك واضح جلي لا خفاء فيه، ومنازعة صريحة للرب سبحانه في أخص صفاته، صفة العلم، حيث سوى علم المخلوق بعلم الخالق افتراء عليه، وتكذيباً لكلامه.
قال عز وجل: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } ]لقمان:34[.
قلت: فهذه مفاتح الغيب التي اختص الله بعلمها دون خلقه كما قال: { وعنده مفاتح الغيب
لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات
الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ]الأنعام:59[.
فقوله سبحانه: { لا يعلمها إلا هو } صريح في نفي علمها عن أحد سواه لا ملك ولا رسول.
وقال سبحانه لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب
إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } ]النمل:65[.
وأصرح منها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الحق سبحانه: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله
ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك.إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } ]الأنعام:50[.
وكذلك قوله تعالى: { لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء.إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } ]الأعراف:188[.
وأما عن الروح فاسمع إلى القول الفصل إذ يقول الرب عز وجل: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ]الإسراء:85[.
وقال عن الساعة: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها.قل إنما علمها عند ربي.لا يجليها لوقتها إلا هو.ثقلت في السموات والأرض.لا تأتيكم إلا بغتة.يسألونك كأنك حفى عنها.قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ]الأعراف:187[.(114/80)
وقال أيضاً: { يسألك الناس عن الساعة، قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } ]الأحزاب:163[.
ويقول: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها.فيم أنت من ذكراها.إلى ربك منتهاها.
إنما أنت منذر من يخشها } ]النازعات:42-45[.
فالله عز وجل يقرر أن عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم وقت الساعة ولا الروح ويأمره أن يخبر الناس جميعاً بذلك، ثم يأتي هذا التائه ليُكذب بآيات الله ويعترض على أمره وحكمه!
وقد نفى الله العلم عن الخلق جميعاً إلا ما علمهم هو سبحانه، فقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض } ]البقرة:255[.
وقال: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } ]النحل:78[، وقال: { علم الإنسان ما لم يعلم } ]العلق:5[.
حتى الملائكة المقربون لا يعلمون إلا ما علمهم الله: { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.قالوا سبحانك لا علم لنا
إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } ]البقرة:31-32[.
وقال في شأن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً } ]النساء:113[.
وقال: { وما ينطق عن الهوى.إن هو إلا وحي يوحى.علمه شديد القوى } ]النجم:3-5[.
وقد يطلع الله رسله على شيء من الغيب ليكون حجة لهم ودليلاً على صدق نبوتهم، قال تعالى: { قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً.عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً.ليعلم أن قد
أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } ]الجن:25-28[.(114/81)
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: ( { قل إن أدري } أي ما أدري. { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } أي غاية وبعداً، وذلك لأن علم الغيب لله وحده.
{ فلا يظهر } أي:فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس { إلا من ارتضى من رسول } لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب.
والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه.وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر) (1) اهـ.
وقال القرطبي - رحمه الله -: (أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة
إلا الله، فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله) إلى أن قال: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم.
وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر الطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه) اهـ (2).
وقال ابن كثير - رحمه الله -: (يقول تعالى آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس إنه لا علم له
بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد) إلى أن قال في معنى قوله: { إلا من ارتضى
من رسول } : (وهذا يعم الرسول الملكي والبشري) اهـ (3).
ويؤيد ذلك قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قص عليه قصص آل عمران: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم، وما كنت لديهم إذ يختصمون } ]آل عمران:44[.
__________
(1) : "زاد المسير" (8/385).
(2) : "تفسير القرطبي" (19/ 27-28).
(3) : "تفسير ابن كثير" (4/432-433).(114/82)
وقوله سبحانه بعد أن قص عليه قصص نوح عليه السلام وقومه: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين } ]هود: 49[.
قلت: فدلت آيات الكتاب على اختصاص الرب وحده بعلم الغيب وأن الذي علمه الرسل منه إنما علموه من إنباء الله، واستأثر الله بما شاء من العلوم فلم يطلع أحداً عليها، ومنها مفاتح الغيب الخمس والروح وعلم ما في الصدور.
وجاءت السنة لتؤيد ما في القرآن، فمن ذلك:
حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { مفاتيح الغيب
خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة
إلا الله } (1).
حديث أبي هريرة في مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: متى الساعة ؟
قال: { ما المسؤل عنها بأعلم من السائل } إلى أن قال: { في خمس لا يعلمهن إلا الله } ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن الله عنده علم الساعة } الآية (2).
ومن حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها لما قالت: إحدى الجويريات وهي تغني:(وفينا نبي يعلم ما في غد) قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: { دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين } (3).
فصل: أقوال السلف في مسألة علم الغيب
ونختم الكلام عن هذه المسألة بعرض جملة من أقوال السلف في حكم من نسب علم الغيب إلى أحد من الخلق ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع كفاية الأدلة السابقة من نصوص الكتاب والسنة في بيان المطلوب { لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
1- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) : رواه البخاري (8/375).
(2) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/2).
(3) : رواه البخاري (9/203).(114/83)
فقد صح عنها أنها قالت: (من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب) ثم قرأت:
{ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } ) (1).
وفي لفظ: (من حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب) (2).
وذكر الحافظ أن الضمير في قولها (أنه) يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لوقوع التصريح به في بعض
الطرق (3).
2- الإمام ابن القيم رحمه الله.
قال: (وقد جاهر بالكذب بعض من يدعي في زماننا العلم، وهو يتشبع بما لم يعط،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم متى تقوم الساعة.قيل له: فقد قال في حديث جبريل:
{ ما المسئول عنها بأعلم من السائل } ، فحرفه عن موضعه وقال: معناه أنا وأنت نعلمها! وهذا من أعظم الجهل وأقبح التحريف.والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله من أن يقول لمن كان يظنه أعرابياً: أنا وأنت نعلم الساعة.إلا أن يقول هذا الجاهل: إنه كان يعرف أنه جبريل.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق في قوله: { والذي نفسي بيده ما جاءني في صورة إلا عرفته، غير هذه الصورة } (4).ثم قوله في الحديث: { ما المسئول عنها بأعلم من السائل } يعم كل سائل ومسئول.ولكن هؤلاء الغلاة عندهم: أن علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منطبق على علم الله سواء بسواء، فكل ما يعلمه الله يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والله تعالى يقول: { وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } .وهذا في "براءة" وهي من أواخر ما نزل من القرآن، وهذا والمنافقون جيرانه في المدينة.
ومن هذا حديث عقد عائشة رضي الله عنها لما أرسل في طلبه فأثاروا الجمل فوجدوه (5).
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/41).
(2) : أخرجه البخاري (13/361).
(3) : "فتح الباري" (13/364).
(4) : "مسند أحمد" (1/53).
(5) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/75).(114/84)
ومن هذا حديث تلقيح النخل، وقال: { ما أرى لو تركتموه يضره شيء } فتركوه فجاء شَيْصَاً، فقال: { أنتم أعلم بدنياكم } (1).
وقد قال تعالى: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } .
وقال: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } .
ولما جرى لأم المؤمنين عائشة ما جرى ورماها أهل الإفك بما رموها به، لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعلم حقيقة الأمر حتى جاءه الوحي من الله ببراءتها.
وعند هؤلاء الغلاة: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم الحال على حقيقته بلا ريبة،
واستشار الناس في فراقها ودعا الجارية فسألها، وهو يعلم الحال، وقال لها: { إن كنت
ألممت بذنب فاستغفري الله } (2) وهو يعلم علماً يقيناً أنها لم تلم بذنب!
ولا ريب أن الحامل لهؤلاء على هذا الغلو إنما هو اعتقادهم أنه يكفر عنهم سئاتهم ويدخلهم الجنة، وكلما غلوا وزادوا غلواً فيه كانوا أقرب إليه وأخص به!
فهم أعصى الناس لأمره، وأشدهم مخالفة لسنته.وهؤلاء فيهم شبه ظاهر من النصارى الذين غلوا في المسيح أعظم الغلو، وخالفوا شرعه ودينه أعظم المخالفة " اهـ (3).
* الحافظ ابن كثير رحمه الله:
أطال في تفسير قوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } فقال: (أمر تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُئل عن وقت الساعة أن يَرُدَّ علمها إلى الله تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها، أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد،لا يعلم ذلك إلا هو تعالى.
{ ثقلت في السموات والأرض } قال قتادة: ثقل علمها على أهل السموات والأرض أنهم
لا يعلمون. وقال السدي: خفيت في السموات والأرض فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل).
__________
(1) : رواه مسلم (2363) من حديث أنس وعائشة.
(2) : رواه البخاري (8/453) ومسلم (2770).
(3) : "المنار المنيف" (ص81-84).(114/85)
ثم ذكر الحافظ ابن كثير شواهد هذه الآية من الحديث على عدم اطلاع أحد من الخلق على علم الساعة وحجبها حتى أولي العزم من الرسل عليهم السلام، ثم قال: (فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه، نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفي والحاشر، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما: { بعثت أنا والساعة كهاتين } وقرن بين أصبعه السبابة
والتي تليها (1)، ومع هذا كله قد أمره الله أن يَرُدَّ علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها فقال:
{ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } انتهى باختصار(2).
* الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: وله أيضاً أقوال كثيرة في مواضع متفرقة من سفره العظيم "فتح الباري" الذي أودعه كنوزاً من العلوم الشرعية لا تكاد تجدها مجتمعة
إلا فيه.
يقول - رحمه الله - في شرحه لقصة الخضر مع موسى عليهما السلام حين سأله الخضر (أنى بأرضك السلام) ؟ (وفيه دليل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب
إلا ما علمهم الله، إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله) اهـ(3).
وفي شرحه لحديث الربيع بنت معوذ الذي جاء فيه قول القائلة (وفينا نبي يعلم ما في غد) قال الحافظ: (وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حيث أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى كما قال تعالى: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } .
وقوله لنبيه: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } ، وسائر ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر به من الغيوب بإعلام الله تعالى إياه لا أنه
يستقل بعلم ذلك، كما قال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/314-315).
(2) : "تفسير ابن كثير" (2/272-273).
(3) : "فتح الباري" (1/220).(114/86)
رسول } ) اهـ (1).
وعند شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها: (من حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب) ذكر الحافظ - رحمه الله - قول الداودي: (وما أحد يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم من الغيب إلا ما علم) فتعقبه بقوله: (وما ادعاه من النفي متعقب فإن بعض من لم يرسخ في الإيمان كان يظن ذلك حتى كان يرى صحة النبوة تستلزم اطلاع النبي- صلى الله عليه وسلم - على جميع المغيبات كما وقع في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ضلت، فقال زيد بن اللصت: يزعم محمد أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : { إن رجلاً يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها وهي في شعب كذا
قد حبستها شجرة } فذهبوا فجاءوه بها.
فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وهو مطابق لقوله تعالى: { فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } الآية) اهـ(2).
* الإمام الشوكاني رحمه الله:
وله أيضاً كلام نفيس في مسألة علم الغيب ذكره في مواضع متفرقة من تفسيره "فتح القدير" صرح بالمذهب الحق ورد على الغلاة المخالفين ومنها قوله عند تفسير قول الله تعالى: { قل
لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } الآية.
__________
(1) : "الفتح" (9/203).
(2) : "الفتح" (13/364).(114/87)
قال: (قوله: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع، لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه إلا م شاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما أستأثر الله بعلمه، وفي هذا إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له - صلى الله عليه وسلم - ما فيه أعظم زاجر وابلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصى أو الزجر، ثم أكد هذا وقرره بقوله: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا أدي غير ذلك وأتكلف علمه) اهـ(1).
قلت: ولهؤلاء ولغيرهم من أهل العلم من السلف ومن سار على نهجهم من الخلف كلام كثير مسطر في كتب التفسير وشروح الحديث وغيرها معلومة مظانها وكلهم متفقون على مثل ما نقلت عن هؤلاء، ولم يخالفهم إلا من سفه نفسه من أمثال هذا المخالف وغيره من دعاة السوء، هداهم الله وأصلحهم وكفى الناس شرهم وبدعتهم.
6- ومن الخصائص المزعومة قول المخالف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :(إنه كان يسمع حفيف أجنحة جبريل وهو بعد في سدرة المنتهى ويشم رائحته إذا توجه إليه )(2).
وقوله أيضاً:
يا من نناديه فيسمعنا بعد المسافة سمع أقرب أقرب (3)
قلت: ويكفي في الجواب عن هذا الهراء، أن يقال لصاحبه: من أين لك أيها المفتري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع حفيف أجنحة جبريل ويشم رائحته من سدرة المنتهى؟
__________
(1) : "فتح القدير" (2/274).
(2) : "الذخائر" (ص228).
(3) : "شفاء الفؤاد" (ص212).(114/88)
- وسنضرب صفحاً عن تلك الصفة الغريبة، صفة الشم، فهي ليست محل تفاضل وتمدح بين المتنافسين في الرفعة والشرف من بني آدم، بل الإطراء فيها قد يخرجها من المدح إلى الذم كما هو معلوم لمن أدنى مسكة عقل وفهم.
- أما صفة السمع فالغرض من تلك الفرية الشنعاء معروف، وهو تشبيه سمع المخلوق بالخالق الذي وسع سمعه السموات والأرض.
ويؤكد هذا قول المخالف: (يا من نناديه فيسمعنا على، بعد المسافة سمع أقرب أقرب) وهذه الصفة لا تليق إلا بالله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي وسع سمعه الأصوات، سواء في ذلك القريب الداني والبعيد النائي.
قال تعالى: { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } ]الرعد:11[.
وقال: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } ]المجادلة:1[.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل:
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية ).
وفي لفظ: (تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبه ويخفى عليَّ
بعضه..)(1).
وقال سبحانه: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } ]سبأ:50[.
قال ابن كثير: (وقوله تعالى: { إنه سميع قريب } أي سميع لأقوال عباده قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه) اهـ(2).
__________
(1) : أخرجه البخاري تعليقاً (13/372)، وانظر "تفسير ابن كثير" (4/318).
(2) : "تفسير ابن كثير" (3/544).(114/89)
قلت: فهاتان الصفتان العظيمتان: السمع والقرب، من صفات الرحمن التي تليق بجلاله وعظمته لا يشبههما شيء من صفات المخلوقين القاصرة، وقد جاء ذكرهما في نصوص الوحيين مقترنتين كما في هذه الآية، وكما في وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لما سمعهم يرفعون أصواتهم بالتكبير: { أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم } (1).
وجاءت صفة القرب مفردة كما في قوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان } ]البقرة:186[.
وقال سبحانه: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ]ق:16[.
فهو سبحانه قريب من عباده أقرب إليهم من كل قريب، مع علوه فوق عرشه ومباينته لخلقه.
إذاً فقول المخالف عن عبد من عباد الله إنه يسمع نداء من يناديه سمع أقرب أقرب يقتضي مساوته مع الخالق في صفتي السمع والقرب، بل فيه تفضيل المخلوق على الخالق كما تدل عليه صيغة التفضيل (أقرب أقرب) إذ إن معناها المتبادر من هذا الإطلاق: أنه - صلى الله عليه وسلم - يسمع سمع أقرب مَن هو أقرب، فهو إذاً أقرب من الله سبحانه الذي وصف نفسه بأنه قريب وأنه أقرب من حبل الوريد، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
وهذا مع كونه شركاً في صفتي الرب، السمع والقرب، فهو معارض لدلالات الشرع والعقل التي تقضي ببشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتنفي عنه مثل هذه المبالغات، ولكن ما وردت به النصوص من دلائل النبوة المعجزات.
فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (كنت في غزاة فسمعت عبدالله بن أُبي يقول:
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (3/ 227).(114/90)
لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي - أو لعمر - فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فحدثته فارسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبدالله بن أُبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا.فكذبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه) إلى أن قال: (فأنزل الله تعالى: { إذا جاءك المنافقون } فبعث إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ
فقال: { إن الله قد صدقك يا زيد } )(1).
قلت: أفمن كان يسمع حفيف أجنحة جبريل عليه السلام من سدرة المنتهى، أيغيب عنه سماع من كان أقرب من ذلك بكثير؟!
- وفي حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر في بعض الأسفار، وفيه قال: (فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه.فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس كبَّر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم - ) الحديث(2).
قلت: فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع تكبير عمر إلا بعد أن كرره ورفع صوته به، هذا وهو بجانبه، فكيف يسمع نداء من يناديه من أقاصي الأرض ونواحيها؟!
- وها هو جبريل عليه السلام يأتيه في صورة أعرابي ويسند ركبتيه إلى ركبتيه ويضع كفيه على فخذيه ويسأله ويتحدث إليه، ثم ينصرف من عنده ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد انصرافه عنه.
قال الحافظ في "الفتح": (دلت الروايات التي ذكرناها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال) اهـ(3).
__________
(1) : رواه البخاري (8 /644).
(2) : رواه البخاري (8/ 644).
(3) : "فتح الباري" (1/ 125).(114/91)
قلت: فليت شعري أين حاسة الشم المزعومة، وأين سماع حفيف أجنحة جبريل من سدرة المنتهى؟!
وفي قصة قدوم وفد بني تميم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بتأمير بعضهم واختلافهما فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية وقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية.
قال ابن الزبير: (فكان عمر بعد، إذا حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث حدثه كأخي السرار
لم يسمعه حتى يستفهمه )(1).
قال الحافظ: (أي يخفض صوته ويبالغ حتى يحتاج إلى استفهامه عن بعض كلامه) اهـ(2).
قلت: وهذا صريح أيضاً في الدلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤت ذلك السمع المزعوم الذي يسع الأصوات ويجتاز المسافات حتى يبلغ سدرة المنتهى.
7- وقال المخالف في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(بنور رسول الله أشرقت الدنا ففي نوره كل يجيء ويذهب )(3).
وقال أيضاً:
(أنت سر الله والنور الذي سار موسى نحوه في طور سين
فهو نور لا يسامى إنه قبس من نور رب العالمين
كيف لا والسيد الهادي به يغمر الدنيا بنور مستبين )(4)
قلت: وهذه منازعة للرب في صفة من صفاته، صفة النور، التي وصف بها نفسه ووصفه بها عبده ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أن فيه تكذيباً صريحاً لكلام الله عز وجل وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فقد قال سبحانه في محكم التنزيل: { الله نور السموات والأرض.مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } الآية ]النور:35[، وقال: { وأشرقت الأرض بنور ربها } ]الزمر:69[.
والمخالف يقول: (بنور رسول الله أشرقت الدنا)!!
__________
(1) : أخرجه البخاري (13/ 267).
(2) : "فتح الباري" (13/ 280).
(3) : "شفاء الفؤاد" (ص 205).
(4) : "شفاء الفؤاد" (ص 232).(114/92)
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يتهجد قال: { اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السموات
والأرض.. } الحديث(1).
- وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في وصفه لربه عز وجل: { حجابه النور - أو قال النار -
لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه } (2).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال: { نور أنَّى أراه ؟ } وفي لفظ: { رأيت نوراً } (3).
قال العلامة ابن القيم- رحمه الله -: (وقد فسر قوله تعالى: { الله نور السموات والأرض } بكونه منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السموات
والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم
النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى.
والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول كقوله تعالى: { وأشرقت الأرض بنور ربها } فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى إذا جاء لفصل القضاء.
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء المشهور: { أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت } .
وفي الأثر الآخر: { أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات } فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله، كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي وغيره، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه).
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/ 147).
(2) : أخرجه مسلم (179).
(3) : أخرجه مسلم (178).(114/93)
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه منور السموات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود.
والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها)(1).
* * *
فصل { وذروا الذين يلحدون في أسمائه }
لم يكف المخالف شركاً بالرب عز وجل في صفاته وأفعاله، حتى أضاف إليه شركاً أكبر وكفراً أعظم، فعمد إلى أسماء الله الحسنى، التي خص بها نفسه من دون خلقه واتصف بها وجعلها علماً لذاته المقدسة، فأشرك معه فيها بعض خلقه، ظلماً وزوراً.
- فمن أذكار السلام التي ابتدعها المخالف عند زيارة القبر النبوي، قوله: (السلام عليك
يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا باطن، السلام عليك يا ظاهر)(2).
- وغلا أكثر من ذلك، فذكر من الخصائص النبوية أنه - صلى الله عليه وسلم - (سمي من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسماً)(3).
فأشرك النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الله في كل أسمائه الحسنى، إمعاناً في الكفر والشرك والضلال وإنكاراً للمعلوم ضرورة من دين الإسلام.
قال الله في محكم التنزيل: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } ]الأعراف:180[.
قال ابن جرير- رحمه الله -: (أصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والجور عنه، والإعراض.ثم يستعمل في معوج غير مستقيم، ولذلك قيل للحد القبر: لحد، لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه)(4).
وذكر ابن جرير وغيره من المفسرين (5) أن إلحاد المشركين في أسماء الله كان بعدولهم بها عما هي عليه، فاشتقوا منها أسماء لآلهتهم كتسمتهم اللات من (الله) والعزى من (العزيز) ومناة من (المنان).
__________
(1) انظر "التفسير القيم" (ص375، 376).
(2) : "شفاء الفؤاد" (ص120).
(3) : "الذخائر المحمدية" (ص 203).
(4) : "تفسير ابن جرير" (13/ 282).
(5) : انظر "فتح القدير" (2/ 268).(114/94)
وذكر ابن القيم رحمه الله من أنواع الإلحاد في إسماء الله: أن يسمى الأصنام بها، كتسمية المشركين اللات من الإلهية والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً.قال: (وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة)(1).
قلت: فإذا كانت تسمية الأصنام والأوثان ببعض أسماء الله عز وجل، ولو كانت اسماً واحداً، يعد إلحاداً وكفراً وشركاً، فكيف بمن سمَّى مخلوقاً بكل أسماء الله؟!
وإذا كان اشتقاق اسم من الأسماء الحسنى وإطلاقه على المعبود من دون الله، كاللات والعزى، يلحق فاعله بالمشركين ويصيره في عداد الملحدين المتوعدين بالعقاب، فكيف بمن أطلق نفس الأسماء الإلهية على المخلوق، فسماه الأول والآخر والظاهر والباطن، إلى أن أوصلها إلى السبعين؟
كيف وقد زادها إلى أن شملت كل الأسماء دون استثناء، فدخل فيها حتى الاسم الأعظم (الله)، الذي لم يعرف في تاريخ الشرك الطويل، أن أحداً اجترأ على هذا الاسم فتسمى به أو أطلقه على أحد الآلهة المزعومة من دون الله؟!
حقاً إنه لسفه أي سفه، وضلال أيما ضلال، أن يعتقد امروٌ مثل هذا الاعتقاد الموغل في
الفساد ثم يصيح مغتبطاً به على رؤس الأشهاد، أما خاف أن تشل يده وهي تسطر مثل هذا
الهراء ؟
سبحانك يا رب ما أحلمك، سبحانك يا رب ما أصبرك، سبحانك حيث كنت، لا إله إلا أنت.
وبعد، فقد كان بالإمكان مناقشة هذا التائه وتعقبه بالحجة والمنطق والعقل، لو اقتصر إلحاده على بعض أسماء الله تعالى، لكنه لم يدع مجالاً للأخذ والرد، بعد أن صرح بمطابقة أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماء الله كلها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
__________
(1) : "بدائع الفوائد" (1/ 169).(114/95)
{ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم.هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون.
هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض
وهو العزيز الحكيم } .
{ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } .
{ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون.كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } .
* * *
الباب الثاني
الافتراء على الملائكة الكرام
وبعد، فهل اكتفى المخالف بكل الذي تقدم من كفر واضح جلي، وشرك فاضح صريح؟
كلا، بل أضاف إليه، أن رمى بالكفر والشرك والظلم أبعد الخلق عنه وعن كل معصية وإثم، ملائكة الرحمن الكرام.
ولم يقصر ظلمه وقذفه لهم على طائفة منهم، بل شملهم كلهم حتى جبريل الأمين عليه السلام.
*فمن الخصائص النبوية المختلقة، عدَّ المخالف منها (ذكر الملائكة له في كل ساعة)(1).
*وقال(2):
(لسناك حين بدا بآدم أقبلت رعياً لسيماك الملائك تسجد)
*وقال(3):
(كلما لحت للملائك خروا في السموات سجداً وبكياً).
*ولما ذكر تلك الصيغة الشركية من صيغ السلام المبتدعة التي تقال عند القبر (السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا باطن السلام عليك يا ظاهر)، قال
بعدها(4) : (ويقال: إن ذلك من تحية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - )!.
قلت: وهذا غايةٌ في الظلم والإفك والبهتان، أن ينسب مثل هذا الكفر إلى البررة الكرام
المطهرين من كل عيب المعصومين من كل معصية وذنب، كما شهد لهم بذلك الرب،
فقال عز وجل: { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ]التحريم:6[.
__________
(1) : "الذخائر" (ص202)
(2) : "شفاء الفؤاد" (ص216)
(3) : "شفاء الفؤاد" (ص235)
(4) : "شفاء الفؤاد" (ص120)(114/96)
ولا ينقضي العجب من جرأة هذا الأفاك وإقدامه على مثل هذا الكذب الواضح المكشوف، إذ من أين له أن من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الملائكة له في كل ساعة؟ ومن أوحى إليه بهذه الفرية؟ وما نوع الذكر الذي كانوا يذكرون به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
أهو التسبيح والتكبير والتحميد؟ أم هو ذكر آخر، لا من جنس الأذكار المعروفة؟
وهل هم مستمرون على هذه العبادة، أم إنها انقطعت بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
ولعل قائلاً يقول: إنه يقصد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي } ؟ ]الأحزاب: 56[.
أقول: إننا لو فرضنا جدلاً أن ذلك قصده، فهو مخطئ بكل اعتبار:
الأول: أنه لم يفصح عن قصده ولم يبين مراده من كلامه، والمقام يقتضي الإفصاح لا الإبهام، والإيضاح لا الإيهام، خاصة ممن دأب على قول الشرك والكفر وصار ديدنه وهجيراه.
الثاني: أنه وقت بوقت لا دليل عليه، إذ جعله في كل ساعة، والآية القرآنية أطلقت الصلاة ولم تحددها بزمن.
الثالث: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست ذكراً له، بل هي دعاء المصلي ربه أن يصلي على نبيه، فهي من جنس دعاء المؤمن لأخيه، وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن المشروع في حقه الصلاة والسلام، بخلاف سائر المؤمنين إذ يدعو بعضهم لبعض بخيري الدنيا والآخرة.
والدليل على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء، حديث زيد بن خارجة رضي الله عنه،
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { صلوا علي فاجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد
وآل محمد } رواه النسائي (3/ 49).
وجاء في حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: { ما شئت } ، قال: قلت: الربع؟ قال:
{ ما شئت } إلى أن قال: (قلت: أجعل لك صلاتي كلها..) الحديث رواه الترمذي
(4/636).(114/97)
قال الإمام المنذري(1): (قوله (أكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي)؟ معناه: أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك) اهـ.
قلت: ومما يؤكد أن المخالف يقصد معنى آخر سوى الصلاة، ما تقدم من خصائصه المزعومة التي صرح فيها بمذهبه ومعتقده في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضاهاته بالله سبحانه في خصائص الألوهية والربوبية.
ويؤكده أيضاً، قوله السابق عن الملائكة الكرام وعن جبريل عليه السلام، فليس الذكر بأعظم من السجود والإلحاد في الأسماء الحسنى.
وقد تضمن قول المخالف: (لسناك حين بدا بآدم أقبلت، رعياً لسيماك الملائك تسجد) جملة من المخالفات:
منها: أن فيه تكذيباً لصريح القرآن، إذ تواترت الآيات على ذكر خبر سجود الملائكة لآدم وأنه كان طاعة للخالق سبحانه إذ أمرهم بذلك السجود، كما في قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } ]البقرة:34[، وكقوله تعالى: { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين.فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.فسجد الملائكة كلهم أجمعون.إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين } ]ص:71-74[.
وجاء في حديث الشفاعة الطويل أن الناس يقولون لآدم عليه السلام: { أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك } (2).
فاتفقت نصوص القرآن والسنة على أن سجود الملائكة كان لآدم لا لغيره من البشر.
وعارض المخالف تلك الأخبار كلها وكذب كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وزعم أن السجود كان من أجل سناه - صلى الله عليه وسلم - .
قال تعالى: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } ]الزمر:32[.
ومنها: أن فيه اعتراضاً على قدر الله وحكمه وأمره.
__________
(1) : "الترغيب والترهيب" (2/501)
(2) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/50).(114/98)
فقد قضى الله عز وجل أن يكون سجود ملائكته لآدم دون غيره، وأمرهم بذلك فأطاعوا له وأذعنوا كلهم أجمعون، إلا إبليس اللعين أبى واستكبر وقال: { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } ]ص:76[.
واعترض المخالف على قدر الله وعارض حكمه وأنكر استحقاق آدم عليه السلام لسجود الملائكة، وقال: بل محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى بالسجود منه.
فتأمل - رحمك الله - ذلك التشابه بين الشيطانين في الكفر والاستكبار عن أمر الواحد القهار!
ومنها: أن فيه اتهاماً مبيناً وبهتاناً عظيماً لعباد الله المكرمين، إذ زعم أنهم قابلوا أمر الله عز وجل بالعصيان والاحتيال، أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام فسجدوا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام.وحاشا لله أن يفعلوا ذلك، { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
*وأما قول المخالف (كلما لحت للملائك خروا، في السموات سجداً وبكياً).فهو أعظم في الإفك وأبلغ في الظلم والافتراء، إذ قذفهم بأعظم الذنوب وأكبرها عند الله وعند رسوله- صلى الله عليه وسلم - وعند المؤمنين وعند الملائكة المكرمين.
{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } ]النساء:112[.
وحسبنا في الرد على هذه الفرية النكراء أن نسأل هذا الأفاك، من أين له ذلك السجود المزعوم؟
أمن وحي السنة والقرآن؟ أم من قرائح الهذيان وأوهام الأذهان؟أم هو من وحي الكهان؟ { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } ]الأنعام:93[.
ثم من تُراه أمر بذلك السجود؟ آلله؟ { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله
ما لا تعلمون } ]الأعراف:28[.(114/99)
أم فعلته الملائكة من غير أمر ولا إذن؟ كلا { بل عباد مكرمون.لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } ]الأنبياء:26،27[، قال ابن كثير - رحمه الله -(1): (أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم بل يبادرون إلى فعله).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام:
{ ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ } فنزلت: { وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً } (2).
قال الحافظ ابن حجر(3): (الأمر في هذه الآية معناه الإذن بدليل سبب النزول المذكور).
قلت: فإذا كانوا لا يجترئون على زيارة النبي- صلى الله عليه وسلم -، مجرد زيارة، إلا بإذن من الله جل وعلا، فما بالك بالسجود والخضوع والتعظيم والبكاء الذي لم يؤذن لهم فيه البتة ولا ينبغي إلا للواحد الأحد سبحانه وتعالى؟!
__________
(1) : "تفسير ابن كثير"(3/176)
(2) : رواه البخاري (8/428)
(3) : "فتح الباري" (8/429)(114/100)
* تكميل: قول المخالف: (كلما لحت للملائك خروا في السموات سجداً وبكياً) يعني به ليلة المعراج عندما اجتاز النبي - صلى الله عليه وسلم - السموات السبع، وهو مع ما فيه من الظلم والبغي والعدوان، ففيه أيضاً تكذيب صريح لما أخبر به النبي- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال، في حديثه عن الإسراء والمعراج: { فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال من هذا؟ قال هذا جبريل، قال هل معك من أحد؟ قال: نعم معي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أوَ أرسل إليه؟ قال: نعم.فلما فتح علونا السماء الدنيا.. } الحديث.(1) وجاء في حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه، قوله: { فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل من هذا؟ قال: جبريل.قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم.قيل مرحباً به ولنعم المجيء جاء } إلى أن قال: { فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل.قيل: من معك؟ قال: محمد.قيل: أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء.. } الحديث (2) وذكر مثل ذلك في بقية السموات.
فإن قيل: كيف تعدون سجود الملائكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - شركاً، وهم قد سجدوا لآدم عليه السلام؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أن سجود الملائكة لآدم كان طاعة لله وعبادة له، وهو تشريف وتكريم لآدم عليه السلام.
قال ابن جرير(3): (كان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله، لا عبادة لآدم) ثم روى بإسناده عن قتادة أنه قال: (فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته).
__________
(1) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/35).
(2) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/37)
(3) : "تفسير ابن جرير" (1/512)(114/101)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية(1): (أما السجود فشريعة من الشرائع، إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له،ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير طاعة لله عز وجل.
فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود أخوة يوسف له تحية وسلام) اهـ .
قلت: ومما يدل على أن سجود الملائكة لآدم تكريم له، احتجاج إبليس اللعين على ربه حين امتنع عن السجود، فقال: { أأسجد لمن خلقت طيناً.قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } ]الإسراء:61-62[.
فإذا تقرر أن السجود لآدم كان تكريماً له لا غير، وأنه كان بأمر الله وإذنه، فقياس غيره عليه شرك في التشريع كما هو ظاهر، وبمثل هذا القياس الفاسد كان ضلال أكثر الأمم.
قال الله عز وجل: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ]الشورى:21[.
فمن جوز سجود الملائكة لغير آدم من البشر قياساً عليه، فقد نصب نفسه مشرعاً مع الله سبحانه، وهذا هو عين الشرك والكفر والضلال.
ويمكن على هذا القياس أن يقول قائل: أمر الله بالطواف بالبيت الحرام، والحج إليه، فيقاس عليه الأحجار والأشجار والقبور ونحوها مما يعظمه الناس، فيحج إليها ويطاف بها كذلك.
ويقال أيضاً: شرع الله النسك في الحج والأعياد والميلاد، فيقاس عليه النحر والعقر للمعظمين من الطواغيت.
ولو استطردنا في ذكر القياسات الفاسدة التي تتحصل من وراء ذلك القول الباطل لأفضى
بنا إلى التطويل والإملال.
وحسبك أن تعلم أن هذا هو بعينه قياس المشركين الأولين، عباد يغوث ويعوق ونسر، وبمثله حرَّموا وأحلوا ما شاءوا بأهوائهم، إذ قالوا: ما ذبح الله وقتل خير مما ذبحتم وقتلتم، فأحلوا الميتة بهذا القياس الفاسد.
__________
(1) : "مجموع الفتاوى" (4/460-461)(114/102)
قال الله تعالى: { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ]الأنعام:121[.
الوجه الثاني: أن هذا المخالف لم يقتصر في زعمه على السجود المجرد بل قرنه بالبكاء،
وهو قرينة بينة على أن قصده بذلك ما هو أعلى من مجرد التشريف والتكريم أو التحية،
وهو السجود الآخر الذي هو عبادة محضة ولا ينبغي إلا لله وحده.
وقد عصم الله عز وجل ملائكته الكرام من أن يشركوا به أحداً من خلقه بأي نوع من أنواع الشرك، بل هم معصومون من مطلق العصيان، فلا تجوز عليهم المحقَّرات فضلاً عن الموبقات، ولا يصدر عنهم حتى الصغائر فكيف بأكبر الكبائر؟
* وكذا قول المخالف: إن من تحية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا باطن السلام عليك يا ظاهر)، هو كسابقه، في الإفك والافتراء على المكرمين من أهل السماء، وحاشا جبريل الأمين عليه السلام من اقتراف مثل هذا الكفر والإلحاد في الأسماء.
وهذه نصوص السنة بين أيدينا، ليس فيها نص واحد صحيح ولا ضعيف ولا حتى موضوع، يذكر خطاب جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا القول المختلق ولو مرة واحدة.
وأكثر خطابه له ومناداته إياه كان (يا محمد) وربما قال (يا رسول الله)، أما أن يقول له
(يا أول..يا آخر..يا باطن..يا ظاهر..) فلا ولله، ما كفر جبريل ولكن الشياطين كفروا.
ولك أن تسأل، لم اختص جبريل عليه السلام من دون الملائكة بمثل هذا الظلم والعدوان؟ ألأنه ينزل بالعذاب، كما تعللت يهود في كفرها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لو كان الذي ينزل عليك غيره لآمنا بك، فأنزل الله تعالى: { قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدىً وبشرى للمؤمنين.من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } ]البقرة:97-98[.(114/103)
وسواء كان ذلك السبب أم غيره، فقد تشابه الفريقان في خصومتهم وعداوتهم لجبريل عليه السلام، بل عداوة المخالف أشد وظلمه له أعظم لنسبته إياه إلى الإلحاد والشرك.
* * *
الباب الثالث
نقض أركان الإيمان
1- الإيمان بالله.
2- الإيمان بالملائكة.
3- الإيمان بالكتاب.
4- الإيمان بالرسول.
{ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله }
تقدم أن المخالف قد نقض أعظم أسس الإيمان وأول أركانه، وهو الإيمان بالله، إذ أشرك به سبحانه في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، فهل اكتفى بهدم ذلك الركن الأعظم؟
كلا، بل نقض غيره من أركان الإيمان، وهاك البيان:
1- فالإيمان بالملائكة، يقتضي الإيمان بأنهم خلق لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون
ما يؤمرون، وأن لهم أعمالاً ووظائف كلفوا بها هم لها عاملون { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } .
فكفر المخالف بذلك وزعم أنهم عصاة ماردون، إذ أمروا بالسجود لآدم عليه السلام فسجدوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، كلهم أجمعون.
وزعم أنهم عبدوا الرسول إذ كانوا يخرون له سجداً يبكون، وكانوا يذكرونه من دون الله في كل ساعة.
ثم زعم أن جبريل عليه السلام أشرك في بعض أسماء الله تعالى، إذ كان من تحيته للنبي- صلى الله عليه وسلم -: (السلام عليك يا أول السلام على يا آخر السلام عليك يا باطن السلام عليك يا ظاهر).
2- والإيمان بالقرآن، وهو الإيمان بأنه كلام الله ووحيه المنزل على عبده ورسوله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه القول الفصل ليس بالهزل، خبره صدق وحكمه عدل.فكفر المخالف بذلك كله، فكذب خبره صدق ونقض حكمه، وحرف الكلم عن مواضعه وعكس دلالاته.
فسور القرآن كلها من "الفاتحة" إلى "الناس" تقرر مسائل الإيمان والتوحيد، والمخالف نقضها من أسها، بالتكذيب تارة والتحريف تارة أخرى.(114/104)
* جاء في سورة "الفاتحة" قول الله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } وفي "الأنعام": { قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء } وفي "مريم" { رب السموات والأرض وما بينهما } وفي "الناس" { قل أعوذ برب الناس } إلى غير ذلك من الآيات والسور التي دلت على توحيد الخالق جل وعلا في ربوبيته.
فكذب المخالف قول الله في كتابه وزعم أن المخلوق هو (رب الحور، رب الجمال، غياث الخلق، غوث من في الخافقين، ذو الفضل والجود والإحسان في البر والبحر، معنى الوجود، منبع الكرم والجود، رأس الأمر وساسه..).
*وجاء في سورة "الفاتحة" قول الحق سبحانه: { الرحمن الرحيم } وفي "الأعراف":
{ ورحمتي وسعت كل شيء } وفي "الأنعام": { وربك الغني ذو الرحمة } وفي "فاطر" { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } .
فنقض المخالف قول الله وزعم أن أصل كل رحمة تصعد أو تنزل مما يخص ويشمل، هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
*وجاء في سورة "الفاتحة" قول الله عز وجل: { إياك نعبد وإياك نستعين } وفي سورة "النساء" { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } وفي"الزمر" { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } .
فكفر المخالف بذلك كله وقال: (تَوجَّه رسول الله في كل حاجة لنا ومهم في المعاش وفي القلب).
وقال: (يا سيدي إني رجوتك)، (فأقل عثار عُبيدك)، (واقمع باغضيه بحولك..).
وقال: (يا رسول الله عجل سيدي بزوال البؤس..) (عجل بإذهاب الذي أشتكي) (لك وجهت وجهي) (يا منتهى أملي وغاية مطلبي) (نقبل الترب إجلالاً لساكنه) (فقرى الواقف ببابه الشريف كقرى الواقف بعرفات)..
*وجاء في سورة "النور" قول الله تعالى: { الله نور السموات والأرض } وفي سورة "الزمر" { وأشرقت الأرض بنور ربها } .
فنقض المخالف قول الله بقوله: (بنور رسول الله أشرقت الدنا، ففي نوره كل يجيء ويذهب).
وقوله: (أنت سر الله والنور الذي، سار موسى نحوه في طور سين).(114/105)
4- ثم الإيمان بالرسول: يقتضي محبته وطاعته واتباع سنته والتحاكم إليها وتقديمها على
ما سواها من الأحكام والمذاهب والآراء.
أ- ولا يتم هذا الإيمان إلا بالتأدب بكل الآداب التي ذكرها الله في القرآن، ورأس الأدب مع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - : كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، وأن لا يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم مهما علت مقاماتهم، ولا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يعرض قوله وحكمه على قول شيخه وإمامه ومذهبه فإن وافقه قبله وإن خالفه حرفه وأوله والتمس له ألف مخرج.
*ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته.
*ومن الأدب معه، أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟
أترى ذلك موجباً لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجب لحبوطها؟ تلك إذاً قسمة ضيزى.
*والكلام على الآداب المفروضة على الأمة تجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لا يسعه هذا الموضع لجلالته وعظيم نفعه، إذ هو الدين كله، فمن أين للخلق أن يعرفوا ربهم وأن يعبدوه ويتقربوا إليه بمحابه ويتجنبوا سخطه وغضبه إلا عن طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
ب – ومن مقتضيات الإيمان بالرسول الشهادة له بالرسالة والرضا به عبداً لله ورسولاً والإيمان بصفاته التي وصف بها في الوحي دون إفراط فيه إلى حد الغلو كما صنعت النصارى مع المسيح، ولا تفريط في حقه إلى حد التنقيص من قدره أو إيذائه كما فعلت بنو إسرائيل مع أنبيائهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون.(114/106)
وقد لخص أهل العلم معنى شهادة أن محمداً رسول الله في ثلاث كلمات: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيا أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
فما حظ المخالف من هذا الإيمان ومن هذه الشهادة؟!
* أما أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قابلها بالتكذيب والتحريف واللَّي والإعراض.
*قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله } ، وقال لجبريل عليه السلام لما سأله عن الساعة: { ما المسئول عنها بأعلم من السائل } متفق عليه(1).
فكذب المخالف قوله وزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم مفاتح الغيب الخمس ومنها علم الساعة.
*وقال - صلى الله عليه وسلم - : { إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس } (2).
وقال أيضاً: { إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له } (3).
وزعم المخالف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم عزائم القلوب وخطراتها ونياتها.
*وقال - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً حبة قلبه وفلذة كبده فاطمة رضي الله عنها: { سليني من مالي
ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً } (4).
وقال: { والله إني لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي } (5).
فكذب المخالف قوله وزعم أن بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاليد الأمور، فله أن يُقْطِعَ أرض الجنة لمن شاء وأن يرحم ويغفر ويتوب على من شاء، وأن يشفع لمن شاء، وزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا الله أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار فأعطي ذلك (6)، وكذا أصهاره(7).
__________
(1) : "اللؤلؤ والمرجان" (1/2).
(2) : رواه البخاري (8/67) ومسلم (1064).
(3) : متفق عليه "جامع الأصول" (10/180).
(4) : متفق عليه "اللؤلؤ والمرجان" (1/52).
(5) : رواه البخاري (1/114).
(6) : "الذخائر" (ص216)
(7) : "الذخائر" (ص224).(114/107)
وغلا أكثر فزعم أن أهل البيت لا يجوز عليهم الخطأ أصلاً، موافقة لغلاة الشيعة في اعتقادهم العصمة لأهل البيت(1).
*وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حال أبويه عبدالله وآمنة، فقال: { استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي } (2).
قال الإمام النووي- رحمه الله -(3): (فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة وفيه النهي عن الاستغفار للكفار) انتهى ملخصاً.
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: { في النار } . فلما قفَّى دعاه فقال: { إن أبي وأباك في النار } (4).
قال الإمام النووي - رحمه الله -(5):
(فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين.وفيه أن من مات في الفترة
على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ
الدعوة فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) اهـ.
فضاق صدر المخالف بهذين الخبرين الصادقين عن المعصوم، وسلط عليهما سهام التكذيب والتبديل للطعن في دلالتهما على المطلوب.
أما التكذيب فقوله "الذخائر" (ص37): (إن تلك الأحاديث - يعني هذين الخبرين-
لم ترتفع عن درجة الآحاد).
قلت: فهذا هو التكذيب بعينه وإن سمي بغير اسمه، أو لبس بلباس من غير جنسه،
وهو مسلك ممقوت دأب عليه المخالفون في الكتاب المختلفون في الكتاب، حيث يحكمون أهواءهم وعقولهم القاصرة في نصوص السنة والكتاب فما وافقها قبلوه وجعلوه حجة قطعية، وما خالفها ردوه وجعلوه دلالة ظنية، وبذلك المسلك الفج طعنوا في نصوص كثيرة محكمة بحجة أنها أخبار آحاد، لا تفيد- بزعمهم - إلا الظن.
__________
(1) : "شفاء الفؤاد" ص219)
(2) : "صحيح مسلم بشرح النووي" (7/45).
(3) : "صحيح مسلم بشرح النووي" (7/45)
(4) : "صحيح مسلم بشرح النووي" (3/79).
(5) : "صحيح مسلم بشرح النووي" (3/79)(114/108)
* وأما التبديل فبدعوى النسخ، حيث زعم أن الله أحيا له أبويه فآمنا به (1).
وهذا الزعم مع كونه لا دليل عليه، فإن فيه عدة محاذير:
منها: أنه يقتضي أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة الدليل المنسوخ الذي يلزمهم أن يكفروا به ويطرحوه، وأنساهم الدليل الناسخ الذي يجب عليهم أن يؤمنوا به ويعتقدوه.وفيه ما فيه من إساءة الظن بالمولى عز وجل، ووصفه بما لا يليق أن يوصف به.تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومنها: الطعن في حملة العلم من هذه الأمة الخيرة بدءاً بالصحابة رضوان الله عليهم وانتهاء بالأئمة المصنفين إذ حفظوا لنا المنسوخ وبلغوه، وضيعوا الناسخ وكتموه.
ثم هو مناقض لمذهبه الأول، إذ قرر هناك أنهما من أهل الفترة وماتا على الفطرة (2)، ويقول هنا إنهما ماتا على الإيمان بعد أن أحياهما الله له، فتناقضا وتساقطا.
وبسط هذه المسألة له موضع آخر، والمقصود بيان تكذيب المخالف لأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - .
*ومن أمثلة اعتراضه على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعارضته في أمره ونهيه ما يأتي:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : { لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد } (3).
وقال المخالف(4) : (فعليك الصلاة تبقى من الله كما شاء وتشاء).
*وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله } .
وقال المخالف: (يا من يجود على الوجود بأنعم خضر) (يا من نناديه فيسمعنا على بعد المسافة سمع أقرب أقرب) (بنور رسول الله أشرقت الدنا ففي نوره كل يجيء ويذهب) (رب الجمال، رب الحور، باب الله، غياث الخلق، غوث من في الخافقين).
__________
(1) : "الذخائر" (ص37).
(2) : "الذخائر" (ص35).
(3) : رواه أحمد (5/393) وغيره، وأشار الحافظ في "الفتح" (11/540) إلى الاختلاف في إسناده.
(4) : "شفاء الفؤاد"(ص219).(114/109)
وقال فيه أيضاً: إنه أوتي علم الخمس والروح، وأنه يعلم الخطرات والنيات، وأنه سمي بأسماء الله الحسنى كلها ومنها الأول والآخر والباطن والظاهر، وأن قبره أفضل من السموات السبع والعرش وجنة عدن، وأن له أن يقطع أرض الجنة لمن شاء، وأن الله خلق الخلق لأجله، وأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر(1).قال: (ليلة مولده أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة..)، وأن سمعه يصل إلى سدرة المنتهى.
* * *
الخاتمة
وبعد، فها أنت أخي الكريم قد وقفت على بعض أقوال المخالف في كتابين فقط من كتبه، واطلعت على ما فيهما من كفر صريح وشرك واضح ومناقضة لأصول الإيمان وأركان الإسلام.
وأحسب أن الدهشة قد علت محياك وعقدت لسانك من تلك الجرأة العجيبة على الله وملائكته وكتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولعلك تساءلت في نفسك بعد إمعان النظر في ذلك الكم الهائل من المخالفات الشرعية الواضحة وضوح الشمس، وقلت: كيف خفي على الدكتور مثل هذه الأمور فوقع فيما
لا ينبغي لأحد أن يقع فيه؟
وحق لك أن تندهش وتعجب، فالذي قاله وقرره ونقله وأقره ليس بالهين بل هو عند الله عز وجل وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعند المؤمنين عظيم.
لكنك - أخي الفاضل - لو اطلعت على مذهب القوم ومشربهم، وتتبعت أحوالهم وسيرهم عبر القرون الغابرة، لزال عنك كثير مما نزل بك من الدهشة والعجب.
إذ سوف ترى أن ما كتبه هذا الدكتور المبتدع مما نقلته لك، ليس إلا نقطة من بحر متلاطم الموج، مما قاله أسلافه من غلاة المبتدعة وسطروه من أمثال الحلاج وابن الفارض وابن عربي المكي والعفيف التلمساني وأضرابهم من غلاة الصوفية الباطنية الذين صرحوا بما لا يخطر على قلب مسلم، مما تقشعر له الجلود من ساقط القول وفاحش الكلم.
__________
(1) : "الذخائر" (ص25).(114/110)
ومن عجائب ما وقفت عليه من حالهم، أن الولاية عندهم، وهي المقام الأسمى الذي يفوق عندهم مقام النبوة، لا يصل إليها أحدهم إلا إذا تمادى في الكفر وصرح به في الملأ حتى يحكم عليه طائفة من الأولياء بالزندقة والكفر.
قال الجنيد، ويسمونه سيد الطائفة(1): (لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق) اهـ .
ولعلك وقفت الآن على سر المسألة، فالرجل يسعى حثيثاً إلى بلوغ ذلك المقام ووصول تلك المنزلة من الولاية والمعرفة عن طريق الكفر والزندقة، ويحلم باليوم الذي يقال له فيه: العارف بالله، القطب، الغوث..ونحوها من الألقاب العلية عندهم، أما لفظ: الشيخ، السيد، الإمام، فلم تعد وافية بالمقام.
وعلى كل فالذي يهمنا نحن أن لا ينال أحد من مقام الألوهية والربوبية، ولا من مقام النبوة والرسالة، وأن لا ينال من الإسلام والقرآن والسنة.
ولن نرضى أن تشاك شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشوكة وفينا عين تطرف.
ولن يهنأ لنا عيش ولن تطيب لنا حياة ونحن نرى أركان الإيمان تنقض ودعائم الإسلام تقوض.
إن الله عدل يحب العدل ويأمر بالقسط، وإن أعدل العدل توحيد الله بالعبادة، كل العبادة، وتوحيد الطريق إليه بالإسلام دون ما سواه، وتوحيد الرسول بالطاعة والاتباع دون غيره من الناس، وهذه هي الأصول التي يبنى عليها الدين كله.
وإن من العدل الذي قام عليه الدين وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن لا يجتمع الكفر والإيمان، ولا الشرك والتوحيد، ولا الإثم والبر، ولا الجنة والنار.
{ وما يستوي الأعمى والبصير.ولا الظلمات ولا النور.ولا الظل ولا الحرور.وما يستوي الأحياء ولا الأموات.إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } (فاطر:19-22).
ومن العدل الذي أمر الله به أن نتبرأ من كل مخالف معاند بحسب مخالفته وعناده، بعد أن ندعوه إلى الحق ونقيم الحجة البالغة عليه.
__________
(1) : "المناظر الإلهية"لعبدالكريم الجيلي (ص44)(114/111)
وإني أنصح كل من يغضب للدكتور العلوي وتدعوه لموافقته وموالاته والمنافحة عنه حمية مذهب أو عصبية مشرب أو مودة إلف وعادة ونسب، أن يفكروا في الأمر بروية وأن يقدموا حب الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل ما سواهما من محبوب، وأن يَدَّبروا آيات الكتاب العزيز، كيف فرق العدل الحكم تبارك وتعالى بين نوح عليه السلام وابنه، بعد أن أصر على الكفر فقال له ربه: { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } ]هود:46[.
وكذا الحال مع إبراهيم عليه السلام وأبيه { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } ]التوبة:114[.
وقد أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين بالتأسي بإبراهيم عليه السلام في تلك البراءة فقال:
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم
ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدأً حتى تؤمنوا بالله وحده } ]الممتحنة:4[.
ولو كان في الدين محاباة لكان أولى الناس بها ابن نوح وأبو إبراهيم وزوجة لوط وعم
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ونصيحة أسديها إلى الدكتور أختم بها كلامي، أدعوه فيها إلى توبة نصوح عاجلة مما قاله وتكلم به وسطره بقلمه من كل ما يخالف شرع الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو عن غير قصد منه لذلك.
فإن استجاب وأناب فقد أفلح - والله - في العاجلة والآجلة، وإن أصر وعاند واستكبر فقد مضت سنة الأولين.
فأقول أيها الشيخ تذكر يوم العرض الأكبر { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } .
واعتبر { يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر } .
واعلم أنه لن ينفعك في ذلك الموقف العصيب جاه ولا منصب { يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه.وصاحبته وبنيه.لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه } .
{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } .
{ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } .(114/112)
وأحذر من أن تكون ممن قال الله فيهم { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } .
{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، ألا ساء
ما يزرون } .
وبعد، فأسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدينا وإياه وسائر عباده سبيل الرشاد، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسوء وأن يجعل هوانا تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب: سمير بن خليل المالكي
6/ 5/ 1417 هـ
* * *
الفهرس
تسلسل الموضوع صفحة
1 تقديم
تمهيد
2 تعريف بكتاب "الذخائر المحمدية"
3 عرض وتحليل
4 تعريف بكتاب "شفاء الفؤاد"
5 عرض وتحليل
6 الخلاصة
المقدمة
7 { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }
8 { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله }
9 { وقالوا لا تذرن آلهتكم }
10 سد ذرائع الشرك
11 { ألا فلا تتخذوا القبور مساجد }
12 { لا تغلوا في دينكم }
الباب الأول
الدعوة إلى الشرك
13 شرك العبادة
14 صورة مثال النعل النبوي الشريف
15 { ..بل هم أضل }
16 الشرك في الربوبية
17 فصل: أقوال السلف في مسألة علم الغيب
18 فصل: { وذروا الذين يلحدون في أسمائه }
الباب الثاني
19 الافتراء على الملائكة الكرام
الباب الثالث
20 نقض أركان الإيمان
الخاتمة(114/113)
في التنبيه على أمر أهم من الأول
لقد كنت أحسن الظن بديوبنية؛ لما عندهم من العلوم الجمة والعقول والرد على القبورية في كثير من البدع والشركيات.
ولكن رأيت عندهم من الشركيات والقبوريات الوثنيات، وتصرف الأرواح والاستفاضة من القبور والاستمداد من روحانية المشائخ شيئاً كثيراً، هو كنموذج من خرافاتهم القبورية التي لم اطلع عليها وهي تدل على ما وراءهما مما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ولقد توصلت إلى أنه لا فرق بين البريلوية وبين الديوبندية في هذه القبوريات إلا في أمور:
الأول: الإفراط في الغلو: فإن البريولية قد أفرطوا في الغلو في الصالحين؛ فهم غلاة الغلاة بخلاق الديوبندية فإنهم من الغلاة، ولكنهم دون البريولية.
الثاني: أن البريلوية يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان وما يكن بخلاف الديوبندية.
الثالث: أن البريلوية يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا بشر، بخلاف الديوبندية.
الرابع: أن البريولية صرحاء في القبورية والوثنية بخلاف الديوبندية فإنهم يتظاهرون بالتوحيد.
الخامس: أن البريولية مطردون لأقوالهم في الوثنية؛ فهم غير متناقضين، بخلاف الديوبندية فإنهم تارة يردون على القبورية، ثم تراهم يرتكبون أفكاراً قبورية، فهم بالنسبة إلى البريلوية كالماتردية والأشعرية بالنسبة إلى الجهمية الأولى.
السادس: أنه يوجد بين الديوبندية من وفق لمطالعة كتب الأئمة الأعلام: شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) وابن القيم (751هـ) ومجدد الدعوة الهمام (1206هـ) فعرفوا جانباً كبيراً من توحيد الألوهية فتجردوا للرد على القبورية كالفنجفرية ونحوهم ممن عرفوا بعض جوانب التوحيد، بخلاف البريلوية فهم كلهم قبورية وثنية والله المستعان على ما يصفون.(115/1)
ولذلك ألف أرشد القادرية أحد كبار كتاب البريلوية كتاباً بعنوان (الزلزلة) ذكر فيه نصوصاً كثيرة جداً من كتب الديوبندية المقدسة عندهم كبار أئمة الديوبندية أمثال: (الأرواح الثلاثة) و(السوانح القاسمية) و(أشراف السوانح) و(الأنفاس القدسية) و(الكرامات الإمدادية) و(تذكرة الرشيد) و(نقش الحياة) و(حياة الولي) وغيرها من كتبهم المقدسة.
وهذه النصوص التي ذكرها ذلك البريولي في كتابه (الزلزلة) تنادي وتصرح بالوثنية الأولى.
وإنما جمع ذلك البريولية تلك النصوص في كتب الديوبندية ليبين لأهل الإنصاف أن البريلوية ليسوا متفردين بتلك العقائد القبورية بل الديوبندية شركاؤهم وخلطاؤهم في ذلك كله.
فلم هذا الطعن في البريولية فقط؟ ولم هذا التنابز والتنابذ والتقاطع للبريولية دون الديوبندية؟ هذا هو موضوع كتاب (الزلزلة).
وهذا الكتاب قد زلزل الديوبندية كلهم بدون شك، ولا محيد لهم ولا مفر إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل، أو ليقولوا للبريولية: نحن وأنتم إخوان خلطاء في القبورية.
قلت: أصل السر والسبب الوحيد لانخراط الديوبندية في العقائد القبورية هو أنهم صوفية نقشبندية أصحاب بيعة.
ولذلك اعترف بهذا السبب أحد كبار كتاب الديوبندية؛ ألا وهو الشيخ عامر العثماني مدير مجلة التجلي بديوبند في صدد كلامه على كتاب الزلزلة معترفاً بجميع ما نسب فيه إلى الديوبندية من الخرافات القبورية مبيناً سبب انخراط مشايخه الديوبندية في القبوريات.
وقال: إن السبب الوحيد لوقوع مشايخنا الديوبندية في الخرافات القبورية هو أنهم كانوا صوفية مع علومهم الجمة، والشخص مهما كان محتاطاً في التصوف وعلى حذر منه يدخل عليه التصوف أنواعاً من الكشوف والكرامات وأنواعاً من الأساطير في التصوف في الكون.(115/2)
ثم مما زاد الطين بله: أن هؤلاء المريدين للمشايخ لأجل غلوهم في المشايخ يبالغون في تعظيمهم فينسجون حولهم ما يضاد الكتاب والسنة والعقائد الإسلامية، ولذا يقول الذين يرون الكتاب والسنة معياراً وميزاناً للحق: إن التصوف أفيون وتخدير وسفسطة وعدو للشريعة.
وكل ما أورده أرشد القادري من النصوص عن كتب مشايخنا الديوبندية فهو موجود في كتب مشايخنا، وإن صاحب الزلزلة لم يكتب أي نوع من الخيانة في النقل؛ فهو قد نقل تلك النصوص بغاية الأمانة والدقة.
وقد كشف لنا أرشد القادري بكتابه الزلزلة عجائب من الخرافات التي توجد في كتبنا المقدسة؛ بحيث اندهشت من تلك الخرافات وأقول: أستغفر الله ثم أستغفر الله.
وأقول: إن جرائد الفسق والفجور لم تضر الإسلام كما ضرت تلك الكتب التي نقدسها ونعظمها. وأقول أيضاً: إن ما أورده أرشد القادري في كتابه الزلزلة على مشايخنا من الإيرادات والاعتراضات فهي حق وثابتة لا يمكن أن يجيب عنها شخص منطقي كبير، ولا علامة الدهر؛ لأنها حقائق ثابتة موجودة في كتب مشايخنا.
وقد ذكر الشيخ عامر العثماني سببا ً أخر أيضاً: وهو أن التقليد الأعمى الذي هو داء عضال قد سرى في عروق الديوبندية فهم يزعمون أن مشايخنا محفوظون عن الخطأ، ويعظمون مشايخهم إلى حد لا يرون الفضل إلا فيهم؛ فكل ما يصدر عنهم فهم يسلمونه كالحقائق المسلمة إلى أخر ما ذكره واعترف به الشيخ عامر العثماني أحد كبار كتاب الديوبندية.
أقول: بعد هذا يحسن أن أذكر بعض الأمثلة من خرافات الديوبندية التي تشهد عليهم بأنهم قبورية لتكون شواهد قواطع لما قلت، ويكون ذلك تصديقاً لكتاب الزلزلة، وتأكيداً لما اعترف به الشيخ عامر العثماني الديوبندي، وبياناً للحقيقة التي خفيت على كثير من الناس، حتى على كثير من أهل التوحيد من أن الديوبندية أهل التوحيد والسنة.(115/3)
وليس ذلك من باب تتبع العورات، بل من باب الجرح والرد على أهل البدع وقلع بدعهم؛ لأن الديوبندية مع تلك الخرافات القبورية المكشوفة السافرة الظاهرة لم يرجعوا إلى التوحيد الصحيح، بل هم مصرون على ما في كتبهم القبورية الخرافية الصوفية؛ فبها يعنون وبها يدينون، وبها يوالون، ويعادون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأمرهم الآن كما كان:
المثال الأول: أنه قد تقدم أن الديوبندية يعتقدون في الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ) أنه الغوث الأعظم، وغوث الثقلين كما قالوا في إمام النقشبندية: إنه غوث الورى السبحاني وهذه جريمة قبورية ووثنية سافرة.
ولا تنس أيها القارئ معنى الغوث عند الصوفية.
المثال الثاني: أنه قد بالغت الديوبندية وأفرطت في نصب العداء لأهل التوحيد الذين يسمونهم (الوهابية) ولهم في شتمهم وسبهم عجائب يستحي منها من عنده حياء، ولا يرتكب مثل هذه الأفعال إلا من لا يخاف الله رب العالمين. وقد تقدم نماذج من ذلك .
ولذا أتمثل قول الشاعر:
عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى وما راقب الرحمن يوماً وما اتقى
المثال الثالث: أنه قد ألف الشيخ خليل أحمد السهارنوفوري (1346هـ) كتابه المعروف (المهند على المفند) والشيخ حسين أحمد المدني (1377) كتابه المشهور (الشهاب الثاقب) وكلاهما في البراءة من عقائد أهل التوحيد الذين يسمونهم (الوهابية).
وهما من أعظم أكابر الأئمة الديوبندية، وهذان الكتابان مكتظان بالخرافات القبورية والخزعبلات الصوفية، وكلاهما من أقدس كتب الديوبندية المعول عليها، ولا سيما (المهند على المفند) باللغة العربية، وقد ترجم قريباً إلى اللغة الأردية، وطبعت الترجمة مع الأصل، وسميت الترجمة (ماضي الشفرتين على خادع أهل الحرمين) وكم أضلت هذه الترجمة من خلائق لا يحصون.
وهذا برهان على أن الديوبندية الآن على ما كانوا عليه في سابق الزمان.(115/4)
المثال الخامس: أن لكبار أئمة الديوبندية كتباً يقدسها الديوبندية وهي مكتظة بالخرافات القبورية والوثنية الصوفية، نحو: (الأرواح الثلاثة) و(إمداد المشتاق) وتذكرة الخليل، وتذكرة الرشيد، والسوائح القاسمية، وأشرف السوانح، ونقش الحياة، وأب حيات (أي ماء الحياة، وتبليغي نصاب (أي نصاب التبليغ)، ومنهج التبليغ، وغيرها.
وهؤلاء الديوبندية لم يعلنوا البراءة من هذه الكتب ولا حذروا منها ولا أوقفوا طباعتها ولا منعوا بيعها ولا شراؤها، وأسواق الهند وباكستان وغيرها مكتظة بها.
المثال السادس: أن الشيخ حمد الله الداجوي الباكستاني هو من أكبر علماء الديوبندية في مناطق بشاور والديار الأفغانية، وقد تجرد للدعة السافرة إلى الوثنية، وقد ألف كتاباً ضخماً في الدعوة إلى القبورية سماه (البصائر) ونقل جل نصوصه عن كتب الديوبندية، ولم ينقل نصاً واحداً عن البريولية، والديوبندية في تلك البلاد كلهم تبعوا هذا الوثني، ولم يعارضه من الديوبندية إلا عدة أعيان خرجوا عن خرافات الديوبندية في توحيد الألوهية فقط كالفنجيرية.
المثال السابع: أنه قد ظهر كتاب جديد بعنوان (إمام الزنادقة ابن تيمية) لمجموعة من علماء الديوبندية في مناطق بشاور وردان وسوات ودير من مناطق باكستان.
وفي هذا الكتاب عجب العجاب من الوثنيات والشتائم والسباب.
المثال الثامن: أنه من ذا الذي لم يعرف الكوثري؟ فالكوثري إمام القبورية والجهمية وشيخ عصبة التعصب في آن واحد، وشتائمه لأئمة السنة وولوغه في علماء الأمة، ولا سيما ابن تيمية (728هـ) وابن القيم (751هـ) ومجدد الدعوة الهمام (1206هـ) مما لا يخفى على من يهتم بالتوحيد ويعرف البدعة وأهلها.
ومن أخبث كتب الكوثري على الإطلاق كتب ثلاثة (تبديد الظلام) (الرد على النونية) و(المقالات) والتأنيب). وهذه الكتب كلها معظمة عند الديوبندية.(115/5)
وإن كنت في شك من ذلك فعليك بمقدمة النوري الكوثري أحد أئمة الديوبندية (1397هـ) التي كتبها في إجلال هذه الكتب الثلاثة وفي الكتابين الأولين عجائب من الوثنيات السافرة والقبوريات الماكرة الفاجرة .
الحاصل: أن للكوثري موقعاً عظيماً في قلوب الديوبندية ومن الإعظام له ولكتبه ومقالاته الوثنية الجهمية والإجلال مالا يخطر بالبال .
المثال التاسع:
أن المفتي عبد الشكور بن عبد الكريم وهو من كبار علماء الديوبندية المعاصرة، وهو مدير المدرسة الحقانية بمدينة ساهيوال بباكستان قد ألف كتاباً بعنوان (فيض روحاني) أي أولياء رباني) يعني الفيض الروحاني من الأولياء الربانيين، وألف كتاباً آخر سماه (خلاصة عقائد علماء الديوبندية) والكتاب مشتمل على 52 عقيدة، والكتاب فيه دعوة سافرة إلى الوثنية وعليه تقريضات لخمسة عشر علماً من كبار أعلام الديوبندية، منهم تقريض لرئيس المدرسة الديوبندية: الشيخ محمد طيب الملقب عند الديوبندية بحكيم الإسلام وحجة الإسلام (1404هـ) .
ومن عجب العجاب أن هذا الكتاب الوثني قد طبع في آخر كتاب (المهند على المفند) طبعة جديدة حديثة؛ وهذا سلطان قاهر وبرهان باهر على أن الخلف على قبورية السلف من الديوبندية؟!.
المثال العاشر: أن الشيخ غلام الله الديوبندي الباكستاني (1980م) رحمه الله قد ألف كتاباً في التفسير سماه (جواهر القرآن) أجاد فيه الرد على القبورية وبين وثنيتهم فجزاه الله عن التوحيد وأهله خير الجزاء.
ولما كان شاذاً عن عقائد الديوبندية عند جمهور الديوبندية تصدى له الشيخ عبد الشكور المذكور وكيل الديوبندية فألف في الرد عليه كتاباً سماه (هداية الحيران في جواهر القرآن) حقق فيه أنه قد شذ عن الديوبندية وخرج على عقائدهم. وكتابه (هداية الحيران) أيضاً دعوة إلى القبورية، وقد شحن فيه نصوصاً من كتب كبار أعلام الديوبندية لمناصرته والرد على مؤلف جواهر القرآن.(115/6)
المثال الحادي عشر: أن الشيخ محمد طاهر بن آصف الفنجفيري الملقب عد الحنفية بشيخ القرآن (1407هـ) من معاصري الديوبندية الباكستانية رحمه الله تعالى قد وفقه الله تعالى لمطالعة كتب أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) فتجرد للرد على القورية وشن الغارة عليهم فنفع الله به خلقاً كثيراً، وانتشر تلاميذه في مناطق بشاور والقبائل الحرة وأفغانستان (مع ما عنده من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية النقشبندية وطامات الديوبندية والتعصب للمذهب الحنفي كالكوثري) ولكن الديوبندية عارضوه وصاروا ضده وعليه يداً واحدة ورموه عن قوس واحدة وحاربوه وشنوا عليه الغارات زعماً منهم أنه شذ عن جماعة الديوبندية والتحق بالوهابية.
قلت: كان رحمه الله حنفياً متعصباً ماتريدياً جلداً نقشبندياً صوفياً بحتاً، ولكن كان ذنبه عند الديوبندية أنه كان حرباً شعواء على القبورية فرحمه الله رحمة واسعة إيانا، وسامحه وغفر لنا وله .
المثال الثاني عشر: أن الديوبندية في مناطق بشاور قد أعادوا طباعة كتاب خرافي وثني لرجل خرافي وثني ألا وهو كتب (غوث العباد) لمصطفى أبي سيف الحمامي الزيني الأزهري المصري (1368هـ) .
وهؤلاء الديوبندية وعلى رأسهم إمامهم في الوثنية الشيخ حمد الله الداجوري الباكستاني الأفغاني قد نشروا هذا الكتاب وطبعوه في آخر كتاب (البصائر) لحمد الله الداجوري المذكور؛ كأنه تتمة للأول وجزء ثان له.
قال الداجوري الديوبندي في سبب إلحاق (غوث العبادة) بكتابه (البصائر):(115/7)
(خاتمة الطبع: الحمد لله الذي وفقنا لطبع كتاب (غوث العباد) فإنه لما كان في كتاب (البصائر) للداجوي نفسه بيان أحوال ابن تيمية، وبعد ما طبع الكتاب المذكور (أي البصائر) وصل إلي كتاب (غوث العباد) فيه تأكيد ما أقول ومزيد تفصيل وتحقيق في بعض المسائل؛ فإن صاحب البيت أدرى بما فيه -أردت أن ألحقها بكتاب (البصائر) تأييداً ومن الله التأييد وبه الاعتصام. وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العبد الأواه محمد حمد الله الداجوي، 20 / رمضان المبارك سنة 1385هـ).
المثال الثالث عشر: أن الديوبندية كلهم جميعاً صوفية نقشبندية أصحاب بيعة ، حتى الفنجيرية الرادين على القبورية منهم .
أقول: لا تنس أيها القارئ الكريم اعتراف الشيخ عامر العثماني أحد كتاب الديوبندية: بأن سبب انخراط مشايخنا الديوبندية في الخرافات القبورية إنما هو التصوف .
والديوبندية الفنجفيرية يوصون تلاميذهم أن يكونوا صوفية وأن تكون الطرق الأربع الصوفية عندهم كالمذاهب الأربعة الفقهية .
المثال الرابع عشر: عقيدة الديوبندية في تصرف الأموات وتجسد الأرواح وتدمير الأعداء ونصر الأولياء:
قال القاضي ثناء الله الباني بتي أحد كبار أعاظم أئمة الديوبندية الملقب عندهم ببيهقي الوقت (1225هـ) في تفسير قوله تعالى: (بل أحياء) [البقرة: 154]: (يعني أن الله يعطي لأرواحهم قوة الأجساد، فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤون؛ وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم) .
قلت: تدبر أيها المسلم إلى هذه الوثنية السافرة.
ولقد استدل بكلام هذا القاضي ونقله الداجوي الديوبندي، وغيره .
واحتج البريلوية على عقيدة الديوبندية بكلام إمامهم هذا إتماماً للحجة عليهم .
هكذا عقيدة تصرف الأرواح وإتيانها إلى أبواب بيوتهم، وتصرفها في الإنسان الحي وغيره، من أوضح عقائد الدبوبندية .
تنبيه: لقد شن الفنجفيرية الغارة على هذا الداجوي لأجل هذه الخرافات.(115/8)
والفنجفيرية في ذلك على حق.. ولكن هذا الداجوي إنما تبع أئمته الديوبندية، فمال بال الفنجفيرية يعظمون الباني بتي ويحكمون على الداجوي بأنه مشرك؟!
المثال الخامس عشر: أن عقيدة إتيان الموتى في أجسادهم العنصرية البشرية المادية للقضاء والفصل يقظة من أعظم عقائد كبار أئمة الديوبندية، ولهم في هذا الباب أساطير عجيبة غريبة.
ومنها إتيان إمام الديوبندية ومؤسس مدرستهم: الشيخ النانوتوي (1297هـ) لفصل القضاء على المخاصمة التي وقعت في مدرسة ديوبند
وللشيخ أشرف علي التهانوي الملقب بحكيم الأمة عند الديوبندية (1363هـ) عجائب في التعليق على هذه القصة، فزاد الطين بلة والمريض علة.
وللديوبندية أعاجيب في الدفاع عن هذه الأساطير .
وقد احتجت البريلوية على الديوبندية بهذه الأساطير الوثنية . وفي ذلك عبرة ونكال فهل من مدكر؟!؟!
قصة أخرى: في إتيان إمام الديوبندية بعد موته لمناظرة عالم ديوبندي في مناظرته لرجل بريلوي، ولم يكن لهذا الديوبندي المسكين بمناظرة هذا البريلوي القوي أي قِبَل وقوة،وكاد أن ينهزم لولا إتيان الناتوتي لمناصرته ؟!؟!
أسطورة ثالثة: في إتيان الخواجة الأجميري الجشتي إمام الصوفية الجشتية (627هـ) لمناصرة الشيخ إمداد الله إمام أئمة الديوبندية في التصوف والبيعة (1317هـ) وذلك يقظة دون منام وبجسده العنصري البشري الدنيوي، والقصة طويلة، ولكنها وثنية محضة .
المثال السادس عشر: أن عقيدة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً في هذه الحياة الدنيا من أبرز العقائد الديوبندية.
والديوبندية قد ادعوا وقوع ذلك ولهم في ذلك أساطير .
وقد ادعى ذلك قبلهم كثير من الصوفية؛ منهم التفتازاني فيلسوف الماتريدية والقبورية (792) حيث إنه ادعى رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تفل في فيه فتضلع علماً ونوراً .
وقد صدقه في هذا الإفك البواح كله بعض الديوبندية .(115/9)
وللسيوطي في ذلك رسالة خرافية، سماها: (تنوير الحلك في إمكانية رؤية النبي والملك) .
فالديوبندية قد ورثت مراث الخرافة من سلفهم أهل الخرافة؟! ولا يخفى مفاسدها .
المثال السابع عشر: خرافة أسطورة خروج يد رسول الله صلى الله عليه وسلم للرافعي (578هـ) سنة 555هـ وقد زارها حوالي (90000) شخص؛ منهم القطب الرباني الشيخ الجيلاني (561هـ) .
المثال الثامن عشر: أن عقيدة الاستمداد من أهل القبور وروحانية المشايخ وحصول الفيض من قبورهم وصدورهم من أعظم عقائد أكابر الديوبندية .
وقد صرح الشيخ أنور شاه الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن الاستفاضة من أهل القبور تجوز لكونها ثابتة عند أرباب الحقائق الصوفية .
قلت: هذه ظاهرة وثنية قبورية؟!
و للديوبندية في ذلك عجائب واهتمام بالغ واعتناء كامل .
وقد احتجت البريلوية بهذه النصوص الوثنية على الديوبندية وقالوا للديوبندية: أنتم إذاً تجوزون الاستمداد من الأموات إلى هذا الحد فلم تنكرون علينا ؟؟!
المثال التاسع عشر: أن عقيدة الاستغاثة والاستعانة بالأموات من أكبر عقائد الديوبندية. وإليكم نص ما قاله شبير أحمد العثماني (1369هـ) ؛ قال في تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: 5]:
(علم من هذه الآية الشريفة: أنه لا يجوز الاستمداد في الحقيقة من غير الله، ولكن إذا جعل شخص مقبول واسطة لرحمة الله، وطلب منه العون على اعتقاد أنه غير مستقل في الإعانة، فهذا جائز؛ لأن هذه الاستعانة بهذا الولي في الحقيقة استعانة بالله تعالى) .
وقالوا إن الاستمداد من أرواح الأموات هو عقيدة جميع أهل السنة بدليل أن الله تعالى قد سخر الملائكة لإعانة خلقه ومددهم .(115/10)
قلت: هذا الذي قاله هؤلاء الديوبندية هو اعتقاد جميع القورية في استغاثتهم بالأموات. والاستعانة منهم عند إلمام الملمات فكلهم يقولون: إننا لا نستغيث بالأولياء على اعتقاد أنهم مستقلون بالنفع والضر؛ بل إن الله تعالى جعلهم وسيلة وواسطة بينه وبين عباده لقضاء حوائجهم .
وقالوا: لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد أحد فيهم الاستقلال بالنفع والضر والقدرة دون العطاء من الله تعالى .
وقد أبطلت هذه العقيدة بكلام علماء الحنيفية بحمد الله وبينت على لسان علماء الحنفية: أن المشركين السابقين أيضاً لم يعتقدوا في آلهتهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر وإنما كان شركهم شرك الشفاعة والواسطة والتوسل .
فكلام الديوندية وغيرهم من القبورية لا يختلف عن كلام المشركين السابقين.
المثال العشرون: أن العكوف والمراقبة إلى القبور من سمات أكابر علماء الديوبندية.
فقد ذهب الشيخ خليل أحمد الشهارنفوري (1346هـ) مؤلف المهند على المفند، وبذل المجهود، وأحد كبار أئمة الديوبندية بمرافقة الشيخ أشرف على التهانوي الملقب عند الديوبندية بحكيم الأمة الديوبندية (1362هـ) إلى ضريح الخواجة معين الدين الأجميري إمام الصوفية الجشتية (627هـ) وبمجرد وصوله إلى قبره جلس إلى القبر مراقباً، واستغرق في المراقبة إلى حد لم يشعر بما جرى وبما يجري، والناس كانوا يسجدون إلى القبر ويطوفون به ويرتكبون أنواعاً من الشرك .
قلت: مع هذا الشرق البواح لم تتمعر جباه هؤلاء الأئمة، ولم ينكروا على هؤلاء الوثنية الذين جعلوا هذا القبر وثناً يعبدونه من دون الله بكلمة واحدة؛ بل جلس هذا الإمام للمراقبة إلى القبر لأن هذا كان يهمه وقد فعل!
وقد صرح الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي (1323هـ) الإمام الثاني للديوبندية بأن الشيخ الحاج (أظنه إمداد الله 1317هـ شيخ الديوبندية) قد جلس مراقباً إلى قبر الحضرة قلندر إلى آخر القصة التي فيها عبرة ونكال .(115/11)
ومن العجب العجاب أن أئمة الديوبندية قد يذكرون هذه الأساطير الوثنية بدون أي إنكار على أنها وحي من السماء؟! بل يعدونها من أعظم المناقب وأكبر الكرامات سبحان قاسم العقول!!!
وكل هذا من آفة التصوف والجهل بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين.
ومن ذلك كله يقول الديوبندية إن أئمتنا جمعوا بين الشريعة والطريقة وجعلوا الطريقة خادمة للشريعة، وأخذوا لب التصوف وتركوا قشره، ونطقوا التصوف من كل باطل وخرافة، وأخذوا التصوف النقي الطاهر .
المثال الحادي والعشرون: أن عقيدة وحدة الوجود من العقائد الصوفية القبورية التي تسربت إلى كبار مشايخ الديوبندية وأئمتهم الأجلة وأكابرهم.
1- وقد اعترف الشاه أنور الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن مشايخنا مولوعون بعقيدة وحدة الوجود ولكني لست بمتشدد فيها .
2- وقال الشيخ حكيم الملة (أمة الديوبندية) أشرف علي التانوي (1362هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية وشيخهم الثالث في التصوف عن الشيخ إمداد الله إمام الديوبندية وشيخهم الأول في التصوف (1317هـ) أنه قال: (أعجبني بعض الأمور الطيبة في الحرمين).
منها أن عقيدة وحجة الوجود انتشرت كثيراً في الناس وارتكزت فيهم حتى الأطفال، فقد ذهبت مرة إلى مسجد قباء فسمعت شخصاً يقول: يا الله يا موجود فقال الآخر بل في كل الوجود.
فلما سمعت ذلك طرأ علي حال ثم رأيت الأطفال يلعبون فقال أحدهم: يا الله ليس غيرك. فطربت منه إلى حد زالت قواي؛ فقلت لهم: لم تذبحونني .
تنبيه: الذي يعتقد عقيدة وحدة الوجود يقال له : الموحد عند الصوفية الوجودية الاتحادية .
بناء على هذا الاصطلاح الوثني استمع أيها المسلم للقصة التالية:
3- قال حكيم أمة الديوبندية (1362هـ) عن الشيخ إمداد الله الشيخ الأول في التصوف للديوبندية (1317هـ):(115/12)
(قيل لموحد: إذا كان الحلوى والخرء شيئاً واحداً فكل الحلوى والخرء جمعاً!!!فجعل هذا الموحد شكله شكل الخنزير، فأكل الخرء ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي فأكل الحلوى).
وقد علق على هذه الأسطورة الإلحادية الوثنية والوجودية الصوفية الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة فقال: (إن هذا المعترض على هذا الموحد كان غبياً؛ ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف، وإلا فالجواب ظاهر وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة لا في الأحكام والآثار) .
قلت أيها المسلم دقق النظر في هذه الأسطورة الإمدادية الديوبندية الصوفية الاتحادية، وهذا التعليق الأشرفي الحكيمي الديوبندية الصوفي الإلحادي يتبين لك فيها الطامات الآتية:
الأولى: تسمة هذا الاتحادي الصوفي الإلحادي موحداً.
فالصوفية الاتحادية والحلولية الإلحادية لا يسمون الشخص موحداً إلا إذا أنكر توحيد الأنبياء والمرسلين، واعتقد أن الله تعالى هو كل شيء وهو الاتحاد أو أنه تعالى هو كل شيء وهو الحلول .
وأما الجهمية الأولى فيسمون معطل الصفات والأسماء موحداً
وأما الماتريدية والأشعرية فيسمون معطل بعض الصفات موحداً .
وأما القبورية فيسمون المستغيث بالأموات موحداً .
الطامة الثانية:
أن هذا الولي الموحد الاتحادي الإلحادي الوثني قد وصل في القدرة والتصرف إلى حد كان قادراً على قلب الأعيان والحقائق حتى قلب نفسه خنزيراً ثم انقلب من الخنزير آدمياً بقدرة كن فيكون.
الطامة الثالثة: عقيدة وحدة الوجود:
وأن جميع ما في هذا الكون شيء واحد في الحقيقة وإنما الفرق في الأحكام والآثار، وأن الخالق والمخلوق شيء واحد في الحقيقة، فما ثم إلا هو وإنما الفرق بالاعتبار لا بالحقيقة.(115/13)
الطامة الرابعة: تناول هذا الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني الخرء وأكله إياه بعدما انقلب خنزيراً أنجس الحيوانات في خلق الله تعالى، ويلزم هذا الخنزير أن يجامع أمه وأخته وبنته ومحارمه؛ لأن هذا الولي لما انقلب خنزيراً حل له أكل أغلظ النجاسات وهو الخرء، فيحل له وطء المحارم أيضاً لأن الخنزير غير مكلف فلا محارم له.
الطامة الخامسة: مناصرة ذلك الولي الاتحادي الإلحادي الوثني والدفاع عنه، والطعن فيمن ينكر على هؤلاء الملاحدة ممن لا يعتقد عقيدة وحدة الوجود بأنه غبي أحمق في الاعتراض على هذا الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني.
4- ولقد قال بعض الصوفية الملاحدة الاتحادية:
إنني قد سجدت لله حينما لم تكن ذات الله ولا صفاته.
فقال الشيخ أشرف على التهانوي عن شيخ الديوبندية إمداد الله: إن معناه: أنني عبدت الله حينما كان الله في مرتبة الأعيان، ولم يكن وقت الظهور العيني لذاته وصفاته .
الشيخ الأول في التصوف للديوبندية إمداد الله (1317هـ): إن معناه أن العالم قديم في مرتبة الأعيان لأن هذا النور والشعاع لصفات الله تعلى وصفاته قديمة .
6- وقد صرح شيخ الديوبندية إمداد الله بعقيدة وحدة الوجود في صدد الثناء على الله تعالى
7- كما صرح بأن عقيدة وحدة الوجود هي عقيدته وعقيدة جميع مشايخه وعقيدة مريديه وذكر فيهم الشيخ النانوتوي الإمام الأول للديوبندية والشيخ الجنجوهي الإمام الثاني للديوبندية .
8- ومن شعار الديوبندية في باب وحدة الوجود قولهم: (لا موجود إلا الله ولا مقصود إلا الله ولا محبوب إلا الله) .
9- ومن شعارهم ما يرددون من قول الحلاج (309هـ): (سبحاني ما أعظم شأني) .(115/14)
10- ومن مظاهر عقيدة وحدة الوجود عند أئمة الديوبندية ما ذكره الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة عند الديوبندية عن شيخ الديوبندية في التصوف إمداد الله (1317هـ) أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان واصلاً بالحق سبحانه صح أن يقال لعباد الله: عباد الرسول، كما قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) [الزمر: 53] فضمير ياء المنادى في قوله (يا عبادي) يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد علق عليه الشيخ حكيم الأمة بقوله: (إن القرينة أيضاً تؤكد هذا المعنى؛ لأن الله تعالى قال بعده: (لا تقنطوا من رحمة الله) ولو كان ضمير المتكلم في قوله (يا عبادي) يرجع إلى الله تعالى لكان المناسب أن يقول: (لا تقنطوا من رحمتي) .
11- وقد حكى الديوبندية عن شيخهم إمداد الله (1317هـ) أنه قال: ... لي انشراح الصدر في مسألة وحدة الوجود، وقالوا: إن الشيخ كان إذا تكلم في وحدة الوجود يطرأ على السامعين الاطمئنان والوجود .
قلت: هذا هو التصوف التقي النقي اللب الخالص من القشور كما تزعم الديوبندية ؟ نعم تصوف الديوبندية نقي خالص،ولكن عن توحيد الأنبياء والمرسلين، وعن السلف الصالح أئمة هذا الدين.
المثال الثاني والعشرون: خرافة عجيبة غريبة ذكرها حكيم الأمة عن شيخ الديوبندية إمداد الله: أنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى بموسى عليه السلام استفسره موسى عليه السلام وقال إنك قلت: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل؟! كيف يصح هذا؟!
فحضر حجة الإسلام الغزالي وسلم بإضافة: وبركاته ومغفرته).
فقال له موسى عليه السلام: ما هذا الطول أمام الأكابر؟!
فقال له الغزالي: إن الله تعالى قال لك: (وما تلك بيمينك يا موسى) [طه:17] فلم طولت في الجواب (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب آخري) [طه:18]؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للغزالي : أدب يا غزالي).(115/15)
وقد علق على هذه الأسطورة حكيم أمة الديوبندية فقال: قوله : أدب يا غزالي يمكن أنه كشف لأحد الأكابر، وأن هذه المكالمة بين الغزالي وبين موسى في المعراج أيضاً كشفت له لأن هناك اجتماع الأرواح وليس المراد المعراج الجسدي) .
أقول: تفكر أيها القارئ طالب الحق في هذه الأسطورة كم فيها من الطامات:
الطامة الأولى: نسبة حديث علماء أمتي كأنبياء بين إسرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه حديث لا أصل له موضوع باطل مختلق مصنوع .
الطامة الثانية: تصرف روح الغزالي وقدرته إلى أن وصل إلى مجلس الأنبياء والمرسلين في السموات العلى.
الطامة الثالثة: انهزام موسى عليه السلام في المناظرة أمام الغزالي وغلبة الغزالي على موسى عليه السلام.
الطامة الرابعة: نسبة قول: أدب يا غزالي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس بكلام عربي فصيح بل هو كلام ركيك عربية ونحوية، والعبارة الفصيحة أن يقال: الأدب أيها الغزالي.
قلت: هذا كله من آفات التصوف النقي اللب الخالص من القشور الذي يدعيه الديوبندية.
المثال الثالث والعشرون:
أسطورة الكلب والولي صاحب الكرامة: قال الشيخ حكيم أمة الديوبندية عن شيخ الديوبندية إمداد الله (1317هـ) أنه قال: (كان الحضرة الجنيد البغدادي جالساً فمر كلب أمامه فوقع نظره عليه فصار الكلب صاحب الكمال إلى حد تبعته كلاب تلك المدينة، ثم جلس ذلك الكلب في مكان وجلست تلك الكلاب حوله كالحلقة وانشغلت كلها في المراقبة) .
قلت هذه حالة الكلب في الكمال والولاية والكرامة لأجل نظرة وقعت عليه من نظرات الجنيد، فما ظنك بإنسان وقعت عليه نظرة من نظراته؟
المثال السابع والعشرون: قول الديوبندية في قدرة الأولياء أحياء وأمواتاً ومددهم لزوارهم:
1- قال الشيخ نصير الدين الغورغشتوي إمام الديوبندية في مناطق بشاور وأفغانستان (1388هـ) : (إن للأولياء مدداً ظاهراً بالغً لزوارهم بحسب أدبهم) .(115/16)
2- قالوا إن للأولياء قدرة من الله تعالى إلى حد يستطيعون أن يقدروا على السهم المتدفق المرسل من القوس، فيردوه إلى القوس قبل أن يصل إلى الهدف، ويستطيعون أن يجعلوا قل (أي كن) بدل لا (لا تقل) (أي لا تكن) وأن هذا من الكرامات الحسية .
3- قالوا إن شخصاً صاحب الكشف أراد زيارة قبر الحافظ محمد ضامن رحمه الله عليه ليقرأ عليه سورة الفاتحة فلما ذهب إلى قبره وقرأ عليه سورة الفاتحة قال لرفقته: إن هذا الولي مزاح عجيب إلى الغاية لأنني حينما كنت أقرأ عليه سورة الفاتحة قال لي: اذهب إلى ميت فاقرأ عليه الفاتحة ماذا تصنع ههنا؟ جئت لتقرأ الفاتحة على الأحياء!
يعني: أن هذا الولي يقول: أنا حي لا حاجة لي أن تقرأ علي الفاتحة، اذهب إلى ميت فاقرأ عليه؟!
قلت: انظر أيها المسلم إلى قدرة هذا الولي المقبور ي قبره؛ حيث إنه سمع سورة الفاتحة وعلم بالزائر ثم كلمه ذلك الكلام الذي فيه سخرية ومزاح، وإخباره بأنه حي لا يحتاج إلى الفاتحة، وأن الفاتحة لا تقرأ إلا علي ميت؟!
ثم انظر إلى صاحب هذا الكشف الزائر وقدرته على سماع كلام المقبور مع أنه لم يرد السفر إلى زيارة القبور؛ كما أنه لم يرد قراءة الفاتحة عليها.
ولكن كل ذلك من شؤم التصوف القبوري الذي يزعمون أنه نقي وتقي ولب خالص عن القشور .
المثال الخامس والعشرون: أن شد الرحال إلى القبور والسفر والحج إليه من أفضح عقائد الديوبندية.
فقد تقدم عدة أقوال لهم في هذا الباب. بل قالوا: إنه ينبغي أن يجرد الزائر نيته للسفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المسجد تابعاً للقبر الشريف .
المثال السادس والعشرون: التبركات البدعية:
عند الديوبندية ولا سيما أئمتهم وأكابرهم عجائب وغرائب من التبركات البدعية، كل ذلك من ظواهر الصوفية ومظاهر القبورية.
وإليكم بع النماذج من تلك التبركات البدعية
1- التبرك بختم كتاب إحياء علوم الدين للغزالي (505هـ) .
قلت: هل يتبرك بكتاب صوفي قبوري خرافي ؟!(115/17)
وللقبورية الصوفية شغف عظيم بهذا الكتاب ، وهو مصحف من مصاحف الصوفية والقبورية جميعاً .
وقد حكوا عن الإمام النواوي رحمه الله تعالى (676) أنه قال: (كاد الإحياء أن يكون قرآناً) .
قلت: لم يحققوا ثبوت هذه المقالة عن النووي وما أظنها إلا كذباً عليه.
2- التبرك بالمثنوي للرومي الحنفي (672هـ) إما الصوفية المولوية .
للديوبندية شغف بهذا المصحف وختمه والاحتفال به . وقد تهافت عليه القبورية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية تهافت الفراش على النار .
وقد سماه القبورية: قرآناً بهلوياً (أي القرآن الفارسي). .
وقال الرومي نفسه في الثناء على كتابه الثنوي مضاهئاً به القرآن: (بأيدي سفرة كرام بررة، يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...) .
3-11 التبركات بالحجرة النبوية والتبرك بالغلاف والتبرك بتمر المدينة النبوية والتبرك بنوى التمر والتبرك بتراب الحجرة الشريفة والتبرك بأقمشة المدينة وثيابها، بل التبرك بالزيت المحروق في الحجرة الشريفة والتبرك بإدخال الأطفال إلى الحجرة الشريفة .
12-15- التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وموضع جلوسه، وما مسته يده الشريفة، وما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم وكذا المنبر .
المثال السابع والعشرون: اهتمام الديوبندية بدلائل الخيرات للجزولي الخرافي (863هـ) أو (870هـ) .
درساً وقراءة ورواية وإجازة
وهذه أية القبورية الواضحة الفاضحة.
المثال الثامن والعشرون: شغف الديوبندية بقصيدة البردة للبوصيري (696هـ) الخرافي القبوري الصوفي .
درساً وقراءة ورواية وإجازة وهي متوراثة عندهم .
وللقبورية عامة إعظام وإجلال لها وتبرك بها .(115/18)
وقال الشيخ حسين أحمد أحد كبار أئمة الديوبندية(1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم الوهابية وبين الديوبندية: (إن الوهابية الخبيثة تستقبح جداً قراءة دلائل الخيرات، والقصيدة البردية، والقصيدة الهمزية ويجعلون بعض أبيات قصيدة البردة من قبيل الشرك كقول البوصيري:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
مع أن أئمتنا وأكابرنا كانوا يأمرون مريدهم بقراءة مثل هذه الكتب ويجيزونها، والشيخ محمد قاسم النانوتوي والشيخ الجنجوهي رحمهما الله أجاز قراءتها لآلاف من الناس وكانا يقرآنها. وقد أنشد الشيخ محمد قاسم النانوتوي مثل هذا البيت الذي في قصيدة البردة فقال:
انصر أيها الكريم الأحمدي لأنه ليس لقاسم أحد سواك فإذا أنت لم تسأل عن حالنا فمن يسأل، ومن يكون معيناً لنا غيرك؟؟؟ .
المثال التاسع والعشرون: إجلال الديوبندية للملاحدة الزنادقة الوجودية الإلحادية الاتحادية الحلولية من الصوفية القبورية الوثنية.
فقد قال الشيخ حسن أحمد صدر المدرسين بدار العلو ديوبند وأحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم الوهابية وبين الديوبندية:
(إن الوهابية يطعنون في أئمة الطريقة أمثال الخواجة بهاء الدين نقشبند، والخواجة معين الدين الجشتي، وغوث الثقلين عبد القاهر الجيلاني ، والشيخ عبد الوهاب الشعراني، وغيرهم قدس الله أسرارهم أجمعين، ويسيئون الأدب في حقهم.
لكن أئمة الديوبندية يحبون هؤلاء ويعظمونهم، ويرون أن التوسل بمحبتهم وتعظيمهم مفيد إلى الغاية القصوى وباعث للبركات وموجب لرضا اله سبحانه وتعالى.
الحاصل: أنه لا علاقة لعقائد الوهابية بأكابر الديوبندية)
المثال الثلاثون: أن التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً، بل التوسل بأمثال ابن عربي الاتحادي الملحد الوجودي (638هـ) والشعراني الوثني (973هـ) من أعظم عقائد الديوبندية.(115/19)
وقد جعلوا مسلك التوسل بالأحياء والأموات من المسائل التي امتازت الديوبندية بها عن الوهابية .
المثال الواحد والثلاثون: غلو الديوبندية في التقليد الأعمى إلى حد اعترفوا بأن الحق في مسألة كذا مذهب الشافعي. ولكننا مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة .
وقالوا: المتنقل من مذهب إلى مذهب يستوجب التعزير ولو باجتهاد وبرهان .
قلت: وهذا الغلو في التقليد هو في الحقيقة نوع من أنواع الشرك إذ هو من اتخاذ الأئمة أرباباً من دون الله. وهذا النوع من الطاعة المطلقة لغير الله شرك بالله عز وجل
ومن هذا القبيل عدم تجويز إمام الفنجفيرية الانتقال من مذهب إلى آخره .
المثال الثاني والثلاثون: عقيدة الديوبندية في اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ:
قال القاضي الباني بتي (1255هـ) شيخ الديوبندية والملقب عندهم ببيهقي الوقت، وتبعه الشيخ صفدر الديوبندي، واللفظ للأول:
(ومن هذا القبيل ما قيل إنه قد ينكشف على بعض الأولياء بعض الأحيان اللوح المحفوظ: فينظرون فيه القضاء المبرم والمعلق)
المثال الثالث والثلاثون: خلع إماما لديوبندية على الجيلاني خلعة الألوهية.
فقد وقفت على كفر بواح وشرك صراح لم أره عند الأولين ولا عند الآخرين من قبورية هذا الأمة الإسلامية إلا عند مشركي الجاهلية.
وهو أن إمداد الله إمام الديوبندية قد نص على أن الجيلاني فاز بمرتبة الألوهية حيث قال: (لقد تناظر رجلان فقال أحدهما: إن الشيخ معين الدين الجشتي رحمه الله عليه أفضل من الحضرة الغوص الأعظم الجيلاني قدس سره.
وقال الآخر: إن الحضرة الغوث المظهر الجيلاني أفضل من الشيخ الجشتي.
فقلت لا ينبغي لنا أن نفضل بعض الأولياء على بعض، وإن كان الله تعالى قال: (فضلنا بعضهم على بعض) .
فقال مفضل الجيلاني على الجشي: لما قال الحضرة الغوث المطهر الجيلاني: قدمي على رقاب أولياء الله
قال الحضرة معين الدين الجشتي: بل على عيني.
فثبت أفضلية الغوث الجيلاني على الجشتي.(115/20)
قال إمداد الله إمام الديوبندية: فقلت: هذا يدل على أفضلية الحضرة الغوث الجيلاني على الحضرة الغوث الجيلاني؛ لأن الحضرة الغوث الجيلاني في ذلك الوقت كان في مرتبة الألوهية وكان الحضرة الشيخ الجشتي في مرتبة العبودية .
قلت: سبحانه وتعالى على أن يكون معه أحد في مرتبة الألوهية والغوثية؟؟؟
وأقول: ما كنت أظن أن الديوبندية قد وصلوا في خرافاتهم القبورية الصوفية إلى حد التنصيص على ألوهية الجيلاني.
ولكن تبين أن الديوبندية كمن قيل فيه:
وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً إذا إنه عبد القفا واللهازم
وأقول أيضاً: قد كنت أسمع أن كتب الديوبندية مكتظة بالخرافات القبورية الصوفية، ولكن كنت أستنكر تلك الأخبار، واستكبر وأستكثرها عليهم، وكنت أقول: لعلها كذب عليهم؛ لما عندهم من العلوم الجمة وتظاهرهم بالسنة؛ ثم لما أمعنت النظر في كتبهم وجدت عندهم من الطامات القبورية والخزعبالات الصوفية ما لا يخطر بالبال فكان الأمر كما قيل:
وأستنكر الأخبار قبل لقائه فلما التقينا صدّق الخبرَ الخبرُ
هذه عدة أمثلة كقطرة من البحر أو كحبة من الصبرة ذكرتها لبيان أن الديوبندية قبورية إلا من شاء الله منهم.
فهل يشك أحد في قبوريتهم؟ وقد رأيتم تصوفهم النقي فما ظنكم بغير النقي ؟؟
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح
وللتفصيل موضع آخر.
ولنو كان هذا موضع القول لاشتفى به القلب لكن للمقال مواضع.
بعد هذا ننتقل إلى ذكر جهود علماء الحنفية في الرد على هذه العقائد القبورية. والله المستعان. وعليه التكلان.(115/21)
حجة المؤمن
على من اعتقد أن فرعون مؤمن
تأليف
الشيخ منصور بن سليمان الحمدوني
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد أما بعد:
فإنَّ الإنسان -في طبعه- أَلوف، يألف الأماكن ويألف الأشخاص ويألف الأفكار حتى قال الشاعر:
خُلِقْتُ أَلوفاً لو رجعتُ إلى الورا ... لفارقتُ شيبي دامعَ العينِ باكيا(116/1)
ولكن هذه الأُلفة قد تكون وبالاً عليه إذا كانت أُلفته لِما ثبت خطؤه وبان انحرافه لا سيما فيما يتعلق بالدين والاعتقاد، فهي التي تمنعه -في الغالب- من ترك الخطأ وسلوك سبيل الصواب حتى بعد تبيُّن الحق له، وما ذلك إلا لاستصعابه مفارقة ما دَرج عليه ونشأ عليه من عقيدةٍ رسخت في قلبه -على وهائها- بحيث صار يرى المعروف ما وافقها والمنكر ما خالفها فلا يكاد يتحول عنها إلا أن يشاء الله. وهذا حال جميع الأمم الضالة في محافظتها على باطلها وما توارثته من فاسد العقائد. ولكن الأعجب من هذا أن ترى بعض المنتسبين إلى الإسلام يقرؤون القرآن وينظرون في كتب الحديث والسنة وهم مع ذلك يتوارثون عقائد ويتداولون أفكاراً ألِفوها يرفضها العقل والمنطق فضلاً عن الدين بل يستغربها ويستهجنها كافة أهل الأديان ومن ذلكم ما انتشر مؤخراً وشاع في بعض نواحي سورية -لا سيما في حلب- من القول بإيمان فرعون واعتقاد نجاته ودخوله الجنة وتلقين ذلك للطلاب في المعاهد الشرعية وإحياء هذه العقائد وإذاعة تلكم الضلالات -على العامّة- بعد أن ظن الناس أنها ماتت وولّت إلى غير رجعة. ولكن هذا شأن البدع تظهر وتستفحل إلى أن يُقيِّض الله لها من يبطلها ويطفئها فإذا وجدت مجالاً عادت من جديد. وقد كنتَ تقرأ هذا الكلام في كتب قدماء الصوفية ككتب ابن عربي مثل فصوص الحكم وشروحه وكتب القاشاني والنابلسي وأضرابهم فتستغرب صدور مثله عن أولئك الناس المعدودين –في هذه المناطق- من علماء المسلمين وتظن أن هذه المقالات قد انقرضت بموت أصحابها وأنّ صوفية هذا الزمان لا يجرؤون على التصريح بها بل يكتفون بالثناء على قائليها زاعمين أنّها شطحات ينبغي السكوت عنها لولا أنّي سمعت أحد شيوخ حلب المشهورين وخطيب ومدرس معهد الكلتاوية الشرعي فيها (هو محمود الحوت) يصرح بذلك على الملأ ويدافع عن فرعون مُجَدِّداً ما اندثر من أقوال سلفه الهالكين، فعجبتُ من ذلك واسترجعت كيف أن هذه(116/2)
الضلالات صارت تُدرَّس على الناس في درس عام وفي أكبر مساجد حلب (جامع بني أمية الكبير) دون نكير فكتبت بعض الأدلة التي تبين دخول فرعون النار وخلوده فيها وتساءلت أليس من العجائب أن يحتاج الإنسان لإيراد الأدلة في إثبات دخول فرعون النار وهل يحتاج فرعون إلى دليل؟! سبحان الله كيف استطاع الشيطان أن يغوي أؤلئك الناس حتى صاروا يدافعون عن فرعون!! ولكن بعد ان التقيت والتقى غيري كثيراً من طلاب المعاهد الشرعية يتبنُّون هذه الأفكار التي لُقنت لهم ويدافعون عنها بصلابة عقدتُ العزم أن أقيِّد تلك الأدلة متوسعاً في ذلك، مضيفاً إليها أشياء أخر لها مسيس بهذه المسألة لا سيما عقيدة الحلول وعقيدة وحدة الوجود التي إيمان فرعون من لوازمها. ولعلّ أهم ما يميِّز هذا البحث هو إثبات إيمان جميع الطرق الصوفية المعاصرة بعقيدة وحدة الوجود وما يتفرّع عنها مستدلّاً على ذلك بأورادهم وكتبهم المعتمدة حتى يكون فيه مقنع لطالب الحق. ثم تطرقت في ختام هذا البحث إلى أوجه التشابه بين بعض عقائد الصوفية وعقائد النّصارى وأثبتُّ من خلال النقل عن الفريقين اتِّباع الصوفية للنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع. وربما استجرّني الحديث إلى مواضيع أخرى تدعو الحاجة إلى بيانها لكثرة الاضطراب بشأنها وندرة العارفين بها مثل تفصيلي لعقائد وعبادات مشركي العرب في الجاهليّة وبيان طبيعة شركهم الذي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإزالته. وأظنّ أنني بذلت جهداً نافعاً-إن شاء الله-في هذا المضمار لقلّة من كتب في هذا الموضوع إلّا نزراً يسيراً في الملل والنحل للشهرستاني يعوزه الاستدلال من الكتاب والسنّة، ونتفاً من كتابات المتقدمين والمتأخرين لا تسمن ولا تغني من جوع. وإني لأرجو أن يكون هذا البحث -إن شاء الله- أصلاً في بيان عقيدة وحدة الوجود عند الصوفية والرد عليها كما هو أصل في معرفة عقائد مشركي العرب في الجاهلية وتبيان حقيقة شركهم. ونحن عندما نتكلم(116/3)
على الصوفية لا نعني جملة الأخلاق الحسنة والورع والزهد ومراقبة الله وخشيته التي بها تزكوا النفوس فهذه خارجة عن القال والأولى أن تُسمَّى هذه إحساناً والصوفية الآن بريئون منها وإنما المقصود بالتصوف تلك الفلسفات الباطلة والعقائد الباطنية الفاسدة والبدع التي تنتظم كل الطرق الصوفية اليوم ويشهد كل عاقل أن الإسلام بريء منها. وربما استنكر بعضُ القراء ذِكْري أثناء الكتاب لشيوخ معروفين بأسمائهم من بلاد الشام ولا داعي للإنكار ذلك أنّ الكاتب إن لم ينسب الأقوال إلى قائليها ويضع النقاط على حروفها فربما توهّم الناس أنّ هذا الكلام لا يرتبط بواقعهم المعاصر وأنّه لا أحد في هذا الزمان يتفوّه بمثل هذه الأقوال، فذِكْرُ هؤلاء الشيوخ بأسمائهم يجعل الناس يحذرونهم، ويتنبّهون لكلامهم الخطير حتى لا ينخدعوا بزخرف قولهم، ولا يحسِّنوا بهم الظنّ بعد ما بدرت منهم مثل هذه الطامّات، لا سيما أنّ هؤلاء الشيوخ غير مبالين بكتمان هذه الأقاويل بل يصرحون بها جهاراً نهاراً ويدرِّسونها على الناس داعين لها، وكذلك فعندما نُبيِّن للمشايخ ضلال هذه المسائل التي يثيرونها إنّما ننبههم على خطورة ما هم عليه، ناصحين لهم قبل فوات الأوان، لعلهم أن يراجعوا أنفسهم قبل أن يفجأَهم الموت. فإن لم يرعووا فإنّما يهمُّنا أولئك البسطاء من الناس الذين فُتنوا وتابعوا المشايخ في ضلالهم، مخدوعين بمعسول كلامهم. فنحن في نصحنا هذا لو نجحنا في هداية رجلٍ من أتباعهم وإنقاذه منهم نكون قد خفّفنا من أوزار هؤلاء المشايخ الذين ربما يحملون-يوم القيامة-أوزارهم وأوزار مَن يضلونهم، فينبغي عليهم-في كل الأحوال-أن يشكرونا لأننا نقدم لهم ولأتباعهم خدمة تعزّ عليهم في الآخرة. والمرجو لهذه الرسالة أن تنفع بالدرجة الأولى-إن شاء الله-الشباب الذين لم يتفقهوا بدينهم، ولديهم رغبة في طلب العلم، فأحرى بهؤلاء أن يتجنّبوا-حال طلبهم- هذه المسائل المضِلّة، ويتنبهوا لخطرها(116/4)
وما تَؤُول إليه، ومن ثمّ الحذر من هؤلاء المشايخ الضُّلّال، واللجوء في الطلب إلى علماء أهل السنة النابذين لسائر البدع، فإنّ مثل من قدّم هذه الضلالات على أنها من دين الإسلام كان كمن جاء بعدوٍ للإسلام فألبسه لباس الإسلام فما أشد خطره وما أفدح ضرره!!
ثمّ إنّ المسلم عندما يسمع هذه المقالات ينبغي عليه أن ينكرها -حسب طاقته- بلسانه وقلمه نصحاً لله ولرسوله وللمسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. لاسيما إذا كانت المسألة تتعلق بالعقيدة، فكيف إذا كان نتيجتها الحكم على أكفر خلق الله بالإيمان؟!
والواقع إنّ الدفاع عن فرعون قديمٌ عند هؤلاء الضُلّال فقد قال سلفهم الحلاج في كتابه(الطواسين/صـ51): (فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هُدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه ولم يقر بالواسطة البتة)اهـ.
ولمّا كان القول بنجاة فرعون وإيمانه فرعاً عن عقيدة وحدة الوجود فقبل الشروع في المقصود من إثبات موت فرعون على الكفر وخلوده في النار يحسن بنا أنّ نُعَرِّف القارىء بعقيدة وحدة الوجود هذه، ولكن للتعرف على وحدة الوجود بشكل وثيق ينبغي أن نقف عند نحلة الحلول التي كانت مرقاة للقول بوحدة الوجود.
عقيدة الحلول والتدرج منها إلى وحدة الوجود(116/5)
الحلول: هو اعتقاد أن الله سبحانه يحل بذاته أو بروحه في البشر جزئياً أو كلياً وهو يوافق قول النصارى في عيسى ومادام النصارى قد قالوا ذلك فلا تعجب أن تبعهم عليه بعض المسلمين، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعنَّ سنن من قبلكم حذو القذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: فمن)متفق عليه. وهذا لا يشمل جميع الأمة كما لا يخفى لأنها لا تجتمع على ضلالة. ومذهب الحلول مذهب قديم معروف عند الأمم السابقة قبل النصارى وإليه أشار القرآن الكريم في سورة التوبة: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) يضاهئون: أي يشابهون في هذا القول الأمم الضالة التي سبقتهم؛ فالبوذية -على سبيل المثال- تعتقد في بوذا أنه إله تجسد، ورجال القبيلة الدينية في إيران القديمة هم ظل الله في الأرض والحاكم يجب أن يكون من هذه القبيلة وتتجسد فيه الذات الإلهية. وكان أول من قال بالحلول من هذه الأمة عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف بابن السوداء كان يهودياً من اليمن فأسلم قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري12/334: (ادّعى الإلهية في علي وتبعه جماعة فحرّقهم علي بالنار) وقال عنه أيضاً في لسان الميزان"3/298": "له أتباع يقال لهم السبئية يعتقدون الإلهية في علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته". وقال الجرجاني في التعريفات"1/155": "السبئية هم أصحاب عبد الله بن سبأ قال لعلي رصي الله عنه: أنت الإله حقاً فنفاه علي إلى المدائن". وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث(1/73): "إن عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية لعلي فأحرق علي أصحابه بالنار وقال في ذلك:
لمّا رأيت الأمر أمراً منكرا ... أجّجت ناري ودعوت قنبرا
جج(116/6)
"قنبر: مولى علي". وقال الذهبي في ميزان الاعتدال(4/105): "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل أحسب أن علياً حرّقه بالنار". وكذلك ذكر علماء الشيعة ومؤرخوهم مثل الكشي في كتابه معرفة أخبار الرجال صـ70 عن أبي جعفر محمد الباقر قوله: "إن عبد الله بن سبأ كان يزعم أن علياً هو الله فبلغ ذلك أمير المؤمنين فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال: نعم أنت فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار"وعن أبي عبدالله جعفر أنه قال: "لعن الله عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية في أمير المؤمنين". وذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(5/5) أن ابن سبأ قام إلى علي وهو يخطب فقال له: "أنت أنت، وجعل يكررها فقال له-علي-ويلك من أنا، فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا على رأيه"اهـ.(116/7)
ثم كثر القول بالحلول في فرق الرافضة الذين ادّعوا حلول روح الإله في علي والأئمة من بعده؛ فمنهم البيانية الذين زعموا أن بيان بن سمعان كان إلهاً وأن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ثم انتقلت إلى بيان بن سمعان الذي ادعى لنفسه الربوبية"انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص237"وقد قتله خالد بن عبد الله القسري والي العراق إبّان الأمويين سنة119هـ ومنهم المغيرية أتباع المغيرة بن سعيد المقتول أيضاً على يد خالد القسري سنة 119هـ وكان يزعم أن الله على صورة رجل. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه الغنية(1/88): "ومنهم المنصورية منسوبة إلى أبي منصور العجلي كان يزعم أنه صعد إلى السماء ومسح الرب رأسه وزعم أن عيسى أول خلق الله ثم علي(قُتل العجلي هذا وصُلب سنة 121هـ على يد يوسف بن عمر الثقفي والي العراق). ومنهم البزيعية المنسوبة إلى بزيع، فزعموا أن جعفراً هو الله، ومنهم المفضلية المنسوبة إلى المفضل الصيرفي قولهم في الأئمة كقول النصارى في المسيح، ومنهم الشريعية المنسوبة إلى شريع زعموا أن الله تعالى في خمسة أشخاص النبي وآله يعني في النبي والعباس وعلي وجعفر وعقيل"اهـ. وقد ذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين1/74: "أن المنصورية ممن يعتبر المحارم حلالاً وأن المحرمات والفرائض أسماء رجال، وحمزة بن عمارة نكح ابنته وأحل جميع المحارم، والمعمرية من الخطابية أتباع أبي الخطاب استحلوا سائر المحرمات وتركوا الصلاة والزكاة والصيام والحج، وليلة البابكية معروفة". ومنهم الجناحية(الطيارية): أتباع عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب، الذي زعم أنه رب، وأن روح الإله كانت في آدم ثم في شيث ثم دارت في الأنبياء والأئمة إلى أن انتهت إلى علي ثم دارت في أولاده الثلاثة ثم صارت إلى عبدالله بن معاوية. وقال البغدادي في (الفرق ص259): "ومنهم الحلمانية أتباع أبي حلمان الدمشقي(116/8)
القائل بحلول الإله في الصور الحسنة"اهـ. قلت: وهذا النوع من الحلول فاش اعتقاده عند كثير من الصوفية السابقين والمعاصرين؛ يقول الشيخ محمود الحوت الحلبي الصوفي في أحد دروسه: "إن بكاء يعقوب عليه السلام ليس بكاءً على ولده يوسف حاشا وكلا أن يبكي نبي هذا البكاء على فقد ولده، ولكن يبكي على التجلي لقد كان الله تبارك وتعالى يتجلّى ليعقوب التجلّي الأظهر والأكمل في صورة يوسف"اهـ. قال القاضي عياض في كتابه الشفاء(2/298): "يكفر من ادّعى مجالسة الله تعالى والعروج إليه ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة"اهـ(1) ومن الفرق الحلولية: الراوندية الذين قالوا بحلول الإله في أبي جعفر المنصور العباسي؛ قال الطبري في تاريخه(7/505): "زعموا أن أبا جعفر هو ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم ويحييهم ويميتهم. قال أبوبكر الهذلي: إني لواقف بباب المنصور إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة الذي يطعمنا ويسقينا. وكانوا يخاطبون المنصور: أنت أنت يعنون الله فقتلهم المنصور وأوقع بهم سنة141هـ"اهـ. والراوندية ممن استحلوا المحرمات. ومنهم الخرمية وهم الذين ادّعوا حلول روح الإله في أبي مسلم الخراساني وهؤلاء يدعون الأبومسلمية وهم البركوكية ومنهم المقنّع الذي ادّعى الإلهية وأباح لأتباعه الأموال
__________
(1) ولا يقتصر اعتقادهم الحلول على الأشخاص بل حتى الحيوانات يقول الشيخ علي الهروي النقشبندي في كتابه رشحات عين الحياة صـ133 -كما ينقل الشيخ عبد الرحمن دمشقية في كتابه حقائق خطيرة عن النقشبندية-: "ان الشيخ بهاء الدين عمر كان يركب فرساً أبيض في كل الأوقات فسئل عن ذلك فأجاب بأن اختياره للفرس الأبيض لأن بعض التجليات الصورية= =مشهوداً له كذلك. وقال الشيخ محيي الدين ابن عربي: رأيت ربي على صورة الفرس. وهكذا فالسالكون يرون الحق سبحانه بالتجليات الصورية، حتى إنه يتجلى في جميع صور الأشياء من معادن ونباتات وحيوانات وإنسان"اهـ.(116/9)
والفروج. فقتله المهدي العباسي سنة 163هـ(انظر الفرق للبغدادي ص257). ومنهم البابكية أتباع بابك الخرّمي الذي كان يعتقد بنظرية الحلول خرج عام200هـ وقتله المعتصم سنة223هـ وكان البابكية يقولون عن بابك إنه إله ويرونه رباً لهم(انظر الفهرست 480). وكذلك الخرمية أتباع الأفشين المصلوب سنة226هـ كانوا يكتبون له: "إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان"(انظر تاريخ الطبري9/107)(وانظر رسالة الحركات الهدّامة في الإسلام للدكتور قحطان بن عبد الرحمن الدوري). وهؤلاء الخرّمية هم سلف الإسماعيلية الفاطميين ومقالتهم واحدة قال ابن حزم في الفصل في الملل(1/34): "الخرمية أصحاب بابك وهم سر مذهب الإسماعيلية ومن كان على قول القرامطة وبني عبيد"اهـ ولهذا كان الإسماعيلية من القائلين بالحلول في الأئمة؛ قال شاعرهم ابن هانئ يخاطب الخليفة الفاطمي المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار(116/10)
ومن ثم ادعى الحاكم بأمر الله الفاطمي الإلهية وتبعه جماعة الدروز وهم إلى الآن يعبدون الحاكم المأفون هذا ويعدونه ربهم فتجد في كتبهم سبحان ربي الحاكم إلخ. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى(28/521)عن التتار أنهم: "يعتقدون في جنكيز خان أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح"اهـ. ومن الطوائف المحدثة المعتقدة بالحلول في بعض الأشخاص طائفة البهائية أتباع ميرزا حسين علي الملقب بالبهاء المولود بإيران سنة1233هـ والهالك سنة1309هـ وخلاصة دينه أن الله سبحانه وتعالى يظهر في دورات متعاقبة في صور الرسل، وأنه-أي الميرزا-أتمُّ وأكمل صورة للتجسد الإلهي وأنه النبع الذي استمد منه الرسل جميعاً من لدن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن الطوائف التي يمكن نظمها مع الحلوليين طائفة الخزنوية النقشبندية في الجزيرة من بلاد الشام إذ يعتقدون أن شيخهم الخزنوي هو صورة الله المصغَّرة وأنه إله مجازي وربما خاطبه بعضهم: أنت الله فلا ينكر عليه. وخطباؤهم يُفَهِّمون الناس في هذه المناطق أنّ الزرع لا ينبت إلا بأمر الشيخ، والمطر لا ينزل إلا بأمر الشيخ. ومن الفرق الحلولية المعاصرة ما يسمى بجماعة أمة الإسلام(ينشن أوف إسلام) في أمريكا حيث يعتقد أتباع هذه الحركة أن الحق سبحانه وتعالى أتى بشكل رجل يسمى(فرد محمد) والتقى مع من يدعى(أليجا محمد) واختاره ليكون رسولاً له.(116/11)
ويلحظ القارئ أن القائلين بالحلول هم إما من اليهود(كعبد الله بن سبأ ومن بعده الفاطميين أبناء عبيد القداح اليهودي) أو من الفرس؛ فإن الفرق الباطنية المذكورة التي قالت بالحلول منشؤها ورواجها في فارس وماحولها والذي ساعد على انتشار عقائد الحلول في تلك النواحي أن أهل خراسان وأهل فارس قبل الفتح الإسلامي كانوا يقدِّسون ملوكهم ويجعلونهم في مصاف الآلهة فكان الفرس يعتقدون أن دماء الأكاسرة غير دماء الشعب وظل كثير من هؤلاء الفرس الذين انتسبوا إلى الإسلام ظاهراً مخلصين لهذه العقيدة وهم الذين تبنوا الرفض واعتبروا أن دماء كسرى انتقلت إلى علي بن الحسين زين العابدين عبر أمه شهربانو ابنة كسرى حين تزوجها الحسين وأولدها زين العابدين وهكذا انتقل الدم الكسروي إلى أحفاده من أئمة الرافضة الذين اعتقدوا فيهم الألوهية ومن هنا فلا يُستغرب خروج الدجال في آخر الزمان من خراسان وادِّعاؤه الربوبية ورواج فكرته في هذه المناطق وذلك لقابلية البيئة ثمّة. والقائلون بالحلول والتناسخ أرادوا هدم عقيدة الألوهية وأصل النبوة والإيمان باليوم الآخر وبالتالي هدم الإسلام. وكل حركات الحلوليين عبر التاريخ كالبابكية وغيرها ترافقت بالإباحية وترك الفرائض والتنصل من كل وازع وفضيلة.
الحلّاج سلف الصوفية وقوله بالحلول(116/12)
ولمّا كانت الصوفية من الفرق الباطنية فمن البدهي اعتقادهم بهذه العقيدة وكان أول من صرح من الصوفية بالحلول وباح بهذا السر الحسين بن منصور الحلاج(قُتل سنة 309هـ) وصار بعدها قدوة للصوفية وأسوة لهم وكل من جاء بعده اقتفى أثره. قال العلماء من المؤرخين وغيرهم هو زنديق ساحر حلولي خبيث كان جده مجوسياً اسمه محمي من أهل بيضاء فارس روى الخطيب في تاريخ بغداد(8/112) بسنده عن أبي يعقوب الأقطع قال: زوّجت ابنتي من الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر اهـ. قال الخطيب: وكان في مبتدأ أمره قد رحل إلى الهند يتعلم السحر ولما قدم بغداد أظهر بعض الخوارق والشعبذات وادعى الألوهية واستغوى كثيراً من الناس وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله عن طريقهم ثم روى بسنده إلى أبي بكر بن جمشاد قال: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان فوجه إلى بغداد قال فأحضر وعرض عليه فقال هذا خطي وأنا كتبته فقالوا كنت تدّعي النبوّة فصرت تدّعي الربوبية فقال ما أدعي الربوبية ولكن هذا عين الجمع عندنا هل الكاتب إلا الله وأنا واليد فيه آلة فقيل هل معك أحد فقال نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي. وأبو محمد الحريري يستتر والشبلي يستتر فإن كان فابن عطاء فأحضر الحريري فسئل فقال هذا كافر يقتل ومن يقول هذا وسئل الشبلي فقال من يقول هذا يمنع ثم سئل ابن عطاء عن مقالة الحلاج فقال بمقالته فكان سبب قتله. الخطيب بسنده: لما أرادوا قتل الحسين بن منصور أحضر لذلك الفقهاء والعلماء وأخرجوه وقدّموه بحضرة السلطان فسألوه فقالوا مسألة فقال هاتوا فقالوا ما البرهان فقال البرهان شواهد يلبسها الحق أهل الإخلاص يجذب النفوس إليها جاذب القبول فقالوا بأجمعهم هذا كلام أهل الزندقة وأشاروا على(116/13)
السلطان بقتله. ثم روى الخطيب بسند آخر أنّ من أسباب قتله قوله:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب اهـ
ومن أشعار الحلاج التي ذكرها الخطيب وغيره يشير بها إلى عقيدته الحلولية يخاطب بها رب العزة:
جُبلتْ روحك في روحي كما ... يُجبل العنبر بالمسك الفنق
فإذا مسّك شيء مسّني
ج ... فإذا أنت أنا لا نفترق
ومنها:
مُزجت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسّك شيءٌ مسَّني
... فإذا أنت أنا في كل حال
ومنها:
أنا من أهو ى ومن أهو ى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
ج ... وإذا أبصرته أبصرتنا
ج(116/14)
هذا إلى ما ضمّنه كتابه الطواسين من ضلال وتصريح بهذه العقائد الحلولية الفاسدة، ولهذا أفتى علماء بغداد بكفره ووجوب قتله ورفعوا أمره إلى الخليفة المقتدر أمير المؤمنين فأمر بقتله وإحراقه بالنار سنة 309هـ فضُرب ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور السجن الجديد ببغداد وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه. انظر تاريخ بغداد(8/112). وقد نقل كثير من العلماء إجماع الفقهاء على قتله مثل القاضي عياض في الشفا والمازري والذهبي في ميزان الاعتدال(14/331) وابن كثير في تاريخه بعد أن ذكر أن الخطيب حكى عن غير واحد من العلماء إجماعهم على قتله وأنه قتل كافراً وأنه كان مشعوذاً متلوناً قال: "وما زال يضل الناس ويموه عليهم حتى ادعى الربوبية فسجن في بغداد وأجمع الفقهاء على كفره وزندقته وأنه ساحر ممخرق قُتل ببغداد بفتوى العلماء"اهـ البداية والنهاية(11/138). وقال نعمان الآلوسي ت1317هـ في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر الهيتمي ص82نقلاً عن ابن خلكان عن شهاب الدين أبي عدسة ت856هـ في تاريخه(نظم الجمان) عن الحافظ الذهبي في(العبر)قال: إن الحلاج سافر إلى الهند وتعلم السحر، وحصل له به حال شيطاني وهرب منه الحال الإيماني، ثم بدت منه كفريات أباحت دمه، وكسرت صنمه، واشتبه على الناس السحر بالكرامات، فضل به خلق كثير كدأب من مضى ومن يكون إلى مقتل الدجال. والمعصوم من عصمه الله تعالى. وقال أيضاً: قال ناس: ساحر فأصابوا، وقال ناس: به مس من جنون فما أبعدوا ؛ لأن الذي يصدر عن عاقل إذ ذلك موجب حتفه، أو هو كالمصروع أو المصاب الذي يخبر بالمغيبات، وقال ناس من الأنعام: بل هو رجل عارف ولي الله تعالى،صاحب كرامات فليقل ما شاء؛ فجهلوا من وجهين: أحدهما أنه ولي، والثاني أن الولي يقول ما شاء فلن يقول إلا الحق. وقال السلمي في تاريخ الصوفية: الحلاج كافر خبيث الخ وقال(116/15)
القشيري في الرسالة: إن علماء بغداد اتفقوا على كفره ثم أجمعوا على قتله وصلبه. وتخطئة واحد أولى من تخطئة إجماع العلماء في ذلك العصرإهـ ثم نقل الآلوسي ص75عن بعض الفقهاء: أنّ من اعتقد ولاية الحلاج كفر. ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ص87 قوله: إن من يوافق الحلاج على ما قتل عليه فهذا حال أهل الزندقة والإلحاد، وكذلك من لم يجوِّز قتل مثله فهو مارق من دين الإسلام اهـ. وعندما قُتل الحلّاج وصلب بإجماع علماء بغداد(سنة309هـ) وضُيق على أنصاره وأعوانه الصوفية هجعت الفتنة ثمّ لما ضعف سلطان المسلمين بعد ذلك وتمزقت دولتهم اشرأب أرباب هذه النحلة الباطنية بأعناقهم وأعلنوا بها كلما سنحت لهم الفرصة ولم يقفوا عند هذا الحد-أعني الحلول-بل تجاوزوه ولا يزال يترقّى بهم الحال ويغويهم الشيطان -متأثرين بزبالات أفكار الأمم الضالة-حتى صاروا بآخرة إلى الاعتقاد بوحدة الوجود في زمن ابن عربي الهالك سنة(638هـ) بحيث صارت عقيدة الحلول على كفرها وشناعتها بدائية ولا تعد شيئاً أمام هذا الكفر الجديد المسمى بوحدة الوجود الذي أظهره وأعلنه وانتصر له ابن عربي في كتبه كالفصوص والفتوحات وغيرها.
وحدة الوجود(116/16)
وحدة الوجود تعني باختصار أنه لا موجود في الوجود إلا الله فالوجود واحد وإن تجزّأ وهو الله وما ثَم خالق ولا مخلوق بل هذا الكون المرئي بما فيه إنّما هو صورة الله فكل ما تراه بعينك هو الله، وهذه الكثرة المشاهدة إنّما هي تعيّنات الذات الإلهية أي بها صار شيئاً معيناً فما ثَم غيره وما ثَم سواه، فنحن مظاهر الرب الذي يظهر في صور شتّى من حجر وشجر وأرض وإنسان وحيوان وكواكب ومجرات فكل هذا الوجود هو الله ولا شيء إلّا هو(1)
__________
(1) يقول الدكتور محمد عقيل المهدلي في كتابه(دراسة في التصوف الفلسفي الإسلامي)صـ33: (مذهب وحدة الوجود مذهب الذين يوحدون الله والعالم ويزعمون أن كل شيء هو الله وهو مذهب قديم أخذت به البراهمانية والرواقية والإفلاطونية الجديدة والصوفية، فالبراهمانيون يردُّون كل شيء إلى الله ويعتقدون أن براهمان هو الحقيقة الكلية ونفس العالم وأن جميع الأشياء الأخرى ليست سوى أعراض ومظاهر لهذه الحقيقة. والرواقيون يقولون: إن الله والعالم موجود واحد وإن العالم لا ينفصل عن الله وفلاسفة الإفلاطونية الجديدة يقولون: إن الله واحد وأن العالم يفيض عنه كفيضان النور عن الشمس وأن للموجودات مراتب مختلفة إلا أنها لا تؤلف مع الله إلا موجوداً واحداً والمتصوفون يقولون: إن الله هو الحق وليس هناك إلا موجوداً واحداً وهو الموجود المطلق، أما العالم فهو مظهر من مظاهر الذات الإلهية وليس له وجود في ذاته لأنه صادر عن الله بالتجلي. ولمذهب وحدة الوجود عدة صور جديدة كوحدة الوجود الإسبينوزية التي تقرر أن الله وحده هو الموجود الحق، ووحدة الوجود المثالية(هيجل) التي تقرر أن الله هو الروح الكلي الكامن في الأرواح الجزئية ووحدة الوجود الطبيعية. ولكن هذه الصور المختلفة يمكن أن ترد إلى صورتين أساسيتين: الأولى هي القول أن الله وحده هو الموجود الحق وأن العالم مجموع ظواهر وأحوال ليس لها وجود حقيقي دائم ولا جوهر متميز والمثال من هذه الصورة مذهب وحدة الوجود الاسبينوزية. والثانية هي القول أن العالم وحده هو الموجود الحق، وليس الله سوى مجموع الأشياء الموجودة في العالم والمثال من هذه الصورة مذهب وحدة الوجود عند دولباخ وديدور وعند بعض الهيجليين وتسمى هذه الصورة بمذهب وحدة الوجود الطبيعية أو المادية. وتصوف وحدة الوجود هو التصوف المبني على القول بأن ثمّة وجوداً واحداً فقط وهو وجود الله أما التكثير المشاهد في العالم فهو وهم على التحقيق تحكم به العقول القاصرة فالوجود إذاً واحد لا كثرة فيه. ووحدة الوجود في التصوف الإسلامي تنقسم إلى قسمين؛ الأول: مذهب القائل بوجود الممكنات أو المخلوقات على نحو ما ونسمي هذا المذهب بوحدة الوجود غير المطلق. والقسم الثاني: مذهب القائل بإطلاق القول بالوحدة(كابن عربي وابن سبعين) وهؤلاء هم أصحاب الوحدة المطلقة)انتهى من كتاب المؤلف= =المذكور. ويقول الأستاذ الفاضل محمد فهر الشقفة في كتابه التصوف بين الحق والخلق صـ64: (القائلون بوحدة الوجود يختلفون في تصويرها إلى فريقين: فريق يرى الله روحاً ويرى العالم جسماً لذلك الروح. فالله هو كل شيء. وفريق يرى جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله. فكل شيء هو الله) ويقول في صـ/51/: (الفلسفة الهندية تقول بأن الروح الأعظم(الله) والعالم المادي واحد. وكل ما في العالم يجري من ذلك الروح وإليه يعود-هو الموجود الساطع الذي يُرى في قرص الشمس كما يُرى في عين الإنسان-هو النور الوضّاء الذي يضيء في الأرض وفي نفس الإنسان هو الذات العاقلة السعيدة)اهـ. ويقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله في كتابه صوفيات صـ29: (إن حقيقة معبود(الصوفي العارف) تبدو له ماثلة في كل عيان فهو يراها في كل ما تراه عيناه. فما هذه المظاهر المادية إلا أجزاء منثورة من الحقيقة الإلهية، أو هي إذا تجمعت تكون هي الحقيقة الإلهية بذاتها)اهـ. ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه(حقيقة التوحيد)صـ16: (وهل أتاك نبأ دعاة وحدة الوجود؟ إنهم يزعمون أنهم وحدهم الموحدون ومن عداهم فهم المعددون. فهل علمت ما توحيدهم المزعوم؟ توحيدهم: أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته.. وأنه آية كل شيء، وله فيه آية تدل على أنه عينه. وهذا عند محققيهم من خطأ التعبير. بل هو نفس الآية، ونفس الدليل، ونفس المستدل، ونفس المستدل عليه. فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود. فهو-عندهم-عين الناكح، وعين المنكوح، وعين الذابح، وعين المذبوح، وعين الآكل، وعين المأكول. وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية، ورامت إفادته الهداية النبوية، كما قال محققهم وعارفهم ابن سبعين! ومن فروع هذا التوحيد وثماره: أن فرعون ونمرود وأمثالهما مؤمنون كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة. وأن عبّاد الأصنام إنما عبدوا عين الله لا غيره. فهم على الحق والصواب.. وأن لا فرق في التحليل والتحريم بين الأم والأخت وبين الأجنبية، ولا بين الماء والخمر، ولا بين الزواج والزنا. الكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة. وأن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس، وبعّدوا عليهم المقصود، والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه)اهـ. قلت: الناظر في عبارات أهل التصوف أهل وحدة الوجود يجد فيها اضطراباً كبيراً واختلافاً كثيراً وهذا شأن أهل البدع والضلال ولكن كلامهم كله يتمحور على أن الله هو هذا العالم بعينه وثمرة ذلك أن= =الأديان جميعاً على الحق وهذا أخطر ما في وحدة الوجود الضالة، وسننقل فيما يأتي كثيراً من عباراتهم التي تصرح بذلك وتدعوا إليه. ومن أقوالهم: -ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إله إلا الله ولهذا سماهم القسطلاني الليسية وقال: احذروا هؤلاء الليسية.
-رب هالك وعبد مالك وأنتم ذلك(هذا قول ابن سبعين هلك سنة667هـ)
-الله فقط والكثرة وهم(وهذا أيضاً قول ابن سبعين)
لا موجود إلا الله. وهذا قول جميع الصوفية الآن أي أن كل الموجودات ليست هي إلا الله بعينه. -عين ما ترى ذات لا ترى. وذات لا ترى عين ما ترى..إلخ هذيانهم وكفرهم.(116/17)
وليس الله ببائنٍ عن خلقه وإنما هذه الأنواع التي لا تحصى من الموجودات اشتُقتْ من الرب فهي أسماؤه وصفاته، وليس له وجود خارجها، هو واحدٌ متعدد، فلا زال سبحانه يتفرّع حتى حصلت هذه الكائنات كالشجرة المتفرعة ثم لا يزال يظهر بصور متعددة كل حين وبالتالي فلا فرق بين المسلمين والكافرين طالما أنّ الذي يعبد الصنم إنّما يعبد بعض مظاهر الرب فهو مصيب، فالكل يعبد الله، والمجوس عندما عبدوا النار ما عبدوا إلّا الواحد القهّار، وفرعون وموسى سواء، بل إنّ إيمان فرعون-عندهم-أقوى لأنه عرف أنه نفسه هو الله فقال: أنا ربكم الأعلى. ومن هنا دافع الصوفية عن فرعون وقالوا بإيمانه، بل إنّ إبليس عندهم من أكمل الخلق إيماناً وتوحيداً ألم يقل الحلاج في(الطواسين/42): (ما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس)(1)
__________
(1) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: "كان أبو الفتوح(مات عام520هـوهو أخو الغزالي المشهور) متعصباً لإبليس ويقول: إنه سيد الموحدين. وقال يوماً: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، لأنه أُمر أن يسجد لغير سيده فأبى"إه. وانظر لسان الميزان للحافظ(1/293). وذكر ابن الجوزي أن أبا الفتوح هذا يتعصب لإبليس ويعتذر له.(وانظر البداية والنهاية12/196) فالقضية أنهم متفقون على هذا الضلال. ولتزداد ثقة بأن هذه هي عقيدتهم ننقل لك كلاماً لعبد الكريم الجيلي أحد كبار الصوفية في كتابه(الإنسان الكامل) يمجِّد فيه عدو الله إبليس ويبدي إعجابه الرائع به، ويحكم بأنه في الفردوس يوم القيامة يقول أخزاه الله(2/42): "قوله(أنا خير منه) يدل على أن إبليس من أعلم الخلق بآداب الحضرة، وأعرفهم بالسؤال، وما يقتضيه من= =الجواب...لا يُلعن إبليس أي لا يطرد عن الحضرة الإلهية إلا قبل يوم الدين، لأجل ما يقتضيه أصله، وهي الموانع الطبيعية التي تمنع الروح عن التحقق بالحقائق الإلهية، وأما بعد ذلك فإن الطبائع تكون لها من جملة الكمالات فلا لعنة، بل قرب محض، فحينئذ يرجع إبليس إلى ما كان عليه عند الله من القرب الإلهي...قيل إن إبليس لما لُعن هاج وهام لشدة الفرح حتى ملأ العالم بنفسه، فقيل له: أتصنع هكذا، وقد طردت من الحضرة؟ فقال: هي خلعة أفردني الحبيب بها لا يلبسها ملَك مقرب ولا نبي مرسل"اهـ منه وهذا باعتبار أن المعصية أفضل من الطاعة عند الصوفية كما سنبين لاحقاً وهذا أصلٌ عندهم.(116/18)
اهـ. والذين عبدوا العجل كانوا مُحِقِّين وإنّما عتبَ عليهم موسى لأنّهم حصروا الله في صورة العجل-كما يقول ابن عربي-وإنّما الواجب أن يعبدوه في كل الصور، وكذلك الشأن مع قوم نوح فذنبهم أنّهم حصروا الله في وَدٍ وسواعٍ وإخوانه ومع ذلك فنهايتهم إلى النعيم، والقرآن-زعموا-يستخدم المكر في ذكر قصصهم، ولا يفهم المقصود من الأيات إلّا العارف(الصوفي) فالعذاب المتوعَّد به إنّما هو عذوبة، والريح راحة، وهكذا قل في كل أيات الوعيد التي لا يدركها الناس ويفهمها العارف الباطني وعلى هذا فجميع الأمم-الناجية منها والهالكة-عبدت الله، وإنّما بعضهم قيّد وبعضهم أطلق، والحال أنّ الذي يسجد لله إنّما يسجد لنفسه وهو من باب حنين الفرع إلى أصله، وكذا من عبد الحجر فهو من باب التقاء الجزء بالجزء فكل يعبد نفسه بنفسه، بل الرجل عندما يجامع امرأته-كما يقول ابن عربي-إنّما يجامع الحق(تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً). وسنذكر الآن بعض نصوصهم لبيان ما أجملناه.
ابن عربي ووحدة الوجود(116/19)
يقول ابن عربي(1)
__________
(1) يقول الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه الحياة الروحية في الإسلام صـ/181/: (وأما مذهب ابن عربي الذي أقيم على دعائم ذوقية وانطوى على كثير من المعاني الفلسفية وأحنق عليه الفقهاء فهو مذهب وحدة الوجود: فقد ذهب إلى أن الوجود كله واحد، وإن وجود المخلوقات عين وجود الخالق لا فرق بينهما من حيث الحقيقة أما ما يُظن أنه فرق بين وجود الخالق ووجود المخلوق فيرى ابن عربي أنه أمر يقضي به الحس الظاهر والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة على ما هي عليه في ذاتها من وحدة ذاتية تجتمع فيها الأشياء جميعاً ويدل على ذلك قوله: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها)اهـ. ويقول الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني في كتابه(مدخل إلى التصوف الإسلامي)صـ/201/: "وابن عربي هو أول واضع لمذهب وحدة الوجود في التصوف الإسلامي وهو مذهب يقوم على دعائم ذوقية أساساً وهو يقول معبراً عن مذهبه باختصار: سبحان من خلق الأشياء وهو عينها(الفتوحات المكية2/604) وذلك أن القائلين بوحدة الوجود ومنهم ابن عربي لا يؤمنون بالخلق من العدم أي لا يؤمنون بأن العالم وجد من العدم في زمان، وهو ما يعرف عند غير أصحاب وحدة الوجود بخلق العالم"اهـ. ويقول الدكتور فيصل بديرعون في كتابه التصوف الإسلامي صـ/292وما بعدها/: (يذهب ابن عربي إلى القول بأنه لا يوجد أي موجود وجوداً حقيقياً وأصلياً إلا الوجود الإلهي، الوجود الحق، الوجود الواحد، فهو سبحانه كل الوجود، ولا وجود لموجود آخر سواه، فأينما نولي وجهنا فثم وجه الله الذي لا يوجد في مكان بعينه والذي لا يخلو منه مكان، إن العالم ليس في الواقع سوى تجلي الحق في صور الأعيان الثابتة. صحيح أننا نشاهد في هذا العالم أشياء متعددة ومتكثرة، ولكن هذه الكثرة ليست إلا وهماً وخداعاً من خداع الحواس، أراد ابن عربي أن يؤكد على أن الأصل في هذا العالم الوحدة لا الكثرة وهذه الكثرة تستمد وجودها من الوحدة وهذه الكثرة المشاهدة أمر ضروري ورئيسي لكي تتجلى من خلاله الوحدة الحقيقية الأصلية إنه لم يميز بين الواحد والكثرة أو إن شئت بين الحق والخلق إلا تميزاً اعتبارياً وعلى سبيل الفهم والتوضيح لأنه يرى الحق لا ينفصل عن الخلق لأن الخلق ليس إلا الحق وقد= =تجلى في الخلق من خلال صفاته سبحانه، ذلك أن الكثرة المشاهدة بالحس ليست إلا أمراً تنعكس لنا على صفحاتها الصفات الإلهية وهذه الصفات عند ابن عربي هي عين الذات الإلهية إذ أنه لم يميز بين الذات والصفات، فليست الصفات أحوالاً قائمة بالذات، وليست أمراً زائداً عليها ولكنها عين الذات الإلهية(وهي عين المخلوقات) إنه(أي ابن عربي) يرى أن الواحد هو الكثرة وأن الحق هو الخلق وأن القديم هو الحادث وأن الخالق(إن جاز استخدام هذا التعبير في مذهب ابن عربي) يكون بعينه هو المخلوق. ذلك أن ابن عربي لم يقل بفكرة الخلق من العدم البتة لأنه سوّى بين الواحد والكثرة بحيث صار موجوداً واحداً)اهـ.(116/20)
في كتابه(فصوص الحكم): "العارف مَنْ يرى الحق(أي الله) في كل شيء بل يراه عين كل شيء"صـ192. وقال في صـ/195/من نفس الكتاب: (والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى للحق يُعبد فيه، ولذلك سمَّوه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أوانسان أو كوكب أو ملَك)إه. وقال في فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية: (ومن أسمائه الحسنى العلي. على من؟ وما ثَم إلّا هو!! فهو العلي لذاته، أو عن ماذا؟ وما هو إلّا هو!! فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمَّى محدثات هي العليَّة لذاتها، وليست إلّا هو فهو العلي، لا علو إضافة، والعبن واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية وليس إلّا العين الذي هو الذّات، فهو العلي لنفسه، فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكنّ الوجوه الوجودية متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة لذلك نقول فيه: هو، لا هو. أنت، لا أنت. قال الخرّاز-وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه-: إنّ الله لا يُعرف إلّا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والأخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثمّ من يراه غيره وما ثمّ من يبطن عنه فهو طاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمّى أبا سعيد الخرّاز، وغير ذلك من أسماء المحدثات) اهـ بلفظه(صـ76منه). أي أنّ الله هو هذه المخلوقات المحدثة فما هي إلّا أسماؤه وصفاته، ومن أسمائه أبوسعيد الخراز، أي أنّ أبا سعيد الخرّاز الصوفي هو نسخة من نسخ الإله الواحد المتعدد، فهو الله بعينه. وكذا غيره من المخلوقات المحدثة فهي عين الله، وليست هي غيره. وقد كرر الزنديق هذا المعنى فقال في صـ/80/: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم). وقال أيضاً في صـ/217/من كتابه الفصوص المذكور مبيناً أنّ الرجل عندما(116/21)
يجامع زوجته إنّما يجامع الله: (لمّا أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ولذلك أُمر بالاغتسال منه فعمّت الطهارة كما عمّ الفناء فيها عند حصول الشهوة، فإنّ الحقَّ غيورٌ على عبده أن يعتقد أنّه يلتذ بغيره!!(تأمَّلْ) فطهَّره بالغسل، ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه إذ لا يكون إلّا ذلك فإذا شاهد الرجلُ الحقَّ في المرأة كان شهوداً في منفعل، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورةٍ ما كان شهوداً في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتمّ وأكمل لأنّه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل.. أحب الالتذاذ فأحب المحلّ الذي يكون فيه وهو المرأة، ولكن غاب عنه روح المسألة، فلو علمها، لعلم بمن التذ، ومَنْ التذ؟!) اهـ.إذاً يعتقد الزنديق ابن عربي أنّ الله في صورة الرجل يجامع نفسه في صورة المرأة(1)
__________
(1) وقال ابن عربي في الفص الإدريسي صـ78(وخلق منها زوجها) فما نكح سوى نفسه. فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد. اهـ وقد شرحها النابلسي في شرح جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص(1/129)قال: (فما نكح سوى نفسه. وفي الحقيقة حضرة إلهية توجهت على حضرة إلهية أخرى من قبيل المغايرة بين الواحد ونفسه إذا كان معلوماً) تدبَّر! أي حضرة إلهية نكحت حضرة إلهية قاتلهم الله. قلت: ومن توابع ذلك ما يسمى بالتناكح الروحاني الحاصل عند بعض الصوفية كطائفة الخزنوية فرع من النقشبندية شرقي سورية وذلك بأن يتخيَّل المريد منهم نفسه وهو يجامع الشيخ وهي من أنواع الرابطة بين المريد والشيخ فإذا سبق منيُ المريد منيَ الشيخ= =أثناء هذا التخيل يرقى المريد إلى منزلة أعلى ثم يترقى به الحال إلى التناكح الروحي مع الله كما يقولون-تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-ومن يدري فقد يتحول الخيال إلى حقيقة والقصص كثيرة.(116/22)
فالله-عنده-هو الفاعل والمفعول به على الحقيقة. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ونسأله سبحانه العفو من نقل هذا الكلام، فلولا النصيحة لقارئ هذه الورقات مااستجزت حكايتها. يقول العلّّامة مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين (3/188) -في رده على الزنديق ابن عربي وهو كثير الحط والطعن عليه- معلقاً على كلامه السابق: (يتجلى لصاحب العقل والإنصاف من هذا القول لصاحب الفصوص المتناهي في إساءة الأدب مع الله، بطلان مذهب وحدة الوجود انجلاءً ظاهراً، لأن ذلك المذهب هو الذي يجر صاحب الفصوص إلى التفوه بمثل هذه السخافات، وإلا فليس هذا الرجل الذي يعد عند كثير من الغافلين من أولياء الله العارفين، ويسمى بالشيخ الأكبر من المجانين، فإن صحّ مذهب وحدة الوجود صح القول بمثل تلك السخافات، وكان قائلها معذوراً، بل صحّ لمن شاء أن يقول ما شاء قوله، ويفعل ما شاء فعله، كما قيل: فتصرف من شئت ولو أختك وأمك لأن كل قائل وكل فاعل هو الله الذي لا يسأل عما يفعل)اهـ.وقال الشيخ الأكفر الأكبر مبيناً عقيدة الصوفية في أنّ الله إنسانٌ كبير: (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى أن يرى أعيانها ويرى عينه في كون جامع لكونه متصف بالوجود ويظهر به سره إليه، فإنّ رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة... فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبَّر عنه في اصطلاح القوم: بالإنسان الكبير) إهـ/49/. أي أنّ الإنسان أكمل مظهر ظهر فيه الرب، وربما أسموه الإنسان الكامل. ثمّ خطّأ نوحاً عليه السلام وافترى عليه في فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية من كتابه الفصوص/71/قائلاً: (لو أنّ نوحاً جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهاراً ثمّ دعاهم إسراراً.. فعلم العلماء بالله(أي الصوفية) ما أشار(116/23)
إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنّهم إنّما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان) إه. يعني أنّ نوحاً فشل في دعوته. ثمّ السبب لأنه فرّق بين صور الرب وأراد أ ن يصرفهم عن عبادة ودٍ وسواعٍ إلى غيره وهم لم يطيعوه لأنهم عرفوا أنّهم يعبدون الله على الحقيقة، فالواجب على نوح أن يأمرهم بعبادة كل شيء، فلو فعل لأطاعوه، لأن الأمر قرآن لا فرقان. أمّا خطؤهم فلأنهم اقتصروا على عبادة بعض الأشياء فقط. ثمّ قال الزنديق: "(ويمددكم بأموال) أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه، رأيتم صورتكم فيه، فمن تخيل منكم أنّه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنّه رأى نفسه فهو العارف"اهـ. أي أنّ العارف مَنْ عرف أنّه نفسه هو الله. ثمّ قال: "(ومكروا مكراً كباراً) لأنّ الدعوة إلى الله مكرٌ بالمدعو لأنّه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية(أدعوا إلى الله) فهذا عين المكر"إه. ثمّ مضى يفسر سورة نوح/صـ72 من كتابه/: "فقالوا في مكرهم(لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ وداً ولا سواعاً...) فإنّهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإنّ للحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه ويجهله مَنْ جهله في المحمديين(وقضى ربك أن لا تعبدوا إلّا إياه) أي حكم فالعالِم يعلم مَنْ عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأنّ التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة فما عبد غير الله في كل معبود... (مما خطيئاتهم أغرقوا): فغرقوا في بحار العلم بالله، (فأدخلوا ناراً): في عين الماء، (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا): فكان الله عين أنصارهم. اهـ بلفظه. والملاحَظُ أنّه -مع تقريره أنّ المعبودات المختلفة هي صور الله لأنّها أجزاؤه وأعضاؤه-فسَّر(وقضى ربك) بمعنى حكم أي قدَّر وهذا تحريف لكلام الله، وسنرد عليه بعد قليل.
اعتقاد ابن عربي وطائفته أن أهل النار في نعيم(116/24)
قال في الفص الهودي/صـ108من فصوصه/بعد أن صحح عمل قوم هود وأقرّهم، متعمداً تحريف آيات العذاب التي وعدوا بها: "(إلى جهنم) وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمَّى جهنم في حقهم ففازوا بنعيم القرب، وكانوا في أعمالهم على صراط الرب المستقيم،... (ريح فيها عذاب أليم): فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة" إهـ. وفكرة تحريف آيات العذاب إلى نعيم فاشيةٌ عند الصوفية حتى إن أهل النار -عندهم- لا عذاب عليهم بل هم في نعيم فقد قال ابن عربي صـ/169/من كتابه الفصوص: (وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم) إه.ومن ذلك ما صرّح به أحد شيوخ دمشق (هو الباني) بأن أهل النار يتلذذون في النار ومن هذا القبيل قول أحد صوفية حلب(هو أحمد الحسون): إن أهل النار لا يطيقون الخروج منها لما هم فيه من النعيم-كما هو مذهب الصوفية- ولو أُخرج أحدهم منها لصاح ارجعوني ارجعوني ردُّوني اهـ ولا أدري كيف يستقيم هذا وأهل النار يقولون كما حكى القرآن عنهم: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا)الآية وقوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون) وقوله تعالى حاكياً عنهم: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) وقال تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) وقال سبحانه: (وماهم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) وقال: (لا يُفَتَّرُ عنهم وهم فيه مبلسون) ويقول سبحانه عن جهنم:(كلا إنها لظى نزاعةً للشوى) ووصف الله النار بأوصاف كثيرة غاية في الفظاعة وأنها بئس مثوى الظالمين وأنها بئس المصير وبئس المهاد وبئس القرار وآيات كثيرة جداً يخوِّف الله بها العباد واصفاً عذابه بأنه عذاب شديد وأنه مهين وغليظ ومقيم وأليم ثم يأتي ابن عربي وثلّّتُه ويضربون بكل ذلك عرض الحائط مستهينين بعذاب الله فما أولاهم بقوله تعالى: (بل هم في شكٍ من ذِكْري بل لمّا يذوقوا عذابِ).قال العلامة ملا علي(116/25)
القاري في رسالته في الرد على أهل وحدة الوجود ص83: "قوله –أي ابن عربي- في فص إسماعيل وكذا في فص أيوب عليهما السلام وكذا في الفتوحات أن الكفار وإن لم يخرجوا من النار لكن في عاقبة الأمر يصير العذاب عذباً لهم بحيث يتلذذون بالنار الجحيم والماء الحميم كما يتلذذ أهل الجنة بالنعيم المقيم -وهذه الدعوى منه في علم الغيب من غير نقل صحيح كفر صريح مع مناقضته لقوله تعالى: (ولهم عذاب مقيم) أي دائم ومعارضته لقوله سبحانه: (ولهم عذاب أليم) وقوله: (لا يخفف عنهم من عذابها) وقوله: (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً) وقوله: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) فإنه صريح في بطلان مذهبه إلى أن قال: فمخالفته هذه مصادمة للأدلة النقلية والعقلية اللتين عليهما مدار علماء الشريعة وعرفاء الحقيقة فيكون كفراً بالإجماع من غير احتمال النزاع"اهـ ونقل العلامة نعمان بن الآلوسي في كتابه محاكمة الأحمدين ص420عن السفاريني عن ابن القيم في حادي الأرواح: إن قول ابن عربي صاحب الفتوحات: أن أهل النار يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم، وتبقى طبيعتهم نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم، قال: وهو مخالف لما علم بالاضطرار من الآيات القرآنية والأخبار المحمديةإهـ قال الآلوسي: وفي فتوحات عربي في الباب الثاني والستين: (فلا بد لأهل النار من فضل الله تعالى ورحمته في نفس النار، فلا يموتون ولا يحيون، فيعطيهم الله تعالى بعد انقضاء موازنة المدد بين العذاب والعمل نعيماً خيالياً مثل ما يراه النائم) الخ هذا الهذيان ثم قال ابن الآلوسي رحمه الله صفحة 426: ومن العجائب ما في كتاب الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ونصه: ثم اعلم أن من أهل النار أناساً هم عند الله تعالى أفضل من كثير من أهل الجنة، وأدخلهم دار الشقاء ليتجلى عليهم فيها فيكونون محل نظره من الأشقياء، وهذا سر غريب وأمر عجيب، يفعل ما يشاء ويختاراهـ وكتب عليه الوالد عليه(116/26)
الرحمة -يعني الآلوسي المفسر محمود والد نعمان- ما نصه: وأنت تعلم أن الله تعالى قال: (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أفترى من أخزاه الله تعالى يفضل من أحله دار رحمته ورضاه. سبحانك! هذا بهتان عظيم. فإن كان لصاحب الإنسان الكامل جواب عن ذلك بزعمه فنسأل الله تعالى أن يجعله من أولئك الإناس يوم الجزاء ليكون محل نظره عز وجل من الأشقياء اهـ.
وحدة الأديان وتصحيح كل الديانات الباطلة ونجاة أصحابها
قال ابن عربي في صـ/113/: "(فإياك أن تتقيَّد بعقد مخصوص، وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها)إه. وهذا تصحيح منه لكافة الديانات الباطلة، ودعوة منه للتمسك بها، والتدين بها جميعاً، وقد عبّر عن ذلك في كتابه الآخر(الفتوحات) بقوله من أبيات:(116/27)
عقد البريةُ في الإله عقائداً ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه(1)
__________
(1) لا شك أن أخطر ما ينتج عن وحدة الوجود هو القول بوحدة الأديان واعتقاد صحّة جميع الأديان الوثنية والمحرَّفة على وجه الأرض والتهوين بالتالي من شأن الإسلام، والاستخفاف به، والدعوة إلى عدم التمسك به وحده، يقول الدكتور محمد مصطفى حلمي: (أما نظرية ابن عربي في وحدة الأديان فقد ذهب فيها إلى أن الدين كله لله، وزاد عليه أن العارف المكمّل هو من نظر إلى كل معبود على أنه مجلى للحق يُعبد فيه، أنكر ما يُعبد من الصور من حيث هي أعيان وعبد الله في تلك الصور من حيث هي مجال يتجلى فيها المعبود الواحد الحقيقي، ومن هنا كانت العبادة الباطلة هي أن يقف العبد عند مجلى واحد يقصر عليه عبادته من دون بقية المجالي(يعني وثناً واحداً دون بقية الأوثان أو دين الإسلام دون بقية الأديان) ويتخذ من هذا المجلى معبوداً يسميه إلهاً، كما أن العبادة الصحيحة هي أن ينظر العبد إلى الصور على أنها مجال لحقيقة ذاتية واحدة هي حقيقة الإله الواحد، فقد عبر ابن عربي عن نظريته هذه في نصوص كثيرة من كتبه العديدة، حسبنا أن نثبت منها أبياته:=
=لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
وبيت لأوثان وكعبة طائف
أدين بدين الحب أنّى توجهت
فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
وألواح توراة ومصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني وإيماني
اهـ من كتابه الحياة الروحية/182/. ويقول الدكتور فيصل بدير عون في(كتابه التصوف الإسلامي)/صـ314/: (أما فيما يتعلق بوحدة الأديان فأمر متوقع من مذهب انتهى إلى القول بأن الكثرة وهم، والتعدد خداع من خداع الحواس وقصور من العقل البشري لأن الحق والحقيقة والعين واحدة كلها، كيف لا وكل هذه الكثرة الظاهرة ليست إلا مرايا أو مجالي أو صور تتجلى من خلالها الحقيقة الواحدة ألا وهي الذات الإلهية إذ سوف يكون مصدر الأديان كلها من ثم واحداً، ولذلك فإن العارف الحق هو من يعبد الله في كل الصور وهو من يسع صدره لكل مظاهر العبادة، لأن عبادتي لأي موجود من الموجودات وفي أي مكان من الأمكنة وعلى أية صورة من الصور إنما هي -في الحقيقة-عبادة لله وحده، ولهذا يصرح ابن عربي بقوله: فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء. ويقول: والعارف من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك، وعلى ضوء ذلك يمكن أن تفسر أشعار ابن عربي والتي قال فيها:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لراهب.. إلخ
جج
وقوله:عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه"اهـ.
ج
وبقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه حقيقة التوحيد صـ16: (ومن فروع هذا التوحيد(عند أهل وحدة الوجود) وثماره: أن فرعون ونمرود وأمثالهما مؤمنون كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة. وأن عباد الأصنام إنما عبدوا عين الله لا غيره. فهم على الحق والصواب)اهـ ويقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتابه صوفيات صـ36: (أما ابن عربي فرأيه في ربه أظهر من أن يخفى. إنه يراه كل كائن، وكل موجود، ولهذا كان عباد الصنم عنده ناجين، وعباد العجل فالحين، وما أخطأ المسيحيون -عند ابن عربي- إلا بسبب أنهم قصروا العبادة في مظاهر ثلاثة، وكان واجباً عليهم عبادتهم إياه في كل مظاهره، فمن عبد الحجر فقد عبد ربهم المتجلي في صورة الحجر. وهكذا، إذ يقول ابن عربي: (فإن العارف من يرى الحق في كل شيء= =بل يراه عين كل شيء) اهـ. قلت: ومن ذلك قول الشاعر جلال الدين الرومي الصوفي في ديوانه: (مسلم أنا، ولكني نصراني، وبراهمي وزرادشتي ليس لي سوى معبد واحد، مسجداً أو كنيسة، أو بيت أصنام) اهـ. ومن ذلك قول الزنديق التلمساني: (وأنا ما أمسك شريعة واحدة)اهـ. ومن ذلك قول أحد زنادقة حلب المعاصرين(هو أحمد الحسون): (ينبغي ألّا يُقَيَّد الإيمان في زاوية ضيقة(يعني الإسلام) بل الإيمان أوسع من أن يقيّد، فلذلك لما قيّدْنا ساحة الإيمان صغّرْنا معارفنا وإذا وسّعْنا دائرة الإيمان كبّرْنا معارفنا)اهـ. ومن اعتقادات الصوفية التي يتدرجون بها إلى عقيدة الوجود: أن الفاعل على الحقيقة هو الله، وأن إرادة العبد مجازية وفعله ليس منه إنما هو فعل الله على الحقيقة؛ فإذا زنى الزاني، فالزاني على الحقيقة هو الله، وهذه مشتركة بين أهل وحدة الوجود وأهل الكلام كالأشاعرة. وسنذكر فيما بعد تأثر أهل وحدة الوجود بما يسمى علم الكلام. ومن ذلك قول التيجانية في كتابهم جواهر المعاني(صـ221): (إن الكفار والمجرمين والفجرة والظلمة ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره) إه. ولا يخفى أنه باعتقاد وحدة الوجود يفقد الإسلام قيمته، طالما أن كل الأديان محقة، وقد تنبّه لهذه الحقيقة بعض أذكياء الكفار(وهو نيكلسون)الذي يقول_كما نقل عنه الوكيل في كتابه هذه هي الصوفيةصـ51_: (إن الإسلام يفقد كل معناه، ويصبح اسماً على غير مسمى، لو أن عقيدة التوحيد المعبر عنها(لا إله إلا الله) أصبح المراد بها: (لا موجود على الحقيقة إلا الله)، وواضح أن الاعتراف بوحدة الوجود في صورتها المجردة قضاء تام على كل معالم الدين المنزل لهذه المعالم يمحوها محواً كاملاً) اهـ والواقع إن الصوفية في دعوتهم لوحدة الأديان منسجمون مع باقي الفرق الباطنية الغالية كالبهائية في هذا العصر فاسمع إلى زعيمهم البهاء الميرزا حسين يقول –كما نقل عنه الشيخ علي العلياني في كتابه أهمية الجهاد في الإسلام صـ508-: "يجب على الجميع ترك التعصبات، وأن يتبادلوا زيارة الجوامع والكنائس مع بعضهم البعض، لأن اسم الله في جميع هذه المعابد مادام الكل يجتمعون لعبادة الله فلا خلاف بين الجميع فليس منهم أحد يعبد الشيطان فيحق للمسلمين أن يذهبوا إلى كنائس النصارى وصوامع اليهود وبالعكس يذهب هؤلاء إلى المساجد الإسلامية" اهـ. وقد نشط دعاة وحدة الأديان هذه الأيام في بلاد المسلمين –مستغلين وحدة الوجود عند الصوفية- يعقدون الندوات والمؤتمرات ويتنادون إليها من كافة الأقطار والهدف هو ضرب الإسلام بحيث لا تبقى لدين= =التوحيد ميزة وقد تكللت جهودهم أخيراً بإنشاء مبنى في بعض البلدان الإسلامية يضم مسجداً وكنيسةً وكنيساً في مجمع واحد ولا حول ولا قوة إلا بالله.(116/28)
يقول الشيخ مصطفى صبري في كتابه موقف العقل(3/258): (وإني أنصح لإخواني المسلمين المتصوفين تجاه هذه التلاعبات بالحق وعقول الخلق أن لا يشغلوا بالهم بالأفكار التي تسوق الإنسان إلى الشك في البديهيات، وفي كل شيء حتى في وجوده ووجود الكون مغايراً لوجود الله، وتخلط الخالق بالمخلوق، والتي لا محل لها في الإسلام. وعند النظر الصحيح أنصح لهم أن يبغوا التصوف في امتثال ما أمرهم الله ورسوله، واجتناب ما نهاهم عنه فلا ينفعهم بين يدي الله قول الشيخ الأكبر أو الشيخ الأصغر، ولا ينجيهم التعويل بالألقاب والأقطاب في موقف يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً) وهو القائل: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا) . فأين هذا من قول الشيخ في فص هود: (فإياك أن تتقيد في الله بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات. فإن الله أعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ووجه الشيء حقيقته، وقال الشارح في تفسير صور المعتقدات، أي: التي يعتقدها في الله جميع الناس في سائر الملل –هذا ما يوصيك به شيخك الأكبر أيها المتصوف والله تعالى يقول: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين) فاختر ما شئت منهما) إهـ وقال مصححاً عبادة بني إسرائيل للعجل/صـ192/: (وكان موسى أعلم بالأمر من هارون، لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ الله قد قضى ألّا نعبد إلّا إيّاه، فكان عتب موسى أخاه هارون؛ لمّا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإنّ العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء)اهـ. قال الحافظ العراقي في كتاب خاص لنقض كلام ابن عربي وتكفيره، وقد نقل منه الإمام البقاعي كثيراً في كتابه(تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي)/صـ121/: (هذا الكلام(116/29)
كفرٌ من قائله من وجوه: أحدها: أنّه نسب موسى عليه السلام إلى رضاه بعبادة قومه للعجل. الثاني: استدلاله بقوله تعالى(وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه) على أنّه قدَّر أن لا يُعبد إلّا هو، وأنَّ عابد الصنم عابد له. الثالث: أنّ موسى عليه السلام عتب على أخيه هارون عليهما السلام إنكاره لما وقع، وهذا كذب على موسى عليه السلام، وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبه لعبادتهم العجل. الرابع: أنّ العارف يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فجعل العجل عينَ الإله المعبود، فليعجب السامع لمثل هذه الجرأة التي لا تصدر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان)اهـ كلام العراقي. قلت: فسّر الزنديق ابن عربي قوله تعالى: (وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه) بمعنى قدَّر من القضاء والقدر، وإنّما هي في هذا الموضع بمعنى أمر ووصّى وحتّم كقوله تعالى في سورة الأحزاب: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) يعني: إذا أمر. ويتضح ذلك بإكمال الآية: (وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إياه وبالوالدين إحساناً) فعلى قول ابن عربي كل الناس محسنون لوالديهم بارِّين بهم مع أنّ الواقع خلاف ذلك فأكثر الناس خالفوا أمر الله فعقوا آباءهم، لأنّ الله أمرهم فعصى بعضهم وأطاع آخرون، إذ لوكان معنى قضى: قدَّر-ما وُجِدَ عاق، ثمَّ إنَّ الله سبحانه كذَّبه فقال عزَّ مِنْ قائل: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) فأثبت أنّ هناك من يعبد غير الله، وقال لنبيه: (قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون)، فمعنى قضى في هذه الآية إذاً: أمر ووصّى كما تقول قضى القاضي: أي أصدر أمراً، فقد يُنفَّذ وقد لا يُنفَّذ.
تلخيص بعض كفريات ابن عربي في كتابه الفصوص والفتوحات
1ـ دعوى أن الله عين الأشياء والمخلوقات(وكل كتابه الفصوص يدور حول ذلك).
2ـ إنكار التكليف وأن العبد رب والرب عبد.(116/30)
3ـ الطعن في الأنبياء وتخطئتهم في إنكار الشرك مثل طعنه في موسى وابراهيم ونوح...إلخ
4ـ دعوى أن الأنبياء يأخذون ويستفيضون من خاتم الأولياء وأن رتبته فوق خاتم الأنبياء.
5ـ إنكار العذاب للكفار وأنهم في عذوبة ونعيم لا في عذاب وجحيم.
6ـ تصحيح عقائد الكفار وأهل الملل جميعاً مثل ثنائه على قوم نوح...الخ.
7ـ اعتقاد إيمان فرعون وكل الكفرة.
بعض أكابر المجرمين المعتقدين بوحدة الوجود
وممّن اعتقد بعقيدة وحدة الوجود ودعا إليها عمر بن الفارض(هلك عام632هـ) وله ديوان شعر كامل في تقريرها لا سيما قصيدته التائية التي جاوزت أبياتها المئات، ومنها قوله:
وإياك والإعراضَ عن كل صورةٍ
ترى صور الأشياء تجلى عليك من
إذا ما أزال الستر لم ترَ غيره
ج ... مموّهة أو حالة مستحيلة
وراء حجاب اللبس في كل خلعة
ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
ج
ثمّ يقول إنّه يصلي لنفسه -عندما يصلي-لأنّه هو الله:
وما كان لي صلّى سواي ولم تكن
ج ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعةِ(1)
__________
(1) لقد صرح أحمد حسون النقشبندي في خطبة له مسجلة عن الإسراء والمعراج بأن الله يصلي –الصلاة المعهودة- ثم قال: فيا تارك الصلاة، ألا تتشبّه بربك؟ ألا تقتدي بربك؟ إن ربك= =يصلي وأنت لا تصلي؟ وهذا موافق لقولهم إن الله هو العابد وهو المعبود كما قال ابن الفارض وكما قال كبيرهم ابن عربي:
الرب عبد والعبد رب
يا ليت شعري من المكلف(116/31)
والتائية هذه تكاد تكون شرحاً لفصوص ابن عربي. قال الشيخ علاء الدين البخاري(توفي841هـ): (لا فرق بين التائية والفصوص إلّا بكونه نثراً وكونها نظماً)إه. وذكر الطوسي في(اللمع/495) أنّ أبا حمزة الصوفي دخل دار الحارث المحاسبي فثغت الشاة فشهق أبوحمزة شهقة وقال: لبيك سيدي!! وسمع الحسين النوري كلباً يعوي فقال: لبيك وسعديك!! وقال الشبلي لأحد زواره عند خروجه: أنا معكم حيثما كنتم/اللمع478/. ورُوي أنّ أبا يزيد البسطامي قال سبحاني ما أعظم شاني/تلبيس إبليس344/. وذكر المقدسي في(البدء والتاريخ5/91) عن أبي يزيد قوله: (طلبت الله ستين سنة فإذا أنا هو) إه. والذين قالوا بوحدة الوجود كثيرون منهم ابن سبعين والتلمساني والقونوي وغيرهم.
عبد الكريم الجيلي ووحدة الوجود والأديان(116/32)
ومن القائلين بوحدة الوجود عبد الكريم الجيلي وكان من أصرح القوم في التصريح بهذه العقيدة وكتابه(الإنسان الكامل) كله يدور حولها، فمن ذلك قوله في صـ122مصححاً كل ديانات الكفار زاعماً أنّهم يعبدون الله لأنّه سبحانه عين معبوداتهم إذ ما ثَمّ سواه: (فأمّا الكفار فإنّهم عبدوه بالذات، لأنّه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفَّار من جملة الوجود وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنّه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها. ثم مَنْ عبد الوثنَ منهم فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذوات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا إلّا الله) اهـ. وقوله: بلا حلول ولا مزج؛ أي أنّ الله ليس حالّاً بها بل هي هو، وهو عينها وحقيقتها، فالحلول لا يعبِّر عن المراد إذ يوهم التغاير بين شيئين لذلك نفاه، لأنّ الله-عندهم-هو هذا الوجود بأسره. ثم يقول الجيلي/صـ127/مادحاً النصارى، مصححاً دينهم، ومقراً لهم: (وأما النصارى فإنّهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق سبحانه وتعالى، فهم دون المحمديين، سببه أنّهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثمّ قالوا بعدم التجزئة، ثمّ قالوا بمقدمه على وجوده في محدث عيسى وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي) اهـ. أي أنّ كفر النصارى واعتقادهم الفاسد بأنّ الله ثالث ثلاثة لائق بجنابه، لكنهم قصَّروا فاقتصروا على الثلاثة وكان المفروض أن يعبدوه في كل شيء لأنّه ليس ثلاثة ولا ثلاثين بل هو كل شيء وعين كل شيء!! ثم يمدح الثنوية، ويعدّهم عابدين لله أيضاً: (وأمّا الثنوية فإنّهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنّه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين والضدين... فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه(116/33)
سبحانه فهو المسمَّى بالحق، وهو المسمَّى بالخلق فهو النور والظلمة) إهـ من/صـ125/. ثمّ فضَّل النار على ما سواها من الطبائع كما هو مذهب إبليس، ومدح المجوس لأنَّهم عبدوها فقال/صـ126من كتابه/: (وأمّا المجوس فإنّهم عبدوه من حيث الأحدية... فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شمِّه سواه فعبدوا النار وما عبدوا إلّا الله الواحد القهَّار) إهـ.
النابلسي ووحدة الوجود والأديان
ومن صناديد القائلين بوحدة الوجود عبد الغني النابلسي(توفي عام 1143هـ) وقد صرَّح بهذه العقيدة في كتابه(الفتح الرباني) والأولى أن يسمى الفتح الشيطاني قال(صـ51): (وأمّا الذنب بحسب باطن الأمر الإلهي المسمَّى الحقيقة فهو: الموافقة للرب سبحانه وتعالى في شيء مما أراد بنفسه من نفسه بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه) إه. أي أنّ الله موافق على الذنب ويريده بمعنى يحبه ويرضاه -عندهم- ولعل هذا معنى قول الصوفية الذي يرددونه: (أقام العباد في ما أراد). ولا يخفى أن الإرادة غير الرضا ولكن هؤلاء المجرمين يجعلونه واحداً بل يوضح النابلسي هذا المعنى أكثر فيقول: (فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته) إه. ويقصد النابلسي بقوله في النص الأول: (التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه)؛ أي أنّ الله هو كل شيء، فالمبلِّغ عنه محمد هو الله نفسه، والمبلَّغ إليهم البشر هم الله نفسه. ثمّ يوضح ذلك فيقول(صـ51): (ما ثَمّ إلّا ذات، وصفات، وصفات صفات وهي الأفعال ومنفعلات وهي العالَم، فالأول هو المعبود، والثاني الموصل إليه وهو الوساطة، والثالث هو العابد، والرابع هو العائق والمانع، والأول مرتبة الله تعالى، والثاني مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم، والثالث مرتبة المؤمنين، والرابع مرتبة الشيطان، وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد، لكنَّه تنزَّلَ وتَفصَّل، فظهرت له هذه الأطوار وتعددت وجوداته) إه. وما أشبه قوله(بأنّ هذه الأربعة شيء(116/34)
واحد) بقول النصارى(بأنّ الثلاثة شيء واحد)! ولكنَّ النصارى قَصَّروا فاقتصروا، وهو عَمَّمَ، والملاحظ أنّه جعل البشر كلهم مؤمنين فقال: (والثالث مرتبة المؤمنين). ولم يقل المؤمنين والكافرين، لأنّ البشر في-عقيدة وحدة الوجود-كلهم مؤمنون عابدون لله، لأنّهم هم ومعبوداتهم عين الله(تعالى الله عن ذلك)(1)
__________
(1) ممّن صرّح بوحدة الوجود من المعاصرين ولم يكفِّر اليهود والنصارى وغيرهم ولم يعدّهم من أهل النار بل لم يجد في الأرض كافراً الشيخ أحمد كفتارو النقشبندي (مفتي سورية) فقد جاء في ورقة الجمعة28من ربيع الثاني سنة1419هـ من تقويم أبي النور الذي يصدره كفتارو ما يلي: "هل العالم اليوم في حالة كفر؟ وهل خُلق الأميركيون والأوربيون وغيرهم حطباً لجهنم؟ إن بعض= =المشتغلين في الحقل الإسلامي يجيب على هذا السؤال ببرودة أعصاب، نعم، غير عابئ بما يمكن أن يقذف مثل هذا الجواب من شكوك في نفوس الشباب، إضافة إلى ما يؤججه من نار البغضاء والعداوة في نفوس غير المسلمين تجاه الإسلام. أما الشيخ أحمد كفتارو فقد كان له رأي آخر.. لقد صرّح مراراً بأنه لا يكاد يجد في هذا العالم كافراً..!!" انتهى من التقويم المذكور. وهذا من أعجب العجب. ولعل من نافلة القول أن نذكر أن الله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه العزيز(6/116): (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)الآية. وقال(12/103): (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)، وقال(5/72): (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم). وقال(5/73): (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة). ومع كل هذا لا يجد كفتارو في الأرض كافراً، ولا يعتقد أن النصارى من أهل النار مع أنهم يعدُّون نبينا كذّاباً رفع الله شأن نبينا. وقد قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم-: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة؛ لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلّا كان من أصحاب النار). مع قول الله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). يقول الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين صـ384: "الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر" اهـ. وقد ذكر العلماء في باب حكم المرتد من نواقض الإسلام أنّ مَنْ لم يُكفِّر المشركين أو شكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كَفَر اهـ وليس الأمر حكراً على هذا الشيخ بل كل عتاة الصوفية نظيفو الصدر تجاه اليهود والنصارى وآخرهم أحمد حسون-مفتي حلب وأحد شيوخ الطريقة النقشبندية -ففي مناظرته مع الشيخ الفزّازي المغربي التي أذيعت من محطة الجزيرة الفضائية في جمادى من عام 1419هـ سأله الشيخ الفزّازي هل النصارى كفار؟ فأبى -بدايةً-أن يكفرهم قائلاً: هم أهل كتاب -يعني أنهم ليسوا كفاراً كما هو مذهب الصوفية بالنظر إلى وحدة الوجود-ولمّا خشي أن يكفره مناظرُه على الملأ لعدم تكفيره للنصارى كما هو مقرر في كتب شيخي الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية وأجمع عليه العلماء أقرّ بكفرهم على استحياء متردداً فيه، وكان قبل ذلك قد جعل المسلمين واليهود والنصارى و القوميين والعلمانيين أمة واحدة مستدلاً على ذلك بقوله تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" ولا شك أنه أخذ هذه العقائد من= =مشكاة وحدة الوجود التي يستوي فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر بل يستوي فيها موسى وفرعون وسترى في هذا الكتاب دفاعهم عن فرعون وجزمهم بإيمانه وسننقل عن أحمد حسون هذا نصوصاً كان صرّح فيها بوحدة الوجود وغيرها من العقائد الضالة في غير ما مناسبة والله المستعان. ثم سمعت الحسونَ هذا في شريط مسجل يقرر لمريديه-في أحد دروسه-أن النصارى مؤمنون مستدلاً على قوله الكفري بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة). قال: ولم يقل الله: (إنما المسلمون أخوة) والنصارى مؤمنون –زعم-ليسوا مسلمين فثبتت إخوّتهم لنا. كذا قال عليه من الله ما يستحق. ولا أدري إن كان عاقل يصدِّق ذلك ويوافق الحسون على ضلاله لا سيما إذا أكمل الآية: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) مع قوله تعالى في الآية قبلها: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). فهل يقول عاقل فضلاً عن مسلم: النصارى داخلون في هذه الآية؟! أهم من طوائف المؤمنين؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم استدلَّ على إيمان اليهود بقول الله عز وجل: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، ولهذا انتصر اليهود على المسلمين لأنهم -زعم-مؤمنون. ثم دعا الحسون في ختام كلامه إلى وحدة الأديان قائلاً: (انتصر اليهود علينا -يقصد قتال اليهود مع العرب-لإيمانهم وانكسرنا لأنا قيَّدنا قضية الإيمان في زاوية ضيقة. والإيمان أوسع من أن يُقيَّد. فلذلك لمّا قيّدنا ساحة الإيمان(أي بالإسلام وحده) صغَّرنا معارفنا وإذا وسّعْنا ساحة الإيمان(أي لتشمل الأديان الباطلة) كبَرنا معارفنا.اهـ بلفظه. وهذا كفرٌ من قائله بلا شك ولله در ابن المقري القائل في مختصر الروضة: (من شكّ في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر) اهـ. وقد أجمع العلماء على أنَّ من صحّح دين اليهود والنصارى أو شكَّ في كفرهم فهو كافر فكيف من عدَّهم مؤمنين!!؟ علماً أن الإيمان أخص من الإسلام وأرفع رتبة. ثم على عقيدة الحسون فكل آية فيها ياأيها الذين آمنوا فالنصارى داخلون فيها والخطاب إليهم موجه !! وكأن الحسون -أبعده الله- لم يقرأ قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" ونترك الحكم على الحسون لعلماء المسلمين الناظرين في أقواله الخطيرة هذه وبالله التوفيق.(116/35)
والنابلسي هذا قد شرح فصوص الحكم لابن عربي فهو من خواصّ القوم، وهو من المنافحين الأشدّاء عن فرعون متَّبعاً في ذلك شيخه ابن عربي الذي قال في الفصوص(صـ201): "قالت: (قرة عين لي ولك). فبه قرَّتْ عينها بالكمال الذي حصل لها، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنّه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئاً من الآثام"إه. وقال -أخزاه الله- (صـ212) مؤكداً نجاة فرعون في الدنيا والآخرة مفترياً على الله: "فنجّاه الله من عذاب الآخرة في نفسه ونجَّى بدنه فقد عمَّتْه النجاة حساً ومعنىً".إهـ.
سبب الدفاع عن فرعون(116/36)
وإنّما دافعوا عن فرعون لاعتقادهم أنّه كان مُحِقَّاً عارفاً؛ عرف أنّه الله فقال: أنا ربكم الأعلى، ففرعون -عندهم-من العارفين(1) قال ابن عربي في صـ210من فصوصه: "قال: (أنا ربكم الأعلى) أي: وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولمّا علمت السحرة صدقه فيما قاله، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، فقالوا له: (فاقض ما أنت قاض، إنّما تقضي هذه الحياة الدنيا) فالدولة لك، فصحَّ قوله: أنا ربكم الأعلى، وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون"إه. قال الحافظ الزين العراقي(كما في تنبيه الغبي/134): "قوله -أي ابن عربي-في قول فرعون: أنا ربكم الأعلى: إنّه صحَّ قوله ذلك، مستدلاً عليه بأن السحرة صدقوه =كذب وافتراء على السحرة، فلقد كذَّبوه، وخالفوه، ودعواه كاذبة، وبها أخذ الله فرعون وأهلكه، فقال تعالى حكاية عنه: (فقال: أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) ثمّ قال الحافظ: ولا شكَّ أنَّ من صحَّ أنّه قال هذا، واعتقده، مع وجود عقله، وهو غير مكره، ولا مجبر الإجبار المجوِّز للكفر، فهو كافر ولا يُقبل منه تأويلها على ما أراد، ولا كرامة، وهذا ما لا نعلم فيه خلافاً بين العلماء بعلوم الشريعة المطهرة في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل الاجتهاد الصحيح"إهـ
__________
(1) بل فضَّلوا فرعون على موسى وراجع الفص الموسوي من فصوص ابن عربي.(116/37)
والصوفية(1) الآن عندما يجزمون بنجاة فرعون وإيمانه يريدون المعنى الذي ذكرناه، ويشيرون بدفاعهم عنه إلى تلك العقيدة الباطلة عقيدة وحدة الوجود. وهلاك فرعون كافراً -وإن كان الشك فيه مخرجاً من ملَّة الإسلام- فهم عندما يفندونه يرمون إلى ما هو أبشع من ذلك وأشد كفراً إلى ما وراء الأكمة من عقائدهم الشنيعة التي قدّمنا ذكرها. فينبغي لمن يردُّ عليهم في هذه الجزئية -أعني إثبات
__________
(1) قد يقول قائل ما لك تعم الصوفية كلهم، هلّا قلت بعض الصوفية؟ والجواب لأن الصوفية الآن بأجمعهم إما يصرحون بهذه الأقوال ويدافعون عن فرعون كشأن الحوت والنبهاني وغيرهم وإما يدافعون عن شيوخهم القائلين بنجاة فرعون كابن عربي والنابلسي وأضرابهم فيلزمهم إن كانوا غير معتقدين بوحدة الوجود وما يتفرع عنها من القول بنجاة فرعون يلزمهم أن يكفِّروا القائلين بها المعتقدين لها كابن عربي والنابلسي أو يُجَرِّموهم والحال أنهم يحبونهم ويعدُّونهم من أكابر أوليائهم والمرء مع من أحب يوم القيامة فلا أقل من أن نجعلهم في الدنيا حزباً واحداً طالما أنهم يحشرون-إن شاء الله- معاً يوم القيامة بل يتمنّون ذلك فلو لم يكونوا معتقدين بهذا لصرحوا على الأقل بأن هذه الأقوال والعقائد كفرٌ ومنافية لدين الإسلام مع بغض قائليها والتحذير منهم وهذا أقل ما يرجى من المسلم الموحد النابذ لهذا الضلال. فأوقِفْني الآن على صوفي يكره ابن عربي أو يكره النابلسي أو يكره الحلاج أو يتبرأ منهم مع أن بغضهم -بسبب الأقوال والعقائد الصادرة منهم- واجب على المسلم لا يصح له إيمان بدونه لقوله صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) بينما تجد الصوفية الآن على العكس من ذلك يفتخرون بهؤلاء المشايخ ويحتفلون بهذه العقائد بل يسألون الله صباح مساء أن يوصلهم إلى هذا الضلال ويغرقهم فيه مثل قولهم: (اللهم أنشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة) فتدبر!(116/38)
هلاك فرعون- أن يعيَ مقصودهم فيتصدَّى لهدم عقائدهم التي أوحت بمثل هذه الترهات، وأفرزت القول بنجاة فرعون من النار، وليس مقصودهم -علم الله- الوقوف عند فرعون فحسب كما رأيت سابقاً. ومع هذا فنحن سنبين بعون الله أنّ فرعون مات كافراً وأنّ مصيره إلى النار وبئس القرار لئلا ينخدع بمقالتهم العوامُ، خاصّة أنّ أرباب هذه النِحلة لهم الرياسة -هذه الأيام- على المساجد والزوايا والمعاهد في بعض البلدان، فربّما لقَّنوها للطلاب والسامعين فألفوها ثمّ يسهل عليهم بعدها الدخول في أتون تلك الطامَّات، فلا يكادون يخرجون منها، ولا يهتدون سبيلاً إلّا سبيل فرعون وشيعته وابن عربي وطائفته!! والواقع إنّ العجب لا يكاد ينقضي عندما يسمع المرء مقالتهم، وأعجب منه محاولة إثبات كفر فرعون ودخوله النار(1)!! فهذه المسألة ظاهرة ولا تحتاج عند المسلم إلى دليل، إذ الإجماع منعقد على ذلك، والبشر متفقون عليه، حتى كأنّهم جبلوا عليه بل من المعروف عند كل أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أنّ فرعونَ أكفرُ خلق الله، فمن شكَّ في دخوله النار فقد خرج من الإسلام بلْه من يرده ! ولا زال الناس يضربون بكفر فرعون وعناده المثَل، حتى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قُتِل أبوجهل وقف عليه وقال: (هذا فرعون هذه الأمة). أخرجه الهيثميُ في المجمع/6/79/، وغيرُه، وهو حديثٌ حسن. فدخول فرعون النار مقطوع به معلوم بالضرورة من دين الإسلام بل حتى من دين اليهود والنصارى، فلا يسع أحداً جهله.
فليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ ... إذا احتاج النَّهار إلى دليلِ!!
تحريف الصوفية للآيات والأحاديث المتعلقة بفرعون
__________
(1) قال بعض العلماء: من أصعب الأمور تقرير البدهيات.(116/39)
ولعله يخطر ببالك بعض الآيات المحكمة كقوله تعالى مبيناً حال فرعون في سورة هود: "يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الوِرْد المورود". فإنّهم مع ظهور معنى الآية يردُّونها ويحرفونها فيقولون: إنّ فرعون يورد قومه النار ولا يَرِد معهم. مع أنّ اللغة لا تسمح بذلك بل يفهم كل عربي من هذه الآية أنّ فرعون كما كان قائد قومه في الدنيا فهو كذلك في الآخرة عندما يقودهم إلى النار فيكون أولَ واردٍ عليها منهم أليس هو مقدَّمهم!!؟ وكذا في قوله تعالى: "أدخِلوا آل فرعون أشدَّ العذاب"، يقولون: الداخلُ آله لا فرعون نفسه.تأمَّلْ!! مع أن آل الرجل تُطلَق على الرجل نفسه كما هو معروف ويُضم إليه غيره تبعاً. وربما قالوا: المقصود بفرعون في بعض الآحاديث أبو جهل أو فرعون آخر غير فرعون موسى فالفراعنة كُثُر؛ لذا فلا يَرِدُ عليهم قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الصلاة يوماً: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف" رواه أحمد بسندٍ جيدٍ والطبراني وابن ماجة. مع أن كل عاقل لا يشك أبداً ولا يخطر بباله أصلاً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد به فرعون المعروف والمعهود عند المُخاطَبين المذكور في القرآن لا سيما أنه قُرن بهامان وقارون وهو مطابق لما في القرآن (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطانٍ مبين. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحرٌ كذَّاب)"غافر24" (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبيِّنات فاستكبروا في الأرض وماكانوا سابقين فكلاً أخذنا بذنبه)الآيات"العنكبوت39" أفيعقل أن يقصد النبي صلى الله عليه وسلم غير فرعون المعروف للمسلمين بل حتى لليهود والنصارى!! لا شك أن هذا الفهم من هؤلاء الباطنية زندقة وكفر. وربما قال بعضهم: المقصود بفرعون فرعون النفس لا فرعون موسى وكل إنسان فيه نفس فرعونية..إلى(116/40)
آخر تحريفاتهم وتأويلاتهم الباطنية الخبيثة. ولذلك سأختار كلام النابلسي في كتابه(لمعان الأنوار في المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) لأني رأيته أصرح من دافع عن فرعون وأكثرهم تمحُّلاً وإيراداً للشبهات في هذا الباب إذ قَطَع -في كتابه المذكور- بعدم دخول فرعون النار يعني إنه في الجنة ثمّ أُتبعه الرد، وسيكون الرد -إن شاء الله حاسماً- لا يقبل تأويلهم وتحريفهم.
إثبات هلاك فرعون على الكفر وخلوده في النار ودحض شبهات الصوفية(116/41)
يقول النابلسي في كتابه لمعان الأنوار (صـ34): "وأمّا فرعون موسى فإنّه آمن عند غرقه في البحر بنص القرآن. قال تعالى: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنّه لا إله إلّا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل)الآية [لم يتم الآية] فمن نفى قبول الإيمان يحتاج إلى دليل"اهـ. قلتُ: الدليل قريبٌ جداً في نفس الآية، ولكنّ النابلسي لم يكملها قصداً، فقد قال الله رادّاً على فرعون لمّا آمن عند رؤيته العذاب وإحاطة الماء به وتيقَّن أنّه من المغرقين: "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" فبيَّن سبحانه أنّ هذا ليس أوان قبول الإيمان كما هي سنته عزّ وجل في الأمم المكذِّبة وإيمانها عند نزول العذاب بها، إذ الأصل عدم قبول إيمان المعذَّبين في الأمم الخالية عند نزول العذاب بهم ورؤيتهم له، قال تعالى في سورة غافر: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشدّ قوّة وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبونO فلمّا جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئونO فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين O فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون". فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنّ السابقين من الأمم المعذَّبة كانوا إذا نزل العذاب بساحتهم ورأوا بأس الله آمنوا يقيناً وقالوا: "آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين". ولا شكَّ أنَّ هذا الإيمان منهم قبل الغرغرة بكثير، وذلك عند رؤية البأس والعذاب، فهو إيمان حقيقي، ولكن جرت سنة الله أن لا يقبل هذا الإيمان، لِأنّه جاء متأخراً بعد فوات الأوان، إذ لم يؤمنوا حتى نزل العذاب بهم ورأوه، فلا يُحمدون على هذا الإيمان، ولا ينتفعون به: "فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأو ا بأسنا". وهو كإيمان الناس يوم القيامة، وكإيمان الناس جميعاً -في آخر الزمان- عندما(116/42)
تطلع الشمس من مغربها، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل"رواه البخاري ومسلم. ولمَّا بعث النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمن نزول العذاب العام المهلك على البشر -على عكس الحال في الأمم الخالية المكذبة لأنبيائها- فتقبل توبة المسلم والكافر ما لم يغرغر وما لم تطلع الشمس من مغربها. أمّا الأمم المعذّبة الغابرة كفرعون وقومه، وعاد، وثمود، وغيرهم، فكان انتهاء مدة قبول إيمانهم عند نزول العذاب بهم ورؤيتهم له. لِأنّ رؤيتهم العذاب النازل كان بمثابة طلوع الشمس من مغربها. بل إنّ بعض الأمم الماضية كانوا إذا نزل العذاب بهم ورأوه ربَّما ركضوا هاربين، وآمنوا بأجمعهم قائلين: (يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين). ولكن لات حين توبةٍ، قال تعالى في سورة الأنبياء/11/: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين O فلمّا أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون Oلا تركضوا وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه ومساكنِكم لعلكم تُسئلون O قالوا يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين O فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين). وقال تبارك وتعالى في سورة ص/3/: (كم أهلكنا من قبلهم من قرنٍ فنادوا ولات حين مناص). وآيات كثيرة في هذا المعنى. وهذه كانت سنة ثابتة للرب جلّ وعلا في الذين أضلّهم فإنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم الذي يعِدُهم به نبيهم إن لم يؤمنوا، فإذا ما عاينوا هذا العذاب الأليم آمنوا، ولكن أبى الله أن يقبل هذا الإيمان منهم، لِأنّه ليس بِمَلْكِهم، فهو كإيمان الناس يوم القيامة، أو عند طلوع الشمس من مغربها آخر الزمان كما قدّمنا. ولم يستثن الله سبحانه وتعالى أحداً من الأمم في ذلك إلّا قوم يونس، فإنّه -سبحانه - رفع عنهم العذاب، بعد أن تيقنوه فآمنوا، وذلك ليكون درساً لنبيهم يونس عليه الصلاة(116/43)
والسلام الذي أيس منهم وذهب مغاضباً، فأراد الله تبارك وتعالى أن يعطيه وغيره من أنبياء الله درساً في الصبر على الدعوة، والتفاؤل بإيمان القوم وعدم اليأس منهم. قال تعالى في سورة يونس96: "إنّ الذين حقَّتْ عليهم كلمت ربك لا يؤمنون O ولوجاءتهم كلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم Oفلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلّا قومَ يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتّعناهم إلى حين". فإن قال قائِلٌ: قد صدّقنا وسلّمنا أنّ الأمم المعذّبة الماضية لا تؤمن بالله حتى ترى العذاب الأليم ولكنّ الله لا يقبل الإيمان -كما جرت سنته التي خلت- إلّا قوم يونس فإنّه -سبحانه- قد استثناهم، فهل مِنْ دليل على أنّ فرعون ما آمن حتى رأى العذاب الأليم؟ فلعله آمن قبل أن يرى العذاب الأليم، فإن كان ثمّة دليل على أنّ إيمان فرعون كان عند رؤية العذاب الأليم فأوردْه هنا كي تطمئن قلوبنا؟ فأقول وبالله أستعين: قد ثبت في محكم القرآن -ولله الحمد- أنّ فرعون ما آمن حتى رأى العذاب الأليم، قال تعالى في سورة يونس/88: "وقال موسى ربنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم O قال قد أُجيبت دعوتكما". فها قد ثبت -ولله الحمد- أنّ الله تبارك وتعالى قد استجاب دعاء موسى وهارون على فرعون وملأه بأن لا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وهذا العذاب هو الغرق(حتى إذا أدركه الغرق). وقد علمتَ أنّ الله لا يقبل هذا الإيمان. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى قد قال: (وإنّ فرعون لعالٍ في الأرض وإنّه لمن المسرفين). وقال في آية أخرى: (وأنّ المسرفين هم أصحاب النار). وأخبرَنا سبحانه أنّ فرعون (صُدَّ عن السبيل). فربنا تبارك وتعالى كان يعلم من قبل أن يرسل موسى أنّ فرعون من أهل النار، كما قال حاكياً قول موسى: "وإنّي لأظنك يا فرعون مثبوراً".(116/44)
فهذا ظنٌّ متحقق بيقين، وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً). رواه الطبراني/10543/وغيره، وجوّد إسناده الهيثمي، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة/1831/. مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم). رواه مسلم(8/54). وقد أخبرنا الرب سبحانه وتعالى أنّ فرعون وقومه من المقبوحين يوم القيامة، وأنّهم لا يُنصرون، وأنّهم ملعونون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود). وكذلك أخبر الربُّ جلّ وعلا في غير آية من كتابه أنّ فرعون قد حقَّ عليه العقاب فعلاً، وتحقَّق دخوله النار، فقال عزّ مِنْ قائل في سورة(ص)/12: "كذَّبتْ قبلهم قومُ نوحٍ وعادٌ وفرعونُ ذوالأوتادO وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب O إن كلٌّ إلّا كذَّب الرسل فحق عقاب". وقال في سورة(ق)/12: "كذَّبت قبلهم قوم نوحٍ وأصحاب الرسِّ وثمود O وعادٌ وفرعونُ وإخوانُ لوط O وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع كلٌّ كذَّب الرُّسلَ فحقَّ وعيد). والوعيد في هذا الموضع جاء بصيغة الخبر الواقع حتماً، وأنت خبير أنّ الأخبار لا تُنسخ كما تقرّر في الأصول، فثبت المراد من دخول فرعون النار والحمد لله. ثمّ قال الزنديق النابلسي: "وما ورد من أنّ جبريل عليه السلام كان يأخذ من طين البحر ويضع في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة لم يثبت. ويمكن الجواب عنه أنّ دسّ الطين خشية أن يرحمه الله ونحوه لا يمنع من حصول الرحمة له بقبول الإيمان كما لا يخفى، ورحمته سبقت غضبه، ومن المحال أن يقدر على منعها جبريل أو غيره". انتهى كلامه. والحقيقة أنّ هذا الحديث سواء ثبت أو لم يثبت فلا يؤثر في المسألة شيئاً، إذ قد ثبت أنّ فرعون من أهل النار كما بيّنا آنفاً، فهذا الحديث إن لم(116/45)
ينفع فهو لا يضر، على أنّ الشيخ الألباني رحمه الله قد أورده في السلسلة الصحيحة(برقم 2015). ويمكن القول في مقابل قول النابلسي: إنّ عدم دس جبريل الطين في فم فرعون لا يمنع من شقائه وهلاكه كافراً مهما أكثر من التضرّع مراعاة للقاعدة التي قررناها من أنّ سنّة الله الخالية قد مضت في أنّ الكفار المذنبين يؤمنون عند رؤية العذاب ويتوبون ويتلفّظون بجمل كثيرة ولكن لا يُقبل هذا الإيمان مهما أكثروا من التضرّع والندم، لِأنّ الله قد أخذ على نفسه العهد أن لا يقبله منهم(سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) على أنّ إيمانهم هذا -كما بيّنا آنفاً - لا يُحمدون عليه لأنّه كإيمان الناس يوم القيامة، وكإيمان أهل النار في النار ودعائهم لا فرق: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالِّين O ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمونO قال اخسئوا فيها ولا تكلمون). فما قد يُفهم من حديث جبريل أنّ فرعون لولا دسُّ الطين في فمه لكان من الممكن أن تدركه الرحمة من أجل أنّه يكثر من التضرع ونحو ذلك إنّما هو حرصٌ من جبريل عليه السلام على إهلاك فرعون مسارعة لتنفيذ أمر الله، وهو اجتهادٌ منه عليه السلام قبل تحقّق موت فرعون لئلّا يُقبل إيمانه كما قُبل إيمان قوم يونس -خاصة أنّ جبريل لا يعلم الغيب فهو قبل أن يرَ فرعون ميتاً فعلاً على الكفر فقد كان يظنُّ أنّه من الممكن أن تدركه الرحمة- فلما تحقّق موت فرعون غرقاً تأكد لديه عدم قبول إيمانه، وجبريل معذورٌ في هذا الظن لأنّه لم يكن قد تمهّد وتقرر -كما تمهّد عندنا الآن- أنّ الله سبحانه وتعالى لم يستثن من هؤلاء المعذّبين إلّا قوم يونس(1)
__________
(1) على أن بعض المفسرين ذهب إلى أن العذاب قد رفع عن قوم يونس قبل أن يروه، وذهب بعضهم إلى أنه رُفع عنهم بعد أن رأوا علاماته ولم يروا عينه والله أعلم. وكل ذلك لا يَرِد على فرعون لأنه ما آمن حتى رأى العذاب الأليم بنص القرآن، وقد علمنا أنه لا يُقبل. وكان أثر قبول إيمان قوم يونس وعلامته أنْ رُفع عنهم العذاب ومُتِّعوا إلى حين، بينما كانت علامة عدم قبول إيمان فرعون أنْ أخزاه الله فأغرقه، ففيه أكبر رادع لهؤلاء الصوفية عن ضلالهم لو كانوا يعقلون؟(116/46)
أمّا الآن فهذا الفهم مدفوع بما قرّره الرب جلّ وعلا في كتابه المنزل على نبينا من أنّ المعذبين يؤمنون عند رؤية العذاب ويتوبون ولكن لا يقبل إيمانهم ولا تدركهم الرحمة، وقد قدّمنا أنّ مِن هؤلاء مَنْ يهرب من العذاب وهو تائب نادم يقول: (يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين)، ثم لا يزال يكررها حتى يهلك دون أن تدركه رحمة الله(فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين). لِأنّ رحمة الله لا تدرك المجرمين بعد أن حقّ عليهم القول ونزل بهم العذاب، ولم يستثن الله سبحانه وتعالى من ذلك إلّا قوم يونس، تنفيذاً لما كان قرّره سبحانه في سابق علمه من قبول إيمانهم ونجاتهم وليس فرعون من ذلك بشيء، إذ حقّت عليه كلمة العذاب واستجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون عليه وعلى قومه: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. قال قد أُجيبت دعوتكما) بل في هذه الآية التصريح بأنّ فرعون وقومه سيؤمنون عند رؤية العذاب. وقد كان ذلك فعلاً، ولكن لم يُقبل هذا الإيمان كما هي سنته عزّ وجلّ: (فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأو ا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)، ثمّ لو كان الله عزّ وجلّ يريد رحمة فرعون لرحمه(1)
__________
(1) ولو كان الله سبحانه وتعالى يريد رحمة فرعون ما أغرقه، ولو رحمه وقَبِل إيمانه لأنقذه من الغرق فكيف وقد قال تعالى: (وعصى فرعونُ الرسولَ فأخذناه أخذاً وبيلاً) وقال: "فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى" وقال سبحانه: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة، فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) ومن الأدلة الحاسمة قوله تعالى في سورة التحريم الآية11: (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين). فدخول امرأة فرعون الجنة يقابله دخول فرعون النار كما لا يخفى. حيث ضرب الله في هذه السورة مثلين: مثلاً لزوجتين كافرتين من أهل النار –زوجتي نوح ولوط- مع أن أزواجهما أنبياء من أهل الجنة، ومثلاً لزوجة مؤمنة في الجنة –امرأة فرعون- مع أن زوجها أكفر الناس قاطبة ومن أهل النار وإلا لا يبقى معنى لطلبها دخول الجنة والنجاة من فرعون إذا كان يكون معها في الجنة(رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون).(116/47)
على قوله: (آمنت أنّه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)، ولكن أبى الله أن يقبل هذا الإيمان كما هي سنته الثابتة. وقوله هذا كقول أضرابه من الهالكين: (آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين)-(يا ويلنا إنّا كنا ظالمين). فإنّه تبكيتٌ لهم، وعبرة لسواهم حتى يسارعوا بالتوبة والإيمان قبل نزول العذاب، وهو تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم للمسارعة بالتوبة قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ اللذين هما نهاية قبول الإيمان في حقّهم. كما قال تعالى: (يوم يأتي بعضُ آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)؛ أي طلوع الشمس من مغربها كما مرَّ آنفاً. وكذلك قوله تعالى في الزمر/54: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون). وكقوله في النساء/18: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدَهم الموتُ قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً). والمقصود بهذه الآيات المسلمُ المذنبُ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والكافرُ من أمة الدعوة، فهؤلاء تُقبل توبتهم ويُقبل إيمانُهم ما لم تبلغ أرواحهم الحلقوم، لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). أخرجه أحمد في المسند/2/132/، والترمذي/9/521/، وغيرهم، وحسّنه محقق تفسير ابن كثير الشيخُ مقبل بن هادي الوادعي اليماني. وقد تبيّن لك أن هذا غير حكم الأمم المعذّبة كفرعون وأضرابه الذين تُقفل التوبة في وجوههم من لحظة مُعاينتهم للعذاب، قبل الغرغرة بكثير، إذ قد قدّمنا أنّ كثيراً من هؤلاء المهلَكين ربّما ركضوا هرباً من العذاب تائبين إلى الله وهم يقولون: (يا ويلنا إنا كنا ظالمين). على أننا لو سلّمنا جدلاً أنّ حكم فرعون غير حكم هؤلاء وأنّ فسحته إلى الغرغرة فيكون إيمانه أيضاً غير مقبول، لإن إدراك الغرق يساوي الغرغرة، إذ(116/48)
ليس هو أحسن حالاً من أهل هذه الآية التي تخصُّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً) فهذا التائب عند الموت -حيث لا تنفع التوبة- قال: (إني تبت الآن). ومع ذلك لم يقبل الله هذه التوبة، ففرعون الذي قال عندما أدركه الغرق: (آمنت أنّه لا إله إلّا الذي...إلخ) ليس أحسن حالاً من هذا التائب، لا سيما أنّ الله تعالى قد ردّ إيمانه في نفس الآية بقوله سبحانه: (الآن وقد عصيتَ قبل وكنتَ من المفسدين). وإنّما يتعيّن أنّ إيمان هذه الأمم المعذَّبة المردود قد تمّ عند رؤية العذاب وذلك قبل الغرغرة للأدلة القاطعة التي قدّمناها كهروب أكثرهم ودعائهم العريض، والدليل الأقوى في ذلك استثناء قوم يونس منهم: (إلّا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا). فيمتنع أن يكون العذاب قد رُفع عن قوم يونس عند بلوغ أرواحهم حلاقيمهم، عند بلوغهم الغرغرة بأجمعهم، بل يتعين من الآيات أنّ رفع العذاب عنهم قد تمّ عند معاينتهم له وبعد إيمانهم -كدأب غيرهم من الأمم- وذلك قبل الغرغرة بكثير. والمقصود أنّ الأمم السابقة كانت عند رؤية العذاب تتضرّع إلى الله، وتؤمن به، وتتوب إليه، وتعبِّر عن إيمانها وتوبتها بجمل كثيرة ولكن لا يُقبل هذا الإيمان -إلّا قوم يونس -لأنّه جاء في غير أوانه. فسواءً دُسَّ الطين في فم فرعون أو لم يدسّ وسواءً تضرّع أو لم يتضرّع لا ينفعه ذلك، لأنّه ما آمن حتى رأى العذاب الأليم، ولكن لحرص جبريل عليه السلام على تنفيذ ما أُنزل لشأنه من إهلاك فرعون بادَرَ بدسّ الطين في فم اللعين فهلك كافراً، فبعداً له من هالك لعين. وقول الزنديق النابلسي: "إن دسّ الطين خشية أن يرحمه الله ونحوه لا يمنع من حصول الرحمة له بقبول الإيمان كما لا يخفى ورحمته تعالى سبقت غضبه، ومن المحال أن يقدر على(116/49)
منعها جبريل أو غيره". يمكن الجواب عنه أيضاً: بأنّ رحمة الله(1)لا تشمل الكافرين قال تعالى(6/147): "فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمةٍ واسعةٍ ولا يُردُّ بأسه عن القوم المجرمين". وفرعون وقومه من القوم المجرمين قال تعالى: "ثمّ بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين". وقال تعالى(23: 29): "والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم". ثمّ إنّ جبريل لم ينزل من السماء إلّا لإهلاك فرعون، فما فعله من دسِّ الطين -مُنفِّذاً أو مجتهداً - فبإذن الله ورضاه، قال تعالى: (ما ننزل الملائكة إلّا بالحق وما كانوا إذاً منظرين). وقال سبحانه في صفة الملائكة: (لا يسبقون بالقول وهم بأمره يعملون). فتأمّل مدى ضلال القوم وقد تبيّن لك شدّة كيدهم، يعتمدون لنصر باطلهم على أوهى من خيوط القمر ونسج العنكبوت، ولكن الله يقول الحق ويهدي السبيل وهو لهم بالمرصاد: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون). والحق أن كفر أهل وحدة الوجود أشد من كفر اليهود والنصارى، فإنّ اليهود والنصارى لم يقولوا إلّا بالحلول في بعض الأشخاص، ولم يتوسعوا هذا التوسُّع، وإنّما ادّعته اليهود في عزير، وادّعته النصارى في عيسى ولم يجاوزوه إلى القول بأنّ الله كل شيء. فهم أقل شراً من ابن عربي وأتباعه. وإنّ قوماً اليهود والنصارى خير منهم لقوم سوء، بل إنّ فرعون الذي يدافعون عنه أقل خطراً منهم في الاعتقاد، فلقد افتروا على البائس وحمّلوا كلامه ما لا يحتمل، فهو لم يقل إلّا: (أنا ربكم الأعلى)، ولم يجعلهم كلهم أرباباً وآلهة، بل قال: (ما علمت لكم من إله غيري)، وهو في نفسه كان يعلم صدق موسى كقومه، واستيقن آيات الله لمّا جاءته، ولكنّه لعناده وكبره وحرصه على التسلط والملْك كذّب بها وجحدها كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
__________
(1) أي بالمغفرة وحسن الخاتمة.(116/50)
ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين). وقال في آية أخرى: (قال لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلّا رب السماوات والأرض بصائر وإنّي لأظنك يا فرعون مثبورا). ولم يَدُرْ في خلده ما قرّره هؤلاء الصوفية واعتقدوه.
فتاوى أكابر العلماء في تكفير ابن عربي وطائفته
ولأجل هذا كفّر العلماءُ ابنَ عربي وطائفته -جيلاً بعد جيل- من عصره إلى الآن، وكثير من العلماء السابقين أفرد لهم كتاباً خاصاً لتكفيرهم وتفنيد عقائدهم الضّالّة، وتكفير مَنْ يؤوِّل كلامهم ويعتذر عنهم، كالإمام البقاعي(توفي عام885هـ)، واسم كتابه(تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) وهو مطبوع متداول، وللإمام الفاسي(توفي عام 832هـ) كتابٌ شبيه بهذا الاسم، وكذلك الحافظ العراقي، وقد نقلنا بعض النصوص من كتابه آنفاً، وغيرهم كثير، بل لا تكاد تجد عالماً من الأعلام إلّا تكلّم فيهم وكفّرهم وحذّر منهم، كالعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر العسقلاني والبلقيني والسبكي وابن دقيق العيد والحافظ ابن كثير والحافظ المزي والمفسر أبي حيان وابن الجزري وابن هشام وابن خلدون والحافظ ابن الصلاح والقسطلاني وغيرهم، ذكر منهم البقاعي في كتابه المذكور نحواً من سبعين عالماً، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه(لسان الميزان4/319) في ترجمة ابن الفارض بعد أن ذكر ترجمة الذهبي له بأنّه شيخ الاتحادية وأنّه ينعق بالاتحاد الصريح في شعره: "وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن عربي فبادَرَ بالجواب بأنّه كافر. فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحب التكلم فيه، فقلتُ: فما الفرق بينهما والمهيع واحد؟! وأنشدته من التائية فقطع عليّ بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر هذا كفر"اهـ. وقال الحافظ ابن كثير: "وهؤلاء كلهم يقتفون في مسالكهم هذه طريقة الحلاج الذي أجمع الفقهاء في زمنه على كفره وقتله، قاله الإمام المازري، وقد بسطتُ سيرته في التاريخ(البداية(116/51)
والنهاية) بعد الثلاثمائة، وذكرت صفة قتله، واجتماع الكلمة على تكفيره من العلماء. . سوى ابن عطاء وابن خفيف حتى أنشدهما بعضهم من شعره قائلاً: ما تقولون في قول بعض الشعراء:
سبحان من أظهر ناسوته
ثمّ بدا في خلقه ظاهراً
حتى لقد عاينه خلقه ... سر سنا لاهوته الثاقب
في صورة الآكل والشارب
كلحظة الحاجب للحاجب
ج
فقالا: هذا شعر الزنادقة، فقال: هذا شعر الحسين بن منصور الحلاج، فلعنا الحلاج، ورجعا عنه"اهـ من تنبيه الغبي صـ177. وقال الحافظ الذهبي في كتابه(تاريخ الإسلام) بعد خط الحافظ سيف الدين بن المجد على الحريري المتصوف: "فكيف لو رأى الشيخُ كلامَ ابن عربي الذي هو محض الكفر والزندقة، لقال: هذا هو الدجال المنتظر، ولكن كان ابن عربي منقطعاً عن الناس، إنّما يجتمع به آحاد الاتحادية، ولا يصرح بأمره لكل أحد، ولم تشتهر كتبه إلّا بعد موته، ولهذا تمادى أمره، فلمّا كان على رأس السبعمائة جدّد الله لهذه الأمة دينها بهتكه وفضيحته، ودار بين العلماء كتابُه الفصوص، ثم ذكر الذهبي أنّ الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبري لمّا اجتمع بابن عربي قال: رأيت شيخاً نجساً يُكذِّب بكل كتابٍ أنزل الله، وبكل نبيٍ أرسله الله"اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له: "ويكفيك معرفة بكفرهم -يعني ابن عربي وأتباعه- أنّ أخفّ أقوالهم: أنّ فرعون مات مؤمناً، وقد علم بالاضطرار عن دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أنّ فرعون من أكفر الخلق بالله"اهـ. وقد نقل السبكي وابن كثير والبقاعي والقاري في رسالته(الرد على القائلين بوحدة الوجود) ص34 وغيرهم عن ابن دقيق العيد القائل في آخر عمره لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تعالى: وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً. وقال القاري ص130: نقل الجزري بسنده الصحيح إلى العز بن عبد السلام أنه(116/52)
قال في حق ابن عربي: إنه زنديق. وقال القاري في رسالته المذكورةص128: (إن مضرة مذهبه وشرارة مشربه أضر من الدجال ونحوه، وأشر من تصانيف النصارى، لأن كل أحد من أهل الإسلام يظهر لهم بطلان كلام الدجال وأقوال النصارى في الحال، وكلام ابن عربي في قلب الغبي الجاهل بعلوم النبي عليه السلام مثل السم في المسام) وكان قد قال ص60: (ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة اتحادية في الدرك الأسفل من النار) إهـ وللقاري رسالة(فرّ العون ممن يدعي إيمان فرعون) نوّه بها في كتابه السابق قال محققه علي رضا: قد وقفت عليها وهي مخطوطة. وذكر المحقق ص95 أن إبراهيم بن محمد الحلبي خطيب وإمام جامع السلطان محمد الفاتح بالقسطنطينية من المكفِّرين لابن عربي وله فيه رسالة قيمة هي (تسفيه الغبي في تنزيه ابن عربي) انتهى من تحريرها عام 945هـ. ونقل القاري ص136عن السبكي أنه قال في شرحه على المنهاج عن ابن عربي وأتباعه: بأنهم ضلال وجهال خارجون عن طريق الإسلام فضلاً عن العلماء الكرام اهـ قال السيد نعمان الآلوسي في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ص70: "من نص على التكفير بناء على كلامه –أي ابن عربي-المخالف للشريعة المطهرة، وألفوا في ذلك الرسائل العديدة المطولة والمختصرة؛ فمنها للعلامة السخاوي ومنها للفهامة المدقق السعد التفتازاني، ومنها للمحقق المنلا علي القارئ ومنهم من ذكره في تصنيفاته ولم يؤلف فيه كتاباً مستقلاً كالإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ فإنه ذكره(في لسان الميزان) وحَطَّ عليه، ونسب إليه سوء الاعتقاد وأبي حيان المفسر في تفسيره البحر والنهر قال في الشذرات: ولقد بالغ ابن المقري في روضه فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي. (ونقل قول العز السابق وقول الحافظ أبي زرعة ثم قال) وكذلك شيخنا سراج الدين البلقيني، صرح بكفر ابن عربي، وكذا رضي الدين أبو بكر محمد المعروف ابن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد الناشري الشافعيان، وجملة(116/53)
من العلماء. وقال العلامة أبو حيان عند تفسير قوله تعالى في المائدة (لقد كفر الذين قالوا) الآية مانصه. ذكر تعالى أن من النصارى من قال: إن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة. وتقدم أنهم ثلاث طوائف. ملكانية، ويعقوبية، ونسطورية، وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً، ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج،والشوزي، وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق، وابن الفارض، وأتباع هؤلاء كابن سبعين، والششتري تلميذه، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وابن التاج، وابن الحسن المقيم كان بلودقة، وممن رأيناه يرمى بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني، وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق، وعبد الواحد المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأبلي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ الششتري المقيم كان بحارة زويلة في القاهرة، والشريف عبد العزيز المنوفي وتلميذه عبد الغفار التومي.وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله تعالى -يعلم الله تعالى ذلك- وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين كذبوا الله ورسوله، ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث وقد أولع جهله ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله تعالى وأولياؤه. والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين، انتهى بحروفه) اهـ من جلاء العينين. وفي الدر المختار للحصكفي الحنفي (أن شيخ الإسلام أبا السعود سئل هل أن فصوص الحكم لابن عربي خارج عن الشريعة، وقد صنفه للإضلال ومن طالعه صار ملحداً؟ فأجاب: نعم)اهـ. وفي حاشية ابن عابدين (الجزء الرابع) أن بعض ملوك(116/54)
العثمانين أفتى بتحريم قراءة كتب (ابن عربي)
وفي أخبار البشر للملك المؤيد إسماعيل أبي الفداء (4\79): لمّا دخلت سنة سبعمئة وأربع وأربعين, وفيها مزَّقْنا كتاب (فصوص الحكم) بالمدرسة العصفورية بحلب, عقب الدرس وغسلناه, وهو من تصانيف ابن عربي, تنبيهاً على تحريم قنيته ومطالعته. وقلت فيه:
هذي فصوصٌ لم تكن ... بنفيسة في نفسها
أنا قد قرأت نقوشها
ج ... فثوابها في عكسها
ذكر أسماء أكثر من سبعين عالماً كفّروا ابن عربي (أو تكلموا فيه)
ويحسن أن نسوق هنا بعض أسماء العلماء الذين كفّروا ابن عربي وتكلموا فيه، والكثير منهم أفرد له كتاباً خاصاً لتكفيره والرد عليه، ذكر أكثرهم البقاعي في كتابه(تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي)، وذكر كثيراً منهم المقبلي اليماني في(العلم الشامخ) والقاري في كتابه الرد على أهل وحدة الوجود والآلوسي وغيرهم، وفتاواهم في تكفير هذا الرجل ثابتة في مظانِّها من كتبهم، ولولا خشية الإطالة لذكرت أكثرها، واعلم إنه ربما تحرّج بعض الأئمة من تكفير ابن عربي بعينه -مع أنه يذمه ويطعن عليه- وذلك مخافة أن لا يكون ابن عربي قد قال هذا الكلام أو أنه قد تاب منه ونحو ذلك. أما كلامه (كالذي في الفصوص) فكلهم والحمد لله عدَّه كفراً وهل يسعُ مسلماً أن يتوقف في مثل قوله: (إياك أن تتقيد بعقد مخصوص-أي بدين كالإسلام) وقوله: (الله عين الأشياء)(أو حكمه بنجاة فرعون) (وتصويبه لفعل المشركين كقوم نوح وغيرهم)(وتخطئته الأنبياء)وغيرها من الطامات، فمن وقف على مثل هذه الكفريات ولم ينكرها -بغضِّ النظر عن قائلها- بل رأى أن لها وجهاً في الشرع أو قال يمكن تأويلها أو استحسنها فهذا لا شك أنه كافر خارج من ملة الإسلام لا خلاف في ذلك بين أئمة المسلمين ألبتة، وهاك الآن أسماء طائفة من العلماء ممن له مزيد عناية في الرد على ابن عربي ونِحْلَتِه، وكثير منهم-وربما كلهم- كفَّره بعينه فضلاً عن كلامه:(116/55)
1-شيخ الإسلام ابن تيمية(توفي عام 728ه)
2-شيخ الإسلام ابن القيم(توفي751 ه)
3-الحافظ ابن حجر العسقلاني(825هفي لسان الميزان(4/319)
4-العز بن عبد السلام(660ه)
5-الحافظ العراقي.
6-الحافظ المزي(742)
7-الحافظ ابن كثير(774)
8-الحافظ الذهبي(748)
9-شيخ الإسلام البلقيني(805)
10-أبو عمرو بن الصلاح(643)
11-الشهاب أحمد بن أبي حجلة التلمساني الحنفي(771)
12-العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل(855)
13-علاء الدين البخاري(841)
14-الشريف الجرجاني(814)
15-عضد الدين الإيجي صاحب المواقف(709)
16-السعد التفتازاني(792)
17-الإمام علاء الدين القونوي.
18-شمس الدين البساطي(842)
19-أبو علي السكوتي.
20-العيني الحنفي(885)
21-القاضي التفهني(835)
22-السيرامي الحلبي(833)
23-مفتي الديار المصرية محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي(844)
24-زيد الدين أبو بكر القمني الشافعي(833)
25-شهاب الدين أحمد بن تقي المالكي(842)
26-بدر الدين بن الأمانة الشافعي.
27-الحافظ تقي الدين الفاسي(832)
28-الإمام البقاعي(885)
29-ابن دقيق العيد(702)
30-الإمام سيف الدين بن بلبان السعودي(736)
31-الشيخ أحمد بن أقش الحراني.
32-الصلاح خليل الصفدي صاحب التاريخ.
33-الحافظ ابن سيد الناس(734).
34-ابن الجزري.
35-قطب الدين القسطلاني.
36-ابن جماعة الشافعي.
37-حفيد ابن الجزري(814).
38-العماد ابن شيخ الحزّامين(711).
39-إبراهيم بن معضاد الجعبري(687).
40-أبو حيان الأندلسي صاحب تفسير البحر.
41-الزين الكتاني(738).
42-الدميري صاحب حياة الحيوان.
43-التقي الحصني.
44-الزواوي المالكي شارح صحيح مسلم(743).
45-المحقق نور الدين البكري(729).
46-نجم الدين محمد بن عقيل البالسي الشافعي(729).
47-العلامة ابن النقاش(763).
48-ابن الحاجب.
49-ابن هشام صاحب المغني(761).
50-ابن خلدون(808).
51-الشمس العيزري.
52-برهان الدين السفاقيني صاحب الإعراب.(116/56)
53-شيخ الإسلام الغاياتي الشافعي(850).
54-التاج البارنباري.
55-إبراهيم الرقي(884).
56-ابن الخياط الشافعي(811).
57-شهاب الدين الناشري مفتي زبيد(854).
58-شرف الدين بن أبي بكر المقري(875)
59-الورغمي التونسي عالم إفريقية في وقته.
60-العالم الزاهد علي بن أيوب(748).
61-الشيخ جمال الدين بن علي بن أيوب.
62-إبراهيم بن داود الآمدي(797).
63-أبو بكر بن قاسم الكناني.
64-الياسوفي الدمشقي(789).
65-الأردبيلي(746).
66-الحاضري الحلبي الحنفي.
67-موسى بن محمد الأنصاري الشافعي قاضي حلب(803).
68-شيخ الإسلام أبو السعود(كما في الدر المختار للحصكفي الحنفي).
69-تقي الدين السبكي(756).
70-الصنعاني صاحب سبل السلام.
71-الشمس الدلجي شيخ ابن حجر الهيتمي ذكره في الفتاوى الحديثية صـ279.
72-إبراهيم بن محمد الحلبي خطيب جامع محمد الفاتح بالقسطنطينية(القرن العاشر).
73-ابن أبي العز الحنفي. شارح الطحاوية.
74-ملا علي القاري ت1014هـ.
75-الشيخ صالح المقبلي اليماني في العلم الشامخ توفي 1108 ه.
76-أبو الفداء الملك المؤيد.(116/57)
فاجتماع كل هؤلاء العلماء الأعلام وغيرهم على تكفير هذا الرجل (أوالطعن فيه) من عصره إلى الآن لدليل كافٍ وحده على كفره وزندقته، وشناعة عقيدته، وهو عذرٌ لمن كفره دون أن ينظر في كتبه فكيف إذا تأيد ذلك بما في كلامه من الطامّات، بل إن العلماء كفّروا من قال بإمكان تأويل كلامه -كما سيأتي- وبهذا ساغ نقل بعض الفقهاء الإجماع على تكفيره، قال الإمام البقاعي في(تحذير العباد/214): "أما ابن عربي فقد أطبق العلماء على تكفيره وصار أمراً إجماعياً"إه. ولهذا فمن ترضّى عن ابن عربي بعد علمه بحاله وبعد نظره في هذه الفتاوى فهو كافر دون ريب. فكيف بمن كان مع تعظيمه للزنديق ابن عربي يؤمن بعقيدته ويصرح بها جهاراً نهاراً بل يدعو إليها والعياذ بالله فهذا ومَنْ على شاكلته لا شك في كفرهم بل الشك بكفرهم بعد معرفة حالهم كفْر، ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: "من شك في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر"إه.(116/58)
ولذلك يسعى الصوفية على منع نشر هذه الكتب الفاضحة لعقائدهم بكل ما أوتوا من سلطان لا سيما في هذه الأعصار التي علا فيها شأنهم في بعض البلدان كعلامة على ضعف المسلمين فصار هؤلاء الباطنية(1) يصولون ويجولون، بعد أن كان أسلافهم كالحلاج والسهروردي وابن مشيش يُقتَّلون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
ج ... ونقِّري ما شئتِ أن تُنَقِّري
ج
لا بدّ من أخْذِكِ يوماً فاحذري
__________
(1) الباطنية هم بقايا فلول المجوس وطوائف الشرك والإلحاد والحاقدين انتموا إلى بيت النبوة وأظهروا محبتهم وموالاتهم زوراً وبهتاناً وهم في الباطن من أعظم أعداء الإسلام وأكبر العتاة الحانقين على= =بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وآله الأطهار وقد كذبوا على أكابر المسلمين ومن بينهم أهل البيت وأخرجوهم إلى الكفر البواح والزندقة المحضة والإلحاد الصراح ودأبوا على حرب الإسلام وأهله بمختلف الأساليب. وفرقهم كثيرة مثل الصوفية والإسماعيلية والقرامطة الخرمية والحشاشين والفاطميين والدروز والبهرة والآغاخانية والشيخية والرشقية والبابية والقاديانية.(116/59)
فصرت تسمع الثناء على الحلاج وإخوانه الزنادقة في المساجد صباح مساء ولا حول ولا قوة إلا بالله. نقل الشيخ عبد الرحمن الوكيل رئيس جمعية أنصار السنة بالقاهرة رحمه الله من خط الشيخ محمد نصيف عالم الحرمين على نسخته الخاصة من كتاب البقاعي(تنبيه الغبي) ما نصه: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة/1355هـ/عن سبب عدم وجود ما صنّفه العلماء في الردّ على ابن عربي وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة. فقال: قد سعى الأمير عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة وطالعها كلها، ثمّ أحرقها بالنار، وقد ألّف الأمير عبد القادر كتاباً في التصوف على طريقة ابن عربي صرّح فيه بما كان يلوِّح به ابن عربي، خوفاً من سيف الشرع الذي صرع قبله(الحلاج) وقد طبع كتابه بمصر في ثلاثة مجلدات، وسمّاه المواقف في الوعظ والإرشاد، وطبع وقفاً ولا حول ولا قوة إلا بالله"اهـ/صـ14من مقدمة تنبيه الغبي/.(116/60)
وقد يحرص الصوفية على منع مريديهم من النظر في بعض كتب ابن عربي وأضرابه أول الأمر ويكتفون بالثناء عليهم وتقديسهم حتى يألف الطالب ذكرهم وتستولي هيبتهم عليه، ويلقي المشايخ -رويداً رويداً - ضلالاتهم في أذهان الطلاب الغضّة(1) حتى يعتادوها، وتحل محلّ ما ينبغي أن يُلَقَّنوه من عقائد الإسلام الصالحة، وما فطر الله عليه العباد، حتى إذا قرأوا بعدها كتب ابن عربي وغيره من الزنادقة لم يعترضوا عليها وينكروها. بل صارت عقيدة مسلّمة لديهم ينافحون عنها، وما ذاك إلا لكثرة ما سمعوه من تعظيم المشايخ لهؤلاء الزنادقة وتَمَكُّن هذه الضلالات من قلوبهم قبل تلقِّي العلم النافع كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
ج ... فصادف قلباً خالياً فتمكّنا
ج
__________
(1) أصبح موضوع غسيل الدماغ علماً برع فيه هذا العصر استعمله المنصرون ويستعمله الصوفيون مع مريديهم حيث يضع الشيخ مريده في ظروف معينة ويغرس في دماغه فكرة تقديس الأشخاص= =حتى تصبح كأنّها جزء منه بحيث لو أراد المريد أن يتحدث عما يخالفها لم يستطع فيعيش الظلمات ويظنّ أنّه على نور.(116/61)
وربما قالوا للطلاب في بداية الطلب إذا ما وقفوا على بعض كفريات ابن عربي وغيره أو نقلت لهم: هذه مدسوسة على الشيخ. وربما قالوا: تلك شطحات خرجت عند غلبة الوجد، ولعله يمكن تأويلها، فلا ينبغي الاعتراض على المشايخ وإلا انسدت عليكم الفيوضات النورانية وحُرِمْتُم بركة هؤلاء الأقطاب. ويعنون بالشطحات ما يصدر عن المرء في حال دهشه الشديد، وحين مفاجئته التّامّة بأمرٍ لا يتوقعه، فربّما صدرت عنه كلمات لا يقصدها، كهذا الذي وجد راحلته عليها طعامه وشرابه بعد أن أضلّها في فلاةٍ مهلكةٍ وقد قارب الهلاك -كما في الصحيحين- فقال: اللهمّ أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح؛ فإنّ الأمر هنا ليس كذلك بل هي عقيدة تُؤلف لها المجلدات الكبار التي تستغرق كتابتها السنين والأعمار كالفتوحات المكية وفصوص الحكم لابن عربي، والشروح الكثيرة التي تأتي على الدّوى والمحابر، وتنظم لها دواوين من الشعر تستنفد القرائح كديوان ابن الفارض وأشعار ابن سبعين وأضرابه، ولذلك لم يسع العلماءَ السكوتُ على باطلهم فكفّروهم كما رأيت بل كفّروا من شكّ في كفرهم أو تأوّل كلامهم واعتذر عنهم بعد علمه بمقالتهم. ولرد أكذوبة الدس على ابن عربي وغيره نقول: تواتر الكلام عنه على ما نقله العلماء ثم ورود هذا الكلام في عدة من كتبه فما بالك بكتب غيره من الصوفية كالنابلسي وغيره؟ ثم دعك من الكتب فلا زال أتباعه إلى الآن يدافعون عن فرعون ويظهرون هذه العقائد المخالفة لدين الإسلام، ينقلونها كابراً في الضلال عن كابر. يقول الشيخ مصطفى صبري في كتابه موقف العقل: (مما شاع بين المقتنعين بولاية الشيخ ابن عربي أن تلك الأقوال الطائشة مفتراة عليه مدسوسة في كتبه بأيدي أعدائه، وهذا اعتذار بعيد عن الإصابة، لأن ناساً من العلماء والمشايخ الكبار مثل الجامي والنابلسي وغيرهما من شراح الفصوص، قد تلقوا تلك الكلمات بالقبول حتى من غير أن يروا حاجتها إلى التأويل، فتقرر مفادها(116/62)
مذهباً لطائفة من الصوفية مسماة بالصوفية الوجودية ولذا نرى الشيخ المجدد -السرهندي- يبني مطالعاته في الشيخ على أنه زعيم هذه الطائفة من الصوفية، ولا يذكر شيئاً من حديث الدس والافتراء، وأيضاً لو صحّ ذاك الحديث لزم إلغاء كتاب الفصوص من أوله إلى آخره) إهـ وقال العلامة محمود الآلوسي المفسر صاحب روح المعاني كما ينقل عنه ولده نعمان في محاكمه الأحمدين ص75ما نصه: "أبدى بعضٌ عذراً، فقال: إنما قالوا ما قالوه سكراً؟ ولعمري: إنه أبرد من هواء المحراب في كانون، ولا يكاد يروج على إطلاقه إلا على صبي أو مجنون، ويرده أنهم كم أملوا منه للطلاب وكم وكم ملأوا منه إهاب كتاب. وأدهى من ذلك وأمر، ما قيل في الاعتذار عن حضرة الشيخ الأكبر(ابن عربي): إن نحو ما في الفصوص مما يخالف الظواهر والنصوص، مما دسه بعض اليهود ليحل به من ضعفاء المؤمنين العقود؛ ولا يكاد يقبل هذا إلا فتىً؛ النقصان أبوه وأمه، والبلاهة -عافانا الله تعالى وإياكم- خاله وعمه. نعم، قد دُس من بُغْضٍ على بعض العلماء، وأدخل من دخل في الدين شيئاً من الافتراء، ثم ظهر الأمر للمنصف، بالرجوع إلى نسخة المصنف، أو بنحو ذلك، مما تتضح به المسالك. إلا أن ذاك عن هذا بمعزل، وبعيد عنه بألف ألف منزل " اهـ ثم ما بال هذا الدس في كتب الصوفية فقط لما لا يُدَّعى في كتب السنة كالبخاري ومسلم أو مؤلفي السنة كابن تيمية وغيره مع كثرة أعدائهم. فهذه بلا شك دعوى باطلة وهي في الحقيقة ذم لهم لو تدبروا لأن مقتضاها أن كتب الصوفية تحتمل هذا الدس لأنها فاسدة ألا ترى أنه لا يستطيع أحد أن يدس بين سبائك الذهب قطعة تنك أو تراب ويمكنه ذلك في المزابل والخراب.
استحالة تأويل كلام ابن عربي وحكم المؤوِّل(116/63)
نقل السيد نعمان الآلوسي في محاكمة الأحمدين ص80 ما كتبه شيخه محمد أمين أفندي المتوفى سنة1273هـ على عبارة الجوهر لابن عبد الرحيم الحنفي المنقولة في تأويل بعض كلمات الصوفية، وإنها قد صدرت منهم في شطحاتهم وسكرتهم وغيبتهم عن المؤاخذات الشرعية كبعض عباراتهم المشعرة بالحلول والاتحاد، مثل قول بعضهم: ما في الجبة إلا الله، وأنا الحق، وغير ذلك مما صاروا فيه هدفاً للنقاد ما نصه: أقول فإذا كان الأمر كذلك فما الموجب لتدوين هذه العبارات الموهمة في ذلك في الأسفار، وإشاعتها في سائر الأمصار حتى تمسك بها الإباحية الأشرار، وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ثم ذكر بعض ما قال الزنديق ابن الفارض..وما قاله الجيلي عبد الكريم في كتابه المسمى(بالإنسان الكامل) في تركيب(قل هو الله أحد) من أن الضمير في قل يعود إلى الإنسان الكامل، ويعني به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أيضاً فيعود إلى الضمير الذي في"قل" العائد إليه، لأن الضمائر لا تعود إلا على متقدم على زعمه؛ فيكون المعنى: الإنسان الكامل الله أحد. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهل هذا من الشطحات والسكر؟! أم من الضلالات والكفر!؟ نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنااهـ وقال ابن الجزري فيما نقله القاري في رسالته صفحة 33: (يحرم مطالعة كتب ابن عربي والنظر فيها والاشتغال بها ولا يلتفت إلى قول من قال إن هذا الكلام المخالف لظاهر المرام ينبغي أن يؤول بما يوافق أحكام الإسلام فإنه غلط من قائله وكيف يؤوَل قوله الرب حق والعبد حق وقوله ما عرف الله إلا المعطلة والمجسمة وقوله ما عَبَدَ مَنْ عَبَدَ إلا الله) إلخ. قال القاري في نهاية رسالته في الرد على أهل وحدة الوجود ص154: (ثم اعلم أن من اعتقد حقية عقيدة ابن عربي فكافر بالإجماع من غير نزاع، وإنما الكلام فيما إذا أَوَّلَ كلامَه بما يقتضي حسن مرامه، وقد عرفت من تأويلات من تصدى لتحقيق هذا المقام، أنه ليس(116/64)
هناك ما يصح أو يصلح عنه دفع الملام. وأما من شك وتوهم أن هناك بعض التأويل إلا أنه عاجز عن ذلك القيل فقد نص العلامة ابن المقري أن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر وهو أمر ظاهر وحكم باهر وأما من توقف فليس بمعذور في أمره بل توقفه سبب كفره فقد قال الإمام الأعظم والهمام الأقدم في الفقه الأكبر (يعني أبا حنيفة) أنه إذا أشكل على الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فينبغي له أن يعتقد ما هو الصواب عند الله تعالى إلى أن يجد عالماً فيسأله ولا يسعه تأخير الطلب ولا يعذر بالوقف فيه ويكفر إن وقف انتهى فلا تشك في كفر جماعة ابن عربي ولا تتوقف في ضلالة هذا القوم الغوي والجمع الغبي فإن قلت: هل يجوز السلام عليهم ابتداء؟ قلت: لا ولا رد السلام عليهم، بل لا يقال لهم عليكم أيضاً . فإنهم شر من اليهود والنصارى وإنّ حكمهم حكم المرتدين عن الدين فعلم به أنه إذا عطس أحد منهم فقال الحمد لله لا يقال له يرحمك الله وهل يجاب بيهديك الله محل بحث وكذا إذا مات أحد منهم لا يجوز الصلاة عليه وأن عباداتهم السابقة على اعتقاداتهم باطلة كطاعاتهم اللاحقة في بقية أوقاتهم فالواجب على الحكام في دار الإسلام أن يحرقوا من كان على هذه المعتقدات الفاسدة والتأويلات الكاسدة فإنهم أنجس ممن ادّعى أن علياً هو الله وقد أحرقه علي رضي الله عنه ويجب إحراق كتبهم المؤلفة ويتعين على كل أحد أن يبين فساد شقاقهم وكساد نفاقهم فإن سكوت العلماء واختلاف بعض الآراء صار سبباً لهذه الفتنة وسائر أنواع البلاء) إهـ قال الحافظ العراقي: "ولا شكّ أنّ من صحّ أنّه قال هذا واعتقده، وهو غير مكره ولا مجبر فهو كافر ولا يقبل منه تأويلها على ما أراد، ولا كرامة، وهذا ما لا نعلم فيه خلافاً بين العلماء بعلوم الشريعة المطهّرة في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم"إهـ. وقال الشيخ ولي الدين العراقي أبو زرعة(هو ولد الحافظ العراقي السابق) من فتاويه المكية:(116/65)
"لا شكّ في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شكّ فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإنْ صحّ صدور ذلك عنه، واستمرّ إلى وفاته فهو كافر مخلّد في النار بلا شك، وقد صحّ عندي عن الحافظ المِزي أنّه نَقل من خطه في تفسيره قوله تعالى: (إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) كلاماً ينبو عنه السمع، ويقتضي الكفر وبعض كلماته لا يمكن تأويله، والذي يمكن تأويله منها كيف يُصار إليه مع مرجوحية التأويل، وأنّ الحكم إنّما يترتب على الظاهر، وقد بلغني عن الشيخ علاء الدين القونوي أنّه قال في مثل ذلك: إنّما يُؤول كلام المعصومين، وهو كما قال"اهـ. قال الإمام البقاعي في كتابه(تنبيه الغبي/137) معقباً عليه: "وأما قوله: إنْ صحّ ذلك عنه، فهو على طريق من يعتبر في الكتب المشهورة إسناداً خاصاً، وهي طريقة غير مَرْضيّة، والصحيح أنّها لا تحتاج إلى ذلك بل الشهرة كافية، والله الموفق"إه. وقال العلاّمة شمس الدين العيزري في(الفتاوى المنتشرة) عن الفصوص: "قال العلماء جميع ما فيه كفر"إه. وقال الإمام البقاعي/ص 138/: "والفيصل في قطع التأويل من أصله أنّ محقق زمانه وصالحه علاء الدين البخاري الحنفي ذُكر عنده ابن عربي هذا، فقال قاضي المالكية إذ ذاك الشمسُ البساطي: يمكن تأويل كلامه. فقال البخاري: كفرتَ. وسلّم له أهل عصره ممن كان في مجلسه، ومن غيرهم، وما طعن أحد منهم بكلمة واحدة، وقد كان منهم حافظ العصر ابن حجر العسقلاني، والزين التفهني، والعيني الحنفي، والشيخ يحيى السيرامي، وابن نصر الله البغدادي الحنبلي، وأبو بكر القمني الشافعي، وابن الأمانة الشافعي، والشهاب بن تقي المالكي، وغيرهم من العلماء والرؤساء، وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعتقاد الاتحاد، ومن طائفة الاتحادية، وتكفيره لمن يقول بقولهم"إه. وقال البقاعي في كتاب له آخر سمّاه(تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد)/صـ213: "أما ابن عربي(116/66)
فقد أطبق العلماء على تكفيره وصار أمراً إجماعياً". ثمّ ذكرَ الزنديقَ ابنَ الفارض ومَنْ كفّره من العلماء وقال/صـ217/: "فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواتراً معنوياً. وقد عُلم بهذا عذر من كفّره، لو لم يكن له سند غير هذا، فكيف وقد تأيّد هذا بما في كلامه وكلام ابن عربي من الطامّات التي منها منابذة العقل والشرع كما مضى"إه. ثم قال رحمه الله/صـ253: "ولا يسع أحداً أن يقول: أنا واقف، أو ساكت لا أُثبت، ولا أنفي؛ لأنّ ذلك يقتضي الكفر؛ لأنّ الكافر من أنكر ما عُلِمَ من الدين بالضرورة. ومن شكّ في كفر مثل هذا كَفَر، ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: (من شكّ في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر) اهـ بلفظه.
تلك أمّة قد خلت(116/67)
ولا تظنّ أيها القارئ الفطن أنّ أرباب هذه النِحلة قد انقرضوا فلا داعي للتكلّم فيهم وربّما استدل بعضهم بقوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون). فأقول: هذه الآية جاءت ردّاً على من افتخر بنسبه وعوّل عليه -كاليهود- دون الأخذ بأسباب النجاة من تصديق الرسل واتباع سبيلهم والعمل بشرعهم كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (مَنْ بطّأ به عمله لم يُسرع به نسبه)، وقال: (يا فاطمة اعملي فإنّي لا أملك لك من الله شيئاً). أمّا ذكر الكافرين والضّالين وبيان عاقبتهم الوخيمة فينبغي تكراره كي يحذر المسلم اتباع سبيلهم، ولهذا كرّر الله سبحانه وتعالى قصة فرعون في مواضع كثيرة من كتابه مبيناً عاقبة الكفر والتكذيب، وكذلك كرّر هلاك الأمم المكذِّبة، وما أُعد لها من العقوبة في الآخرة، وكيف أورث الله المؤمنين ديارهم وأموالهم، كما سيرثون الجنة في الآخرة، ليزداد المؤمن بصيرة في دينه، ويتيقّن أنّ العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، وهذه الضلالات التي نحن بصدد الردّ عليها الواجب على مَنْ اطّلع على شيءٍ منها إنكارها؛ نصحاً للمسلمين، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ رأى منكم منكرأ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). رواه مسلم. فإنّ المنكَر إذا لم يُنكَر ويحذَّر منه يوشك أن لا يعرفه الناس فيقعوا فيه، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني). وقال عمر رضي الله عنه: (تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام مَنْ لا يعرف الجاهلية). وكما قيل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقِّيه ... ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه(116/68)
ثمّ إنّ أرباب هذه العقائد الباطلة متوافرون الآن يدافعون عن فرعون ويتولّون ابن عربي ويقتدون بأمره ويُثنون عليه، يسمّونه: الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، ويسمّون ابن الفارض: سلطان العاشقين، أمّا الزنديق الحلاج الذي أجمع المسلمون على كفره وقتله فهو إنسان عيونهم وفي سويداء قلوبهم قُدِّسَ سِرُّه وللَّه دَرُّه !! وهذا الثناء العريض من الصوفية لا شكّ أنّه من أكبر الأدلة على أنّهم بعقيدة هؤلاء الضُّلال مؤمنون، وعلى نهجهم سائرون. وأنت خبير أنّ هذا الاحتفاء والإطراء فيه تغرير بالعوام والطُّلاب ليعكفوا على هذه الكتب التي مُلِئت بالضلال، ويعبُّوا من آسنها وهم يحسبون أنّها من العذب الزلال فيتزندقوا من حيث لا يشعرون، وإذا أُشعروا -بعدها- لم يشعروا؛
من يَهُنْ يَسْهُل الهوان عليه
جج ... ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
التصوف والزهد(116/69)
واعلمْ -وفقني الله وإياك -أنّه في بداية نشوء التصوف الذي هو محض الضلال اشتبه أمره بالزهد فربّما نُسب إلى الصوفية بعض الزُّهّاد والعُبَّاد. وإن كان الزهد المبتدع ليس من الإسلام في شيء وإنّما المندوب الاقتصاد والتوسط والاعتدال والورع، وإلا فإنّ التقشُّف وتعذيب النفس وترك الطيبات ليس من دين الفطرة بل جاء من الأديان الباطلة للأمم التي اعتنقت الإسلام كالمجوس والبوذيين والبراهمة ونحوهم فنقل بعض أفرادها هذه اللوثات فتابعهم عليها بعض المسلمين مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذنّ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع). ومع ذلك فهؤلاء أقل شراً من أترابهم الذين نقلوا عن أممهم أضل ما عندهم وأدهى ما أُثر عنهم كالحلاج الذي ولد بفارس حفيداً لرجل زرادشتي، والبسطامي الذي كان جدُّه مجوسياً وأبوه من أتباع زرادشت، والسهروردي الذي ولد بسهرورد بإيران وقد حوكم وقتل بفتوى من علماء حلب/587هـ/حين كان علماء حلب على السنة(1)
__________
(1) أما الآن فعلماء حلب باطنية غلاة لا تكاد تجد واحداً فيهم إلا صوفياً محترقاً على مذهب ابن عربي والحلاج وأضرابهم فتجد هؤلاء الزنادقة معظَّمين عندهم في حين تجد المصلحين كابن تيمية وغيره مذمومين ولا سوق لهم أمّا البدع فحدِّث ولا حرج ولعل السبب قرب حلب من تركيا وتأثُّرها الزائد بالأتراك العثمانيين المخرِّفين بحكم الجوار ولهذا لا توجد زاوية للطريقة المولوية –على سبيل المثال- في كل الشرق العربي إلا في حلب وأهل حلب في الجملة متدينون ولديهم استعداد للتضحية من أجل الدين وعندهم حب وتعظيم زائد للعلماء نعم لو ذهب عنهم هؤلاء الشيوخ المبتدعة الضُّلال الذين يقطعون عليهم طرق الهداية لكان لهم شأن
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو
كُ وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها(116/70)
وغير هؤلاء، وجلُّهم من العجم، ولهذا فربّما نُقل عن بعض الزُّهّاد تبرؤهم من الحلاج وضلالته، وقد يكون مقبولاً القول بأنّ التصوف بدأ ببعض الأفكار رويداً رويداً ولم يغلُ أربابه أول الأمر فينجرفوا إلى كل هذا الضلال، ويمكن أن يقال أيضاً بأنّ بعضهم غلاة وآخرين كانوا معتدلين، أمّا الصوفية اليوم فكلهم غلاة ضالُّون مبتدعة، والمقصود أنّ الطرق الصوفية الآن تدين بما دان به ابن عربي من وحدة الوجود وغيرها من ضلالات لا أستثني من ذلك طريقة وإلا ما كانت صوفية، وبعض الطرق تُصرِّح بهذه العقيدة للمستجدين من أتباعها من أول الطريق كالتيجانية، ولا يخلو كتاب من كتب الصوفية على اختلاف طرقهم أو وِرْدٌ من البوح بتلك الطامّات وإليك بعض البراهين؛
اعتقاد التجانية بوحدة الوجود(116/71)
في جواهر المعاني، وهو أشهر كتاب عند الطائفة التيجانية ما لفظه مقرِّراً عقيدة وحدة الوجود: "فكل عابدٍ أو ساجدٍ لغير الله في الظاهر فما عبد ولا سجد إلا لله تعالى لأنّه هو المتجلي في تلك الألباس(1) وتلك المعبودات كلها تسجد لله تعالى وتعبده وتسبحه خائفة من سطوة جلاله سبحانه وتعالى، ولو أنّها برزت لعبادة الخلق وبرزت لها بدون تجلية فيها لتحطمت في أسرع من طرفة العين لغيرته تعالى لنسبة الألوهية لغيره. قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني). والإله في اللغة هو المعبود بالحق وقوله(لا إله إلا أنا) يعني لا معبود غيري وإن عَبد الأوثان مَن عبدها فما عبد غيري ولا توجهوا بالخضوع والتذلل لغيري"اهـ منه بلفظه/صـ184-185، ج1/. وأظنك لا تحتاج إلى كبير عناء لفهم مراده، فهو قد قرّر وحدة الوجود، وصححّ -كما ترى- جميع الأديان وعدّ أهلها على حق لأنّهم كلهم يعبدون الله بزعمه مع أن الله يكذّبه فيقول سبحانه: "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم"، وقال عزّ مِنْ قائل: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين"، وقال تبارك اسمه: "وإن تطع أكثر مَنْ في الأرض يضلوك عن سبيل الله"الآية، وقال: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين Oما لكم كيف تحكمون". ولا بأس بنقل نصٍ آخر من كتاب الطريقة التيجانية المذكور كي يقيسه المرء على نصوص الطرق الأخرى ويعلم اتفاقهم على هذه العقيدة، يقول: "إنّ جميع المخلوقات مراتب للحق سبحانه يجب التسليم له في حكمه وفي كل ما أقام خلقه لا يُعارض في شيء ثمّ حكْم الشرع من وراء هذا يُتصرف فيه ظاهراً لا باطناً لا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل، فإنّ وجود عين واحدة لا
__________
(1) لو كان الله تعالى متجلياً في تلك الألباس -كما يقول هذا الجاهل- إذاً لجعلها دَكَّاً كما جعل الجبلَ لمّا تجلّى له دكاً (فلمّا تجلّى ربه للجبل جعله دَكَّاً وخرّ موسى صعقا)الآية.(116/72)
تجزُّؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بالأحكام والخواص وهي المعبَّر عنها عند العارفين أنّ الكثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة فمن نظر إلى كثرة الوجود وافتراق أجزائه نظر عيناً واحدة على كثرته، ومن نظر إلى عين الوحدة نظرة متكثر بما لا غاية له من الكثرة وهذا النظر للعارف(أي للصوفي الزنديق) فقط لا غيره من أصحاب الحجاب وهذا لمن عاين الوحدة ذوقاً لا رسماً وهذا خارجاً عن القال"إهـ صـ92من المجلد الثاني. ولنستمع الآن إلى شهادة رجل من أهلها هو الشيخ عبد الصمد حبيب الله المختار الكشني الغاني كان مُقدَّماً للطريقة التيجانية في جمهورية غانا بأفريقيا حيث تنتشر الطريقة هناك فمنّ الله عليه فهداه وتاب عليه فترك هذه الضلالات يقول في كتابه(رسالة الدّاعي إلى السنة الزاجر عن البدعة) ناصحاً للمسلمين ومحذراً: "والأذكار التي يلقنها الشيخ للمريد -يعني عندهم- هي صلاة الفاتح خمسمائة، ولا إله إلا الله الأول والآخر والظاهر والباطن خمسمائة بعد كل مكتوبة، واللهمّ عليك معولي وبك ملاذي وإليك التجائي، إلى قوله وبإقراري بسريان قيوميتك في كل شيء وعدم خروج شيء دقّ أو جلّ...إلخ، فيقول لك تذكّر هذا بعد تلك الأذكار المذكورة، ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ويقول لك تفكّرْ جيداً في قوله بسريان قيوميتك في كل شيء، فإنه محل السر، فإذا ذهبت، وذكرت كما أمرك يومين أو ثلاثة، ثم رجعت، يسألك، ماذا فهمت في تفكرك فإنك ربّما لا تجيبه، فيقول لك أين الله فإن سكتَّ، فإنّه يشير إلى شيءٍ ما، قائلاً ما هذا، فإذا ذكرت اسمه، يحرك رأسه، ويقول لك: اذهب فتفكَّر إنك ما وصلت، وإن كنت متعلماً ينشد لك من أبيات ابن عربي، وأبيات ابن الفارض مثل:
أيا أولاً يا آخراً وهو ظاهر
بعدت بقربٍ واكتتمت بظهرة ٍ
فبالاسماء والأوصاف والكون جملة ... ويا باطناً عن نوره كل ناظر
فيا عجباً من باطنٍ وهو ظاهر(116/73)
حقيقة عين الذات والله قادر
ومثل:
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فما ثَمّ موصول ولا ثَم واصل
ومثل: أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا... وهكذا يأتيك بأمثلة كثيرة، كلها تشير إلى وحدة الوجود، فإن نطقتَ بمراده يقل لك: أنت واصل ثم يشير إلى الجدار مثلاً قائلاً: ما هذا؟ فتقول: الله، ثم يشير إليك قائلاً: مَنْ أنت؟ فتقول الله، ويشير إلى السماء وإلى الأرض وإلى ـ وإلى...، وأنت تقول: الله، فيؤكد ذلك لك بإنشاد أشعار، تشير إلى وحدة الوجود، كما سبق، فيقول لك: تحققَ ذلك، فإنّك صرت اليوم ولياً لله وعارفاً، ثم يقول لك: هذا العلم لا يُنال بدراسة العلوم الشرعية ولا بتلاوة القرآن وتدبرِ معانيه، ويقول لك: العلوم كلها قشر، وهذا هو اللب المنشود. وهذا هو المراد بقول العارفين: خضنا بحراً وقفت الأنبياء بساحله"إه./صـ35/طبعة دار العربية في بيروت.
اعتقاد الشاذلية بوحدة الوجود(116/74)
أمّا الطريقة الشاذلية فسنأخذ الصلاة المشيشية كآية على ما فيها من انحراف أو انحرافات يحرصون على تحفيظها للسالك معهم من أول يوم وهي أعظم وِرْدٍ عندهم وساءت لهم وِرْداً، فيها من الطامّات ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، يكررها كل شاذلي على وجه الأرض إمّا يومياً أو في الأسبوع مرة أو مرتين أو مرات يقول فيها ابن مشيش: "اللهمّ...وزجّ بي في بحار الأحدية وأنشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها، واجمع بيني وبينك. الله. الله. الله."اهـ. وأظنك تعرف الآن أنّه لا يقصد بأوحال التوحيد الشركَ والمعاصي بل يعني توحيد المسلمين لله(1)وإفراد الخالق عن المخلوق فهذا النوع من التوحيد وحلٌ لدى ابن مشيش ومشايخ الشاذلية العتاة وإنّما التوحيد المنشود عندهم هو وحدة الوجود، عين بحر الوحدة. ولو تنازلنا واعتبرناه خصّ بالتوحيل توحيد المتكلمين –وهو كذلك- لكنه فرَّ إلى ما هو شرٌ منه إلى وحدة الوجود فكان ماذا؟! (فرّ من الموت وفي الموت وقع) وكل هذا الضلال سببه البعد عن عقيدة السلف نسأل الله الهدى والثبات. وتوحيد ابن مشيش ليس فيه
__________
(1) ذكر الشيخ صالح المقبلي في كتابه العلم الشامخ/صـ569/ أنه قيل لابن التلمساني الصوفي(هلك عام690هـ) وقد قُرىء عليه الفصوص لابن عربي: هذا كله يخالف القرآن الكريم. فقال: القرآن كله شرك وإنما التوحيد قولنا اهـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(مجموعة الرسائل1/185): حدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا اهـ. وكتب الحلاج إلى بعض تلاميذه: "ستر الله عنك ظاهر الشريعة وكشف لك حقيقة الكفر فإن ظاهر الشريعة كفر وحقيقة الكفر معرفة جلية، وإياك والتوحيد"اهـ وقريب من هذا قول الصاوي الضال: "ظاهر القرآن كفر"اهـ. فالقضية أنهم متفقون على اعتبار التوحيد وحلاً.(116/75)
خالق ومخلوق بل الوجود هو الله أرأيت قوله: (ولا أجد ولا أحس إلا بها) ويفنى الشاذلي المتواجد في الله فيعرف ويصبح هو الله أرأيت قوله:(واجمع بيني وبينك. الله. الله. الله.)، فتأمّل هذا الضلال، فلو أنّ مشايخ الشاذلية متبعون للسنة كما يزعمون لَلَقَّنوا مريديهم الأوراد والأذكار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه واكتفوا بها إذاً لسلموا من تضليل الناس لهم، ووفّروا عليّ وعلى غيري في الردّ عليهم الوقت والجهد، ولكن طرقهم ما قامت ولا تقوم إلا على هذه الزندقات، فيخلطونها ببعض أذكار السنة للتلبيس على الناس، فليتهم –لو كانوا مخلصين- لم يُقدِّموا بين يدي الله ورسوله فلا يحتاجوا إلى تأويل واعتذار، ومَنْ ابن مشيش هذا(1) !!؟ هل كلامه منزلٌ من عند الله !؟ فسبحان الله ما أضلّ من اتبع هواه! ياقوم(تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون).
نبذة عن عقيدة الحقيقة المحمدية
__________
(1) عبد السلام بن مشيش: زنديق كبير وهو شيخ الشاذلي صاحب الطريقة، قُتل بالمغرب على الزندقة على يد ابن أبي الطواجن كما نقل الشعراني في طبقاته.(116/76)
لعل من المناسب قبل أن نستعرض تقرير باقي الطرق لعقيدة وحدة الوجود الضالة الإلماع إلى أنّ من مستلزمات هذه العقيدة عندهم القول بالحقيقة المحمّدية وهي تعني أنّ النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقته ليس بشراً وإنما هو أول تعيُّنات الذات الإلهية(أي أول شيء صار الله به شيئاً معيناً)، وهو أول موجود وأول مظهر من مظاهر الإله الواحد فأول شيء تفرع عن الله سبحانه وتعالى هو محمد صلى الله عليه وسلم ومنه اشتقت بقية الأشياء، وهذه الفكرة إنّما هي عقيدة وحدة الوجود على التفصيل، ففي البدء كان الهباء ثمّ تشكّل منه محمدٌ صلى الله عليه وسلم ومن نوره تشكّلت باقي الموجودات السماوية والأرضية فالوجود واحد وإن قُسِّم إلى هذه الأقانيم الثلاثة، والملاحظ أنّه لا وجود لإلهٍ خالقٍ مستقلٍ ضمن هذه الثلاثية ذلك أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم وفق هذه العقيدة هو الرب الموصوف بالاستواء على العرش وهو الذي يعبده المسلمون ويسمونه الله رب العالمين إذْ هو المظهر التام للرب المعبود والإنسان الكامل الذي هو قطب رحى الوجود، وهذا الرب يظهر في صور شتى ولكنه شيءٌ واحد تنزّل فتفصّل، وهذه المظاهر ترجع في الحقيقة إلى أصل واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عربي: "بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي".الفتوحات المكية صـ152المجلد الأول. يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه(الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنةصـ178): "إنّ هؤلاء المتصوفة(1)
__________
(1) هناك صلة وثيقة بين الفلسفة والتصوف من خلال المفاهيم والأفكار اليهودية والنصرانية واليونانية والفارسية والغنوصية والهندية والهرمسية فشيخ الصوفية الألمان هوفون هامر وفي انجلترا ظهرت المدرسة الصوفية التي أعد دراستها الأستاذ براون وتابعه نكلسون وتلميذه ارترجون أربري والتصوف الفرنسي ورئيس مدرسته ماسينون وكوربان أما التصوف الإسباني فيقول الكاثوليكي بلاسيوس: إن التصوف الإسلامي تأثر بالمسيحية ثم أثّر فيها. راجع بتوسُّع ما كتبه الدكتور المهدلي في كتابه: مدخل إلى التصوف صـ33-84.(116/77)
الذين نقلوا عقيدة وحدة الوجود عن الفلسفة الأفلاطونية واعتقدوها وجعلوها هي الحقيقة وسر الأسرار نقلوا ما قاله الفلاسفة في نظرياتهم في بدء الخلق فقد قال الفلاسفة الأقدمون: (إنّ أول شيءٍ بدأ في الخلق الهباء -أي الذرات- وإنّ أول موجود هو العقل الأول وسموه العقل الفعّال وأنّه عن هذا العقل الأول نشأ العالم العلوي والسفلي). هذه النظرية الفلسفية القديمة جاء ابن عربي ونقلها نفسها إلى الفكر الصوفي ولكنه استبدل بدلاً من العقل الفعّال عند الفلاسفة ما أسماه هو الحقيقة المحمدية فزعم أنّ أول الخلق كان هباء -كلام الفلاسفة الملاحدة نفسه- وأنّ أول موجود هو الحقيقة المحمدية، ومن نور هذه الذات المحمدية خُلق الخلق جميعاً بعد ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي(1)
__________
(1) يقول الدكتور محمد حلمي في كتابه الحياة الروحية في الإسلام: "أما نظرية ابن عربي في الحقيقة المحمدية فتتلخّص في أن الحقيقة المحمدية التي يسميها ابن عربي بالقطب حيناً وبروح الخاتم حيناً آخر، هي المنبع القديم الفيّاض بأنواع الكمالات العلمية والعملية والتي تحققت في الأنبياء من لدن آدم حتى محمد الرسول عليه الصلاة والسلام، وتحققت من بعد محمد صلى الله عليه وسلم في أتباعه من الأولياء وأفراد الإنسان الكامل"اهـ. ويقول الدكتور المهدلي في كتابه دراسة في التصوف الفلسفي الإسلامي صـ47: "ونظرية الإنسان الكامل(الحقيقة المحمدية) في حقيقتها ليست إلا امتداداً للنظرية الأولى في حقيقة الوجود(وحدة الوجود) توسعت فيها الدراسات الوجودية وتفرّعت والنتيجة نفس نتيجة النظرية الأولى"اهـ. ويقول الدكتور فيصل بديرعون في كتابه التصوف الإسلامي صـ314: "أمّا فيما يتعلق بنظرية ابن عربي في الإنسان الكامل فإنها تعد امتداداً لقوله بالوجود الواحد الحي، فهو يرى أنه قد تجمع في الإنسان كل الصفات التي يمكن أن يشاهد فيها الله نفسه بحيث أضحى الإنسان كاملاً من جهة أنه عين العالم. الإنسان إذاً عين الحق وعين صفاته، إنه حق وخلق، واحد وكثير والإنسان بهذا إنما يجمع بين نوعين من الصفات: فهو أزلي أبدي باعتباره عين الحق، وهو عارض حادث من حيث أنه نموذج للخلق"اهـ. ويقول الدكتور أبو الوفا الغنيمي في كتابه مدخل إلى علم التصوف صـ204: "ويذهب ابن عربي إلى القول بوحدة الأديان كنتيجة مترتبة على قوله بالإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، إذ مصدر الأديان عنده واحد وهو الحقيقة المحمدية، فالدين الموجود(الآن في الأرض كلها) كله واحد وهو لله، والعارف على التحقيق هو مَن عبد الله تعالى في كل مجلى من مجاليه، وإن شئت قلت: العبادة الصحيحة هي أن ينظر العبد إلى جميع الصور على أنها مجال لحقيقة ذاتية واحدة هي الله:
عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه"اهـ
ويقول المستشرق نيكلسون في كتابه عن التصوف صـ160بترجمة عفيفي: "فمحمّد (عند الصوفية) إذن ليس المصدر الذي يستمد منه جميع الأنبياء والأولياء علمهم بالله، فحسب، بل هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره، كما أنه العلة الأولى في خلق كل ما هو مخلوق، والعقل= =الكلي الذي يصل بين الوجود المطلق (الله) وبين عالم الطبيعة، وليس العلم إلا صورة الحقيقة المحمدية، كما أن الحقيقة المحمدية ليست إلا صورة الله"اهـ. ويقول المستشرق هنيرش وقد يصدق الكذوب: "من الثابت أن الغنوص قد أثّر في إيجاد هذه الصورة التي صورتها العصور الوسطى المتأخرة لمحمد، وكان سبباً في إيجاد ما يشبه عبادة محمد، وهذه العبادة، وتلك الصورة مخالفتان لما كان عليه الإسلام الأول كل المخالفة، أمّا أولياء الله في الإسلام، ففي مقابل الأرواح القدسية في الهلينية (هم الكائنات الروحية الوسيطة بين الذات الإلهية وبين المادة عند الغنوصية) حتى أن محمداً وهو نموذجهم الأعلى ينتهي بأن يصبح هو العقل الموجود منذ الأزل، وأن يكون الرحيم المخلِّص القدير، وعن طريق هذا المذهب انقلبت فكرة الوحي التي كانت موجودة في الإسلام الأول إلى ضدها". اهـ صـ12التراث اليوناني ترجمة بدوي. ويقول الكمشخانلي في /جامع الأصول في الأولياء/ عن حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم: "هي الذات مع التعين الأول، ولها الأسماء الحسنى وهي اسم الله الأعظم، صور الحق هو محمد؛ لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية، إنه الجامع لجميع الأسماء أو هو اسم الذات الإلهية من حيث هي هي أي المطلقة"اهـ. وقد يواربون أحياناً لتثبيت ذلك في أذهان المريدين مثل ما وضعه شيخ صوفي لبناني كبير في كتاب له في فضل الصلوات وفيه: "اللهم صل على محمد حتى تجعل منه الأحدية والقيومية"اهـ. فتأمل هده العقيدة الباطلة، فالأحدية والقيومية من صفات الله عز وجل لا يشاركه فيها أحد قطعاً وهذا الشيخ يريدها للنبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده كذلك فهذا من أكبر الأدلة على اعتقادهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الله نفسه. ويقول شيخ صوفي آخر: "شأن محمد في جميع تصرفاته شأن الله، فما في الوجود إلا محمد، ولما كانت بشريته نوراً محضاً كانت فضلاته مقدسة طاهرة، ولم يكن لجسمه الشريف ظل كالأجسام الكثيفة، وهذا النور المحمدي، هو المعني بروح الله المنفوخ في آدم، فروح الله نور محمد"اهـ راجع النفحات الأقدسية للبيطار صـ9وما بعدها. ولنذكر نصّاً آخر لابن عربي يتجلّى فيه صراحة أن محمداً هو الله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني، المهاجر من مكة كان اللهَ (لفظ الجلالة منصوب)، ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة، وهو الآن على ما عليه كان، الجامع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجوبية". وفي بعض عبارته تقديم وتأخير فهو يريد أن يقول: "المهاجر من مكة إلى المدينة كان= =اللهَ ولم يكن معه شيء ثان" انظر مجموعة الأحزاب. أي أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو عين الله ولم يكن معه شيء ثان وأن أبا بكر-الذي هاجر مع النبي- هو الآخر الله ولم يكن معه شيء ثان. وربما فاق النابلسيُ أستاذه ابن عربي صراحة حين قال معقباً على قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) قال: "أخبر تعالى أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله تعالى وتقدّس، وبيعته بيعة الله، ويده التي مدت للبيعة هي يد الله"اهـ انظر/شطحات الصوفية/صـ153 للدكتور بدوي.(116/78)
ومشايخ التصوف الذين جاءوا من بعده هو الله المتجلِّي على العرش أو -قل- صورة الله المصغَّرة وهو الذي منه استمدت كل الموجودات وجوداتها وانفلقت عنه كل الأنوار والأكوان والموجودات، هو البذرة الأولى لكل موجود فكأنّه بذرة لشجرة كان منها بعد ذلك الساق والفروع والأوراق والثمار والأشواك فهكذا بدأ الوجود بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم خلق من نوره العرش والكرسي والسماوات والأرض وآدم وذريته وتفرّع الخلق بعد ذلك فالموجودات كلها في عقيدة التصوف شيء واحد متفرع عن أصل واحد أو -قل- شجرة واحدة متفرعة عن بذرة واحدة" اهـ.
وقال أحد الصوفية الكبار -هو القاشاني-: "إنّ محمداً أولُ التعينات التي عين بها الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به ما لا نهاية من التعينات، فهو يشمل جميع التعينات فهو واحد فرد في الوجود"اهـ من شرح القاشاني على الفصوص صـ266.
ولنستمع الآن إلى أحد كبرائهم -هو الجيلي- يقول في كتابه(الإنسان الكامل): "اعلم حفظك الله أنّ الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين ثم له باعتبار ملابس أخر أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان. ألا تراه صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه، قال الشبلي لتلميذه: اشهدْ أنّي رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه فقال: أشهدُ أنّك رسول الله… وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنّه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم"اهـ. قلت لا شكّ أنّه يعني بالإنسان الكامل هنا الله ويشير بقوله(ويظهر في كنائس) إلى قول ابن عربي أو فريد الدين العطار:(116/79)
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
جج ... وما الله إلا راهبٌ في كنيسةِ
أمّا قوله(فاسمه الأصلي الذي هو له محمد) فيعني به الحقيقة المحمدية وأنّ محمداً هو الله الأصلي ثمّ لا يزال يظهر في صور متعددة، وقوله(وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم) أي(وقد جرت سنته عزّ وجل).
نصوص بعض الطرق الصوفية في الحقيقة المحمدية
ولنستعرض الآن نصوص الطرق الصوفية في تقرير الحقيقة المحمدية وأصلها وحدة الوجود، يقول الشيخ عبد الصمد حبيب الله في(رسالة الداعي إلى السنة ص37) عن كيفية تلقين الشيخ المربي للمريد أصول الطريقة التجانية، فبعد أن يقرر للمريد وحدة الوجود وأنّ الله هو هذا الكون كما مرّ سابقاً، يأتي الآن إلى تفصيلها وتقرير الحقيقة المحمدية: "فيقول لك(أي الشيخ) اذهب واشتغل بتلاوة الأذكار، وتفكر، وأتني بما برز من ذات الله، فإذا عدت إليه بعد حين وسألك عمّا برز من ذات الله، وسكتَّ يأتيك بالخبر الموضوع يقول لك: قال تعالى في الحديث القدسي: (كنت كنزاً مخفياً لم أُعرف فأحببت أن أُعرف فخلقت خلقاً فتعرفت به فبي عرفوني)، ثم يسألك مَنْ أشرف وأحب الخلق إلى الله؟ فتقول: محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لك فمن برز من ذات الله؟ فتقول محمد لأنّك فهمت مراده بالإشارات، وبالأسئلة التي ألقاها لك، ثمّ يشير لك إلى الجدار قائلاً: ما هذا؟ فتقول محمد ويشير إلى كل شيء سائلاً ما هذا؟ وأنت تقول محمد، فالحضرة الأولى هي اللاهوت وهذه الثانية هي اللاهوت ثمّ يأمرك بالذهاب والاشتغال بالأذكار فإذا جئته بعد ذلك يقول لك: الشيخ أحمد التجاني هو خاتم الأولياء، كما أنّ محمداً هو خاتم الأنبياء، وأحمد التجاني هو خليفة محمد الأول فيسألك حينئذٍ: فمن برز من محمد(صلى الله عليه وسلم)؟ فتقول أحمد التجاني، لأنّك فهمت مراده في خطابه وإشاراته فيقول: فمن أنت إذاً؟ فتقول: أحمد، فهذه هي الحضرة الجبروت كما يسمّونها، ثم يأمرك بالذهاب والاشتغال بالأذكار والتفكر في ما(116/80)
برز من أحمد التيجاني وقبل ذهابك يقول لك: الشيخ إبراهيم السنغالي هو خليفة أحمد التيجاني، وليس للتيجاني خليفة إلا هو، هو صاحب الفيضة، هو صاحب الوقت، هو المتصرف في الكون، ثمّ يقول لك: فمن برز من أحمد التجاني، فتقول: إبراهيم السنغالي فيشير إلى كل شيءٍ حولك قائلاً ما هذا؟ فتقول إبراهيم فهذه الحضرة هي حضرة الملكوت كما يسمونها، ثمّ يقول لك: صاحب الوقت هو المتصرف في الكون لا يخرج عن تصرفه شيء دقيقاً كان أو جليلاً، فيقول: اذهبْ وتفكّرْ ماذا برز من إبراهيم؟ فتقول: الخلائق كلها فيقول: أنت من الخلائق، والفرع له حكم الأصل فمن أنت إذاً؟ فتقول: إبراهيم ويشير إلى السماء وإلى الأرض وإلى كل شيء وأنت تقول: إبراهيم فيقول لك: فمِن اليوم أنت تعرف أنّ الشيخ إبراهيم هو المتصرف فيك فلا تنال شيئاَ إلا منه ولا تنال خيراً إلا برضاه ولا شراً إلا بسخطه والجنة والنار تحت حكمه وتصرفه ويقول لك: فاعتقدْ ذلك وتحقق وأنت اليوم من العارفين والأولياء المفتوح عليهم وهذه العلوم التي حصلتَ عليها اليوم هي العلوم اللدنِّية وهي المعرفة الحقيقية ومن الأولياء من خدم شيخه أربعين سنة ولم يحصل عليها حتى في الأنبياء مَنْ لم يفز بها، وها أنت قد فزت بها فشُدّ عليها يدك فإنّها من الأسرار... هذه هي التربية وهذه هي المعرفة عند أنصار الفيضة التيجانية أخبرتك بها عن خبرة لأني تعلمتها من أولها إلى آخرها على يد سفير الشيخ إبراهيم، سيد الهادي المريتاني، الذي بثّ هذه العقيدة في غانا ونيجيريا وتوغو وسراليون، ولقد خدمتُ هذه الطريقة والعقيدة الشركية حوالي ثلاثين سنة حتى تبحّرت فيها وصرتُ مقدَّماً، وشيخاً فيها، ثم أنقذني الله منها، كما أنقذ آلاف المسلمين الذين تمسكوا بها جهلاً بما احتوت عليه من المفاسد والحمد لله على التوفيق والشكر له على الإكرام فعلى هذه التربية الفظيعة الشركية تُربي هذه الفرقة وتدعي رؤية الله وتزعم أنّها أفضل من نبي(116/81)
الله موسى، وتقول إنّ نبي الله موسى سأل الرؤية ولم ينلها، ونحن نرى الله في كل لحظة فهؤلاء يعتقدون أنّ الخالق هو المخلوق وأنّ المخلوق هو الخالق كما عليه زعيمهم الأول ابن عربي فاسمعه وهو يقول كما في الفتوحات:
العبد ربٌ والرب عبدٌ
إن قلت عبدٌ فالعبد ميتٌ
ج ... ياليت شعري مَن المكلَّف؟
أو قلت ربٌ أنَّى يكلََّف؟
جج
وقال أيضاً كما في الفصوص: الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله. فللّه در محمد بن إسماعيل الصنعاني حيث يقول في داليته:
وأكفر أهل الأرض مَنْ قال إنّه ... إله فإنّ الله جلّ عن الندِّ
ويقول ابن عربي أيضاً:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهبٌ في كنيسةِ
قلتُ في مقابلة بيته الأول:
الربُّ ربٌّ والعبد عبد
فالعبد خلْقٌ هو المكلّف
جج ... فالعبد حقاً هو المكلّف
والرب حاشاه أن يكلّف
كما قلت في مقابلة بيته الثاني:
وما الكلب والخنزير إلا خليقةٌ ... وما الله إلا خالق للخليقةِاهـ"
ج
اعتقاد الشاذلية بالحقيقة المحمدية(116/82)
ويقول ابن مشيش في الصلاة المشيشية -وهي ورد الشاذلية(1)
__________
(1) قال الشاذلي صاحب الطريقة(هلك عام 656هـ) معبِّراً عن الحقيقة المحمدية: "حقيقة المتابعة(أي للنبي): رؤية المتبوع(أي النبي) عند كل شيء ومع كل شيء وفي كل شيء وهذا من بابة الاتحاد والوحدة". وقد نسب الشعراني هذا القول للشاذلي هذا وهو معدود من المنحرفين ومن أقواله: "أنا الآن أعوم في عشرة أبحر خمسة من الآدميين ثم ذكرهم أولهم النبي عليه الصلاة والسلام وآخرهم علي بن أبي طالب، وخمسة من الروحانيين ثم ذكرهم". ونقل عنه الشعراني في الطبقات(2/12) قوله: "وأما طريقة الخاصة مَنْ أمدّه الله بنور العقل الأصلي(الحقيقة المحمدية ويسميه الفلاسفة العقل الفعّال) شهد موجوداً لا حدّ له، واضمحلّت جميع الكائنات فيه، وإذا اضمحل النور ذهبت الكائنات كلها وبقي هذا الموجود فتارة يفنى وتارة يبقى…إلخ هذا الكفر والضلال والهذيان" وهو كما ترى يؤمن بالحقيقة المحمدية ووحدة الوجود وغيرها من العقائد الكفرية، وله أقوال شنيعة أخرى كثيرة، ولذلك نسبه الشيخ عبد القادر السندي إلى الزيغ والانحراف. ومن أقوال الشاذلي: "ومنهم طائفة مُدُّوا بالنور الإلهي فنظروا به حتى عرفوا من هم على التحقيق". أي عرفوا أنهم نُسخ من الله كما هو مذهبهم ومن قوله فيما يسمى(حزب اللطف) وطالما ردده الشاذليون وغيرهم: "إلهنا حجبت سريان سرك في الأكوان فلا يشهده إلا أهل المعرفة والعيان(يعني أهل وحدة الوجود الضُلَّال) فلما شهدوا سر لطفك بكل شيء أمِنوا من سوء كل شيء فأشهدنا سر هذا اللطف الوافي"اهـ انظر/أدعية وصلوات صـ40/ للمنحرف الضال علوي المالكي. ومن أقواله(أي الشاذلي) التي صرّح فيها بوحدة الوجود: "فأعطي هذا العبد الذل والانقياد لنور هذا الموجود إذ لا يقدر على حده فإذا أمده هذا العبد بنور أسمائه(!) قطع ذلك ثم أمده الله بنور الروح فعرف هذا الوجود فذهب بجميع ما تجلى به هذا العبد وبقي كلّا موجود(!!؟) ثم أحياه الله بنور صفاته فأدرجه في معرفة هذا الموجود فلما استنشق من مبادىء صفاته كاد أن يقول هو الله(؟) فإذا لحقته العناية الأولية نادته، ألا إن هذا الوجود هو الذي لا يجوز لأحد أن يصفه بصفة(!) ولا أن يعبر بشيء من صفاته لغير أهله(تأمل) لكن بنور غيره يعرفه، فإذا أمده الله بنور= =سر الروح وجد نفسه جالساً على باب ميدان السر، فرفع همته ليعرف هذا الموجود الذي هو السر فعمي عن إدراكه فتلاشت جميع أوصافه كأنه ليس بشيء(!) فإذا أمده الله بنور ذاته أحياه حياة باقية لا غاية لها، فوجد نور الحق شائعاً في كل شيء لا يشهد غيره(!!) ثم قال يارب أعوذ بك منك لا غيرك(أي لا موجود سواك) …"انظر طبقات الشعراني(2/13) وهذه الأقوال أقوال الزنادقة وبمثلها أو بأقل منها حكم علماء بغداد على الحلاج بالزندقة والردة وأفتوا بقتله كما رأيتَ سابقاً عند ذكرنا تفاصيل قصة محاكمته ومقتله مسندة إلى العلماء ونكتفي هنا بالتذكير بواحدة منها وهي ما روى الخطيب في تاريخ بغداد بسنده: (لما أرادوا قتل الحسين بن منصور أُحضر لذلك الفقهاء والعلماء وأخرجوه وقدّموه بحضرة السلطان فسألوه فقالوا مسألة فقال هاتوا فقالوا ما البرهان فقال البرهان شواهد يلبسها الحق أهل الإخلاص يجذب النفوس إليها جاذب القبول فقالوا بأجمعهم هذا كلام أهل الزندقة وأشاروا على السلطان بقتله)اهـ. ومما اغترفه الشاذلي من مستنقع الوحدة والضلال قوله: "وأما طريق الخاصة فإنه ترق منه إليه به فأول قدم لهم إذا ألقى عليهم من نور ذاته فغيّبهم بين عباده وحبب إليهم الخلوات وصغرت لديهم الأعمال الصالحات(كذا)، فنظروا فإذا هم لا هم، ثم أردف عليهم ظلمة فصار نظرهم عدماً(؟) فلا حادث ولا وجود بل ليس إلا العدم الذي لا علة له وبقي من أشير إليه(أي الله) لا صفة ولا وصف ولا ذات واضمحلت النعوت والأسماء والصفات فهناك ظهر من لم يزل ظهوراً لا علة فيه، بل ظهر بسره له، بل نظر من ذاته لذاته في ذاته(!) فوُجدت الأشياء بأوصافه وظهرت بنوره في نوره سبحانه ثم يغطس بعد ذلك في بحر بعد بحر إلى أن يصل إلى بحر السر(أي اعتقاد الوحدة) فإذا دخل بحر السر غرق غرقاً لا خروج له منه أبد الآباد (صح)..." انظر الطبقات للشعراني(2/12) قلت: وبهذا ظهر أن الشاذلي من أكبر الزنادقة ولهذا ليس عجيباً أن أجمع أهل بلده المغاربة على زندقته ثم طردوه من المغرب. قال الشيخ ابن دقيق العيد: "آذوه وأخرجوه بجماعته من المغرب وكتبوا إلى نائب الاسكندرية إنه يقدم عليكم مغربي زنديق وقد أخرجناه من بلدنا فاحذروه" انظر شذرات الذهب لابن العماد(5/278) وقد ذكرها الشعراني في مقدمة كتابه الطبقات الكبرى. وقال الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي في كتابه عن التصوف صـ467 في ترجمة الشاذلي هذا: "ثبت بأنه كان زنديقاً ولذا أجمع المغاربة على إخراجه وطرده من بلادهم".اهـ قلت وكذلك شيخه عبد السلام بن مشيش= =صاحب الصلاة المشيشية التي يرددها الشاذليون وغيرهم من أكبر الزنادقة وقد قُتل بالمغرب على الزندقة قتله ابن الطواجن كما ذكر الشعراني في طبقاته. فتدبّرْ. ومع ذلك تجد طائفة الشاذلية تتبع هؤلاء الزنادقة وتتخذهم قدوة وتحرص على ترديد أقوال الشاذلي وترديد صلاة ابن مشيش المبتدعة المليئة بالكفر والزندقة والله المستعان.(116/83)
الأساسي وقد نقلنا بعضها آنفاً-: "اللهمّ صلِّ على مَنْ منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار وفيه ارتقت الحقائق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة. ولا شيء إلا وهو به منوط، إذْ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، اللهمّ إنّه سرك الجامع وحجابك الأعظم، اللهمّ زجّ بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه سر حقيقتي وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول. يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن واجمع بيني وبينك. آلله. آلله. آلله…". ومع أنّ معاني هذه الصلاة الباطنية الكفرية صارت واضحة للقارئ -إن شاء الله- فلا بأس أن ننقل بعض شرحها عن أحد كبار الصوفية المعتبرين الضالِّين لزيادة الإيضاح، يقول السلجماسي الصوفي في كتابه الإبريز نقلاً عن شيخه الدباغ: "فسمعته رضي الله عنه يقول في شرح قوله(اللهمّ صلِّ على مَنْ منه انشقت الأسرار) أنّ الله تعالى لمّا أراد إخراج بركات الأرض وأسرارها مثل ما فيها من العيون والآبار والأنهار والأشجار والثمار والأزهار أرسل سبعين ألف ملَك إلى سبعين ألف ملك إلى سبعين ألف ملك ثلاث سبعينات من الألوف فنزلوا يطوفون في الأرض يذكرون اسم النبي صلى الله عليه وسلم ومرادنا بالاسم الاسم العالي ما يأتي في شرح "وتنزّلتْ علوم آدم" ونوره صلى الله عليه وسلم مع الطوائف الثلاث فتكونت الكائنات ببركة ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وحضوره بينها ومشاهدتها قربه -قال- وذكروه على الأرض فاستقرت وعلى السماوات فاستقلت وعلى مفاصل ذات ابن آدم فلانت وعلى مواضع عينيه ففتحت بالأنوار التي فيها فهذا معنى قوله منه انشقت الأسرار فببركته صلى الله عليه وسلم تكونت الكائنات ولولا نوره ما ظهر سر من أسرار الأرض فلولا هو ما تفجرت عين من العيون، ولا جرى نهر من الأنهار وإنّ نوره صلى الله(116/84)
عليه وسلم ياولدي يفوح في شهر مارس ثلاث مرات على سائر الحبوب فيقع لها الإثمار ببركته ولولا نوره ما أثمرت. وسمعته رضي الله عنه يقول في قوله: "وانفلقت الأنوار" أنّ أول ما خلق الله نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثمّ خلق منه القلم والحجب السبعين وملائكتها ثمّ خلق اللوح ثمّ قبل كماله وانعقاده خلق العرش والأرواح والجنة والبرزخ، أمّا العرش فإنّه خلقه من نور وذلك النور من النور المكرم نور مولانا محمد وخلَقه -أي العرش- ياقوتة عظيمة وفي وسطها جوهرة ثمّ إنّ الله تعالى أمدّ تلك الجوهرة وسقاها بنوره صلى الله عليه وسلم مرة ثمّ مرة ثمّ مرة فسالت الجوهرة فرجعت ماء ثمّ إنّ النور المكرم الذي خرق العرش إلى الجوهرة التي سالت ماء لم يرجع فخلق الله منه ملائكة ثمانية وهم حملة العرش فخلقهم من صفائه وخلق من ثقله الريح فنزلت تحت الماء فأراد الماء أن يجمد فلم تدعه الرياح بل جعلت تكسر شقوقه التي تجمد وجعلت تلك الشقوق تتعفّن ويدخلها الثقل والنتونة(انظر كيف يصف نور النبي صلى الله عليه وسلم بالعفونة والنتن لإن هذه الأشياء خُلقت من نوره كما زعم)(1)
__________
(1) بعد نظري في كتاب الإبريز هذا مرة بعد مرة وقع في بالي أن مؤلفه نصراني تلبّس بلباس علماء المسلمين بعد أن خالطهم وتعلّم منهم لا سيما أن المغرب المنسوب إليها المؤلف ملاصقة لأوربا فغير بعيد أن ترسل الكنائس من يفسد على المسلمين دينهم كهذا المؤلف خاصة في المناطق التي يكثر فيها الصوفية وتروج فيها الخرافة والبدع فعن طريق الصوفية دخل على المسلمين جل المصائب والذي حملني على هذا الظن ما بدر من المؤلف من أفكار نصرانية أراد تمشيتها والانتصار لها مثل نصره للّغة السريانية على اللغة العربية زاعماً أن السريانية لغة الأبدال والأقطاب والملائكة ومعلوم أن الشائع عند النصارى أن لغة المسيح هي السريانية ومثل ذكره أن الواحد من أولياء الله من الأبدال وغيرهم يظهر -في جملة ما يظهر به- على شكل خواجة والخواجة هو الاسم الذي= =يطلقه المسلمون في المغرب على النصراني فالمؤلف يريد أن يُفهم المسلمين -لا سيما الصوفية الذين لا عقل لهم- أن النصارى أولياء الله ثم إنّ محتوى الكتاب وما فيه من عقائد فاسدة يناقض دين الإسلام ويروج لعقائد النصارى في الحلول وغيره كما ترى مما يشي بهوية الرجل والله أعلم.(116/85)
ثمّ جعلتْ الشقوق تتسع فخلق الله منه الأرضين السبع والبحور والسماوات وجهنم ثمّ إنّ الله خلق ملائكة الأرضين من نوره صلى الله عليه وسلم وخلق ملائكة السماوات من نوره صلى الله عليه وسلم وأمّا الأرواح والجنة فإنّها خلقت من نور وخُلق ذلك النور من نوره صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: ولا يطيق مخلوق أن يحمل نوره ولو وضع نوره صلى الله عليه وسلم على العرش لذاب ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت…ونور الشمس إنّما هو من نور أرواح المؤمنين الذي هو من نوره صلى الله عليه وسلم…إلخ هذا الهذيان والكفر"انظر صـ224 وما بعدها من الإبريز.(116/86)
ولا شكّ أن معتقد هذا كافرٌ كفراً ناقلاً عن الملة لأنّه مخالف للقرآن والأحاديث وما علم بالضرورة من دين الإسلام ولمنافاته للمعقول والمنقول. أمّا قوله في الصلاة المبتدعة: "فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة" فهو بشبر بالملكوت والجبروت إلى معنى خبيث لا يخرج عن عقيدة وحدة الوجود وهذه الألفاظ موجودة لدى كافة الطرق الصوفية، فالجبروت ما برز من النبي صلى الله عليه وسلم من أصناف المخلوقات ولا سيما الأولياء. والملكوت بزعمهم ما برز عن الأولياء(1). ولديهم أيضاً حضرة اللاهو ت والناسوت، وقد تدل على معانٍ أخرى كالجبروت مع اللاهوت تدل على اتصال الولي بالله والتلقي عنه رأساً دون وساطة، وما أشبه هذه الألفاظ بقول النصارى بطبيعة المسيح اللاهوتية والناسوتية. أمّا قوله في الصلاة المذكورة: "إنّه سرك الجامع وحجابك الأعظم" يعني أنّ صورة النبي هي صورة الله كما أوضحها الجيلي في كتابه(الإنسان الكامل). وأمّا طلبه النشل من التوحيد وإغراقه في بحار الأحدية وعين بحر الوحدة فهو صريح في عقيدة وحدة الوجود وقد مرَّ آنفاً. ومن هنا فنستطيع أنّ نقول وبالله التوفيق: إنّ من ردّد الصلاة المشيشية مِنْ شاذليٍّ أو غيرِه معتقداً لها عالماً بها فهو حلال الدم ينبغي على ولي أمر المسلمين أن يستتيبه فإن تاب وإلا قُتل.
اعتقاد الرفاعية بوحدة الوجود وفرعها الحقيقة المحمدية ونبذة عن أحوال الدولة العثمانية وأسباب زوالها
__________
(1) ذكر الغزالي في إحياء العلوم أن عالم الملكوت هو اللوح المحفوظ وأنه مأخذ الأولياء والأنبياء. ولا يخفى أن هذا هذيان.(116/87)
أمّا الرفاعية الحواة، أصحاب النار والشيش والحيّات، فحدِّث ولا حرج، فلو رأيتهم وقد كشفوا عن العورات، واستقبلوا بها الرجال والنساء المسلمات، واستغاثوا بالغائبين والأموات، وبعجوا خواصرهم وأطراف الشنَبات، وتحلّقوا وأجلبوا ولهم كشيش فهم مابين ضاربٍ بدفٍ وطاعنٍ بشيش، أرأيت ما يفعل عُبّاد أكّالة الحشيش؟ ولقد حدثني مَنْ شهد الوقيعة، أنّه أثناء هذه الجلَبة المريعة، ربما دعك الشيخ نهود الصريعة، حتى يقضي منها وطره، ليخرج الشيطان –زعم- ويبعد خطره، فتبّاً لهاتيك العقول تبّاً تبّا، وتعساً لهم ثم سحقاً سحقاً. ولا يخفى أنّ الرفاعية يدينون بالحقيقة المحمدية وغيرها من العقائد الكفرية أليسوا صوفية؟ ينقل أبو الهدى الصيادي في كتابه(قلادة الجواهر) عن الشيخ أحمد الرفاعي قوله: "قَبَض العزيز جلّ جلاله من نور وجهه قبضة فخلق منها سيدنا المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم فرشَحَتْ فخلقني منها"اهـ صـ133من قلادة الجواهر. ولا يهمنا إن كان الرفاعي قالها أو لم يقلها طالما أنّ الرفاعية يحتفون بها ويعتقدونها، والصيّادي هذا له كتب كثيرة عن الطريقة الرفاعية مثل(الكنز المطلسم) و(المجموعة النادرة) و(خزانة المداد في أخبار الغوث السجّاد) وغيرها وكلها من أهم المراجع لدى الرفاعية، وهو كان مستشاراً دينياً ومرجعاً أعلى للسلطان العثماني عبد الحميد، ولعلّ ذلك من أسباب زوال ملك العثمانيين ومحق دولتهم، فقد كان عبد الحميد هذا صوفياً مُخَرِّفاً –رأيته في صورة حليق اللحية متشبهاً بالأوربيين (1)
__________
(1) ذكر الطبّاخ في إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء (3/143) نقلاً عن ابن إياس أن السلطان العثماني سليماً الأول لمّا دخل حلب بعد تغلبه على المماليك في معركة مرج دابق سنة 922هـ: (كان حليق اللحية ليس له إلا الشوارب)اهـ. علماً أن سليماً هذا كان خلع أباه بايزيد الثاني من المُلْك وحلّ مكانه قال الطبَّاخ: (لمّا كانت سنة 917هـ خرج عليه ابنه سليم وانتزع منه المُلْك)اهـ. وقد أُزهقت أرواح كثيرة من المسلمين في معركة مرج دابق التي دارت من أجل نزوة المُلْك بين دولة المماليك المسلمة التي خرج عليها الترك بقيادة سليم ولحكمةٍ أرادها الله تغلّب الترك العثمانيون على المماليك الجراكسة في تلك المعركة علماً أن الفريقين ظَلَمَة قال تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) أي نسلط بعضهم على بعض. فإن قيل: أجدادُ سليم فتحوا القسطنطنية. فنقول: كذلك المماليك كانوا انتصروا على التتار في معركة عين جالوت وقضوا على خطرهم الذي هدد جميع المسلمين وقاوموا الصليبين في المنصورة وغيرها. وإذا كان محمد الفاتح رحمه الله الذي فتح القسطنطنية صالحاً -وهو كذلك– فليس بالضرورة أن يكون أحفاده صالحين ألا ترى أن سليماً خلع أباه واستولى على عرشه ثم تتبّع إخوته وقتلهم فهذا يدل-إن شاء الله- على أنه ليس من أولياء الله الصالحين بل أحد ملوك المسلمين الظالمين الذين ابتليت بهم الأمة قال الطبّاخ في تاريخه(3/101): "قال عبد الله المراش في كتابه مختصر تاريخ حلب: كان سليمٌ هذا..حريصاً على توسيع نطاق المملكة وكان كثير المطامع إلا أنّ أشدها حباً إليه هو أن يُلَقَّب بالخليفة ويُدعى خادم الحرمين الشريفين وهما -عنده- مكة وبيت المقدس لأنه كان يرى أنه إذا أحرز هذه المنزلة وجبت له الطاعة على المسلمين كافة أيان كانوا، فلذا جعل الاستيلاء على الشام ومصر نصب عينيه ونوى إذا فتحهما أن يقبض على الخليفة العباسي وكان يومئذ مقيماً بمصر فيُكرِهه على خلع نفسه من الخلافة والنزول له عنها ثم يفتح مكة فتعترف له بلاد العرب بالإمامة على المسلمين كافة وهكذا يحق له أن يُلقب نفسه بالخليفة خادم الحرمين فأدرك سُؤْله"اهـ. ولا يخفى أن تسلط الترك على العرب -ومن قبلهم المماليك- واندياحهم نحو هذه البلاد يُعَدُّ من المصائب العظيمة التي حاقت بالمسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في= =الحديث المتواتر الذي رواه أحمد18941 وغيره: (الأئمة من قريش).ولهذا كان أهل السنة يضعون هذه المسألة في كتب العقائد التي يُضلَّل مخالفها كما في العقيدة التي أوضحها الإمام حرب صاحب الإمام أحمد في كتابه المسائل الذي حكى فيه جملة من مقالات أهل السنة والحديث التي أجمعوا عليها حكايةً عن سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد بن حنبل إذ يقول:-والقائل هو ابن حنبل كما في الطبقات لابن أبي يعلى-: "والخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحدٍ من الناس أن ينازعهم فيها، ولا نخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة"اهـ والأحاديث في ذلك كثيرة منها في الصحيحين: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن). وفي الصحيح أيضاً: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان). قال النووي في شرح الأول-3389-: "هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة. قال القاضي: اشتراط كونه قرشياًً هو مذهب العلماء كافة. قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر -رضي الله عنهم- على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد. قال القاضي: وقد عدَّها العلماء في مسائل الإجماع، ولم يُنقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار"اهـ. ومن العجيب أنه لا زال ناس –خاصة الصوفية والحنفية والماتريدية والأشاعرة- يتباكون على المملكة التركية العثمانية التي أزالها الله بعد أن يئس المصلحون من صلاحها، فطيلة القرون الأربعة التي جثم فيها الترك على أكثر بلاد المسلمين قُمِعت السنة الصحيحة وراجت البدع ونفقت سوق أعداء السنن من الحنفية والطرقية وأضرابهم وأوذي المصلحون كالمقبلي والآلوسي والقاسمي وغيرهم كثير قال الشيخ المصلح العلّامة صالح الفُلّاني المتوفَّى سنة 1218هـ في كتابه الشهير إيقاظ همم أولي الأبصار صـ96 يُعَرِّض بالترك وفسادهم وفساد العلماء في زمانهم ويتأسف على ذلك: "وأما علماء الوقت الذي صار فيه المنكر معروفاً والمعروف منكراً فالقضاء والفتوى عندهم بلبس الكوربان والفراء، ورحم الله القائل:
فرِّغ القلبَ عن مسائل نحوٍ
واشتغِلْ بالرطانة التركيه
والبس الكوربان والفرو تَفْقَهْ
ذهب اليوم دولة العربيه=
=وبفقهِ أبي حنيفة فاقرأ
ذهب اليوم دولة الأثريه
إنّا لله وإنّا إليه راجعون"اهـ.وربما أطلق عليها بعض الجهلة اسم الخلافة فيقول: الخلافة زالت سنة1924ميلادية والمسلمون من وقتها دون خليفة. وهذا يدل على جهل عجيب لأن المملكة أو السلطنة العثمانية غاية أمرها أن تكون من الملك العضوض. أما الخلافة على منهاج النبوة فمدتها ثلاثون عاماً فقط هي مدة الخلفاء الراشدين الأربعة(أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي) وبعدها صارت مُلْكاً أخرج أحمد (20910) عن سفينة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك المُلْك. قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين و خلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ست سنين رضي الله عنهم". وفي رواية عند أبي داود(4028) عن سفينة قال:"خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء"الحديث. وهذا الملك نوعان: عضوض وجبري كما جاء مفسراً في الحديث الآخر الذي رواه أحمد(17680)بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال: جاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله في الأمراء فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون جبريّة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت". ولا شك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه هو أول ملوك الإسلام وخيرهم واستمر الملك بعده إلى يومك هذا. ولعل بقايا الملك العضوض –والله أعلم- في البلدان الإسلامية التي حكمها ملكي أو إمارة والمسلمون في هذه البلدان أحسن حالاً. أما الملك الجبري فينطبق على الحكومات العسكرية في العالم الإسلامي ويذوق المسلمون فيها الويلات وتستخدم فيها لفظة الجبر كالتجنيد الإجباري ونحوه. وفي الحديث السابق بشارة عظيمة بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في نهاية الأمر. والذي يميز نظام الخلافة أن اختيار الخليفة يكون بالشورى بين المسلمين وليس بالغلبة ولا بالوراثة كتغلب العثمانين على المماليك وتوريثه لأبنائهم. وكذلك لا يكون بانقلاب عسكري ونحوه فإنه= =يكون -عندها- مُلْكاً لا خلافة وإذا أراد الله أمراً يسّر أسبابه ولن يتم ذلك ما لم يتهيأ المسلمون (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فكثير من أئمة المساجد اليوم فضلاً عن العوام لا يرضون بالخلافة على منهاج النبوة لأن الخلافة على منهاج النبوة -باختصار-تساوي المذهب السلفي(الذي يسمونه الوهابي) وهم يعدُّونه الآن -في كثير من البلدان- بدعة أو ضلالة سواء من ناحية العقيدة السلفية أو من ناحية الأخذ بالحديث الصحيح دون تمذهب لأن قوله صلى الله عليه وسلم (ثم تعود خلافة على منهاج النبوة) يعني أنها تعيد ما كان عليه الأمر في الحلافة الأولى ومعلوم أن عقيدة الخلفاء الراشدين هي العقيدة السلفية الموافقة للفطرة ولم يكونوا أشاعرة ولا ماتريدية ولا طرقية فلا بد أن تكون عقيدة الناس في الخلافة الثانية سلفية كعقيدتهم زمن الخلافة الأولى. وكذلك لم يكن الناس زمن الخلفاء الراشدين متمذهبين هذا من عشيرة الحنفية وهذا من عشيرة الشافعية وهلم جرا بل كانوا كلهم يتبعون الدليل الصحيح وحسب ومن لا علم عنده يسأل من يثق بهم من أهل العلم ولا يربط دينه بقول واحد منهم أو طائفة بل إذا أتاه الدليل قبله. ولا يخفى أن أئمة المساجد في أكثر البلدان لا يقبلون هذا بل بعضهم يعدّ التحول من المذهب كالتحول من دين الإسلام والعياذ بالله. أرأيت كيف أنهم لا يرضون بالخلافة على منهاج النبوة!! فمثل هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا أفراداً في دولة الخلافة المنشودة وإنما غاية ما يتمنُّون هو دولة على طراز دولة الترك العثمانين المخرفين الذين ملئوا المساجد قبوراً وأوثاناً حتى صار تعريف الولي عند العوام: هو الذي دُفن في المسجد أو بُني على قبره قبَّة. فأين هؤلاء الشيوخ من الخلافة على منهاج النبوة وما لهم ولها فبينهم وبينها ما تنقطع له أعناق الإبل!! وهذه الحكومات العسكرية الجائرة هي بمستواهم أو فوق مستواهم ولا يظلم ربك أحداً. فينبغي على الدعاة أن يعملوا جهدهم على إعادة الخلافة على منهاج النبوة وذلك بتكثير الأفراد المؤهَّلين لأن يكون أفراداً صالحين في دولة الخلافة وذلك بنشر التوحيد والعقيدة السلفية الصحيحة وإشاعة فقه الدليل ومحاربة البدع والتصوف والفلسفة والكلام والتعصب المذهبي وسائر المعاصي وبالله التوفيق.(116/88)
- مقراً لكل هذه الضلالات كشأن أسلافه، فإنّ الدولة العثمانية كانت في بدايتها وصدرها جيدة فتحت الفتوحات العزيزة في أوربا بما في ذلك القسطنطينية ثمّ في أواخرها ركن ملوكها إلى البدع وأصناف الضلال وقربوا دعاة الانحراف وجعلوا للزنادقة الصوفية أتباع ابن عربي مكان الصدارة وأجازوا وأقروا كلّ أنواع الشرك وتحوّلت المساجد إلى تكايا للصوفية ومباءة للمبتدعة ومقابر وضرائح للأولياء المزعومين، وحسّنوا للناس الاستغاثة بهؤلاء المقبورين من دون الله وطلب المدد والنصر والفرج منهم وحاربوا كل دعاة الإصلاح ووقفوا في وجه الدعوات التي تدعوا إلى إحياء السنن وتصفية الشريعة مما علق بها من صنوف المفاسد في العقائد وغيرها لا سيما دعوة التوحيد في جزيرة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري فلما كان هذا حال دولتهم آذن الله بزوالهم كما هي سنته عز وجلّ، يقول الشيخ عثمان بن عبد السلام نوح في كتابه القيم(الطريق إلى الجماعة الأم): "كتب كثير من الكُتّاب الإسلاميين وغيرهم عن أسباب سقوط الخلافة العثمانية ولكن للأسف الشديد لا تكاد تميز بين الكُتّاب الإسلاميين وبين غيرهم إذ الكل يُرجع أسباب سقوطها إلى أسباب دنيوية بحتة مثل تخلّف الدولة عن الصناعات الحربية وغفلتهم عن مخططات الأعداء وتدابيرهم ونحو هذا ولكن لم ينظر الإسلاميون إلى أسباب التمكين التي فقدتها تلك الدولة حيث كان السلطان عبد الحميد صوفياً متعصباً من أكبر أعداء التوحيد وأهله ومن أكبر أنصار الشرك وأهله ومثل هذا كيف يستحق التمكين في الأرض لذلك سلّط الله عليه الكافرين فمزقوا ملكه، قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) وبهذا الوعد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبشر أصحابه بالتمكين وخلافة الأرض إذا استقاموا على التوحيد الخالص: (قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العجم وتدين لكم بها العرب)(116/89)
فعلمنا من هذا كله أنّ الاستقامة على التوحيد هي مفتاح التمكين في الأرض، وأنّ التمكين في الأرض منحة يعطيها الله لعباده إذا استقام حالهم مع ربّهم وقال هذا أيضاً نبيُّ الله موسى حينما كان يعاني هو وأتباعه من مرارة الاستضعاف تحت حكم طاغية التاريخ "فرعون مصر" حيث قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: (استعينوا بالله واصبروا إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) وقال تعالى: (ونريد أن نمنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثينO ونمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) وأيضاً قوله تعالى مخاطباً رسله وأتباعهم: (فأو حى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). أي يكون هلاك الظالمين وإقامة الخلافة على أنقاض ملكهم لمن خاف مقام ربه -عز وجل- وخاف وعيده، وبهذا الميزان كم كان نصيب سلاطين الأتراك من تقوى الله والخوف من وعيده أو قل: كم نصيبهم من توحيد الله الذي هو الركن الأصيل لعزة المسلمين في الدنيا وسعادتهم في الآخرة؟ إنّهم علاوة عن تخلفهم وجهلهم وظلمهم كانوا أعداءً للتوحيد وأهله متمثلاً في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله التي أصلح بها حال هذه الأمة بعد أن طمس علماء السوء نقاء التوحيد الخالص ولبّسوا على العوام بقصصهم وخرافاتهم حتى اجتالوهم عن دينهم لقد حاربوا دعاة التوحيد بالدعايات الكاذبة والافتراءات التي ما زالت سبباً في صدّ كثير من الناس عن سبيل الله وأيضاً حاربوهم بالقتال المسلح وسلطوا عليهم الجيوش الجرارة فعاثت في أرض التوحيد بالفساد وأي فساد حيث القتل الجماعي للنساء والأطفال والشيوخ وهدم القرى وحرق النخيل(فعلوا ذلك بقيادة والي مصر العلماني محمد علي باشا المجرم)…وبعد فهذه نبذة من أحوال دولة الخلافة حيث بعد حربها لدعوة التوحيد جعلت تضعف وتتلاشى حتى طمع فيها الكفّار(116/90)
وشنّوا عليها الحملات المتوالية حتى سقطت نهائياً وأمّا النجديون الموحدون فقد قاموا مرة أخرى واستولوا على الرياض ثمّ توالت فتوحاتهم حتى انتزعوا الحجاز من أيدي دولة الأشراف الخرافية. إنّ الدعوة الصحيحة هي التي تزن كل تحركاتها بميزان الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقام الشيخ محمد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- دعوته على هذا الميزان ولم يلتفت إلى موازين السياسيين التي تقدم التصورات السياسية والفكرية على ميزان الشريعة والتي تنظر إلى القاعدة العريضة من الجماهير على أنّها هي ميزان النجاح حيث تقوم بخداعهم بكل الوسائل التي تمكنهم من جذب الجماهير إلى صفوفهم والوقوف معهم حتى قال قائلهم "السياسة هي الكذب بأسلوب مقبول" لم يلتفت الشيخ رحمه الله إلى هذا بل نظر إلى تاريخ الرسل مع أقوامهم وخصوماتهم معهم والصدع بالحق في مقابلتهم وتعظيم جريمة الشرك في قلوبهم وترغيبهم في توحيد الله عز وجل وما يدخره الله لعباده الموحدين من جنات النعيم وما زالت الدعوة تشق طريقها المحفوف بالدماء والخصومات والمناقشات والمناظرات مع أعداء التوحيد وكم خاض الشيخ وأتباعه من الحروب العسكرية وكم تحمّل من السخرية والاستهزاء والدعايات المنفرة من الجهال ومن المنتفعين من جهل الجماهير حتى مكنهم الله عز وجلّ من السيطرة على أهم مراكز الدعوة في الأرض كلها مكة والمدينة وبهذا المشوار تمّ وبفضل الله وحده إنقاذ ملايين الناس من هذا الشرك القبيح وصارت الجامعات الوحيدة التي تتمسّك بتدريس العقيدة الصحيحة هي جامعات هذا البلد وكم تخرج منها من العلماء إلى يومنا هذا حيث انتشروا في أنحاء المعمورة ينشرون دعوة الأنبياء الخالصة من الخرافات ومن الفلسفة اليونانية الدخيلة وكفى بها -والله- من ثمرة لو تسبّبت هذه الدعوة في هداية شخص واحد فكيف بما لا يعلم حصره إلا الله من سائر بقاع الأرض؟"إهـ من(الطريق إلى الجماعة الأم) صـ56? 59. قلت:(116/91)
استولى الموحدون السلفيون على مكة في16من تشرين الأول عام1924مـ والمدينة في5من كانون الأول عام 1925 وحالما استخلفهم الله فيها أزالوا المنكرات وهدموا القباب الشركيّة والمشاهد البدعية التي كانت تُتخذ مراكز للشرك وكان في المدينة المنورة عند قبول آل البيت منها كثير ولها سدنة وأوقاف، يحج إليها الشيعة وغيرهم ويطوفون بها ويكسونها، ويستغيثون بأهلها الأموات، ويستمدون من تلك الرفات، ويفعلون عندها من المفاسد ما الله به عليم حتى إنّ لدى الشيعة كتاباً ينظم هذه المصائب اسمه(مناسك حج المشاهد)، وكان بمكة من هذه الأوثان ما يفوق الحصر، أمّا جماعة المسلمين في المسجد الحرام فكانت مقسّمة في الصلاة كل مذهب من المذاهب الأربعة له إمام يصلي به فتجد أربع جماعات في وقتٍ واحد، فأزال الموحدون هذه البدعة الشنيعة والمفسدة العظيمة وجمعوا المصلين على إمام واحد، ذكر ذلك الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على جامع الترمذي وذكرها غيره.
الزنديق الصيّادي الرفاعي مستشار السلطان العثماني وادِّعاؤه القطبية والغوثية(116/92)
وعن الصيّادي الرفاعي هذا يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: "ألّف رسالة كراسة صغيرة سمّاها(الدرة البيضاء) ملأها بالجهل والغباء وبدأها للأسف بقوله: (أمرني بكتابتها وإذاعتها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وزعم في هذه الرسالة أنّ الله خلق الرسول من نوره فأشرك بالله سبحانه وتعالى. وأنّ على المسلم أن يشفق على الخلق كلهم(لأنّ الكل يعبد الله في وحدة الوجود) فخالف أمر الله القائل(ياأيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم) ومن جملة مزاعمهم في هذه الكرّاسة دعوة الناس إلى الاستمداد وطلب الإغاثة والإعانة من الأنبياء والأولياء فدعا بذلك إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى العمل بأي رأي فقهي لأنّ اختلاف الأئمة رحمة، (قلت: يقول ابن حزم رحمه الله عن الحديث الدّارج على ألسنة متعصبة المذاهب(اختلاف أمتي رحمة): هذا باطل إذْ لو كان اختلاف الأمة رحمة لكان اتفاقهم سخط ونقمة وهذا لا يقول به مسلم. قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذابٌ عظيم). ودافع -أي الصيادي- عن ابن عربي واصفاً إياه بأنّه العارف الشيخ محي الدين بن عربي طيب الله ثراه. وزعم أنّ آل الرسول من أجزائه النورانية وبالتالي فهم أجزاء من الله حسب زعمه أنّ الرسول مخلوق من نور الله. وقسّم في هذه الرسالة الأولياء فجعل منهم المجاذيب وأهل الشطح والأميين وجعل نفسه أفضل الأولياء في زمنه على الإطلاق حيث يقول عن نفسه: "الاختصاص رحمة للعبد لا بسعي، فأهل الاختصاص من جذبتهم يد المشيئة الربانية بمحض الفضل والعناية الصمدانية إلى أقصى المراتب العليّة وهذا المنح الباهر والفضل الوافر هو اليوم حصتي ومنصته منصتي أقامني الله في هذه المنزلة إماماً واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً وكشف لي مخبّآت الغيب ففهمت أسرار الرموز الفرقانية وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية ولم تبرح همتي تترقى بكشف تلك الحجب(116/93)
اللطيفة وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة فأنا اليوم كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية وسجل العلوم المقدّسة النبوية وهذه النوبة نوبتي تتقلّب في وارث منزلتي وخدّام قدمي إلى ما شاء الله بهذا بُشرت وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بدقائق الحقائق سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الاكوان ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان وتعكف على بابي القلوب والأرواح ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح...إلخ هذا الهذيان". تجدها في(المجموعة النادرة) للصيادي صـ37. وفي هذه المجموعة توجد رسالة سمّاها(برقمة البلبل) زعم فيها أنّه كان يعرف لغة البلابل وأنه كان مرة عند الكعبة فسمع بلبلين يبرقمان(يتحاوران) فقال أحد البلبلين لصديقه -والمترجم الصيادي يسمع-: (إنّ أولاد آدم كلهم(؟) مكرمون وجميعهم(!) مرحومون وأنّ منهم أيضاً أولياء عارفين(صوفية) وأنّ من هؤلاء الأولياء قسم يتصرفون في العالم(أعوذ بالله) ومن جملة ما يتصرفون فيه الطير فيقول البلبل لصاحبه ومنهم المتصرفون فيّ وفيك وفي عالم الأكوان إلى أن يقول البلبل لصديقه: إنّ هذا الرجل الملتحف بكسائه(يعني نفسه) قد فهم لغتنا وهو نائب الرسول الآن في هذا الوقت وهو شيخ الأوان وعالم الزمان فقال البلبل الآخر: إذن تعال نتبرك به ونقبِّل قدميه(1) ثمّ جاءا إليه وعكفا عليه وسألاه الدعاء ! وأنّهما أخبراه أنّه سيد الأولياء وإنّ نوره لا يعدله نور وإنّ مدده سيعم الأمصار والأقطار ويستطرد الصيادي قائلاً بأنّ البلبلين أخبراه أنّ الله قد كتب صحيفة منزلته ووضعها فوق مقام إبراهيم فقام الصيادي من فوره وأخذ الصحيفة وفرح بما وجد فيها حسب زعمه من إطناب الله في الثناء عليه ومدحه له وتبشيره إياه بظهور طريقته يقول الصيادي مفترياً على الله أنّه قال في الصحيفة: (هذا غريب
__________
(1) نسي الصيّادي أن البلبل إذا قبّل قدمه فسيؤذيه لإنه ينقر نقراً فاعجب لهذا البلبل الصوفي.(116/94)
الغرباء أبو البراهين وأحد آل طه ويس المجدد الأكمل، الأشعث الأغبر، سجنجل الحكمة والفراسة المحمدية، رافع ألوية الشريعة الطاهرة الأحمدية، باني مباني أحكام الطريقة المرضية الرفاعية، نور المدد المصطفوي، الرفاعي الثاني، طلسم البرهان الذي لا يُدافع، معنى ناطقة البيان النبوي الذي لا يُنازع، باب النبي في العصر، وجه عليٍ في الدهر(!)، الفقير الغني، الخفي الظاهر، من التحق به سلم ومن أبغضه ندم، يصل به الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع، هذا الزاهد الماجد، الآبد الواجد، هذا الممهَّد، هذا الموطَّد، هو بحر مطمطم رباني وكنز مطلسم سبحاني).إهـ من برقمة البلبل من المجموعة النادرة صـ77 ?79عن(الفكر الصوفي). وكل هذا الكفر والضلال هو من كلام الله في الصحيفة المزعومة بزعم هذا الصيادي الرفاعي المفتري، ثم هو مع كل هذا المرجع الديني للدولة العثمانية وسلطانها !
ويلاحظ المتأملُ النفَس الشيعي في قوله(وجه علي في الدهر)، ثمّ ما أشبه صحيفة الصيادي هذه المنزلة عليه من عند الله -زعم- مقرطسةً بمصحف فاطمة عند الشيعة!.
مقارنة بين عقائد الصوفية وعقائد الشيعة(116/95)
والواقع إنّ المرء لَيَجد تشابهاً كبيراً بين الصوفية والشيعة في العقائد والعبادات والممارسات ولا عجب في ذلك فكلا الطائفتين من الفرق الباطنية وممن يرى تلقِّي الدين عن طريق المنامات والكشف والوساوس والخطرات والكهانة ويحرف آيات الله حسب عقيدته الباطنية ويتخذ أرباباً من الناس فإن يكن للشيعة أئمتهم المعصومون فإن للصوفية أولياءهم المحفوظين و لكل منهما مزاراته وقبوره وأوثانه وكلاهما يثبت التصرف المطلق في الكون لأقطابه وأغواثه وهم متفقون على الشرك والاستغاثة بالأموات ويسمونه توسلاً وكذلك فإن حشر الصوفية لكبار الصحابة في طرقهم الضالة ونسبتها إليهم يُعَدُّ تنقصاً لأولئك السادة رضوان الله عليهم فالنقشبندية مثلاً تدعي أن طريقتها مأخوذة عن علي أو سلمان وأبي بكر الصديق والرفاعية عن علي وهكذا كل طريقة ترجع عقائدها الضالة وأورادها المبتدعة إلى أحد الصحابة فهذا بلا شك إساءة تمس جناب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبرئين من الابتداع رضي الله عنهم وأرضاهم. هذا مع أن جميع هذه الطرق تحرص على وضع علي رضي الله عنه وحده أو مع غيره مصدراً للتلقِّي كما يتبين للناظر في أسانيد كل طريقة مما يؤكد على الأصول الشيعية لمنشئي هذه الطرق، فالطريقة الشاذلية –على سبيل المثال- ترجع في أصولها –حسب سلسلة شيوخها المنشورة- إلى علي الرضا الإمام الثامن للشيعة فهي أقرب إلى الشيعة من الإسماعيلية (أتباع إسماعيل بن جعفر) الذين يتفقون مع الإمامية على ستة أئمة فقط إلى جعفر بن محمد فحسب (ولا يعترفون بإمامة موسى بن جعفر) بينما الشاذليون يُرْجِعون طريقتهم إلى علي الرضا ثم موسى ثم جعفر إلخ كسلسلة الشيعة. وقد لاحظ التشابه بين الطائفتين كثير ممن كتب عن التصوف أو التشيع قديماً أو حديثاً كابن خلدون إذ انتهى في مقدمته إلى أنّ (التصوف فرعٌ من التشيع). وكذلك قرّر العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله في كتابه الخطوط العريضة: أن(116/96)
الشيعة هم الذين اخترعوا التصوف لتكريس هذه المعاني المنحرفة؛ من إعطاء قدرة خاصة للأولياء والأقطاب، وطلب الحاجات من الأموات وغيرها من الأمور الشركية القادحة في التوحيد. وقد وعى هذه الحقيقة علماء الشيعة فيقول الرئيس الإيراني السابق هاشمي رَفَسَهُ جانِّي في خطبة الجمعة بطهران: (كفى الشيعة شرفاً وفخراً أنّ جميع الطرق الصوفية عند أهل السنة تنتسب إلى آل البيت عليهم السلام)(1)
__________
(1) وهذا ما أكده أحد كبار شيوخ النقشبندية في بلاد الشام الشيخ أحمد حسون مفتي الشافعية في حلب الذي أعلن تشيعه مؤخراً وموالاته للرافضة ومباركته لجهود حزب الله لتشييع الناس في سورية فبعد أن أعلن على المنبر طعنه على عائشة رضي الله عنها ثم طعنه في معاوية رضي الله عنه وتألِّيه على الله بأنه سيحاسب معاوية ويعاقبه قائلاً: (سيكون لك موقف أمام الله يسألك عنه يا معاوية). هذا مع اتفاق أهل السنة على أن الطاعن في واحد من الصحابة زنديق ومذهبهم في الفتن والحروب التي جرت بين الصحابة أن نكفّ ألسنتنا عمّا شجر بينهم ولا نذكرهم إلا بما يستحقونه من المدح والثناء الجميل والاعتقاد بأن جميعَهم مجتهدون مغفور لهم؛ من أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، لأدلة كثيرة منها قوله تعالى في سورة الحديد : (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى)الآية. والفتح هو فتح مكة، والحسنى هي الجنة، أي أن الصحابة كلهم مبشرون بالجنة سواء منهم من أسلم قبل فتح مكة أو بعده. والصحابي هو من رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم –ولو للحظة- ومات مؤمناً به. فليت شعري ما الذي جعل الحسون وأشباهه يخرجون معاوية من عدادهم، ويحرمونه المغفرة والحسنى!! ومعاوية رضي الله عنه أمير المؤمنين قاطبة بعد أن بايعه الحسن بن علي وقد مدح النبيُ صلى الله عليه وسلم الحسنَ على ذلك فلا يمكن أن يجعل الله سبحانه جميع المسلمين على وجه الأرض تحت ولاية كافر سبحانك هذا بهتان عظيم هذا مع أن ثمة أدلة عديدة خاصة وردت في مناقب معاوية مبشرة له رضي الله عنه بالجنة من أصرحها قوله صلى الله عليه وسلم-كما في صحيح البخاري برقم 2707-: (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا= ="وقال:" أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور له) ومعنى أوجبوا: فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة. وفي هذا الحديث منقبة لمعاوية وبشارة له بالجنة لأنه أول من غزا البحر حين غزا قبرص وفتحها سنة 27هـ إبّان خلافة عثمان، وفي الحديث أيضاً منقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر (القسطنطينية) ومن كان مغفوراً له فهو في الجنة. ثم عاب الحسون -في خطبته المشؤومة-على المسلمين فرحهم بعاشوراء وتأسّف عليهم كيف لم يحزنوا فيه وينوحوا على الحسين الذي مات منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام كما يفعل الشيعة أخزاهم الله بحجة أن عاشوراء يصادف يوم مقتل الحسين رضي الله عنه ولم يدر المسكين أنه حُق للمسلمين أن يفرحوا بهذا اليوم كيف وهو اليوم الذي نصر الله فيه موسى على فرعون وبصيامه -شكراً لله- يغفر للمسلم ذنوب سنة كاملة فإن لم يفرح المسلم بمثل هذا فبِمَ يفرح؟! هل يفرح بالمال والجاه اللذين يحرص عليهما الحسون وأشباهه؟(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). فبعد أن قال ما قال -وبئس ما قال- أجرت معه مجلة المنبر الشيعية الكويتية المختصة بإشهار المتحولين إلى التشيع في عددها(14) مقابلة أعلن الحسون فيها تشيعه صراحة وأكّد رجوع جميع الطرق الصوفية وانتسابها إلى الشيعة، وأنهم متبعون في هذا الأمر شيخهم الأكبر ابن عربي الذي يقدم علياً على جميع الصحابة بمن فيهم أبو بكر وعمر ثم زعم الحسون أن الصحابة قد خانوا الله ورسوله فسلبوا حق علي في الخلافة يوم السقيفة ثم تنقصهم قائلاً: (إن وضع آل البيت بمنزلة الصحابة يُعَدُّ تنقصاً لآل البيت) يعني أن الصحابة ناقصون أخزاه الله. ثم قرّر: (إن أصغر واحد من آل البيت هو أعلى من أعلى صحابي). ولم يدر المسكين أن أكبر واحد من آل البيت وهو علي رضي الله عنه لم يكن بأفضل من عثمان فضلاً عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وأهل السنة متفقون على تقديم عثمان على علي والذي يقدم علياً على عثمان إنما يخالف المهاجرين والأنصار الذين اختاروا وفضلوا عثمان على علي يوم الشورى. أما أبو بكر وعمر فقد تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال على منبر الكوفة إبّان خلافته: (من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري ثمانين جلدة) فحكْم الحسون -على الأقل- ثمانون جلدة. ثم افترى الحسون على الله -تبعاً لشيخه ابن عربي-متهماً النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كتم حقيقة الدين عن جميع الصحابة وأسرّها إلى علي وأن علياً كتمها أيضاً وخَصّ بها بعض أولاده وهؤلاء بدورهم لم يودعوها إلا عند الخواص فلا شك أنّ اعتقاد= =هذا مع أنه زندقة مكشوفة فهو افتراءٌ على الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي (واللفظ للترمذي برقم2994): (من زعم أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد أعظم الفرية على الله يقول الله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وقد صح عن علي نفسه رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم برقم3659- أنه سُئل: (أَخَصَّكُم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يَعُمَّ به الناس كافة) الحديث. وليس عجيباً أن يقول ابن عربي ما قال وقد أكّد الباحثون والمحققون أنه من دعاة الفاطميين الشيعة الباطنية الزنادقة ولهذا تجد كتبه تدرّس في جامعات إيران الآن كما أكد الحسون خذله الله.(116/97)
. وعلى ذلك فيمكن القول إن الصوفية بنْت الشيعة مهما تبرّأ أبناؤها من نسبتهم إليها، وسنأخذ الطريقة الرفاعية -كمثال- لنرى مدى التقارب والمشابهة بين الرافضة والصوفية، يقول الشيخ عبد الرحمن دمشقية في كتابه القيم /تهذيب الرفاعيةصـ65/: [(يعتقد الرفاعية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نور محض، وأنه لو بدا من نوره مثقال ذرة لاحترق ما بين العرش إلى الثرى) /حالة أهل الحقيقة ص24/، وأن أهل بيته أنوار الوجود اللامعة /المعارف المحمدية 27/. بل قالوا عن الرفاعي نفسه إنه مظهر الأنوار الإلهية لأن الله خلقه من نور وجهه /إجابة الداعي في مناقب الرفاعي ص11/. ويعتقد الشيعة مثل ذلك فيقولون بأن الأنبياء والأوصياء مخلوقون من نور عظمة الله /كتاب من لا يحضره الفقيه 4/414 لابن بابويه الرافضي/. وقال الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية ص52: (إن الرسول والأئمة كانوا أنواراً). ويعتقد الرفاعية أن مشايخهم وأئمتهم أمان لأهل الأرض. ولقد قالوا بأن الشيخ علياً الرفاعي كان أماناً لأهل الأرض وظلاً ظليلاً على سائر الخلق (قلادة الجواهر ص350) وأن الله جعل أحمد الرفاعي ظلاً يستظل به جميع الخلق (قلادة الجواهر ص35). وفي المقابل ينقل الشيعة عن أئمتهم قولهم: (ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ولو رفع الإمام من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله) /انظر أصول الكافي 1/178/. وينسب الرفاعية إلى مشايخهم العلم المطلق بكل المكنونات ولما أثنى الصيادي الرفاعي على قريبه (المهدي الرواسي الرفاعي) وصفه قائلاً:
بمكنون الغيوب حوى اطلاعاً تراه بكل آتية خبيرا (تنوير الأبصار ص 131)(116/98)
ويرى الرفاعي أن الأولياء خزائن الله في أرضه وسمائه يضع فيهم ودائع سره وآياته التي لم يطلع عليها ملك مقرب ولانبي مرسل. (طبقات الشعراني 1/173). وهذا ما تعتقده الشيعة في أئمتها فيقولون بأن عندهم علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء.(أصول الكافي 1/261). ويقول الخميني:(إنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل) الحكومة الاسلامية للخميني ص53. والتوافق ظاهر بين عبارة الخميني والرفاعي في تفضيل الأئمة والأولياء على الأنبياء والملائكة. والرفاعية يعتقدون في الرفاعي والشيخ منصور وغيرهما أن الله حكّمهم في ذرات الكون. /انظر ارشاد المسلمين 13/ وكذلك الشيعة يعتقدون في أئمتهم ذلك. ولا يخفى قول الخميني: (إن لأئمتنا مقاماً سامياً، وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون) /الحكومة الاسلامية 53/. ويكاد الشيعة والرفاعية يتفقان حرفاً ومعنىً على رفع علي رضي الله عنه إلى مرتبة الربوبية فيروي عنه الشيعة أنه قال: (والله لقد كنت مع إبراهيم في النار وأنا الذي جعلتها برداً وسلاماً وكنت مع نوح في السفينة وأنجيته من الغرق وكنت مع موسى فعلمته التوراة وأنطقت عيسى في المهد وعلمته الإنجيل، وكنت مع يوسف في الجب فأنجيته من كيد إخوته وكنت مع سليمان على البساط وسخرت له الرياح). /الأنوار النعمائية 1/31 لنعمة الجزائري/. ويروي الرفاعية عنه القول: (أنا نقطة بسم الله أنا جنب الله الذي فرطتم فيه أنا اللوح المحفوظ أنا القلم أنا العرش وأنا الكرسي وأنا السماوات السبع وأنا الأرضون). ضوء الشمس للصيادي 1/131. وهو موافق لما في بحار المجلسي 26/153 حرفياً. الرفاعية يعتقدون بإمامة الاثني عشر الذين قالت الشيعة بإمامتهم ويجعلون شيخهم الرفاعي خير آل البيت بعدهم. يقول الصيادي: (ولم يأت في أهل البيت الطاهرين بعد سادة الأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم وليٌّ لله تعالى أعظم منزلة وأكمل عرفاناً من الشيخ أحمد الرفاعي)(116/99)
المعارف المحمدية 2و73. ولا يخفى أن الإمام الثاني عشر منهم هو الغائب المزعوم في السرداب. ولمّا كانت هذه الموافقة بين الرفاعية والشيعة في اعتقاد إمامة الاثني عشر (ومن بينهم صاحب السرداب)(1)
__________
(1) اعلم أن الإيمان بوجود مهدي الشيعة الثاني عشر المزعوم المعدوم لا يقتصر على الرفاعية وحدهم بل هو اعتقاد أقطاب التصوف -ومعلوم أن الحد الأدنى للحكم على شخص ما بالتشيع الاعتقاد بهذا المهدي الموهوم- فلقد أكّد الشعراني في اليواقيت والجواهر أن المهدي (من أولاد الحسن العسكري ومولده سنة 255 هـ وهو باقٍ إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم) اعتقاد الشيعة نفسه.وكرّر هذا في كتابه الآخر الطبقات فقال نقلاً عن شيخه حسن العراقي عند كلامه عليه أن حسناً المذكور هذا سمع أحدهم يتكلم عن المهدي الغائب فاشتاق لرؤيته قال: (فبينما أنا ليلة بعد صلاة المغرب إذا بشخص جلس خلفي وحسّسَ على كتفي وقال لي: أنا المهدي. فقلت: تذهب معي إلى الدار فقال: نعم فذهب معي فقال: أخل لي مكاناً أنفرد فيه فأقام عندي سبعة أيام ولقنني الذكر وقال: تصلي كل ليلة خمسمئة ركعة فقلت: نعم. فكنت أصلي خلفه خمسمئة ركعة وكنت شاباً أمرد حسن الصورة فكان المهدي يقول: لا تجلس قط إلا ورائي -الظاهر أن المهدي هذا أزعر- وكانت عمامته كعمامة العجم وعليه جبة من وبر الجمال فلما انقضت السبعة أيام خرج)اهـ.وفي كتاب الأنوار القدسية للشعراني نفسه يقول الشعراني في المقدمة: (وقد اجتمعنا بمن اجتمع بالمهدي وأخذ عنه طريق القوم وذكر لي الشيخ حسن العراقي أنه اجتمع بالمهدي إمام آخر الزمان وأقام عنده سبعة أيام وذكر أنه سأل الإمام عن مولده فقال ولد أواخر المئتين)اهـ. مما يؤكد اعتقاد الشعراني بهذه العقيدة الشيعية واستحالة دسها عليه لورودها في كل هذه الكتب كما ترى وهو كذلك اعتقاد ابن عربي في الفتوحات ونقله عنه الشعراني في اليواقيت مما يؤكد قول الباحثين بأنّ هؤلاء المتصوفة كابن عربي ونحوه إنما هم دعاة للشيعة الفاطميين تستروا بالتصوف= =تقيةً لنشر التشيع لاسيما أن الصفات التي أسبغها ابن عربي على ما سماه القطب (مرتبة غيبية صوفية) تشبه صفات الإمام عند الرافضة والباطنية. وهكذا ارتبط التصوف بالتشيع وامتزجت أفكارهم وتشابهت طقوسهم وبدعهم.(116/100)
تتنافى ونصوص السنة التي تحدّثت عن مهدي آخر لم يولد بعد (ولا يخفى أن اسمه يكون محمد بن عبدالله وليس ابناً للحسن العسكري كما تعتقد الشيعة) لما كان هذا القول مماثلاً لاعتقاد الشيعة الاثني عشرية ومخالفاً لما يعتقده أهل السنة حاول الرفاعية تبرير ذلك باختلاق رؤيا تحل المشكلة وتسوغ هذا الاتجاه الشيعي عندهم فرووا عن الشيخ عبدالجليل الرفاعي أنه كان لا يقبل القول بإمامة الأئمة الاثني عشر غير أنه غيّر رأيه حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: ولدي أحمد ثالث عشر الأئمة أئمة الهدى من أهل بيتي. قال: فكنت لا أقول بإمامة الاثني عشر فبعد هذه الرؤيا تأدّبت وقلت بإمامتهم قولاً صالحاً لا يهدم منارة الإجماع. (ارشاد المسلمين ص45). ودائماً يحل الصوفية مشاكل البدع بهذه الطريقة التي تلبس على عامة الناس فيكفي بأن يزعموا بأنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ووافقهم على المسألة الفلانية لتصير بعد ذلك مشروعة عندهم وإن كانت نصوص السنة المنقولة عنه عليه الصلاة والسلام تخالفها. وكم من أحاديث مكذوبة اعتقدوا صحتها بدعوى أنهم خرّجوها في المنام وتحققوا من صحتها بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً عنها وكم من بدعة صارت عندهم من السنة بدعوى أنه أمرهم بها في المنام. وهذا من خدع الشيطان عليهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل في المنام ما قد حرمه في اليقظة، والله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم)(1)
__________
(1) اعلم أن من أصول المتصوفة وعلاماتهم نشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والقصص الخرافية والعمل بها ومن أصولهم تصحيح الأحاديث الموضوعة بالكشف والمنامات والعمل بهذه الوساوس والأحلام، والصوفية في خطبهم ومواعظهم لا تكاد تسمع منهم حديثاً صحيحاً وإذا ما أوردوا حديثاً صحيحاً وهذا نادر فإنهم إما يبترونه أو لا يحفظونه أو يستدلون به في غير محله وإنما= =اعتمادهم على الأحاديث المكذوبة والغرائب والخرافات وتوظيفها لتسويغ العقائد الفاسدة والشرك والبدعة.(116/101)
. دأب الباطنية على إثبات وجود علم باطن لم يبلِّغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس وإنما أسرّه إلى خاصته. وأخص خاصته هو علي الذي أخذ هذا العلم عنه صلى الله عليه وسلم ثم تلقاه عنه أبناؤه من بعده. وبقي عند الإمام المعصوم الذي يأتي من لدنه التأويل. وقد وصفوا الإمام علياً بأنه باب مدينة العلم ووصي النبي وسره. ويرى أهل الحديث أن من وافق الشيعة في هذا الادعاء ألحق بهم واستحق وصفه بالتشيع ونهوا عن أخذ الحديث عنه. قال النووي: "قال القاضي: ولما عرف عن الحارث (أحد الرواة) قبح مذهبه وغلوه في مذهب الشيعة ودعواهم الوصية إلى علي رضي الله عنه وسر النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الوحي وعلم الغيب ما لم يطلع عليه غيره سيء الظن في الحارث (أي تركوا روايته)." شرح النووي على مسلم 1/99. وهذا الأمر متفشٍ عند الصوفية عامة وعند الرفاعية بوجه خاص فالإمام علي عند الرفاعية (باب مدينة العلوم) و (سر باب النبي صلى الله عليه وسلم) / قلادة الجواهر 19/. وقد وافقوا الباطنية في قولهم بالعلم الباطن فقال الواسطي من الرفاعية: وقد صحّ أن سلمان تلقّى علم الباطن عن أمير المؤمنين علي، وهو أخذه عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم. (وسلمان رضي الله عنه ممن يغلو فيه الشيعة والباطنية عامة) وانظر ترياق المحبين 7 للرفاعية. ويعرف عند الصوفية بالعلم اللدني أو العلم المكتوم كما وصفه الغزالي (ميزان العمل 111). ويدعي الباطنية أنهم أخذوا العلم اللدني عن المهدي المعصوم صاحب السرداب مباشرة. وصار هذا العلم عند الصوفية علماً آخر غير العلم اللدني الشرعي الذي أوتيناه من لدن نبينا والذي أوتيه هو من لدن ربه. وصارت له أحكام وفتاوى تختلف عن الأحكام المتعلقة بالعلم الشرعي حتى إنك لتجدهم يقولون في ترجمة سيرة شيخ من مشايخهم: (درس الشيخ الفلاني وأفتى في علمي الظاهر والباطن). انظر جامع كرامات الأولياء 1/189 للنبهاني. وقد جعلوا البوح بهذا العلم(116/102)
كفراً وأوجبوا كتمه وهو عين قول الشيعة الباطنية: (إن هذا العلم مكنون فاكتموه إلاّ من أهله) /لطائف المنن للشعراني 489/ ولا يكاد يستثنى التصوف قديماً ولا حديثاً من الاعتقاد بهذا العلم الباطن، وتحت هذا العلم الباطن مسخوا معاني الآيات والأحاديث وحرّفوها إلى معان أخرى مثلما فعلت الباطنية على اختلاف طوائفها. ثم صار للكلام معنى غير ما يدل عليه اللفظ وصار لهم في كلام الله تفسير غير المأثور. روى الصيّادي أنّ فقيهاً جاء إلى الشيخ علي بن عثمان الرفاعي وقال له: فسِّرْ لي قوله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) فقال له علي: تريد تفسيرنا أو تفسيركم؟ قال الفقيه: وهل هناك فرق بين تفسيرنا وتفسيركم؟ قال: نعم. قال: ما تفسيركم؟ قال: الملك هو الله عز وجل والقرية قلبك. (قلادة الجواهر 325). وفسّر ابن عربي (النبأ العظيم) بأنه أمير المؤمنين علي عليه السلام (تفسير ابن عربي 2/755). ومع أنهم رووا عن الشيخ الرفاعي إدانته لفكرة مخالفة الباطن للظاهر كقوله: كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة .. الشيخ ظاهره الشرع وباطنه الشرع. إلاّ أنهم رووا له ما يناقض ذلك. فمن ذلك قوله: وقيل (اخلع نعليك) أي اخلع عن قلبك أهلك وولدك وكل ما سوى الله (انظر حالة أهل الحقيقة مع الله 126). ومن مراسم الطريقة الرفاعية المتوافقة مع مبدأ التشيع تلك الخلوة المحرمية عندهم والتي تدوم سبعة أيام ابتداءً من يوم عاشوراء يعتكفون فيها ويمتنعون عن النساء ولا يأكلون خلالها ذا روح وإنما يقتصرون على اللوز والسكر وأمثاله، (تطبيق حكم الطريقة العلية على الأحكام الشرعية 318 للصيادي). يقول الدكتور الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع): (فالخلوة المحرمية تعني أنّ على الرفاعي أن يعتكف سبعة أيام أولها الحادي عشر من شهر محرم فإن عاشوراء هو اليوم الثاني لقتل الحسين كما تفعل الشيعة على صورة فيها من المبالغة في الحزن، لكن تقادم العهد أنسى أصحاب(116/103)
الطريقة دلالات مراسمها فلم يلتفتوا إلى الممرات السرية التي تصلهم بالتشيع).اهـ. ويعتقد الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عليَّ بن أبي طالب الخرقة. وهي لباس يرمز إلى أخذ السر (العلم الباطن) وأنّ علياً ألبسها الخاصة ممن أخذوا هذا العلم الباطن عنه وهكذا. يقول ابن خلدون في المقدمة 323: (فشاركوا الرافضة حيث جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أنّ علياً ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريق وهذا لا يُعلم عن علي من وجه صحيح (ولا ضعيف). وفي تخصيص هذا بعلي رائحة من التشيع قوية يفهم منها ومن غيرها من القوم دخولهم في التشيع وانخراطهم في سلكه).اهـ. وهذه الخرقة جعل الصياديُّ فيها سنداً من الشيخ أحمد الرفاعي إلى الحسن البصري قال: وهو أخذها عن علي (انظر قلادة274). ومن المعلوم أن الحسن البصري لم يسمع من علي رضي الله عنه وكان الحسن بالبصرة صغيراً حين كان علي بالكوفة ولكن أهل البدع يلصقون كثيراً من بدعهم بالحسن البصري وهو براء من ذلك كما قال الذهبي. هذا ويرى بعض المحققين أن أصل هذه الخرقة نصراني فقد رأى أبو العالية (أحد كبار التابعين) رجلاً عليه خرقة من الصوف فقال: (إنما هذه ثياب الرهبان) تلبيس إبليس. ويخبرنا الجاحظ أنّ النصراني إذا أراد أن يتنسّك يلبس الصوف (الحيوان1/103)]. اهـ (انظر تهذيب الرفاعيةصـ65).(116/104)
وهكذا ظهرت الصلة قوية بين الطائفتين فما أبعدَ من جعلهم فرقة باطنية واحدة وهل تقسيم الدين إلى ظاهر وباطن وشريعة وحقيقة إلاّ علامة على أصل النشأة ووحدة الهدف وإذا نظرنا إلى صفات القطب عند الصوفية نجدها مطابقة لتلك التي لإمام الرافضة وأئمة الباطنية وقد أدرك هذه النتيجة كل الدارسين لهذه الفرق حتى الكفار فهذا نيكلسون يقول في كتابه (في التصوف الاسلامي وتاريخه صـ146): (القطب رأس الصوفية ونظرية القطبية مأخوذة عن الإسماعيلية ويعتبرونه قوة كونية يتوقف عليها نظام العالم وحفظه).اهـ. مما حمل الباحثين على اعتبار أن دعاة التصوف في الأصل كانوا دعاة للباطنية كشأن السهروردي الزنديق الصوفي المقتول في حلب سنة 588هـ بأمر صلاح الدين الأيوبي وهل كان هلاكه إلاّ بسبب عقيدته الباطنية في القطب والإمام، يقول الدكتور محمد أبو ريان في تعليقه على كتاب السهروردي (هياكل النور/11): (السهروردي يخفي نظرية خطيرة في الإمامة عند الباطنية يشير إليها في حذر في مقدمة كتابه حكمة الإشراق وبحسب هذه النظرية الإمامة عالمية تبدأ منذ بداية الخليقة وتشمل جميع الأمم والديانات وللإمام وظيفة مزدوجة فمن ناحية هو القائم (بالتعليم) في عصره ومن ناحية أخرى هو إحدى الدعامات الميتافيزيقية التي يقوم عليها بناء الكون وهذه الصفات تنطبق تماماً على ما يعرف بالقطب عند الصوفية وهو العامل الجوهري في حفظ الكون وتكامله).اهـ. وكذلك شأن ابن عربي فقد عُدّ من دعاة الفاطميين وله في القطب بحوث واسعة منها قوله في كتابه (فصوص الحكم 134): (اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط بالعالم ولهذا فلم تنقطع ولها الإنباء العام وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة).اهـ. وقد قسّم في كتابه الفتوحات هذه الولاية والدولة الباطنية إلى قطب يدور حوله الأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء ولأمر ما جعل النقباء اثني عشر. ثمّ صارت هذه الدعاوى الباطنية راسخة عند الصوفية المتأخرين.(116/105)
الصوفية والجهاد
يقول الشيخ عبد الرحمن دمشقية في كتابه تهذيب الرفاعية: "الرفاعية كغيرهم من الصوفية استحدثوا لأنفسهم مناسك وشعائر خاصّة كالأذكار المبتدعة والتنسك والرهبنة أيام الخلوات والامتناع عن صنوف الطعام، وجعلوا لقهر العدو أذكاراً خاصّة به فقراءة الفاتحة/300/مرة تكفيهم شرّه، أمّا هلاكه وقتله فإنها تهلكه إذا قُرِئت/1000/مرة (انظر الكليّات الأحمدية/89). وللرفاعية أوراد وأحزاب عجيبة مثل توسلهم إلى الله تعالى بالأحرف الهجائية، وبالقمر والنور…إلخ، ويعتقدون أنّ هذه الأحزاب والأوراد كافية في دفع كل مكروه وجلب كل مقصود وطرد كل عدو ورفع صاحبها إلى أعلى عليين. شأنهم في ذلك شأن طرق التصوف الأخرى، من هذه الأحزاب؛ حزب السيف القاطع مَنْ داوم عليه لا يُخذل ولا يهان ويكون بعين الله وظل رسوله وهذا الورد يتضمن التلاعب بترتيب آيات الله تعالى وخلط بعضها ببعض على غرار فعل السحرة. مثال ذلك: "وتقطعت بهم الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس، فلما رأينه أكبرنه قالوا تالله لقد آثرك الله علينا إنّ الله اصطفاه عليكم شاكراً لأنعمه". وبين كل مجموعة من الآيات يكتبون: "أعداؤنا لن يصلوا إلينا بالنفس ولا بالواسطة، لا قدرة لهم على إيصال السوء إلينا بحال من الأحوال". (قلادة الجواهرصـ271). وهذا معدن التخدير الذي يحدث للمتصوفة حيث إنّهم يبتدعون أوراداً وأذكاراً ويظنُّون أنها تكفيهم البلية والعدو وتختصر لهم طريق الجهاد بالسيف إلى الاختباء في الزوايا والأديرة والتمتمة بهذه الأوراد"اهـ.
وقد أشار الشيخ دمشقية في كلامه السابق إلى تواكل الصوفية وتركهم الجهاد واعتمادهم على الخلوات والأوراد المبتدعة والاستغاثة بأهل القبور لدفع البلاء وصدّ الكفار الأعداء، حتى قال شاعرهم أيام هجم التتار على بلاد المسلمين:
يا خائفين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر ... لوذوا بقبر أبي عمر
يُنجيكمُ من الضرر(116/106)
ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه(اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم). بل أكثر من ذلك كانوا عوناً على تثبيت أقدام الكافرين في بلاد المسلمين، فلقد كان للتجانيين شرف خدمة المستعمر الفرنسي في بلاد المغرب -كما هو معروف لدى العلماء- وكان أكثر المتطوعة في الجيش الفرنسي منهم. وفي مصر رحّب المتصوفة بنابليون وأدخلوه حلقتهم وألبسوه الجبة ورحبوا به على أنّه قدر الله، ذُكر أنّه حمل المسبحة وسمّى نفسه الدرويش عبد الله نابليون. وكذلك ذكر الشعراني في الطبقات أن الصوفية لما هجم الصليبيون على ثغر دمياط في الوقعة المشهورة كان الصوفية يعكفون على قراءة رسالة القشيري. وقال مصطفى كامل في كتابه المسألة الشرقية صـ212: "من الأمور المشهورة عن احتلال فرنسة للقيروان، أن رجلاً فرنساوياً دخل في الإسلام، وسمى نفسه: سيد أحمد الهادي واجتهد في تحصيل الشريعة، حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان فلما اقترب الجنود الفرنساوية من المدينة استعدّ أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل -سيد أحمد- الضريح، ثم خرج مهوِّلاً لهم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إنّ الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار بحتاً، فاتبع القوم البسطاء قوله، ولم يدافعوا عن القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين" اهـ. وكذا ذكروا أن جيوش ستالين الروسية لمّا غزت أوزبكستان استجار النقشبنديون بقبر نقشبند المدفون ثمَّة. وكذلك لمّا غزا الأمريكان بلاد العراق انتظر الصوفية أن يقوم أولياء العراق المقبورون –أمثال الشيخ عبد القادر الجيلاني- بصد العدوان والتصدي للقصف فلما لم يحصل ما أمَّلوه قال بعض هؤلاء: الشيخ عبد القادر ليس في مكانه إذ لو كان موجوداً ما حصل هذا.
أوراد للرفاعية فيها اعتقاد وحدة الوجود والحقيقة المحمدية(116/107)
ومن أوراد الطريقة الرفاعية التي صرحت بعقيدة وحدة الوجود وفرعها الحقيقة المحمدية وِرد الأنس فيه من الشرك ما يأتي: "اللهم صلِّ على ألف إنس إنسان الأزل بحكمة باء برهان مَنْ لم يزل أصل الأشياء الكلية؛ آدم في حقيقة البداية أثر السر في آثار خفايا المظاهر الخفية، أول الكل في الأولية، أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه". (قلادة الجواهر/263). وعندهم حزب جوهرة الأسرار: "اللهم صلِّ على نورك الأسبق(يعني النبي صلى الله عليه وسلم) وصراطك المحقق، نقطة مركز الباء الدائرة الأولية وسر أسرار الألف القطبانية الذي فتقتَ به رتق الوجود. فهو سرك القديم الساري وماء جوهر الجوهرية الجاري الذي أحييت به الموجودات من معدن وحيوان ونبات قلب القلوب وروح الأرواح وأعلام الكلمات الطيبات القلم الأعلى والعرش المحيط روح جسد الكونين وبرزخ البحرين…إلخ"صـ249من قلادة الجواهر. ولديهم ورد الجوهرة فيه أشياء مضحكة وألفاظ سخيفة: "اللهم أسألك بالجرة التي هي في جوهرة الأمر ومدة السر وحبل الإرادة وطريق التدوير ومنهج الغيب وسلسلة الهز وسبيل العز جرة جيم جوهر جمع مجموع جوامع جميع مجامع جمعيات الجلال والجمال والجلالات والجلجلة والجلوات والجوليات والجولات والجهريات والجريان والجاريات والمجرورات..تعطفات مظهر قوة لطيف مذكرات"إلخ هذه الهذيانات. ولا شكّ أنّ الزنادقة ممن تسمّوا بالإسلام ظاهراً هم مَنْ وضع للصوفية هذه الزندقات ليضحكوا عليهم ويهزؤوا بعقولهم يروموا بذلك الإساءة إلى الدين المتين وإفساد عقائد المسلمين. وهي أشبه بعزائم السحرة التي ينفثونها وتمتماتهم وطلاسمهم ومن ذلك قولهم في الحزب الكبير للدسوقي ويردده عامّة الصوفية: "بكهيعيص كفيت بحمعسق حميت فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم اللهم آمِنا من كل خوفٍ وهمٍ وغمٍ وكربٍ كدٍكدكرْ دَدٍ كردَهْ دَهْ ده ده الله رب العزة كتب اسمه على كل شيء أعزه خضع كل شيء لعظمة سلطانه اللهم(116/108)
أخضع لي جميع مَنْ يراني من الجن والإنس والطير والوحوش"إلخ هذه الخزعبلات، والمُلاحَظ أنّهم يخلطونها ببعض الآيات للتلبيس على العوام؛ فعل السحرة بعينه.
اعتقاد الطريقة النقشبندية بوحدة الوجود
وإذا أتينا إلى الطريقة النقشبندية وجدنا النصوص عنها كثيرة متوافرة في كتبها -شأن الطرق الأخرى- وشيوخها المعاصرون أكثر بوحاً بها وتكفي نظرة متأملة على كتب محمد أمين الكردي وغيرها من كتب الطريقة لتعلم شدة اهتمامهم بهذه الزندقة، واعتقادهم لها، وتجد فيها الثناء العريض على عتاة الزنادقة -أرباب بجدتها- أمثال الحلاج وأبي يزيد وابن عربي وأشباههم من الزنادقة، وتجد كلام المشايخ النقشبنديين فيها مسبوكاً في عبارات متنوعة، وأساليب شتى، لزرع هذا الضلال في أذهان أتباعهم، فمن ذلك قول شيخهم محمد المعصوم النقشبندي كما في المواهب السرمدية للكردي صـ203: (أنا الأرض أنا السماء) ويقول: (أرى نفسي نوراً سارياً في كل ذرة من ذرات العالم) إه. ويقول أحمد الفاروقي: (وجدت الله عين الأشياء، ثم وجدت الله في الأشياء ثم ترقيت في البقاء، وهو ثاني قدم في الولاية، فوجدت الأشياء ثانياً، فوجدت الله عينها بل عين نفسي)"مواهب/182". ويقول محمد بارسا صاحب شاه نقشبند: "إن حقيقة الذكر عبارة عن تجليه سبحانه لذاته بذاته في عين العبد". وقال في قوله تعالى: (إنّا أعطيناك الكوثر): "أي أعطيناك شهود الأحدية في الكثرة"إه(أنوار القدسية/162). ومقصوده أن هذه الأشياء المتعددة الكثيرة من إنس وسماء وأرض وغيرها من أجزاء الكون، إنما هي الله نفسه، فهو واحد وإن تعدد، وهذا يشبه قول النصارى: إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة. ولكن هؤلاء الصوفية لم يقتصروا على العدد ثلاثة، بل طردوا هذه العقيدة النصرانية على كل المعدودات. فكل هذه الكثرة -عندهم- واحد هو الله. ويقول محمد أمين الكردي في المواهب/90: "إن طريقة الذكر عند النقشبندية تورث في قلب الذاكر سر التوحيد(أي(116/109)
وحدة الوجود) حتى يفنى عن نظره وجود جميع الخلق، ويظهر له وجود الواحد المطلق في المظاهر"إه. وقد دأب النقشبنديون المعاصرون على الدعوة إلى هذه العقيدة في كتبهم ودروسهم، يقول النقشبندي المعاصر أبو العلا في(القصور العوالي 4/183): "إذا داوم المريد على المراقبة ترقّى إلى رتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أنه تعالى متجلٍ بصفاته وأسمائه في مصنوعاته"إه. أي أن هذه المصنوعات المشاهدة هي عين الله بأسمائه وصفاته، فهي في النتيجة واحد، وتباينها المشاهَد وتعددها هو من حيث تعدد أسمائه وصفاته سبحانه (1) فمن أسمائه وصفاته الأرض والسماء والإنس والجن، وإبليس، وفرعون... إلخ إلخ. فلا تعجب أن دافعوا –بعدها- عن إبليس ولا تعجب أن دافعوا عن فرعون وعدّوهما مؤمنَين. ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام -وفق هذه العقيدة- أكمل مظهر ظهر فيه الرب جلّ وعلا، وأكمل صفة له تعالى، ولما كان ابتداء الأشياء -أصلاً- من نوره زعموا، فهو النسخة الأصلية الأولى التي نسخت منها مفردات الوجود، فهي متعلقة به، بل هو إياها، وسره سار فيها، كالملح المذاب في الماء، وهذه اصطُلح على تسميتها الحقيقة المحمدية -كما ذكرنا قبل- التي من اعتقد فيها كفر ظاهراً وباطناً وحل دمه وماله، فإن النبي صلى الله
__________
(1) عبر عن حقيقة أمر الاتحادية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: "وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر، وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه"إه. ولما كان الكون عندهم كله الله، وأفراد الوجود عين الله فأنهم استحلوا المحارم والمحرمات. قال شيخ الإسلام عن أحد الاتحادية(التلمساني): "كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت والأم والأجنبية شيء واحد، ليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون، قالوا حرام فقلنا حرام عليكم"إه. وقد مر قول العز بن عبد السلام في ابن عربي بأنه: "شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً".(116/110)
عليه وسلم الذي هو عبد الله ورسوله يصبح -استناداً إلى هذه الزندقات-حقيقة هذا الكون، الذي ظهر بمظاهر شتى اصطلحوا على تسميتها أسماء الله وصفاته، يقول النابلسي الزنديق الصوفي: "اللهم صل على سيدنا محمد السر الساري في سائر الأسماء والصفات"إه. أي أنه صلى الله عليه وسلم حقيقة هذا الوجود الذي هو صورة الله، فالمخلوقات المشاهدة-بكلامه- أسماء الله وصفاته لا غير فهي هو، وهو هي، وبما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول نسخة لله في الوجود وعنه نسخت المخلوقات-فهو إذاً سرها وحقيقتها. وقد استشهد الشيخ أحمد الحسون-أحد نقشبندية حلب المعاصرين- في أحد دروسه العامة بكلام النابلسي هذا ثمّ عبَّر عن هذه العقيدة بطريقة مبتكرة قائلاً: "الكون مكهرب والتيار الذي يسري فيه هو سيدنا محمد" أي أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم في الكون كوجود الكهرباء وسريانها في السلك. وهذه من أصرح العبارات في الحلول والوحدة ولا شك أنها زندقة من الحسون(1) وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فقد كان الحلاج يصلي ويصوم ومع ذلك قتله المسلمون -لاعتقاده بمثل هذه العقائد- وأسموه زنديقاً. وقد اختلف العلماء -على قولين- في قبول توبة من تصدر عنه مثل هذه الأقوال، والراجح أنه إن تاب قبل أخْذه والقدرة عليه قُبلتْ وإلا لم تُقبل لقوله تعالى -في سورة المائدة-: (إنما جزاءُ الذين يحاربون اللهَ ورسولَه ويسعون في الأرض فساداً أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلُهم من خِلافٍ أو يُنْفَوا من الأرض ذلك لهم خِزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم. إلا الذين تابوا من قبل أن تَقْدِروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيم). ثم قال الحسون هذا في مناسبة أخرى: (جسده -صلى الله عليه وسلم- في طيبة أما هو فقد ملأت روحه
__________
(1) فكيف إذ انضاف إلى ذلك اعتقاد الحسون بعقيدة القطب ونحوها من العقائد الباطلة. وقد سمّاهم الشافعي بمجرد إحداث السماع زنادقة.(116/111)
الكائنات) وحكمها كسابقتها(1).
وهؤلاء الخزنوية -فرع من النقشندية في الجزيرة السورية- يقررون لطلبة معهدهم الشرعي(!) أن شيخ الطريقة هناك إله مجازي(كذا) وقد أخبرني بعض من تاب ورجع عن ضلالهم أنه سمع أحدهم خاطب الشيخ قائلاً: أنت الله ! قال: ولم ينكر عليه الشيخ. وفي هذه الأيام صاروا يقررون لطلابهم أنّ شيخهم الخزنوي هو صورة الله المصغَّرة أو (الله الصغير) فتأمل. ولا يخفى قول الحوت النقشبندي أن فرعون مات مؤمناً، ثم يمكر فيقول: ما فائدة أنْ نعرف أن فرعون في الجنة أو في النار؟ كذا قال! مع أن الشك في ذلك كفر وتكذيب لله وإلا فما فائدة ذكر الله كفر فرعون وهلاكه وتكرار قصته في القرآن كثيراً، فنجاة فرعون مع أن اعتقاده كفر فهو عبث يتنزَّه عنه الرب جل وعلا. وقد أطلنا الرد في بداية البحث فأغنى عن الإعادة ثم صرح الحوت هذا في مناسبة أخرى بأنه وشيوخه يعتقدون أن فرعون في الجنة وقال في أحد دروسه: حضرة المصطفى ملأت الوجود كله واعلموا أن فيكم رسول الله. وسمعت في شريط مسجل بعض شيوخ دمشق(هو رمضان ديب) يفهِّم مَنْ بحضرته في أحد الدروس أن المتكلم هو الله، قال: وقد أخبرني بعضكم أن صورتي تذهب ويأتي من يتكلم نيابة عني..في الله" أي أنه فني في الله حتى جاء الله -زعم- بصورته وحل محله وتكلم بدله، سبحان الله عما يصفون، ونسأله سبحانه أن يفنيهم ولا يبقي لهم باقية. وقد مرَّ قول أحمد كفتارو النقشبندي: إنه لا يجد في الأرض كافراً. ولعل هذه الأقوال من شيوخ الصوفية هي إرهاصات
__________
(1) ومن نفس مستنقع الكفر هذا ما اغترفه ونقله الشيخ عبد الله سراج الدين الحلبي الصوفي الباطني الهالك عام 1423هـ في كتابه الإيمان بعوالم الآخرة صـ112عن الشيخ أبي العباس الطنجي قال: حين وضعت رجلي في الركاب وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي كلها مملوءة من رسول الله فرجعت إلى الشيخ (عبد الرحيم) فقال: عرفتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: نعم.(116/112)
ومقدمات لما سيقوله الأعور الدجال عندما يخرج في آخر الزمان ففتنته من هذا القبيل، وهو أكبر الحلوليين في التاريخ إذ سيدَّعي أنه الله! كما هو ادِّعاء شيوخ الصوفية من لدن الحلاج إلى الآن كما رأيت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من الدجال: "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" الحديث. وفي رواية: "إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور" متفق عليه. فأقوال هؤلاء الدجاجلة الصغار إنما هي تمهيد وتوطئة لما سيقوله الدجال الأكبر المنتظر، وعندها لن يَعْدَمَ أتباعاً يصدقونه، فالدجال لا يمكن أن يظهر هذه العقيدة رأساً ويصدقها الناس لولا هذه المقدمات، إضافة لما معه من الخوارق؛ التي هي أيضاً من أدلة الصوفية على تزكية الأشخاص والاعتقاد بهم واتِّباعهم حتى لو كانوا من أسوأ الناس سيرة وسريرة(كضاربي الشيش) بل حتى لو كانوا من البهائم، فقد حدث في نحو سنة(1407هـ)أن تيساً من المعز في البو كمال -إحدى القرى بين الشام والعراق-(حيث سيعيث الدجال) أصابه نوع من المرض فحصل في ضرعه شيء من اللبن، فتحالم صاحبه وزعم أنه رأى رؤيا وأن التيس أصابته بركة وأن ذلك من الكرامات فتهافت الناس على التيس المذكور وبعضهم جاء من الأقطار المجاورة حتى ضاقت بهم تلك الناحية، وكلهم يرغب في الحصول على لبن التيس المبارك فحصلتْ من ذلك بلبلة كبيرة وفتنة عظيمة إلى أن تدخلت السلطات فقتلت التيس فانفضَّتْ جحافل المفتونين به من الصوفية وغيرهم.(1) وللمرء أن يتساءل إذا كان الناس قد فتنوا بهذه
__________
(1) ولا يُستغرب تهافت الصوفية على التيس أو عدِّه من شيوخهم وأوليائهم فقد قال الشيخ محمد الخاني النقشبندي في كتابه البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية صـ6: "وأما الحيوانات فلنا منهم شيوخ ومن شيوخنا الذين اعتمدت عليهم: الفرس، فإن عبادته عجيبة والبازي والهرة والكلب والفهد والنحلة وغيرهم. فما قدرت أن أتصف بعبادتهم على حد ما هم عليها فيها"اهـ(116/113)
البهيمة فكيف لو خرج الدجال؟!! والله المستعان. وليس عجيباً أن يخرج الدجال من خراسان (إيران حالياً) كما ثبت في الحديث فالبيئة ثمّة مناسبة لتقبل هكذا ضلالات حيث الشيعة وضلالهم ثم يعيث يميناً وشمالاً بين الشام والعراق حيث الصوفية منتشرة الآن هنالك كالشاذلية والنقشبندية والخزنوية في مكان ظهور التيس سالف الذكر. ولما كان اليهود قائلين بالحلول كقولهم: عزيز ابن الله! ونحوها من عقائد الحلول وكذلك النصارى فإن عقيدة الدجال الحلولية ستلاقي عندهم قبولاً ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يتبع الدجالَ من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة" رواه مسلم. وكأنه لذلك -والله أعلم- أُمرنا بقراءة فواتح سورة الكهف للعصمة من الدجال لما فيها من نفي الحلول وتنزيه الرب جل وعلا عن اتخاذ الولد ففي الآية الرابعة من الكهف قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) وكأنه كذلك -والله أعلم- شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون نهاية الدجال وبالتالي نهاية هذه العقائد الحلولية على يد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي طالما اعتقدت النصارى فيه الحلول كقولهم: (إن الله هو المسيح بن مريم) وقولهم: (إن الله ثالث ثلاثة). وإذا كانت خراسان (إيران حالياً) التي هي بلد الشيعة وكذلك الخلّة بين الشام والعراق(بلد التيس) مهيأة الآن لتقبّل هذه الضلالات فإننا نجد الآن في المقابل أن جزيرة العرب -لا سيما نجد- بعيدة عن هذا الضلال حتى إذا خرج الدجال في آخر الزمان استعصت عليه -إن شاء الله- واستعصمت، ولهذا صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم مدح بني تميم -إحدى قبائل نجد والجزيرة العربية- فقال: (هم أشد الناس على الدجال) رواه البخاري. وغنيٌ عن البيان أن بني تميم هم قوم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الوهيبي التميمي الذين بذلوا الغالي والنفيس في محاربة الضلال والبدع وترسيخ عقيدة التوحيد في جزيرة العرب.فالبدوي القح في تلك النواحي هو(116/114)
أفقه في التوحيد وأعلم، وأنصع فكراً وفطرة، من أكبر علماء الشام ومصر والعجم بل لا مقارنة والله، كما يشهد كل منصف حتى إن السائل الشحّاذ في تلك المناطق يعرف دقائق مسائل التوحيد فإذا سأل قال: أنا قاصد الله ثم أنتم فيضع ثم بدل الواو فأوقفني الآن على عالم أزهري أو صوفي أو أشعري أو حنفي –فضلاً عن عامي- يستعمل هذا في ألفاظه فجزى اللهُ الشيخَ الصالحَ محمد بن عبد الوهاب التميمي خير الجزاء على جهوده الطيبة المباركة.وفي بلاد فارس طائفة من تميم منهم العلّامة عمران بن رضوان التميمي أمير بلدة لنجة صاحب القصيدة الشهيرة:
إن كان تابع أحمد متوهِّباً ... فأنا المُقِرُّ بأنني وهابي
القادرية ونزول قرآن جديد على شيخهم عبد القادر أسموه الغوثية
وبين يديّ الآن كتابٌ من كتب الطريقة القادرية المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني "توفي عام 561 هجرية، فارسي الأصل، بشتبري النسب من قبيلة جنكي دوست الأعجمية(انظر مختصر عمدة الطالب)، فهو أعجمي وليس من آل البيت كما يدَّعي أتباعه". ولعلّ هذا الكتاب أهم مرجع لديهم، متوسط الحجم، وعنوانه: (الفيوضات الربّانية في المآثر والأوراد القادرية) -جمع وترتيب الحاج إسماعيل بن محمد سعيد القادري، ويليه القصيدة الخمرية(كذا) التي أولها:
سقاني الحبُّ كاسات الوصال ... فقلت لخمرتي نحوي تعالي(116/115)
ومكتوب على غلافه: حقوق الطبع محفوظة -مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. وحقه أن يُسمّى الفيوضات الشيطانية، جمع فيه مؤلفه كل الاعتقادات الضالّة التي يدين بها القوم ولا يهمنا إن كانت نسبة الكلام إلى الشيخ عبد القادر صحيحة أم لا فالمهم أنّ القادرية الآن يدينون بهذه العقائد وهم الذين ينسبونها لشيخهم. فلنستعرض بعض ما فيه من الطامّات، يقول في الصفحة الأولى رأساً: "وصلاةً وسلاماً على مَنْ هو الواسطة في إبراز جميع العوالم إلى الوجود". وهذا شرك ظاهر يشير به إلى عقيدة الحقيقة المحمدية التي أقل أقوالهم فيها: لولا محمد ما كانت الخلائق. أو : لولاك ما خلقت الأفلاك. ومرادهم: لولا محمد لما استطاع الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخلق، لأنّ جميع المخلوقات -حسب اعتقادهم- خُلقت من نوره صلى الله عليه وسلم، أي أنّه الواسطة في تحقيق مراد الله، فلولا محمد ونوره ما تسنّى للرب إيجاد المخلوقات. وهذه القضية متفق عليها لدى الصوفية ففي الصلاة المشيشية -وِرْد الشاذلية-قوله: "ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط"إلخ. وقد يفهم العوام من(لولاك ما خلقت الأفلاك) معنى آخر أي: خلقت الخلائق لأجلك يا محمد وكرامة لك. وهذا أيضاً من الشرك الأكبر لأنّ الله عز وجل ما خلق الخلق لأجل أحد بل خلقهم للعبادة، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ولهذه الغاية خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وقد قال له تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي مدة حياتك حتى تموت. ثمّ أوردَ ما سمّاه الغوثية المنسوبة للشيخ عبد القادر وهي متلقاة عن الله رأساً دون وساطة وفيها مخاطبة صريحة بين الله عز وجل والشيخ، وقد وُضِعتْ بين جملها علامات كعلامات انتهاء الآيات القرآنية، ولا يخفى أنّ إثبات الوحي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم كفر مخرج من ملّة الإسلام. ولا يُخفِّف من ذلك قولُ ناشرها: (وهي بطريق الإلهام القلبي(116/116)
والكشف المعنوي). فهي وحي بأي طريق سمّاه وليست هي مناماً فيمكن تأويله بل هي كلام طويل من الله –زعم- استغرق صفحات. والأدهى أن ينسب كل الضلال الذي فيها إلى الله مع أنّها مناقِضة لكلامه سبحانه في كتابه العزيز. يقول في هذه الغوثية: "قال الغوث الأعظم المستوحش عن غير الله(أي عبد القادر) والمستأنس بالله: قال الله تعالى: يا غوث الأعظم. قلت: لبيك يا رب الغوث. قال: كل طور بين الناسوت والملكوت فهو شريعة وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو طريقة وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو حقيقة"إهـ ومقصودهم من الطور بين الناسوت والملكوت الوحي الذي يتلقاه النبي(الناسوت) عن طريق الملَك(الملكوت) كما حصل لنبيِّنا والأنبياء قبله صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا النوع من تلقِّي الوحي أسموه طور الشريعة وهي عندهم درجة دنيا من أطوار الوحي. ثمّ ذكر الطور بين الملكوت(الملك) والجبروت(الولي) وهو ما يوحيه الملَك إلى الولي حسب زعمهم، وسمّاه طور الطريقة وهو كما ترى بدرجة الوحي إلى النبي إن لم يكن أرفع، أي أنّ الطريقة الصوفية هي مثل شرائع الأنبياء متلقاة وحياً عن طريق الملَك؛ فلا ينبغي الاعتراض على ما فيها مما لا يوجد في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم هناك طور أرفع من هذين الطورين ذكره وهو ما يسمّى بطور الحقيقة(1)
__________
(1) قال الإمام الذهبي في السير(14/352): (عن جندب بن زاذان تلميذ الحسين، قال: كتب الحسين-أي الحلاج- إليّ بسم الله المتجلي عن كل شيء لمن يشاء، والسلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر، وحقيقة الكفر معرفة جلية، وإني أوصيك أن لا تغتر بالله، ولا تيئس منه، ولا ترغب في محبته ولا ترضى أن تكون غير= =محب، ولا تقل بإثباته ولا تمل إلى نفيه وإياك والتوحيد، والسلام"اهـ. قلت: ذهب بعض الصوفية إلى معنى آخر للحقيقة مغاير لما ذهب إليه الشيخ المستوحش فاتهم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كتم الدين ولم يبلغه للناس بل خَصّ به ناساً دون ناس، وأن هذا الدين هو غير دين الإسلام المعلن، وأن الدين المكتوم(الباطني) هو المسمى الحقيقة؛ يقول ابن عجيبة الصوفي عن علم الحقيقة أو دين الباطنية: "أما واضع هذا العلم فهو النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه الله بالوحي والإلهام، فنزل جبريل أولاً بالشريعة فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة، فخصّ بها بعضاً دون بعض وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه وأخذه عنه الحسن البصري"اهـ من إيقاظ الهمم في شرح الحكم صـ5 مجلد الأول. قلت: وهذا اتهام خطير للنبي صلى الله عليه وسلم أما علي رضي الله عنه فقد صح عنه-كما في صحيح مسلم– قوله: ما خصّنا رسول الله بشيء. وأما الحسن البصري فلم يسمع من علي لصغر سنه.(116/117)
الذي يتم عن طريق الوحي المباشر من الله(اللاهوت) إلى الولي(الجبروت) دون وساطة الملك. ولا شكّ أنّ هذا لم يحصل لنبينا صاحب الشريعة فيكون هذا الصنف من الأولياء أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون الحقيقة أرفع من الشريعة، وعليه فتكون هذه الغوثية المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر من هذا القبيل من طور الحقيقة مما تلقاه الشيخ عن الله دون وساطة ويظهر ذلك من خلال الحوار المزعوم بين الله والشيخ.
اعتقاد القادرية بعقيدة الحلول والحقيقة المحمدية(116/118)
ويمضي في الغوثية-المنسوبة لشيخ القادرية-صـ5 فيقول: "ثمّ قال لي(أي الله): يا غوث الأعظم ما ظهرتُ في شيء كظهوري في الإنسان"إه. وهذا صريح في الحلول والوحدة والاتحاد، أي أنّ الإنسان أكمل مظهر تعيَّن فيه الرب. "ثمّ سألت يا ربِّ من أي شيءٍ خلقت الملائكة؟ قال لي يا غوث الأعظم خلقت الملائكة من نور الإنسان وخلقت الإنسان من نوري"إه. وهذا كفر لأنّه مصادم للقرآن وما عُلم ضرورة من دين الإسلام. قال تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين). وقال: (هو الذي خلقكم من طين). وقال عزّ مِن قائِل: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) وقد علمتَ أنّ الملائكة كانوا مخلوقين يسبحون بحمد الله ويقدِّسونه قبل أن يُخلق آدم، فكيف خُلقوا من نوره !!؟ فأنت مخير بين قول الله وقول الصوفية وإن كان يقصد بهذا الإنسان النبيَ صلى الله عليه وسلم فالنبيُ من ولد آدم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم. ثم يستطرد الغوث المستوحش: "ثم قال لي: يا غوث الأعظم جعلت الإنسان مطيتي، الإنسان سري وأنا سره لو عرف الإنسان منزلته عندي لقال في كل نفسٍ من الأنفاس: لمن الملك اليوم. ما أكل الإنسان وما شرب وما قام وما قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلاً وما توجَّه لشيءٍ وما غاب عن شيءٍ إلا وأنا فيه ساكنه ومتحركه..جسم الإنسان وقلبه وروحه...وكل ذلك ظهرتُ له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره"اهـ وهو صريح في زندقة الاتحاد.
إلغاء مسألة الثواب والعقاب عند القادرية والصوفية عامّة وأنه لا فرق بين الجنة والنار ولا بين الطائع والعاصي(116/119)
ثم قال القادري في الفيوضات صـ7 مفترياً على الله أنه أوحى إلى شيخهم عبد القادر: "ثمّ قال لي(أي الله): لا ألفة ولا نعمة في الجنان بعد ظهوري فيها ولا وحشة ولا حرقة في النار بعد خطابي لأهلها"اهـ. وكيف لا يكون في النار حرقة والله يقول لأهلها: اخسئوا فيها ولا تكلمون. وهذا إلغاء لمسألة العقاب والثواب. وليس ذا بمستنكر عند الصوفية طالما أن الكل عين واحدة هي الله فالجنة والنار سواء والمسلمون والكافرون وموسى وفرعون سواء وكلهم مرحومون إذ هم جميعاً عابدون لله بل هم الله،وقد مرَّ قول ابن عربي: (أما أهل النار فمآلهم إلى النعيم)، وقول الباني والحسُّون: (إن أهل النار يتلذذون فيها). ولمّا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الطاعة والمعصية بل المعصية –عندهم- أفضل، يقول القادري في كتابه المذكورصـ11: "ثم قال لي-أي الله- يا غوث الأعظم ما بعد عني أحدٌ من أهل المعاصي وما قرب أحدٌ مني من أهل الطاعات، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات. بشِّر المذنبين بالفضل والكرم وأنا بعيد من المطيع إذا فرغ من الطاعات(1) ثم قلت: أي عمل أفضل عندك؟ قال: العمل الذي ليس فيه سوائي من الجنة والنار وصاحبه عنه غائب"اهـ. وهذا المعنى معروف لدى الصوفية فمن الشرك –عندهم- طلب الجنة والخوف والتعوُّذ من النار لأنّ المنشود -عندهم- هو الاتحاد بالله وحلوله بهم، وربّما تلطّفوا
__________
(1) ومن ذلك ما نقله الشعراني –في الطبقات- عن أبي الحسن الشاذلي الزنديق قوله: (من أحب أن لا يُعصَى الله في مملكته، فقد أحب أن لا تظهر مغفرته ورحمته، وأن لا يكون لنبيه شفاعة). وقوله: (وأما الخاصة فصغرت لديهم الأعمال الصالحات…إلخ هذا الهذيان). وهذه أقوال الزنادقة وقوله -من أحب أن لا يُعصى الله في مملكته، فقد أحب أن لا تظهر مغفرته- الجواب عنه: إن محبَّةَ العبد أن يُعصى الله كفر وزندقة وقد قال تعالى: (إن الذين يحبُّون أنْْ تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ عظيم).(116/120)
فأوهموا قارئ بعض عباراتهم أنّ المقصود رضى الله وحبه فينقلون في كتبهم كثيراً عن امرأة ناقصة عقل ودين(1) قولها: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك" مع أنّه مخالف للقرآن وما كان عليه الأنبياء الذين هم أشد حبّاً لله قال تعالى في وصفهم: (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين). وقال سبحانه: (قل إنّي أخاف إن عصيت ربي عذابَ يومٍ عظيم) وقال تبارك اسمه: (الذين يقولون ربنا إننا آمَنّا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار)، وقال تعالى حاكياً عن السحرة الذين آمنوا بموسى: (إنّا آمنا بربنا ليغفر لنا)، وأخبرنا سبحانه أنّ من صفات عباد الرحمن أنّهم يقولون: (ربنا اصرف عنّا عذاب جهنم)، وقال سبحانه في وصف المحسنين: (يدعون ربهم خوفاً وطمعا) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدندن في صلاته حول طلب الجنة والتعوذ من النار كما في حديث الفتى الأنصاري الذي خاصم معاذاً رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أطال معاذ الصلاة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم وأنت ماذا تقول في صلاتك يا ابن أخي؟ فقال الفتى: أمّا أنا فأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أفهم دندنتك ودندنة معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن.الحديث.
اعتقاد القادرية بعقيدة وحدة الوجود
ثمّ ذكر القادري في كتابه-الفيوضات الربانية- أذكاراً تبوح بوحدة الوجود منها:
__________
(1) هذا القول ينسب لرابعة العدوية(هلكت عام185هـ) وهي معدودة من الزنادقة، وقد عدّها-أبوداوود السجستاني (توفي عام275هـ) مع جماعة وأطلق عليهم اسم الزنادقة أو زنادقة الزهاد. (راجع التصوف بين الحق والخلق لفهر الشقفة صـ57).(116/121)
-"واحفظني اللهمّ بك في مراتب وجودك بشهو دك حتى لا أشهد غير أفعالك وصفاتك بوجهك الحق لا إله إلا الله(تعني عندهم أنّ كل الآلهة هي الله بينما معناها عند أهل السنة لا معبود بحقٍ إلا الله وإلا فالآلهة المعبودة الباطلة كثيرة فافهم هذا فإنّ الصوفية يعنون بلا إله إلا الله أنّ كل الآلهة المعبودة هي الله لأنّه ما ثَمَّ إلا الله كما هو اعتقاد وحدة الوجود التي نحن بصدد التحذير منها) وامح عني نقطة الغيرية لا أشاهدك ولا أدري غيرك يا هو يا هو يا هو لا سواك موجود يا وجود الوجود"صـ16.
-"ومتِّع سري بسرك في الحضرات الشهودية وأطلق لساني بالعلوم اللدنية ياحي ياحي وهذا الاسم للنفس المطمئنة وعالمها الحقيقة المحمدية ومحلها السر وواردها الحقيقة"ص17.-"يا واحد أنت الموجود، أنت الموجود في ذاتك بألوهيتك يا واحد.. وهذا الاسم للنفس الراضية ولون نورها أخضر وعالمها اللاهوت ومحلها سر السر".
-"الاسم السادس عزيز عدد تلاوته 74644 أربعة وسبعون ألفاً وستمئة وأربع وأربعون مرة وهو للنفس المرْضية ولونها أسود (لعل وجه صاحبها أسود) وعالمها الشهادة"صـ 17.
-"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ أي ليعرفوني(كذا). كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لأُعرف … من عرف نفسه فقد عرف ربه(!). لا معبود إلا الله لا مُراد إلا الله. يا أحد نَزِّهْ ناسوتي باسمك الأحد فَرِّدْ نفسي باسمك الأحد. قَدِّسْ سري بسرك الصمد فَرِّدْ سري باسمك الصمد ياصمد"صـ 28.
-"الحمد لله الذي وُجِدَ في كل شيء"صـ41.
-"اللهم صلِّ على مظهر الوجود الكلي والجزئي وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، مَجْلَى الذات ومظهر الأسماء والصفات، روح الأرواح الساري في جميع الأشباح مجمع حقائق اللاهوت منبع رقائق الناسوت"صـ181.(116/122)
وتجد عند هؤلاء القادرية أيضاً النفَس الشيعي عند قوله في أحد الأوراد: "نادِ علياً مظهر العجائب تجده عوناً في النوائب، كل هم وغم سينجلي بنبوتك يا محمد بولايتك يا علي يا علي يا علي"صـ27. وتجد عندهم كذلك تمتمات وطلاسم سحرية من مثل: "اللهم صحّاً صحّاً صحّاً وحّاً بحّاً حم لا ينصرون -اللهم مسخِّر القلوب لمن كان مهجوراً حتى يعود محبوباً بهبوب هبوبٍ بلطفٍ خفي ياألله بصعصعٍ صعصعٍ والبهاء والنور التام بسهسهوب سهسهوب ذي العز الشامخ بطهطهوب لَهوب(يخاطب هنا الجني المخلوق من لهب) حم كهوب كهوب الذي سخّر كل شيء إلا ما سخّرتَ لي قلوب عبادك أجمعين من الجن والإنس واجلب خواطرهم. بسوسم سوسم دوسم حوسم يراسم كاهٍ بركاه آل شدّاي توكل يا عنقود وَيَنْقُود وياعبد النار بعقد ألسنة الناس أجمعين"إه صـ128.
اعتقاد الصوفية أن الولي يقول للشيء كن فيكون وفتوى الدكتور وهبة الزحيلي في كفر مفتي مدينة الباب
ومن العقائد التي تضمنتها الغوثية التي زعم القادرية في كتابهم الفيوضات الربّانيةصـ7أن الله أوحاها إلى شيخهم عبد القادر الجيلاني ويتفق عليها جميع الصوفية قوله: "ثمّ قال لي(أي الله) ياغوث(1)الأعظم: الفقير(أي الصوفي) له أمر في كل شيء إذا قال لشيءٍ كن فيكون".اهـ وهذا سلب صفة خاصة بالله وحده قال تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). ولا يخفى أنّ مشاركة أحد له سبحانه في هذه الخصوصية لا تبقي للآية فائدة، ولا شكّ أنّ من اعتقد هذا فقد كفر. وقد كرر القادري هذا المعنى فقال من قصيدة: "وأمري أمر الله إن قلت كن يكن"اهـ صـ48من الفيوضات الربانية للطريقة القادرية لمؤلفه إسماعيل القادري.
__________
(1) انظر التوراة سفر الخروج 28: 30 و4 و42 لترى القطب الغوث وهو الكاهن الأعظم وكيف صفة عمامته وجبته وأنه يعلم السر وأخفى وله السلطة المطلقة في الكون وعن اليهود أخذ المتصوفة هذه الطقوس الوثنية.(116/123)
وقد سمعتُ أحد شيوخ النقشبندية(هو الشيخ زكريا مسعود مفتي مدينة الباب قرب حلب) وهو يقول في شريط مسجّل/كاسيت/ في درس عام: "إنّ الأولياء في هذا الزمان وفي كل زمان ومكان يقولون للشيء كن فيكون" وقد دار شريطه بين الناس وعُرِضَ قوله على عدة من فضلاء علماء دمشق فكلهم عدَّ ذلك كفراً وشنَّع عليه. وبين يدي ورقة بخط الدكتور وهبة الزحيلي يبين ذلك وينصح بها القائل المذكور بالتوبة من هذا الكفر الذي وقع فيه ويحذره خسارة الدنيا والآخرة جاءت جواباً على استفتاء قدَّمه له بعض طلاب كلية الشريعة وصورته: هناك من المفتين من يقول إنّ الأولياء في هذا الزمان وفي كل زمان ومكان يقولون للشيء كن فيكون. فما حكم مَنْ يقول مثل هذا القول؟ فأجاب الشيخُ وهبةُ الزحيلي ومن خطه أنقل: "السلام على مَنْ اتبع الهدى وبعد: فإنّ الله تعالى في قرآنه حصر بأداة الحصر(إنّما)نفسه في الخلق والإيجاد والإبداع التكويني ليس لغيره سبحانه دور ودون أن يشاركه أحدٌ من المخلوقات بهذا، لا نبي ولا ملَك ولا ولي، فقال: "إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون" وآيات كثيرة في معناها، فاستغفر الله وتب أيها الأخ من سوء الفهم وضلال الاعتقاد والكفر بالله، هذه نصيحتي، فإن أصررت على غير ذلك بتأويلات صوفية غير مقبولة، فقد خسرت الدنيا والآخرة والله يهديك إلى سواء السبيل" التوقيع: الأستاذ الدكتور: وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق بتاريخ 13 من صفر1418الموافق23/6/1997.
تصرف الولي عند الصوفية ومدى صلاحياته(116/124)
والواقع إنّ إثبات التصرف المطلق في شوؤن الكون للأولياء المزعومين أمر مسَلَّم به عند الصوفية، وقد قسّموهم إلى أبدال وأقطاب وأغواث؛ يتحكّمون في ذرات الكون واستقرار العالم حتى إنّهم يتصرفون زعموا في الطير -كما رأيت في برقمة البلبل للصيادي- بل هم مسؤولون عن رزق حيتان البحر، وقد أكثروا من تقرير هذه العقيدة في كتبهم المعتمدة، يقول الشعراني عن الولي: "إذا صلحت سريرته مع الله كلَّفه ما بين السماء والأرض فإنّ فيهم خلقاً لا يعلمه إلا الله ثمّ لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث إلى أن يصير صفة من صفات الحق تبارك وتعالى ويطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة ولا تخضرّ ورقة إلا بنظره"انظر الطبقات للشعراني صـ143. ومسألة الاطلاع على الغيب واللوح المحفوظ وغيرها من علم الله مفروغٌ منه عند القوم لا ينتطح فيه تيسان، والعجب كيف تغشى عيونهم عن مثل قوله تعالى: (قل لايعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغَيبَ إلا الله) ؟ وأيّ فائدة تبقى لهذه الآية إذا اطّلع الولي على غيب الله وعلمه؟ ثم كيف يكون اللوح محفوظاً والصوفية يعرفون ما فيه؟ وكيف يكون من صفات الله أنّه علّام الغيوب والأولياء يشاركونه في هذه الصفة والخصوصية؟ وأيّ معنى يبقى لقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) ؟ إنّها لا تعمى الأبصار! ويحدثنا الشعراني عن مزيد من صفات الولي: "إذا تمكّن من الأحوال صارت همته خارقة للسبع السماوات وصارت الأرضون كالخلخال برجله وصار لا يعجزه شيء"اهـ صـ142.
الولي أفضل من النبي عند الصوفية والباطنية عامّة
والصوفية متفقون على أنّ منزلة الولي أرفع من منزلة الأنبياء والمرسلين(1) ولذلك قال شيخهم ابن عربي:
مقام الرسالة في برْزخٍ
جج ... فويق النبي ودون الولي
جج
__________
(1) نقل ابن حجر الهيتمي عن العلماء تكفير من قال: (الأئمة أفضل من الأنبياء). الإعلام بقواطع الإسلام صـ75.(116/125)
وهذا معنى قول البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله. ودليلهم قصة نبي الله الخضر مع موسى عليهما السلام إذْ هو عندهم ولي مع أنّه قال كما في سورة الكهف: "وما فعلته عن أمري" أي فعلته بوحيٍ من الله والوحي لايكون إلا للأنبياء ومع ذلك فليس الخضر بأعلم من موسى مطلقاً بل لا شكّ أنّ موسى أفضل من الخضر فهو من أولي العزم من الرسل ولكن ما كان مبعوثاً إلا لبني إسرائيل وكان الخضر نبيّاً بأرضٍ أخرى، فكل منهما على علمٍ لا يعرفه الآخر كما قال الخضر: (يا موسى إنّي على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه)رواه البخاري. وإنّما عتب الله على موسى لأنّه ظنّ أنّه أحاط بكل علوم البشر في الأرض كلها ولم يردّ العلم إلى الله، فأراد الله سبحانه تفهيمه أنّ هناك علوماً لا يعلمها. ويعتقد الصوفية عن بكرة أبيهم أنّ الخضر حيٌّ يُرزق ويزعمون لقائه وله عليهم سلطان كبير إذ هو الذي يعين الأقطاب والأوتاد وييارك الأولياء ويُعلِّم الأذكار مع أنّه مات وشبع موتاً، وكيف يسع مسلماً أن يشكّ بهذا والله سبحانه وتعالى يقول: (وماجعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر حياته -كما في البخاري-مخاطباً أصحابه: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنّ رأس مائةٍ لا يبقى ممن هو اليوم على ظهرها أحد"؟ ولو أنّ الخضر كان حياً ما وسعه إلا أن يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويبايعه ويهاجر معه ويجاهد كأحد أصحابه لا يحتجب لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس كافة بل وحتى إلى الجن، فلمّا لم يأتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويقابلْه، ولا رآه أصحابه من بعده، ولا التابعون، ولو حصل من ذلك شيء لنُقِل إلينا، فإنّه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل من ذلك شيء علمنا أنّه من اختراعات المتأخرين وتلبيسات الشيطان عليهم. ثم إنّه لا حاجة لنا بالخضر وأمثاله بعد أن أكمل الله(116/126)
لنا ديننا وأتمّه على يد نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وهو القائل: "لوكان موسى حياً ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم". ولذلك عندما ينزل عيسى في آخر الزمان لا يأتي بشريعة جديدة بل يصلي خلف إمام المسلمين كواحدٍ منهم وإنّما أُنزل لمهمة أُنيطت به من قتْل الدجال وكسر الصليب وقتل مَنْ لم يسلم من اليهود والنصارى وعدم قبول الجزية منهم، فإذا كان عيسى عليه السلام لا يأتي بجديد فكيف بمن هو دونه كالخضر؟ هذا على فرض وجوده وإلا فهو حديث خرافة كما ترى. ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه قال –وقد ذكر له الخضر-: مَنْ أحالك على غائب فما أنصفك. ومع كل هذا فيعيش كافّة الصوفية يحدوهم الأمل برؤية الخضر وتلقي ما يسمونه العلم اللدني عنه، وكأنّ شريعة محمد عليه الصلاة والسلام التي هي من لدن الله ناقصة لا تكفي! فسبحان ربي"يضل من يشاء ويهدي من يشاء". والمقصود أنّه لما كان الخضر عندهم ولياً وأعلم من موسى وهو نبي توصّلوا إلى أنّ الولي أعلم من النبي وأكثر تصرفاً في كل زمان ومكان لأنّ النبي لا يتلقى الوحي عن الله رأساً بل عن طريق الملَك والمُتَلَقَّى إنّما هو شريعة وهي عامة، وهذا الطَّور تمّ ما بين الناسوت(أي النبي) والملكوت(أي الملَك). أمّا الولي فيتلقّى رأساً عن الله دون وساطة وما يتلقاه يسمى حقيقة، وطور التلقي هذا حصل -حسب مصطلحاتهم- ما بين الجبروت(الولي) واللاهوت(الله) كما رأينا في الغوثية القادرية المنسوبة إلى الغوث المستوحش. ولعلّك الآن تتساءل هل هذا ينطبق على أولياء هذه الأمة؟ وبمعنى آخر هل الوليّ في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وبعده أعلم منه صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانت مواصفات الوليّ القطب الغوث رئيس الأبدال خارقةً إلى هذا الحدِّ من خفضٍ ورفعٍ وتصرف في شؤون الكون بحيث لا تنبت شجرة ولا تخضرّ ورقة إلا بنَظره، فإن كان جدلاً ثمّة وليّ له هذه المواصفات فمن تراه يكون في عهد النبي صلى(116/127)
الله عليه وسلم؟ هل هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه كما قد يتبادر أم هو غيره؟ والجواب: بل هو -عندهم- غيره دون شكّ وقد صرح بذلك ابن عربي في قوله:
مقام الرسالة في برزخٍ
ج ... فويق النبي ودون الولي
ج
وتقديم الولي المزعوم على النبي بل على الملائكة تدينُ به كل فرق الباطنية ألم يقل الخميني أبعده الله: "إنّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل"انظر الحكومة الاسلامية للخميني صـ53.
الأبدال عند الصوفية (الشيخ الحوت الحلبي وأبداله المتصرفون)(116/128)
ويصرح الصوفية اليوم بأفضلية الأولياء على الأنبياء والملائكة بل أكثر من ذلك، فقد سمعت أحد شيوخ النقشبندية في حلب هو الشيخ محمود الحوت خطيب معهد الكلتاوية الشرعي(!) يقرر ذلك في درس عام فذكر أولاً حديث: (البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق، كلما مات واحدٌ منهم بدّل الله مكانه آخر) وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فزعم أنّه قاله مع أنّه موضوع باتفاق المحققين، رواه الديلمي عن العلاء بن زيدك؛ قال عنه الذهبي: تالف، قال ابن المديني: كان يضع الحديث، ثم إنّ متنه واضح البطلان فلو صحّ أن يكون هناك أبدال أليس لمكة والمدينة نصيب منهم؟ ويفترض أن يكون قاله النبي يوم كان هو وأصحابه في المدينة ولم تكن الشام ولا العراق مفتوحة إذ ذاك ! وبعد أن قدّم الحوت الصوفي لضلاله هذا الحديث المفترى قال بلهجته:"وهؤلاء الأبدال مسؤولون عن قرار العالَم،إيش في قرارات، إيش في صُنَع، إيش في شيء يحدث في هذا العالم هم مسؤولون عنه"(1)
__________
(1) اعلم أنه لم يصح حديث في الأبدال لكنْ وَرَدَ لفظ الأبدال في كلام الأوَّلِين حتى أفرط بعض المتأخرين فعدَّه من المتواتر كما هو صنيع الكتّاني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر ويعني بذلك ورود اللفظ ليس إلا، ومع ذلك فإن المقصود بالأبدال في كلام بعض السلف الأناس الصالحون في جملة المسلمين وهؤلاء لا يحصرهم عدد لا أربعين ولا أربعين ألفاً وليست فيهم ميزة على غيرهم من المسلمين إلا زيادة التقوى وهم لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، وهؤلاء والحمد الله موجودون في كل عصر ومصر وإن كانوا في زمن أكثر من زمن وفي بلد أكثر من بلد وسمهم إن شئت أبدالاً أو أقطاباً أو أنجاباً أو أولياء أو أوتاد المساجد أي من المواظبين على الصلاة فيها كأنهم لشدة مكوثهم فيها أوتاد. فمهما سمَّيت أولئك الناس الصالحين فلا بأس إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وبغضِّ النظر عن ضعف الأحاديث التي جاء فيها ذكر الأبدال ووهائها فلا يوجد فيها البته أن هؤلاء الأبدال يتصرفون كما بنى الصوفية عقيدتهم وإنما الذي فيها أن المسلمين لا يزال فيهم الصالحون، أمّا هذا التصرف الذي أسبغه الصوفية على أبدالهم المزعومين مهما بلغ عددهم فلم يَرِد في أي من هذه الأحاديث .فمن أين للصوفية أن هؤلاء الأبدال (مسؤولون عن قرار العالم أي شيء يحدث في هذا العالم هم مسؤولون عنه) فليوقفونا على آية أو حديث ولو ضعيفاً فيه بعض ذلك ؟ فهذا الذي ننكره نحن معشر المسلمين على هؤلاء الصوفية في هذا الاعتقاد الفاسد . وهلاّ إذا لم يكن عندهم نقل صحيح فكّروا بعقولهم أن هؤلاء الأبدال -على فرض وجودهم- مكلّفون بالعمل بالإسلام لأنهم مسلمون ومطالبون بالجهاد ونصرة المسلمين فهلَّا إذا كانت عندهم هذه الطاقات نصروا المسلمين في أصقاع الأرض وكبتوا أعداءهم كاليهود مثلاً لا سيما والأبدال مسؤولون عن كل شيء كما يقول= =الصوفية ولا يصعب عليهم -رضي الله عنهم- شيء، فأين أبدال الصوفية عن شارون وبوش وأمثالهم !!؟ إنها لا تعمى الأبصار! يقول الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الملقب بالشهيد في كتابه رسالة التوحيد بترجمة الندوي صـ43 تحت فصل في ردِّ الإشراك في التصرف: قال الله تعالى : (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنّى تسحرون): "قد تحقق من هذه الأية الكريمة أن الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا يرون لله عديلاً يساويه في الألوهية والقدرة، وفي الخلق، ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا يعبدونها، هم وكلاؤهم عند الله، وبذلك كفروا، فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوق التصرف في العالم واعتقد أنه وكيله عند الله، ثبت عليه الشرك، ولو لم يعْدله بالله، ولم يثبت له قدرة تساوي قدرة الله".اهـ(116/129)
. وهذا القول زندقة وكفرٌ بالربوبية، فانظر كيف وحّد الأبدال ولم يستبدل بهم بدلاً، وجعل مقاليد الأمور كلها بيدهم حتى إنك لا تدري هل أشرك الله معهم أم جعله -سبحانه- عاطلاً البتة عن التصرف والتدبير، وعزله عن الأمر والتقدير، كأنّه ليس مالك الملك العزيز القدير، ولا الحي القيوم السميع البصير، فتعالى الله عمّا يقول الصوفية علواً كبيراً، اتخذوا من دونه أبدالاً عدداً، فبئس للظالمين بدلاً. ونقول لهم: وَيْحكم من أين أُتيتم؟ فمن أين لكم أنّ قرار العالم بيد هؤلاء المزعومين؟ متى قاموا بهذا الأمر؟ ومن أقامهم أو أنابهم؟ (هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إنْ تتبعون إلا الظنّ وإن أنتم إلا تخرصون)، (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شركٌ في السماوات ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). على أنّ هذا الضلال قديم فكل الأمم الضالَّة كالبراهمة والبوذيين والصابئة واليهود والنصارى تعتقد في أوليائها مثل ذلك وأنّه لولاهم لاضطرب نظام الكون واختلّ توازن أجزائه، وهو اعتقاد كل الفرق الباطنية في الإسلام؛ يقول الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية(صـ53): "إنّ لأئمتنا مقاماً سامياً، وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون". ولنا أنّ نسأل الصوفية والشيعة وأضرابهم: ماذا يحدث للعالَم إذا غفل عنه أقطابكم وأبدالكم؟ وسها عنه أئمتكم وأوتادكم؟ وإذا ناموا فَمَنْ للكون وذراته؟ وكواكبه ومجراته؟ من يصل فيه ويقطع، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع؟ وَمَنْ للحيتان والطيور، والجبال والبحور؟ وكيف تصير الأمور إذا مال أبدالكم إلى الكنيف يبولون؟ أو دخلوه يتغوّطون؟ وما أحسن ما قال الشاعر في سلف هؤلاء من النصارى:
أَعُبَّاد المسيح لنا سؤالٌ
إذا مات الإله بصنع قومٍ
وهل أرضاه ما نالوه منه؟
وإن سخط الذي فعلوه فيه
وهل بقي الوجود بلا إلهٍ
وهل خَلت الطباق السبع لمّا
وهل خَلت العوالم من إلهٍ(116/130)
وكيف تَخلّت الأملاك عنه
ججج ... نريد جوابه ممن وعاه
أماتوه فما هذا الإله؟
فبشراهم إذا نالوا رضاه
فقوّتهم إذاً أوهت قواه
سميعٍ يستجيب لمن دعاه؟
ثوى تحت التراب وقد علاه؟
يدبِّرها وقد سمرت يداه؟
بنصرهمُ وقد سمعوا بكاه؟
وكيف أطاقت الخشبات حمْل الإله الحق مشدوداً قفاه؟
وكيف دنا الحديد إليه حتى
وكيف تمكّنَتْ أيدي عِداه
وهل عاد المسيح إلى حياةٍ
ويا عجباً لقبرٍ ضمّ ربّاً
أقام هناك تسعاً من شهورٍ
وشقّ الفرج مولوداً صغيراً
ويأكل ثمّ يشرب ثمّ يأتي
تعالى الله عن إفك النصارى
ننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن ... يخالطه ويلحقه أذاه؟
وطالتْ حيث قد صفعوا قفاه؟
أم المحيي له ربٌّ سواه؟
وأعجب منه بطن قد حواه!
لدى الظلمات من حيضٍ غذاه
ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه
بلازم ذاك هل هذا إله؟
سيُسأل كلُّهم عمّا افتراه(116/131)
ولعلّ المرء إذا سمع عن هذه السلطة الخرافية الهائلة التي أُسبغت على هؤلاء الأبدال الأبطال من تصرفٍ في شؤون العالَم وغيرها من مواصفاتٍ يتساءل: إذا كان هذا حال الأبدال فكيف هو رئيسهم، لا شكّ أنّه أوسع سلطاناً وأكثر نفوذاً إذْ هو قطب الزمان وغوث الأوان؟ فمَنْ يكون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فمِن المنطقي والحال ما وصفنا أن يذهب وهلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يمكن أن يُظن بمعتقِد هذه العقيدة وإن كانت ضالّة. ولكن لمّا تقرّر عند الصوفية أن الولي أفضل من النبي في كل زمان فإنّ رئيس الأبدال –عندهم- على عهد النبي صلى الله عليه وسلم غيره، حتى إنّه ليس من كبار الصحابة بل هو عبد أسود للمغيرة بن شعبة لا يكاد أحدٌ يعرفه أو يسمع به. فالحوت بعد أن ذكر صفات الأبدال الآنفة ذكر أنّ للمغيرة عبداً أسود(1) سمّاه هلالاً وقال: "وكان هذا العبد هو رئيس الأبدال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم".
الشيخ أحمد بن حسون مفتي حلب وعقيدة القطب
__________
(1) لعله أبو لؤلؤة المجوسي قاتل عمر رضي الله عنه فقد كان غلاماً للمغيرة بن شعبة، وهو شخص مقدس لدى الشيعة والباطنية، وليس ببعيد أن يقدِّسه الصوفية لأنهم من طوائف الباطنية، والصلة العقائدية بينهم وبين الشيعة واضحة. وقال الإمام ابن تيمية: (وقد روى بعضهم حديثاً في هلال غلام المغيرة وأنه أحد السبعة الأقطاب، والحديث باطل باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء وأبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك).(116/132)
وهذا شيخ صوفي آخر من شيوخ النقشبندية هو الشيخ أحمد حسّون مفتي حلب قرّر في أحد دروسه العامة أنّ القطب هو خليفة الله في الأرض وذكر له مواصفات أخرى منها أنّ اسمه عبد الله وإن سمّاه أهله بغير ذلك ثمّ زعم أنّ أويساً القرني هو القطب في زمنه وخليفة الله في الأرض في وقته عِلماً أنّ أويساً قدم إلى المدينة في أمداد أهل اليمن في زمن خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وخليفتهم، ولكن أبتْ للحسّون صوفيته إلا أن يجعل خليفة الله القطب سرِّياً وهو غير الخليفة المُعلَن وهذا شأن الباطنية جميعاً كالرافضة والإسماعيلية وغيرهم لهم إمامهم السري ولا يعترفون بأمير المسلمين في كل أزمنتهم وإنّما يعيشون بين المسلمين تَقِيَّةً حتى إذا سنحت لهم الفرصة أظهروا كيدهم وفتكوا بهم فلقد كانوا سبباً في دخول التتار بلاد المسلمين وقتْل آخر خليفة عباسي في بغداد وقتْل غالب أهلها على يد الوزير ابن العلقمي الرافضي الخائن إذْ هو الذي كاتب التتار وطمّعهم في القدوم وخدع الخليفة العباسي وجملة العلماء حتى قُتلوا بأجمعهم كما هو معروف في التاريخ. والصوفية يتميّزون بأنّ دولتهم الباطنية التي يقودها القطب وأعوانه الأبدال خرافية معدومة وغير موجودة إلا في أذهانهم وإلا لذاقَ المسلمون منها الويلات، ولا يخفى أنّ هذه القيادة غير معروفة في الواقع فلا يحدد الصوفية لأتباعهم مَنْ هو قطب الوقت الذي هم فيه وهذا يسبغ على القضية مزيداً من الرهبة، ويجعل كل مريد يظنّ شيخه بدلاً أو وتداً أو ربّما كان الغوث الفرد، بل يجعله يتوسم الولاية حتى في المجانين فإنّ كل الصوفية يعتقدون فيهم، إلا أن يكون الزمن غابراً فيختارون رجلاً صالحاً من أهل ذاك الزمان الماضي ويزعمون أنّه قطب ورئيس هذه الدولة الباطنية لدعم قضيتهم كاستغلال الحسّون لشخصية أويس القرني رحمه الله.
عقيدة الديوان الباطني عند الصوفية أو برلمان الأبدال(116/133)
ويعتقد الصوفية أنّه يُضرب للأبدال والأقطاب كل يوم ديوانٌ في غار حراء بقيادة القطب الغوث يفصلون فيه مقادير الخلائق. يحدثنا السلجماسي الصوفي في كتابه الإبريز عن هذا الديوان نقلاً عن شيخه الدّباغ: "سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول: الديوان يكون بغار حراء فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن، وأربعة أقطاب عن يمينه وثلاثة أقطاب عن يساره والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان قال والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص(من الأبدال) يتصرفون تحته قال ويحضره النساء وعددهنّ قليل وصفوفهنّ ثلاثة على اليسار جهة الأقطاب الثلاثة، قال رضي الله عنه ويحضر الديوان أيضاً بعض الكمّل من الأموات ويكونون في الصفوف مع الأحياء ويتميزون بثلاثة أمور: أحدها أنّ زيهم لا يتبدل فإذا رأيت في الديوان رجلاً على زي لا يتبدل فاعلم أنّه من الموتى كأن تراه محلوق الشعر أو لا ينبت له شعر فاعلم أنّه على تلك الحالة مات، ثانيها أنّه تقع معهم المشاورة في عالم الأموات، ثالثها أنّ ذات الميت لا ظلّ لها. قال والأموات الحاضرون ينزلون إلى الديوان من البرزخ. قال وتحضره(أي الديوان) الملائكة وهم من وراء الصفوف ويحضر أيضاً الجن الكُمّل وهم الروحانيون وهم من وراء الجميع وفائدة حضور الملائكة والجن أنّ الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها فيستعينون بالملائكة والجن فيها. وسمعته رضي الله عنه يقول إنّ لغة أهل الديوان رضي الله عنهم هي السريانية لاختصارها ولأنّ الديوان تحضره الأرواح والملائكة والسريانية لغتهم ولا يتكلمون العربية. وسمعته رضي الله عنه يقول: إنّ الصغير من الأولياء يحضر بذاته وأمّا الكبير فلا تحجير عليه يشير رضي الله عنه إلى أنّ الصغير إذا حضر غاب عن محله وداره فلا يوجد في بلدته أصلاً لأنّه يذهب إلى الديوان بذاته، وأمّا الكبير فيحضر(116/134)
الديوان ولا يغيب عن داره لقدرته عن التصور على ما شاء من الصور إن شاء 366 ثلثمائة وست وستون ذاتاً، وسمعته رضي الله عنه: قد يغيب الغوث عن الديوان فيحصل بين أولياء الله من أهل الديوان ما يوجب اختلافهم فيقع منهم التصرف الموجب لأن يقتل بعضهم بعضاً، فقلت فما سبب غيبة الغوث رضي الله عنه عن الديوان فقال رضي الله عنه: سببه أحد أمرين إمّا غيبته في مشاهدة الحق سبحانه وإمّا كونه في بداية توليته كما إذا كان بقرب موت الغوث الذي قبله، وسألته مرة: إذا حضر الغوث فهل يقدر أحد على مخالفته فقال رضي الله عنه: لا يقدر أن يحرك شفته السفلى بالمخالفة فضلاً عن النطق بها. وسمعته رضي الله عنه يقول: ليس كل مَنْ يحضر الديوان من الأولياء يقدر على النظر في اللوح المحفوظ بل منهم مَنْ يقدر على النظر فيه ومنهم مَنْ يتوجه إليه ببصيرته ويعرف ما فيه ومنهم مَنْ لا يتوجه إليه لعلمه بأنّه ليس من أهل النظر إليه. وسمعته رضي الله عنه يقول: إنّ أهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد فهم رضي الله عنهم يتكلمون في قضاء الله في اليوم المستقبل والليلة التي تليه قال رضي الله عنه ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالَم الرقا وهو ما فوق الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهمس به ضمائرهم فلا يهمس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف رضي الله عنهم وإذا كان هذا في عالَم الرقا الذي هو فوق الحجب السبعين التي هي فوق العرش فما ظنّك بغيره من العوالم؟".اهـ بلفظه صـ163وما بعدها من الإبريز. فتبيّنَ منه أنّ هذا الديوان العجيب الذي تفتّق عنه ذهن الشيخ المخرِّف مما لا نظير له ولا في قصص ألف ليلة وليلة وهو بحوادثه الطريفة -والحق يُقال- محكم الصنعة مسلٍ مُضحك باعث على السرور لا سيما المعارك التي تحدث بين الأبدال في غيبة الغوث رضي(116/135)
الله عنه، وهو أشبه ببرلمان يؤمّه الأبدال والأقطاب والأوتاد، يعقدون فيه اجتماعهم، الذي يبحثون فيه شؤون الكون ولوازمه. فلعلّ غيبة بعض مشايخ الصوفية أحياناً كأحمد الحسُّون لحضور هذا الديوان؟ فليتنبّه مريدوه لذلك، أم لعله من النوع الكبير الذي يستطيع التشكل بثلاثمئة وستة وستين وجهاً؟! سِيَما أن الشيخ كان عضواً في البرلمان السوري في مرحلة سابقة.
وعلى ذكر التشكُّل فقد حدّثني بعض مَنْ كان صوفياً نقشبندياً ضالاً ثمّ هداه الله قال: مررت على المقبرة في منتصف الليل كما تقضي طقوس الطريقة بعد أن ذكرنا ختم الخوجكان وربطنا الشيخَ وفق الرابطة المعهودة عندهم وغيرها من شعائر الطريقة، قال وإذا الشيطان قد تمثّل لي في ظلمة الليل بصورة الشيخ الخزنوي النقشبندي وكان الوقت شتاءً شديد البرودة، وأتاني من جهته ريحٌ حارّة كالسموم ثمّ اختفى فذهبت إلى بيتي فزعاً، قال ولا أشكّ أنّه شيطان. فلمّا قصّ عليّ ذلك قلت: احمد الله أنّك لم تحترق تلك الليلة. وإنّما تمثّل له الشيطان بصورة شيخه لكثرة شركه بالله من استغاثة الشيخ وطلب المدد منه ومن الأموات كما تقضي تعليمات الطريقة. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ الشيطان كثيراً ما يتمثّل بصورة المشايخ ليُضلّ أتباعهم الذين يعتقدون فيهم من دون الله.
نبذة عن دين العرب في الجاهلية(116/136)
إنّ الصوفية عندما يسلبون الله حقه في تصريف شؤون مملكته وتدبير أمورها ويعطلونه عن صفة القيوميّة ويجعلونها لأوليائهم حتى يقول أحدهم: "هؤلاء الأبدال مسؤولون عن قرار العالَم، إيش في شيء يحدث في هذا العالَم هم مسؤولون عنه. الأولياء في كل زمان ومكان يقولون للشيء كن فيكون" فإنّ الواحد من الصوفية عندما يقول هذه الأقوال ونحوها يكون قد أشرك بالله شركاً أربى به على شرك أبي جهلٍ وأبي لهب، فإنّ مشركي العرب في الجاهليّة لم يكونوا يشركون في أفعال الرب من تدبير وخلق وغيرها بل كانوا يعتقدون أنّ الله هو مدبر الأمور، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم، كما حكى الله عنهم: "قلْ مَنْ يرزقكم من السماء والأرض أمّنْ يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ومن يُدبِّر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون" أي طالما أنّكم مقرّون معترفون أنّ الله هو الخالق الرازق المالك المدبر فلماذا لا تتقونه فتعبدونه وحده دون شركاء؟ فشركهم إنّما كان في العبادة، فقد كانوا يدعون أصنامهم(التي هي صور رجال صالحين) مع الله وبدون الله ويذبحون لها ويلهجون بذكرها فيحلفون بها ويتقربون إليها بأنواع القربات يزعمون أنّها تشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه، قال تعالى: "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى"، وقال سبحانه: "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله". فهم كما ترى يعتقدون أنّ الله هو الذي يدبر الأمر وليس أولياءهم، وأنّه هو المسؤول عن قرار العالم وما يحدث فيه لا يجعلون لأوليائهم من ذلك شيء خلاف ما يعتقد الصوفية. ولكي نعرف طبيعة شرك العرب الذي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لإزالته ينبغي أخذ فكرة في هذه العجالة عن أحوال العرب الدينية قبل الإسلام، ومن أين دخل عليهم الشرك؟ عسى أن يكون في هذا عبرة للمسلم فيحذر اتّباع سبيلهم فلا يقع فيما وقعوا فيه.(116/137)
فنقول وبالله التوفيق: إنّ العرب هم إمّا من سلالة إسماعيل(العرب المستعربة) أو من القبائل اليمنية(العرب العاربة كجرهم) كانوا على الإسلام موحدين لله مخلصين له الدين فإنّ إسماعيل عليه السلام كان مبعوثاً فيهم نبياً ورسولاً في مكة وما حولها بعد أن بنى هو وأبوه الكعبة وأذّنا في الناس للحج إليها، قال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً"(مريم: 54)، وقال تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود"(البقرة: 125)، ودعا إسماعيل وأبوه عليهما السلام فقالا: "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك"(البقرة: 128) ثم بقي العرب من ذرية إسماعيل وغيره على الإسلام على دين إبراهيم وإسماعيل من الحنيفية السمحة يعظّمون البيت ويحجُّون إليه ويعبدون الله وحده، ويعملون بشرائع الإسلام إلى أن طال عليهم الأمد فابتدعوا بدعاً عكّرت نقاء دين إبراهيم وكان أول مَنْ غيَّر دين إبراهيم منهم عمرو بن لحي الخزاعي وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عمرو بن عامرٍ الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول مَنْ سيّب السوائب وغيّر دين إبراهيم"رواه البخاري برقم3521. وكان عمروٌ هذا فيما ذُكِر قد أجلى جرهم عن مكة واستولى عليها مع قومه خزاعة في أواسط القرن الثاني للميلاد وبقيت مكة في يد خزاعة إلى أن استولت عليها قريش بقيادة قصي ابن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي عام 440م، فإذا كان زمن إسماعيل عليه السلام فيما يُذكر يُقدَّر بعشرين قرناً قبل الميلاد(1) فتكون مدّة بقاء العرب على التوحيد الخالص والحنيفية ملّة إبراهيم حوالي واحد وعشرين قرناً ونصف القرن تقريباً، وإذا عرفنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنزل عليه الوحي وبعث عام 610لميلاد المسيح عليه
__________
(1) راجع الرحيق المختوم البحث الفائز بجائزة رابطة العالم الإسلامي لبحوث السيرة للمباركفوري.(116/138)
السلام وإلى أن حُطِّمت الأصنام في فتح مكة سنة ثمان للهجرة الموافق لعام 631ميلادية فتكون مدّة ضلال العرب وشركهم وانحرافهم عن ملّة إبراهيم أقل من خمسة قرون، وهي أطول مدّة انحرفوا فيها بعد إسماعيل على أبعد تقدير. يقول الشهرستاني في كتابه الملل والنحل(2/233): "وأول مَنْ وضع فيه الأصنام(أي البيت) عمرو بن لحي لما سار قومه إلى مكة واستولى على أمر البيت ثمّ صار إلى مدينة البلقاء بالشام فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أربابٌ اتخذناها على شكل الأشخاص البشرية والهياكل العلوية نستنصر بها فنُنصر ونستسقي بها فنُسقى ونستشفي بها فنُشفى فأعجبه ذلك وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه (هبل) فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إلى تعظيمها والتقرب إليها والتوسل بها إلى الله تعالى وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف إلى أن أظهر الله الإسلام فأُخرجت وأُبطلت"إهـ. وذكروا في السِيَر أنّ عمرو بن لحي كان له رئيٌ من الجن فأخبره بأنّ أصنام قوم نوح ودّاً وسواعاً ويغوثَ ويعوق ونسراً مدفونة بجدّة فأتاها فاستثارها ثمّ أوردها تهامة فلمّا جاء الحج دفعها إلى القبائل فذهبت بها إلى أوطانها حتى صار لكل قبيلة صنم. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أمّا وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأمّا سُواعٌ فكانت لهذيل وأمّا يغوثُ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأمّا يعوقُ فكانت لهمدان، وأمّا نَسرٌ فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح"(البخاري4920) إه. وإذْ ألِف العرب هذه الانحرافات وهذه الضلالات وتلقوها عن آبائهم عدّة أجيال فلمّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يظنّون أنّهم على دين إبراهيم وعدّوا النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً أي مائلاً عن دينهم لأنّه أتاهم بقولٍ لم(116/139)
يألفوه ودينٍ لم يعرفوه فلذلك عادوه وآذوه وأتباعَه وكان العرب حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون بالله (إيمان المشركين إيماناً مع شرك)، ويؤمنون بالملائكة وبعض الرسل، وكان منهم مَنْ يؤمن بالبعث واليوم الآخر وكانوا يثبتون لله صفات كثيرة صحيحة منها أنّه الخالق الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والذي يجيب المضطر إذا دعاه وأنّه في السماء مستو على عرشه ويثبتون له سبحانه تدبير الأمور وعلم الغيب والقدرة والمُلْك، وكانوا يعظمون الكعبة بيت الله، ويحجون ويعتمرون ويصلون -وإن كانت صلاتهم مبتدعة- ويصومون، وينذرون لله أيضاً ويذبحون له ويتقربون إليه ويدعونه لا سيما في الشدائد والجدب، وكان بعضهم يحرِّم الخمر على نفسه تعبّداً، وكانوا يحرِّمون أشياء نزل القرآن بتحريمها وأقرهم عليها فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا العمّات، ولا الخالات، وأكثر زواجهم كان شرعياً، وكانوا يُطلِّقون ثلاثاً، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم، وكانوا يداومون على الطهارات الفطرية من قص شاربٍ وتقليم ظفر وحلق عانة وسواك ونحوها، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق وربّما صلبوا قاطع الطريق، أمّا أخلاقهم الفاضلة -في الجملة- وخصالهم الحميدة مثل الوفاء بالعهد وإكرام الجار والضيف والأمانة والشجاعة فحدِّث ولا حرج. إلا أنّهم مع كل هذا كانوا يشركون بالله فيجعلون للملائكة ولرجالهم الصالحين الأموات أمثال اللات وود وسواع نصيباً من عبادتهم فيدعونهم مع الله ومن دون الله، ويذبحون لهم ويطوفون بقبورهم ومقاماتهم وتصاويرهم وتماثيلهم ويتقربون إليها بأنواعٍ من القربات يرجون بذلك شفاعة هؤلاء الصالحين، وربّما أسموه توسلاً لعلهم يقربونهم إلى الله-بزعمهم- بسبب كرامتهم عنده سبحانه، وهم مع ذلك لا يجعلون لهؤلاء الصالحين شيئاً من الخلق أو التدبير بل يعتقدون(116/140)
أنّ هؤلاء الأصنام الصالحين مخلوقون مملوكون لله ولذلك كانت قريشٌ تقول في طوافها: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لكْ إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملكْ. فصرْفُ أنواع العبادة لهؤلاء الصالحين مع الله هو الشرك الذي بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالته حتى يُعبد الله وحده دون شركاء فلا يُدعى إلا هو ولا يُذبح إلا له ولا يُتقرّب إلا إليه ولا يُصرف من العبادة شيء دقّ أو جلّ إلا له سبحانه وهذا الشرك والانحراف عن ملّة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هم مؤاخذون فيه محاسبون عليه وليسوا هم ممّن لم يُبعث لهم نبيٌ حتى تشملهم آية(وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً) لأنّ الله تبارك وتعالى قد بعث لهم إسماعيل رسولاً نبيّاً قال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً). ولم يمُت إسماعيل حتى بيّن الله على يده شريعة كاملة قال تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة" ولم يُنسخ دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فأقرّ التوحيد ملّة إبراهيم وإسماعيل وزاد في الشرائع فأكمل الله به للناس دينهم وفضّله على غيره من الأنبياء بأشياء وفضّل أمته على الأمم أيضاً بأشياء(1) أمّا موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانوا مبعوثين إلى أقوامهم خاصّة، وكذلك عيسى عليه السلام فإنّه بُعث إلى بني إسرائيل خاصّة ولا تشمل دعوته العرب ولا هم مطالبين باتباعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان النّبي يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى الناس عامّة"متفق عليه. فلا يصحّ أن يكون أهل الجاهلية ممّن قيل فيهم: (وما كنّا معذبين حتى نبعث
__________
(1) وقوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) ونحوها من الآيات أي من بعد إسماعيل وفيها إشارة إلى أن موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل لم يكونوا منذرين للعرب.(116/141)
رسولاً) إذ قد بُعث لهم إسماعيل رسولاً، ولا يضرّ تقادم السنين فهل ينتظرون أن يبعث الله لهم كلّ مئة سنة رسولاً؟ والمدّة بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام هي قرابة ألفين وستمئة سنة كما قيل وليست هي بالأمد البعيد لا سيما إذا عرفنا أنّ عبادتهم للأوثان بدأت في عصر عمرو بن لحي الخزاعي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأقلّ من خمسة قرون فقط. وليس طول الزمن بحجّة لهم إذْ لو كان حجّةً لكان هذا وارداً على بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقد صار له صلى الله عليه وسلم منذ توفي إلى الآن أكثر من ألف وأربعمئة سنة. فهل هذه المدّة حجّة لمن انحرف من هذه الأمة واتبع سبيل الأمم الهالكة؟ فمثلاً هل للمبتدعة الآن كالصوفية أن يقولوا: نحن معذورون في بدعتنا لأنه قد طال علينا الأمد وبعُد عهدنا ببعثة نبينا؟
العرب في الجاهلية ليسوا من أهل الفترة ممن لا يُعذَّب(116/142)
وقد دأب بعض المتأخرين على استخدام لفظة أهل الفترة كمصطلح على أهل الجاهلية وفهم منها أنّ العرب في الجاهلية لم يكن ثمّة رسول مبعوثاً إليهم، وكأن الله سبحانه قد تركهم هملاً وبالتالي فهم غير مؤاخذين ولا معذبين لقوله تعالى: (وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً) وهذا خطأ فادح فإنّه وإن كان بَعْثُ الرسل قد فتر قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يعني أنّ أهل الأرض -ومنهم العرب- في تلك الفترة غير مؤاخذين ولا معذبين إذْ قد بعثَ الله لهم رسلاً فيما سبق(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) ثمّ لا زالت دعوتهم سارية حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال منهم أناسٌ موحدين لله مخلصين له الدين كالحنفاء. ثمّ إنّ كلمة: (فترة) لم ترد في القرآن كله إلا مرة واحدة مخاطباً بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في قوله تعالى من سورة المائدة: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترةٍ من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) فلوكانت كلمة الفترة تنفع أحداً لنفعت اليهود والنصارى إذْ هم المخاطبون بها، بل هم أجدر مَنْ تَسمّى بأهل الفترة استناداً لهذه الآية. فهل يقول مسلم: اليهود والنصارى غير مؤاخذين بشركهم وانحرافهم عن ملّة موسى وعيسى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّهم من أهل الفترة؟ فإذا صحّ أنّ اليهود والنصارى لا يقال لهم أهل فترة مع أنّ لفظة الفترة جاءت في سياق خطابهم فكذلك لا يُعدّ العرب المشركون من أهل الفترة، أو على الأقل أكثرهم لا يُعدّ كذلك، وقد ألمعنا آنفاً أن ليسوا هملاً لم يُبعث لهم رسول أصلاً، بل هم من أمّة إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعندما بُعث نبينا صلى الله عليه وسلم كانوا متألِّهين، ولا يزال معهم بقايا عبادات يصرفونها لله، وسنبيّن لاحقاً جملةً من اعتقاداتهم الصحيحة وعباداتهم التي ورثوها عن دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومن هنا فهم مؤاخذون بانحرافهم عن ملّة نبيهم(116/143)
إسماعيل صلوات الله عليه. ولعلّ هؤلاء المتألِّهين هم السواد الأعظم منهم، وربّما كان منهم طائفة -لاسيما المنعزلين في الصحارى البعيدة-لم تصلهم دعوة أحد من الأنبياء ولم تقم عليهم الحجة لا سيما في الأعصار المتأخرة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة. بينما الحجة كانت مقامة على أكثرهم -خصوصاً أهل المدن- فلا زال فيهم دعاة إلى التوحيد أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وغيره من الحنفاء (1)
__________
(1) إن هؤلاء الحنفاء -مثل زيد- لم يكن لهم تأثير يذكر على أقوامهم لأنهم كانوا قد فقدوا معالم الدين فضلاً عن تفاصيله حتى إنهم لم يكونوا يعرفون كيف يسجدون -كان زيد يسجد على راحته- وما ذلك إلا لبعد عهدهم بنبيهم إسماعيل وكثرة البدع في العرب بحيث لم يبق من دين إبراهيم وإسماعيل إلا بقايا يُستدل بها على أن ثمة ديناً سماوياً كان يسود يوماً وحين بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان الناس -عربيهم وعجميهم وكتابيهم- في ضلال تام، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم إيذاناً بانتشار نور الإيمان وانبلاج فجر السعادة على البشرية، وإزاحة ظلام الشرك الذي عم الأرض. فإذا كان أهل الكتاب -الذين لم يمض على وفاة نبيهم ستة قرون- قد= =ضلُّوا بأجمعهم فما بالك بالعرب الذين مات أبوهم إسماعيل النبي المرسل إليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً، وفي القرون الأخيرة منها تعاقبت أجيال منهم على الكفر والضلال حتى صار الدين الحق دين إبراهيم وإسماعيل غريباً، وصارت أمة العرب فضلاً عن أمم الأرض بحاجة إلى نذير يأتي بدين كامل يستنقذ البشرية من المهوى السحيق الذي انحدرت فيه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقذ المرتقب والرحمة المنتظرة يقول عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) رواه مسلم145 يقول الحافظ ابن رجب في كتابه (كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة) صفحة 11: " قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريباً) يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم2865: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"اهـ. ويقول الكاتب المعاصر أبو الحسن الندوي في بيان ما كان عليه الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء. وكان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام المطبق من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب(حشرة تصدر وميضاً في الليل) الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام فلا يخترق الظلام ولا ينير السبيل، وكان الذي يخرج في ارتياد العلم الصحيح وانتجاع الدين الحق يهيم على وجهه في البلاد، ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى يأوي إلى رجال شواذ في الأمم والبلاد فيلجأ إليهم كما يلجأ الغريق إلى ألواح سفينة مكسرة هشمها الطوفان، يدل على ندرتهم خبر سلمان الفارسي أكبر الرواد الدينين في القرن السادس، الذي شرّق وغرّب في الفحص عنهم، ولم يزل ينتقل من الشام إلى الموصل، ومن الموصل إلى نصيبين، ومن نصيبين إلى عمورية، ويوصي به بعضهم إلى بعض، حتى أتى على آخرهم فلم يجد لهم خامساً، وأدركه الإسلام في هذا الظلام" اهـ من كتاب(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)ص/72/.(116/144)
كما سنبيّن بعد قليل. ولعلّ القلّة المذكورين الذين لم تبلغهم دعوة إسماعيل لطول العهد ولانقطاعهم في البراري هم مَنْ يصدق عليهم صفة أهل الفترة مع أنني في شك من ذلك، ولعلّ هذا الضرب إن وجد يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأمّا الأصمّ فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأمّا الأحمق فيقول: ربِّ جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأمّا الهرم فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً. وأمّا الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سُحب إليها" أخرجه أحمد(4/24) وغيره، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة(1434).ومما يحملني على استبعاد دخول أيٍ من العرب تحت حكم الحديث السابق قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل مات في فترة) فأطلق العبارة ولم يقل ورجل من العرب مات في فترة فلا ينبغي الاستدلال بهذا الحديث على أن العرب من أهل الفترة لأنه لا علاقة لهم به ولا ذكر لهم فيه وإنما ذكرته تنزلاً والله أعلم. واعلم أن القول بأن أهل الفترة يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها فمن دخلها طائعاً كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى، فيدخله فيها معذباً= هو قول السلف وجمهور الأئمة وحكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام ابن كثير والإمام ابن حجر العسقلاني والإمام ابن حزم والشيخ محمد أمين الشنقيطي وغيرهم للحديث السابق وغيره مثل حديث أنس عند أبي يعلى والبزار قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة، بالمولود والمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ(116/145)
الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار ابرزي فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال: ويقول لهم ادخلوا هذه، ويقول من كتب عليه الشقاء: أنّى ندخلها ومنها كنا نفر !؟ فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيباً قال: وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار". وحديث أبي سعيد الخدري عند البزار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال ردوها، أو قال ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيداً أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: "إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب" واعلم أن في هذا الامتحان نوعاً من التكليف وبهذا قال كثير من العلماء المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية(مختصر الفتاوى المصرية646) والإمام ابن القيم (طريق الهجرتين695) وابن حجر(الفتح3/486) وابن كثير(التفسير3/35) وابن حزم (الملل والنحل4/60) فذهب هؤلاء العلماء وغيرهم إلى أن الدار الآخرة وإن كانت دار جزاء فلا مانع أن يحصل فيها نوع تكليف قبل استقرار الناس في الجنة أو النار يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (11/451): (قد ثبت بأحاديث صحيحة بأن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي المواقف فهي آثار ذلك التكليف) ونقل عن الطيبي :(لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء أن لا يقع في أحدهما ما يختص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره)إهـ.واستدل هؤلاء العلماء بالأحاديث السابقة في(116/146)
امتحان صاحب الفترة وغيره واستدلوا بقوله تعالى(يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)الآية. فيها أن الله سبحانه وتعالى يدعو أقواماً إلى السجود يوم القيامة وهذا تكليف واستدلوا بحديث آخِر من يخرج من النار ويدخل الجنة عند البخاري، وفيه أن الله تبارك وتعالى يأخذ المواثيق من هذا الرجل بعد أن يخرجه من النار ويدنيه من الجنة أن لا يسأله غيره ثم لا يلبث أن ينقض عهده ويسأل ربه دخول الجنة فيدخله إياها، فأخْذه سبحانه المواثيق والعهود من هذا الرجل يعدُّ تكليفاً، واعلم أن تكليف من مات في فترة ومن معه بدخول النار يوم القيامة لامتحانهم فإن دخلها طائعاً كانت عليه برداً وسلاماً وإلا شقي وسُحب إلى العذاب هذا التكليف ليس هو تكليف ما لا يطاق فإذا كان دخول النار سبباً في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها وسيحصل هذا في الدنيا قبل الآخرة إذ ثبت مثل ذلك من حديث الدجال في آخر الزمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدجال يخرج وإن معه ماء وناراً فأما الذي يراه الناس ماءً فنارٌ تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً، فماءٌ بارد عذب، فمن أدركه منكم، فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب)متفق عليه فإذا تقرّر أن من مات في فترة يُمتحن في عرصات يوم القيامة فمن الذي يصدق عليه أنه من أهل الفترة ؟ قد رأيتُ تعاريف لبعض الأصوليين لأهل الفترة لم أرتضها تأمَّلتُها فوجدتها كلها متأثرة بأن العرب أهل فترة وكأنها وضعت للدلالة على العرب فحسب ذهاباً منهم إلى أن العرب في الجاهلية أهل فترة وأكثر التعاريف تحوم حول ذلك منها قول السبكي في جمع الجوامع (1/63): (الفترة هي ماكانت بين رسولين لم يُرسل إليه الأول ولم يدرك الثاني)إه. وهذا التعريف في الحقيقة ينطبق على العرب في الجاهلية فهو يريد أن يقول: أهل الفترة هم الذين لم يُرسل إليهم عيسى ولم يدركوا محمداً صلوات الله عليهم وأكثر المؤلفين بعده عدلوا عن تعريفه إلى(116/147)
هذا الذي ذكرته من أن الفترة هي ما كان عليه العرب في المدة مابين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وأبعد منه قول الشربيني في الحاشية على جمع الجوامع: (أهل الفترة هم العرب من انقطاع رسالة سيدنا إسماعيل إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). وهذا القول أصرح في تخصيص أهل الفترة بالعرب مع أنه لم يبين متى انقطعت رسالة سيدنا إسماعيل عليه السلام وأنّى له أن يبيِّن ورسالة إسماعيل عليه السلام لم تنقطع أصلاً إلا ببعثة نبينا محمد خاتم النبيين صلوات الله عليه فانهار تعريفه من أساسه والحق أن أهل الفترة : (هم الذين لم تبلغهم دعوة نبي أصلاً في أي زمن كان، أو هم الذين تراخى زمنهم عن زمن نبي ما فلم تبلغهم دعوته فهم بمثابة من لم يُرسل إليهم رسول أصلاً). وهذا هو التعريف المَرْضي لأن صاحب الفترة يقول يوم القيامة لربه عز وجل كما ثبت في الحديث: (ما أتاني لك رسول). فكل من لم يأته رسول أو تبلغه دعوته في أي زمان كان فهو في فترة ويُمتحن في عرصات يوم القيامة، ولو أنه تُرك وفطرته لوحّد الله بالفطرة ولكن أبويه يضلانه أو من يُقيَّض له. والعرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث لهم رسولٌ أصلاً هو إسماعيل عليه السلام وقد بلغتهم دعوته بل لا زالوا متمسكين ببقايا من شريعته وفيهم من هو على ملته لم يشبها بشرك كالحنفاء فليسوا أهل فترة والأحاديث التي تثبت أنهم في النار عدا أفراد منهم أكثر من أن تحصر مما يدلك دلالة جازمة أنهم مؤاخذون وليسوا بأهل فترة ممن يُمتحن يوم القيامة بل مصيرهم معروف في النار بخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم . وقد تَرِد هنا في مسألة الفترة إشكالات نجيب عنها منها: إذا كان الواحد من الأنبياء فيما سبق يبعث إلى قومه خاصة فموسى عليه السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل كما قال الخضر(موسى بني إسرائيل!!) ما بال السحرة الذين آمنوا به وما بال فرعون؟ وهل كان موسى يرضى من فرعون أن يرسل معه قومه بني إسرائيل(116/148)
الذين استعبدهم ليأخذهم إلى الأرض المقدسة المكتوبة لهم فقط ؟ والجواب: إن وجود قوم مع قوم النبي صاحب الدعوة يجعلهم تبعاً لقوم النبي مثاله القبط مع بني إسرائيل في مصر(زمن موسى) وكذلك في زمن يوسف عليه السلام فالصحيح أن رسالة يوسف تنتظم القبط الذين كان فيهم، قال مؤمن آل فرعون في سورة غافر لقومه : (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) الآية. فالذي يظهر من هذه الآية أن يوسف كان مبعوثاً إلى القبط مع إخوته وبنيهم وأن القبط لم يؤمنوا برسالته حقاً وإن كانوا تظاهروا بذلك بل لا زالوا في شك مما جاءهم به. فإذا كان النبي يبعث إلى قومه خاصة فمن قومه هل هم عشيرته خاصة؟ أم القوم المجتمعون في قرية أو قرى؟ والجواب : إذا بُعث نبي إلى قوم بخصوصهم فإن دعوته تشمل من كان ساكناً فيهم كدعوة موسى شملت بني إسرائيل أصالة والقبط تبعاً ويدل على ذلك قوله تعالى : (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا)، والمؤتفكات عدة قرى. وقد يرد سؤال عمن طال عليه الأمد من أتباع نبي سابق هل هم مطالبون باتباع نبي آخر غير مبعوث إليهم مهما تراخى زمن النبي السابق؟ والجواب: ليسوا مطالبين باتباع نبي لم يرسل إليهم وإن كانوا مطالبين بالإيمان بكل رسل الله لكن يُطالبون باتباع شريعة نبيهم مهما تراخى زمنه حتى لو تمسّكوا بلا إله إلا الله وحسب فإنهم يكونون بذلك محسنين كحال الحنفاء من العرب مثل زيد بن عمرو الذين بقوا على أصل ملة ابراهيم وإسماعيل ولم يدخلوا في أديان الأنبياء الذين بُعثوا إلى أقوام آخرين بعد إسماعيل كموسى وعيسى عليهم السلام فهم غير مطالبين باتباعهم وإلا للزم موسى وعيسى دعوة العرب وغيرهم ولم يُعهد عن موسى أو عيسى أنهم جاؤوا إلى العرب ودَعَوهم بخلاف خاتم النبيين صلوات الله عليه الذي ما إن انتشرت دعوته في جزيرة العرب حتى بدأ يبعث الرسائل إلى الملوك(116/149)
والأمراء في أصقاع الأرض يدعوهم إلى الإسلام ولم يمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عمّت دعوته جزيرة العرب بأكملها وقبل أن يفارق الدنيا كان الجيش الذي جهزه يتهيّأ لغزو الشام إشارة إلى أن دعوته شاملة لكل أهل الأرض ولهذا بشَّر أمته بالسناء والرفعة والتمكين في الأرض وأن مُلْكها سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها ومن هنا تعلم خطأ النَّظّام المعتزلي الذي كان يرى كما نقل عنه ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث صـ18) : (أن كل نبي بعثه الله إلى جميع الخلق) إهـ. ولكن لو أنَّ أحداً من أتباع نبي سابق تراخى زمنه اتبع شريعة نبي آخر بُعث إلى غيره فلا حرج في ذلك بل يكون محسناً كحال ورقة بن نوفل الذي تنصّر واتبع دين المسيح مع أنه على دين إبراهيم أصلاً علماً أن ورقة هذا كان أقرّ موقناً أن محمداً هو النبي الخاتم المبعوث عندما عرضتْ عليه ابنة عمه خديجة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما جاءه الملَك ولم ينشب أن مات قبل أن يصدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين)رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو في صحيح الجامع للألباني. وعن عائشة أن خديجة سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ورقة بن نوفل: فقال: (قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض) قال ابن كثير في السيرة(1/397): هذا إسناد حسن. وإذا استقرَّ أن الأنبياء قبل نبينا صلوات الله عليهم جميعاً كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة ولا يُكَلَّفون الذهاب إلى الأمم المجاورة فالتبشير (أو التنفير) الذي يقوم به النصارى هو خلاف دينهم لأن دين عيسى خاص ببني إسرائيل وفي الإنجيل عندهم (إنجيل متى) قول عيسى: (لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة). فاليهود-أخزاهم الله- من هذه الناحية أصح موقفاً من النصارى ليس لهم دعوة إلى اليهودية بل لا يقبلون(116/150)
داخلاً جديداً في دينهم وكذلك الشيعة بنبغي أن تقتصر دعوة التشيع عليهم فقط لأن إمامهم جعفراً أبا عبد الله نهاهم عن دعوة الناس كما يزعمون ففي أصول الكافي من كتبهم باب في ترك دعاء الناس أورد فيه مؤلفه الكليني حديثاً عن أبي عبد الله زعم يقول: (ما لكم وللناس، كفُّوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلى أمركم) وفي حديث آخر-عندهم- أن أحدهم قال: قلت لأبي عبد الله: ندعوا الناس إلى هذا الأمر (يعني التشيع)؟ فقال: لا). فيؤخذ منه أنه لا ينبغي للشيعة دعوة غيرهم للدخول في مذهبهم لنهي إمامهم أبي عبد الله عن ذلك ومنه يُعلم أن سعيهم الخاسر في ظل حكومة خميني ومن بعده لتشييع الناس باطلٌ لا يصح عندهم كيف وقد رأيتَ نهي أبي عبد الله الصريح؟! وقد علموا أن مخالفة أوامر أبي عبد الله وغيره من الأئمة لا تجوز لأنهم –عندهم- معصومون أليس هو القائل زعموا: (إذا أمرتكم بشيء فافعلوا) أصول الكافي (1/ 169). فما أضل سعيهم وأشد خسرانهم، ثم إن الشيعة الآن يُشَبَّهون بأهل فترة لو جرينا معهم بخرافة مهدي السرداب ورفْعِ القرآن من حين غاب حتى يخرج، فيكفيهم الآن أن يقولوا: لا إمام حق إلا علي والأئمة الأحد عشر من ولده (بدل لا إله إلا الله). ثم ما شأن أهل السنة الذين لم يأتهم المهدي المزعوم إلى الآن هل هم أيضاً أهل فترة؟ ينبغي أن يكونوا كذلك في نظر الشيعة. واعلم أن من أفحش الخطأ قول من زعم أن المرسلين الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورين في سورة يس هم رسل المسيح، وذلك أن المسيح عليه السلام إنما أرسل لبني إسرائيل خاصة والله سبحانه وتعالى يقول عن رسل القرية: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون)..(ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) الآيات، فهم أنبياء مرسلون وليسوا دعاة من أتباع المسيح لا سيما وقد أُهلكت القرية قال تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) وليس المعهود في زمن عيسى عليه السلام(116/151)
إهلاك القرى وإلا لأُهلك اليهود الذين كذّبوا عيسى وهمُّوا بقتله، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم بل أمرَ المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأولى)، ولا يخفى أن هلاك فرعون وقومه قبل نزول التوراة على موسى. وقد ردَّ الحافظ ابن كثير في تفسيره من وجوه كثيرة على من زعم أن الرسل أتباع المسيح إلى إنطاكية. وقد يرد سؤال ماحال الأمم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم التي تطاول عليها الزمن وبعُد عهدها بأنبيائها؟ والجواب: أنها مطالبة على الجملة باتِّباع نبيها وحجة الله قائمة على كل حال (ولله الحجة البالغة) ولو بما معها من الفطرة حتى لو ضيعت أحكام وشرائع دين أنبيائها ولذلك نجا أحناف العرب كزيد بن عمرو بما بقي معهم من لا إله إلا الله فنفعتهم يوماً من دهرهم وكذا المسلمون في آخر الزمان لا يعرفون لا صلاة ولا صياماً إلا كلمة لا إله إلا الله ومع ذلك تنفعهم كما في حديث حذيفة الشهير لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) والأمم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم الواحدة منها بعد طول عهدها بنبيها ليست مطالبة باتباع نبي قوم آخرين لم يُرسل إليها بل يطالبون بأصح ما بقي معهم ولو بالفطرة ومع ذلك لو اتبعوا نبياً مبعوثاً لغيرهم فلا حرج بل هو حسن كحال ورقة بن نوفل وعدي بن حاتم وغيرهم واعلم أن حجة الله قائمة على العباد، أما هذه الأمة المحمدية فلا تمر بفترة أبداً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهده الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) متفق عليه. أما الأمم الأخرى فالحجة قائمة عليهم ببعثة النبي صلى(116/152)
الله عليه وسلم والآن الخبر بدين الإسلام يعمُّ الأرض ووسائل الإعلام في كل بيت فالإسلام وصل إلى كل بقعة ويكفي أن يسمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشترط تفصيلها للمدعو وذلك لما معه من الفطرة فالحجة قائمة فالعبرة بالتمكن وسماع الدعوة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم. نقل الشيخ صالح المقبلي اليماني في كتابه العَلَم الشامخ صفحة(264)عن الغزالي في سياق أن من لم تبلغه الدعوة معذور قوله: (وكذلك عندي رجل نشأ في الروم إنما يسمع بساحر ظهر في العرب ادَّعى النبوة وانقاد له العوالم حتى صار شأنه هذا الشأن في الأقطار أو قريباً من هذا اللفظ) فقال الشيخ المقبلي: "وهذا من تخبطاته (أي الغزالي) فإن الله قد أظهر دين الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون وهذا كان في جميع الكفرة في قاصي الأرض ودانيها ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع بُلْه الناس ونسائهم فضلاً عن الأذكياء بل كان يغير عليهم بعد انتشار الإسلام من دون تجديد دعوة وهكذا شأن المسلمين إلى يوم الدين واليهود الآن ينشأ مولودهم ويربُّون في قلبه أن محمداً صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فيعطونه التفاحة والرمانة ونحو ذلك ثم يسرقونها عليه ويقولون أخذها محمد صلى الله عليه وسلم فيكبر لا يفرق بينه وبين الشيطان، رفع الله شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ هذه السنة السيئة -فيما يُذكر- الرافضة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والتمذهبات كلها لها شبه بهذا النحو وإن اختلفت شدّة وخفّة فالمعتبر عند المعتبرين إنما هو التمكن وذلك يحصل بأن يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:(لأنذركم به ومن بلغ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي(116/153)
نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولانصراني) الحديث وقد أردف الله سبحانه كل حجة عقلية، بحجج جمّة سمعية؛ (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً - وإن من أمة إلا خلا فيها نذير - ولقد أرسلنا إلى كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله) وفي جامع المسانيد لابن الجوزي في مسند أبي رزين لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي رضي الله عنه في آخر حديث طويل فقلت: يارسول الله هل لأحد فيما مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: (قال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار) قال فلكأنه وقع حَرٌ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول وأبوك ياسول الله ثم إذا الأخرى أجمل قلت: يا رسول الله وأهلك؟ قال: وأهلي -لعمر الله- ما أتيتَ عليه من قبر عامري أو قرشي أو دوسي يشرك فقل أرسلني إليك محمد أبشرك بما يسوؤك تُجَرّ على وجهك وبطنك في النار) قال قلت: يا رسول الله ما فعل بهم ذاك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال: (ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبياً فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين). فهذا الحديث موافق للقرآن فأهل الفترات محجوجون بالعقل والسمع كما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعني الذين تراخى زمنهم عن زمن النبوة مع قيام حجة الله عليهم سمعاً وعقلاً)اهـ من العلم الشامخ للشيخ صالح المقبلي اليماني توفي سنة(1108هـ). قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في شرح حديث لقيط بن عامر هذا : "قوله صلى الله عليه وسلم (حيث مررت بقبر كافر فقل أرسلني إليك محمد) فيه دليل على أن من مات مشركاً فهو في النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به وقُبْحُه والوعيدُ عليه بالنار لم يزل معلوماً من دين الرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم(116/154)
وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرناً بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلوهيته (يعني عبادته) وإنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر وإن كان سبحانه لا يُعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم" وقد يوجد في بعض المناطق كمجاهيل أفريقية وفي مناطق أمريكا الجنوبية وغيرها من المناطق النائية أناس لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء إذا ماتوا قبل وصول الدعوة إليهم كانوا أهل فترة وامتُحنوا يوم القيامة كما سبق. وبنبغي التفريق بين قيام الحجة وفهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقيام الحجة وبلوغها نوع وفهمهم إياها نوع آخر فحجة الله القرآن فمن سمع بالرسول وبلغه القرآن فقد بلغته الحجة قال بعض العلماء: إن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يُعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) وقوله: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) إهـ فمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة فإن أعرض عنها ولم يدخل دين الإسلام فقد حق عليه العذاب في الآخرة وشرع للمسلمين قتله والغارة عليه دون تجديد دعوة. أما من لم تبلغه الدعوة أصلاً -وهذا نادر- فلا يجوز قتله حتى يعرض عليه الإسلام فليس لأحد لقي أحداً لم تبلغه الدعوة قتله حتى يقيم الحجة عليه والله أعلم. ومن الأدلة على أنّ مشركي الجاهلية في فترة(116/155)
انحرافهم(التي هي أقل من خمسة قرون) قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم مؤاخذون ولا تنفعهم حجة وجدانهم آباءهم على ذلك الضلال ومتابعتهم إياهم وأنّهم ليسوا من أهل الفترة(بمفهوم الصوفية) بل من أهل النار ما رواه الطبراني في المعجم الكبير(1/91/1) بسندٍ صحيح عن سعد رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأنّ الأعرابي وجد من ذلك فقال: يا رسول الله ! فأين أبوك؟ قال: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار). قال فأسلمَ الأعرابي بعد، فقال: لقد كلّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار"اهـ.(1) وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مررتم بقبورنا وقبوركم من أهل الجاهلية فأخبروهم أنّهم من أهل النار"رواه ابن السني في"اليوم والليلة"برقم 587 بسند حسن.(2) وأصرح من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه(347/1): عن أنسٍ رضي الله عنه: "أنّ رجلاً قال: يا رسول الله ! أين أبي؟ قال: في النار، فلمّا قفّى دعاه فقال: إنّ أبي وأباك في النار". قال النووي شارح مسلم في شرح هذا الحديث: "فيه أنّ من مات على الكفر؛ فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أنّ من مات على الفترة -على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان- فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإنّ هؤلاء
__________
(1) قال الملا علي القاري الحنفي في كتابه(معتقد أبي حنيفة الإمام في أبوي الرسول عليه السلام): (في هذا التعميم في هذا الحديث دلالة واضحة وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار إلا ما خُصّ منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم).
(2) حكى القرافي في شرح التنقيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود. قاله العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ج/صـ302.(116/156)
كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم".اهـ. ومن الأدلة أيضاً على أنّ مشركي الجاهلية قبل النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أهل الفترة –ممن لا يُعذَّب- بل من أهل النار ما رواه الإمام أحمد(3/201) بسند صحيح على شرط الشيخين عن أنس: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بنخلٍ لبني النجّار، فسمع صوتاً فقال: "ما هذا؟". قالوا: قبر رجل دُفن في الجاهليّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني". وقد أخرجه أحمد أيضاً من طريق ابن عدي وزاد بعد قوله"في الجاهلية": "فأعجبه ذلك". وهي عند النسائي(1/290) بلفظ: "فسُرَّ بذلك". وله شاهد من حديث جابر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً نخلاً لبني النجّار فسمع أصوات رجال من بني النجّار ماتوا في الجاهلية يُعذّبون في قبورهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فأمر أصحابه أن تعوّذوا من عذاب القبر"أخرجه أحمد(3/295) بسندٍ صحيح متصل على شرط مسلم، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(292/1). وفي سنن أبي داود عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وأنها وأدتْ أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال: (الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم). قال ابن كثير في تفسيره(3/32): إسناده حسن. ومن الأدلة أيضاً أنّه لازال في العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ هو على دين إبراهيم موحّداً لله يُسَفِّه آراء قومه في شركهم وابتداعهم البدع في دين إبراهيم فكان يدعوهم ويقيم عليهم الحجج ولكن لا يلتفتون إليه مثل زيد بن عمرو بن نفيل –أبو سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وابن عم ّ عمر بن الخطاب بن نفيل-فقد كان على ملّة إبراهيم من الحنيفية لا يدعو الأصنام ولا يذبح(116/157)
لها ولا يأكل ما يذبحه قومه على الأنصاب قال ابن هشام في السيرة: قال ابن اسحاق: "فارق(زيدٌ) دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموؤدة وقال أعبد ربَّ إبراهيم. وبادى قومه بعيب ما هم عليه. قال ابن اسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري، ثمّ يقول: اللهم لو أنّي أعلم أيّ الوجوه أحبّ إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته. قال ابن اسحاق: وَحُدِّثتْ أنّ ابنَه سعيدَ بن زيد وعمر بن الخطاب ابن عمه. قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: نعم، فإنّه يُبعث أمّة وحده"إهـ انظر سيرة ابن هشام(1/225). ونقل الشهرستاني في الملل والنحل(2/241) عن زيد بن عمرو أنّه "كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا أيها الناس هلموا إليّ فإنّه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري". وسمع أميةَ بن أبي الصلت يوماً ينشد:
كل دين يوم القيامة عند
ججج ... الله إلا دين الحنيفة زورُ
فقال له: صدقت. وقال زيد أيضاً:
فلن تكون لنفسٍ منك واقية
ججج ... يوم الحساب إذا ما يُجمع البشر
اهـ انظر الملل والنحل. وكان زيد ينهى عن عبادة غير الله من الأصنام وهو القائل:
أربّاً واحداً أم ألفَ ربٍّ
تركت اللات والعزى جميعاً
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
ولا هبلاً أزور وكان ربّاً ... أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ
كذلك يفعل الرجل البصيرُ
ولا صنمي بني غنم أزور
لنا في الدهر إذْ حُلمي يسير
وكان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال:
لبيك حقاً حقاً ... تعبدّاً ورقّاً
عذت بما عاذ به إبراهيم. وكان يقول:
أسلمت وجهي لمن أسلمتْ
دحاها فلمّا رآها استوت
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ
ج ... له الأرض تحمل صخراً ثقالا(116/158)
على الماء أرسى عليها الجبالا
له المزن تحمل عذباً زلالا
انظر سيرة ابن هشام(1/230). فلأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله عز وجلّ لزيد بن عمرو ورحمه فإنّه مات على دين إبراهيم"رواه ابن سعد في طبقاته عن سعيد بن المسيب مرسلاً. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن زيدٍ هذا فقال: (يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم). قال ابن كثير: إسناده جيد حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: "دخلتُ الجنة، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين" رواه ابن عساكر وحسّن الألباني إسناده في الصحيحة(1406). فإذا كان زيد في الجنة فغيره من أترابه ممّن عارضه من المشركين في النار كما هو مفهوم الحديث كما لا يخفى. وكذلك كان قس بن ساعدة الإيادي متألهاً متعبداً، موحداً لله نابذاً لما سواه، ومن قوله: "يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين المعروف الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينكر، قسم قسٌّ قسماً بالله إنّ لله ديناً هو أرضى له من دينكم هذا". ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسَّاً إنّه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم"رواه الطبراني عن غالب بن أبجر رضي الله عنه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسَّاً كأنّي أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا أحفظه"رواه الأزدي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
عقائد طوائف مشركي العرب في الجاهلية(116/159)
فهؤلاء الموحدون ممّن كانوا على دين إسماعيل وإبراهيم كزيد بن عمرو ولم يشوبوا توحيدهم بشرك كانوا طائفة قليلة(1)إذا ما قورنت بالكثرة الكاثرة من المشركين، على أنّ المشركين كانوا يتفاوتون في
__________
(1) ومن العرب قبل الإسلام من كان ينكر عبادة الأوثان، لأنها تخالف العقل والفطرة وإن لم يدرِ كيف يعبد الله وإن لم يكن عنده تصور لشرع لكنه كان بفطرته ينكرها منهم عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجلٍ في مكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطّفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. قلت: فبأي شيء؟ قال: أرسلني بصلة الرحم، وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله ولا يشرك به شيء. قلت: فمن معك على هذا؟ فقال: حر وعبد(أي أبو بكر وبلال) فقلت: إني متبعك) الحديث رواه مسلم(832). ويلاحظ من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينبرِ ليثبت لعمروٍ وجود الله وأنه خالق لأن هذه المسألة بدهية معلومة عندهم وليسوا هم أشاعرة وماتريدية ليحتاجوا إثبات ذلك وتحصيل حاصل ما هنالك. ولكن المفقود عند العرب توحيد الرب وإفراده بالعبادة وعدم الإشراك به فهذا الذي يحتاجونه ومن أجله بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال لعمرو: (أرسلني الله بكسر الأوثان وأن يُوحد الله ولا يشرك به شيء). ولم يقل أرسلني لأثبت وجوده وأنه الخالق. وقد ذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في التلقيح تسمية من رفض عبادة الأصنام في الجاهلية فذكر منهم أبا بكر الصديق وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وأبا قيس بن صرمة ورباب بن البراء اهـ. وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق الشعبي عن شيخ من جهينة أن عمرو بن حبيب ترك الشرك في الجاهلية.(116/160)
اعتقاداتهم فمنهم طائفة آمنت بوجود الله وبأنّه خالق كل شيء وخالقهم ابتداءً ولكنها أنكرت الخلق من جديد بعد موت الأجساد، فأنكرت البعث والإعادة وأنكرت اليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء، قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل(2/235): "وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث والإعادة(1) وهم الذين أخبر عنهم القرآن: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) فاستدل عليهم بالنشأة الأولى، إذْ اعترفوا بالخلق الأول فقال عزّ وجلّ: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة). وقال: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديد)"اهـ. أي لديهم لبس وشك في خلق وبعث جديد، أماّ الخلق الأول فلا لبس فيه عندهم لأنّهم مقرُّون به. وإلى هذه الطائفة أشار القرآن حاكياً قولهم: (وكنّا نكذب بيوم الدين)/مدثر-41/. يقولونه في النار جواباً لسؤال: ما سلككم في سقر؟ أي كانوا لا يدينون باليوم الآخر، وهم المقصودون بقوله تعالى: "أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئِنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون" وغيرها من آيات كثيرة(2)
__________
(1) قال صاعد: كان جمهورهم ينكر ذلك الميعاد لا يصدق بالمعاد ولا يقول بالجزاء، ويرى أن العالم لا يخرب ولا يبيد وإن كان مخلوقاً مبتدعاً، وكان فيهم من يقر بالمعاد، ويعتقد إن نُحرت ناقته على قبره يحشر راكباً، ومن لم يفعل ذلك يحشر ماشياً. إهـ من كتاب الأصنام صـ44. قلت: أشار صاعد إلى أن العرب متفقون على أن الله خالقهم ومبدعهم ولكن اختلفوا في إعادتهم بعد الموت فأنكره جمهورهم. لكن ذهب الشهرستاني وغيره كما سترى إلى أن جمهور العرب في الجاهلية يثبت المعاد. فالله أعلم.
(2) لعل هذا الضرب هو المقصود بقوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) الآية. وربما كانوا طائفة منه قائمة بذاتها، على أن بعض المعاصرين ذهب إلى أن الدهريين ليسوا من العرب أصلاً والله أعلم.(116/161)
وكانت هذه من أعظم شبهاتهم وعبّروا عنها في أشعارهم فقال بعضهم:
حياة ثم موت ثم نشر
جج ... حديث خرافة يا أم عمرو
وقال شداد بن الأسود في مرثية أهل بدر من المشركين:
فماذا في القليب قليب بدر
يخِّبرنا الرسول بأن سنحيا ... من الشيزى تكلّل بالسنام
وكيف حياة أصداء وهام !!؟
وإنّما جزمنا أنّ هؤلاء المنكرين للبعث يؤمنون بالله وأنّه ربُّ السماوات والأرض مالك كل شيء لأنّا رأينا الله سبحانه وتعالى بعد حكاية قولهم بإنكار البعث يستدل لإثبات ما أنكروه بإقرارهم بقدرته –سبحانه- وعظمته ونحوها من الصفات، قال تعالى في سورة المؤمنون(82-89): "قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثونO لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين O قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون O سيقولون لله قل أفلا تذكرون O قل من ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيمO سيقولون لله قل أفلا تتقون O قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمونO سيقولون لله قل فأنّى تسحرون). أماّ الدهماء من العرب فكانوا مقرِّين بالخالق وابتداء الخلق ونوع من البعث والحساب إجمالاً. قال الشهرستاني في الملل والنحل(2/236): "وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنّها شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة، وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وأحلّوا وحرّموا، وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم"إه. قوله: وأنكروا الرسل يشير إلى إحدى شبه العرب في إنكارهم بعث الرسل في الصورة البشرية كأنّهم نزّهو ا الله أن يبعث رسولاً إلا من الملائكة جهلاً منهم كقوله تعالى: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام"الآية، وقوله حاكياً عنهم: "أبعث الله بشراً رسولاً". على أنّ هذه ليست عقيدة غالبيتهم فربما كانوا أقلية، بل كثيرٌ منهم يؤمنون بالرسل(116/162)
إجمالاً ويعرفون أفراداً منهم لا سيما إبراهيم وإسماعيل فقد كانت صورهم مصورة داخل البيت جعلوا إبراهيم فيها يستقسم بالأزلام فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت في فتح مكة. وكثيرٌ من العرب كذّب النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة حسداً له، وإليهم أشار القرآن: "وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وكانوا بحكم مجاورتهم لليهود والنصارى يؤمنون بأنّ موسى وعيسى أنبياء مرسلون لأقوامهم، ومِن العرب مَنْ يعرف أسماء الرسل الآخرين كنوح وهود وصالح وغيرهم كما يظهر ذلك في أشعارهم . بل كان بعضهم يتوقع بعثة نبي جديد، ولذلك سارع الأنصار من الأو س والخزرج إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لِما كانوا يسمعونه من اليهود. قال ابن هشام في السيرة(1/429): "قال ابن اسحاق فحدثني عاصم عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(أي النفر الستة) قال لهم: مَنْ أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. فقال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان ممّا صنع الله بهم في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عَزّوْهم في بلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إنّ نبياً مبعوثٌ الآن قد أظلّ زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عادٍ وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلَّموا والله إنّه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام"اهـ. والمقصود بيان ما كان عليه العرب من عقائد صحيحة تليق بالله وأخرى لا تليق به وبيان طبيعة شركهم، وهل معناه أنّهم لا يؤمنون بوجود الله مثلاً أو يجحدون كونه خالقاً ونحوها من(116/163)
الصفات؟ ولن يتبين معنى الشرك حتى نسوق الأدلّة على ما أجملناه في البداية من إيمانهم (الجزئي)بالله وصفاته وملائكته ورسله والحساب والجزاء وغيرها من العقائد الصحيحة(المجتزأة) والشرائع التي ورثوها عن إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام ثم ننظر بعدها ما الذي نقم الله عليهم فيه وسمّاه شركاً؟ . فنقول وبالله التوفيق:
إيمان عرب الجاهلية بالله وإثباتهم صفات لائقة به سبحانه مع أنهم مشركون(1)
__________
(1) وينبغي ألا يخطر ببالك أننا نمدح المشركين بإيراد هذه الأشياء وإنما غرضنا بيان أن هؤلاء المشركين مع إيمانهم بما سنذكر عنهم لا ينفعهم ذلك لمّا كانوا يشركون بالله فكذلك حال من يشرك من هذه الأمة وإنما توسعتُ فيها للفائدة العلمية لأني رأيتها تخفى على كثيرين مع ما فيها من الرد على المتكلمين الذين حصروا التوحيد بالربوبية فضلاً عن توكؤ الصوفية على مصطلح أهل الفترة للحكم بإسلام عبد المطلب وأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بل حكموا بإيمان أبي طالب الذي جمع إلى شرك أسلافه عدم الإيمان بالنبي وقد أدركه وبلغته دعوته وأحسب أنني فصلت في عقائد المشركين وعباداتهم وأحوالهم مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة وشعر العرب بما لا تجده في كتاب آخر إن شاء الله.(116/164)
أمّا إيمانهم بوجود الله وأنّه هو الخالق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض وخلق كلّ شيء فهذه عندهم مسلّمة، ولذلك يحتجّ الله عزّ وجلّ عليهم كثيراً بإقرارهم بذلك على إفراده بالعبادة، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة الزخرف/87: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنَّ الله". وقوله في سورة لقمان/25: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله". وقوله في الزخرف/9: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ خلقهنّ العزيز العليم"، وفي هذه الآية أثبتوا لله اسمين من أسمائه الحسنى هما العزيز والعليم وما يتضمّناه من صفات تليق به سبحانه من العزّة والعلم. قال تعالى : (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال ابن عباس وغيره: "تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون الله، وهم مع هذا يعبدون غيره"اهـ. وقوله تبارك وتعالى في سورة العنكبوت/16: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخّر الشمس والقمر ليقولنّ الله". وفي هذه الآية اعتقادهم بأنّ الشمس والقمر مسخّرات بأمره سبحانه، ولإقرارهم بخلق الله للسماوات والأرض استدل عليهم سبحانه بهذا على إحياء الموتى فقال سبحانه: "أوَ لم يروا أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر على أن يحيي الموتى". وأثبتوا لله أنّه الرزّاق المالك الذي يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي وأنّه الذي يدبّر الأمور قال تعالى في سورة يونس/31: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون". فهم من هذه الناحية خير ممّن يقول من الصوفية إنّ الأولياء يدبّرون الأمر ويرزقون ويتصرفون، ولذلك قال الله لهم كما في سورة فاطر/3: "ياأيُّها النّاس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّى تؤفكون". احتجّ عليهم بما هم به مُقِرُّون من نسبة(116/165)
الخلق والرزق إليه سبحانه على توحيده ثم عجب منهم كيف هم بعد ذلك يصرفون العبادة من دعاء وذبح وغيرها إلى سواه والحال أنّه هو خالقهم ورازقهم كما يعرفون فهو المستحِق للعبادة وحده دون غيره من أوليائهم ممّن لا يخلق ولا يرزق! قال تعالى: "أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون"؟، وقال سبحانه: "ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً"الآية. ومن هنا تعرف خطأ مَنْ اعتقد أنّ المشركين لم يقرّوا بأنّ الله خلقهم وخلق السماوات والأرض كحال الأشاعرة الذين أجهدوا أنفسهم في تقرير ذلك وإثبات أنّ الله موجود وخالق فمعنى لا إله إلا الله عندهم لا خالق إلا الله مع أنّ المشركين لم يكونوا ينازعون في هذا الأمر وإنّما كان النزاع في إفراد الله بالعبادة فهذا معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحقٍّ إلا الله ولذلك لا تجد في الجوهرة أو شرحها عند الأشاعرة شيئاً يُذكر عن توحيد العبادة التي هي لبُّ التوحيد ومخُّه مع أنّه إذا أقرّ الإنسان بأنّ الله خالق مالك رازق...إلخ(وهذا ما يسميه العلماء توحيد الربوبية) فلا ينفعه ذلك إذا لم يُوحِّد الله في العبادة فلا يصرف منها شيئاً لغير الله سبحانه(وهذا يسميه العلماء توحيد العبادة أو توحيد الألوهية) وهو موطن النزاع بين الرسل جميعاً وأقوامهم، فقوم نوح لم يكونوا يُنازعون بوجود الله وبأنّه خالق وإنّما كان نزاعهم في صرف شيء من العبادة كالدعاء والذبح لأوليائهم الصالحين أمثال ود وسواع لاعتقادهم أنّ هؤلاء الصالحين يشفعون لهم إلى الله وهذا من جهلهم بما يليق به سبحانه من الصفات ومن ظنّهم الفاسد في الله وقدرته ورحمته، وكذلك غيرهم من الأمم كقوم هود الذين قالوا كما في سورة الأعراف/70: "أجئتنا لنعبد الله وحده" فهم مؤمنون بالله ولكن لا يخصُّونه بالعبادة وحده لشبهاتٍ عندهم باطلة، وهذا كقول مشركي العرب: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب" وتجد مصداق ما قلناه من أنّ مشركي العرب كانوا(116/166)
مقرِّين بأنّ الله هو الخالق كما حكى القرآن عنهم في كثيرٍ من أشعارهم في الجاهلية ومن ذلك قول عبد طابخة بن ثعلب بن وبرة من قضاعة:
وأدعوك ربي بالذي أنت أهله
وأنت القديم الأول الذي
وأنت الذي أحللتني غيب ظلمةٍ ... دعاء غريق قد تشبّث بالعصمْ
تبدّأت خلق الناس في أكثم العدمْ
إلى ظلمة من صلب آدم في ظلم.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
خَلَق الليلَ والنّهار فكلٌّ
ثمّ يجلو النّهار ربٌّ رحيمٌ
جج ... مستبينٌ حسابه مقدور
بمهاة شعاعها مبشور(116/167)
وهذا الذي انتقدناه على الأشاعرة إنّما وقعوا فيه لأنّهم أخذوا عقيدتهم عن الفلاسفة كأرسطو وأضرابه الذين تُرجمت كتبهم في عصر الخليفة المبتدع المأمون الذي احتفل بها وظهرت في عصره بدعة المعتزلة(1)وغيرها، ولمّا كان غاية إيمان الفلاسفة وعلمهم أن يثبتوا أنّ الله موجود وخالق للعالم فحسب سرت هذه العقيدة إلى أتباعهم المتكلمين كالأشاعرة فجعلوه غاية التوحيد ومعنى لا إله إلا الله دون الاعتداد بما يستحقه سبحانه من إفراده بالعبادة وبما يليق به من صفاتٍ نفَوها عنه وعطّلوه منها قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإقرار المرء بأنّ الله ربُّ كلِّ شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقرارٌ بأنّه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة إلا هو وأنّ محمداً رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر.. وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأنّ الله خالق المخلوقات -وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى- ثم قال: وبهذا وغيره يُعرف ما وقع من الغلط في مسمّى التوحيد؛ فإنّ عامة المتكلِّمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال وهو أنّ خالق العالم واحد...ويظنّون أنّ هذا هو التوحيد المطلوب وأنّ هذا هو معنى قولنا: (لا إله إلا الله)، حتى يجعلوا معنى الإلهيةِ القدرةَ على الاختراع، ومعلوم أنّ المشركين من العرب الذين بُعث إليهم رسول
__________
(1) أصل هذه الفرقة واصل بن عطاء المولود80هـومات131هـ وهم غلاة في نفي صفات الله عز وجلّ وسموا بالمعطلة وينكرون رؤية الله بالأبصار في الآخرة وأن كلام الله محدث والله غير= =خالق لأكساب العباد وأن الفاسق في منزلة بين المنزلتين وكل هذا ناتج عن استعمال العقل فيما لا مجال للعقل فيه.(116/168)
الله صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يُقِرُّون بأنّ الله خالق كل شيء، حتى إنّهم كانوا يُقِرُّون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون"اهـ. قال الآلوسي في محاكمة الاحمدين ص521: "إن كثيراً من أهل النظر يزعمون دليل التمانع هو قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن العظيم ودعت إليه الرسل. و ليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر عنهم سبحانه بقوله (ولئن سألتهم) الآية. ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة له سبحانه في خلق العالم، لكنهم يعتقدون أنها تماثيل قوم صالحين من الأنبياء وغيرهم، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله تعالى. وهذا كان أصل شرك العرب" إلخ ما قال رحمه الله. وإذا كان أهل الجاهلية يقولون مُطرنا بنوء كذا ونوء كذا فإنّهم أساساً يعتقدون أنّ الله هو الذي يُنزل المطر قال تعالى في سورة العنكبوت/63: "ولئن سألتهم من نزَّل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولنّ الله"، وتجد طلب السقيا من الله كثيراً في أشعارهم مثل قول أحد الصعاليك:
سقى اللهُ ذات الغمر وبلاً ويمةً
ج ... وجادت عليها البارقات اللوامع
ج
وفي مسند أحمد بسند صحيح(5/64) عن رجل من بلهجيم قال: "قلت: يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الذي إن مسَّك ضرٌ دعوته كشف عنك والذي إن ضللت بأرض قفرٍ دعوْتَه ردَّ عليك والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك"اهـ. وكانوا يعتقدون أنّ الله بيده ملكوت كل شيء: "قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنّى تُسحرون"الآيات من سورة المؤمنون، حتى كانوا يعتقدون أنّ أصنامهم مملوكة لله كقول قريش في طوافها:(116/169)
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك
ولمّا كانوا يعتقدون أنّ الله مالك كل شيء فقد كانوا يعتقدون أنّه هو المعطي، قال النابغة الذبياني في ممدوحه:
ألم ترَ أنّ الله أعطاك سورةً ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وكانوا يُسمُّون أولادهم عبد الله وهذا كثير كعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة الذي رثاه بقوله:
تنادَوا فقالوا أرْدت الخيلُ فارساً
جج ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي؟
ج
وإنّما عبَّدوا أولادهم لله لإيمانهم به فهم في هذه خير من الشيعة الذين يُسمُّون أولادهم: عبد الحسين أو عبد الرسول، ونحوها، وهو من الشرك الظاهر. ومثله تعبيد الصوفية أولادهم لغير الله، أو نسبتهم لسواه، كما يفعل صوفية الهند فيُسمُّون أولادهم: هبة فلان، ومعناه: أنّ الشيخ هو الذي وهب لهم الولد، ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في ترجمته لكتاب التوحيد لإسماعيل الشهيد أنّ من أسمائهم(بير بخش)؛ أي هبة الشيخ بير. وكان مشركو العرب في الجاهلية يُثبتون علم الغيب لله. قال زهير بن أبي سلمى في معلقته:
فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ
ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت:
ألا أيُّها الإنسان إيّاك والرَدى
ج ... فإنّك لا تخفى من الله خافيا
وإذا كان المشركون ينفون وينكرون كثيراً من أسماء الله كالرحمن كما حكى القرآن عنهم(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) فإنّهم يُثبتون له سبحانه أسماء أُخر كالعزيز والعليم، قال تعالى في سورة الزخرف/9: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم". وتجد في أشعارهم تسميته -سبحانه- بأسماء أُخر كالأول؛قال عبد طابخة بن وبرة كما في(الملل والنحل:2/243):
وأنت القديم الأول الذي
ججج ... تبدّأت خلق الناس في أكثم العدمْ
ج(116/170)
وكانوا يُثبتون لله اسم الملِك أيضاً، قال عمرو بن الحارث الجرهمي ملك جرهم يذكر مكة(1/115 الملل):
فأخرجَنا منها المليكُ بقدرةٍ
ج ... كذلك ياللناس تجري المقادر.
وقال عبد المطلب بن هاشم:
يا رب أنت المليك
جج ... وأنت ربي المبدئ والمعيد
من عندك الطارف والتليد (الملل 2/240)
ويُثبتون له سبحانه اسم الإله. قال نفيل بن حبيب كما في سيرة ابن هشام(1/53):
أين المفرُّ والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال بعضهم:
لعن الإلهُ تعلّة بن مسافر ... لعناً يُشنُّ عليه من قُدَّام
ج
وورد في شعرهم تسمية الله بالرحيم، قال أمية بن أبي الصلت:
ثمّ يجلو النهارُ ربٌّ رحيم ... بمهاةٍ شعاعها مبشور
(سيرة ابن هشام 1/60)، ووصف بعضهم الله بذي الطول؛ قال عبد طابخة كما في الملل للشهرستاني(2/243):
لأنّك أهل الحمد والخير كله
جج ... وذو الطول لم تعجل بسخطٍ ولم تلم
وسمّاه قس بن ساعدة(أحد الحنفاء) بالواحد:
كلا بل هو الله إلهٌ واحدٌ
ججج ... ليس بمولود ولا والد(116/171)
(الملل 2/242). وقد مرَّ بيتُ عبد المطلب(وأنت ربي المبدئ والمعيد)، فسمّى الله مبدئاً ومُعيداً. وكان عرب الجاهلية إذا كتبوا كتاباً بدؤوه: باسمك اللهمّ. كما في قصة كتابة صلح الحديبية. وعلى الجملة فقد كان مشركو الجاهلية يُثبتون لله أسماء كثيرة تليق به وصفات كثيرة(1)-كما سيمر أثناء هذا البحث- ولعلهم من هذه الناحية أفضل من المعطلة من هذه الأمة كالمعتزلة، وكالأشاعرة الذين لا يُثبتون لله إلا الصفات السبع المعروفة. وكانوا يدعون الله ويسألونه، قال عبيد بن الأبرص في معلقته:
من سأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيبُ
ج
وقال النابغة الذبياني:
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يردَّ لنا ملكاً وللأرض عامرا
ج
وكانوا مع سؤاله سبحانه يحمدونه في أشعارهم مثل قول عكرمة بن عامر كما في السيرة(1/51):
لاهمّ أخزِ الأسود بن مقصود
فضمّها إلى طماطم سود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
أخفره يارب وأنت محمود
ج
ومن ذلك قول عبد طابخة بن ثعلب(الملل 2/243):
وأدعوك ربي بالذي أنت أهله
لأنّك أهل الحمد والخير كله
ج ... دعاء غريق قد تشبّث بالعِصَمْ
وذو الطول لم تعجل بسخطٍ ولم تلم
ومن أحسن ثنائهم على الله قول لبيد بن ربيعة أحد أصحاب المعلقات:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
جج ... وكل نعيم لا محالة زائل
__________
(1) وكذلك مشركو الأمم السابقة كانوا مع شركهم بالله يؤمنون به ويثبتون له أسماء وصفات صحيحة فمثلاً قالت امرأة العزيز المشركة: "وما أبرِّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" فهي تؤمن بربوبية الله ورحمته ومغفرته ولكنها لا توحِّده بالعبادة= =والراجح أن هذا القول لها لا ليوسف كما ذهب بعض المفسرين، ولا يُستغرَب من هذه المرأة أن تستغفر الله قائلةً إن ربي غفورٌ رحيم لأنهم كانوا مع شركهم يستغفرون الله ألم يقل لها زوجها قبل ذلك: (واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين)؟!.(116/172)
حتى إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"رواه البخاري(برقم 3841). وكانوا إذا دعوا على أحد دعوا عليه بلعنة الله مثل قول أحدهم:
لعن الإله تعلّة بن مسافر
جج ... لعناً يُشنُّ عليه من قُدَّامِ
وقول عبد قيس بن خفاف البرجمي يهجو النعمان بن المنذر:
لعن الله ثمّ ثنّى بلعنٍ
ج ... ابن ذا الصائغ الظلوم الجهولا
ج
وقال عروة بن الورد العبسي:
لحى الله صعلوكاً إذا جنّ ليله
ج ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر
جج(116/173)
وكانوا مع حلفهم بأصنامهم يحلفون بالله؛ قال تعالى في سورة فاطر/42: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم"الآية وحتى من لم يؤمن منهم بالبعث كان يؤمن بالله ويقسم به قال تعالى في سورة النحل/38: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت"الآية وفي حديث إسلام أبي ذر رضي الله عنه عند البخاري برقم(3522) لما بعث أخاه ليأتيه بخبر الرجل الذي خرج من مكة يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ماعندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر" الحديث فهذا أخو أبي ذر يحلف بالله وهو مشرك. بل ثبت أنّ مشركي الأمم السابقة كانوا يحلفون بالله، كقوم صالح، قال تعالى عن الرهط منهم: "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون"/النمل 49/. وهذا يدل على إيمانهم بالله مع الشرك به، وفي حديث دخول إبراهيم أرض مصر لما أرسل الملك الكافر إلى سارة ومد يده إليها فقُبِضت ثلاث مرات فقال لها في الثالثة: "ادعي الله أن يطلق يدي فلكِ الله أن لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده"الحديث في الصحيحين. فهذا الملك الكافر يقسم بالله فيقول لسارة: فلك الله أن لا أضرك. وقد كثر في شعر العرب ونثرها -على السواء-الحلف بالله، مثل قول عامر بن الظرب(أحد الذين حرَّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية):
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
جج ... حتى يفرق ترب الأرض أو صالي
ج
وكقول امرئ القيس:
فقالت يمين الله مالك حيلة
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
جج(116/174)
ومن ذلك قول قس بن ساعدة: (أقسم قسٌّ بالله... إلخ). ومن أشهر الأيمان عندهم وأجلها الحلف برب الكعبة كقولهم: (كلا وربّ الكعبة، لا وربّ هذه البنية...إلخ). ولا ينسبون الكعبة إلا إلى الله. ولا أدلّ على إيمانهم بالله -في الجملة- وبقدرته على حماية بيته من أشعارهم الكثيرة التي خلّدوا فيها هزيمة أبرهة الحبشي وجيشه لما راموا هدم الكعبة. فقال نفيل بن حبيب الجاهلي يذكر يوم الفيل يوم أُلقيت الحجارة على جيش أبرهة من السماء (السيرة 1/53):
حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وخِفْتُ حجارةً تُلقى علينا
وقال أبو قيس بن الأسلت:
فقوموا فصلُّوا ربكم وتمسّحوا
فعندكم منه بلاء مصدّقٌ
فلمّا أتاكم نصر ذي العرش ردَّهمْ
فَوَلَّوا سراعاً هاربين ولم يؤبْ
ج ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
جنودُ المليك بين سافٍ وحاصب
إلى أهله ملْحبش غير عصائب اهـ
فصلوا ربكم أي ادعوه. قال ابن هشام: (غداة أبي يكسوم يعني أبرهة كان يكنى أبا يكسوم) وانظر السيرة(1/59). وفي هذا الشعر إثبات العرش لله كما يليق به سبحانه، وفيه اعتقادهم أنّ النصر من عند الله، ومن ذلك استفتاح أبي جهل يوم بدر فأخزاه الله(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). وقال طالب بن أبي طالب:
ألم تعلموا ما كان في حرب داحسٍ
فلولا دفاع الله لا شيء غيره ... وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشِعبا
لأصبحتمُ لا تمنعون لكم سربا
ج
وقال أبو الصلت الثقفي وتروى لابنه أمية:
إنّ آيات ربنا ثاقباتٌ
حبَس الفيل بالمغمس حتى
خلَّفوه ثمّ ابْذَعَرُّوا جميعاً
ج ... لا يماري فيهنّ إلا الكفورُ
ظلّ يحبو كأنّه معقورُ
كلهم عظم ساقه مكسورُ
ج
وكان عبد المطلب لمّا جاء أبرهة أخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
لاهُمّ(أي اللهمّ) إنّ العبد يمنع رحله
لا يغلبن صليبهم
إن كنت تاركهم وقبلتنا
جج ... فامنع حِلالك
ومحالهم غدواً محالك
فأمرٌ ما بدا لك(116/175)
وعبد المطلب هذا كان مشركاً لأنّ أبا طالب ابنه قال عند موته: هو على ملّة عبد المطلب، فمات كافراً وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب بالنار. ومن أشعارهم يوم الفيل قول نفيل بن حبيب:
أين المفر والإله الطالب
ج ... والأشرم المغلوب ليس الغالب؟
(الأشرم: أبرهة). وكانوا يعتقدون أنّ الله في السماء على عرشه فوق مخلوقاته، فينزِّهونه –سبحانه- عن الحلول بذاته في كل مكان خلافاً لأهل البدع من المسلمين كالجهمية(1)والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. يقول عنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي
ج ... إن كان ربي في السماء قضاها؟
ج
وقال لبيد:
لله نافلة الأجلّ الأفضل
سوّى فأعلى دون غرفة عرشه
والأرض تحتهمُ مهاداً راسياً ... وله العلى وأثبت كل مؤثلِ
سبعاً طباقاً دون فرع المعقل
ثبتت جوانبها بصمِّ الجندل
(انظر اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية/233). وقال عبد الله بن الزبعرى في الجاهلية يذكر مكّة:
كانت بها عاد وجرهم قبلهم
ج ... والله من فوق العباد يقيمها
ج
فأثبت لله الفوقية كما يليق به سبحانه وهذا يشبه معنى قوله تعالى: "وهو القاهر فوق عباده" وقال الجاهلي عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي يذكر مكة لمّا أجلتهم عنها قريش:
فأخرَجَنَا منها المليكُ بقدرةٍ
أقول إذا نام الخليُّ ولم أنم ... كذلك ياللناس تجري المقادرُ
أذا العرش لا يبعد سهيلٌ وعامرُ
__________
(1) أصحاب جهم بن صفوان ظهرت بدعته بترمذ وقد غلا في التعطيل حتى نفى الأسماء والصفات جميعاً وقد استعظم السلف مقالة الجهم وعدُّوها كفراً شنيعاً. وقد جمع هذا الخبيث بين شناعات التعطيل والجبر والإرجاء وهكذا صار جهم بهذه الضلالات رأس فتنة كبرى لمن جاء بعده من فرق الزيغ والانحراف لولا قيام السلف الصالح بدحض مفترياته والذب عن حما الإسلام العظيم. قُتل الجهم سنة 128هـ على يد الوالي سلم بن أحوز.(116/176)
فوصف الله بالملِك ووصفه بالقدرة ووصفه بذي العرش فتأمّلْ أيها الأشعري! وقد سمعتَ قول ابن الأسلت:
فلمّا أتاكم نصر ذي العرش ردّهمْ ... جنود المليك بين سافٍ وصاحب
وقال أمية بن أبي الصلت:
مَجِّدوا الله فهو للمجد أهل
بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
وسوّى فوق السماء سريرا
وهذه العقائد الصحيحة فيما يليق به سبحانه لا سيما إثبات فوقية الله على خلقه وأنّه على عرشه في السماء ممّا ورثوه عن دين إسماعيل ثمّ إنّ اعتقاد أنّ الله في السماء فوق ممّا فطر الله عليه عباده جميعاً فهذه المسألة لا تحتاج إلى علم وبرهان ولذلك تجد الإنسان إذا أراد أن يدعو اتجه بقلبه ضرورة إلى السماء لاعتقاده أنّ الله فيها، ومنها تنزّل الرحمات والبركات وليس من السُّفل ولم يعارض في هذا أحدٌ حتى الفلاسفة إلا أرسطو وطائفة معه قال عنهم ابن القيم في إغاثة اللهفان(2/669): (وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة) اهـ كلامه. فإله الفلاسفة هؤلاء -أرسطو وأتباعه- فكرة مطلقة لا يوصف بشيء فهو أشبه بالعدم لا يوجد إلا في أذهانهم ولمّا ترجم المأمون كتبهم سرت هذه اللوثة إلى بعض هذه الأمة مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتركبنّ سنن من كان قبلكم" فعطّلوا الله من صفاته اللائقة به وفوقيته على عباده كالمعتزلة والجهمية والأشاعرة، وصار ربّ العزّة –عندهم- أشبه بالمعدوم بل هو بوصفهم معدوم. يقول الأشاعرة -وهم فرقة ضالّة مبتدعة وإن سمَّوا أنفسهم أهل السنة والجماعة-: (الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه)، وزاد المحشِّي: (ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه) "انظر تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد/55". وهذه في الحقيقة صفة المعدوم الذي لا يوجد، حتى لو أنّك أجهدت نفسك في وصف الشيء المعدوم لما استطعت وَصْفه بأحسن من هذا الوصف الذي وصف به الأشاعرة ربّهم(1)
__________
(1) قد يكون مقصودهم من هذا الوصف أن الله هو هذا العالم ليس غير. كما هو قول أهل وحدة الوجود، لا سيما أن اللقاني صاحب جوهرة التوحيد كان يتغزّل بالحلاج ويتندم على قتله فربما كان منهم، وكذلك فإن أرباب العقيدة الأشعرية في الأعصار المتأخرة الذين راجت عندهم هذه المقالة لا سيما أصحاب شروحها وتعليقاتها كثير منهم من المتصوفة الغلاة المعظمين لابن عربي فغير بعيد أن يكون صاحب هذا الوصف المعتمد للرب عندهم قَصَد به رب ابن عربي وابن الفارض لا سيما أن الصوفية يحرصون على ترديد هذه الصفة مع قولهم: الله في كل مكان فيمكن صياغة كلامهم كما يلي: (الله هو هذا العالم وليس هو داخل العالم ولا خارجه ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل به ولا منفصل عنه بل هو عينه) وكذلك قولهم الآخر: الله في كل مكان. معناه ولازمه أن الله هو العالم نفسه، لأنه لايوجد شيء لا يسمى مكاناً= =فالأجسام مكوَّنة من خلايا وجزيئات وذرات والخلية مكونة من نواة والنواة مكونة من نوية والذرة مكونة من إلكترونات إلخ إلخ وكل هذه أمكنة، والله - على حد قولهم - فيها، وكل هذا الوجود هو في الحقيقة مكان فلم يبقَ إلا أن يكون الله هو المكان نفسه لأنه سبحانه - حسب عقيدتهم - في كل مكان. فنتج من قولهم أنه سبحانه هذا العالم وهو قول أهل وحدة الوجود وليس بعيداً أن جهماً بن صفوان الذي هو سلف الأشاعرة كان يقصد هذه العقيدة فقد روى ابن أبي حاتم وغيره -بسند صحيح كما قال الألباني- أنه قيل لجهم: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج منه، ثم خرج إليهم بعد أيام، فقال: (هو هذا الهو اء مع كل شيء، وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء) إهـ.(انظر مختصر العلو/163) فإن لم يكن المقصود بهذا الكلام عقيدة الحلول ووحدة الوجود فهو يؤدي إليها. وكأنه لذلك قال الإمام يحيى بن معاذ الرازي توفي عام 258 ه: (إن الله على العرش بائن من خلقه، أحاط بكل شيء علماً، لا يشذ عن هذه المقالة إلا جهمي يمزج الله بخلقه) اهـ. ومن هنا تعرف أهمية اعتقاد أن الله عز وجل في السماء على عرشه بائنٌ من خلقه عالم بأحوالهم ومتصرف فيهم من فوق عرشه مع بعد المسافات وبه يعرف عظم الربوبية وفضلها. وبهذه العقيدة تنزه الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات، ويُحفظ المسلمون من الانحراف والتردي في حمأة عقائد الحلول والوحدة الباطلة. قال الشيخ ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية ت792ه: "إن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كجهم بن صفوان، ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذات مجردة من جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل وهذا القول أفضى بقومٍ إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات. ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان عارفون بالله على الحقيقة. ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره. ومن فروعه: أنه لا فرق في التحليل والتحريم بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الوحدة. ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا على الناس تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً"اهـ من شرح الطحاوية صـ78. وهكذا ظهرت العلاقة واضحة والصلة القوية بين= =ما يسمى علم الكلام والعقائد الضالة الأخرى كوحدة الوجود، حتى إن بعض الباحثين ذهب إلى أن فكرة وحدة الوجود ناشئة أصلاً عن علم الكلام. يقول الباحث محمد فهر الشقفة: "إنها(أي فكرة وحدة الوجود) -فيما نعتقد- راجعة في أصل نشأتها إلى تفكير كلامي بحت، وليست، كما يقول بعض المستشرقين وليدة عامل خارجي كالفلسفة الهندية، فقد بدأ المسلمون يبحثون في عقيدة التوحيد، فوقعوا من حيث لا يعلمون في القول بوحدة الوجود بدأوا ببحث معنى الوحدانية فقالوا بنفي الشرك والضد والند والشبيه والمثيل، وفسروا الله الواحد الواجب الوجود بمعنى أنه ينفرد بالوجود الحقيقي وأن كل ما عداه عدم محض، لأن كل ما عداه ممكن الوجود أي وجوده من غيره لا من ذاته. ثم فسروا "واجب الوجود" بأنه الفاعل الحقيقي والقادر الحقيقي والمريد الحقيقي. سئل الجنيد عن التوحيد فقال: "هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له" ثم توسعوا في معنى التوحيد فلم يقفوا عند نفي الشريك لله بل نفوا وجود كل ماسوى الله وأنكروا الكثرة وعدوها من فعل الخيال والوهم، كما ذهب إليه ابن عربي. وهكذا انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا بدلاً من(لا إله إلا الله): (لاموجود على الحقيقة إلا الله)، أو ما شاكل ذلك من العبارات الصريحة الدالة على وحدة الوجود. وسموا عقيدة التوحيد الأصلية توحيد العوام، ووحدة الوجود توحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفات. يقول الجنيد في تعريف توحيد العوام: (هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته) وفي تعربف الخواص(إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية"اهـ من كتاب التصوف بين الحق والخلق صـ15. قلت: لا شك أن ما يسمى علم الكلام ساهم إلى حد كبير في إذكاء هذه العقائد الفاسدة ولكن قصر فكرة وحدة الوجود عليه فقط فيه تقصير، ثم يقال وهل علم الكلام إلا ناشئ عن الفلسفة الإغريقية والهندية وغيرها من زبالات الأمم البائدة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سنن من كان قبلكم. ولكن وحدة الحال بين الفريقين -فريق وحدة الوجود وفريق علم الكلام- واضحة على كل حال -لا سيما هذه الأيام- وتكاد أن تكون عباراتهم متحدة من مثل قولهم: إن إرادة العبد مجازية وفعله ليس منه وإنما هو فعل الله على الحقيقة فالفاعل الحقيقي -عندهم- هو الله، فإذا زنا الزاني فالزاني -عندهم- على الحقيقة هو الله وهكذا يستخدم الصوفية عبارات علماء الكلام الضالة لزرع عقيدة وحدة الوجود في أذهان أتباعهم وربما زادوا ألفاظاً في بعض الأحاديث الصحيحة ليستقيم لهم= =قولهم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري جواباً لسؤال أهل اليمن عن أول هذا الأمر: "كان الله ولم يكن شيء غيره" اهـفإنهم زادوا على الحديث زيادة باطلة وهي قولهم(وهو الآن على ما عليه كان) قال الحافظ ابن حجر: وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث. وكذا نبّه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ومقصودهم من عبارة (وهو الآن على ما عليه كان) أي أن الله لم يكن شيءٌ غيرَه لا في أول الأمر ولا الآن، فالمخلوقات المشاهدة هذه هي الله لا غير وليست خارجة عنه. واعلم أيها القارئ الفطن أن علم الكلام والفلسفة من أكبر عوامل انحطاط الأمم والشعوب فضلاً عن المسلمين ولا تقوم لمجتمع أخذ بها قائمة، يقول الباحث أبو الحسن الندوي في كتابه/ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين صـ100: "وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود في سلوب ليست فيها صفة مثبتة من صفات القدرة والربوبية والإعطاء والمنع والرحمة، ولم تثبت له إلا الخلق الأول، ونفت عنه الاختيار والعلم والإرادة، ونفت الصفات وقررت كليات كلها حط من قدر الخالق وقياس على الخلق، والسلوب إذا اجتمعت لم تفد فائدة إيجاب واحد، ولم نعلم مدنية واحدة ولا مجتمع ولا نظام ولا عمل ولا بناية قامت على مجرد سلوب، فتجردت الديانة في أوساط الفلسفة الإغريقية عن روح الخشوع والاستكانة لله والالتجاء إليه في الحوادث ومحبته بكل القلب"إهـ. قلت وهذا الذي حصل للمسلمين أهل الكلام فإنهم لما رفضوا أن يقروا أن الله في السماء أساؤوا به الظن فانتكست فطرهم فلجأوا إلى الحُفَر حيث الموتى يستغيثون بهم ويسألونهم الحاجات. ولقد كان اجتماع الصوفية وعلم الكلام على الدولة العثمانية من أهم أسباب زوالها واندثارها يقول أبو الحسن الندوي في كتابه السابق نقلاً عن أحد الباحثين: "إن فكرة علماء تركية والبلاد الإسلامية الأخرى هذه ليست من الدين في شيء، إن الفلسفة الإلهية أو علم الكلام الذي كان عند المسلمين أو النصارى، إنما كان مبنياً على فلسفة الإغريق وكان الغلبة فيه لأفكار أرسطاطاليس الذي كان فيلسوفاً وثنياً"إ ه. (المرجع السابق صـ164) قلت: فليس عجيباً أن تتضافر أقوال علماء السلف محذرين من علم الكلام، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: (حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويُطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام).(116/177)
ثمّ هم مع هذا يجعلون عقيدتهم هذه أعلم وأحكم من عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، يقولون: (عقيدة السلف أسلم ولكن عقيدة الخلف أعلم وأحكم) هكذا ! وهذا غاية الضلال، فهل عقيدة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة أذناب الفلاسفة اليونانيين أعلم وأحكم من عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر والصحابة والتابعين والقرون الفاضلة الأولى؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل عقيدة السلف أعلم وأحكم وأسلم وعقيدة الخلوف المبتدعين أجهل وأضلّ وأظلم. ولكن كيف العمل مع مَنْ أخذ عقيدته عن اليونان؟ وليس لهم سلفٌ في ذلك إلا فرعون الذي أنكر أن يكون في السماء إله، قال تعالى: "وقال فرعون يا هامان ابنِ لي صرْحاً لعلِّي أبلغ الأسبابO أسبابَ السماوات فأطّلِعَ إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذباً". قال أبوسعيد الدارمي: في كتابه الردُّ على الجهمية: "أقرَّت هذه العصابة بهذه الآيات بألسنتها وادّعَوْا الإيمان بها ثم نقضوا دعواهم بدعوى غيرها فقالوا: (الله في كل مكان لا يخلو منه مكان)(1)
__________
(1) اعلم أن اعتقاد أن الله في كل مكان -الذي هو اعتقاد الجهمية والمعتزلة أصلاً- صار الآن اعتقاد كافة الأشاعرة والماتريدية وكل من التقيته منهم يعتقد بذلك وآخرهم الدكتور الحلبي محمود الزين المدرس في معهد الكلتاوية الذي قال بكل وقاحة: الله في كل مكان. وبعد أخذٍ وردٍ قلت: طالما أنك تعتقد أن الله في كل مكان فهل يجوز أن نشير إلى الله أسفل منا؟ فقال نعم ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فانظر كيف بلغ بهم الضلال لما أنكروا أن يكون الله في السماء!! فاستدلاله بهذا الحديث في هذا الموضع حسب فهمه الفاسد يدل على أنه يعتقد أن الله أسفل منه وليس أعلى لاعتقاده أن القرب المذكور في الحديث قرب مكاني وليس قرب إجابة كما هو المتبادر لكل مسلم كقوله صلوات الله عليه في الحديث الآخر: وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ(أي خليقٌ) أن يستجاب لكم. ولا شك أن فهمه هذا من أبطل الباطل وهو من قبيل الزندقة وتحريف الوحي. مع أنّ السلف -رحمهم الله- كانوا يستدلون على علو الله على خلقه بقول المصلي في سجوده: سبحان ربيَ الأعلى. وللأسف الشديد صار الآن محمود الشين هذا يُدَرِّسُ هذه الضلالات على أبناء جزيرة العرب في دُبَي بعد أن استقدمه وآواه مَنْ لا يتقي الله وراح ينفث سمومه في رؤوس الطلاب السُّذَّج دون نكير ولا حول ولا قوة إلا بالله= =والواقع أن دُبَي صارت مباءة لمشايخ الصوفية يصولون ويجولون فيها يتسلّمون الوظائف الدينية ويستقدمون المزيد من أتباعهم من بلاد الشام وغيرها في خُطّة مدروسة -على مايبدو- على حين غفلةٍ من أهل التوحيد مع أن اللائق بهؤلاء الصوفية الضُّلّال والواجب في حقهم أن يُنْفَوا من أرض جزيرة العرب الطاهرة ولا يُمَكَّنوا من دخولها وتدنيسها بأفكارهم القذرة. ونذكِّر مَنْ يأويهم ويُمَكِّن لهم في هذه البلاد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).(116/178)
قلنا: قد نقضتم دعواكم بالإيمان باستواء الربِّ على عرشه إذْ ادَّعيتم أنّه في كل مكان؟ فقالوا تفسيره عندنا أنّه استولى عليه وعلاه قلنا: فهل من مكان لم يستول عليه ولم يعله حتى خصّ عرشه من بين الأمكنة بالاستيلاء عليه؟ ثم قال الدارمي بعد إيراد قول فرعون لهامان: (ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى): ففي هذه الآية بيان بيِّن ودلالة ظاهرة على أنّ موسى كان يدعو فرعون إلى معرفة الله بأنّه فوق السماء، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إليه ويمتحن به إيمانهم. واستدَلَّ بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي أخرجه مسلم إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: مَنْ أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنّها مؤمنة. قال أبو سعيد: ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أنّ الرجل إذا لم يعلم أنّ الله -عز وجل-في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ألا ترى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أمارة إيمانها هو معرفتها أنّ الله في السماء؟ والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه وعن التابعين ومن بعدهم أكثر من أن يحصيها كتابنا هذا غير أنّنا قد اختصرنا من ذلك ما يستدلُّ به أولو الألباب أنّ الأمّة كلّها والأمم السالفة قبلها لم يكونوا يشكُّون في معرفة أنّ الله فوق السماء بائن من خلقه غير هذه العصابة الزائغة"اهـ. قال الإمام أبو بكر بن خزيمة ت311هـ (الموصوف بإمام الأئمة، فقيه الآفاق، المجتهد المطلق) في كتابه العظيم التوحيد ص68 "باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه فكان فوقه وفوق كل شيء عالياً كما أخبرنا الله جل وعلا في قوله: (الرحمن على العرش استوى) وقال ربنا: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) وقال في تنزيل السجدة: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة(116/179)
أيام ثم استوى على العرش) وقال الله تعالى: (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) فنحن نؤمن بخبر الله جل وعلا أن خالقنا مستوٍ على عرشه لا نبدِّل كلام الله ولا نقول قولاً غير الذي قيل لنا كما قالت المُعطِّلة الجهمية أنه استولى على عرشه لا استوى فبدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم كفعْل اليهود لما أُمروا أن يقولوا حطّة فقالوا حنطة مخالفين لأمر الله جل وعلا كذلك الجهمية. -ثم ذكر أخباراً منها الحديث الصحيح- : (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلا الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنة) قال: فالخبر يصرح أن عرش ربنا جل وعلا فوق جنته وقد أعلمنا جل وعلا أنه مستوٍ على عرشه فخالقنا عالٍ فوق عرشه الذي هو فوق جنته -ثم قال ص73- باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين علماؤهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وأناثهم، بالغوهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله إلى أعلاه لا إلى أسفل. قال أبو بكر: قد ذكرنا استواء ربنا على العرش في الباب قبل فاسمعوا الآن ما أتلو عليكم من كتاب ربنا الذي هو مسطور بين الدفتين مقروء في المحاريب والكتاتيب مما هو مصرح في التنزيل أن الرب جل وعلا في السماء لا كما قالت الجهمية المعطلة أنه في أسفل الأرضين فهو في السماء عليهم لعائن الله اليانعة. قال الله تعالى: (أأمنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض) وقال الله تعالى: (أم أمنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) أفليس قد أعلمنا -يا ذوي الحجا- خالق السموات والأرض وما بينهما في هاتين الآيتين أنه في السماء -وذكر آيات أخرى مثل- (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) أليس إنما يُرفع الشيء من أسفل إلى أعلا لا من أعلا(116/180)
إلى أسفل (بل رفعه الله إليه) ومحال أن يهبط الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها أو إلى موضع أخفض منه وأسفل فيقال رفعه الله إليه لأن الرفعة في لغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا لا تكون إلا من أسفل إلى أعلا. (وهو القاهر فوق عباده) (يخافون ربهم من فوقهم) فأعلمنا الجليل جلا وعلا أن ملائكته يخافون ربهم الذي فوقهم والمعطلة تزعم أن معبودهم تحت الملائكة (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) أليس معلوم في اللغة السائرة بين العرب التي خوطبنا بها وبلسانهم نزل الكتاب أن تدبير أمر السماء إلى الأرض إنما يدبره المدبر وهو في السماء لا في الأرض كذلك مفهوم عندهم أن المعارج المصاعد قال الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلا وفوق لا من أعلا إلى دون وأسفل فتفهَّموا لغة العرب لا تغالطوا (سبح اسم ربك الأعلى) فالأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلا كل شيء وفوق كل شيء . والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله وأعلمنا أنه العلي العظيم أفليس العلي -يا ذوي الحجى- ما يكون عالياً لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلا وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان ولو تدبروا الآية من كتاب الله لعقلوا أنهم جهال لا يفهمون ما يقولون وبان لهم جهل أنفسهم وخطأ مقالتهم. -ثم ذكر أحاديث كثيرة منها- (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟) الحديث ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أمين من في السماء) ومنها أحاديث عروج النبي إلى السماء إلى ربه ثم قال الإمام ابن خزيمة: فتلك الأخبار كلها دالة على أن الخالق الباري فوق سبع سموات لا على ما زعمت المعطلة أن معبودهم هو معهم في منازلهم وكُنُفهم (مراحيضهم) على ما هو على عرشه قد استوى. وقال ص75: قال الله تعالى لما سأله(116/181)
كليمه موسى عليه السلام أن يريه ينظر إليه (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) إلى قوله (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) أفليس العلم محيطاً -يا ذوي الألباب- إن الله عز وجل لو كان في كل موضع ومع كل بشر وخلق كما زعمت المعطلة لكان متجلياً لكل شيء وكذاك جميع ما في الأرض لو كان متجلياً لجميع أرضه سهلها ووعرها وجبالها براريها ومفاوزها ومدنها وقراها وعمارتها وخرابها وجميع ما فيها من نبات وبناء (لجعلها دكاً) كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكاً قال الله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) اهـ من كتابه التوحيد. وقال عبد الله بن المبارك: (نعرف ربّنا بأنّه فوق سبع سماوات على العرش استوى بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية. وفي لفظ آخر قال: في السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما قالت الجهمية). قال الأوزاعي: (كنّا والتابعون متوافرون نقول: إنّ الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته). قال حماد بن زيد: (الجهمية إنّما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء). وروى البخاري في كتاب(خلق أفعال العباد) عن يزيد بن هارون قوله: (مَنْ لا يوقن أنّ الرحمن على العرش استوى كما تقرّر في قلوب العامة فهو جهمي)، ومثله قال القعنبي شيخ البخاري ومسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والذي تقرّر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجهها لربها تعالى عند النوازل والشدائد والدعاء والرغبات إليه تعالى نحو العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، من غير موقف وقفهم عليه، لكنّ فطرة الله التي فطر الناس عليها وما من مولود إلا وهو يولد على هذه الفطرة حتى يجهِّمه وينقله إلى التعطيل من يُقيض له) اهـ. قلت: فالعوام محسوبون على مذهب السلف في هذه المسألة إلا منْ لقَّنه الأشاعرة بدعتهم. قال الحافظ القطعي رحمه الله: (آخر كلام الجهمي أنّه ليس في السماء إله). وقال يحيى بن معاذ الرازي: (إنّ الله على العرش بائن(116/182)
من خلقه أحاط بكل شيء علماً لا يشذُّ عن هذه المقالة إلا جهمي يمزج الله بخلقه) وضرب -رحمه الله- قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم وهو يقول: (لا، حتى تقول: الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه). وقال وهب بن جرير رحمه الله: (إنّما تريد الجهمية أنّه ليس في السماء شيء). وقال إمام أهل البصرة على رأس المئتين سعيد بن عامر الضبعي: (الجهمية شر قولاً من اليهود والنصارى، وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أنّ الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء). وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري في قوله تعالى"وهو معكم": (معناه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" أراد أن لا يخفى عليه خافية. قال البخاري: سمعته يقول: مَنْ شبّه الله تعالى بخلقه فقد كفر ومَنْ أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم تشبيهاً). وقال الحافظ الآجري: (فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" قيل له: علمه معهم، والله عز وجل على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسّره أهل العلم والآية تدلُّ أولها وآخرها على أنّه العلم وهو على عرشه فهذا قول المسلمين). قال أبو عيسى الترمذي صاحب السنن: (عِلْمُ الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش) وقال علي بن المديني رحمه الله وقد سُئِل عن قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم": (إقرأ ما قبله، يعني علم الله) رواه البخاري في(خلق الأفعال) قال أبو نصر السجزي: (وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أنّ الله فوق العرش بذاته وأنّ علمه بكل مكان). وقال البوشنجي الحافظ: (إنّ الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وعلمه وقدرته وسلطانه بكل مكان)، وقال قتيبة بن سعيد: "ربنا -سبحانه- في السماء السابعة على عرشه).(116/183)
قال الخلال في(كتاب السنة): قيل للإمام أحمد: (ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال نعم لا يخلو شيء من علمه). (وقيل لأحمد: ما معنى قوله تعالى(وهو معكم) ؟ قال: علمه محيط بالكل وربنا على العرش). وقال الإمام أحمد أيضاً: (إنّ الله على عرشه فوق السماء السابعة يعلم ما تحت الأرض السفلى وأنّه غير مماسّ لشيءٍ من خلقه، هو تبارك وتعالى بائن من خلقه وخلقه بائنون منه. ثمّ قال: معنى قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) يقول: هو إلهُ مَنْ في السماوات وإلهُ مَنْ في الأرض وهو على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش لا يخلو من علمه مكان). وقال الإمام أحمد عن الجهمية: (كلامهم كله يدور على الكفر). قال الدارمي رحمه الله في كتابه: (النقض على بشر المريسي): (وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أنّ الله تعالى فوق عرشه فوق سماواته لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشكُّوا أنّه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل الملائكة تنزيلاً ويحمل عرش ربك فوقهم يومئد ثمانية). وقال في موضع آخر: (وإنّما يُعرف فضل الربوبية وعظم القدرة بأنّ الله من فوق عرشه ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض) اهـ. وقال خارجة بن مصعب: (الجهمية كفّار: أبلغْ نساءهم أنّهنّ طوالق لا يحللن لهم لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم). وقال عباد بن العوام عنهم: (أرى والله ألا يُناكحوا ولا يُوارثوا). وروى المقدسي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنّه قال: (من أنكر أنّ الله عز وجل في السماء فقد كفر). وقال البلخي: (سألت أبا حنيفة عمّن يقول لا أعلم ربي في السماء أم في الأرض؟ قال: إذا أنكر أنّه في السماء فقد كفر لأنّ الله تعالى يقول: الرحمن على العرش استوى). وروى الذهبي في العلو: لمّا قدمت امرأة الجهم: قال رجل(116/184)
عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود؟ فقال الأصمعي: هي كافرة بهذه الكلمة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: (الجهمية أرادوا أن ينفوا أنّ الله كلّم موسى وأن يكون على العرش أرى أن يُستتابوا فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم). وقال إمام الأئمّة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد: (مَنْ لم يقر أنّ الله -عز وجل- على عرشه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه). وقال ابن بطة العكبري: (أجمع الصحابة والتابعون أنّ الله تعالى فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه). ولذلك قال الطبري: (وحسْب امرئ أن يعلم أنّ ربه هو الذي على العرش فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر) اهـ. وللمزيد انظر العلو للذهبي واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.(116/185)
وقد تبيّن لنا من هذه النصوص أنّ الخلاف بين السلف والخلف ليس هيناً كما يزعم بعض المبتدعة كالبوطي وأمثاله بل القول بقول الجهمية والأشاعرة يبيح سفك دم قائله، وتكفيره وخروجه من الملّةكما أفتى غير واحد من السلف كما رأيت، وبناءً عليه ينبغي على ولي أمر المسلمين أن يستتيب مَنْ لم يقر بأنّ الله في السماء على عرشه بائن من خلقه عالم بأحوالهم فإن تاب وإلا قُتل، وهذا يليق بمن ردّ آيات القرآن وخالف ما اعتقده الرسول وقرّره، وخالف عقيدة الصحابة والتابعين الذين هم أهل السنة والجماعة حقاً لا الخلوف المبتدعين الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. ومَنْ خالف الرسول والصحابة والتابعين وحاد عن سبيل المؤمنين وسفّه عقيدتهم وعدّ عقيدة الفلاسفة اليونانيين أعلم وأحكم فما أحراه بالقتل!(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ). قال الإمام ابن القيم في(إغاثة اللهفان 2/669): (إنّ الفلاسفة(1)اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل بزعمه وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم المشّاؤون خاصة وهم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين(الأشاعرة وأضرابهم) وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقِدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال: بقدم هذا العالَم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته
__________
(1) يقول أبو الحسن الندوي في كتابه النبوة والأنبياء صـ136،137 ما نصه "تعاونت الفلسفة والشرك على إضعاف هذا الإيمان وإضعاف رابطة العبد وربه( أما الأول فبالإلحاح الشديد على نفي الصفات وأما الثاني فبصرف هذه الصفات إلى المخلوقات)"إه(116/186)
للعالم وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد في كتابه(مناهج الأدلة) فقال فيه: القول في الجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وحتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي الجويني ومن اقتدى بقوله-إلى أن قال-: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأنّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنّ من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبيَّن بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها المعتزلة والجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع. فقد حكى لك هذا المطّلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه إجماع الحكماء على أنّ الله سبحانه في السماء، فوق العالم. والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك إما جهلاً وإما عمداً وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس يتطفل. وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرّره غاية التقرير. وقال: "لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلّا بذلك وأنّ نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته"إهـ. وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى (ثم استوى على العرش) من سورة الأعراف: "وقد كان السلف الأول -رضي الله عنهم- لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافَّة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف(116/187)
استواءه على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء"إهـ.
وكان مشركو العرب في الجاهلية يعتقدون أنّ الله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، قال تعالى في سورة البقرة/118: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية". فهم في هذه خير من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية الذين نفوا عن الرب صفة الكلام التي تليق به، أما المعتزلة فنفوها رأساً، وأما الأشاعرة فإنهم لم يثبتوا لله إلا ما أسموه الكلام النفسي القديم، وهو في الواقع نفس كلام المعتزلة الذين يقولون: كلامه علمه. والخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في هذا الباب لفظي لا حقيقة له. والفريقان متفقون على أنّ القرآن ليس كلام الله، بل هو لفظ جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم ومن إنشاء أحدهما، فمثلاً يعتقد الأشاعرة أن هذا القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله وإنما هو لفظ جبريل أو محمد مفهو م من كلام الله النفسي القديم، أو عبارة أو حكاية عنه. ولسنا بحاجة للرد عليهم لوضوح بطلان قولهم بل كفرهم، ونكتفي لتفنيد بدعتهم في الكلام النفسي بالحديث الصحيح المتفق عليه فيما يرويه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". فأنت تلاحظ في هذا الحديث أنه فرّق بين الكلام النفسي والكلام المسموع كما يليق به سبحانه.
وكان مشركو العرب يعتقدون إمكانية رؤية الله بالأبصار، ولكنهم اشتطوا فسألوها في الدنيا، قال تعالى في سورة الفرقان الآية21: "وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" الآية. فهم أيضاً في هذه خير من المعتزلة والأشاعرة الذين نفوا إمكانية رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بالأبصار. مع أنّ الآيات متوافرة والأحاديث متواترة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم لا يضامّون في ذلك ولا يضارّون.(116/188)
عقيدة مشركي العرب بالملائكة
لقد بيّنا فيما سبق عقيدة المشركين في الجاهلية وإيمانهم بالله وببعض ما يليق به -سبحانه- من صفات، والمراد بيان أنهم مؤمنون بالله مشركون به مؤاخذون بشركهم لأنهم لا زالوا من أمة إسماعيل عليه السلام قبل أن يُنسخ دينه ببعثة محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، وبيَّنا أن الصحيح من هذه العقائد التي كانت عندهم هي ما بقي معهم من دين إسماعيل وأشرنا أنهم بإيمانهم ببعض الصفات التي تليق بالله عز وجلّ يتفوّقون-من هذه الناحية- ويُفضلون على كثير من أهل البدع من المسلمين كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية في هذا الجانب. ولنبين إيمانهم المجمل بالملائكة ثم نبين أن ذلك لا ينفعهم لأنهم كانوا مشركين، ثم نبين بعدها نوع شركهم لنَحْذَره فلا نقع فيه. وقد أكد القرآن إيمانهم بالملائكة. قال تعالى: (وقالوا لولا أُنزل عليه ملَك) 18: الأنعام. وقال سبحانه: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) 21: الفرقان. فهؤلاء المكذبون بالآخرة يؤمنون بوجود ربهم ووجود الملائكة. وقال تعالى حاكياً قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين)7:الحجر. فكان رد الله عليهم: (ما نُنَزِّل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين). والآيات التي تدل على إيمانهم بالملائكة كثيرة. وليس هذا مختصاً بمشركي العرب بل ثبت أن مشركي الأمم السابقة كانوا يؤمنون بوجود الله ووجود الملائكة، قال تعالى في سورة المؤمنون:24 حاكياً قول قوم نوح: (ما هذا إلا بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة). وكذلك قوم هود وقوم صالح قال تبارك وتعالى في سورة فصلت13-14: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ. إذ جاءتهم الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفهم ألَّا تعبدوا إلّا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكةً فإنا بما أرسلتم به كافرون). وهذا يدل على إيمانهم بالله وملائكته إلّا(116/189)
أنهم مع تكذيبهم للرسل يشركون بالله في العبادة. وهكذا القوم الذين كان فيهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ألم تسمع قول النسوة: (وقلن حاش لله ما هذا بشراً إنْ هذا إلا ملَكٌ كريم) فهم مؤمنون بالله وملائكته إيمان المشركين إيماناً مع شرك واسمع قوله تعالى يحكي قول النسوة أيضاً: (قلن حاشَ لله ما علمنا عليه من سوء)ولهذا قال يوسف لأهل السجن: (أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار)؟ أمَرهم أن يصرفوا العبادة لله وحده، ولا يكونوا كالعبد الذي يشترك في ملكه عدة أرباب فهو يسعى بينهم ويخدمهم جميعاً فالأفضل لهذا أن يكون عبداً لواحد منهم، فيريح نفسه من خدمة الآخرين. وكذلك الإنسان الأَولى به ألا يعبد إلا الله المالك الوحيد له، الذي وحده يرزقه ويدبر أموره ويرعاه..إلخ معاني الربوبية. على أن مشركي العرب كانوا مع إيمانهم بالملائكة يعتقدون فيهم عقائد سيئة فكان كثير منهم يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. قال تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون) الصافّات:15. وقال عز من قائل: (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بُشر أحدهم بما ضرب لله مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويُسألون) الزخرف. ولما اعتقد المشركون أن الملائكة بنات الله عبدوهم من دون الله كحال النصارى الذين عبدوا عيسى لاعتقادهم أنه ابن الله وكحال اليهود الذين عبدوا عزيراً لاعتقادهم أنه ابن الله. فكانت تتمثل لهم الشياطين فتأمرهم وتنهاهم فيظنونها الملائكة كحال من يدعو شيخه من الصوفية فيتمثل له وإنما هو شيطان تمثّل له ليضله. وربما تمثل الشيطان لأحدهم بصورة رجل صالح وأخبره أنه الخضر ونحو هذا مما يحدث كثيراً. قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء(116/190)
إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) سبأ. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في الإغاثة(2/652): "هذا عامٌّ في كل عابد ومن عبده من دون الله"اهـ. وقال تعالى: "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً"الفرقان، قال مجاهد: هذا خطاب لعيسى وعزيز والملائكة. قال ابن القيم: هذا الجواب يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز، ومَن عبدهم المشركون من أولياء الله، ولهذا قال ابن جرير الطبري: يقول تعالى قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله(ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم"اهـ. على أنّ مِن مشركي الجاهليّة مَن يعتقد في الملائكة عقيدة صحيحة وأنهم عباد الله قال الشيخ النسفي في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام(وخرقوا له بنين وبنات): كقول بعض العرب في الملائكة إهفأشار بذلك أن هذه ليست عقيدة كل العرب بل بعضهم(قيل هم خزاعة وكنانة)، فهذا أميّة بن أبي الصلت أحد المشركين الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمن شعره وكفر قلبه) رواه الفاكهي وابن منده وفيه ضعف، وروى مسلم في الصحيح عن الشريد قال: (ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أميّة؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره)، يقول أميّة في صفة العرش وعكوف الملائكة حوله:
مجدوا لله فهو للمجد أهل
بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق
شرجعاً ما يناله بصر العين
ج ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
وسوَّى فوق السماء سريرا
ترى دونه الملائك صورا
ج(116/191)
شرجعاً: أي طويلاً، وصور: جمع أصور وهو المائل العنق، يعني أن الملائكة حول العرش راكعون ساجدون متذللون لله، وهذا المعنى يشبه معنى قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم). ومن شعره عن صفة الملائكة:
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه
ج ... يعظم رباً فوقه ويمجّدُ
جج
وهذا المعنى شبيه بمعنى قوله تعالى في صفتهم: (يخافون ربهم من فوقهم) بل ثبت أن من مشركي العرب من يؤمن بالملكين الكاتبين قال الأعشى وهو جاهلي:
فلا تحسبنَّي كافراً لك نعمةً ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
قال الإمام ابن قتيبة: يريد: على لساني، يا ملَك الله، فاشهد بما أقول(انظر تأويل مختلف الحديث صـ112)
إيمان مشركي العرب في الجاهلية ببعض الأنبياء السابقين والرد على طه حسين
وكان مشركو الجاهلية -أو بعضهم- يؤمنون أن لله رسلاً ويعرفون أسماء كثير منهم، وإن أنكر بعضهم أن يكون الرسول بشراً كما قال السيوطي في الدر المنثور: "أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما بعث الله تعالى محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك أوْ مَن أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد فأنزل الله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجلٍ منهم)يونس2 وقال: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم. فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الأنبياء7 يعني فاسئلوا أهل الكتب الماضية أبشراً كان الرسل التي أتتكم أم ملائكة أتتكم وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون رسولاً ثم قال ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى ) أي ليسوا من السماء كما قلتم"اهـ. ولكن ثبت أن كثيراً من مشركي العرب يؤمنون بنبوّة بعض الأنبياء السابقين في الجملة يقول سلامة بن جندل في وصف درع(كما في الأصمعيات/150):
مداخلة من نسج دواد شكَّها
جج ... كحَبِ الجَنا من أُبْلُمٍ مُتَفَلِّقِ(116/192)
فهو يصف هذه الدرع بالمتانة كأنّ داود قد نسجها أو هي منسوجة وفق نسج داود للدروع، ونسبة نسج الدروع إلى داود صحيحة قال تعالى: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوسٍ لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)الأنبياء:80: أي أن داود هو أول من صنع الدروع واستخدمها والله أعلم، وقال النابغة الذبياني في معلقته يمدح النعمان بن المنذر:
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
إلّا سليمان إذ قال الإله له
وخيّس الجن إني قد أذنت لهم ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
قم في البرية فاحددها عن الفند
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ج
وقال معتذراً إلى النعمان:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي
فألفيت الأمانة لم تخنها
ج ... على خوفٍ تظنّ بي الظنون
كذلك نوح لا يخون(116/193)
وقد استغربَ ذكرَ الأنبياء في هذا البيت والأبيات قبله الملحدُ طه حسين تبعاً للمستشرقين الذين شككوا حتى في القرآن، وتبع طه حسين على هذا شوقي ضيف في كتابه العصر الجاهلي فقالوا: العرب أمة وثنية فمن أين لهم معرفة بأسماء الأنبياء؟ وفات طه حسين وأتباعه أن العرب ليسوا أمة وثنية أصلاً وإنما طرأت عليهم الأوثان طروءاً إذ كانوا على دين إبراهيم وإسماعيل حتى حرّفوا ذاك الدين وأشركوا مع الله الأوثان، ولكن بقي معهم أمور وأشياء صحيحة ورثوها من دين إسماعيل مثل تعظيم الكعبة والحج إليها والإيمان المجمل بالله ونحن بصدد بيان تلك الأشياء التي بقيت عندهم من دين إسماعيل عقائد كانت أو عبادات، ومن ذلك معرفتهم ببعض الأنبياء وإيمانهم ببعثتهم وورود ذلك في أشعارهم كالذي مرّ فلا يُستغرب ذلك منهم مع ما قدّمناه عنهم، ولا أدل على معرفتهم بالأنبياء السابقين مما رواه البخاري في صحيحه -وحسبك به صحّة- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط) الحديث رقم 4288/8. وقد وردت أحاديث صحيحة أخرى وفيها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فمحا صورة إبراهيم المرسومة على جدار الكعبة داخلها، فلا ينبغي بعد أن ثبت هذا في صحيح البخاري أن تُنفى معرفة العرب بالأنبياء لاسيما إبراهيم وإسماعيل، وقد كانوا يؤمنون بنبوة موسى وعيسى، ولكن هؤلاء لم يكونوا مبعوثين إلى العرب، فليس العرب من أهل دعوتهم بل من أهل دعوة إسماعيل عليه السلام حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كما بيّنا أنفاً، ومما يدل على معرفة العرب وإيمانهم بنبوة عيسى عليه السلام أنهم كانوا صوَّروه هو وأمه في جوف الكعبة جنباً إلى جنب مع صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة(116/194)
والسلام. (وانظر فتح الباري"8/21"). وربما كان غيرهم من الأنبياء مصوّرين في الكعبة لم يصلنا خبرهم فإنهم كانوا صَوّروا في الكعبة صوراً كثيرة حتى إنهم صوروا الملائكة كما في سيرة ابن هشام فمحيت جميعاً في فتح مكة وما كان منها مجسماً كسر أيضاً وأخرج. أما موسى عليه السلام فقد ورد في إحدى الآيات المكية قوله تعالى: (قالوا لولا أو تي مثل ما أو تي موسى) الآية من سورة القصص. فلعل هذا قول مشركي العرب، وربما كان قول اليهود والله أعلم. ونجد الإيمان بنبوة موسى واضحاً في شعر أمية بن أبي الصلت فاسْمعه يقول:
رضيت بك اللهم رباً فلن أُرى
وأنت الذي من فضل مَنٍّ ورحمةٍ
فقلت له يااذهب وهارون فادعوا ... أدين إلاهاً غيرك الله ثانيا
بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
ج
إلى أن قال:
وأنت بفضلٍ منك نجيَّتَ يونساً
ج ... وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا
(انظر سيرة ابن هشام 1/228). ويظهر في هذه الأبيات إيمانه بموسى وهارون ويونس عليهم السلام ومعرفته تفاصيل عنهم. ولا شك أن هذه المعلومات ورثوها عن دين إسماعيل وحفظها عقلاؤهم وتناقلوها، فيذكرونها أحياناً في أشعارهم.
إيمان بعض عرب الجاهلية بالبعث والحساب والجنة والنار
وكان مِن العرب مَنْ يؤمن بيوم القيامة والحساب والجنّة والنار، الحنفاء وغيرهم، قال الشهر ستاني: (ومن العرب مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر) إهـ(من الملل والنحل2/241). يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
يؤخَّر فيوضع في كتابٍ فيدّخَر
ج ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
ليوم حسابٍ أو يعجل فينقم
وقال زهير أيضاً من قصيدة أخرى تجدها في ديوانه:
تزوَّدْ إلى يوم الممات فإنه ... ولو كرهته النفس آخر موعد
وقال علّاف بن شهاب التميمي:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة
وعلمت أن الله جازٍ عبده ... فأخذت منه خطَّة المقتال
يوم الحساب بأحسن الأعمال
ج(116/195)
وظاهرٌ إيمانه بالله واليوم الآخر. وقال النابغة الذبياني:
فَعِلَّتُهمْ ذات الإله ودينهم ... قويمٌ فما يرجون غير العواقب
ج
(قال الشهر ستاني: أراد بذلك الجزاء بالأعمال). وقال ابن الأسلت قبل أن يسلم يخاطب قريشاً:
فذكِّرْهمُ بالله أول وهلة
فبيعوا الحراب مِلْمحارب واذكروا ... وإحلال إحرام الظباء الشواذب
حسابكم والله خير محاسب
انظر سيرة ابن هشام 1/285
أما الحنفاء فتجد ذكر اليوم الآخر والحساب في شعرهم كثيراً من ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل:
فلن تكون لنفسٍ منك واقيةٌ ... يوم الحساب إذا ما يجمع البشر
وقال قس بن ساعدة يذكر الله:
أعاد وأبدى
ج ... وإليه المآب غدا
ج
وأنشد في معنى الإعادة:
يا باكي الموت والأموات في جدثٍ
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم
حتى يجيئوا بحال غير حالهم
منهم عراة ومنهم في ثيابهم
ججج ... عليهم من بقايا بزهم خرق
كما يُنبَّهُ من نومانه الصعق
خلقٌ مضى ثمّ هذا بعد ما خَلِقوا
منه الجديد ومنه الأزرق الخلق
قال الشهر ستاني في: (الملل والنحل 2/244): "(كان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده: ادفنوا معي راحلتي حتى أُحشر عليها، فإن لم تفعلوا حُشِرْتُ على رجليّ). قال جريبة ابن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت يوصي ابنه سعداً:
يا سعد إمّا أهلكنّ فإنني
لا تتركن أباك يعثر راجلاً
واحمل أباك على بعير صالحٍ
ولعلّ لي مما تركت مطيّة ... أو صيك إن أخا الوصاة الأقرب
في الحشر يُصرع لليدين ويُنكبُ
وابغِ المطيّة إنه هو أصوب
في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا
ج
وقال عمرو بن زيد بن المتمنِّي يوصي ابنه عند موته:
أبنيّ زودني إذا فارقتني
للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا
من لا يوافيه على عشرائه
جج ... في القبر راحلة برحلٍ قاتر
متساوقين معاً لحشر الحاشر
فالخلق بين مُدَفَّعٍ أو عاثر
ج(116/196)
وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كلكلها وبطنها ويأخذون وليَّة فيشدون وسطها ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر ويسمون الناقة بلِيَّة، والخيط الذي تشد به وَلِيَّة، وقال بعضهم يشبِّه رجالاً في بلية: (كالبلايا في أعناقها الولايا)."اهـ كلام الشهر ستاني. ولا زالت بعض القبائل في البادية تعتقد ببعض هذا فتذبح عن الميت ذبيحة بعد وفاته في ذي الحجة يظنون أن الميت يركبها يوم القيامة يسمونها"أضحية الحفرة"؛ قال عنها الشيخ ابن عثيمين في(الضياء اللامع): لا أصل لها في الدين. اهـ كلامه. ولم يثبت في ركوب الرجل أضحيتَه في المحشر حديث؛ ومما روي في ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (استفرهو ا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم). أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بسند قال عنه الألباني: (ضعيف جداً). (انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/173). وثمّة أناس يعملون بهذا إلى الآن، فقد أخبرني رجل متديِّن من البدو أن والده أوصاه أن يضحيَ عنه جملاً لعله يركبه يوم الحشر أسوةً بأقاربه من البدو وأنفة من أن يركب شاة أو بقرة. قال الرجل: فلمّا مات والدي أنفذت وصيته وضحيت عنه بجمل ضخم.فتأَمّل. أمَّا ركوب بعض الناس للدواب في الحشر فهو صحيح ثابت لكنه لا يرتبط بالأضحية بل هو مرتبط بالإيمان والأعمال الصالحة مطلقاً فقد روى البخاري(برقم 6522) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، ويحشر بقيتَهم النارُ) الحديث؛ وأخرجه مسلم وغيره. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم) الحديث؛ (انظر الفتح 8/631). وأخرجه البيهقي من وجه آخر بلفظ: (ثلاثاً على الدواب وثلاثاً ينسلون على(116/197)
أقدامهم وثلاثاً على وجوههم) ويؤيده ما أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي ذر: (حدثني الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج: فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم) الحديث وانظر فتح الباري(11/462) وعلى هذا فمنهم من يؤمن بالجنة والنار؛ قال النابغة الذبياني:
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يرد لنا ملكاً وللأرض عامرا
وقال زيد بن عمرو-أحد الحنفاء-:
ترى الأبرار دارهم جنان
وخِزْيٌ في الحياة وإن يموتوا
ج ... وللكفار حامية سعير
يُلاقوا ما تضيق به الصدور
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالقدر(116/198)
وقد كان مشركو العرب يؤمنون بالقضاء والقدر في الجملة قال تعالى في سورة الأنعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) الآية. ولكنهم أخطأوا هنا فاستدلوا بمشيئة الله العامة على شركهم، فمن أين لهم أن شركهم محبوبٌ لله مرضيٌّ له؟ فإن الشيء يكون مراداً لله ولكن قد لا يكون محبوباً له. فالشرك مرادٌ لله الإرادة الكونية فلا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء، ولا يعصى قهراً وكرهاً، ولكن لا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً. ويبدو أنهم مضطربون في هذه المسألة كثيراً، بل ورد ما يدل على عدم إيمانهم -أو بعضهم- بالقدر من أساسه فقد أخرج مسلم في صحيحه(4800) عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر إنّا كل شيء خلقناه بقدر)" قال النووي في شرحه: (المراد بالقدر ها هنا القدر المعروف وهو ما قدّر الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته. وأشار الباجي إلى خلاف هذا وليس كما قال)اهـ. ولم أقف على كلام الباجي فليُنظر ما هو. والمتبادر من الحديث إنكارهم القدر ولكن قد تكون مخاصمتهم في معناه واستدلالهم به على رضا الله عن دينهم وشركهم وإقراره لهم كما في الآية السابقة إذ ثمّة أدلة تدل على إيمانهم بالقدر في الجملة، منها قول عنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها
ج
وقال لبيد يثني على الله تبارك وتعالى:
لا يستطيع الناس محو كتابه
ج ... أنَّى وليس قضاؤه بمبدَّل
وقال عمرو بن الحارث الجرهمي بعدما أُخرجوا من مكة:
فأخْرَجَنا منها المليك بقدرة ... كذلك ياللناس تجري المقادر
وقال بعض الرجّاز في الجاهلية:
أيها المضمر هماً لا تُهَمْ
ولو علوتَ شاهقاً من العلَم
ج ... إنك إن تُقْدر لك الحمّى تُحَمْ
كيف تَوَقِّيْك وقد جفّ القلمْ
ج
وقال آخر:(116/199)
هي المقادير فلمْني أو فَذَرْ ... إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القَدَر
ج
وقال النابغة الذبياني:
وليس امرؤٌ نائلاً من هو ا ... هُ شيئاً إذا هو لم يُكْتَبِ
قال ابن قتيبة في كتابه مشكل القرآن راداً على نفاة القدر من مبتدعة المسلمين –كما في كتاب القرطين(1/154) لابن مطرف الكناني توفي454هـ في الجمع بين كتابي مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة-: "روى عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرة قال كنت عند قتادة فسئل عن القدر فقال: ما زالت العرب تثبت القدر في الجاهلية والإسلام قال وحدثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال قلت لدرواس الأعرابي ما جعل بني فلان أشرف من بني فلان؟ قال: الكتاب يعني القدر ولم يقل المكارم والفعال وكان الأصمعي ينشد من الشعر في إثبات القدر ذكرها وغيرها قال أنشدني عيسى بن عمر لبدوي:
كل شيء حتى أخيك متاع ... وبقدْرٍ تفرُّقٌ واجتماعُ
وقال المرار:
ومَنْ سَابق الأقدار إذ دأبت به ... ومن قائل شيئاً إذا لم يُقَدَّرِ
وقال:
أقدر أمراً لست أدري أناله ... وما يقدر الإنسان والله أقدر
وفي أخرى -فالله قادر- وقال ابن الدمينة:
زورا بنا اليوم سلمى أيها النفر ... ونحن لمَّا يُفَرِّق بيننا القدر
وقال القس:
قد كنت أعزل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الغواية والهدى أقسام
وقال الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
يقول هم موقنون بأن ما قُدر وحتم لا يدفع بحيلة فهم موطنون أنفسهم عليه وقال أفنون التغلبي:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
وقال لبيد:
إنَّ تقوى ربنا خيُر نَفَلْ ... وبإذن الله ريثي وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل(116/200)
(وذكر أبو محمد بن قتيبة أدلة أخرى إلى أن قال): هذا مذهب العرب في القدر وهو مذهب كل أمة وأن الله تبارك وتعالى في السماء ما تُركت على الجبلّة والفطرة ولم تُنقَل عن ذلك بالمقاييس والتلبيس" اهـ. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه أن العرب في الجاهلية كانت تؤمن بالقدر. قلت: وكأن القرون السابقة كانت تؤمن بالقدر قال تعالى في شأن قوم نوح وإيمانهم بمشيئة الله العامة: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضَّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكةً ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)الآية24من سورة المؤمنون. وكذلك شأن قوم هود وقوم صالح قال تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعقة عادٍ وثمودَ. إذ جاءتهم الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكةً فإنا بما أرسلتم به كافرون)الآيتان13-14من سورة فصلت. وهذه الآيات تشير إلى إيمانهم بربوبية الله ولكن لا يألهونه وحده سبحانه.
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالجن والكلام على المس وعلاجه(116/201)
وكان مشركو العرب يؤمنون بوجود الجن، وهو من المسلمات عندهم، فكان أحدهم إذا نزل وادياً استعاذ بسيد الوادي من الجن، قال تعالى في سورة الجن: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً)، ولذلك كثرت عندهم الكهانة والاتصال بالجن. وقوله تعالى في سورة الأنعام: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلَقَهم)، أي أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله.أو جعلوا الجن شركاء لله، فعبدوهم وعظموهم، كما عبدوه وعظموه. وعلى أية حال فهم بإيمانهم بوجود الجن خير -من هذه الناحية- ممن شذّ من أهل البدع من المسلمين فأنكر الجن رأساً وأوَّل الآيات التي فيها ذكرهم بزعمه، وإنما هو تحريف يخرج معتقده من ملّة الإسلام. والإيمان بوجود الجن والشياطين هو شأن مشركي الأمم جميعاً أو أكثرهم وهو ناتج عن إيمانهم بوجود الله أصلاً ولا يخفى أنَّ هذا بقية ماتناقلوه عن أنبيائهم الذين بعد عهدهم بهم (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله. قوله(إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار آتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فَقُبِضَتْ يده قبضةً شديدة. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك. ففعلت، فعاد. فقُبضتْ أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك. ففعلت، فعاد. فقبضت أشد من القبضتين(116/202)
الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فَلَكِ الله أن لا أضرك، ففعلت وأُطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان!! فأخْرِجْها من أرضي وأعطِها هاجر. قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مهيم !؟ قالت: خيراً، كفّ الله يدَ الفاجر، وأخدم خادماً"اهـ. فأنت ترى هذا الجبار المشرك يؤمن بوجود الله فيقسم به لسارة: (ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله أن لا أضرك). ويؤمن أيضاً بوجود الشياطين فيقول للذي أتاه بسارة: (إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان). وقد علمنا أن هذا الجبار مشرك فاجر بدليل قول إبراهيم لسارة: (لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك). ومن هنا تعلم أن الشرك ليس هو عدم الإيمان بوجود الله، ومنه تعلم نقصان عقل وعلم الأشاعرة والماتريدية الذين غاية توحيدهم إنما هو إثبات وجود الله، وهذا مما لم ينازع فيه المشركون كما رأيت. بل مجرد قصد ذلك من السخافات. لأنه تحصيل حاصل وكان الأولى بهؤلاء المتفلسفة أن ينصرف قصدهم إلى تعليم الناس إفراد العبادة وتجريدها لهذا الرب الموجود فعلاً والمقرّ به أصلاً. وهذا هو التوحيد المنشود. ونقيضه من عدم إفراد الله بالعبادة هو الشرك كما سيأتي بيانه إن شاء الله. فوضْع وجود الله موضع الشك ومحاولة إثبات وجوده وتدريس ذلك على المسلمين بدعة شنيعة لا يستفيد منها الطلاب إلا الشبهات ثم هي ضرب من العبث وجهل بالتوحيد ولهذا لم يبعث الله الرسل ليثبتوا وجوده -سبحانه- بل بُعثوا ليُوحَد الله بالعبادة وليُعَرِّفوا الناسَ بصفاته الجليلة وآلائه العظيمة العديدة. وهذا القرآن من أوله إلى آخره يقرر ذلك: (ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وكل الرسل قالوا لقومهم: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). وما أحسن ما قال بعضهم: إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل(116/203)
يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!! ويحسن بي هنا نقل كلام استحسنته لشيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود في كتابه(الإسلام والعقل) وهو في صدد نقده لبني جلدته أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية في تكلفهم إثبات وجود الله سبحانه وتعالى يقول/صـ81 وما بعدها/: "يخلط كثير من الناس بين التوحيد وإثبات وجود الله، وهما أمران بان في وضوح اختلافهما واختلاف موقف الإسلام منهما، إذ أن الإسلام استفاض استفاضة كثيرة في إثبات التوحيد، وقد عمى عنه الوسط الذي كان بجزيرة العرب فأشركوا بالله. أما موقف الإسلام بالنسبة لإثبات وجود الله فإنه مختلف كثيراً عن موقفه بالنسبة لإثبات التوحيد. إن القرآن لم يتحدث عن إثبات وجود الله. إن الله في العرف الإسلامي وفي أعراف أصحاب الفطر السليمة موجود ووجوده لا يتمارى فيه اثنان(ثم ذكر آيات كالتي سبقت وقال:) إلام تشير هذه الآيات؟ إنها لا تتحدث عن إثبات وجود الله وإنما تتحدث عن الشرك، أي الاعتقاد في آلهة كثيرة. ولقد كانت الثورة ضد الشرك وتحطيم الأصنام من المهام الكبرى في الرسالة الإسلامية، والأديان جميعها تشترك في مبدأ التوحيد وكل نبي بشّر بالتوحيد ولكن الإنسانية كانت تنحرف بالعقيدة بعد موت الرسول من التوحيد إلى الشرك، والشرك إسراف خاطئ في الإيمان. وما كان للإلحاد وجود قط فيما قبل الحضارة اليونانية القديمة. إن محاولة الاستدلال على وجود الله محاولة خاطئة. إن المسألة أقدس من أن توضع هذا الوضع وأوضح من أن تحتاج إلى برهان. بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر بالتوحيد وحارب من أجله"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"الحديث ومضت السنون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في رسالته(لا إله إلا الله) لا يحيد عن ذلك ولا يتنازل. وكان خصومه يقولون في سذاجة: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجيب) ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدث - مستدلاً أو(116/204)
مبرهناً- عن وجود الله. ولم يسأله أحد من الصحابة سواءً أكان من أصل عربي أم من أصل غير عربي عن إثبات وجود الله. مضى على ذلك العهدان المكي والمدني. أما القرآن فإنه استفاض في إثبات التوحيد وكان إثبات التوحيد هدفاً من الأهداف الكبرى للقرآن كان يوجه الإنسان إلى التوحيد في العقيدة والتوحيد في العبادة والتوحيد في الاستعانة ولكنه لم يجعل إثبات وجود الله هدفاً من أهدافه. إنني لأعلم أننا ألفنا أن نقول: إن القرآن يثبت وجود الله عن طريق دليل العناية أو عن طريق دليل الخلق أو عن طريق الأثر والمؤثر. ونذكر على ذلك الاستشهاد من القرآن الكريم. إن في القرآن من الآيات التي تتحدث عن العناية والتي تتحدث عن الخلق الشيء الكثير ولكن القرآن لم يأتِ بذلك مستدلاً أو مبرهناً(يعني على وجود الله) وإنما أتى بها متحدثاً عن نعم الله الكثيرة التي يفيضها على الإنسان ومتحدثاً عن قدرة الله وعظمته وعن أنه منعم رحيم ودود وقاهر. إن هذه الآيات تتحدث عن صفات الله في جلالها وفي جمالها ولم تأتِ قط مبرهنة على الإثبات أو رادّة على منكر، إن العقيدة الإسلامية مصدرها القرآن والسنة ولم تكن مسألة إثبات وجود الله موضع مناقشة لدى المسلمين إلى أن ترجم المأمون كتب فلاسفة اليونان فجعلت هذه الفلسفة مسألة وجود الله مسألة قابلة للأخذ والرد والإنكار والإثبات وأخذ الناس شيئاً فشيئاً يألفون هذه البدعة فبدت-مع الوقت- وكأنها طبيعية"اهـ باختصار. قلت: وكان العرب في جاهليتهم يعتقدون بمس الجن للإنسان -وهو الحق- الأمر الذي ينكره كثير من المسلمين جهلاً وقصوراً ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ضماداً قدم مكة وكان من أزدشنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاءَ من مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه على يديّ، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟(116/205)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد"قال: فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد). أخرجه مسلم(3/12) وغيره. وفي هذا الحديث أن العرب قبل الإسلام كانت تعتقد بمس الجن، ويسمونه(الريح)، وجاء الإسلام فأقره قال الله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس) الآية. وأن من العرب من كان يرقي من مس الجن رقية صحيحة يقرها الإسلام بل كانوا يرقون من كافة الأمراض ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي-رضي الله عنه- قال كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا: يا رسول الله. كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"أخرجه مسلم وأبو داود. وكانت عندهم أنواع من الرقى صحيحة كالرقية من العين والعقرب وغيرها ففي صحيح مسلم -أيضاً- عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال: فعرضوها عليه، فقال: "ما أرى بأساً. من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"أخرجه مسلم وابن ماجه. وعن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل(116/206)
عليها وعندها امرأة يقال لها الشفاء. ترقي من النملة(قروح تخرج في الجنب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علميها حفصة"أخرجه أحمد بسند صحيح. وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة في الرقى بقوله: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك). قال الحافظ في الفتح(10/206): "أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: 1-أن يكون الكلام بكلام الله تعالى أو أسمائه وصفاته 2-وباللسان العربي أو بما يُعرف معناه من غيره 3-وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقد دل الحديث أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك ويمنع احتياطاً"اهـ. وحاصل ما يقال في مسألة المس: إن الجني قد يمس الإنسي بسحر أو بدونه كأن يؤذيه الإنسي مثلاً أو يظلمه كما يظلم الإنس بعضهم بعضاً فيدخل فيه فعلاجه الشرعي النافع يكون بقراءة القرآن مثل الفاتحة وآية الكرسي والمعوذات وسورة البقرة وكل القرآن نافع وما ثبت من الرقى في السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقما) متفق عليه. وقوله: (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك). أخرجه مسلم. وغير ذلك من الأدعية الصحيحة. وقراءة القرآن على الممسوس الأفضل أن تكون بصوت مسموع في أذن المريض مع النفث فيخرج الجني ويبطل السحر ويشفى المريض بإذن الله ولا يتم ذلك-بعد توبة المريض وأهله- إلا إذا كان المعالج سليم العقيدة موحِّداً مستقيماً على طاعة الله. أما الذهاب إلى السحرة والصوفية والدجالين لفك السحر وعلاج الممسوس فهو من أكبر الكبائر بل قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله ويعرف الساحر بأمور منها طلب اسم أم المريض أو التمتمة بكلام غير مفهوم أو يأخذ أثراً من آثار المريض(ثوباً أو منديلاً..) أو يطلب حيواناً بصفات معينة(116/207)
ليذبحه كدجاجة سوداء أو نعجة سوداء لا يخالطها بياض كما هو الشأن لدى المُجَلِّي طواغيت قبيلة عنزة في شمال سورية أو إعطاء المريض حجاباً يحتوي على مربعات بداخلها حروف أو أرقام وربما خلطها بعض السحرة بشيء من القرآن. أو يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض أو يعمل له نوبة دفوف ويضربه بالشيش. وقد علم بالتتبع والتجربة أن أكثر شيوخ الطرق الصوفية إن لم يكن كلهم سحرة أو ممسوسون بنسب مختلفة. وتكفي نظرة في كتاب الطبقات الكبرى للشعراني لتتأكد أن الصوفية ممسوسون وملبَّس عليهم. وإن من أكبر الأدلة أنهم إذا طلب منهم بعض الجهلة الاستخارة لشأن من شؤونهم كزواج أو تجارة فإنهم يطلبون اسم أم المستخير وهذا قطعاً لتعاونهم مع الجن، هذا مع أن طلب الاستخارة من أحد بدعة شنيعة وإنما ينبغي على الشخص أن يستخير لنفسه لأن دعاء الاستخارة كالدواء يأخذه محتاجه وقد قال جابر رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) فكان يعلمهم الاستخارة ليستخيروا لأنفسهم ولا يستخير لهم صلوات الله وسلامه عليه. وإذا عُلم هذا فإن هؤلاء الشيوخ الصوفية كهنة لادِّعائهم علم الغيب. وإتيانهم لهذا الغرض حرام بل قد يصل إلى الكفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد"رواه أحمد(2/429) وهو من صحيح الجامع للألباني. فهؤلاء الذين يستخيرون لمريديهم بعد طلب اسم أم المستخير ثم يخبرون الشخص بأشياء غيبية مثل أن زواجك من فلانة موافق حسب الاستخارة أو إنه سيجرُّ لك الشر ونحو ذلك فيحول ينه وبين الزواج ممن يكون خطبها، وهذا بلا شك من التنجيم والكهانة والعرافة. والصوفية يفتخرون بذلك مثل افتخار أحد شيوخهم في حلب بشيخه النبهاني الزنديق المخرِّف الذي كان يدافع عن فرعون ويكذب بالقرآن زاعماً أنه لا يوجد فيه نص على أن فرعون في جهنم ونحو ذلك من ضلالاته فقد افتخر الحوت(116/208)
مراراً بأن شيخه يعلم الغيب ولا يخفى عليه شيء ويستخير للناس بعد طلب اسم أم المستخير ثم يعطيهم النتيجة بعد استخارة شياطينه. فلا شك أن هذا وأمثاله من أهل الكشف الشيطاني. أما ضاربو الشيش من الرفاعية والقادرية وغيرهم فلا يشك عاقل أنهم سحرة وممسوسون بالجن فلهذا يضربون أجسادهم بالسيوف ويبعجون وجوههم وخواصرهم بالشيش ويدخلون النيران فعل كفار الهند والبوذيين والمجوس وإذا اتفق أن جاءهم ممسوس فإنهم لا يتلون عليه قرآناً أو رقية شرعية بل يضربون عليه الدفوف ويستغيثون بالمخلوقين والشياطين من دون الله فتحضرهم ويضربون المريض بالسيف أويطعنونه بالشيش فربما اتفق شفاؤه ليكون فتنة له ولغيره كما هي سنة الله في المبطلين وربما كان سبب ذلك تسلط شياطينهم على الجني الماس للإنسان فيخيفونه فيخرج خوفاً ويشفى المريض فتنةً فتزداد عطايا الناس وهباتهم لهؤلاء الدجالين مع خوفهم ورهبتهم بالغيب. وربما أرسلوا شياطينهم إلى أفراد الناس ليمسوا بعضهم فيضطروا لجهلهم إلى اللجوء إلى هؤلاء الدجالين والله المستعان. فهؤلاء بعيدون كل البعد عن الرقية الشرعية المأذون فيها بل هم حريصون على عدم قراءة القرآن أثناء نوبتهم. ومن حديث ضماد السابق يتبين أن بعض رقاة العرب قبل الإسلام خير من هؤلاء الصوفية المجرمين ولا يخفى أنهم ورثوا هذه الأمور الصحيحة عن أنبيائهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقول ضماد قبل أن يسلم في الحديث السابق: (إن الله يشفي على يدي من شاء) اعتقاد صحيح منه أن الله هو الشافي وأن الرقية سبب في الشفاء. ففي هذا أكبر دليل على أن قول ضماد مأثور من بقية دين إبراهيم وإسماعيل وفيه رد على الأشاعرة والماتريدية والمتفلسفة الذين غاية توحيدهم إثبات الخالق مع أن المشركين الذين نزل القرآن فيهم يؤمنون بذلك بل أكثر من ذلك كما ترى.(116/209)
وبهذا نكون قد بيّنّا اعتقادات المشركين في الجاهلية بالله عز وجل والملائكة والجن والرسل واليوم الآخر والقدر التي ورثوا بعضَها (صحيحَها) عن دين إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
عبادات المشركين في الجاهلية وأهمها دعاء الله في الشدة والجدب والرد على البوطي في مسألة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم والاستغاثة به من دون الله
أمّا العبادات؛ فقد كان العرب أمة متعبدة متألهة في الجملة، غاية عباداتها طلب رضا الله والتقرب إليه حتى إنهم عندما يصرفون أنواع العبادة لأوليائهم إنما غايتهم التقرب إلى الله بزعمهم يقولون:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)،(هؤلاء شفعاؤنا عند الله).وأهم تلك العبادات الدعاء، فمع دعائهم لأوليائهم فقد كانوا يدعون الله، وقد ذكرنا آنفاً أدلة على ذلك. على أن هؤلاء المشركين الذين يشركون أوليائهم مع الله في الدعاء في حال الرخاء والأمن كانوا في حال الشدة والاضطرار يلجؤون إلى الله وحده ويخلصون له الدين، كما حكى عنهم القرآن في كثير من الآيات، قال تعالى في سورة العنكبوت: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وقال في سورة لقمان: (وإذا غشيهم موجٌ كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين). وقال في الزمر: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه ننسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار). وفي مسند أحمد(5/64) بسندٍ صحيح عن رجل من بلْهجيم(أي من بني الهجيم) قال: "قلت: يا رسول الله إلامَ تدعو؟ قال أدعو إلى الله وحده الذي إنْ مسّك ضر دعوته كشف عنك والذي إنْ ضللت بأرض قفر دعوته ردَّ عليك والذي إنْ أصابتك سنة أنبت عليك"إهـ. وهذا الرجل هو جابر بن سليم. والحديث رواه أبو داود والترمذي عنه بلفظ: "قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه(116/210)
عنك، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة، فضلّتْ راحلتك، فدعوته ردّها عليك"الحديث. ومن عجائب الزمان التي لا يكاد المسلم يتصوَّر وقوعها أن رجلاً من شيوخ دمشق المشهورين المعاصرين(هو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي) ذكر الحديث بهذا اللفظ الأخير، واستدلّ به على جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ فهم من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه عنك) أن الضمير يعود إلى الرسول، أي أنّ الرسول هو الذي يُدعى فيكشف الضر وينبت الزرع، وهذا من أشنع الأمور التي لا تكاد تخفى على أجهل الناس. فمع أن الضمير في هذا الحديث يعود إلى أقرب مذكور كما هو معروف في اللغة، وهو هنا "الله" فإن هذا الحديث بعينه رواه أحمد باللفظ الأول الذي ذكرناه والذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضرٌّ دعوته كشف عنك.. الخ) وإنما أتي هذا البوطي من جهله بعقائد أهل الجاهلية -فضلاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة- وكأنهم عنده لا يؤمنون بوجود الله أصلاً، ومن هنا تظهر أهمية هذه الأبحاث التي تتعلق ببيان عقائد المشركين، والتي لا يعرفها إلا أهل السنة والجماعة، وتخفى على المبتدعة، فإذا كان هذا فهم عالمهم البوطي فما ظنك بجاهلهم. وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية). ولو أن البوطي إذ فهم هذا الفهم السقيم رجع إلى نص الحديث في مسند أحمد لبان له الصواب، مع أنه -في اللفظ الآخر- بَيِّنٌ، ولنجا من جرم تحريف الكلم عن مواضعه، لا سيما إذا كان هذا الفهم يعني الشرك بعينه، إذ غير خاف أن دعاء الرسول وطلب كشف الضر منه من الشرك الأكبر الذي دعا إليه البوطي المذكور، والله المستعان.(1)
__________
(1) وقد سُئل العلَّامة النحوي الدكتور فخر الدين قباوة الحلبي عمّن يفهم هذا الفهم -الذي فهمه البوطي- من الحديث، وهل يسوغ ذلك في اللغة؟ فأجاب: هذا رجل جاهل. فلمّا أُخبر بأنه= =البوطي. قال: البوطي جاهل باللغة اهـ. ولقد حام البوطي هذا في كتابه (هذا والدي) حول وحدة الوجود وسمّاها وحدة الشهود وحسّنها للجمهور بكلام مضطرب ومراوغ ثم دافع عن ابن عربي وابن الفارض وسوّغ كلامهم وتأوله-زعم- وجادل عنه بالباطل، وحاصل كلامه إغراء الناس صراحة على هذا الضلال ودعوتهم إليه. وفي ختام كتابه المذكور(صـ180) بعد أن جزم بإيمان أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أباه النقشبندي الهالك في كراهة قراءة سورة(تبتْ يدا أبي لهب) إكراماً لرسول الله بزعمه لأن أبا لهب عمه، ولم يدرِ المسكين أن من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم قراءة هذه السورة وترديدها لا العكس، لأن الله أنزلها كذلك. ثم تبين لي أن الصوفية يكرهون هذه السورة ولا يقرؤونها إلا في الختم ويوصون مريديهم بعدم قراءتها في الصلوات الجهرية، ولذلك لا تكاد تسمع في حلب –مثلاً- منْ يقرأ بهذه السورة في صلاة جهرية، فلا أدري إن كانوا يعدُّون أبا لهب من المؤمنين، بينما هم متفقون على إيمان أبي طالب ونجاته، وقد صرح الحوت( أحد شيوخهم) مراراً بأن أبا طالب -رضي الله عنه- مؤمن كامل الإيمان، ضارباً عرض الحائط بالأحاديث الصحيحة القاضية على أبي طالب بالنار، وهذا موافقة منهم للشيعة. ولعل كل ذلك من بركات وحدة الوجود التي دافع عنها البوطي حتى إنه كره سورة من سور القرآن الكريم، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) وليس دفاعهم عن أبي لهب وأبي طالب عجيباً بعد أن ناضلوا عن فرعون -كما رأيت- والله المستعان. ومن الطرائف بل المصائب التي بلغتني بعد انتشار فتوى البوطي بكراهة قراءة سورة تبت يدا أبي لهب أن لجنة أحد المساجد في أحد الأحياء في بعض مدن سورية استقدموا شاباً ليكون إماماً راتباً لمسجدهم فلمَّا صلى بهم صلاة المغرب -وكانت أول صلاة له- قرأ بـ تبت فأَعظمَ أعضاءُ اللجنة ذلك وطردوه من منصبه وقالوا هذا لا يصلح !!.(116/211)
ولا شك أن الرجل الهجيمي قبل أن يسلم كان إذا اضطر دعا الله وحده فاستجاب له، ولهذا ذكَّره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يوحِّد هذا الرب -الذي إذا دُعي استجاب- في كل الأحوال، وأن لا يشرك به شيئاً وأن يتّبع رسوله. فهل نقول إن فطرة هذا الرجل الجاهلي خير مما حاك في صدور كثير من المشايخ المتأخرين؟ ويشهد للحديث السابق ما رواه أحمد في المسند، والترمذي(برقم 3479) عن حصين بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا حصين، كم تعبد؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فمن الذي تعدُّ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: أسلِمْ حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فأسلَمَ". الحديث. ويشهد لما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب"رواه أحمد(3/153) بسند صحيح وفي رواية أخرى: "إياكم ودعوة المظلوم وإن كانت من كافر فإنه ليس لها حجاب دون الله عز وجل"انظر صحيح الجامع للألباني. فهذا يدعو الله بإخلاص في بعض الأحيان ومع ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم كافراً، أليس هذا دليل على أن الكفر والشرك ليس هو عدم الإيمان بوجود الله وإنما هو اتخاذ الشفعاء والوسطاء، ومن الأدلة على أن الكفار يؤمنون بوجود الله ويدعونه بل يخلصون له الدعاء أحياناً مع كونهم مشركين قصة الملك الكافر عند البخاري برقم3358 الذي مد يده إلى سارة زوج إبراهيم عليه السلام فقبضت يده ثلاث مرات وفي كل مرة يقول لها"ادعي الله لي ولا أضرك"فهذا الملك الكافر يؤمن بوجود الله وأن دعاءه ينجي من الشدائد ولكنه وإن أخلص هذه المرة فإنه ملتزم للشرك في غيرها.
بيان أن المشركين كانوا يستغفرون الله وقوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)(116/212)
وكان من شأن أهل الجاهلية أنهم يستغفرون الله عز وجل، ومن أجل هذا الاستغفار صُرف عنهم العذاب العام، قال تعالى في سورة الأنفال/33/: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). أخرج البخاري في صحيحه(9/378) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فنزلت: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الآية إهـ. وروى ابن جرير الطبري بسنده(9/235) عن ابن عباس: (أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: لبيك لا شريك لك لبيك فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قد قد) فيقولون: لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ويقولون: (غفرانك غفرانك) فأنزل الله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون). قال: فهذا عذاب الآخرة قال: وذاك عذاب الدنيا) إه. قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي اليماني في كتابه(الصحيح المسند من أسباب النزول/116): "هذا حديث حسن" اهـ. والواقع إن استغفار الله ليس من شأن مشركي العرب وحدهم بل كذلك مشركي الأمم السابقة ورد ما يدل على أنهم مع شركهم بالله كانوا يستغفرونه فقد قال عزيز مصر لامرأته لما راودت يوسف عن نفسه وتأكَّد له كيدها وخطيئتها: (واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين). والمقصود أن الشرك ليس معناه عدم الإيمان بوجود الله بل هو شيء آخر. وإنْ كان المشرك لا يُسمى مؤمناً بالله لأنه لو آمن بالله حقاً ما أشرك به.(116/213)
بيان أن عرب الجاهلية مع شركهم كانوا ينذرون لله ويذبحون له في الحج ويعقُّون عن مواليدهم ويذبحون الفرع والعتيرة
وكان مشركو العرب في الجاهلية ينذرون لله تعبداً، روى البخاري(6697) ومسلم(1656) عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: فأو فِ بنذرك) إهـ.ومن ذلك ما رواه أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصَّته خمسين بدنة، وأن عَمْراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أمّا أبوك، فلو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ وتصدقتَ عنه نفعه ذلك) إهـ. وكانوا يعتقون الرقاب ويعينون المحتاج تعبداً يتحنّثون بذلك ويتقرّبون إلى الله، فقد روى البخاري في صحيحه(برقم 2538): (أنّ حكيم بن حزام رضي الله عنه أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير. فلما أسلم حمل على مئة بعير وأعتق مئة رقبة. قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أصنعها في الجاهلية كنت أتحنّث بها -يعني أتبرر بها- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما سلف لك من خير) إهـ. وكانوا يحلفون بالله كما قدمنا آنفاً. وكانوا يذبحون الأنعام لله تعبداً، وأقرهم على ذلك الإسلام. فقد كانوا يهدون الهدايا في الحج، وكانوا يعقّون عن مواليدهم، أما ذبح الهدايا في الحج فمتواتر عنهم، وأما العقيقة فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: (كانوا في الجاهلية إذا عقّوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوا مكان الدم خلوقاً) إهـ. وكذلك لأبي داود و الحاكم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنّا في الجاهلية) فذكر نحو حديث عائشة قال: (فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه(116/214)
ونلطخه بزعفران) إهـ. ولهذا كره جمهور العلماء التدمية للمولود، واستحبّها آخرون(وانظر الفتح9/741). ومن ذبائحهم التي أقرّهم الإسلام عليها الفرع والعتيرة. والفرع: هو أول نتاج الإبل والغنم، أو إذا بلغت سائمة الرجل مائة ذبح منها واحدة رجاء البركة من الله. والعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها قي رجب، وهي كالأضحية في ذي الحجة. أخرج أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع قال: الفرع حق، وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو ابن لبون فتحمل عليه في سبيل الله أو تعطيه أرملة خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره وتُولِّهَ ناقتك) إهـ. حسّنه الألباني في إرواء الغليل(1181). وللحاكم عن أبي هريرة من قوله: "الفرعة حق؛ ولا تذبحها وهي تلصق في يدك ولكن أمكنها من اللبن حتى إذا كانت من خيار المال فاذبحها"إهـ. قال الحافظ في الفتح(9/745): "قال الشافعي فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه: الفرع شيءٌ كان أهل الجاهلية يذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحباباً أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله. وقوله: (حق) أي ليس باطل، وهو كلام خرج على جواب السائل، ولا مخالفة بينه وبين الحديث الأخر "لا فرع ولا عتيرة" فإن معناه: لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقال النووي: نص الشافعي على أن الفرع والعتيرة مستحبان" اهـ. وقد أخرج أبو داود وابن ماجه وصححه عن نبيشة قال: "نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتِّر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان. قال: إنا كنا نفرع في الجاهلية. قال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير" وفي روايه أبي داود: "السائمة مئة"اهـ ولكن أخرج(116/215)
البيهقي بسند صحيح عن عائشة: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة في كل خمسين واحدة"اهـ. وأخرج أصحاب السنن(وحسّنه الترمذي) عن مخنف بن سليم قال: "كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ياأيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية"اهـ(انظر الفتح 9/746).
صلاة المشركين المبتدعة وقوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية) ومقارنتها ببدع الصوفية في الذكر(116/216)
ومن عباداتهم الصلاة. ولكنها مبتدعة. قال تعالى في سورة الأنفال:35: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية". روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عمر أنه قال: "كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون"اهـ(وانظر تفسير ابن كثير 2/307). وقد ورد تفسيران للمكاء والتصدية وأنهم كانوا يفعلون ذلك وهم يطوفون البيت. فعن ابن عباس: كان ذلك عبادة في ظنهم، والمكاء الصفير والتصدية التصفيق، وعن قتادة قال: المكاء ضرب بالأيدي والتصدية صياح. قال القرطبي: وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. اهـ وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل اهـ. وكان الحنفاء منهم وبعض المشركين يسجدون على راحات أيديهم، كزيد بن عمرو بن نفيل كما في سيرة ابن هشام(1/225). ولا زال الصوفية يسجدون على أيدي شيوخهم فتجد أحدهم ينحني فيقبل يد شيخه ثم يضع عليها جبهته ساجداً تعظيماً له دون أن يشعروا أن السجود لا يجوز إلا لله فضلاً عن أن سجودهم هذا من بقايا عيادات المشركين. ولكن ثبت أن المشركين ربما سجدوا على الأرض أحياناً، ففي البخاري(3972) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ والنجم فسجد بها وسجد مَنْ معه غير أن شيخاً أخذ كفاً من تراب فرفعه إلى جبهته فقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً" قلت: هو أمية بن خلف كما في رواية أخرى للبخاري. وكان هذا السجود بمكة فقد روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فسجد وسجد مَنْ عنده) وكانت هذه السورة أوّلَ سورة استعلن بها رسول الله صلى الله(116/217)
عليه وسلم وأول سورة قرأها على الناس(انظر فتح الباري 8/791). وفي صحيح البخاري أيضاً(1071) عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والأنس". اهـ. ولكن بعض حنفائهم ربما اجتهد فصلّى لله كأبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم برقم(4520) عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: يا ابن أخي صلّيتُ سنتين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلتُ: فأين كنتَ توجَّهُ؟ قال: حيث وجَّهني الله واقتص الحديث. وفي رواية أخرى: صليتُ يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاث سنين. قلتُ: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجَّهُ حيث يوجهني ربي أصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيتُ كأني خفاء(أي كساء) حتى تعلوني الشمس.اهـ
الخلوات عند المشركين والصوفية
وكان العرب في الجاهلية يَخْتَلُون في أماكن بعيدة عن العمران يعبدون الله فيها ويتحنّثون الليالي ذوات العدد، ومن أشهر هذه الأماكن عندهم غار حراء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي أول ما جاءه في هذا الغار حين كان مختلياً فيه يتحنث على عادة قومه، قال ابن هشام في السيرة(1/235): "قال ابن اسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير الليثي: حدِّثْنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عبيد-وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنّثُ به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر. قال ابن إسحاق: وقال أبوطالب:
وثَوْرٍ ومَنْ أرسى ثبيراً مكانه ... وراقٍ ليرقى في حراء ونازل"اهـ(116/218)
فلما جاء الإسلام ألغى هذه الخلوات، وصارت من نسك الجاهلية، فلم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلى بعد أن بعثه الله عزّ وجل ولم يختلِ أصحابه أيضاً ولم يكن هذا من شأنهم، ولم يختل التابعون ولا تابعوهم، وإنما حدثت هذه الخلوات المبتدعة عند الصوفية المتأخرين اتِّباعاً لسنن المشركين وزادوا عليها أشياء أدخلوها في هذه الخلوات نقلوها عن الأمم الضالة كالبوذية والنصرانية، ثم إن هدفهم منها هو بذاته ضلالٌ بعيد إذ الغاية عندهم من هذه الخلوات تَجَلِّي الله عليهم ومشاهدتهم له بالعين المجردة وتلقِّي الأمر والوحي عنه كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه الوحي لما كان مختلياً لكن الذي جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل الملَك وهم يطمعون بمشاهدة الله رأساً دون وساطة، واعتقدوا أن هذا الأمر يتأتى لهم بشيء من المجاهدات وتعذيب الجسد كالجوع والسهر والسكوت ومنع النور والهواء. ويتخلل الخلوة ويرافقها دائماً الشرك بالله فكل صوفي مختل ينبغي عليه أن يتصور شيخه بين عينيه ويربط به قلبه ويستغيث به من دون الله ويستمد منه طيلة فترة الخلوة حتى يتجلَّى الله عليه. وهذا في كافة الطرق الصوفية. يقول محمد أمين الكردي -لسان حال الطريقة النقشبندية- في كتابه تنوير القلوب: "اعلم أنه لا يمكن الوصول لمشاهدة المحبوب(يعني الله) إلا بالخلوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلّى بغار حراء حتى جاءه الأمر"اهـ من صـ524 فالغاية إذاً من الخلوة عند النقشبندية مشاهدة المحبوب كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختلى حتى أتاه الوحي. وفي كتاب الطريقة القادرية(الفيوضات الربانية صـ73) يوصى المريد إذا تجلى الله عليه في الخلوة بما يلي: "فإذا تجلَّى له في خلوته صورة وقالت له أنا الله فليقل في جوابها سبحان الله بل أنت بالله فإنها تنطمس إن كانت للابتلاء فإنْ ثبت صحّ أنه التجلِّي الإلهي" اهـ. ومن شروط الخلوة عند(116/219)
النقشبندية: 1-تقديمه عليها العزلة وتعوُّد السهر والجوع بحيث تألف نفسه هذه الأشياء قبل دخوله. 2-أن يقول حين دخوله: اللهم كن لي كما كنت لمحمد صلى الله عليه وسلم !!. وهذا اعتداء كبير في الدعاء، فلا يجوز للمسلم أن يسأل ربه أن يكون له كما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فالنبوة لا تأتى لأحد من بعده صلى الله عليه وسلم. وواضح من قوله(كن لي كما كنت لمحمد) أنه يقصد أن يتجلى عليه ويوحي إليه كما أوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم 3-أن يقول عند دخوله في الخلوة: اللهم امح نفسي بجذبات ذاتك. وتفوح من هذه الألفاظ رائحة عقيدة وحدة الوجود الضالة. 4 –أن لا يسند ظهره إلى جدار ما دام في الخلوة. 5-أن لا ينام إلا عن غلبة نوم ولا ينام لراحة البدن بل إن قدر أن لا يضع جنبه على الأرض وينام جالساً فعل. (وهذان البندان مأخوذن عن البوذية والهندوسية وما يسمى باليوغا). 6-السكوت(وهو من نسك الجاهلية). 7-أن يلازم صورة شيخه بين عينيه. وهذا شرك 8-أن يرى كل نعمة حصلت له إنما هي من شيخه(وهذا كفر صريح. قال تعالى: وما بكم من نعمةٍ فمن الله)9-أن لا يفتح الباب لمن يريد التبرك به إلا لشيخه. 10 -إذا خرج لضرورة غطى رأسه إلى رقبته ناظراً إلى الأرض. (انظر تنوير القلوب 525). وتكون مدة هذه الخلوة غالباً أربعين يوماً. ومن شروطها أيضاً كما في(الفيوضات الربانية) للقادري: "يصوم النهار ويسير الليل ولا رخصة له بالنوم ويجتهد في طرد النوم بالقيام والمشي وفي أول الأربعين يفطر على ربع المقدار الذي يعتاده أولاً ويؤخر ثلاثة أرباع للسحور إلى عشرة أيام ثم أول العشرة الثانية ينقص الربع إلى سبعة أيام فإذا بقي ثلاثة أيام طوى الثلاثة لا يأكل طعاماً إلا أنه يفطر على الماء القليل ومن الآداب أن لا يكلم أحداً فإن احتاج إلى خطاب الخادم فليفهمه بالإشارة أو بالكتابة وإذا خرج إلى الوضوء فليغطِ رأسه عن الهو اء ويسدّ(في مكان الخلوة) كل ما يدخل منه النور(116/220)
ويستر الباب إن احتاج إلى الستر لئلا يدخل النور. ويكون بعيداً عن الأصوات فإن لم يجد مكاناً بين السكان بعيداً عن الأصوات فليسدّ أذنيه بغطاء وعند الذكر يغمض عينيه ويكون ابتداء الخلوة من أول حلول الشمس في برج الجدي (وهو أول الشتاء) اهـ من الفيوضات الربانية/74/. إذاً فالقوم لا يحبون النور. وإنما يعيشون في ظلمة دامسة طامسة. بل لا يحبون الهواء فإذا خرجوا غطوا رؤوسهم منه، ولايحبون سماع الأصوات فإذا سمعوها سدوا آذانهم بالقطن وجعلوا أصابعهم فيها واستغشوا ثيابهم! فهل هذا من دين الإسلام؟ أم من دين الظلام؟ ومن شروط الخلوة أن لا يأكل اللحم(كما في الوثنية الهندية) وأن لا يقرب النساء(كما في رهبنة النصارى) المعارف المحمدية للصيادي صـ63/. ومن الشروط الهامة أن يشرك بالله فيستغيث بشيخه الميت أو الغائب عند دخول ظلام الخلوة الحالك وعند خروجه من هذه المهالك وفيما بين ذلك فيقول الرفاعي -مثلاً- عند دخول الخلوة: "دستور يا أنبياء، دستور يا أولياء، دستور يا سيدي أحمد يا أبا العلمين مدد"(المرجع السابق). ومن الشروط أن يذكر المختلي أذكاراً مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان فذكر الرفاعي في اليوم الثاني -مثلاً-: "اللهم اسقني من خمر المشاهدة"(قلادة الجواهر للصيادي 288) والطعام خلال الأربعين يوماً على قلته يكون من صنف معين، فبينما هو ماء وتمرات معدودات طيلة الخلوة عند بعض الصوفية تجده عند آخرين حبة حمص واحدة فقط لكل يوم، وعند الرفاعية: "يكون فطوره في الأربعين يوماً على خبز الشعير وماء السكر واللوز"انظر المعارف المحمدية125 للصيادي الرفاعي. وقدمنا أن الصيادي هذا شيخ السلطان العثماني عبد الحميد. ثم مع هذا يتساءل الناس عن سبب زوال ملك العثمانيين؟!!. وقد اعترف أبو حامد الغزالي في كتابه(إحياء علوم الدين) أن الخلوات من شأن رهبان النصارى ورهبان الأمم الضالة السابقة فقال: "ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السابقة(116/221)
عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة"انظر الإحياء 1/266. ولكن فات أبا حامد أن الإسلام متميز عن كل الملل وأنه ناسخ لما عداه وفاته أن لا رهبانية في الإسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذمّ الرهبنة ونهى عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة) رواه الطبراني، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبويعلى وصححه الألباني في الصحيحة. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري والنسائي. وفات أبا حامد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) رواه أبويعلى ورواه أحمد بنحوه. وقال صلوات الله وسلامه عليه: (عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام) رواه أحمد. ولذلك لما فات أبا حامد هذا لم يجعل في كتابه(الإحياء) باباً عن الجهاد ولم يحتفل به ويلتفت إليه البته بينما تجده لم يغفل أن يضع في كتابه كثيراً من الجمل التافهة الضالة بل المكفرة لمن اعتقد ببعضها مثل قوله في الجزء الرابع صـ356: (لئن رأيت أبا يزيد مرة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة). وقوله: (قوم رأو ا الله سبحانه وحده ثم رأوا الأشياء به فلم يروا في الدارين غيره ولا اطلعوا في الوجود على سواه)ج5/صـ30 وهذه أخذها من مشكاة وحدة الوجود. وقوله في أداب الخلوة: (ويخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا بتأمل في تفسير ولا يكتب حديثاً)؟!!(انظر الإحياء 3/19) ولذلك أنكر عليه علماء عصره ومن بعدهم وأحرق كتابه هذا لما ورد قرطبة حاضرة الأندلس بإجماع من علمائها. ثم متى كان التوحش حسناً(116/222)
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) ؟ رواه أحمد والترمذي وغيرهم. ولهذا لم يعتزل النبي صلى الله عليه وسلم طيلة فترة نبوته ولم يختل هذه الخلوات المبتدعة وهو القائل: (من رغب عن سنتي فليس مني). ومن هنا فليست هذه الخلوات من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أُثرت عن الصحابة ولا التابعين ولا هي من سبيل المؤمنين. وقد أبدلنا الله في الإسلام خيراً من الخلوات المبتدعة، فشرع لنا الاعتكاف في المساجد فقط دون غيرها لقوله(2: 187): "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" فقيَّد الاعتكاف بالمساجد، بل ورد ما يقيد هذه الآية بالمساجد الثلاثة فقط وهي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وممن ذهب إلى ذلك حذيفة بن اليمان من الصحابة وغيره.وفي هذا الاعتكاف يستحب له أن يكثر من تلاوة القرآن وذكر الله وغيرها من القربات كمدارسة العلم وتعلمه وتعليمه(1) ولا يخفى أن هذا الاعتكاف مختلِفٌ عن الخلوات المبتدعة التي أُخذت شروطها من غير ملة الإسلام كما بينا آنفاً، ويكفيك على ذلك أن أهم شرط لديهم أن تكون الخلوة بعيداً عن العمران وبعيداً عن المساجد التي لا يصح الاعتكاف إلا فيها.
اعتكاف المشركين في الكعبة تعبداً وحديث عمر في ذلك
__________
(1) قالت عائشة رضي الله عنها: (السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لا بد منها ولا يعود مريضاً، ولا يمس امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، والسنة فيمن اعتكف أن يصوم). رواه البيهقي بسند صحيح، وأبو داود بسند حسن.(انظر الإرواء/966/للألباني)(116/223)
على أن مشركي العرب في الجاهلية كانوا يعتكفون في المسجد الحرام وأقرهم الإسلام على ذلك فقد صح في البخاري(4/237) ومسلم(1656) أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يارسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام؟ قال: فأو فِ بنذرك فاعتكَفَ ليلة.."إهـ.
صلاة المشركين على موتاهم وقيامهم للجنازة
وكان مشركو الجاهلية يصلون على الميت -بصورة الدعاء- بعد غسله وتكفينه، قال الشهرستاني: "وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم. قال الأفوه الأودي:
ألا عللاني واعلما أنني غرر
وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت
وجاءوا بماء بارد يغسلونني
جج ... فما قلت ينجيني الشقاق ولا الحذر
أو صالي وقد شخص البصر
فيا لك من غسل سيتبعه كبر
وكانوا يكفنون موتاهم ويصلون عليهم، وكانت صلاتهم إذا مات الرجل حُمل على سريره، ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله وبركاته. وقال رجل من كلب في الجاهلية لابن ابنٍ له:
أعمرو إن هلكت وكنت حياً
وأجعل نصف مالي لابن سامٍ
ج ... فإني مكثر لك في صلاتي(أي دعائي)
حياتي إن حييت وفي مماتي
ج
"اهـ. انظر الملل 2/249. قلت: وكانوا يقومون للجنازة إذا رأوها، ففي صحيح البخاري(برقم 3837) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها "كنت في أهلك ما أنت مرتين"اهـ. وهذا القيام للجنازة مما أقره الإسلام أولاً ثم نسخ بعد ذلك على خلاف بين العلماء فمنهم المجوز له ومنهم الكاره ومنهم المستحب بل نُقل عن بعضهم الوجوب.
صدقات المشركين في الجاهلية وقوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) ومقارنتها ببعض أحوال الصوفية(116/224)
أما الصدقات فقد صارت عند أهل الجاهلية مبتدعة، وهي أشبه بالأوقاف منها بحق المال وإذا ما جعلوا لله جزءاً من الزرع أو الأنعام فإنهم يجعلون لأوثانهم وأوليائهم أكثر منه. ونصيب أوثانهم في كل الأحوال مقدم على الحق الله. قال تعالى في سورة الأنعام/136: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون"(1) وقد دأب بعض الضالين من هذه الأمة على مجاراة المشركين ومضاهأتهم، فتجد أحدهم
__________
(1) في هذه الآية ظاهرٌ إخلاصهم لله في التصدق لله بجزء من أموالهم ولكن لما أشركوا به سبحانه أحبط عملهم. فالكافر والمشرك قد يخلص أحياناً بعض الأعمال لله ولكن لما كان ملتزماً للشرك فإن عمله حابط ولا ينفعه في الآخرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه(5022): "إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنةٌ يُجزى بها"إه. ففي هذا الحديث الصحيح أن الكافر قد يفعل بعض الحسنات قاصداً بها وجه الله ولكنه لكفره وشركه لا ينتفع بهذه الحسنات في الآخرة. وهذا الحديث حجة وأصل فيما قررناه من أن الكفر والشرك ليس معناه عدم الإيمان بوجود الله وربوبيته-كما قد يفهمه بعض الناس- وإنما هو الإتيان بنواقض التوحيد والإخلاص لله كصرف العبادة لغيره سبحانه فإذا أطلق الشرك والكفر عُني به هذا. ومن الأدلة على أنهم كانوا يتصدقون في الجاهلية يطلبون بذلك الأجر من الله ما رواه البخاري في صحيحه(برقم1346) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنّث بها في الجاهلية من صدقةٍ أو عتاقة وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما سلف من خير"إه.(116/225)
يسمي جزءاً من ماشيته للشيخ الفلاني حياً كان أو ميتاً أو يوقف شيئاً من زرعه أو ماله لسدنة قبته تذللاً له لنيل رضاه أو لكفِّ بلاه، وربما جعلوا حول قبره ووثنه حرماً لا يعتضد شوكه ولا يختلى خلاه.
صيام المشركين لعاشوراء وصوم الصمت عندهم وعند الصوفية
أما الصيام فكانوا يعرفونه، فيصومون -مثلاً- يوم عاشوراء، روى البخاري(3831) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان من شاء صامه ومن شاء لا يصومه"إه. وكان لديهم نوع آخر من الصيام، صار الآن محرماً، وهو السكوت عن الكلام مدة من الوقت، يوماً أو ليلة أو أكثر ففي صحيح البخاري(3834): "دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة. قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت"اهـ. وروى أبو داود بسند حسن عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل". قال الخطابي في شرحه: "كان من نسك أهل الجاهلية الصمت فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت فنُهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير"اهـ. . ولعل صوم الصمت كان مشروعاً في الأمم السابقة كقول مريم: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) ثم نسخ في دين الإسلام. قال ابن قدامة في المغني : ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار بتحريمه"اهـ. فما تفعله بعض الدول والأحزاب من الوقوف دقيقة صمت هو من أعمال الجاهلية ومن نسك وعبادات الكفار فليحذر المسلم من فعل ذلك، ومن تكثير سواد فاعليه. وللأسف الشديد تجد الصوفية تبعوا المشركين حتى في هذه؛ فمن الطقوس المتبعة لديهم الصمت في الخلوات وفي بعض الأوقات لا سيما أول دخول الطريقة كما هو الحال لدى الخزنوية(116/226)
النقشبندية(في الجزيرة السورية) فبعد أن يبايع الشيخ وفق صيغة معروفة لديهم يؤمر السالك الجديد بالسكوت يوماً أو ليلة، فربما تسبب ذلك في مشاكل أسرية لا تحمد عقباها، ولقد بلغني أن رجلاً من تلك النواحي جاء من عمله مجهداً فكلم زوجته كثيراً وهي معرضة فلما رآها ساكتة لا ترد عليه همّ بضربها وحصل بينهما شر حتى أُخبر أنها ساكتة تعبداً بأمر الشيخ الخزنوي الصوفي.
الحج عند أهل الجاهلية
ومن أشهر عبادات أهل الجاهلية الحج وهو عنهم متواتر. قال الشهرستاني: "وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون. قال زهير: وكم بالقيان من محل ومحرم. ويطوفون بالبيت سبعاً. ويمسحون الحجر ويسعون بين الصفا والمروة. قال أبو طالب:
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورةٍ وتخايل
ج
وكانوا يلبُّون، إلا أن بعضهم(قريش) كان يشرك في تلبيته في قوله: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ويقفون المواقف كلها، قال العدوي:
فأقسم بالذي حجت قريش
جججج ... وموقف ذي الحجيج على اللآلي
ج
وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها...وكانوا يكرهون الظلم في الحرم وقالت امرأة منهم تنهى ابنها عن الظلم:
أَبُنَيَّ لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
ج ... أبني من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور
جج(116/227)
(انظر الملل والنحل 2/247). قلت: ويُذكر هنا حلف الفضول الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية بمكة في دار عبد الله بن جدعان ومدحه بعد ذلك قائلاً:(شهدت حلف المطيَّبين مع عمومي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النَّعم وأني أنكثه) رواه أحمد برقم"1567". قال الحافظ في الفتح عند شرح حديث(5619): "وحلف المطيَّبين كان قبل المبعث بمدة. ذكره ابن إسحاق وغيره وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خِلال واستمر ذلك بعد المبعث"اهـ.وكانوا إذا أحرموا بالحج اعتزلوا النساء ماداموا محرمين. قال النابغة الذبياني:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا
مشمرين على خوص مزنمة ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
نرجو الإله ونرجو البر والطعما.
ج
الدين هنا الحج، أي أنهم عزموا على الحج محرمين قاصدين البيت الحرام، ولا يخفى أنهم ورثوا الحج عن دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
بعض الشرائع الصحيحة عند مشركي العرب في الجاهلية
وكان عند العرب سنن وشرائع صحيحة أقرها الإسلام، فمن ذلك أن بعضهم كان يحرم الخمر على نفسه كعامر بن الظرب العدواني، وهو القائل:
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
جج ... حتى يفرق ترب الأرض أوصالي
ج
أي لا أسقيها ولا أشربها ما دمت حياً. وممن كان حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: أبو بكر وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما أخرج الفاكهي بسند البخاري كما في فتح الباري(7/328) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الحاهلية"إهومنهم قيس بن عاصم التميمي، وصفوان بن محرث الكناني، وعفيف بن معدي كرب الكندي، وقالوا فيها أشعاراً. وكان بعضهم يحرم على نفسه الزنا قال الأسلوم اليالي وقد حرم الخمر والزنا على نفسه:
وتركت شرب الراح وهي أثيرة
جج ... والمومسات وترك ذلك أشرف
ج(116/228)
وقد ذكر ابن حبيب في"المُحَبَّرصـ238"أن زهير بن أبي سلمى ممن حرموا على أنفسهم في الجاهلية الخمر والأزلام. ونقل الشهرستاني في كتابه أن العرب في جاهليتهم "كانت تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها كانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا العمات ولا الخالات(1) وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين أو يختلف إلى امرأة أبيه وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيزن. قال أوس بن حجر التميمي يعير قوماً من بني قيس بن ثعلبة تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة، واحداً بعد الأخر(بعد موت أبيهم):
والفارسية فيكم غير منكرة
جج ... وكلكم لأبيه ضيزن سلف
قال: وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها أو بعض بني عمها(قلت: وأكثر نكاح الجاهلية صحيح أقره الإسلام عدا الشغار والزنا). قال: وكانوا يطلقون ثلاثاً على التفرقة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أول من طلّق ثلاثاً على التفرقة إسماعيل عليه السلام. وكان العرب يفعلون ذلك فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها ومنه قول الأعمش حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه فأتوه فهددوه بالضرب أو يطلقها:
أيا جارتي بِيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قالوا ثنّه، فقال:
وبيني فإن البين خير من العصا ... وأن لا تري لي فوق رأسك بارقه
قالوا: ثلث، فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة قد كنت فينا ووامقه
__________
(1) روى ابن جرير بسند صحيح وذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة النساء: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) الآية عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا= =امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)(وأن تجمعوا بين الأختين) قال الشيخ مقبل الوادعي في تحقيق تفسير ابن كثير(2/192):حديث صحيح.(116/229)
قال: وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابتلي بها ابراهيم عليه السلام فإنهن خمس في الرأس وخمس في الجسد فأما اللواتي في الرأس: فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك وأما اللواتي في الجسد: فالاستنجاء وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان. فلما جاء الإسلام قررها سنة من السنن، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانت ملوك اليمن وملوك الحيرة يصلبون الرجل إذا قطع الطريق، وكانوا يوفون بالعهود ويكرمون الجار ويكرمون الضيف. قال حاتم الطائي:
إلههم ربي وربي إلههم
ج ... فأقسمت لا أرسو ولا أتعذر
ج
"إهـ من(الملل والنحل2- 249). ومن الأشياء التي كانت عند أهل الجاهلية ثم أقرها الإسلام وحكم بها: القَسامة، وهي أن يحلف خمسون رجلاً من أولياء القتيل-عند عدم وجود البينة- على اتهام مشتبه به من قبيلة أو قرية أو مُعَيَّن فيستحقون القود أو الدية. أو أن يحلف خمسون من أولياء المتهم(أو المتهمين) على البراءة فتبرأ ساحتهم. ففي صحيح مسلم عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ماكانت عليه من الجاهلية وقضى بها"الحديث. وانظر فتح الباري12/283الحديث6899 وكذلك الحديث3845. ثم إن الدية وهي مئة من الإبل مما كان عند العرب قبل وأقرها الإسلام.
زِي العرب هو زِي المسلمين إلى قيام الساعة(116/230)
ومن الأشياء التي ورثوها عن نبيهم إسماعيل عليه السلام الزِي واللباس فلما جاء الإسلام أقرهم، وجعل لباس العرب لباساً للمسلمين إلى قيام الساعة، حتى يتميزوا عمن سواهم من الأمم الضالة، ولهذا كان من سنن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحث على الالتزام بزي العرب عند أن كثرت الفتوحات واختلط المسلمون الأعاجم . فقد كتب رضي الله عنه يوصي مَنْ بأذربيجان من المسلمين: "فأتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف وألقوا السراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعُّم وزي العجم". أخرجه علي بن الجعد في مسنده(1030) وأبو عوانة(5/456) بإسناد صحيح. وأصل الحديث في البخاري (5828). ولا يخفى أن التقيد بلباس العرب من الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو من المباحات -كما يزعم مقلدو أوربا المنهزمون ممن يلبس البنطال والكرافت- وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم". أخرجه أبو داود(4/44) وغيره، وهو صحيح. وقد رضي الله لنبيه والمسلمين زي العرب كما رضي لهم لغتهم، فمن الحديث السابق ومن أمر عمر الخليفة الراشد الذي أمرنا باتباع سنته يؤخذ إلزام المسلمين بزي العرب -رجالاً ونساء- وقد كان غير المسلمين من أهل الذمة في عهد عمر والخلفاء بعده -لهم زي يختلف عن زي المسلمين حتى يعرفوا فيذلوا فيلجؤوا إلى أضيق الطريق، ولا يبدؤوا بالسلام ونحوها من شروط أُخذت عليهم، وكان لنسائهم زي غير زي نساء المسلمين. ولباس المسلمين هو عمامة ومعها إما قميص أو رداء وإزار (حلّة) وربما لبسوا الجبة الشامية إذ هي من لباسهم والبردة وغير ذلك مما هو مختص بهم أو عادتهم لبسه.ومن الأدلة الحاسمة على أن زي العرب سيبقى زي المسلمين إلى قيام الساعة هو أن نبي الله عيسى عليه السلام عندما ينزل من السماء في آخر الزمان يكون لابساً لباس العرب ولا يكون لابساً لباس غيرهم من الأمم كبنطالٍ أو كرافيت ونحوه ففي قصة(116/231)
نزوله في صحيح مسلم (برقم5228) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فينزل-أي عيسى- عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين واضعاً كفَّيه على أجنحة ملَكين" الحديث. قال النووي في شرحه: (لابس مهرودتين أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان، والشقة نصف الملاءة)اهـ. ولا يفوتني هنا التنبيه على أن ما يسمى العمامة التي يلبسها الفقهاء في الشام ومصر الآن ويكوِّرونها فوق آذانهم(1) هي بدعة ابتدعها أحد الملوك المتأخرين ليتميز العلماء عن العوام -زعم- اتباعاً لسبيل اليهود والنصارى وتقليداً لهم، وهذه ليست من عمائم العرب بل هي من عمائم العجم الذين نُهينا عن التشبه بهم كما مر معك في حديث عمر رضي الله عنه، وعمائم العرب هي ما عمَّ الرأس وكانت مُحَنَّكَة أي مدارة تحت الحنك وإذا كانت كذلك فيجوز المسح عليها دون نزعها كما هو معروف في كتب الفقه، أما هذه العمائم المقتعطة فلا يجوز المسح عليها كما نص عليه الفقهاء لأنها لا تعم الرأس فلا تغطِّي الأذنين ولا يمكن التلحي بها ولا إدارتها تحت الحنك، فكفى بها رزية أنها حرمت لابسها من سنة المسح على العمامة. وممن نص على كراهة هذه العمائم المبتدعة الإمام أحمد رحمه الله وفي متون الحنابلة:
وعمّة مخلٍّ حلْقَه من تحنُّكِ ... مكروهة لدى أحمد بتأكُّدِ
__________
(1) لقد أخذ الأوروبيون من واقع حياة اليهود مثلاً يقول: (المسوح هي التي تصنع الراهب) فالعمائم والجبب هي التي تصنع الشيوخ عندنا اقتداءً بالحاخامات والكهنة اليهود. راجع بتوسع= =مجلة الفيصل العدد/233/عام1996صفحة19–20–21–22-23.(116/232)
والعمامة التي كان يعتم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هي ما تسمى اليوم بالكوفية أو الشماغ أو المحرمة أو الحطة التي لا زال أهل البادية يلبسونها، ويلبسها كذلك أهل جزيرة العرب وهي تختلف عن اللفَّة (العمامة المبتدعة) التي يلبسها الفقهاء في الشام ومصر وبلاد العجم التي ورثوها عن الدولة المملوكية ثم العثمانية. فلا هي عمامة ولا هي قلنسوة. أما العذَبة المصطنعة التي يصلونها باللفة فليست مشروعة ولا تغني عن العمامة الشرعية التي كان يلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرخي طرفيها بين منكبيه كما في صحيح مسلم عن عمر بن حريث قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفيها بين منكبيه). فاللفة ليست هي العمامة المقصودة التي تعم كل الرأس وتزيد فتتدلى أطرافها بين المنكبين أو على الصدر.قال ابن الأثير في النهاية: ( الاقتعاط : أن لا يجعل تحت الحنك من العمامة شيء ، والتلحي: جعل بعض العمامة تحت الحنك ) إه قال الجوهري في الصحاح: (الاقتعاط: شد العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك، والتلحي: تطويف العمامة تحت الحنك )إهوروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط. رواه أبو عبيد. وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنَّكه بكور منها وقال: ما هذه الفاسقية. انظر المغني (1/220) وقال الامام أبو بكر الطرطوشي: (اقتعاط العمائم: هو التعميم دون حنك، وهو بدعة منكرة، وقد فشت في بلاد الإسلام ) إه.وقال ابن حبيب في الواضحة: (إن ترك الالتحاء من بقايا عمائم قوم لوط ) إه. وقال مالك: ( أدركت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين محنكاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان أميناً)إه. وقال القاضي عبد الوهاب في كتاب (المعونة ): (ومن المكروه ما يخالف زي العرب، وأشبه زي العجم، كالتعمم بغير حنك) إه.وقال القرافي: (ما(116/233)
أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكاً، وقد روى التحنك عن جماعة من السلف، وروي النهي عن الاقتعاط عن جماعة منهم، وكان طاووس ومجاهد يقولان: إن الاقتعاط عمامة الشيطان) إه.وكان من عادة العرب التلثم والتقنُّع بالعمامة، قال الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته المشهورة لما ورد العراق (وكان قد أدرك بعض الصحابة):
أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
ج ... متى أضع العمامة تعرفوني
ج
ومن هنا كُره للمصلي أن يتلثم في صلاته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطيَ الرجل فاه. أخرجه ابن خزيمة (1/379) وأبو داوود(1/174) والترمذي وهو صحيح، وكذلك كره ابن عمر التلثم في الصلاة. وانظر المغني(1/419). فلو لم تكن عمائمهم تدار تحت الحنك -كالتي يلبسها الأعراب الآن- ما كان لهذا النهي معنى! وهي قطعاً غير عمائم فقهاء الشام والعجم هذه الأيام كما هو ظاهر، فالمأمور به في الصلاة أن تدار تحت الحنك فقط ولا يتلثم بها لئلا تغطي الفم. ومنه تعلم أن ما يفعله –كذلك- جماعة التبليغ من لف قطعة قماش على رؤوسهم دون التلحي بها وزعْم ذلك من السنة ما هو إلا جهل وغفلةٌ منهم عن السنة وتقليد لشيوخهم الأعاجم في الهند. قال الشاعر يمدح بعض العرب:
إذا لبسوا عمائمهم طوَوْها
ج ... على كَرَمٍ وإنْ سَفَروا أناروا(116/234)
أي أن من عادة الكرام التلثم والتقنع بالعمامة فإذا ما أرخوا هذه العمائم أسفروا عن وجوه بيض جميلة. ولهذا قال الجاحظ في البيان والتبيين( صـ436): (والقناع من سيما الرؤساء، وكان من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع وفي أسواق العرب كأيام عكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك التقنع، والمقنع الكندي الشاعر كان الدهر مقنعاً. قال والدليل على أن القناع من سيما الرؤساء، والشاهد الصادق، والحجة القاطعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكاد يرى إلا مقنعاً). اهـ كلام الجاحظ. وعندما ذكر البخاري في صحيحه في كتاب اللباس -باب العمائم- لم يذكر إلا التقنع فقال: باب التقنع ثم ذكر بسنده عن عائشة حديث الهجرة وفيه: (فبينما نحن يوماً جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً) الحديث. ثم ذكر الحافظ في الفتح عند شرح الحديث أنه على تقدير أن يؤخذ منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقنع إلا لحاجة. قال: يردُّ عليه حديث أنس: (كان صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع) وقد ثبت أنه قال :(من تشبه بقوم فهو منهم).
ما بقي عند مشركي الجاهلية من كلام الأنبياء دون تحريف
ومن الحكمة التي بقيت عند أهل الجاهلية من كلام الأنبياء السابقين -لا سيما إبراهيم وإسماعيل- بلفظها ولم تتغير، وأقرها الإسلام، وفيها الحث على الحياء، قولهم: (إذا لم تستحِ فافعل ما شئت). أخرج الإمام أحمد(5/405) وأبو نعيم في الحلية(4/371) وغيرهم بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آخر ما تعلّق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فافعل ما شئت". والحديث أخرجه البخاري(6120) عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحيْ فاصنع ماشئت"إه.(116/235)
شهادات بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين على إيمان العرب في الجاهلية بالله وهم مشركون
لقد تبين لنا مما أوردناه أن المشركين من العرب في الجاهلية كانوا يؤمنون بالله الخالق لا بل يثبتون له سبحانه صفات كثيرة صحيحة، ويصرفون له عبادات متنوعة، ولكنهم أساءوا الظن بالله فتوسلوا وتقربوا إليه بعبادة الأوثان والقبور والأولياء والملائكة والجن، فأشركوهم معه في العبادة مع إدخالهم البدع في دينهم وتضييعهم لمعالم ومفردات شريعة النبوة الأولى(شريعة إبراهيم وإسماعيل). فاستحقوا لذلك سخط الله. إلا أفراداً منهم -كزيد بن عمرو- ظلوا محافظين على كلمة لا إله إلا الله ومحققين لها ما استطاعوا. فنفعتهم يوماً من دهرهم. وسنذكر الآن شهادات بعض العلماء من المتقدمين والمتأخرين لتأييد ما قررناه لك من إيمان مشركي العرب بالله ونحو ذلك لتعلم مدى ضحالة عقول وفهوم أتباع الفلسفة اليونانية من المتكلمين كالأشاعرة والماتريدية وغيرهم من المبتدعة الذين حصروا التوحيد في إثبات أن الله خالق وموجود وأرهقوا أنفسهم في أمر لم يكن ينازع فيه عتاة المشركين في الجاهلية، وكان الأَولى بهم أن يصرفوا عنايتهم في تحقيق معنى لا إله إلا الله وإفراد الله بالعبادة والدعوة إلى ذلك مما تمس حاجة البشر إليه، وأنزل الله كتبه، وأرسل نبيه والأنبياء قبله لشأنه. أما مسألة أن الله خالق وموجود فهذه لا يكاد ينازع فيها أحد من الكفار السابقين واللاحقين، لأن الله جبل الناس جميعاً على أنه ربهم وأخذ عليهم العهد بذلك(1) فكانت أكثر دعوة الأنبياء إفراد هذا الرب بالعبادة واتباع شرعه المنزل على رسله، قال تعالى في سورة الأعراف: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
__________
(1) ولكن البشر وإن كانوا بأجمعهم مقرين بوجود الله (وإن نفاه بعضهم جحوداً كفرعون وأشباهه) فإن أكثرهم عصى الله فأشرك به وخالف رسله ولم يقم بمقتضى العهد الذي أُخذ عليه في الأزل.(116/236)
ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون). يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ثم ذكر أثرين عن عباس وابن عمرو: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم مسح على ظهره، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه وكلمهم، وأخذ عليهم الميثاق وأن لا يشركوا به شيئاً كما جاء في أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما وذكرها الحافظ ابن كثير ثمّة فانظرها. وكل إنسان يولد على الفطرة حتى يُقَيض له من يصرفه إلى الباطل مثل أبويه كما ثبت في الحديث، ولعل هذه الفطرة أثر ذلك الميثاق. وأهم هذه الشهادات التي نذكرها في مسألة دين العرب في الجاهلية هي ما قاله إمام أهل السنة وخطيبهم في عصره أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري في كتابه القيم (تأويل مختلف الحديث)صـ111في رده على المبتدعة الذين زعموا التناقض في بعض الأحاديث النبوية. فنحن -للفائدة- نذكر قول المبتدعة ثم نذكر رد أبي محمد ابن قتيبة كما جاء في كتابه المذكور: "قالوا-أي المبتدعة- رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"ما كفر بالله نبي قط، وأنه بعث إليه ملكان فاستخرجا من قلبه -وهو صغير- علقة ثم غسلا قلبه، ثم رداه إلى مكانه" ثم رويتم(أي يا أهل الحديث)، أنه كان على دين قومه، أربعين سنة، وأنه زوَّج ابنتيه عتبة بن أبي لهب، وأبا العاص بن الربيع، وهما كافران. قالوا: وفي هذا تناقض واختلاف، وتنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس لأحد فيه، بنعمة الله، متعلّق ولامقال، إذا عرف معناه، لأن العرب جميعاً، من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، خلا اليمن. ولم يزالوا على(116/237)
بقايا من دين أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك حج البيت وزيارته، والختان، والنكاح، وإيقاع الطلاق، إذا كان ثلاثاً، وللزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين، ودية النفس، مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، واتباع الحكم في المبال في الخنثى، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر والنسب، وهذه أمور مشهورة عنهم. وكانوا -مع ذلك- يؤمنون بالملكين الكاتبين . قال الأعشى، وهو جاهلي:
فلا تحسبنِّي كافراً لك نعمة
... على شاهدي ياشاهد الله فاشهد
يريد: على لساني، ياملَك الله، فاشهد بما أقول. ويؤمن بعضهم بالبعث والحساب؛ قال زهير بن أبي سلمى وهو جاهلي لم يلحق الإسلام في قصيدته المشهورة التي تعد من السبع:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ج ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
وكانوا يقولون في البلية، وهي الناقة تُعقل عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت"إن صاحبها يجيء يوم القيامة راكبها، وإن لم يفعل أولياؤه ذلك بعده، جاء حافياً راجلاً" وقد ذكرها أبو زبيد فقال:
كالبلايا رؤوسها في الولايا ... ماناحات السموم حرّ الخدود
ج
والولايا: البراذع. وكانوا يقوِّرون البرذعة، ويدخلونها في عنق تلك الناقة. وقال النابعة:
مَحلَّتُهم ذات الإله ودينهم
ج ... قويم فما يرجون غير العواقب(116/238)
يريد الجزاء بأعمالهم، ومحلتهم الشام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين قومه يراد على ما كانوا عليه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعهم في الختان، والغسل، والحج، والمعرفة بالبعث، والقيامة والجزاء، وكان -مع هذا- لا يقرب الأوثان وقال:"بغضت إلي"غير أنه كان لا يعرف فرائض الله تعالى، والشرائع التي شرعها لعباده، على لسانه، حتى أوحي إليه. وكذلك قال تعالى(ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى) يريد: ضالاً عن تفاصيل الإيمان والإسلام وشرائعه، فهداك الله عز وجل وكذا قوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) يريد: ما كنت تدري ما القرآن، ولا شرائع الإيمان. ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار، لأن آباءه الذين ماتوا على الكفر والشرك، كانوا يعرفون الله تعالى، ويؤمنون به، ويحجون له، ويتخذون آلهة من دونه، يتقربون بها إليه تعالى وتقربهم فيما ذكروا منه، ويتوقَّون الظلم، ويحذرون عواقبه، ويتحالفون على أن لا نبغي على أحد، ولا نظلم. وقال عبد المطلب لملك الحبشة، حين سأله حاجته فقال: "إبل ذهبت لي" فعجب منه، كيف لم يسأله الانصراف عن البيت. فقال: إن لهذا البيت من يمنع منه" أو كما قال. فهؤلاء كانوا يقرون بالله تعالى، ويؤمنون به، فكيف لا يكون الطيب المطهر قبل الوحي، يؤمن به؟! وهذا لا يخفى على أحد ولايذهب عليه أن مراد الله تعالى في قوله(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) أن الإيمان، شرائع الإيمان. ومعنى هذا الحديث، أنه كان على بقايا دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقومه هؤلاء، لا أبو جهل وغيره، من الكفار، لأن الله تعالى حكى عن إبراهيم(فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم). وقال نوح: (إنه ليس من أهلك) يعني: ابنه، لما كان على غير دينه. وأما تزويجه ابنتيه كافرين، فهذا أيضاً من الشرائع التي كان لا يعلمها. وإنما تقبح الأشياء، بالتحريم، وتحسن بالإطلاق والتحليل. وليس في تزويجهما كافرين، قبل أن(116/239)
يحرم الله تعالى عليه إنكاح الكافرين، وقبل أن ينزل عليه الوحي، ما يلحق به كفراً بالله تعالى"اهـ.(1)
__________
(1) لقد ذهب بعض المبتدعة الشيعة (لا سيما شيعة الهند المتأخرين) أبعد من ذلك ، فأنكروا أن تكون رقية و زينب وأم كلثوم بنات النبي صلى الله عليه وسلم حقاً من زوجته خديجة. وقالوا: هن بناته بالتبني وليس حقيقة. وآخر من اجترَّ هذا الكلام المسمى عبد الحميد المهاجر الداعية الرافضي المشهور، وما ذلك إلا لينكروا هذا الفضل لعثمان ذي النورين وأبي العاص بن الربيع رضي الله عنهما. ونقول: إن إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه قبل نزول تحريم مناكحة المشركين صحيح، وهو كنكاح عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وآمنة، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : ما ولدت من سفاح.(116/240)
وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري(ت310هـ) في تفسيره(1/126) عند تأويل قوله تعالى من سورة البقرة (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) ذكْر من قال عنى بهذه الآية جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين التوراة والإنجيل ثم روى بسنده عن ابن عباس: نزل في الفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين. ثم قال أبو جعفر: وإنما عنى بقوله فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون: أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه ثم روى بسنده عن قتادة في قوله (وأنتم تعلمون) أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ثم تجعلون له أنداداً. ثم روى بسنده عن مجاهد(وأنتم تعلمون) يقول وأنتم تعلمون أنه لا ندَّ له في التوراة والإنجيل. قال أبو جعفر الطبري: وأحسب أن الذي دعا مجاهداً إلى هذا التأويل وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها وإشراكها معه في العبادة غيره وإن ذلك لقول ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها فقال جل ثناؤه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. وقال: قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فالذي هو أولى بتأويل قوله وأنتم تعلمون إذ كان ما كان عند العرب بوحدانية الله وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله وأنتم تعلمون أحد الحزبين بل خرج مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم لأنه تحدى الناس كلهم بقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم(116/241)
أن يكون تأويله ما قال ابن عباس وقتادة من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره كائناً من كان من الناس عربياً أو أعجمياً كاتباً أو أمياً"إه.
وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله(ت1386هـ) في كتابه/القائد إلى تصحيح العقائد صـ143/: "كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن والسنة أولاً كغيرهم من الناس يعتقدون بعقولهم الفطرية وما توارثوه عن الشرائع أن الله عز وجل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر ولا شجر ولا كوكب ولا إنسان ولا طائر ولا جني ولا ملك ولا مخلوق من المخلوقات التي عرفوها والتي لم يعرفوها بل هو رب كل شيء وخالقه. وقد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر كله، له الأرض وما فيها، رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم إلى غير ذلك. وكانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعقلون أن الله سبحانه وتعالى ذات قائمة بنفسها، ولم يكن ذلك موجباً أن يتوهموا أنه من جنس ما يرونه ويلمسونه، ولا مماثلاً لشيء من ذلك فقد كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم وهم لا يرونها، ولا يسمعون كلامها ولا يحسون بمزاحمتها لهم، ويعلمون أن الله عز وجل أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة ما يرونه ويلمسونه، وكانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقة لا يمكن أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه لا قريباً من غيره من الذوات ولا بعيداً عنها، فكانوا يعتقدون أن الله(116/242)
سبحانه وتعالى فوق عرشه الذي فوق سماواته. ولم يكونوا إذا قيل لهم: يد الله، مثلًا ليفهموا من ذلك يداً كأيديهم، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه، مع ما قدمنا أنهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان ولا جني ولا ملك ولا مماثل لشيء من ذلك ولا لغيرها من مخلوقاته، وأنه أعلى وأجل وأكبر من ذلك كله، وأنهم كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة وأنها قد تكون بحضرتهم لا يرونها ولا يسمعون كلامها ولا يدركون لها حساً ولا أثراً ويعلمون أن الله تبارك وتعالى أعلى وأجل وأبعد من مماثلة المحسوسات، والإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثله أمكنه تصور المضاف تحقيقاً أو تقريباً يتأتى معه أن يقال: مثل، أو شبيه، فإذا كان المضاف إليه هو الله عز وجل لم يتصور من يده مثلاً إلا مايليق بعظمته وجلاله وكبريائه فلا يلزم أن تكون يده يد المخلوق ولا شبيهة بها بمقتضى لسان العرب الفطري. فينبغي استحضار هذا لئلا يُتوهم أن العرب كانوا يعتقدون أن لله عز وجل يدين يدي إنسان أو مثلهما أو يجوزون ذلك، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى: (خلقته بيدي) وقس على هذا...وليست جميع النصوص المتعلقة بالعقائد موافقة لما كان عليه العرب، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد وينكرون البعث، إلى غير ذلك مما ردّ عليهم القرآن"إهـ كلام الشيخ وهو نفيس. وقوله: العرب كانوا ينكرون البعث. فقد بيّنا أنّ من العرب مَنْ كان يؤمن بالبعث والمعاد أو بشيء من ذلك.(116/243)
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص62): "كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة، كانوا يعتقدون في الله أنه إله أعظم، خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء، فلئن سئلوا: من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم. ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الجاهلي تسع توحيد الأنبياء في خلوصه وصفائه وسموه، وما كانت أذهانهم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والمفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من البشر يتطرق إلى السماوات العلى ويحظى عند الله بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة، قياساً على هذا العالم القاصر وعاداته وأوضاع الملوكية الفاسدة ومجاري الأمور فيها فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء، وقاموا نحوهم ببعض العبادات، ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر، ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا أن لهم مماثلة ومشاركة في تدبير الكون، وقدرة ذاتية على النفع والضر، والخير والشر، والإعطاء والمنع، فإذا كان الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية الكبرى، ويكتفون بالشفعاء والأولياء كان الآخِرون يشركون آلهتهم مع الله ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الخير والشر والنفع والضر والإيجاد والإفناء مع معنى غير واضح عن الله كإله أعظم ورب الأرباب"إه.
المبشرون بالنار من أهل الجاهلية(116/244)
فقد ظهر مما سبق من الآيات البينات والأحاديث الواضحات الصحيحات والأشعار الكثيرات والنقولات المستفيضات أن الكفار من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقيت معهم أشياء صحيحة من دين إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وتبين أنهم ليسوا ممن لم يبعث لهم رسول بادئ أمرهم بل هم أصلاً على دين إسماعيل ومن أهل دعوته صلوات الله عليه، لكنهم حرَّفوا ذاك الدين وابتدعوا فيه البدع وأشركوا بالله مالم ينزل به عليهم سلطاناً(1) وهم مؤاخذون في ذلك، فمن لم يكن منهم حنيفاً فهو من أهل النار، وعليه فمن لم نعرفه منهم مبشراً بالحنة(2)
__________
(1) إن من يشرك بالله وإن كان يؤمن بوجود الله فهو الكافر، فيعدُّ الإنسان كافراً إذا ما أشرك بالله شيئاً في العقائد أو العبادات أو إذا كذّب رسل الله -أو بعضهم- أو إذا لم يؤمن بالبعث واليوم الآخر وغير ذلك من العقائد التي تحشر صاحبها في زمرة الكافرين كحال مشركي العرب وكحال أهل الكتاب ولهذا قال جل ثناؤه في شأنهم: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها"الآية. وقال في شأن أهل الكتاب خاصة: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً"الآية.
(2) قد ذكرنا من المبشرين بالجنة من عرب الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة ومن المبشرين بالجنة -كذلك- تُبَّع فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم"رواه أحمد(5/340) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(5/252) وقد كان تبع هذا على دين إبراهيم قيل أنه توفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بـ700سنة. وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: (مات عدنان وأبوه وابنه معدّ وربيعة ومضر وقيس وتميم وأسد وضبّة على الإسلام على ملة إبراهيم) وروى الزبير بن بكار من وجه آخر عن ابن عباس: (لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين) ولابن سعد من مرسل عبد الله بن خالد رفعه: "لا تسبُّوا مضر فإنه كان قد أسلم"انظر فتح الباري(6/656).(116/245)
كان من أهل النار، لأن الأصل فيهم الشرك لقوله صلى الله عليه وسلم(يعنيهم): "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" ويصدق هذا القول –إن شاء الله- على كل أهل الجاهلية بعد عصر عمرو بن لحي الخزاعي الذي بدَّل دين إبراهيم إلا مااستثناه الدليل. وقد نقل الشيخ محمد أمين الشنقيطي في أضواء البيان(2/302) عن القرافي في شرح التنقيح: الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود إه. وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم أفراداً منهم بالنار سماهم تنبيهاً على غيرهم. ومن هؤلاء المبشرين بالنار عمرو بن لحي الخزاعي، وقد مر حديثه آنفاً، وامرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار) رواه أحمد عن أبي هريرة وهو ضعيف. وقال عليه الصلاة والسلام: (امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار لأنه أول من أحكم قوافيها) رواه أبو عروبة في كتاب الأوائل وابن عساكر في تاريخه عن أبى هريرة أيضاً. ومنهم(أخو بني دعدع) الذي كان يسرق الحاج بمحجنه، وحابسة الهرة. قال صلوات الله وسلامه عليه: (اطلعت فرأيت أكثر أهلها النساء ورأيت فيها ثلاثة يعذَّبون: امرأة من حمير طوالة ربطت هرة لها لم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض فهي تنهش قبلها ودبرها، ورأيت فيها أخا بني دعدع الذي كان يسرق الحاج بمحجنه فإذا فُطن له قال إنما تعلق بمحجني) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو. ومن هؤلاء المبشرين بالنار عبد الله بن جدعان. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان -وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام- هل ينفعه ذلك؟ فقال: لا إنه لم يقل يوماً من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم (1/136). و هذا يدل على أن عبدالله بن جدعان لم يكن يؤمن بالله و اليوم الآخر ، و لم يكن حنيفاً، لأنه لم يكن يقول: (رب اغفر لي(116/246)
خطيئتي يوم الدين) الذي هو أصلاً قول إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام ولكن عبد الله ابن جدعان -على أية حال- يؤمن بوجود الله هو وأبوه بدليل أن اسمه عبد الله. وممن يلحق بالمبشرين بالنار أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وحديثهما في صحيح مسلم الأول برقم(302) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: (إن أبي وأباك في النار). وقال النووي في شرحه: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين إلخ. والحديث الآخر برقم(1621) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي). قال النووي: فيه النهي عن الاستغفار للكفارإهـ. ويشهد لهذا مارواه الحاكم في مستدركه وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال لابني مليكه:(أمكما في النار) فشقّ عليهما فدعاهما فقال: "إنَّ أمي مع أمكما" وكذا ما أخرجه أحمد في مسنده عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أين أمي؟ قال: "أمك في النار" قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: "أما تَرضى أن تكون أمك مع أمي". إهوممن يلحق بالمبشرين بالنار أيضاً عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قائلين أترغب عن ملة عبد المطلب فقال: أنا على مِلَّة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فنزل(إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء). قال العلامة ملا علي القاري: "فهذا يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك بلا شك(ومن مات على الشرك فمصيره النار) ويشهد له ما في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها وقد عزّت قوماً من الأنصار عن ميتهم: "لعلكِ بلغتِ معهم الكدى" فقال: "لو كنت بلغتِ معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك". وأما ما ورد من(116/247)
قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فمحمول على أنه ليس من باب الافتخار في الانتساب بالآباء الكفار بل لإظهار الجلادة والشجاعة والاشتهار وأما ما حكاه ابن سيد الدنيا أن الله أحياه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمن به وأسلم ثم مات فهو مردود لأنه لا دليل عليه من حديث ضعيف ولا غيره وإنما حكوه عن بعض الشيعة وخلافهم غير معتبر عند أهل السنة وكذا قول القرطبي أن الله أحيا أبا طالب حتى آمن، باطل موضوع بإجماع أهل الحديث ومخالف لمذهب الحق على أنه سبق أن لا ينفع الإيمان بعد البيان بل أقول لا يُتصور هذا البيان إذ قال الله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) ولا خلْف في أخباره سبحانه وتعالى. ثم شنَّع الملا علي القاري على السيوطي باستدلاله بحديث مكذوب رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به ثم ماتا ونقل اتفاق المحققين من علماء الحديث على وضعه قال: مع منافاته للقواعد الشرعية من عدم قبول الإيمان بعد مشاهدة الأحوال الغيبية بالإجماع. وكذا سفّه قول من زعم أن أبا إبراهيم مؤمن وأن المذكور في القرآن إنما هو عمه لا أباه قال: قال الله تعالى في كلامه القديم ما يدل على كفر أبي إبراهيم والأصل في حمل الكلام على الحقيقة ولا يعدل إلى المجاز إلا حال الضرورة عند دليل صريح ونقل صحيح يُضطر معه إلى ارتكاب المجاز فبمجرد قول إخباري أو تاريخي يهودي أو نصراني كما عبر عنه يقبل أن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه كيف يعدل عن آيات مصرحة فيها إثبات أبوه منها قوله تعالى(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنام آلهة) وهو عطف بيان ويدل بناء على أنه اسمه أو لقب له أو نعت بلسانهم نحو ذلك ومنها قوله تعالى(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار(116/248)
إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) ومنها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام(يا أبت) مكرراً ومنها قوله تعالى(إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) الآية. وأقول زيادة على ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان مبيناً للكتاب ممهداً لطريق الصواب فلو كان المراد بأبي إبراهيم عمه لبينه ولو في حديث للأصحاب ليحملوا الأب على عمه بطريق المجاز في هذا الباب ثم نقل عن أحد أئمة التفسير صاحب التيسير لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كان يذكر عقوبات للكفار فقام رجل فقال يا رسول الله: أين والدي؟ فقال: (في النار فحزن الرجل فقال عليه السلام: إن والدك ووالدي ووالد إبراهيم في النار) فنزل قوله تعالى: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) قال: والحاصل أن عامة المفسرين كالمجمعين على أن سبب نزول الآية هو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم من السؤال عن حال أبويه وأنهما من أصحاب الجحيم. قال وأما دعوى أن آباء الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا كفاراً تحتاج إلى برهان واضح ودليل واضح فاستدلال بعضهم بقوله تعالى(وتقلبك في الساجدين) بناء على ما في غاية من السقوط. كما يُعلم من قول سائر المفسرين في الآية فقد ذكر البيضاوي وغيره في تفاسيرهم أن معنى الآية وترددك في تصفح أحوال المتهجدين كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير لِما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى ونقل عن الإمام أبي حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى(وتقلبك في الساجدين): أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى(وتقلبك في الساجدين) وبما روي في حديث(لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين). قال القاري: الشيعة بأجمعهم مقرون بأن هذا قاعدة مذهبهم وتبين أن هذا الحديث المكذوب عن إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم(116/249)
هو من موضوعات الرافضة" انتهى المقصود من كلام علي القاري في رسالته القيمة(أدلة معتقد أبي حنيفة الإمام في أبوي الرسول عليه السلام) ونقل فيه إجماع المتقدمين على كفر أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلودهم في النار وأن أبا حنيفة نصَّ عليه في الفقه الأكبر. ومن هنا تتبين لنا قيمة قول المناوي في شرح الجامع الصغير عند كلامه على حديث(رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) قال: (وهذا بلغته الدعوة، وأهل الفترة الذين لا يعذبون هم من لم يُرسل إليهم عيسى عليه السلام، ولا أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم، كذا قال. وهو خطأ ظاهر، لأن حكم المشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حكم عمرو بن لحي فقد بلغتهم الدعوة، وكان فيهم حنفاء علماً أن عمراً هذا كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة قرون ونصف فقط، فالذي ينوبه ينوب المشركين بعده. ثم أيّ كلام يبقى بعد ثبوت قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم لأحد أصحابه: (إن أبي وأباك في النار) ؟ والمشركون الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وبلغتهم دعوته فعارضوها جمعوا إلى الشرك الذي كان عليه أسلافهم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. وسنعرض لنوعية الشرك الذي وجدهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي كان وحده سبباً لدخول أسلافهم النار فبعد أن تبين بما سقناه من الأدلة أن أهل الجاهلية كانوا يؤمنون بالله ويثبتون له صفات صحيحة كثيرة ينفيها كثير من أهل البدع من المسلمين، ويؤمنون بالملائكة والرسل، وفيهم من يؤمن بالبعث والحساب، وأنهم يحجون ويصومون ويعتكفون وينذرون لله، وعندهم كثير من العقائد والشرائع الصحيحة التي أقرها الإسلام ومع كل هذا سماهم الله مشركين. فما هو هذا الشرك؟
بيان طبيعة شرك عرب الجاهلية وأهم العبادات التي كانوا يصرفونها لأوليائهم(116/250)
إذا تقرر ما بيَّناه من إيمان المشركين بربوبية الله في الجملة وببعض صفاته وغيرها من العقائد وبعض الشرائع الصحيحة التي كانوا يدينون بها فيمكن القول أن شركهم إنما هو اتخاذ الشفعاء والوسطاء من المخلوقين ليتقربوا بهم إلى الله(مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)،(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). وتكون صورة هذا الشرك تقديم بعض العبادات لهؤلاء الأولياء كدعائهم والنذر لهم والحلف بهم وغيرها من أصناف القربات، ولعلنا نذكر منها جملة فيما بعد. وإنما أُتي المشركون من اعتقادهم أن هؤلاء الأولياء الصالحين أمثال اللات ووَدٍّ وإخوانه لهم سلطان يشفعون لهم إلى الله فعبدوا صورهم وعكفوا على قبورهم. وظنوا أن التقرب إلى هؤلاء الصالحين ودعاءهم لا يغضب الله بل هو تعظيم لله -بزعمهم- طالما أنهم يُعظِّمون رجال الله زعموا كالذي يعظم وزير الملِك وخادمه فأشبه أن يكون تعظيماً للملِك نفسه. وإن كان هذا المثال غير صحيح في الواقع فإن الملك إذا رأى الناس قد صرفوا وجوهم إلى الوزير يعظمونه ويقصدونه في حاجاتهم من دونه غضب -بلا شك- وسخط عليهم بل ربما تسبب هذا في تنحية الوزير أو سجنه أو قتله كما هو مشاهد وهم مع ذلك شبَّهوا الله بملكٍ ظالم لا يُتوصل لنيل خيره ومعروفه إلا بواسطة أحد أعوانه أو خاصته أو مَن له دَلٌّ عليه لشدة تجبره وعدم علمه بأحوال رعيته لبعده عنهم وانشغاله بالعرش فهو يقبل شفاعة وزيره أو أحد قوّاده وأعوانه لحاجته إلى تأليف هذا التابع كي يستظهر به على أعدائه ويشد به أسر مملكته ويقوِّي نفوذه. وهذا لا يليق بإله السماوات والأرض القريب المجيب الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء الرؤوف الرحيم الجبار اللطيف الخبير الغني الواحد القهار. فإن الإنسان يكفر لو شبَّهه بملك عادل فكيف لو شبَّهه بملك ظالم لا يُتوصل إلى عطائه إلا بالوسائط؟ تعالى الله عن ذلك علواً(116/251)
كبيراً، ولذلك كفَّرهم سبحانه ونفى أن يكون لأحد من مخلوقاته قول مع قوله أو أن أحداً يستطيع أن يتقدَّم بين يديه بأمر لا يريده أو يشفع لأحد لا يرضى عنه فهو سبحانه غني بنفسه لا يحتاج لمعين أو ظهير أو من يعرِّفه بحال عباده بل هو أجلُّ من ذلك، وفوق ما يخطر ببالك. (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شركٍ وما له منهم من ظهير). وقال عز من قائل: (قل لله الشفاعة جميعاً). ولذلك إذا أراد الله سبحانه وتعالى رحمة عباده المؤمنين يوم القيامة أذن في الشفاعة، وعندها تحل الشفاعة ولا تكون إلا بعد أن يأمر الله بها فيقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (اشفعْ تُشَفََّعْ). فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين من هذه الأمة، وكذلك يشفع الملائكةُ والأنبياء والشهداء وصالح المؤمنين، ولا تكون هذه الشفاعات إلا من بعد أن يأذن الله بها: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). ولا تنفع هذه الشفاعات كل الناس بل هناك أناسٌ(لا تنفعهم شفاعة الشافعين) الآية. وإنما تنال الموحدين الذين لا يشركون بالله شيئاً واقترفوا بعض الكبائر فهؤلاء يُغفر لهم وتكون الشفاعة سبباً للعفو عنهم، قال عليه السلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو صحيح. ولكن ما دون الشرك فإن كبيرة الشرك لا تغفر(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) رواه البخاري. فإذا كان الأمر كله بيد الله، وهو مالك الملك، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وله الشفاعة جميعاً، وبيده الخير والضر والنفع وهو على كل شيء قدير، فلِمَ يصرف الإنسان وجهه إلى سواه وهو المستحق للعبادة؟ كيف وهو الذي خلقه وصوَّره وشق سمعه وبصره؟! فمن الظلم -والحال ما وصفنا- أن يلجأ إلى(116/252)
غيره من المخلوقات(إن الشرك لظلم عظيم). فينبغي للإنسان أن يتقي الله ولا يشرك به أحداً من مخلوقاته، وليُنِطْ بالله جميع حاجاته، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء وخزائنه لا تنفد، فلا يسأل إلا الله ولا يعوِّل على سواه، فإذا أراد أن يأذن الله في الشفاعة فيه فليقل مثلاً: اللهم ارزقني شفاعة نبيك يوم الحساب، أو : اللهم شفعْه فيّ، ومن أسباب ذلك كثرة الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له فضلاً عن طاعته والعمل بسنته هذا مع أن شفاعته صلوات الله عليه نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمته كما ثبت في الحديث. أما أن يطلب من المخلوق كأن يقول: ياجبريل اشفع فيّ، أو يامحمد اشفع فيّ فهذا عين الشرك والمحادَّة لله ولرسوله فإن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله فقير إليه سبحانه لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)،(قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً). وليعلم المرء أن اتخاذ الشفعاء والأولياء أصل شرك الأمم من لدن نوح إلى قيام الساعة، ومن تأمل القرآن عرف ذلك فانظر مثلاً حال أصحاب القرية المذكورة في سورة يسن فإن قول صاحبهم الآية(23) (أأتخذ من دونه آلهةً إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا يُنقذون) يدل على أنهم كانوا يتخذون شفعاء إلى الله يعبدونهم على ذلك.ولا شك أن في كل أمة من الأمم أولياء وصديقين وصالحين يجلهم الناس ويعظمونهم التعظيم اللائق بهم فيقتدون بأمرهم ويأخذون بهديهم، ولكن لما كان العمل بطريقة هؤلاء الصالحين والاقتداء بقولهم وفعلهم يصعب عل بعض ضعاف النفوس فإنهم يستروحون إلى ما هو أيسر لهم من ذلك فيسول لهم الشيطان الغلو (1)
__________
(1) الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد. يقول الإمام ابن تيمية: "فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي بن مسافر أو نحوه. أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجِرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتل"اهـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام.(116/253)
في هؤلاء الصالحين أحياء وأمواتاً فينسبون إليهم أفعالاً وصفات لا تليق إلا بالله ثم ينقلهم الشيطان إلى أن تعظيم هؤلاء الصالحين والتوسل بهم كافٍ وحده في نجاحكم وفلاحكم طالما أنهم كاملون واصلون فيتوجهون بهمتهم إليهم ويتوسلون بهم إلى الله ثم لا يلبثون أن يخشوهم بالغيب ويخافوا سطوتهم فيجأرون إليهم بالدعاء رغبة ورهبة، وينيطون بهم حاجاتهم ويتقربون إليهم بأنواع القربات لنيل رضا هؤلاء الصالحين لأن رضا الله –زعموا- مرهون برضاهم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 2/663: "قال المشركون من الصابئة: "لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه، وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة. فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهو ات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم. وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات. وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات والزكوات وذبح القرابين، والبخورات والعزائم، إلى أن قال: وليس هذا مختصاً بمشركي الصابئة بل هو مذهب المشركين من سائر الأمم"إه. وهذا حال عبَّاد القبور الذين يستشفعون بأصحابها ويستمدون منهم ويقولون يسري فيض من روحانية صاحب القبر إلى نفس الزائر. وهو معتقد الزنديق ابن سينا وأتباعه الإسماعيلية والصوفية. وإنما فعلوا ذلك لاعتقادهم أن لهؤلاء الصالحين نوع شراكة مع الله من تصرف وتوكيل. قال الإمام الشهيد إسماعيل(116/254)
بن عبد الغني الدهلوي في كتابه(التوحيد) بعد أن ذكر قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل فأنى تُسحرون): "قد تحقق من هذه الآية الكريمة أن الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرون لله عديلاً يساويه في الألوهية والقدرة، وفي الخلق، ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا يعبدونها، هم وكلاؤهم عند الله، وبذلك كفروا، فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوق التصرفَ في العالم، واعتقد أنه وكيله عند الله ثبت عليه الشرك، ولو لم يعدله بالله، ولم يثبت له قدرة تساوي قدرة الله" وذكر قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً) ثم قال: "قد حذّر الله في هذه الآية المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أن تغرهم نفوسهم فيقولوا: إن نبينا له دالَّةٌ عند الله، يضر وينفع، ويدفع ويمنع، ويفعل ما يشاء، ونحن في أمته، فنحن نأوي إلى ركن شديد، وحرز حريز، فإن وكيلنا عند الله، وشفيعنا إليه، من الله بمكان ليس لأحد، فلا خوف علينا ولا خطر وبذلك يسترسلون في الخيال، ويتوسعون في الأماني ويستخفُّون بالعمل ولذلك أمر الله نبيه بأن يخبر الناس أنه لا يملك لهم ضراً ولا رشداً، وأنه -وهو سيد الأنبياء- لن يجيره من الله أحد، فكيف يستطيع أن يجيرهم من الله، ويمنعهم من عذاب الله وعقابه؟ وبذلك ظهر ضلال أؤلئك العامة، والغوغاء من الناس الذين ينسون الله، ويستخفون بأحكامه، معتمدين على نصرة المشايخ والشهداء، فإذا كان نبي الله يخاف الله، ولا يرى له ملجأ إلا رحمة الله، فكيف بمن هو دونه من أفراد أمته وأتباعه"إه(التوحيد بترجمة أبي الحسن الندوي صـ43). قلت: ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من اتخذ بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويستنصر بهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً)إه. فاتخاذ الوسائط هو أصل شرك قوم نوح وأقوام(116/255)
الأنبياء بعده وهو أصل شرك عرب الجاهلية وهو كذلك أصل صوفية هذه الأمة وغلاتها. فإن وداً وسواعاً وإخوانه كاللات وغيره كانوا رجالاً صالحين ولم يكونوا حجارة فإن الناس لا يمكن أن تتعلق بالحجارة مجردة بل كانت الحجارة تماثيل ورموز لرجال صالحين هذه أسماؤهم كما ذكر المفسرون كابن جرير وغيره. وهذه الحجارة إما مقامات أو قبور عكفوا عليها بعد موت هؤلاء الصالحين، ففي صحيح البخاري(4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وداً وسواعاً ويغوث ونسراً: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أؤلئك وتنسّخ العلم عبدت"إه.(116/256)
ثم عبدهم العرب بعد ذلك كما مر معنا آنفاً. وقال أبو جعفر محمد الباقر: "كان وَدٌّ رجلاً مسلماً، وكان محبباً في قومه فلما مات عسكروا حول قبره"/انظر الدر المنثور للسيوطي6/269/. وقال غير واحد من السلف: "كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم". وفي صحيح البخاري(برقم4859) عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله(واللات والعزى): "كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج"إه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً: "كان يلتُّ السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه". وهذه من كراماته رحمه الله فهو رجل صالح بشهادة صحابة رسول الله كما في هذا الحديث وروى الفاكهي عن ابن عباس: "أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً" وكان اللات بالطائف./انظر فتح الباري8/787/. ثم صُرفت لهؤلاء الأولياء الصالحين رحمهم الله ورضي عنهم أنواع العبادات من دعاء وتوكل ورهبة ورغبة وخشية بالغيب وحلف ونذر وذبح وتوسل وطواف بتماثيلهم ورموزهم من قبور ومقامات ومزارات وأنصاب وغيرها. ولا يخفى أن الدعاء هو أهم هذه العبادات التي صرفت لهؤلاء الصالحين. لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة الدعاء) رواه الحاكم(1/491) وهو حديث حسن. وروى الترمذي وابن ماحه والبخاري في الأدب المفرد(712) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) وهو حديث حسن. وفي (الأدب المفرد 713)-بسند فيه ضعف والمعنى صحيح- عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أشرف العبادة الدعاء). بل إن الدعاء هو العبادة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة). ثم قرأ(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). أخرحه الترمذي وأبو داود وغيرهم. ومعناه أن الدعاء معظم العبادة وأهمها كقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، أي أن(116/257)
الوقوف بعرفة أهم أركان الحج، وكذلك الدعاء أفضل وأهم ما يعبد به الله، والحديث السابق موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه الترمذي وصححه هو والألباني. وروى الترمذي أيضاً –بسند فيه ضعف والمعنى صحيح- قوله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة). فإذا كان الدعاء أفضل العبادة وأشرفها وهو مخ العبادة بل هو العبادة فلا ينبغي أن تصرف هذه العبادة لغير الله لما تقرر أن صرف العبادة لغير الله شركٌ وكفرٌ به سبحانه، فكيف إذا كانت العبادة المصروفة أفضلَ العبادات وأشرفها وأكرمها؟ فلا شك أن صرفها يكون أسوأ الشرك، يهون أمامه صرف الصلاة والصوم والزكاة والذبح لغير الله. ولهذا أكثر ما نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين في القرآن إشراكهم في الدعاء لأهميته وشدة خطره. مثل قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وقوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون). وقوله(وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي يستكبرون عن دعائي ومسألتي وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (من لا يدع الله يغضب عليه)رواه الحاكم. وقوله صلى الله عليه وسلم(من لم يسأل الله يغضب عليه). وكذلك قوله تبارك وتعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير). وقوله: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) وقوله: (فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء) وقوله: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الآية. وقوله: (ويوم يقول نادوا شركائيَ الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) وقوله: (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً) وقوله: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي) وقوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا(116/258)
يضرك) وقوله: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر) وقوله: (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون). وقوله: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء). وغيرها آيات كثيرة في هذا المعنى تُبيّن أن الشرك في الدعاء والطلب من غير الله من الأموات والغائبين هو الشرك الحقيقي كما أن دعاء الله هو العبادة الحقيقية، فإذا أطلق الشرك عني به شرك الدعاء والاستغاثة بالغيب. فكانت صورة دعاء المشركين أن يقولوا: يا لات أغثنا، يا ود وياسواع أعينونا، انصرونا، اشفعوا لنا إلى الله، يارجال الله المدد، يا يغوث نحن في جيرتك وحمايتك، أنت يا يعوق حامينا وإليك مفزعنا يا أولياء الله الغوث الغوث أدركونا. وربما استغاثوا بالجن أيضاً مثل قولهم: يا سيد هذا الوادي أجرنا من أتباعك من الجن، أو الحماية يا رئيس الجن، نعوذ بسيد هذا الوادي، ونحوها من الاستغاثات والابتهالات والاستعاذات. وعلى هذا المنوال مضى الضالون من هذه الأمة فتجد أحدهم ينادي: يا دسوقي، يا بدوي المدد، يا شيخ عبد القادر أغثنا، يا رجال الله نظرة، يا ابن علوان، ومن ذلك قول أحد ضلال صوفية حلب(هو الحوت الصوفي) يستغيث بشيخه الميِّت:
يا ابن نبهان يا ابن نبهان
ج ... أدرك عُبَيْدَكَ من مواتِ
ج(116/259)
ولعل مشركي الجاهلية أحسن حالاً من ضُلّال زماننا من هذه الناحية ذلك أن الجاهليين يستغيثون بمن ثبت صلاحهم كما في شهادة ابن عباس رضي الله عنه وغيره من السلف. في حين أن الصوفية يستغيثون بمن لا يُعرف حاله ولا يدرى صلاحه من أمثال البدوي والدسوقي ممن لا يعرف هل هو من الناجين عند الله المقبولين، أم من الضالين المقبوحين؟(1)ثم إن مشركي الجاهلية كانوا لا يستغيثون بأوليائهم إلا في الأمن والرخاء أما في الشدة والاضطرار فكانوا يستغيثون بالله وحده ويخلصون له الدعاء كما حكى القرآن عنهم: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)،(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) أما الضالون في زماننا فإنهم يستغيثون بأوليائهم في الشدة والرخاء، فيوجهون وجوههم في المهمات إليهم، ويجعلون همتهم عليهم.
حادثة طريفة عن الشرك من الواقع
__________
(1) أثناء حواري مع أحد المدرِّسين في المعاهد الشرعية بحلب –وهو صوفي يجيز الاستغاثة بالأموات قلت: إذا كانت الاستغاثة بالأموات الصالحين عندكم جائزة فالأولى بكم -معشر الصوفية- أن تستغيثوا باللات وود وسواع ممن ثبت صلاحهم وجاههم عند الله (قائلين المدد يا لات دستور يا ود ويا سواع) بدلاً من الاستغاثة بهؤلاء النكرات المجهولين!فقال: إن ثبت صلاحهم جاز لنا أن نستغيث بهم.فتدبرْ.(116/260)
حدث أن جماعة من الناس كانوا يركبون سيارة كبيرة فبينا هي تسير مسرعة إذ انخلعت إحدى عجلاتها فمالت السيارة بشكل مرعب، وأصيب الناس بالهلع وأيقنوا بالهلاك فحملهم الشيطان على الشرك وأنساهم ذكر الله فاستغاثوا بالأولياء فقال بعضهم: ياشيخ عبد القادر. وقال آخرون: ياشيخ شبلي. بينما صاح بعضهم: يا أبا عابد. وكان معهم في السيارة رجل من أهل السنة الموحدين ومن الدعاة إلى الله لا تأخذه في الله لومة لائم -فيما نحسبه- فلم يقدر الشيطان أن ينسيه ذكر ربه بل لم يمنعه ما هو فيه أن ينكر على هؤلاء الجهلة الضُّلال إذ لما حملهم الشيطان على الاستغاثة بهؤلاء الأموات من دون الله ردَّ عليهم هذا الرجل على الفور : خسئوا أو يخسئون قولوا يا الله كي تموتوا على التوحيد والسنة. فلما حُدِّثتُ بهذه الواقعة تعجبت من كيد الشيطان بهؤلاء حتى رام لشدة عدائه أن يميتهم مشركين ففتنهم حتى استغاثوا بغير الله أحوج ما كانوا إلى الله وأعجبني صنيع هذا الرجل الموحد الذي اعتاد على توحيد الله والاستغاثة به والتعويل عليه في الرخاء فلما وقع البأس ما استطاع الشيطان اللعين أن يفتنه عن ربه لأنه ما اعتاد الاشراك به فطوبى له وبارك الله فيه فما أحرى هذا أن يثبت أمام فتنة منكر ونكير ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وتذكرت كيف أنّ دأب المؤمنين المخلصين الاستغاثة بالله واللجوء إليه عند الشدائد. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بدر حين برزوا وهم الفئة القليلة أمام خيل قريش وخيلائها وكثرتها وهي تريد استئصال رسول الله وأصحابه فما كان منهم إلا أن استغاثوا بربهم كما هو الظن بهم وكما هو شأن المؤمنين في كل زمان ومكان: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) فكان عاقبة هذه الاستغاثة أن أمدهم الله بملائكته، وأنزل عليهم نصره، وأذهب عنهم رجز الشيطان، وثبت أقدامهم، وألقى في قلوب أعدائهم الرعب، فضربوا أعناقهم وأطاروا بنانهم. ومن(116/261)
المعلوم أن المشركين يسمون هذا الشرك توسلاً إلى الله. وهذا غير صحيح فلو أنهم لا يعتقدون نفع أوليائهم وضرهم ما استغاثوا بهم كما هو ظاهر، وحتى لو اعتقدوا أن نفع هؤلاء الأولياء مرهون برضا الله فهو شرك أيضاً إذ هذا معتقد المشركين فقد كانوا كانوا يقولون عن أوليائهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ومع ذلك سمّاه الله شركاً وكفّرهم وإنما كان شركاً لأنهم صرفوا عبادة الدعاء التي هي أجلُّ العبادات إلى أوليائهم باسم التوسل. ويقال لهؤلاء الضالين: هل يجوز السجود لهؤلاء الأولياء باسم التوسل بهم إلى الله؟ وهل يجوز الصوم لهؤلاء الأولياء؟ وهل يجوز النذر والذبح لهم باسم التوسل؟ فإذا كان لا يجوز صرف هذه العبادات لغير الله ومن فعل ذلك كان مشركاً فكيف بصرفِ أفضل العبادات وأشرفها وأكرمها على الله؟!! إنها لا تعمى الأبصار! وفي محاكمة الأحمدين لنعمان الآلوسي ص450في الرد على مجيزي الاستغاثة المستهينين بالألفاظ الذين لا يفرقون بين التوسل والاستغاثة: "أما قولكم: إن ليس مقصودهم إلا التوسل والتشفع وإن تكلموا بما يفيد غيره؛ فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأن اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد. وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة لا سيما ما ذكرته الحنفية من التكفير بألفاظ يذكرها بعض الناس من غير اعتقاد ؛ كيف وأن الله سبحانه يقول: (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) والكلمة التي قالوها كانت على جهة المزح مع كونهم في زمن رسوله صلى الله عليه وسلم وكانوا يجاهدون ويصلون، ويفعلون جميع الأوامر، وقال تعالى: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذورا قد كفرتم بعد إيمانكم) وقد ذكر المفسرون: أنهم قالوها على جهة المزح، وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك؛ لا سيما الحنفية كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. ولو قلنا: إن الألفاظ لا(116/262)
عبرة بها، وإنما العبرة للاعتقاد لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة اتفاقاً أن يقول: لم تحكمون بردتي!؟ فيذكر احتمالاً ولو بعيداً يخرج به عما كفر فيه، ولما احتاج إلى توبة ولا توجه عليه لوم أبداً. وهذا ظاهر البطلان، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتنسدّ الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ" إهـ.هذا مع العلم أن هؤلاء الأولياء الأموات والغائبين لا يسمعون نداء المستغيثين لأنهم لا يعلمون الغيب فاعتقاد المستغيث أنهم مطلعون على حاله لا يخفى أمره عليهم هذا وحده كفر لأنه لا يعلم الغيب إلا الله: (قل لا من يعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله) وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية: (من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) إه.
بيان معنى التوسل وأنواعه والفرق بينه وبين الاستغاثة وأنّ مذهب الحنفية تحريم التوسل بحق النبي أو جاهه(116/263)
الواقع إن الاستغاثة بالمخلوقين الأموات أو الغائبين ليس توسلاً -كما يدعي المشركون- فالتوسل شيء آخر وهو أيضاً على أنواع منه المشروع الطيب بل الواجب المتعين ومنه المبتدع المحرم. والتوسل المبتدع بالمخلوق إلى الله وإن كان يقود إلى الشرك فهو أقل شراً من دعاء المخلوق نفسه والاستغاثة به من دون الله وصورة هذا التوسل الممنوع أن يتوسل إلى الله بجاه خلقه أو كرامتهم عنده أو بحقهم ونحو ذلك كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بجاه النبي أو بجاه الصالحين أو كرامة للخضر أن تغفر لي أو ترزقني ونحو ذلك. فهذا التوسل محرم وهو مبتدع لم يأذن به الله، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولا أرشد إليه ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعون كلا ولا تابعو التابعين بل قد نصوا على المنع منه. قال القدوري في(شرح كتاب الكرخي): "قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، قال وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام"إهـ. وقال ابن بلدجي في(شرح المختار): "ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه"اهـ قال الإمام ابن القيم في الإغاثة(247): "ما يقول فيه أبوحنيفة وأصحابه: (أكره كذا) عند محمد بن الحسن حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب" ومنه يُعلم أن التوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه كأن يقول: اللهم بجاه النبي ارزقني أو اللهم بحق النبي وفقني =محرمٌ عند الحنفية قولاً واحداً، وهو من الأمور التي اتفق عليها أئمة الحنفية الثلاثة وهو أصل مذهبهم ومنصوص جميع كتبهم وإن خالفه أكثر متأخريهم واستهانوا بقول أئمتهم مع أنهم في العادة لا يخرجون عن قول واحد من أئمتهم ولو اختلفوا فكيف إذا اتفقوا. جاء في كتاب ردود على أباطيل لمحمد الحامد(116/264)
الحنفي الحموي صـ139تحت حكم الدعاء: اللهم إني أسألك بحق فلان: "وبعد: فشكراً لكم على ما أهديتموني من كتاب التوسلات الكافية رحم الله مؤلفها الشيخ محمداً الكافي التونسي ورضي عنه، وقد كانت لي به معرفة شخصية وكنت أكبره وأكبر علمه وصلابته في الحق وصراحته فيه، فأنا من المعترفين بفضله ونبله، هذا إلى اعترافي بصلاحه ونسكه، والذي ذكره من عدم جواز(اللهم إني أسألك بحق فلان)، هو ما عليه متون مذهبنا نحن الحنفية وشروحها. جاء في(متن تنوير الأبصار)، وشرحه(الدر المختار) مايلي: وكره قوله "بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك أو بحق البيت لأنه لا حق للخلق على الخالق إهوقد كتب عليه العلامة المحقق الشيخ ابن عابدين في حاشيته المشهورة(رد المحتار) فقال: قوله: وكره قوله بحق رسلك إلخ...(ثم ذكر ابن عابدين أقوالاً لبعض متأخريهم أوردوا على ألفاظ أئمتهم احتمالات متأولين لها ولم يرتضِها ابن عابدين) وقال: أقول لكن هذه كلها احتمالات مخالفة لظاهر المبادر من هذا اللفظ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع كما قدمناه، فلا يعارض خبر الآحاد فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع على إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها الاقسام بغير الله تعالى وهو مانع آخر. تأمل. اهـ كلام ابن عابدين. ثم قال محمد الحامد: وهو كما ترى سائر مع المتن والشرح وأصل المذهب في المنع عن هذه الصيغة في الدعاء" إهـ أما مذهب الحنابلة في هذا التوسل المبتدع فمعروف أنهم يمنعون من ذلك ويبالغون فيه لاسيما في هذه الأزمان وقد نقل الآلوسي في جلاء العينين ص452عن الحنابلة في أصح القولين: أنه مكروه كراهة تحريم وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره؛ مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك، أو بحرمته أو بحقه. وأما إذا توجه إلى ذلك الغير فطلب منه كما يفعله كثير من الجهلة فهو شرك. اهـ ولا يخفى قول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. قال الشيخ الألباني(116/265)
رحمه الله في كتابه: (التوسل) تحت عنوان(دفع توهم): "هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه، أو قدر أو مكانة عند الله، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم وننكر قدرهم، ومنزلتهم عند الله ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم كما افترى علينا الدكتور البوطي في كتابه(فقه السيرة صـ354) فقال في نصه: (فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته). كلا ثم كلا، فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم حباً له، واعترافاً بفضله صلى الله عليه وسلم وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة وعلى أصحابها حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطير الصعب، ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء، ويأكلون لحوم إخوانهم المسلمين دونما دليل اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم:(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). متفق عليه. ولا أدري كيف سمح هذا المؤلف الظالم لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي لا يستطيع إصداره إلا الله عز وجل المطلع وحده على خفايا القلوب ومكنونات الصدور، كما نقول له أخيراً: ترى هل دريت يا هذا بأنك حينما تقول ذاك الكلام فإنك ترد على سلف هذه الأمة الصالح، وتكفر أئمتها المجتهدين ممن لا يجيز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره بعد وفاتههم كالإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، وقد قال أبو حنيفة: أكره أن يتوسل إلى الله إلا بالله"إهـ. وفي فتاوى العز بن عبد السلام: "أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم"اهـ. ولعل الاعتداء المذكور(116/266)
في قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين)، وما يوافقه من قوله صلى الله عليه وسلم: ( سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء) -لعله- ينطبق على الأدعية والاستغاثات والتوسلات المتبدعة. وشيء لم يفعله رسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون ولا هو من سبيل المؤمنين لا شك أن تركه خير من فعله، فكيف وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم عموماً يستفاد ذلك من أحاديث كثيرة؟ ونهى عنه الأئمة الأعلام الذين عليهم مدار الإسلام؟ ولم يُعرف هذا التوسل وينتشر إلا عند المتأخرين الضالين حاشا المؤمنين المتبعين لسنة سيد المرسلين. ويغني عنه التوسل المشروع الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله وعمل به الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من المحسنين، وهو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا والتوسل بالإيمان والأعمال الصالحة المخلَصة، فهذا هو الطيب المرغب فيه مثل قوله تعالى: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها"،"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين"،"وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)(وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) إلخ إلخ. ولذلك كان دعاء الأنبياء إنما هو الافتقار إلى الله والتوسل إليه بأسمائه وصفاته. فمن دعاء موسى عليه السلام: (رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) فتوسل بأرحم الراحمين أي توسل بصفة الرحمة التي تليق به سبحانه، وقال في آية آخرى: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا) فتوسل إليه سبحانه بقدرته على الهداية والإضلال وتقديره لكل شيء وبأنه ولي المؤمنين دون الكافرين فأحرى أن يغفر لأوليائه، وهذا غاية التلطف في الدعاء، وكان قبل ذلك قد توسل إلى الله بتنزيهه والتوبة إليه عندما قال: (سبحانك تبت إليك). وكذلك أيوب عليه السلام توسل إلى الله بصفة الرحمة فقال: (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)، ولذلك روي في الحديث أن من(116/267)
قال: يا أرحم الراحمين ثلاثاً قال له الملك الموكل: إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسلْ اهـ. وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتوسل إلى الله برحمته مثل قوله: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" وتوسل يونس عليه السلام إلى ربه بوحدانيته قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فاستجاب له ونجاه من بطن الحوت، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتوسل إلى الله بوحدانيته يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت) الحديث فقال عليه الصلاة والسلام: لقد دعا الله باسمه الأعظم. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) اهـ رواه الترمذي وغيره. فلم يقل يونس مثلاً: اللهم نجني بجاه جبريل أو بجاه إبراهيم أو بحق خاتم المرسلين محمد أو بحق مخلوق آخر بل توسل إلى الله بالله، كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك)، وكذلك شرع الله لنا التوسل إليه بتوبتنا كقول موسى عليه السلام: (سبحانك تبت إليك)، وكقول آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا) الآية. وشرع لنا كذلك التوسل بأعمالنا الصالحة التي هي خالصة لله كما في حديث الثلاثة الذين انسد عليهم الغار في الجبل فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي قصدوا بها وجه الله من بر الوالدين والعفاف عن الزنا مع القدرة عليه وإعطاء الأجير حقه فنجاهم الله سبحانه وتعالى وفرج عنهم، ولم يتوسل هؤلاء المخلصون بذوات المخلوقين أو بجاههم لأنه شنيع غير جائز ولا مشروع، ولوكان جائزاً وفيه فضيلة للجؤوا إليه وهم المضطرون. بل توسلوا إلى الله بما يحبه سبحانه ويرضاه من صالح الأعمال الخالصة له. فهم على عكس الضالين المبتدعين من هذه الأمة الذين أفضل دعائهم التوسل بجاه المخلوقين وأجسامهم، وهذا غفلة(116/268)
عما يحبه الله ورسوله ومعاندة لما شرعه الله ورسوله. وكذلك مما شرعه الله ومضى عليه الصحابة والتابعون التوسل إلى الله بدعاء الحي الصالح والتأمين على دعائه ومن ذلك لجوء الصحابة رضوان الله عليهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ليدعو لهم، كحال الأعمى الذي لجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يدعو له لعل الله يرد عليه بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئتَ أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئتَ دعوتُ. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك(أي بدعائه) نبي الرحمة يا محمد يارسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في وشفعني فيه" فردَّ الله عليه بصره. رواه الترمذي وغيره(1) وهذه من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم والحديث وإن ضعّفه بعض العلماء فقد صححه آخرون، وهو صريح بالتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الله دعاءه ورد على الرجل بصره(2)
__________
(1) قال بعض المدرسين: إذا أريد إعمال هذا الحديث الآن. فليأت طالب الدعاء إلى رجل يظن به الصلاح ثم ليطلب منه الدعاء ويمكن لذلك الصالح أن يجيبه بقوله: إن شئتَ صبرتَ فهو خير لك، وإن شئتَ دعوتُ. فإن أصر على طلب الدعاء فليأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم ليقل: اللهم إني توجهت إليك بعبدك فلان في حاجتي الفلانية. اللهم فشفعه في وشفعني فيه. ويدعو له ذلك الصالح. وهو توسل بالدعاء واقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فيرجى له الإجابة.
(2) تنبيه:هذا الحديث الذي رواه عثمان بن حنيف رضي الله عنه صحيح دون القصة التي ذكرها الطبراني وفيها أن عثمان بن حنيف علَّمها رجلاً له حاجة عند عثمان بن عفان لا يَلتفِت إليه -زعم- قال الألباني في كتابه (التوسل صـ95): "هذه القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة: ضعف حفظ المتفرد بها والاختلاف عليه فيها ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث"اهـ. وثمّة شبهات وردت في أحاديث غير ثابتة يلهج بها أهل الأهواء مثل حديث: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك إلخ رواه أحمد وابن ماجة ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي وعطية ضعيف كما قال النووي في الأذكار والذهبي وابن تيمية والهيثمي والبوصيري والألباني وغيرهم. قال الذهبي في الضعفاء(1/88): مجمع على ضعفه.وقال البوصيري في مصباح الزجاجة(2/52): "هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء"اهـ ومع ضعف هذا الحديث فليس فيه التوسل بالمخلوقين وإنما حق السائلين على الله أن يجيبهم وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم(حق العباد على الله أن لايعذبهم)؛يعني إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئاً، وكقوله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). وكذلك حديث دعائه صلى الله عليه وسلم لأم علي فاطمة بنت أسد الذي رواه الطبراني وفيه: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإن راويه المتفرد به روح بن صلاح قال عنه الألباني: اتفقوا على تضعيفه. وكذا حديث توسل آدم بحق محمد صلى الله عليه وسلم لمّا اقترف الخطيئة الذي رواه الحاكم والطبراني من طريق عبد الرحمن بن زيد قال الذهبي: موضوع. وقال في الميزان: خبر باطل. وكذا قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان(3/360). وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف دعاء آدم وحواء لما اقترفا الخطيئة: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). أما الأثر الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح(2/397) وعزاه لابن أبي شيبة -قال- بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار-وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأُتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر ..الحديث. فهذا الأثر غير= =صحيح من أصله وإذا كان صحيحاً إلى الراوي أبي صالح السمان-كما قال الحافظ- فمالك الدار الذي روى عنه أبو صالح القصة مجهول فكان ماذا؟! قال الألباني في كتابه التوسل صـ131: (مالك الدار غير معروف العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في المصطلح) اهـ وقال الحافظ المنذري في الترغيب 2/41: (مالك الدار لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/125. وكذلك الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأى المنام المزعوم غير معروف وتسمية سيف بن عمر التميمي له –بأنه بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة- لا تساوي شيئاً لأن سيفاً هذا متهم بوضع الحديث ومتفق على ضعفه عند المحدثين كما قال الألباني؛ قال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الأثبات, وقالوا: إنه كان يضع الحديث). ثم إن هذه القصة تخالف ما استقر عند المسلمين أن الدين قد أكمله النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته وعلّمهم إذا أصابهم القحط أن يخرجوا إلى المصلى ويستسقوا ويدعوا ربهم كما فعل هو في حياته صلوات الله عليه. فهل يحتاج هذا الأمر أن يذهب هذا الرجل إلى القبر ليعلم النبي أمته ماذا يفعلون؟! وهل كان عمر رضي الله عنه غافلاً عن السنة وعما يصلح الرعية إلى هذا الحد؟! لا نملك إلا أن نقول :سبحانك هذه القصة لا تصح بمرة , لا من جهة الشرع ولا من ناحية الصناعة الحديثية وبالله التوفيق.(116/269)
ولا شك أن ردّ بصر الرجل كان بدعاء النبي لا بدعاء الرجل -وإلا لشفي كل أعمى دعا بهذا الدعاء- ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا الرجل الدعاء أن يربطه بالله ويعلق قلبه عليه ويجعله يثق به سبحانه ويرشده إلى أهمية الدعاء لا أن يكون متواكلاً وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي لما سأله مرافقته في الجنة: (أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود).رواه مسلم754 فوجَّهَه إلى العمل والتقرب إلى الله والثقة به مع أن حصوله على هذه الخصلة –مرافقة النبي في الجنة- هي بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بكثرة سجوده والله أعلم. ولا يخفى أن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حياته -سواء في الدنيا أو بعد بعث الناس يوم القيامة عندما يفزعون إليه ليدعو الله يُرِيحهم من الموقف- أما بعد وفاته فقد انتفى هذا الأمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وللموت حكم آخر، فلا يطلب من الميت شيء. ولهذا كان الصحابة إذا أهمَّهم أمر أو نابتهم نائبة ذهبوا إلى خيارهم وأفاضلهم الأحياء يتوسلون إلى الله بدعائهم وشفاعتهم كما روى البخاري أن عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون". وقد بيّن الزبير بن بكار في الأنساب –كما في الفتح3/150- صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم يَنزل بلاء إلا بذنب ولم يُكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث). قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. اهـ(1)
__________
(1) قال الآلوسي في محاكمة الأحمدين ص453: "لفظ أتوجه إليك بنبيك في حديث الأعمى كقول عمر في حديث العباس كنا نتوسل إليك بنبيك . فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ولذا قال في آخره: اللهم فشفعه في إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً. ولو كان المراد بذاته الشريفة فقط، لم يكن لذلك التعقيب معنى. إذ التوسل بقوله بنبيك كاف في إفادة هذا المعنى وكذلك قول الأعمى (فادعه) دليل واضح، وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام. وقوله(يا محمد إني توجهت بك إلى ربي) قال الطيبي: الباء في بك للاستعانة؛ أي استعنت بدعائك إلى ربي"اهـ(116/270)
وكذلك فعل أهل الشام في عهد معاوية رضي الله عنه وعهد الضحّاك بعده عندما توسَّلوا بدعاء الرجل الصالح يزيد بن الأسود واستسقوا به أي قدَّموه يدعو لهم كما روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 8/151/1(بسند صحيح كما قال الألباني في كتابه التوسل صـ45) عن التابعي الجليل سليم بن عامر الخبائري: "أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال:أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد على المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبّت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم" وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح "أن الضحاك بن قيس في ولايته -بعد ذلك-خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكّاء. زاد في رواية: فما دعا إلا ثلاثاً حتى أُمطروا مطراً كادوا يغرقون منه". والتوسل بالمخلوق إلى الله إما توسل بجسم هذا المخلوق وشحمه ولحمه وهذا لا يقول به عاقل فضلاً عن مسلم وإما توسل بعمله وهذا غير مشروع وغير معقول لأنّ عمل الصالح ينفعه وحدَه ولا يفيد غيرَه قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). وإما توسل بدعائه وهو حي أما بعد موته فممتنع حتى لو كان الميتُ رسولَ الله وقدوتُنا في ذلك الخلفاء الراشدون وجميع الصحابة الذين عدلوا عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى غيره وهم القوم. ومع ذلك فهذا النوع من الدعاء أي الطلب من الله متوسلاً إليه بذوات الصالحين وجاههم وإن كان مبتدعاً ومحرماً فهو أخف ضرراً من الطلب من الميت أو الغائب لأن هذا النوع الأخير إنما هو دعاء للمخلوق لا لله وهو شرك أكبر حتى لوكان قصده من الطلب من(116/271)
الميت رضا الله ليشفع له إلى الله ويقربه إليه إذ هذا معتقد المشركين(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي ما ندعوهم وما نذبح لهم ومانقرب لهم صنوف العبادات التي أفضلها الدعاء إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا إليه(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). وأفضل عبادتهم دعاؤهم كما قدمنا. كقول الضالين من هذه الأمة: (يا شيخ فلان أغثني، يا رسول الله غوثاً ومدداً، يارسول الله انصرنا، وكقول البوصيري:
ومن تكن برسول الله نصرته
ج ... إن تلقه الأسد في آجامها تجم(116/272)
فهذا من الشرك الأكبر إذ النصر من عند الله لا من عند رسوله، وإذا لم ينزل الله نصره فإن المسلمين يُهزمون حتى لو كان رسول الله قائدهم كما حدث في غزوة أحد. (وما النصر إلا من عند الله) ومن ذلك قولهم: يا نبي الله سقتك على ربك، يا بدوي، أو يا متبولي، سقتك على جدك، وسقت جدك على ربك، يا آل بيت النبي، يا آل طه عليكم حملتي حسبت، يا رجال الله نحن في حسبكم نحن في جيرتكم، راعونا يا أسيادي، ومثله قول النصارى: يا أمنا الحنون، ياعيسى إلخ...) كل ذلك مما يستتاب فاعله ومعتقده فإن تاب وإلا قتل. قال الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام خضر رحمه الله من علماء الأزهر في كتابه(القول الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي): "ينقسم التوسل إلى خمسة أقسام: الأول: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله وبما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الطاعات، والأعمال الصالحات، وتحريم المعاصي، وهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. الثاني: التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهذا يكون في حياته بطلبنا الدعاء منه، أو دعائه بدون طلب ويكون يوم القيامة بما ورد من طلب الناس منه أن يشفع لهم فيجيب، ويدعو فيجاب. (قلت: وكذلك التوسل بدعاء صالح حي حاضر عندك تطلب منه الدعاء جائز) الثالث: بحق النبي أو الولي، أو بجاهه أو بركته أو بحق قبره أو قبته، وهذا مذموم منهي عنه محرم بلا نزاع. قال شارح الإحياء وغيره: وكره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك إذ ليس لأحد على الله حق وفي متون الحنفية: إن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والرسل، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم اهـ . الرابع: أن يقال للميت من الأنبياء أو الصالحين، ادع الله لي، أو سله، أو سقتك على فلان، وسقت فلاناً على الله في كذا كذا، وكل هذا(116/273)
مما لا يشك عالم بشريعتنا المطهرة أنه قطعاً من البدع المحرمة التي لا يشهد لها كتاب ولا سنة، وهي تجر صاحبها شيئاً فشيئاً إلى نداء ودعاء صاحب القبر نفسه، فيكفر والعياذ بالله. والخامس: النداء والاستغاثة بغير الله، كأن يقول : يا سيدي فلاناً أغثني أدركني، انصرني على عدوي، أو على من ظلمني، مدد يا سيدي، شيء لله يا أهل الله نظرة إلينا بعين الرضا، فهذا شرك وكفر بالله تعالى. قال: وحديث: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) مكذوب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له أصل قطعاً في كتاب من الكتب المعتمدة، ومثله حديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور -أو- فاستغيثوا بأهل القبور" (1)
__________
(1) ونحن نقول سبحان الله بل إذا أعيتكم الأمور فعليكم بالعزيز الغفور(بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وكما قال الشاعر:
وإذا رُميت من الزمان بريبةٍ
ج
أو نالك الأمرُ الأشقُّ الأصعبُ
فاضرع لربك إنه أدنى لمن
يرجوه من حبل الوريد وأقربُ
وقال آخر:
اللهَ أسألُ أن يفرج كربنا
ج
فالكرب لا يمحوه إلا اللهُ
وقال آخر:
لذ بالإله ولا تلذ بسواهْ
ج
من لاذ بالملك الجليل كفاهْ
ج(116/274)
موضوع مختلق لم يروه أحد من العلماء ولم يوجد في شيء من كتب الدين الصحيحة. كما قاله شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم في غير موضع وكذا حديث(إن الله يوكل ملَكاً على قبر كل ولي يقضي حوائج الناس) من أفرى الفري، وأكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا(الحكاية) المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. فإياك يا ابن الإسلام أن تغتر بمثل هذه الترهات(وتوكل على الحي الذي لا يموت) فإنه قال(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ولا تناد إلا الله ولا تلجأ إلا إلى الله ولا تستنجد ولا تستغيث إلا بالله(فلا تدعوا مع الله أحدا) واعلم أن الله أقرب إليك ممن تدعوهم ولا يستجيبون لك بشيء، وتنبه لقول ربك(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). وقوله(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لواجتمعت على ضرك أو نفعك لا يضرونك ولا ينفعونك إلا بما كتبه الله لك أو عليك. قل(يا أرحم الراحمين ثلاثاً) بدل قولك: يا رسول الله أو يا سيدنا الحسين، أو يا شيخ العرب، فقد ورد أن من قالها(قال له الملك الموكل إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل) قل(يا ذا الجلال والإكرام) فقد ورد ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام بدل قولك -يا أم العوجز يا ست -يا حامي طنطا يا سيد -يا حامي القنديل يا أبا العلا -قل يا رب العالمين، قل يا حي يا قيوم، قل يا أكرم الأكرمين، قل يا بديع السماوات والأرض، قل يا علام الغيوب، قل يا خير المسؤولين، عند قيامك وقعودك وشدتك ورخائك بدل قولك يا سيدي فلاناً ويا سيدتي فلانة(قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)(لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(ولاتدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين)" اهـ من القول الجلي صـ28. فإذا كان دعاء الله(116/275)
والطلب منه عبادة فصرف هذا الدعاء لغيره صرف محض حقه تعالى وإعطائه لغيره سبحانه من العبيد والمخلوقين، وهو أشد أنواع الظلم(إن الشرك لظلم عظيم) وهذا الظلم أيضاً ظلم للنفس إذ ألجأها إلى من لا يملك لها ضراً ولا نفعاً، ولذلك تعجب الله سبحانه من أمثال هؤلاء فقال: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم)(1) وكل المدعوين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أَمَرَه الله أن يقول: (قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداًً) بل أمره أن يقول: (قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء)فإذا كان صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً فكيف يُدعى من دون الله، وكيف يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، كيف يُعصى
__________
(1) قد يقول قائل ما بالكم تنزلون هذه الآيات على بعض المسلمين وإنما نزلت في الكفار أصلاً؟ فالجواب: وما المانع من ذلك فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً فحيثما وجدت العلة وجب الحكم. والقرآن خالد لكل زمان ومكان ولم يستنفد أغراضه؟ ثم هل المسلمون معصومون بأجمعهم فهل يقول عاقل إن كل فرد منهم معصوم؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أناساً من أمته سيتبعون سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فهذا بلا شك حاصل واقع لصدق المخبِر وإن كان هذا لا يشمل كل الأمة كما لا يخفى لقوله صلى الله عليه وسلم(لا تجتمع أمتي على ضلالة)(لا تزال طائفة من أمتي على الحق). ومجرد الانتساب إلى هذه الأمة لا ينفع الواحد منها ما لم تستقم العقيدة ويسعفه العمل فهؤلاء العرب كانوا ينتسبون إلى دين إبراهيم ويتقربون إلى لله بعبادة الأوثان ومع ذلك لم يعذرهم الله سبحانه وتعالى وكفّرهم وأباح دمائهم وأموالهم وكذلك من ينتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لو تقرّب إلى الله بعبادة الأوثان كالقبور مثلاً فحكمه حكمهم.(116/276)
النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر أمته باللجوء إلى الله في الشدة والرخاء، وقد قال لابن عمه وأحب الناس إليه: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) لم يقل له إذا اضطُررت فاستغث بي واسألني ولا قال توسل بي بل قال: إذا سألت فاسأل الله. (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله؟). بل هو صلوات الله وسلامه عليه كغيره من العباد محتاج لرحمة الله ورضوانه فقد كان صلوات عليه يسأل ربه خيري الدنيا والآخرة وأمرنا أن نسأل الله له، فنحن دائماً نطلب له من الله الصلاة والبركات ورفع الدرجات فنقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لا يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط وغيره. فلهذا نحن نقول بعد سماع الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) فإذا كان هذا حال أفضل البشر صلوات الله عليه وسلامه عليه محتاجاً إلى رحمة ربه وفضله، وصلاتنا عليه إنما هي طلبنا له من الله فكيف ممن هو دونه ممن يعتقد فيهم العامة حتى ولا دليل من الله على صلاحهم أمثال البدوي والدسوقي وغيرهم؟ فلا يُدرى حالهم، أهم في الجنة أم في النار؟ ثم الأدهى من كل ذلك أن هؤلاء أموات غير أحياء بينهم وبين الدنيا برزخ فلا يسمعون الداعي ولاينبغي لهم أن يسمعوا(وما أنت بمسمعٍ من في القبور) وحتى لو سمعوا ما استطاعوا إجابة داعيهم قال تعالى(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) فانظر كيف سمى الله دعاءهم شركاً. فحكم الميت يختلف عن حكم الحي(وما يستوي الأحياء ولا الأموات)، فما أجهلهم وأضل سعيهم(116/277)
يعرضون عن دعوة القريب المجيب ويجأرون إلى الميت السليب.
انقطاع عمل الإنسان بموته وعدم علمه بعمل الأحياء بعده وقول الله يوم القيامة لنبيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)
الميت انتهى تكليفه وانقطع عمله بموته وخُتم كتابه فلم يعد يستطيع نفع نفسه فضلاً عن غيره. وصار هو المحتاج لدعوة صالحة تلحقه من بعده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم. فقد فات زمان النفع، وولّت تلك الأيام التي يستطيع فيها تحصيل الخير لنفسه ولغيره، وانقضت مدة اختباره في هذه الدنيا -يوم كان حراً -أما الآن فقد صارت نفسه ممسوكة حتى قيام الساعة: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وهو الآن في غفلةٍ من كل هذا حتى إنه إذا بعث ظن أنه لم يلبث إلا عشية أو ضحاها(أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) فهو بعد أن يموت لايدري ما حدث بعده وهذا شأن البشر جميعاً حتى الأنبياء فإنهم إذا ماتوا صارت نفوسهم ممسكة عند الله وإن كانت حياتهم البرزخية أكمل من غيرهم ولكنها برزخية على أية حال حكمها يختلف عن حكم الدنيا التي خرجوا منها ولم يعودوا من أهلها (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قُبضت روحه وخرج من الدنيا فإنه لا يسمع أخبار أمته ولا يدري ما عملوا وما أحدثوا بعده روى البخاري في صحيحه(6582) ومسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليرِدَنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختُلجوا دوني فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا(1)
__________
(1) معنى أحدثوا أي ابتدعوا لأن كل محدثة بدعة. فلعل هؤلاء المطرودين عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم هم المبتدعة.(116/278)
بعدك؟) اهـ . وفي رواية أخرى للبخاري(برقم 6586) بلفظ : (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك). اهـ . وهذا شأن الأنبياء جميعاً فإنهم إذا توفاهم الله وقُبضوا لم يدروا ما فعلت أممهم من بعدهم؟ فهذا عيسى عليه السلام يوضح هذا الأمر أوضح بيان -وهو يخاطب ربه يوم القيامة- متبرئاً من أعمال النصارى من بعده لأنه غير شاهد عليها ولا علم له بها: (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم وأنت على كل شيء شهيد). وهذه الآية بعينها استدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا يعلم ما يحدث بعده من أفراد أمته، وسيقولها يوم القيامة حينما يرى من أمته ما لم يكن رآه ففي صحيح البخاري(برقم 6526) عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سيُجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي ! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنتُ عليهم شهيدأً ما دمتُ فيهم -إلى قوله -الحكيم). اهـ وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم منعَّمون في حياتهم البرزخية أكثر من غيرهم من المؤمنين، حتى إنهم يصلون في قبورهم. ولكنها أمور غيِّبت عنا فلا ندري طبيعة هذه الحياة. وكذلك الشهداء حياتهم البرزخية أفضل من غيرهم ولكنها في كل الأحوال برزخية أخروية تختلف عن حياتهم الدنيا التي خرجوا منها وصار بينهم وبينها حاجز وبرزخ(ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وما روي من عرض أعمال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من أقارب الميت لم يصح منه شيء، وإنما روي مرسلاً عن بكر بن عبد الله أحد التابعين رواه ابن سعد. ثم هو معارَض بالحديث السابق الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ومالك وفيه قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم حين يُذاد ناس من أمته عن حوضه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)،(إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك)، إذ لو كانت الأعمال تُعرض عليه لعلم بما أحدثوه ولم(116/279)
يفاجأ بها يوم القيامة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم تُعرض عليه أعمال الأمة في حياته فكيف بعد موته. وقد كان في المدينة منافقون لا يعرفهم فإن الله تبارك وتعالى عرّفه بعض المنافقين ولم يعرفه آخرين كما في سورة التوبة: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم). أما عرض الأعمال فهو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فمن المتفق عليه عند العلماء أن أعمال الناس تُعرض على الله سبحانه وتعالى كل أسبوع مرتين، كما في صحيح مسلم: (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال اتركوا هذين حتى يفيآ). وفي لفظ آخر له: (تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً) الحديث. حتى هو صلى الله عليه وسلم كان عمله يُعرض على الله في هذين اليومين كغيره من الناس كما في الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). اهـ(1)
__________
(1) هذا الرفع للأعمال إلى الله أسبوعي -كما ترى- وثمة رفع سنوي لها في شهر شعبان كما ثبت في شعب الإيمان للبيهقي من حديث أسامة عنه صلى لله عليه وسلم قال: (شعبان بين رجب وشهر رمضان، تغفل الناس عنه، تُرفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم). والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع وفي الصحيحة(898) وعزاه للنسائي وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطّلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) حسنه الألباني في الصحيحة(1143) وعزاه للطبراني وابن أبي عاصم والبيهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ولكن لا يُشرع إحياء ليلة النصف من شعبان أو صيام نهارها بخصوصها فإنه وإن كانت فضيلة هذه الليلة ثابتة فإن تخصيصها بهذه الأشياء من البدع التي لم يأذن بها الله ولا رسوله وقد نبّه على ذلك مَنْ كتب عن البدع من العلماء.(116/280)
وبعد أن كتبت هذا قرأت كلاماً متيناً لبعض علماء الشيعة الذين هداهم الله إلى الحق واتباع السنة هو الشيخ أبو الفضل البرقعي في كتابه كسر الصنم الذي ألفه في نقض كتاب أصول الكافي للكليني الرافضي فقال رداً على الكليني الذي بوَّب لعرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة أئمة الرافضة ذاكراً تحته أخباراً مكذوبة قال الشيخ البرقعي رحمه الله: "إن عرض الأعمال على النبي والأئمة يخالف مئات الآيات في القرآن. قال تعالى( ولا تجسسوا) وقال تعالى( وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) وقد كررها في الآية 17من سورة الإسراء والآية 18من سورة الفرقان، والله ستّار على ذنوب عبيده ولا يرضى أن يعلم ذنوب عباده غيره تعالى يقول الله لرسوله في سورة التوبة الآية101: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) وقال تعالى في الآية43: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) وقال تعالى في الآية 204من سورة البقرة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام) إذن، كيف يقول الرواة الكذابون إن الأئمة مطلعون على أعمال العباد خلافاً للقرآن. بالاضافة إلى أن النبي والأئمة في عالم آخر قال تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم) وقال تعالى: (ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون). وإذا عرض عليهم سوء أعمال الأمة مثلاً فإن ما يُعرض عليهم هو مدى إراقة الدماء ومدى العصيان والخيانة والجناية ومدى الكذب على المنابر على الله و رسوله وصدور الأحكام المخالفة للحق. هل يُعرض كل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحزن دائماً!! ولا فائدة من ذلك أيضاً، وسيبقى الناس على حالهم، هذه نتيجة البعد عن القرآن واتِّباع الخرافات التي يأتي بها الرواة، ألم يروا قوله تعالى في سورة المائدة الآية109بأن الأنبياء لا علم لهم بأعمال الأمة: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أُجبتم قالوا لا(116/281)
علم لنا) ألم يروا قول عيسى عليه السلام عندما قال رب لا علم لي بهم بعدما توفيتني(وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) الآية 117من سورة المائدة. ألم يروا قول نوح عليه السلام في سورة الشعراء الآيتين 112و113(ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) ومئات الآيات الأخرى"إهمن كتاب كسر الصنم للبرقعي صـ172.
خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في قبره
وكما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا خصوصيات، كذلك فإن له في قبره خصوصية، وهي أن الله سبحانه وتعالى يبلِّغه ويعرض عليه عن طريق الملائكة سلام أمته وصلاتهم عليه فقط دون باقي أعمال الأمة، كما في الحديث الصحيح: (إن لله تعالى ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام) اهـ رواه النسائي وأحمد. فهو -أي السلام- يبلغه صلى الله عليه وسلم على أية حال ويكون رده لهذا السلام بأن يرد الله عليه روحه رداً برزخياً ليس كالحياة الدنيا فلا يجوز تشبيهه بالحياة الدنيا فيرد عندها السلام كما في حديث أبي داود: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) اهـ وكذلك تبلغه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) رواه أبو داود وغيره، فهي تبلغه بلاغاً عن طريق الملائكة -كما ترى- ولا يسمعها هو بنفسه، لأنه ميت صلوات الله عليه (وما يستوي الأحياء ولا الأموات). وقد جاء هذا صريحاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ لله تعالى ملَكاً أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها) اهـ . رواه الطبراني في الكبير والبخاري في التاريخ وأبو الشيخ وهو حسن ثابت وهو صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع تلك الصلاة، وإن الملك هو الذي يسمعها فيبلغها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سواء كان الذي يصلي ويسلم عليه قريباً عند قبره أو كان في آخر الدنيا فإن(116/282)
الملائكة يبلغونه في نفس الساعة: كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وكل بي ملكاً عند قبري فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) وهو حديث حسن ثابت رواه الديلمي في الفردوس وهو من صحيح جامع السيوطي فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع صلاة الناس وسلامهم عليه بل الملائكة تبلغه، وهؤلاء الملائكة سواء الموكَل أو السيّاحون أعطاهم الله قدرة على سماع هذا السلام وهذه الصلاة من جميع نواحي الأرض، فيستوي والحالة هذه من كان عند قبره صلى الله عليه وسلم فسلم عليه أو كان في آخر الدنيا، وهذا ما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم فقد روى سعيد بن منصور في السنن عن سهيل بن أبي سهيل قال: (رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال هلمّ إلى العشاء. فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء إهـ. وهو حديث صحيح رواه ابن أبي شيبة وابن خزيمة في(حديث علي بن حجر) ج 4/رقم 48/، وابن عساكر4/217/ وعبد الرزاق في مصنفه/3/577/ وإسماعيل القاضي في(فضل الصلاة على النبي)، قال الألباني في تخريجه: حديث صحيح.(1)
__________
(1) فائدة: لم يكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر في المسجد فإنه صلى الله عليه وسلم دُفن في حجرة عائشة رضي الله عنها بتوقيف منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم(ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)، وقوله: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) حديث صحيح، شواهده كثيرة وانظر أحكام الجنائز/137/للألباني وإنما أدخلت الحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم في المسجد يوم لم يكن أحد من الصحابة في المدينة حياً، فقد أدخلت في المسجد عند توسعته التي حدثت في عصر الوليد بن عبد الملك عام إحدى وتسعين كما ذكره غير واحد من المؤرخين والعلماء كابن شبَّة في(أخبار المدينة)، ومعلوم أن آخر الصحابة موتاً في المدينة هو جابر بن عبد الله وقد توفي في خلافة عبد الملك سنة ثمان وسبعين ومع ذلك فقد أنكر السلف ذلك فلم يلتفت الوليد لإنكارهم وأمر عامله بإنفاذ الأمر وقد ذكر ابن كثير في تاريخه(9/75) أن سعيد بن المسيب "أنكر إدخال الحجرة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً".(116/283)
ويشهد لحديث الحسن بن الحسن حديث آخر صحيح عن رجل آخر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هو زين العابدين فقد روى أبو يعلى في مسنده(469) وابن أبي شيبة(2/83). والضياء المقدسي في المختارة(/154) وإسماعيل القاضي(20) عن علي بن الحسين(زين العابدين): (أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو. فنهاه، وقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم، وصلُّوا عليّ، فإن صلاتكم وتسليمكم يبلغني أينما كنتم"اهـ . ومن الأدلة -أيضاً- على أن الصلاة على النبي تعرض عليه في قبره ولا يسمعها بنفسه ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ). فقالوا يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! قال: يقول: بليت، قال: (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) اهـ. ومن أجل هذه الخصوصية -أعني إبلاغ الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته وصلاتهم عليه- شُرع للمصلي -حيثما كان- أن يقول في تشهده: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). أما غيره من الأموات فلا يبلغه السلام. وما روي من أنه(ما من مسلم يمر على قبر أخيه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) فهو حديث متفق على ضعفه، ما رواه أحد ممن يروي الصحيح، فلم يرِد في الكتب الستة أو كتب الحديث المعتمدة، وإنما رواه الديلمي في الفردوس من رواية عبد الرحمن بن زيد قال ابن الجوزي: (أجمعوا على ضعفه). ولم يصح في هذا الباب شيء وما روي فيه عن الثقات شيء وإنما روي عن الكذابين والمتروكين. أما ما ورد من سماع الأموات في حالات خاصة فهذا مرتبط بعلة معينة زال زوالها. مثل خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القليب من كفار قريش يوم بدر وقوله: هل(116/284)
وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ الحديث، فهو معجزة له صلى الله عليه وسلم وخرق للعادة. وهذا ما فهمه راوي الحديث التابعي قتادة راويه عن أنس رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري قال قتادة: (أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً). (انظر صحيح البخاري رقم الحديث 3976). والأصل عدم سماع الأموات، وهذا الأصل كان مستقراً عندهم ولذلك أنكر عمر هذا وقال: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم الآن يسمعون فقط، ولفظه كما في الحديث ابن عمر: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"(انظر صحيح البخاري برقم 3980) فقيّد سماعهم بلفظ (الآن). فهي حالة خاصة. وكذلك ما ورد أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا انصرفوا عنه، لأنه في هذه اللحظة تعاد روحه إلى جسده لسؤال الملكين منكر ونكير كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة، فهي حالة واضحة الخصوصية، ومن أراد المزيد حول هذا الموضوع فليراجع(الآيات البينات في عدم سماع الأموات) للعلامة الآلوسي. أما السلام على أهل القبور فهو دعاء لهم، وهو من لفظه يختلف عن السلام على الحي الذي يسمع فيجيب لذلك كانت صيغة السلام على الأحياء: السلام عليكم ورحمة الله. بينما السلام على الأموات الذين لا يسمعون ولا يتأتى منهم إجابة فصيغته مختلفة: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، السلام عليكم أهل الديار، وهذا جابر بن سليم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليك السلام يا رسول الله. فقال: "لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى". رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. فهذا السلام دعاء لهم، ولا يعني السلام على من يسمع. ومن الجائز في لغة العرب مخاطبة ما لا يعقل، كمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لمكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"رواه الترمذي. وكذلك خاطب عمر رضي الله عنه الحجر الأسود قائلاً:(116/285)
(لولا أني رأيت رسول الله قبَّلك ما قبلتك). رواه البخاري فهذا السلام على الأموات من جنس الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة فإن من معاني السلام الرحمة والأمن ونحوها. كأنك تدعو لهم تقول: المغفرة والسلام والرحمة عليكم، وهو كقولك اللهم اغفر لهم. والله أعلم. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يسمع شيئاً بعد موته ولا يدري ما حدث بعده، فكيف ممن هو دونه، ممن مات وفات، وصار من جملة الرفات!؟ كيف يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات؟(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون). وحتى لو قلنا إن الميت يسمع سلام المسلِّم عليه ويرد عليه فلا يُشرع لك طلب شيء منه لأن حكم الميت غير الحي بهذا جاء الشرع واتفق عليه السلف (إن تدْعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) وغاية الأمر أن يكون حال الأموات في السماع كحال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز دعاؤه صلوات الله عليه ولا طلب شيء منه بعد موته والسلام.
من صفات المدعوِّ المسؤول(116/286)
من المعلوم أن كل من يُدعا ويُصمد إليه ويُسأل ينبغي أن يتصف بصفات تليق به كمسؤول متى فقدها أو فقد بعضها لا يجوز بعدها أن يُطلب منه ويقصد، ومن ذلك أن يكون المطلَبُ في مقدوره، فإذا كان السؤال بالغيب انحصر الأمر بالله قطعاً، ذلك أنه لا أحد يعلم الغيب لا البشر وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الملائكة، ولا الجن ولا غيرهم،(قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)، فمن العبث إذاً أن يسأل غيره. كذلك ينبغي أن يكون المسؤول فضلاً عن علمه بالغيب سميعاً بالغيب بحيث يسمع كل شيء مهما بعدت المسافات ودقت الهمسات، وهذا مختص بالله وحده، لأن من أسمائه وصفاته السميع فلو اعتقدنا أن أفضلَ البشرِ محمداً صلى الله عليه وسلم يسمع دعاءنا لكنّا قد أشركنا بالله، إذ يصبح هنالك سميعان والحال أن السمع بالغيب من صفات الله وحده: (والله هو السميع العليم)،(إنه هو السميع العليم). وإذا كان هو السميع لا غيره فهو وحده الذي يسمع دعاء عباده فيجيبهم قال زكريا عليه السلام: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء). كذلك من صفات المسؤول أن يبصر بالغيب فلا يخفى عليه شيء وهذا أيضاً خاصٌّ بالله الذي يرى النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء. (إن الله هو السميع البصير) أي لا أحد غيره يسمع ويبصر بالغيب. وكذلك ينبغي أن يكون المسؤول مالكاً، يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضر وينفع، وهذا خاصٌّ بالله إذ هو الملك وهو المالك: (لله ملك السماوات والأرض)،(ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)، وأمر نبيه أن يقول: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأقرب الناس إليه؛ ابنته فاطمة: (لا أملك لك من الله ضراً ولا نفعاً) رواه مسلم. وكذلك ينبغي أن يكون هذا المالك المسؤول مستغنياً بنفسه عمن سواه وهذا مختصٌّ بالله لأن العباد كلهم فقراءٌ إليه، فكيف يُطلب(116/287)
من الفقير؟ قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). ومن صفات المدعو أن يكون حيّاً غالباً على أمره قائماً عليه، وهذا مختص بالله، إذ المدعوُّون الآن موتى، قال تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)، ومن العبث أن تطلب من ميت بينما الله الحي القيوم على عرشه يسمعك ويراك(هو الحي لا إله إلاّ هو فادعوه مخلصين له الدين). وينبغي أن يكون من صفات المسؤول أنّ خزائنه لا تنفد -مع كثرة السائلين-وأنه يفعل ما يريد، ولا يعجزه شيء، وهذا كله منتفٍ عن البشر بالكلية ومختصٌّ بالله وحده.
صفات الداعي والعلاقة بين الشحاذة والاستغاثة بغير الله وتأويل رؤيا النبهاني في كتابه شواهد الحق(116/288)
كما أن للمدعو المسؤول صفات تليق به، كذلك فإن للداعي والسائل صفات لا تنفكُّ عنه حال سؤاله منها التذلل والانكسار للمدعو بالقلب واللسان والجوارح، ومنها خفض الجناح، والرغبة والرهبة إليه، ومنها رجاؤه، وتعلّق القلب به، وجعل الهمّة عليه، ومنها التوكل عليه، وجماع هذه الخصال يُنتج العبودية التي لا تجوز إلاّ لله. وأنت لو تفطّنتَ لهذه الخصال التي تقوم بالداعي والخصال التي يتميز بها المدعو حسب اعتقاد الدّاعي والتي أقلها ما ذكرناه علمتَ لِمَ سمّى الله الدعاء عبادة، وجعله أفضل العبادة، ومخ العبادة، وأشرف العبادة، وأكرم شيء على الله؟ . ومن أجل بعض هذه الخصال التي يتلبّس بها الدّاعي والسائل -حال دعائه وسؤاله- حَرُم في دين الإسلام سؤال الناس أموالهم التي يقدرون عليها وما ذلك إلاّ لأجل خصال السائل التي أقلها التذلل والهوان الذي لا يليق بمؤمن وقد ذمّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسألةَ ونهى عنها وحذّر منها أشدّ التحذير، من ذلك قوله: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم).متفق عليه. وقال: (من سأل الناس تكثُّراً فإنما يسأل جمراً، فليستقلّ أو ليستكثر). رواه مسلم. وفي صحيح مسلم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل) الحديث.(1)
__________
(1) اعلم أن سؤال الناس بالغيب والاستغاثة بهم مع أنه شرك فهو نوع من الشحاذة والاستجداء والمناسبة بينهما واضحة فالحاجة والفقر لكل شيء يُشتكى إلى الله ومن أطرف ما وقفت عليه من المناسبة والعلاقة بين الاستغاثة بغير الله وسؤال الناس أموالهم أي الشحاذة وضرْب الأخير مثلاً على الأول ما ورد في خاتمة كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق يعني النبي صلى الله عليه وسلم لمؤلفه يوسف بن إسماعيل النبهاني(مات سنة 1350هـ) فإنه بعد كتابة هذا الكتاب رأى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول وهذه الرؤيا في الحقيقة تنسف كتابه من أساسه وضُربت له مثلاً= =لكنه لم يفقهها وسأذكر رؤيته بتمامها ثم تأويلي لها قال النبهاني في خاتمة كتابه المذكور صـ561: "رأيته صلى الله عليه وسلم في منامي سحر ليلة الاثنين الثالث من جمادى الأولى سنة1321هـ وكأني جالس في مجلسه الشريف وأني من جماعته، فجاء ناس يسألونه عن أمورهم وهو يجيبهم صلى الله عليه وسلم. فأجاب واحداً منهم عن مطلوبه. ثم أراد أن يجيب الثاني وهو يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشحاذة: أي سؤال الناس لأنه هو شحاذ وكان جالساً في جانبي، فاستفهم صلى الله عليه وسلم منه عن مسألته أهي عن الشحاذة؟ فقال الرجل نعم فقبل أن يجيبه مد يده الشريفة صلى الله عليه وسلم إلى حصير كان جالساً عليها فقطع منها خيطاً، وفهمت أنا مراده من ذلك فهماً يقينياً كأني كان لي علم بذلك، وهو أن مراده من قطع الخيط أن يعدّ عليه عيوب الشحاذة ويعقد عند ذكر كل عيب عقدة لكثرتها ولعلمي بذلك أردت أن أبين للرجل مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الخيط حين اشتغل بقطعه عن جواب السؤال ثم لم أبين له ذلك تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يشرح له عليه الصلاة والسلام تلك العيوب انتبهت من النوم"إهـ قلت: هذا مَثَلٌ ضُربَ للمؤلف لم يفقهه، فالمؤلف من الذين يسألون البشر ويستغيثون بهم من دون الله أي من الشحّاذين وما وضع كتابه إلا لتقرير هذا الشأن والحث عليه فالرؤيا بينت أن الشيخ منهم لأنه كان في جانب الشحاذ أي على طريقته ومذهبه فبينتْ الرؤيا أن ذلك قبيح إذ لمّا كان سؤال الناس أموالهم قبيحاً ومذموماً فسؤالهم بالغيب أقبح سيما إذا كانوا أمواتاً ولكن المؤلف لم يفهم الرؤيا وكذلك قطْعه صلوات الله عليه في هذه الرؤيا من الحصير فيه إشارة قوية إلى أن هذه الاستغاثات التي يلهج بها المؤلف وأشباهه من الفتن المضلة والبدع والأهواء التي إنْ أُشربها القلب صار مُجَخِّياً كالكوز كما قال عليه الصلاة والسلام: " تُعرض الفتن على القلوب عرضَ الحصير عوداً عوداً، فأيّ قلبٍ أُشربها نُكتتْ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لاتضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربدَّاً كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم. ودلّت الرؤيا أن المؤلف من أهل الأهواء وأنه ربما بيَّن له بعضُ أتباع النبي صلى الله عليه وسلم عيوب الاستغاثة بغير الله فهمّ أن يذعن للحق ولكنه أبى تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه وإنما هو متبع لهواه وبيّنتْ الرؤيا أنه لم يستطيع تخليص= =نفسه من هذا الهوى مع أنه عرف عيوب الاستغاثة بغير الله حتى همّ أن يبين للناس خطر الشرك الذي يدعو إليه فلم يفعل حتى انتبه يعني حتى مات لأن الناس إذا ماتوا انتبهوا كما ورد في بعض الأقوال. علماً أن النبهاني هذا لم يأت في كتابه إلا بشبهات وضلالات نعم نقل عن بعض المتأخرين أشعاراً فيها الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يأت بحرف واحد عن القرون الأولى لا شعراً ولا نثراً يؤيد ما ذهب إليه مع حرصه على جمع كل ما يخص الموضوع مع سعة اطلاعه ففي هذا أكبر دليل على أن هذه التوسلات والاستغاثات التي راجت عند المتأخرين وأنكرها العلماء الربانيون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره لم تكن معهودة عند السلف المتقدمين ولهذا لم يوفق النبهاني إطلاقاً في العثور على شيء منها، وأنى له ذلك والمنصوص عليه عند القوم تحريم التوسل إلاّ بأسماء الله وصفاته والتوسل بالإيمان والأعمال الصالحة المخلصة لله. فمن الثابت عن أبي حنيفة رحمه الله تحريم التوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه وهذا محل اتفاق بين أئمة الحنيفة الثلاثة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن لا اختلاف بينهم كما هو ثابت في متون الحنفية كالدر المختار وغيره. ومن العجيب أن الشيوخ المقلِّدين الجامدين لا يسمحون لأحد بمخالفة أئمة المذهب في مسائل فقهية حتى لو كانت مخالفة للسنة وإذا بهم يخالفون الأئمة في مسائل هي من العقيدة مثل هذه المسألة مدَّعين لأنفسهم الاجتهاد مع أنهم في غيرها جامدون ويحرمون الخروج على أقوال الأئمة بل ربما يعدُّون الخروج من المذهب كالخروج من الإسلام. ولهذا لا تجد هؤلاء الشيوخ يذكرون هذا الأمر للناس إطلاقاً ولا يعرفوهم بأن تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو دارج الآن إنما هو قول أئمة الحنفية على الأقل بل تجدهم يشنعون على المخالف وينبزونه بالوهابي وأنه لا يعترف بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من افتراءاتهم حتى استقر عند العوام في بعض البلدان أن هذا الأمر لا ينكره إلا المسمّون بالوهابيين فيلزمهم أن يعدُّوا أئمة الحنفية أبا حنيفة وصاحبيه وهابية إذاً وأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يجيزون التوسل بحقه أو جاهه كما يفتري الضالون ويبهتون مخالفهم. ويتجلّى للناظر في كتاب النبهاني دعوته إلى الشرك الصريح بل إنكاره الاستغاثة بالله وحده وإنه لا بد له من واسطة حتى يجيبه الله تعالى الرب عن ذلك علواً كبيراً وسأضرب مثلاً واحداً من كتابه على ما أقول مما لا يُتصور وقوعه من مسلم موحد؛ نقل في كتابه صـ447حكاية عن سيده محمد الحنفي قال: يُحكى أن سيدي= =محمداً الحنفي قدس الله سره فرش سجادته على البحر، وقال لمريده قل: يا حنفي وامش فمشى المريد خلفه فخطر له لم تقول يا حنفي هلا قلت يا ألله؟ فلما قالها غرق فأمسك الشيخ بيده وقال له: أنت الحنفي تعرفه فكيف بالله؟ فإذا عرفت الله فقل يا ألله فقال النبهاني معقباً على القصة: يشير إلى أن الوسائط لا بد منها، فالوسائط ينادُون من مكان قريب فيُجابون، والمريد من مكان بعيد فلا يُجاب فلهذا قيل لولا الواسطة لذهب الموسوط انتهى كلام النبهاني. فتأمل -هداك الله- هذا الشرك الصريح وسوء الظن بالله من هذا القبيح فإذا قال يا ألله واستعان به وحده غرق وإذا استعان بغيره مشى على الماء أيّ باطل هذا؟ فبدل أن يربط هذا المريد بربه ويعرفه بصفاته الجليلة ويجعله يحسن الظن بالله وأنه رؤوف بعبده رحيم سواءً كان مريداً أو أميراً وأنه قريبٌ مجيب(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)(وقال ربكم ادعوني استجب لكم)(أليس الله بكافٍ عبده) إذا به يوسوس له بأن ربه بعيد لا يردُّ عليه حتى يستغيث بغيره ويستعين بسواه ثم قارن بين هذا التعليم والاعتقاد الفاسد وبين تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لمريده ابن عباس: (يا غلام إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) لم يقل له كما قال ذاك الشيخ المشرك: إذا استعنت فاستعن بي وإذا استغثت فاستغث بي حاشاه صلوات الله عليه بل ربط الغلام بربه وأرشده إلى الاستعانة بخالقه وهذا شأن الرسل جميعاً صلوات الله عليهم يربطون الناس ببارئهم(اعبدوا الله مالكم من إله غيره) دون وسائط كما يفتري الصوفية المنحرفون المشركون فهم بهذه القصص الملفَّقة والكرامات المكذوبة يريدون أن يجعلوا الشرك راسخاً في قلوب المريدين ليعبدوهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.(116/289)
بل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال الناس ما يقدرون عليه من إعانة ونحوها مطلقاً حتى مناولة السوط، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكفّل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، وأتكفل له بالجنة؟ فقلتُ: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً) إهـ. وروى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفيّة: (ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيتُ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه) إهـ. وروى أحمد بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تسأل الناس شيئاً ولا سوطك وإن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه) إهـ. فإذا كان سؤال ما يقدر عليه الناس الحاضرون حراماً تارةً ومكروهاً أخرى، فكيف بسؤال الأموات والغائبين ما لا يقدر عليه إلاّ الله، مما لا مجال للأسباب فيه، كإعطاء العقيم الأولاد، وجعل المرأة التي تلد الإناث تلد الذكور، ودفع الأعداء، وصد السباع والضباع، وشفاء المريض، وإحياء الميت، وإماتة الحي، وإنزال المطر، وتحريك الساكن وتسكين المتحرك، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ الله الذي يقول للشيء كن فيكون؟ فكل من دعوته لشيء من ذلك حيّاً أو ميتاً فقد عبدته. والعجب كيف أنهم دفنوا الميت، وقرؤوا على روحه الفاتحة وأهدوها له زعموا ثم بعدها يسألونه الحاجات وتفريج الكربات!!
تحريم البناء على قبور الصالحين وغيرهم(116/290)
ولمّا علم الضالُّون المُضِلُّون من هذه الأمة أن الناس -بفطرتها- لا تلتفت إلى الأموات دأبوا على تزويق القبور ورفعها، وإشادة القباب فوقها، مضاهاة لمن عبد اللات والعزّى. ثم بنوا عليها المساجد زيادة في الإضلال وتغريراً بالجهّال ليصرفوا وجوه الناس إليها مضاهاةً لليهود والنصارى، ومحادّة لله ورسوله، مع علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعله وعدّه شر الخلق عند الله، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا مرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية -وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا الحبشة- فذكرن من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). قال الحافظ ابن رجب: (هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرّم على انفراده؛ فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء المساجد على القبور بانفراده يحرم، كما دلت عليه نصوص أُخر إلخ كلامه) ذكره في الكواكب الدراري. وروى مسلم وغيره عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: (ألا إنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك) إهـ. وروى البخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً. إهـ.تعني عائشة رضي الله عنها بقولها فلولا ذاك أبرز قبره أنه لولا خشية(116/291)
اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً ووثناً يعكف عليه الجهّال حال بروزه لهدم الصحابة رضوان الله عليهم جدران حجرة عائشة التي دُفِن فيها صلوات الله عليه حتى يجعلوا قبره بارزاً دون ساتر، ويتعيّن هذا التفسير لأن الصحابة لم يكونوا ليجتهدوا في مكان دفنه صلى الله عليه وسلم وقد احتجّ عليهم أبو بكر رضي الله عنه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله نبياً قط إلاّ ودفن حيث قبض روحه). وأنت خبير أن بيت عائشة الذي فيه دُفن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذ ذاك في المسجد. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى عندما قال في نونيته:
ودعا بأن لا يُجعل القبر الذي
فأجاب رب العالمين دعاءه
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
والله لولا ذاك أبرز قبره ... قد ضمّه وثناً من الأوثان
وأحاطه بثلاثة الجدران
في عزةٍ وحمايةٍ وصيان
لكنهم حجبوه بالحيطان
ج(116/292)
ولا حُجّة في هذا لمن يبنون القباب على قبور أوليائهم المزعومين لأن دفنه صلى الله عليه وسلم في مكانه ذاك بتوقيفٍ من الله ورسوله. والجدران كانت موجودة أصلاً، ولم يهدمها الصحابة خشية الفتنة بقبره صلى الله عليه وسلم وصيانة له من عكوف الناس عليه، على عكس ما بُني على قبور الأولياء فيما بعد فإنه قُصد به تعظيمهم وجلب الناس إلى قبورهم ومقاماتهم للافتتان بها والدعاء عندها زعموا، فكان فيها من الفتنة ما تعلم؛ من طواف بها، واستلامها وتمريغ الخدود على عتباتها، وإكسائها، والسجود عليها ولها، وطلب الحاجات من أصحابها، والنذر والذبح لهم، خوفاً من بطشهم واستجلاباً لعطفهم، فلا تعجب أن حصل هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر أمّته من دواعيه، فمنع رفع القبور وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها، وشد الرحال إليها، وغير ذلك، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم لا يُحذِّر إلاّ من شر فأطاعه المهتدون، وعصاه الضالون المنحرفون اتباعاً لسنن الهالكين من اليهود والنصارى تصديقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعنّ سنن الذين كانوا من قبلكم، حذو النعل بالنعل حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه). ثم الأصل أن الدفن في الصحراء(في الجبّانة)، فلا زال المسلمون يدفنون موتاهم في البرية الصحابة ومن بعدهم. ولم يكن السلف يحفلون بالقبور؛ من رفعها وتجصيصها بلْه البناء عليها والطواف بها والعكوف عليها، فإنهم رضوان الله عليهم كان دأبهم الجهاد والفتوحات، وكانت هممهم في السماء، فلمّا انتكست فطرة أكثر المتأخرين صارت همَّتهم في الحُفَر، فالتفَتوا إلى هذه الأجداث فأشادوها ورفعوها وزوّقوا بناءها ليفتنوا بها العوام، ويخدعوا أبناء الإسلام، حتى صار أحدهم يتمسّح بهذه الحجارة والأتربة ويرجو تلك الحفرة، مع أن صاحبها قد انقطع عمله بموته، وصار عظاماً نخرة -إلاّ من رحم ربي-فصاروا يطلبون منه وهو المحتاج، ويسألونه ولا يعلمون هل هو ناج!؟ فمنهم(116/293)
من يقول يا رفاعي وآخر يقول يا بدوي وثالث يقول يا جيلاني، والله يقول: (إنّ الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم). فانظر أيها القارئ الفطن بعين الإنصاف هل كان داعي تلك المفاسد إلاّ البناء على القبور، وتزويقها للعامة، واختلاق القصص والكرامات حولها للضحك عليهم؟ وأخْذ ما بجيوبهم؟ فإنا لله! وكيف لا يكون البناء على القبور، وتزويقها، وإشادة القباب فوقها مفسدةً وشراً والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذّر منه ونهى عنه أشد النهي، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه) وزاد أبو داود والترمذي(أو يُزاد عليه، أو يُكتب عليه) إهـ. وروى الطبراني في المعجم الكبير(18/262) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَوُّوا القبور على وجه الأرض). ورواه أحمد(6/21) وغيره بلفظ: (سَوُّوا قبوركم بالأرض)، وهو حديث حسن وأصله في(مسلم). فالواجب على المسلمين -مَنْ يستطيع منهم- هدم هذه القباب، وتسوية تلك الأجداث، كما هو فعْل النبي صلى الله عليه وسلم وأمْره، ودأب خلفائه الراشدين، وأصحابه المكرمين؛ فعن عبد الله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيتُ عثمانَ بنَ عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوِّي. رواه ابن أبي شيبة في المصنَف(4/138) وأبو زرعة في تاريخه بسند صحيح.(116/294)
وأخرج مسلم في صحيحه(3/61) وأصحاب السنن عن أبي الهيّاج الأسدي قال: (قال لي عليُّ بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوَّيته). إهـ. ورى الطبراني في المعجم الكبير(19/352/823) بإسناد صحيح أن معاوية رضي الله عنه قال: (إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعتْ اليهود والنصارى فلا تشبهو ا بهما).إهـ. وروى مسلم في صحيحه(3/61) عن ثمامة بن شفي قال: كنّا مع فضالة بن عبيد رضي الله عنه بأرض الروم بـ"رودس"فتوفي صاحبٌ لنا فأمر فضالة بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. إهـ(1) وثمة أدلة كثيرة، وأقوال كثيرة للسلف، ولأئمة الإسلام في هذا الباب يتبيّن منها أن رفع القبر والبناء عليه محرمٌ أشد التحريم لأنه يقود إلى الشرك بل إن مجرد البناء على القبر واعتياد الناس له، للتبرك به، والعبادة عنده،
__________
(1) من هذه الأدلة يتبين لك الخطأ والضلال الذي وقع فيه الصوفية حين قالوا يحرم البناء على قبور عامة المسلمين إلا الصالحين ويعنون بهم شيوخ الصوفية فهؤلاء يجوز البناء على قبورهم فنقول: وهل الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا صالحين حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي قبورهم ويأمرهم بذلك؟ أم القضية أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره إنما تتوجّه أصلاً إلى الصالحين الذين يعتنون بها ويعملون بها. وهل شيوخ الصوفية أنبياء حتى يُدفَنوا في مساجدهم فنقول: (الأنبياء يدفنون حيث ماتوا) ثم مسألة الصلاح مسألة غيبية لا يعلم حقيقتها إلا الله فلا يجوز الحكم على شخص بعينه أنه من أهل الجنة ومن الناجين دون دليل أصلاً. أم أن الولي الصالح مَنْ كان ثرياً واستطاع البناء على قبره. حتى صار تعريف الولي عند الصوفية هو الذي بُني على قبره قبّة أو دفن في المسجد، نقول نعم من فُعل به ذلك برضاه فهو ولي ولكن للشيطان.(116/295)
يُصيِّره وثناً حتى لو كانت العبادة التي تفعل عنده لله فكيف إذا انضاف إلى ذلك إسراجه وكسوته ووضع العمائم عليه وتبخيره؟ فكيف إذا بُني عليه مسجد؟ فكيف إذا عبده الناس فعكفوا عليه واستغاثوا به حتى قال قائلهم: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر؟ فكيف إذا طافوا به يوم العيد سبعاً(كحال أتباع الشاذلي بمصر)؟ ولا يستغربن أحدٌ أنْ يُصبح القبر وثناً يُعبد بعد أنْ ثبت أنّ أوثان أهل الجاهلية اللات ووداً وسواعاً وأضرابه إنما هي قبور ومشاهد ومقامات وتماثيل لأولياء صالحين تلك أسماؤهم عكف عليها الضالُّون واستغاثوا بأصحابها وتبرّكوا بأحجارها وترابها، فلا فرق بين قبر اللات وقبر الشاذلي ولا بين قبر ود وقبر الجيلاني فالكل أوثان، فتلك عبادتهم وهذا شركهم الذي بعث الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالته. ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أول الأمر- زيارة القبور مطلقاً. وهدم المشرف منها، وسوّاها بالأرض. وما ذلك إلاّ للتنبيه على أن منشأ الشرك إنما هو اعتياد قبور الصالحين والاحتفاء بها ثمّ بعد أن استقرّ هذا عند الصحابة رضوان الله عليهم أذن في زيارتها –بشروط- وذلك للمصلحة الراجحة المرجوة من تلك الزيارة؛ من تذكرٍ الموت والآخرة، وترقيق القلب، والإحسان للميت بالدعاء والاستغفار له، ومع ذلك فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيوداً وأرشد إلى أمور بشأن القبور وزيارتها لو التزم بها المسلمون لم يضلوا بعدها -من هذه الناحية- أبداً.
ضوابط الزيارة الشرعية للقبور(116/296)
فمن ذلك أنه جعل القبور خارج المدينة، ثم أمر بتسويتها، ومنع من رفعها وتجصيصها والبناء عليه، وما أشبه ذلك، حتى إنه منع الكتابة عليها، ثم منع بناء المساجد عليها كفعل النصارى وعدّ ذلك من أشنع الأمور كما رأيت ثم منع الصلاة عند القبور مطلقاً، وهذا باتفاق أئمة الدين المعتبرين، ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور"رواه مسلم 3/62، وقوله: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وكذلك حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور"رواه البزار(441) وغيره من طرق عن أنس وهو صحيح. ولهذا حكم السلف ببطلان الصلاة عند القبور، وتبعهم على ذلك أئمة الدين؛ قال الإمام أحمد: (من صلى في مقبرة أو إلى قبر أعاد أبداً)(انظر المحلى 4/27). حتى إن صلاة الجنازة-وهي التي لا ركوع فيها ولا سجود- ورد النهي عن أدائها بين القبور كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أنّ يُصلى على الجنائز بين القبور) أخرجه الطبراني في الأوسط(1/80/2)، وغيره وقال الهيثمي في المجمع(3/36): (إسناده حسن). والأفضل أن تكون في مصلى خاص بها-خارج البنيان- كما هو الحال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتجوز في المسجد. بل يجوز-لمن يحضر الصلاة على الجنازة- أن يصليها على الميت في قبره بعد أن يدفن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة وإنما جازت الصلاة على الميت في قبره لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود فتكون مظنة تعظيم الميت وإنما هي دعاء له فحسب. وكما نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عند القبور نهى كذلك عن قراءة القرآن عندها كما في قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم(2/188) ويؤخذ من هذا الحديث كراهة قراءة القرآن في(116/297)
المقابر، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" أخرجه البخاري(1/420) وترجم له بقوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر). والكراهة في الموضعين كراهة تحريم، إذ لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ عند القبور شيئاً من القرآن البتة لا الفاتحة ولا غيرها، ولو أنه قرأ شيئاً من ذلك لنُقل إلينا فإنه ممّا تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل منه شيء دل على أن قراءة القرآن على الأموات غير جائزة، لأن ترْكه صلى الله عليه وسلم لشيء من القربات دينٌ، وفِعْله لشيء منها دين، فالواجب اتباعه صلى الله عليه وسلم في الحالين؛ في الترك والفعل، إذ الكل دين، وقد وصلنا الدين كاملاً محفوظاً، وليس منه قراءة القرآن للأموات عند القبور بل ولا في البيوت،(وما كان ربك نسياً). هذا وربما قال بعض الجهلة: قد علمنا أن قراءة القرآن للأموات ليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ولكن قراءة حرف من القرآن حسنة والحسنة بعشر أمثالها فنحن نقرؤه للأموات رحمة لهم ! فيقال لهؤلاء وأضرابهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أرحم الأمة بالأمة بل ما أُرسل إلا رحمة للعالمين، وقد علمتم أن الأموات في عهده بحاجة إلى الرحمة-مثل كل الناس- ومع ذلك لم يكن يقرأ لهم شيئاً من القرآن مع وجود المقتضى بل كان إذا ذهب إلى مقبرة البقيع دعا لهم بالمغفرة ونحوها، ولم يقرأ الفاتحة ولا غيرها، فهذا يدل على أحد ثلاثة أشياء؛ إما أنه صلى الله عليه وسلم مُقصِّرٌ، أو أنه لم يهتد إلى ما اهتديتم إليه أيها المبتدعون، أو أن هذا الأمر غير مشروع إذ لو كان مشروعاً لفعله إذ هو مبلغ هذا الدين ومبيّنه. والأمران الأوّلان منتفيان عنه صلى الله عليه وسلم بالضرورة، فلم يبق إلا أن هذا الأمر غير مشروع وهذا قول جمهو ر العلماء(1)
__________
(1) قال بعض علماء الأصول بعد ذكره قاعدة أصولية نفيسة: "قراءة القرآن على القبور رحمة بالميت، تركه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الصحابة مع قيام المقتضى للفعل، والشفقة للميت وعدم المانع منه، فبمقتضى القاعدة المذكورة يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة! وكيف يُعقل أن يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً نافعاً لأمته يعود عليها بالرحمة ويتركه الرسول صلى الله عليه وسلم طول حياته ولا يقرؤه على ميت مرة واحدة فلنتأس به في الفعل كما نتأسى به في الترك"إه. واعلم أن هذا هو مذهب الجمهور فأكثر العلماء لا يجيزون قراءة الفاتحة وغيرها للميت ولنذكر بعض أقوال أئمة المذاهب والعجيب أن الشيوخ المقلدين يكتمون هذا العلم ولا يقولونه للناس؛ مذهب أبي حنيفة: قال في الفقه الأكبر للإمام ملا علي القاري الحنفي صـ110 ثم القراء ة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله في رواية لأنه محدث لم ترد به السنة وكذلك قال شارح الإحياء ج3ص280. مذهب الشافعي: قال الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)"ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقوا إليه، وباب القُربات يُقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف منه بأنواع الأقيسة والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما"إه. وقال النووي في شرح صحيح مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت: "والمشهور من مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها". وقال في شرح حديث(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلخ): "وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه= =ونحوها فمذهب الشافعي وجمهور العلماء أنها لا تلحق الميت"إه. فانظر هذا الإمام النووي يحكي أن عدم قراءة الفاتحة وغيرها للميت هو مذهب الجمهور، أي إنها بدعة. وسئل العز بن عبد السلام عن ثواب القراءة المهدى للميت هل يصل أو لا؟ فأجاب بقوله: ثواب القراءة مقصور على القارىء ولا يصل إلى غيره. قال: والعجب من الناس من يثبت ذلك بالمنامات وليست المنامات من الحجج إه. مذهب المالكية: قال الشيخ ابن أبي جمرة: إن القراءة عند المقابر بدعة وليست بسنة. كذا في المدخل. وقال الشيخ الدردير في كتابه الشرح الصغير(1/180) وكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور لأنه ليس من عمل السلف وإنما كان من شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ إه. وكذلك في حاشية العلامة العدوي على شرح أبي الحسن. مذهب الحنابلة: قال الإمام أحمد لمن رآه يقرأ على القبر: يا هذا إن قراءة القرآن على القبر بدعة. وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء أصحابه. وقال أيضاً: والقراءة على الميت بعد موته بدعة. وقال: ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى موتى المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف وأما حديث"اقرءوا على موتاكم يس" فهو حديث معلول مضطرب الإسناد مجهول السند. وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه قطعاً فإن المراد من قوله"موتاكم" أي من حضرته مقدمات الموت(هذا مثل لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله أي مَنْ حضره الموت حتى تكون آخر كلامه). وقال في شرح الإقناع: (قال الأكثر: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وأن ذلك لفاعله) إه. قال الشيخ العلامة رشيد رضا في تفسير المنار عند قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) الآية 164من سورة الأنعام: "إن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ولو علموها لما أهملوا العمل بها. وإن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أُريد به من حضره الموت وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال بذلك المحدث الدارقطني. واعلم أن ما اشتهر وعمّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية، ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو= =الفرائض المحتّمة. قال: وخلاصة القول أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح. ثم نقل عن الحافظ ابن حجر أنه سُئل عمن قرأ شيئاً من القرآن وقال في دعائه: اللهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال فأجاب بقوله: هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفاً" اهـ انظر حكم القراءة للأموات لمحمد أحمد بن عبد السلام من علماء مصر.قلت: ومن البدع الشنيعة قراءة القرآن على مكبرات الصوت في العزاء في بعض البلدان بحيث ما إن تسمع ذلك حتى تعلم بحدوث ميتة حتى صار بعض الناس يتشاءمون كلما سمعوا قرآناً عبر المكبرات والله المستعان.(116/298)
ويتعين ذلك تمشّياً مع منعه صلى الله عليه وسلم الصلاة عند القبور درءاً للمفسدة حتى لا تُتخذ القبور مساجد وأوثاناً، وهذا من الضوابط التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن القبور-وغفل عنها المبتدعة- ونحن بصدد بيان هذه الضوابط والقيود التي تحفظ على المسلمين عقيدتهم الصافية ودينهم القويم فلا يخوضوا كما خاض الذين من قبلهم فيهلكوا. ومن هذه الضوابط أنه لما كانت النساء ناقصات عقل ودين، ولا يتأتى منهن الصبر والتقوى غالباً بما يظهرن من النياحة والأقوال والأفعال التي تسخط الرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحداهن -وقد وجدها عند قبر تبكي-: (اتقي الله واصبري) رواه البخاري(3/115) ومسلم. فكيف لو وجدها تستغيث بصاحب القبر وتدعوه؟ أو وجدها تتمسح بالقبر وتلتزمه ترجو أن يُوهب لها الولد؟ أو وجدها تأخذ من ستائر القبر أو ترابه تميمة تتبرك به؟ فمن أجل ما يتوقع من فعْل مثل هذا -أو أقل من هذا- من النساء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوّارات القبور) وهو حديث مشهور، مروي عن جماعة من الصحابة، رواه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم. واختلف العلماء هل القصد منه منع النساء من زيارة القبور مطلقاً، أم اللعن يتوجه للمكثرات منها؟ على قولين. ومن القيود التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزائرين أن لا يقولوا عند زيارتها هجراً فقال: (زوروا القبور، ولا تقولوا هجراً) رواه ابن ماجة عن زيد ورواه مسلم(3/65)عن بريدة. ونهى كذلك عن أي قول -عندها- يسخط الرب سبحانه وتعالى فقال: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ولا تقولوا ما يسخط الرب) إهـ أخرجه احمد(3/38) والحاكم. ولا شك أن من أعظم الهجر، وأعظم ما يسخط الرب الاستغاثة بالميت وطلب الحاجات منه والتوسل به، ولا يخفى أن فعْل هذا مشاقة لله ورسوله، وانتكاس للفطرة التي فطر الله عليها العباد. ومن القيود التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم بشأن(116/299)
القبور تحريم الذبح عندها فقال عليه الصلاة والسلام: (لا عقْر في الإسلام) قال عبد الرزاق بن همام: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة إه. أخرجه أبو داود(2/77) وأحمد وغيرهم. وهذا التحريم في حال كان الذبح هناك لله، أما إذا كان الذبح لصاحب القبر، فيصبح عندها شركاً وكفراً والعياذ بالله وتحرم الذبيحة في الحالين ولا يجوز أكل لحمها، لا سيما في الحالة الثانية حتى لو كان الذبح في البيوت لأنه مما أهل به لغير الله(أو فسقاً أهل لغير الله به) وهذا ما يفعله كثير من الضالين في هذا الزمن، يذبحون باسم الشيخ الفلاني ولوجهه، ومقصودهم التقرب إليه، لاكتفاء شره، ودفع ضره، أو ليقضي لهم بعض الحاجات المستعصية، أو نذراً له، وما أشبه ذلك، وربما ذبح أحدهم باسم الله، ولكن أهداها لله والشيخ؛ كأن يقول: لوجه الله ووجه الشيخ عبد القادر!! وربما لم يشرك الله مع الشيخ في الهدية بل يجعلها خالصة لوجه الشيخ تقرباً إليه بحيث لا يصل إلى الله منها شيء كحال مشركي الجاهلية، وكل هذه الأنواع من الذبائح شرك بالله وكفر به وفاعلها متعرض للعنة الله وسخطه؛ قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من ذبح لغير الله) أخرجه مسلم(6/84). ومن القيود التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن القبور حتى لا تصبح أوثاناً تعبد تحريم شد الرحل إليها واعتيادها، فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى) أخرجه البخاري وغيره. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) أخرجه أبو داود(1/319) وأحمد بإسناد حسن وله شواهد كثيرة. فإذا نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ قبره -وهو أفضل القبور- عيداً فكيف بقبر غيره؟ واتخاذ القبر عيداً يتم باعتياد زيارته وكثرة الاختلاف إليه، والمجيء إليه في مواسم خاصة، يتجمع فيها الرجال(116/300)
والنساء حول ذلك القبر بل ربما كان موسمهم واعتيادهم للقبر في عيد الأضحى-يوم النحر- فيطوفون به سبعاً، ويكسونه، ويذبحون عنده الهدايا والنذور، ويبقون عنده كل أيام التشريق، كما هو حاصل في مصر عند قبر الشاذلي وغيره، وكما هو حاصل في بعض البلدان الأخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الفوائد المرجوة من زيارة القبور
ومع الضوابط والقيود التي وضعها الله سبحانه وتعالى حول القبور وزيارتها تتحقق الفائدة المرجوّة من زيارة القبور، وتحصل الغاية التي من أجلها كانت الزيارة أصلاً وهي الاتعاظ والاعتبار، وتذكر الموت والآخرة، ثم الدعاء للميت المقبور، الذي انقطع عمله بموته، وصار بحاجة لدعوة صالحة تَلحقه من بعده، فلأجل هذه المصالح الراجحة أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة فقال: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة، ولْتزدكم زيارتها خيراً).رواه أحمد(5/350)، ورواه النسائي(1/285) وزاد: (فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا) إه. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ولا تقولوا ما يسخط الرب). أخرجه أحمد(3/38) والحاكم وغيره. وقال أيضاً: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً) اهـ. رواه الحاكم(1/376) بسند حسن. ومما قاله صلى الله عليه وسلم أيضاً: (زوروا القبور فإنها تذكر الموت) أخرجه مسلم(3/65). فالفوائد المرجوة للزائر -وفق هذه الأحاديث- هي: 1-تذكر الموت. 2-تذكر الآخرة. 3-العبرة والعظة. 4-رقة القلب. 5-إدماع العين. 6-الازدياد خيراً بهذه الزيارة لعلها تكون حافزاً على فعل الخيرات، وترك المنكرات. فضلاً عن أنها طاعة لله ورسوله واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. أما الفائدة المرجوة للميت من هذه الزيارة. فهي الإحسان إليه بالدعاء والاستغفار له، فعن عائشة رضي الله عنها: (أنّ النبي(116/301)
صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع، فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك؟ فقال: إني أُمرت أن أدعو لهم) أخرجه أحمد(6/252) بسند صحيح على شرط الشيخين. وروى مسلم(3/14) وغيره أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: (إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) إه.
ما يقوله زائر القبور
ولم يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم هملاً، يقولون ما يشاءون عند زيارة القبور، فبعد أن نهاهم عن الصلاة عندها وقراءة القرآن، ونهاهم عن الهجر وعمّا يسخط الرب من القول والفعل أمرهم أن يقولوا لدى الزيارة أشياء تنفع الميت، وتبدأ هذه الأقوال من لحظة الدفن فقد"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". أخرجه أبو داود(2/70) والحاكم(1/370) وقال صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي ثم كان إذا زار ليلاً أو نهاراً قال وأمرهم أن يقولوا:
1-(السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) أخرجه مسلم(3/14).
2-(السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) أخرجه مسلم(3/65) والنسائي وزاد بعد قوله لاحقون: (أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع) إه.
3-(السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) أخرجه مسلم(3/63).(116/302)
4-(عليك السلام) تحية الموتى. رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. قال الآلوسي المفسر صاحب روح المعاني كما ينقل ولده العلامة نعمان في محاكمة الأحمدين ص520 بعد ذكر بعض الأحاديث السابقة: (ويُعلم من ذلك أن الغرض من الزيارة المشروعة نفع الميت لا الانتقاع به من نحو فيض أو غيره كما يزعمه كثير من الناس. فقد قالوا من تمام الزيارة لقبور الصالحين أن يعلق الزائر همته وروحه بالميت؛ لينعكس إليه ما يفاض على روحه من الأنوار التي لم تزل تفاض على روحه القدسية. فإنه بواسطة هذا التعليق والربط تكون الروحان كمرآتين متقابلتين، ينعكس على إحداهما ما يشرق على الأخرى، وهذا زعم باطل لم يثبت بكتاب أو سنة، ولا نعلم أن أحداً من سلف الأمة ادعاه، ومن ادعى ذلك فعليه البيان كائناً من كان. بل قال بعض الأجلة: إنه لا ينبغي أن يدعو لغير الميت عند القبر، ولا يتوسل بصاحب القبر وإن جل فلم يكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون ذلك وهم الذين ألزمهم الله تعالى كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع اهـ
وفيه رد على ما ذكر ابن سينا والرازي وغيره وإنما تلك الزيارة زيارة المشركين وما نحن بصدده زيارة المسلمين.
هدْي النبي صلى الله عليه وسلم هو المَنْجا من مظاهر الشرك والوثنية وسجود الصوفية لقبور شيوخهم(116/303)
هذا هو هدْي النبي صلى الله عليه وسلم بشأن القبور وزيارتها، جمع الخير من أطرافه، ففيه الحفاظ على عقيدة التوحيد، وفيه نفع المسلم حياً وميتاً، وإذا ما التزم المسلم بهذا الهدي، فإنه يضم إلى هذه الفوائد والمصالح العظيمة فائدة جليلة فيها الأجر العميم ألا وهي الإحسان إلى نفسه بمتابعة السنة، والوقوف عند أوامر الله ونواهيه، وإن أدنى مخالفة لهذا الهدي تُصيِّر القبر وثناً، كقبر اللات وإخوانه، وكقبور النصارى، وتجعل فاعل المخالفة واقعاً في الشرك. فبرفع القبر وتشييده ووضع الستور عليه يصبح ذلك القبر وثناً. ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد(1) لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.(2)
__________
(1) وقد استجاب الله سبحانه دعاء نبيه فحفظ قبره من أن يتخذه الجهال والغلاة وثناً ولهذا لم يهدم الصحابة رضوان الله عليهم -بتوفيقٍ من الله- جدران حجرة عائشة التي دُفن فيها صلوات الله عليه لئلا يبرز قبره فيعكف عليه الناس بل أبقوه مستوراً خلف الجدران لدرء الفتنة ومن أبين الأدلة على استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم تخصيصُ مَنْ يحرس قبره صلوات الله عليه في هذا العصر كما هو مشاهد الآن -والحمد لله- ومنع غلاة الناس وذوي الأهواء من التمسح به أو الطواف به والسجود له ونحو ذلك مما يفعله الضالون في غير قبره عليه السلام كما هو حاصل الآن في كثير من البلدان والله المستعان.
(2) اتخاذ القبر مسجداً بينه الحديث الآخر: (إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً) الحديث. رواه مسلم. فثبت منه أن مجرد بناء مسجد على القبر هو اتخاذ لذلك القبر مسجداً ويدخل في ذلك الصلاة في مثل هذا المسجد، حتى لو كان القبر في أقصى المسجد. وكذلك الصلاة والسجود عند القبر يعدّ اتخاذاً لهذا القبر مسجداً حتى لو لم يُبنَ عليه. أما السجود لصاحب القبر تعظيماً له فهذا أعظم من أن يحَّذر منه ولا يكاد يتصور وقوعه، ولم أكن لأصدق ذلك لولا أني رأيت بأم عيني أتباع النبهاني المدفون بحلب يسجدون له-عكس اتجاه القبلة- أسفل القبر المرتفع، مع تقبيل الأرض وتمريغ الوجه، وبعدها يطوف الواحد منهم بالقبر ثم يرجع القهقرى حتى لا يولي ظهره للشيخ الهالك. ولما ناظرتُ بعض شيوخهم ونصحته بالتوبة من هذا الشرك الصريح قال: إن هذا من التبرك. فقلت: الله أكبر! هذا كمن يشرب الخمر ويسميها مشروبات روحية. فإذا لم يكن السجود للقبر(وبعكس القبلة) شركاً فلا يوجد في الدنيا شرك. وإذا كان النبي صلى الله عليه= =وسلم قد نهى عن انحناء الرجل لأخيه في التحية وأمرهم بالمصافحة فكيف بالسجود؟! وقد علمتَ قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"الحديث. وقوله في حديث أنس: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر"/صحيح جامع السيوطي للألباني/. هذا مع أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا في السجود له أن نقبل الأرض أو أن نمرغ خدودنا، بل السجود على الجبهة والأنف وحسب وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الشفاعة- عندما يذهب إلى ربه قال: فإذا رأيت ربي سجدت له. ولم يقل أقبل الأرض أو أعفِّر وجهي وأمرِّغ خدي كما تفعلون أنتم عند إلهكم النبهاني الهالك(الذي كان يقول بوحدة الوجود وبإيمان فرعون ونجاته ويقول بعقيدة القطب الغوث المتصرف وغيرها من الزندقات والعقائد الكفرية التي لقنكموها)، ثمّ إن المصلي يكون الله في قبلته ومع هذا فإذا سلم من صلاته انصرف عن يمينه أو عن شماله، ولا يرجع القهقرى كما تفعلون أنتم عند قبر النبهاني، فأي شرك أعظم من هذا؟ بل تعظيمكم للنبهاني أشد من تعظيمكم لله وخشوعكم عند قبره لا يقاس بخشوعكم في الصلاة، هذا مع اعتقادكم أنه المتصرف فيكم بل في الكون كما تزعمون. وكنتُ رأيت وثناً في إحدى القرى يُطاف به سبع مرات، ذلك أن الشيطان تمثّل لبعض أهل القرية بصورة رجل صالح زعم وأمرهم أن يبنوا له مقاماً، فبادروا إلى نصب حجارة ونضدوها فوق بعضها على هيئة القبر وسوَّروها ثم نصبوا عند رأس المقام المزعوم رايات من القماش الأخضر الرخيص(وأسموا هذا الوثن مزاراً أو زيارة) فيأتي أهل القرية بقطعان الماشية فيطوِّفونها حول الوثن سبع مرات. قال لي بعض رعاتهم: ربما طافت النعجة من القطيع ونفرت ولم تكمل فنأتي بها ونطوِّفها حتى نكمل بها سبعاً. ثم يذبحون ذبيحة للوثن ويأخذون قطعاً من قماش راية الوثن تمائم وهكذا يدعون عنده ويطلبون حاجاتهم، وهم مع ذلك لا يصلي أكثرهم ولا مسجد عندهم مع أن القرية كبيرة. وكنت قد استأجرت هناك أرضاً للزراعة فلا زلت أدعوهم وأعظهم وأبين لهم التوحيد، وأحذرهم من الشرك، حتى قذف الله الحق في قلوبهم، فأذنوا بإزالة الوثن، وساعدوني بسيارة كبيرة، فحملنا تلك الحجارة، وكانت كثيرة تراكمت منذ سنين، حتى لم أغادر منها حجراً، وحين فرغت منها رفعت الأذان لئلا تقوم بعدها لهذا الوثن -إن شاء الله- قائمة، فأصبحتْ كأنْ لم تغن بالأمس. ثم حملت تلك الحجارة الكثيرة فوضعتها في وسط القرية أساساً لمسجد لم يلبثْ أن رُفع بفضل الله وعونه= =وأسأله سبحانه أن يوفق من يزيل وثن النبهاني ووثن الخزنوي وسائر الأوثان التي تعج بها كثير من البلاد والله المستعان. قال الشيخ أبو الحسن الندوي في تعليقاته على كتاب التوحيد للدهلوي صـ56: "قد اتفق علماء الإسلام قديماً وحديثاً، وكل من يحتج بقوله وعمله من الفقهاء والداعين إلى الله، على أن السجود-سواء سجود العبادة أو سجود التحية والتعظيم- لا يجوز إلا لله تعالى، هذا عدا الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد الاستفاضة، وقد صرح فقهاء المذهب الحنفي وأئمته بحرمة سجود التحية، وأفتى بعضهم بكفر من يفعل ذلك، قال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط: (من سجد لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر) وقال العلامة ابن عابدين في رد المحتار ج5 ص178: "يكفر بالسجدة مطلقاً"وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام: "ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعاً بكل حال، سواء كان للقبلة أو لغيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل"إه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من دعا ميتاً أو طلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه"إه.(116/304)
رواه أحمد(2/246) وغيره بإسناد صحيح. ففي هذا الحديث أكبر الدليل على أن القبر قد يصبح وثناً يعبد، ويؤخذ منه أن قبور الأولياء ومشاهدهم التي بني عليها وزوِّقت إنما هي أوثان، وأن الذين يعتادونها للتبرك بها إنما هم مشركون وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون. يقول الشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله الدهلوي الشهيد: "إن الله سبحانه خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه، وهي التي تسمى(عبادة) كالسجود والركوع، والوقوف بخشوع، وتواضع(مثلاً يضع يده اليمنى على اليسرى) وإنفاق المال باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة، والصوم له، وقصد قبره من أنحاء بعيدة، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم قبره حاجاً زائراًَ، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية، والتجنب من الرفث والفسوق، والقنص وصيد الحيوانات، ويمضي بهذه الآداب والقيود، ويطوف بالقبر ويسجد إليه ويسوق الهدي إليه، وينذر النذور هناك، ويكسو ذلك القبر، كما تكسى الكعبة، والوقوف على عتبته، والإقبال على الدعاء والاستغاثة، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة وبلوغ الأماني، وتقبيل حجر من أحجار هذا القبر والالتزام بجداره، والتمسك بأستاره، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيماً وتعبداً، والاشتغال بسدانته، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة من كنس وإنارة، وفرش وسقاية، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل، وشرب ماء بئره تبركاً، وصبه على الجسم، وتوزيعه على الناس وحمله إلى من لم يحضر، واحترام الغابة التي تحيط به، والتأدب معها فلا يقتل صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلي خلاها ولا يرعى ماشية في حماها. كل هذه الأعمال علّمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو لقبر محقَّق، أو مزوّر، أو لنصب، أو لمكان عبادة وعكف فيها أحد الصالحين على العبادة والذكر والرياضة، أو لبيت أو لقبر، أو لأثر من آثار أحد الصالحين، يتبرك به، أو شعار يعرف به،(116/305)
أو يسجد لتابوت أو يركع له، أو يصوم باسمه، أو يقف أمامه خاشعاً متواضعاً، واضعاً إحدى يديه على الأخرى، أو يقرِّب له حيواناً، أو يؤم بيتاً أو قبراً من هذه البيوت أو القبور من بعيد فيشدّ إليه الرحل، أويوقد السرج فيه تعظيماً وتعبداً، أويكسوه بكسوة(كما تكسى الكعبة) أو يضع على الضريح ستوراً، أو يغرز علماً، أو عوداً باسمه، وإذا رجع رجع على أعقابه، أو يقبِّل القبر، أو يحرك عليه المراوح، ليذب الذباب، كما يفعل الخدم مع أسيادهم الأحياء (صاروا الآن يضعون في هذه الأوثان المراوح الكهربائية أو المكيفات كما في مرقد الخزنوية الوثني)، أو ينصب عليه سرادقاً أو يقبِّل عتبته أو يضع اليمنى على اليسرى، ويتضرع إليه، أو يجلس على ضريح سادناً وقيماً، ويتأدب مع ما يحيط به من أشجار وآجام، وأعشاب، فلا يتعرض لها بإهانة أو إزالة، إلى غير ذلك من الأعمال والالتزامات، فقد تحقّق عليه الشرك، ويسمى(إشراكاً في العبادة) سواء اعتقد أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء، وأن الله يفرِّج الكرب ببركة هذا التعظيم"إهـ من التوحيد صـ23 بترجمة الندوي. قلت ولا عجب أن يسمي النبي صلى الله عليه وسلم القبر المخالف لهديه وثناً، ولا عجب أن تسمى الأشياء التي تفعل عنده شركاً، فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك شركاً، فعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالكفر، وللمشركين سدرة(أي شجرة من السدر) يعكفون عندها وينوطون(أي يعلقون) بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يارسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر ! إنها السنن قلتم -والذي نفسي بيده-كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من كان(116/306)
قبلكم"إه. رواه الترمذي(6/407) وصححه. وأحمد(5/218) وإسناده صحيح. قال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي في كتابه(الحسام الماحق/22): "تأمّل أيها الموفق لاتباع كتاب الله وسنة رسوله، المحقق لتوحيد الله هذا الحديث تجد فيه مسائل: الأولى: أن من قلّ علمه ولو من أهل القرون الأولى المصاحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يلتبس عليه الأمر وتخفى عليه بعض أنواع الشرك فلا يعصمه من الوقوع فيه إلا الاستنارة بأنوار السنة المحمدية والرجوع الى كتاب الله وبيان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل أبو واقد وأصحابه فإنهم حين ظنوا أن التبرك بشجرة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأس به ولا ينافي التوحيد، ولا يتعارض مع قول(لا إله إلا اله) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً إخبارهم بالقسم ومكبراً، استعظاماً لذلك الأمر: أنّ ما سألوه هو عين ما سأله قوم موسى، وهو الشرك الأكبر الموجب للخلود في جهنم. والثانية: أنه لا عبرة بالأسماء وإنما العبرة بالمسميات فإنهم لم يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا إلهاً نعبده من هذه الشجرة بتعليق أسلحتنا في أغصانها والتبرك بالجلوس عندها، بل قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، فأخبرهم وأكد لهم أن ذلك اتخاذ لتلك الشجرة إلهاً(قلت: فكيف باتخاذ القبور أوثاناً) الثالثة: أن العبادة غير منحصرة في السجود والركوع والدعاء والاستغاثة والاستعاذة، بل كل قول أو عمل عظم به غير الله تعالى رجاء النفع، وإن كان من الأماكن التي مر بها نبي أو صالح، هو عبادة لذلك المكان، ولا ينفع عابده زعمه أنه يتبرك بمكان كان فيه نبي فضلاً عن غيره، فتقبيل التوابيت والقبور والطواف بها والتمسح بها وأخذ ترابها للشفاء كل ذلك عبادة وشرك بالله تعالى. الرابعة: فإن قيل هل أشرك أبو واقد وأصحابه لما خطر ببالهم ذلك؟ قلنا: لا لأن الله تعالى لا يؤاخذ على الخواطر وما وسوست به النفس(116/307)
مالم يعتقده الإنسان أو يتكلم به أو يعمله فإن قيل: لو أقدموا على ذلك ولم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا يشركون؟ فالجواب: أن ذلك مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم(قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى) ولكنهم أجلّ-ولوكانوا حديثي عهد بكفر-من أن يقدموا على مثل ذلك أو أقل منه بلا دليل قاطع من كتاب الله وسنة رسوله، فليعتبر بذلك الذين يسمون أنفسهم علماء ويبيحون اتخاذ المواسم والأعياد عند القبور والقباب، ويحضرونها بأنفسهم، ويأكلون من القرابين التي تذبح عندها، وهي مما أهلّ لغير الله به ويشاركون العوام في الابتهال والتضرع للأوثان فبعداً للقوم الظالمين فما تركوا للجهال إذاً !! الخامسة: من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم من قوله"إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" أي لتتبعن طريقهم في بدعهم ومعاصيهم وشركهم وكفرهم، فنعوذ بالله من العصيان بعد الطاعة، ومن الخذلان وعمى البصيرة"اهـ.وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في(إغاثة اللهفان/246): "إن الشيطان بخفي كيده يحسِّن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده، وأوقات الأسحار، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى: من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك(وذكر النصوص عن أبي حنيفة وغيره في تحريم ذلك ثم قال:) فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع في قضاء حاجته، نقله درجةً أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم ينقله بعد ذلك درجةً أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً، ويعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك(116/308)
أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا رحمه الله(يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل الشيطان لهم في صورة الميت، أو الغائب كما يتمثل لعبّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين، وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله..إلخ"إهـ(1) فبعد الذي قدّمنا لا ينبغي أن يقال: إن الشرك لا مدخل له على أهل الإسلام بحال. فإن
__________
(1) وممن كفّر من العلماء الماضين هؤلاء القبوريين -كالخزنوية وأتباع قبر النبهاني الحلبي وغيرهم- شيخ الإسلام الإمام أبو الوفا بن عقيل قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهُلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي= =كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ويتمسح بآجرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر ، أو محمد أو علي أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجرِّ ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يُرِق ماء الورد على القبر) إهـ نقله ابن القيم في إغاثة اللهفان صـ223وظهر منه أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم ينفرد بتحريم شد الرحل إلى القبور -كما يزعم بعضهم- بل سبقه إليه ابن عقيل -كما ترى- وكذلك سبقه ابن بطة في الإبانة الصغرى وغيرهم كما اعترف صاحب شواهد الحق.(116/309)
تهافت هذا القول وبطلانه ظاهر للعيان، ويكفي في رده قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم)، وقد علمتَ سننهم، وكيف صار إليها ناس من المسلمين، ثم إن الشيطان حي، يسعى على الدوام لإضلال الناس، وحملهم على الشرك، فالواجب على المسلمين الحذر منه، ومن تسويلاته، وأنت تلاحظ أن أكثر سكان الأرض هم مشركون، وقد علمتَ أن أوثان الأولين إنما هي قبور صالحيهم ورموزهم، لذا كان الواجب سد الطرق والذرائع المؤدية إلى الشرك، ولا يتم هذا إلا بالتقيد بالضوابط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن القبور، وغيرها، والتي تحفظ على المسلمين عقيدتهم الصافية، ودينهم الحنيف(1)
__________
(1) ولنذكر آراء بعض المستشرقين في هذا الباب لترى أنهم أدركوا مالم يدركه كثير من علماء المسلمين وقد يصْدُق الشيطان وهو كذوب يقول جوتيه في كتابه المدخل صـ158: (وتقديس الأولياء إلى درجة قد تقرب من العبادة الذي نراه انتشر بعد في جميع الأقطار الإسلامية يشير في الحقيقة إلى رد فعل من الأمم والشعوب التي فتحها الإسلام ضد العقلية الإسلامية التي لا تسلم بوسطاء أو شفعاء لدى الله. إنه لم يَثُرْ ضد إجلال الأولياء والرسول إلى ما يقرب من العبادة أي ضد هذا التغيير الخطير في العقلية الإسلامية الأولى إلا طائفة الوهابية) إهـ.ويقول المستشرق لين في كتابه "المصريون المُحْدَثون" صـ167: (ويزور المصريون الأضرحة معتقدين أنهم سينزلون= =عليهم البركات، إما بقصد التماس البرء من مرض، أو طلب النسل، ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله، ويقدمون لهم النذور . وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون كما كان يفعل اليهود بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبييضها وزخرفتها وتغطية التركيبة و التابوت أحياناً بغطاء جديد وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياء كما يفعل اليهود) إهـ.ويقول جولدزيهر في كتابه(العقيدة والشريعة)صـ234: (بقي كثير من عناصر الديانات السابقة للإسلام، واستأنفت حياتها في المظاهر العديدة الخاصة بتقديس الأولياء، وفي الحق ليس من شيء أشد خروجاً على السنة القديمة من هذا التقديس المبتدع المفسد لجوهر الإسلام والماسح لحقيقته، وإن السني الصادق الحريص على اتباع السنة لا بد أن يعده من قبيل الشرك الذي يستثير كراهيته واشمئزازه..وأضرحة الأولياء والأماكن المقدسة الأخرى هي موضع عبادتهم التي يرتبط بها أحياناً ما يظهره العامة من تقديس وثني غليظ لبعض الآثار والمخلّفات، بل إن العامة تخصّ الأضرحة ذاتها بما لا يقل عن العبادة المحضة. ويخشى الواحد منهم أن يحنث في يمين حلف فيه باسم الولي أكثر مما يحمر خجلاً عندما يحلف بالله باطلاً)ويقول رونلدس في كتابه(عقيدة الشيعة) صـ266: (بالرغم من التوحيد المصرح به في القرآن فإن الأمم الإسلامية لا زالت تحتفظ بكثير من العادات الوثنية؛ فإن من أهم الصفحات في الحياة الدنيا للعوام في كثير من الأمم الإسلامية هو تقديسهم لقبور الصالحين، وفي هاتين القضيتين ساير العلماء المُحْدَثون اندفاع الرأي العام، وقد أصبح لكل قوم أئمة محليون يزورون قبورهم وآثارهم، فيفرح ذلك الإمام ويشفع لهم وينجيهم من الفقر والمرض) إه. ويقول نيكلسون في كتابه في التصوف الإسلامي صـ158: (إذا بحثنا في شخصية محمد، في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات وما أُثر عنه من الحديث في الصدر الأول، وجدنا الفرق شاسعاً بين الصورة التي صُوِّر بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صَوَّر بها الصوفية أولياءهم، أو تلك الصورة التي صَوَّر بها الشيعة إمامهم المعصوم. وظهر من المقارنة أن صورة شخصية الرسول لا تفضل عند الموازنة صورة الولي الصوفي، أو صورة الإمام الشيعي، إن لم تكن دونهما، ذلك أن الولي الصوفي والإمام المعصوم، قد وُصِفا بجميع الصفات الإلهية، بينما وُصِف الرسول في القرآن بأنه بشر فيه كل ما للبشر من صفات، وأنه ينزل عليه الوحي من ربه بين آن وآخر، ولكنه لا يتلقاه مباشرة عن= =الله بل بواسطة الملَك، وأنه لم يرَ الله قط، أو يطَّلع على أسراره، وأنه لا يتنبأ بالغيب، ولا يفعل المعجزات أو خوارق العادات، بل هو عبد من عباد الله ورسول من رسله) إهـ .(116/310)
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره؛ ففيه فضيلة ظاهرة لأهل جزيرة العرب فهذا يكون ببعث المجددين، الذين يجددون للناس أمر دينهم، وقطع دواعي الشرك قبل استفحاله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"رواه أبو داود(4291) وغيره بسند صحيح. ولا شك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله هو أحد هؤلاء المجددين، فقد حفظ الله بدعوته نقاء الدين، وأعاد التوحيد غضّاً طرياً في جزيرة العرب، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تجد الآن في الحجاز وغالب الجزيرة من هذه القباب والأوثان شيئاً، فجزاه الله خير الجزاء. ومع ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان). رواه الترمذي(3/227) وصححه وأبو داود وغيره. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة). وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة. رواه البخاري ومسلم. مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم) فالحذر الحذر-أيها المسلم- وليكن ديدنك إخلاص الدين لله، ونبذ مظاهر الشرك والوثنية من الأقوال والأفعال، وليكن من دعائك: (اللهم أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) كما ثبت عن النبي صلى الله وسلم.
دعوة القادرية الناسَ إلى عبادة شيخهم وطلب الحاجات منه والاستغاثة به من دون الله(116/311)
لقد غفل المبتدعة عن كل السنن والضوابط التي تحفظ لهم دينهم، وتقحّموا في مهاوي الضلال والوثنية، وليت أن الأمر وقف عندهم، بل عملوا على استدراج النساء والسذَّج والبسطاء من المسلمين، حتى أصلوهم في هذه المهالك، فبعد أن زوَّقوا أوثانهم، وأحكموا بناءها-ضاربين بتعاليم نبيهم عرض الجدار- دأب أرباب الطرق وسدنة القبور والأضرحة على دعوة الناس إليها بصنوف الترغيبات فنسبوا إلى هذه الأوثان خوارق العادات، وكواشف الملمات، ليغروا الناس بالقدوم إليها والعكوف عليها، ولا زالوا يغلون فيها حتى أضفوا على مقبوريهم صفات الربوبية، من تصرف وتدبير، وخفض ورفع، وإعطاء ومنع، وتنافست الطرق في إسباغ هذه الصفات على أربابها وأوثانهم فمن ذلك ما تنسبه الطريقة القادرية إلى شيخها عبد القادر الكيلاني، قوله في قصيدة سمّوها(الوسيلة):
ضريحي بيت الله من جاء زاره ... يهرول له يحظى بعزٍ ورفعة
وأمري أمر الله إن قلت كن يكن ... وكلٌ بأمر الله فاحكم بقدرتي
وعاينتُ إسرافيل واللوح والرضا ... وشاهدت أنوار الجلال بنظرتي
وشاهدت ما فوق السماوات كلها ... كذا العرش والكرسي في طي قبضتي
وناظرٌ ما في اللوح من كل آيةٍ ... وما قد رأيت من شهود بمقلةِ
ولولا رسول الله بالعهد سابقاً ... لأغلقت بنيان الجحيم بعظمتي
مريدي تمسَّكْ بيْ وكن بيَ واثقاً ... لأحميك في الدنيا ويوم القيامة
توسَّلْ بنا في كل هول وشدةٍ ... أغيثك في الأشياء طراً بهمتي
ثم يستمر الشيخ -فيما نسبوه إليه- في إضفاء صفات الله على نفسه، ثم يصرح بحلول الله فيه واتحاده به، ويبوح بوحدة الوجود، وأنه هو الله وأنه موجود منذ الأزل، فاسمعه يقول:
وسري سرُّ الله سارٍ بخلقه
ودُقتْ لي الكاسات في الأرض والسما
ذراعي من فوق السماوات كلها
وأعلم نبات الأرض كم هو نابت
وأعلم علم الله أحصي حروفه
ملكت بلاد الله شرقاً ومغرباً
ولي نشأةٌ في الحب من قبل آدم
أنا كنت في العليا بنور محمد(116/312)
أنا كنت مع نوح أشاهد في الورى
أنا كنت مع يعقوب في عشو عينه
أنا الذاكر المذكور ذكراً لذاكرٍ
أنا الواحد الفرد الكبير بذاته
ج ... فلذ بجنابي إن أردت مودتي
وأهل السما والأرض تعرف سطوتي
ومن تحت بطن الحوت أمددت راحتي
وأعلم رمل الأرض كم هو رملةِ
وأعلم موج البحر كم هو موجةِ
وإن شئتُ أفنيت الأنام بلحظتي
وسرِّي سرى في الكون من قبل نشأتي
وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة
بحاراً وطوفاناً على كف راحتي
وما برئت عيناه إلا بتفلتي
أنا الشاكر المشكور شكراً بنعمتي
أنا الواصف الموصوف شيخ الطريقة
ولديهم استغاثة بالشيخ تسمى الاستعانة، يظهر فيها جلياً اعتقادهم أن الشيخ هو الله: "يا سلطان العارفين، يا باز الأشهب، يا فارج الكرب، ياغوث الأعظم، يا واسع اللطف والكرم، يا كنز الحقائق، يا معدن الدقائق، يا صاحب الملك والملوك، يا هاوي النسيم، يا محيي الرميم، يا مبدي جمال الله(أي هو صورة الله المصغَّرة) يا راحم الناس، يا مذهب البأس، يا مفتح الكنوز، يا كعبة الواصلين، يا قوي الأركان، يا مجلي الكلام القديم، يا نار الله الموقدة(صح)، يا حياة الأفئدة يا مقصود السالكين، يا قاضي القضاة، يافاتح المغلقات، يا كافي المهمات، يا ضياء السماوات والأرضين، يا غافر الأوزار، يا إمام الأئمة، يا كاشف الغمة، يا من ظهر سره في الدنيا والآخرة، يا شاهد الأكوان بنظره، يا مبصر العرش بعلمه، يا قطب الملائكة والإنس والجن، ياقطب العرش والكرسي واللوح والقلم...إلخ هذا الكفر والهذيان"إهـ. انظر(الفيوضات القادرية/194).
دعوة الرفاعية الناسَ للحج إلى قبر شيخهم في قرية أم عبيدة
وكذلك الشأن مع الرفاعية، فإنهم عدّوا قبر شيخهم بيت الله أيضاً، وأن قريته البلد الحرام، ثم دعوا الناس إلى الحج إلى قبره، واللجوء إلى أعتاب وثنه، وأغروا الناس على الشرك، والاستغاثة به من دون الله، فنسبوا إلى الرفاعي قوله:
أنا الكعبة الغرا أنا البيت والحما(116/313)
أنا الدولة العظمى أنا السطوة التي
أنا الرفاعي طبولي في السما ضُربت
فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي
أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذْ
إذا دعاني مريدي وهو في لججٍ
فلو ذُكرت بأرضٍ لا نبات لها
ولو ذكرت بنار قط ما لهبت
من لاذ فينا اكتفى عن غيرنا أبداً
جج ... أنا المسجد الأقصى لمن جاء بالذكر
تذل لها الأشياخ في البر والبحر
والأرض في قبضتي والأولياء خدمي
وطف ببابي وقف مستمطراً نعمي
بباب جودي لتُسقى الخير من ديم
من البحار نجا من حالة العدم
لأقبلتْ بصنوف الخير والنعم
ولو ذكرت ببحر غار من عظمي
وجاء في ركبنا بالأمن من ندم
جج(116/314)
انظر(قلادة الجوهر للصيادي/226) ثم جعلوا القرية التي دفن فيها بمنزلة البلد الحرام، وجعلوا قبره كعبة هي أفضل من كعبة مكة، وزعموا أن الله أمره أن يؤذن في الناس بالحج إلى قريته(أم عبيدة) التي فيها قبره: "قيل لي: قم فنادِ أهل المشرق والمغرب والسهل والجبل إلى زيارة هذه البقعة السعيدة" فقام الرفاعي وصار يشير بيده وهو واقف ويقول: "تعالوا إلى(أم عبيدة) تعالوا إلى هذه البقعة المباركة: كل شهر قوم، وكل سنة قوم، وكل وقت قوم، نعم، نعم" فلما سئل عن ذلك قال: "لما ناديت أجابوني بقدرة الله خلق كثير لا تحملهم هذه البقعة، فلما رأيت ذلك قلت: رويداً رويداً كل شهر قوم، كل سنة قوم"(قلادة الجواهر/43). وقرية الرفاعي هذه أفضل عندهم من الكعبة، حتى إن الكعبة تزورها وتحج إليها كما يقول أحمد الفاروثي في(إرشاد المسلمين 84)، ومن ميزات هذه القرية أنها: كعبة هموم المحققين، وحرم الأمان للطالبين، البيت المقدس الأمين، مهبط الرحمات، محط رحال العباد ومنها ينثر الخير إلى سائر البلاد، البقعة المقدسة، وزائرها يروح ويأتي تحت ظلال أجنحة الملائكة، ولا تأكله النار، ولا تضره(هذا ما لم يُضمن لزائر الكعبة فهي أفضل من الكعبة البيت الحرام) وزائرها تُقضى جميع حوائجه، ومن لزم قبة الشيخ الرفاعي قُضي دينه، وفني أعداؤه... إلخ !!(انظر بوارق الحقائق/229) للروّاس. والشيخ الرفاعي عندهم هو : "كعبة القاصدين، وقبلة أهل الحال، وكما أن الكعبة قبلة المصلين، وكما أن العرش قبلة أصحاب الهمم، فكذلك الشيخ قبلة المريدين، فالعرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب(أي أنه أرفع من ذي العرش)، وهو غوث اليقين أي الذي تستغيث به الجن والإنس، بل إن النعجة تستغيث به إذا هاجمها الذئب وتقول بلسان فصيح: أدركني يا سيدي أحمد. وهو مجيب الدواعي، وأمان الخائفين، والمتحكم في ذرات الكون، والمتصرف في الكون، كشاف المدلهمات والكروب، والتمسك بأذياله من(116/315)
أسباب النجاة، وأن الله ختم به الولاية فهو"خاتم الأولياء"وأن كل الناس أجابوا ولايته، حتى الذر الذين لم يزالوا في أصلاب الآباء قد شهدوا بولايته، فبه تمطر السماء، وبه تخضرُّ الأرض، وبه يدر الضرع، وبه تنزل البركات، وبه ترفع الدرجات...إلخ إلخ"اهـ. انظر المعارف المحمدية/90 للصيادي وقلادة الجواهر وغيرها من الكتب).وانظر تهذيب الرفاعية للشيخ عبد الرحمن دمشقية.
عبادة النقشبندية لقبور مشايخهم ودعوة الناس إليها(116/316)
وهذا أيضاً دأب الطريقة النقشبندية في اتخاذ قبور أوليائهم أوثاناً تعبد، والغلو فيهم وإسباغ صفات الرب عليهم، ودعوة الناس للشرك بهم، يقول محمد أمين الكردي النقشبندي في كتابه(المواهب السرمدية/142): "لما مات الشيخ نقشبند بنى أتباعه على قبره قبّة عظيمة، وجعلوه مسجداً فسيحاً" وقال السنهوتي: "ولم يزل كذلك إلى يومنا هذا يُستغاث بجنابه، ويُكتحل بتراب أعتابه، ويُلتجأ إلى أبوابه" وقال الكردي في(تنوير القلوب/534): "وما يفعله العامة من تقبيل أعتاب الأولياء، والتابوت الذي يُجعل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك، ولا ينبغي الاعتراض عليهم لأنهم يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله وإنما يفعلون ذلك محبة فيمن أحبهم الله تعالى"إه. وهذا إقرار منه للشرك ودعوة إليه، وفيه أن للأموات فعلاً وتأثيراً دلَّ عليه قوله: (لأنهم(أي العامة) يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله؛ أي أن تأثير الأموات بإذن الله وأمره، وهذا هو الشرك بعينه، وهي عقيدة مشركي الجاهلية، الذين كانوا يعتقدون أن الفاعل والمؤثر الحقيقي هو الله، ولكن أولياءهم الأموات يشفعون لهم إلى الله، ويقربونهم إليه(هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله). وكان الكردي قد قال قبل ذلك صـ410: (إن الله يوكل بقبر الولي ملكاً يقضي الحوائج وتارة يخرج الولي من قبره ويقضيها بنفسه"فتأمل! وقال الكردي في(تنويره/500): "إن إمداد الشيخ نقشبند لأصحابه حاصل لهم في حياته وبعد موته فلا فرق بين حياته أو موته في إمداد أصحابه بكل شيء، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) إهوقد جمع كلامه إلى الشرك إشارته إلى الحقيقة المحمدية، وأن كل شيء خُلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيء محمد. فالوجود بأكمله برز من محمد، وجزئياته هي مظاهر محمد الذي هو من أكمل مظاهر الرب سبحانه وتعالى، وأن الشيخ نقشبند هو أكمل مظهر ظهر فيه محمد صلى(116/317)
الله عليه وسلم، لذلك لم يجد غضاضة أن يستدل بقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم) كأن المعنيَّ بها الشيخ نقشبند ومريدوه، مع أن الآية التي خوطب بها الصحابة والمسلمون من بعدهم إلى يوم القيامة. لا تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يمدّهم في حياته أو بعد موته، بل هي على العكس من ذلك تفيد قطع المدد إلا من الله، وعدم التعلق بسواه، وتفيد ربط المسلمين بالله وكمال التوكل عليه والتمسك بدينه، وتفيد أن هذا الدين لا يرتبط بالأشخاص يموت بموتهم حتى لو كان هذا الشخص رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال أبو بكر يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلا الآية(من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت). ثم إنّ المدد لا يطلب إلا من الله -في حياة النبي وبعد موته- إذ هو وحده سبحانه الذي يرسل المدد(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدُّكم) (يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة)(يمددكم بأموال وبنين)(كلا نمدُّ..)إلخ هذه الآيات التي تبين أن المدد لا يأتي إلا من الله، ولا يُطلب من سواه، فمن التمس المدد من غيره فقد أشرك وآبَ بالخسران المبين. ويؤكد الضال محمد الكردي هذه العقيدة الفاسدة فيقول في كتابه(المواهب السرمدية/178) عن شيخه محمد الخواجكي الأمكنكي النقشبندي: (فلا ذرة في العالم إلا وهو يمدها بالروحانية) إه. وينقل صـ173 عن الشيخ محمد القاضي النقشبندي أنه قال: لما التقى بشيخهم عبيد الله أحرار: "تيقنت أنه ما من خاطر إلا وقد اطَّلع عليه"إه. ولا يخفى أن يقينه هذا شرك صريح وكفر قبيح، لأنه جعل الشيخ عليماً بذات الصدور لا يخفى عليه شيء ثم يمضي الشيخ الكردي بسلب صفات الرب جل وعلا وإعطائها لشيوخه فيروي في"مواهبه/210": (أن أحد مريدي الشيخ(محمد المعصوم) كان راكباً على فرس فجفلتْ فسقط على الأرض وبقيت رجله معلقة في الركاب، وجعلت الفرس تعدو به حتى أيقن بالهلاك، فاستغاث(116/318)
بحضرة القيُّوم، قال: فرأيته حضر وأوقفها وأركبني إهـ. فانظر كيف جعل القيُّوم إنما هو الشيخ!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. حتى عرش الرحمن لم يسلم منهم، بل سخروا منه وازدروه، وعلَوا فوقه زعموا، يقول الشيخ أحمد الفاروقي النقشبندي: "كثيراً ما كان يُعرج بي فوق العرش المجيد، ولقد عُرج بي مرة فلما ارتفعت فوقه بقدر ما بين مركز الأرض وبينه، رأيت مقام الإمام شاه نقشبند رضي الله عنه ورأيت فوق ذلك قليلاً مقامات بعض المشايخ...واعلم أني كلما أريد العروج يتيسر لي"إهـ(مواهب/184). وقد مرت فتوى القاضي عياض في كتابه الشفاء(2/298): "يكفر من ادعى مجالسة الله تعالى والعروج إليه ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة"اهـ. ولعله ليس من العسير أن يدرك القارئ الفطن أن كل هذا الغلو في المشايخ، وإضفاء صفات الرب جل وعلا عليهم(1) إنما هو ناشئ عن عقيدة وحدة الوجود التي يدين بها القوم تلك العقيدة التي لا تدع فرقاً بين الخالق والمخلوق، بل يصبح -وفقها- البشر وباقي الكائنات أرباباً بنسبٍ متفاوتة، كما بيَّنا لك في صدر هذا البحث.وهي عقيدة ممتزجة بشغاف قلوبهم -كما يظهر دائماً في كلامهم- فلا يُظنُّ نزعها منهم إلا أن
__________
(1) بل ربما فضلوا شيوخهم على الله، فقد صرح الخزنوي أحد شيوخ الطرق الصوفية في الجزيرة= =السورية في أحد دروسه: إن محبة الشيخ مقدَّمة على محبة الله. وهو شرك صريح ومنافٍ للإيمان بالله والإخلاص له سبحانه وتعالى. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري برقم6941. فبعد هذا الكلام من هذا الرجل لا يُستغرب قول بعض ضُلَّالهم المتقدمين: لئن ترى أبا يزيد البسطامي مرة خير لك من أن ترى الله سبعين مرة.(116/319)
تقطَّع قلوبهم، أو تُنزع رقابهم كما فُعل بسلفهم الأبعد(الحلاج).
تلخيص عقائد الصوفية المُكَفِّرة
وقد ظهر بهذا أن النقشبنيدية وغيرهم من الصوفية زنادقة ضُلاّل. ومن لم يعتقد منهم بهذه العقائد الضالة فلا يسمى صوفياً، وإن تكن الصوفية في القرون الخالية في أول أمرها-يعبر بها-كما يدعي بعض الناس-عن تزكية النفوس والزهد، والإحسان زعموا، فإن الصوفية اليوم جميعاً دون استثناء غلاة زنادقة، ومن لم يكن كذلك فليس منهم، وهذا كشأن التشيّع الذي نشأ أولاً بتقديم وتفضيل علي على عثمان، ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم غلوا إلى تكفير جمهور الصحابة، وتكذيب القرآن واعتقاد نقصانه وتحريفه، وغيرها من عقائدهم الضالة، كاعتقاد عصمة أئمتهم واستئناف نزول الوحي عليهم، والحج إلى قبورهم ومشاهدهم، فخرجوا بذلك عن جادة الإسلام، وإن كان غلاة الشيعة في غابر الأزمان طائفة منهم، فإن الشيعة اليوم كلهم غلاة وكذلك الشأن مع الصوفية فإنهم الآن-بمختلف طرقهم- غلاة باطنية ضُلَّال.ويمكن في هذه العجالة تعداد بعض عقائدهم الضالة، التي من اعتقد ببعضها كفر، فكيف بها مجتمعة!!؟ وقد ذكرنا الأدلة-من نصوصهم كما سبق- على معظمها، ونذكرها هنا لتكون عوناً لمن يريد محاججتهم أو محاكمتهم:
إيمانهم بالحلول والاتحاد والوحدة المطلقة -والقول بقدم العالم.
إيمانهم بالحقيقة المحمدية، التي هي الوجه الآخر لعقيدة وحدة الوجود. وما يستلزمه ذلك من:
تصحيح ديانات الكفار جميعاً كنتيجة لوحدة الوجود.
الدفاع عن إبليس(الحلاج في الطواسين صـ51، أبو الفتوح الغزالي، عبد الكريم الجيلي).
الدفاع عن فرعون(الحلاج، ابن عربي، النابلسي، الحوت..إلخ)
إلغاء الوعيد والعقاب، ثم إلغاء النار.
اعتقادهم تصرف الأولياء الأموات والأحياء في الكون، وعقيدة الديوان، ونحوها من العقائد المتعلقة بالتصرف والتدبير.(116/320)
القول بعصمة الأولياء وحفظهم(انظر -مثلاً- الباب الثالث والخمسين من فتوحات ابن عربي).
اعتقادهم نزول الوحي على أوليائهم، وهو على ضربين: إما عن طريق الملَك، ويسمونه طريقة أو عن طريق الاتصال المباشر بين الله والولي، ويسمونه حقيقة؛ وهذه أعلى مرتبة من النبوة(قال ابن عربي: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي، وانظر اليواقيت والجواهر 2/83 للشعراني).
10-نسبتهم علم الغيب المطلق إلى أوليائهم بل معرفة كل ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومعرفة جميع الحوادث المستقبلية زعموا -بل كفروا- وهذا عنهم متواتر، وقد ذكرنا في بحثنا أدلة على هذا وللمزيد انظر(اليواقيت والجواهر للشعراني 2/84)، وكل كتب الصوفية تصلح أن تكون مراجع لهذا الكفر.
11-قولهم بالشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، وما يستلزم ذلك من مسخ نصوص الكتاب والسنة فهم من أخطر طوائف الباطنية.
12-الاستغاثة بالأولياء الأموات والغائبين، وسؤالهم مالا يقدر عليه إلا الله، ثم النذر والذبح لهم، وخشيتهم بالغيب، مع الرهبة والرغبة والتوكل والتوجه والتذلل والتضرع، وغيرها من خصال وأعمال المشركين، مع اعتقادهم أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم.
13-اتخاذ القبور أوثاناً برفعها، وبناء القباب والمساجد عليها، وتنويرها، وتزويقها، وتعليق الستور عليها، والطواف بها، وشد الرحال إليها، واتخاذها عيداً، وغيرها من أعمال الشرك.
14-مشابهة المشركين كاليهود والنصارى والمجوس والبوذيين والهنادك في العقائد والعبادات، لا سيما بدعهم الكثيرة؛ من خلوات، وأوراد، وطقوس، مقرونة دائمة بممارسات شركية يتعذَّر إحصاؤها.(116/321)
15-اتخاذ الوسائط والشفعاء في الدين، واعتقاد أن الله القريب المجيب لا يقبل توبة أو دعوة عبده إلا بوساطة الولي أو النبي، واعتقاد أنّ الخير لا يأتي من الله إلى عبده مباشرةً إلا عن طريق الشيخ الميت أو الحي أو عن طريق قبره أو قبته، ونحو ذلك عياذاً بالله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من اتخذ بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويستنصر بهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً) اهـ.
وسائل الصوفية لتثبيت وحدة الوجود في عقول المريدين(116/322)
لا شك أنّ أخطر عقائد الصوفية وأشنعها إيمانهم بالحلول(1) والفناء والوحدة المطلقة للوجود. وأنّ البشر -لا سيما أولياء الصوفية- أربابٌ وآلهة، أو نُسَخ من الإله الواحد المتعدد، ويتدرجون لزرع هذه العقيدة في أذهان وقلوب مريديهم وفق أساليب شتى كالغلو في المشايخ، وإضفاء صفات الله عليهم كما رأيت آنفاً، حتى لا يبقى-نظرياً-فرق بينهم وبين الله تبارك وتعالى. ولعل الوسيلة المثلى التي يتبعونها عملياً للوصول بيسر إلى هذه العقيدة هي ما يسمى بالرابطة بين الشيخ والمريد حال الذكر يقول الشيخ محمد أمين الكردي في(المواهب السرمدية 170): "فمن آداب الذكر أن يكون المريد متوجهاً إلى شيخه يستمد منه، ويعتمد أنه لا يقدر أن يتوجه إلى الله تعالى إلا بواسطته"ثم قال: "إنّ ملازمة صورة الشيخ بين عيني المريد هو من أصول الذكر عند النقشبندية"إه. قلت: هو من أصول الذكر عند كافة الطرق الصوفية. وفحوى هذه الرابطة وضع المريد صورة الشيخ بين عينيه وربط قلبه به طيلة فترة الذكر. ولا يخفى أنّ هذه الرابطة شركٌ، حتى إن البوطي-وهو صوفي- عدّها
__________
(1) في تقرير أصدرته لجنة التنصير بكنيسة كليفلاند البروتستانتية في أمريكا مكون من 94صفحة حول تجربة التنصير في عدد من قرى دولة الجزائر ومدنها على مدى خمس سنوات متتالية، ختمت اللجنة تقريرها بتلخيص لما تضمنته الدراسة في37نصيحة، تحت عنوان:(اقتراحات نهائية) تدور كلها حول أسلوب التنصير بين عوام المسلمين الجزائريين؛ حيث اعترف التقرير في صفحاته الأولى بصعوبة التنصير بين المسلمين إلا إذا كانوا طائفة من ثلاث على وجه التحديد: أن يكونوا من جماعات صوفية، أو أن يكونوا تابعين لمذهب شيعي، أو تابعين لطائفة القاديانية؛ إذ أن هذه الطوائف الثلاث تشترك مع عقيدة النصارى في قبول ما يُعرف بالحلول الإلهي في الإنسان، وهو ما يمهِّد الطريق أمام المنصَّر لقبول عيسى المسيح ابناً لله. (انظر مجلة البيان العدد155).(116/323)
شركاً وكفراً. وكيف لا تكون كذلك وهي تنافي إفراد الله بالعبادة وإخلاص الذكر له! ومع أن هذه الرابطة شرك اتفاقاً فإن مقصودهم منها أشنع من ذلك وأشد كفراً، إذ مع تكرار وضع صورة الشيخ بين عيني المريد حال ذكره لله(1)ينتج عنه اعتقاد بأن الشيخ هو الله المذكور، فعند قوله مثلاً: لا إله إلا الله أو أللهْ أللهْ واضعاً نصب عينه وقلبه صورة الشيخ لا بد أن يُُلقى في روعه أن الله هو الشيخ لا سيما مع التكرار وخلو القلب مما سوى الشيخ فهذا هو مقصودهم من هذه الرابطة فليُعلم ذلك. على أن بعض شيوخهم صرح بذلك إذ يقول محمد الخاني النقشبندي في كتابه البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية صـ48: "الرابطة تفيد إن كانت مع الإنسان الكامل المتصرف بقوة الولاية لأن الإنسان الكامل مرآة الحق سبحانه وتعالى فمن ينظر إلى روحانيته بعين البصيرة يشاهد الحق فيها"اهـ. ولهذا ذكروا من آداب الرابطة أن يعتقد المريد أن تصرفات روحانية الشيخ من تصرفات الحق سبحانه. ومن أساليب الصوفية لترسيخ عقيدة وحدة الوجود الفاسدة في عقول المريدين إلزامهم ترديد بعض الصلوات والأوراد المبتدعة التي تصرح أو تلمح بهذه العقيدة كالصلاة المشيشية وفيها الدعوة صراحة إلى وحدة الوجود واعتبار ما عداها وحلاً مثل قوله: (وأنشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحر عين الوحدةِ وحدةِ الوجود). ويكفيك دليلاً على إيمان الصوفية بعقيدة وحدة الوجود ترضيهم -جميعاً- عن الزنديق ابن عربي وعدّه الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، وتَولِّيه، والتأسي به، وتعظيمه وتقديسه مع أن العلماء المعتبَرين أجمعوا على تكفيره وتكفير أهل نحلته الحلولية وتجريم كلامهم كما رأيت، فلا تجد -الآن- صوفياً لا يترضى عنه ويدافع عنه وما ذلك إلا لاتفاقهم في الاعتقاد(تشابهت
__________
(1) بل ثبت أنهم يتخيلون الشيخ أثناء الصلاة وربما وضعوا صورته في القبلة، فيتوجه قولهم: (إياك نعبد وإياك نستعين) -عندها-إلى الشيخ.(116/324)
قلوبهم قد بَيَّنَّا الآيات لقوم يوقنون).
مقارنة بين عقائد الصوفية والنصارى
والواقع إن الصوفية -السابقين منهم واللاحقين- بإيمانهم بوحدة الوجود والحقيقة المحمدية ونحوها من العقائد الضالة إنما هم متبعون سبيل اليهود والنصارى والأمم الضالة البائدة ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله آليهود والنصارى؟ قال: فمن"رواه البخاري(3456) ومسلم(2669). وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله:، كفارس والروم؟ قال: ومَنْ الناس إلا أولئك؟"أخرجه البخاري(7319)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً: "لتركبن سنن من كان قبلكم"رواه الترمذي. فهذه الأحاديث وإن جاءت بصيغة الخبر الواقع حتماً فإنها متضمنة للنهي عن اتباع سبيلهم، وقد جاء النهي صريحاً عن مشابهتهم في أحاديث صحيحة كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: خالفوا المشركين، خالفوا اليهود والنصارى، لا تشبهوا باليهود والنصارى..إلخ. وحذرنا عليه الصلاة والسلام من مشابهة النصارى خاصة في الغلو بنبيهم، حتى حملهم حبه على إشراكه مع الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا، عبد الله ورسوله) رواه البخاري. ولكن الحذر لا ينجي من القدر، فمن لم يهتم بهذا التحذير من أمته صلى الله عليه وسلم واتبع سبيل النصارى وقع فيما وقعوا فيه، وصار حكمه حكمهم. ولقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره بأنا سنتبعهم(1)في أقوالهم وأعمالهم ومعتقداتهم، فهو لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يُوحى، قالت الفلاسفة أفلاطون ومن معه بوحدة الوجود وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا
__________
(1) أي بعضاً من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) الحديث وغيره.(116/325)
في جزئياته، وأن أول تعين لهذا الإله هو العقل الفعّال. وقالت النصارى: أول تعين للذات الإلهية هو عيسى، وهو -أي عيسى- موجود منذ الأزل، ففي مجمع نيقية سنة 325م أصدر بطاركة النصارى وقساوستهم المجتمعون القرار التالي: (إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تَحْرِمُ(أي تحكم بالحرمان والطرد) كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجوداً فيه، وأنه لم يوجد قبل أن يولد، وكل من يقول أنه قابل للتغير"إه. انظر(حقيقة النصرانية صـ132للدكتور أحمد حجازي السقا). فقال الضالّون من هذه الأمة بوحدة الوجود وبالحقيقة المحمدية وأن أول تعيين للذات الإلهية هو محمد ومنه اشتُقت الأشياء، فهو أزلي، يقول الصوفي أحمد سعيد البريلوي في كتابه(تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر/85): "لا يخلو مكان ولا زمان إلا والرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيه". إه. وعنوان كتابه يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب معتقدهم حاضر ناظر في كل مكان وزمان. ويقول الضّال أحمد حسون الحلبي: "الكون مكهرب بسيدنا محمد" أي أنه موجود في كل مكان. قالت النصارى: عيسى هو نور الله. فقال الضالون من هذه الأمة: محمد نور الله، ألم تسمع المؤذن الجاهل في بعض البلدان وهو يقول: (الصلاة والسلام عليك يا نور عرش الله)!!؟ قالت النصارى: إن الله ثالث ثلاثة؛ أي أنه انقسم إلى ثلاثة أقسام(أقانيم): (الآب (أي الله)، الابن(عيسى)، الروح القدس). فقال الضالون من هذه الأمة أصحاب الحقيقة المحمدية: إن محمداً أصل جميع الأشياء، وأن الموجودات الأرضية والسماوية خُلقت من نوره، وهو خلق من نور وجه الله، فأصبح لدينا ثلاثية: الله ومنه اشتُق محمد، ومن محمد اشتقت الكائنات؛ هكذا(الله( محمد( الأشياء) يقول الصوفي أحمد يارخان الهندي في كتابه(مواعظ نعيمية/14): (إن الرسول نور من نور الله، وكل الخلائق من نوره) إه. على أن الحقيقة المحمدية-تفصيلياً- تعني أيضاً جميع المعدودات،(116/326)
فمحمد-عندهم- هو الله على الحقيقة، وهو أول تعين للذات الإلهية، وعنه برزت أجزاء الوجود، فليس هو ثلاثة ولا ثلاثين، بل هو كل شيء. قالت طوائف من النصارى(كالأرثوذكس): إن الله هو المسيح بن مريم نفسه نزل فينا فترة ثمّ صعد إلى عرشه. فقال الضالون من هذه الأمة: إن الله هو محمد المستوي على العرش. يقول الضّال ابن عربي: "الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي"إه(الفتوحات 1/152). وزعموا مفترين على الله أن جبريل كُشف له الحجاب مرةً فإذا الذي يُملي عليه القرآن في السماء إنما هو محمد نفسه الذي يُملى عليه في الأرض. فقال عندها جبريل بزعمهم: يامحمد منك وإليك. أي أن محمد هو الله نفسه. قالت النصارى: إنما خلقت السماوات والأرض من أجل عيسى. فقال الضالون من هذه الأمة: لولا محمد ما خُلق شيء، ثم اختلقوا إفكاً مفترين على الله القول(يا محمد لولاك ما خلقتُ الأفلاك). ولكن الله يكذّبهم فيقول في كتابه العزيز: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ومن هؤلاء المخلوقين للعبادة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد خاطبه الله في كتابه العزيز: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). وتتبعُ أقوال الضّالين من هذه الأمة -في اتباعهم لليهود والنصارى- شيء يطول. فنكتفي بهذه المسائل تنبيهاً على ما سواها. وعلى الجملة فقد اتبعوهم في جميع أقوالهم-كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- لا سيما في تأليه نبيهم. وربما استدلوا على باطلهم بحديثٍ موضوع مكذوب: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"(1)
__________
(1) هذا الحديث ليس له أصل في دين الإسلام، كيف وهو يخالف المنقول والمعقول، ولهذا لم يرد في الكتب الستة ولا الستين وذكْر عبد الرزاق له دون إسناد معروف لا قيمة له (هذا تنزُّلاً جرياً على زعمهم أن الحديث في مصنف عبد الرزاق وإلا فهذا المصنف قد طبع وهو خلوٌ منه) وهذا القول من العقائد التي لا تثبت إلا بحديث صحيح. والعجب أن القائلين به يشترطون في الحديث-حتى يأخذوا به في العقائد- أن يكون متواتراً. وهذا الشرط وإن كان باطلاً فيا ليتهم أعملوه هنا= =بل يا حبذا لو استدلوا على باطلهم هذا بحديث ضعيف بلْه متواتر. وقولهم في أولية النبي في الخلق ليس فيه فضيلة له صلى الله عليه وسلم، بل الأمور بخواتيمها، ولهذا كان هو خاتم النبيين وخيرهم صلوات الله عليه. ثم أيّ كلام يبقى بعد قوله تعالى: (وبدأ خلق الإنسان من طين)!!؟ فهذه الآية تؤكد أن الطين هو أول ما بدأ به الرب جل ثناؤه في خلق آدم وليس النور كما يزعم المفترون. والنبي صلى الله عليه وسلم من بني آدم فأصل خلقته إذاً من الطين إلا أن يقولوا صراحة النبي ليس من بني آدم فيكون لنا معهم كلام آخر.(116/327)
مع أنه مصادم لما صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم وأمره أن يكتب كل شيء يكون". وهو حديث صحيح أخرجه ابن أبي عاصم في(السنة/108) وأبو يعلى وغيرهم. ثم إن المقطوع به من دين المسلمين المتلقّى عن الله ورسوله إن أول مخلوق من البشر هو آدم خلقه الله من تراب ثم خلق من ضلعه زوجته حواء، وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، ثم أرسل إلى البشر رسلاً منهم-بعد أن أهبط أبويهم إلى الأرض- خاتمهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف... ابن آدم. أبوه وأمه من قريش؛ قبيلة من العرب، ترعرع صلى الله عليه وسلم في مكة حتى بلغ أربعين سنة فأرسله الله إلى قومه وإلى الناس كافة، وقبل أن يُوحى إليه لم يكن يدري عن الدين شيئاً قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان). وقبل أن ينزل عليه قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، ونحوها من الآيات لم يكن عنده علم بسجود الملائكة لآدم -أول مخلوق من البشر- ولا بامتناع إبليس وعصيانه، ولذلك أمره الله تعالى أن يقول: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون، إنْ يُوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين، إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآيات. وهو صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسله الله لم تتغير طبيعته البشرية بل كان -مثل كل البشر- يأكل ويشرب، ويذهب إلى الخلاء، وينام، ويجوع، ويوعك، ويحزن، وينسى، ويسهو، ويصوم، ويصلي، ويدعو ربه، ويستغفره، ويستغيث به، ويسأله الهدى والتقى والعفاف والغنى، وهذا شأن البشر جميعاً -بمن فيهم الرسل-، وليس هو بدعاً من الرسل بل هو خاتمهم صلى الله عليه وسلم، لبث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى ربه، ثم هاجر إلى المدينة فلبث فيها عشر سنين، فلما أتم الله الدين على يديه، توفاه سبحانه وتعالى -شأن البشر جميعاً-فدفنه الصحابة رضوان الله عليهم في بيته بتوقيفٍ(116/328)