أهل التوحيد ولتحركت أفواه المبتدعة سباً وشتماً وطعناً في الدين وأهله, ولربما تحركت جيوش المبتدعة على هذه البلاد بحجة تخليص قبر الرسول من أيدي الوهابية المبغضين للنبي - صلى الله عليه وسلم -, ولتفرق الصف الإسلامي ولختلفت الكلمة ولظهر الشرور القولي والفعلي من المتربصين بهذه البلاد وأهلها ولربما وصل الأمر إلى تحرك الأمم الكافرة بحجة حرية الأديان إنكاراً على هذه البلاد ما فعلته بقبرٍ تعظمه سائر قلوب المسلمين ولصارت الشرارة ناراً مضطرمة لا يطفئها شيء, فدرء لذلك كله وسداً لأبواب المفاسد والضرر والفتنة رأى ولاة الأمر أن يبقى الحال على ما هو عليه لاسيما وأن القبر محفوظ ومصون ولا يستطيع أحد أن يفعل عنده شيئاً من البدع والضلالات والمهم أنه لابد من إحسان الظن في ولاة الأمر من الأمراء والعلماء في إبقاء الحال على ما هو عليه وأنهم ما أبقوه رغبة منهم في الأمر المحدث لا وألف لا, وإنما أبقوه من باب مراعاة المصالح والمفاسد ومن باب تحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد, ومن باب أنه إذا تعارضت مفسدة ومصلحة وكان المفسدة أعظم فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة, ومن باب سد الذرائع ومن باب جمع الكلمة واتحاد الصف, ومن باب خشية افتتان العامة فإن بعضهم قد يفتن عن دينه والعياذ بالله تسخطاً من هذا الفعل, ولكن ومع ذلك فإنه لابد من انعقاد القلوب على خطأ فعل الوليد في إدخاله القبر في المسجد النبوي ولكنه شيء ابتلينا به فلابد من مدافعته بقدر المستطاع متوخين في ذلك ما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم إنا نبرأ إليك من كل فعل أو قول يخالف شريعتك ونسألك باسمك الأعظم أن تغفر لمن زل لسانه أو أخطأ بنانه في شيء من ذلك إنك أنت الغفور الرحيم والله يتولانا وإياك .
عدنا إلى سياق البدع التي يفعلها من لا خلاق له عند القبور فأقول :-(109/18)
ومنها :- الصلاة عندها, وهو محرم في قول غالب أهل العلم إن لم نقل عند جميعهم ولا عبرة بمن أجاز الصلاة عندها من أهل العلم وقد ثبت النص الصحيح الصريح في تحريم الصلاة عندها وإليها ففي صحيح مسلم من حديث أبي مرثدٍ الغنوي - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) وقد تقرر في الأصول أن النهي يفيد التحريم إلا لصارف ولا نعلم صارفاً يصرف هذا النهي عن بابه وروى الشيخان في صحيحهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً )) ووجه الاستشهاد به أن يقال:- لقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي بعض الصلاة - أي التطوع - في البيوت وعلل ذلك حتى لا تكون كالمقابر فدل ذلك على أن المقابر ليس من الشأن الصلاة فيها, وأن البيت يكره إخلاؤه من الصلاة لما في ذلك من مشابهته للمقابر التي لا يصلى فيها, وهذا واضح الدلالة على المقصود وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر جهلاً من أنس بموضع القبر فناداه (( القبر القبر ))"أخرجه البخاري معلقاً" وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( نهى عن الصلاة بين القبور )) قال الهيثمي:- رواه البزار ورجاله رجال الصحيح, وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ))رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبزار وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية والحاكم والذهبي والألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة, واعلم رحمك الله تعالى أن النهي هنا للتحريم, وما ورد من لفظ الكراهة عن السلف فإنما يريدون به التحريم لأن الكراهة عندهم غالباً ما يراد بها الحرمة, واعلم أن القول الصحيح أن الصلاة عند القبر وإليه باطلة لا تصح واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية, واعلم أن العلة في النهي إنما هي لسد(109/19)
ذريعة التعظيم المفضي إلى الشرك، واعلم أن كل ما دخل في اسم المقبرة مما حول المقبرة فإنه لا يصلى فيه لدخوله في عموم النهي, واعلم أن الصلاة في مسجد بني على قبر أنها محرمة وباطلة ولا فرق بين كون القبر في القبلة أو عن اليمين أو الشمال أو الخلف إذا كان هذا القبر داخلاً في حدود المسجد, واعلم أن الأحق للأسبق فإن كان القبر هو الأول والمسجد قد بني عليه فالحق إزالة صورة المسجد وهدمه, وإن كان المسجد هو الأسبق والقبر طارئ فالحق نبش القبر وإخراج ما فيه ودفنه في مقابر المسلمين والله أعلم .(109/20)
ومنها :- شد الرحال إليها، وهو من المحدثات المحرمات ومن البدع المنكرات ومن الضلالات المفضية إلى انفتاح باب الشركيات كما هو معلوم، فلا يجوز البتة شد الرحل - أي السفر - إلى شيء من القبور، وبرهان ذلك حديث (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ))"متفق عليه وهو من الأحاديث المتواترة" ووجه الاستشهاد به هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن شد الرحال إلى بقعةٍ بقصد التعبد فيها أو عندها إلا إلى هذه البقاع الثلاثة فقط، وهذا النهي للتحريم كما تقرر في الأصول، فيدخل في ذلك شد الرحل إلى شيء من القبور بقصد زيارتها أو تعظيمها أو الصلاة عندها أو قراءة القرآن عندها أو لحضور مراسم الاحتفال بعيدها أو غير ذلك من مقاصد التعبد فهذا محرم مطلقاً ولا يجوز البتة ومنعه من باب سد الذرائع وقطع وسائل الشرك المفضية إليه، وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - أن النهي هنا عام فيدخل فيه شد الرحل إلى القبور أو شد الرحل إلى البقاع التي كان بها بني كالطور ونحو ذلك من البقاع، فهذا أبو بصرة قد لقي أبا هريرة - رضي الله عنه - وقد جاء أبو هريرة من الطور فقال له:- من أين أقبلت؟ قال:- من الطور صليت فيه فقال:- أما إني لو أدركتك قبل أن ترتحل لمنعتك ثم ذكر له حديث النهي عن شد الرحل وعن قزعة قال:- أردت الخروج إلى الطور، فسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال:- أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تشد الرحال...فذكره )) فهذا دليل على أن الصحابة قد فهموا أنه لا يجوز شد الرحال بقصد التعبد إلى شيء من البقاع إلا إلى هذه المساجد الثلاثة فقط، وفهمهم حجة وهو أحب إلينا من فهم غيرهم وكل فهم خالف فهم الصحابة في هذا فهو باطل لأنه قد تقرر في القواعد أن تفسير الراوي مقدم على غيره ما لم يخالف ظاهر الحديث، ولأنه قد تقرر أن الكتاب والسنة لا بد أن نفهمها فهماً موافقاً لفهم سلف هذه الأمة،(109/21)
ولأنه قد تقرر أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فهو باطل، وهذه المسألة من مسائل الاعتقاد، ولأنه قد تقرر أن الصحابة أكمل هذه الأمة عقولاً وأتمها فهماً لمقاصد الأدلة الشرعية، فدعك من كل فهم خالف هذا الفهم فإن الخير إنما هو في الأخذ بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة. ولله در القائل :-
والخير كل الخير في اتباع من سلف والشر كل الشر في ابتداع من خلف
ومنها :- وضع الستور على القبر وهذا لاشك أنه من البدع والمحدثات التي لا أصل لها ولم يكن ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدي أصحابه رضوان الله عنهم ولا من هدي أحد من سلف الأمة وأئمتها وهو مظهر من مظاهر الشرك ووسيلة من وسائل تعظيم صاحب ذلك القبر، وخروج عن هدي المسلمين في التعامل مع قبور موتاهم وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق عليه" ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي الحديث (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) ولو كان وضع الستور على القبور من القبور لسبقنا إليه من هم خير منا ولو كان ذلك ينفع الميت لبادر إليه من هم أحرص منا على نفع موتاهم وإيصال الخير لهم، لكنه شيء محدث وبدعة منكرة، أسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعصم الأمة منها وأن يوفق ولاة الأمر للإنكار على فاعليها .(109/22)
ومنها :- قراءة القرآن في المقبرة، وكذلك وضع المصاحف في القبور أو وضعها في المقابر ليقرأها من شاء القراءة من الزائرين، وهذا كله من البدع والمحدثات المنكرات التي تدخل دخولاً أولياً في حديث (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) فهو من البدع التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) ولم يكن ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدي أحد من صحابته ولا فعله أحد من التابعين ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها، واعلم أن القول الصحيح أن الميت قد انقطع عمله إلا فيما ورد الدليل الشرعي الصريح الصريح بالانتفاع به بعد الموت كالصدقة الجارية أو دعاء المسلمين له أو دعاء الولد الصالح له أو العلم الذي ينتفع به مما قد قاله أو كتبه أو الحج والعمرة عنه أو الصوم عنه، وأما قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت فإننا لا نعلم دليلا يثبت انتفاع الميت بذلك وهذا الانتفاع أمر غيبي وقد تقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف فلا نثبت منها إلا ما أثبته الدليل فقط وحيث لا دليل على إثبات انتفاع الميت بما يهدى له من قراءة الأحياء فالأصل فيه عدم الوصول، ولا قياس في الأمور الغيبية، بل مبناها على النص فقط، ولأن خير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي صحابته الكرام، وقد كانوا حريصين على إيصال النفع لموتاهم، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد لا من باب قوله ولا من فعله ولا من إقراره فقد ماتت خديجة رضي الله عنها، ومات سائر أولاده الذكور، وسائر بناته إلا فاطمة وهو لا يزال حياً - صلى الله عليه وسلم -، ومات عمه حمزة بن عبد المطلب، أحب أعمامه إليه، ومات ابن عمه جعفر - رضي الله عنه - ومات كثير من صحابته - صلى الله عليه وسلم - في حياته كشهداء بدرٍ وشهداء أحد وعثمان بن مظعون وغيرهم كثير، ومع شدة حبه - صلى الله عليه وسلم - لهم لم يثبت عنه أنه كان إذا(109/23)
قرأ القرآن أهدى ثوابه لأحدٍ منهم وقد أكمل الله به الدين فلم يبق وجه من أوجه التعبد لا فيما ينتفع به الأحياء ولا فيما ينتفع به الأموات إلا وقد بينه - صلى الله عليه وسلم - غاية البيان بأفصح لسان، ومع ذلك لم يدل أمته إلى نفع موتاهم بإهداء ثواب القراءة لهم، ولا فعله أحد من صحابته، ولم يكن من هدي السلف الصالح أنهم يهدون ثواب القراءة لموتاهم فأين الدليل على إثبات ذلك؟ فحيث لا دليل فالأصل المنع فالحق عندنا أنه لا يصل إلى الميت ثواب القراءة المهداة له من الأحياء والله يتولانا وإياك .
ومنها :- إسراج المقابر، بأي وسيلة من وسائل الإسراج سواءً كانت من الوسائل القديمة كالسرج والإيقاد أو كان بالوسائل الحديثة كالكهرباء وبرهان ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ))"رواه أبو داود والترمذي وسنده جيد محتج به" قال أبو العباس ( إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقاً لا يجوز بلا خلاف أعلمه للنهي الوارد ) ا.هـ. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم ( وأما إضاءة المقبرة فيخشى أن يجر ذلك إلى إسراج القبور الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله ولاسيما نفوس الجهال تتعلق كثيراً بالخرافات فتزال هذه الأنوار سداً للذريعة ) ا.هـ. ولكن أقول:- إذا حصل الدفن بالليل واحتيج إلى إضاءة يسيرة محصورة مخصوصة بوقت الدفن فقط وعلى هذا القبر بخصوصة ثم تطفأ بعد ذلك فأرى أنه لا بأس به لأن هذا ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، والمقصود أن إسراج القبور من جملة البدع المحدثة والأفعال الشنيعة المنكرة ومن الكبائر التي يجب الحذر والتحذير منها والله المستعان .(109/24)
ومنها :- الطواف حولها وهذا لا نعلم في تحريمه وبدعيته خلافاً بين أهل العلم، وقد نقل ابن تيمية رحمه الله تعالى اتفاق العلماء على أنه لا يطاف بشيءٍ من أجزاء الأرض إلا حول الكعبة خاصة، وأما الطواف حول القبور فهو من المنكرات الشنيعة والمحرمات الفظيعة والبدع الوخيمة، ومن المتقرر أن الطواف عبادة وتقرر أن العبادة مبناها على الاتباع لا على الابتداع، وتقرر أن العبادات توقيفية على النص، ولأن المتقرر عند العلماء جميعاً أن العبادة مبناها على ركنين على الإخلاص والمتابعة والطواف حول القبور لا متابعة فيه فإنه لم يأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله ولا أقر عليه ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها فهو من الأمور المحدثة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد، وهو من البدع وقد تقرر أن كل بدعة في الدين ضلالة، وتقرر أيضاً أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المشروع تركه، وقد قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الطواف بها من الشرك الأكبر إذا اقترن به اعتقاد التقرب لأصحابها أو لطلب البركة منهم أو اقترن به دعاؤهم من دون الله تعالى أو اقترن اعتقاد في أنهم ينفعون أو يضرون وأما إذا خلا عن ذلك فهو بدعة ومحرم وشرك أصغر لأنه من وسائل الشرك الأكبر والله يحفظنا وإياك من زلل الاعتقاد .(109/25)
ومنها :- الذبح عندها, وهو من المحرمات الشنيعة والمنكرات والضلالات الوخيمة وقد اتفق على منعه علماء الملة أجمعون, وقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم الذبح لغير الله جل وعلا, قال تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } ووجه الاستشهاد به أن نقول:- أن الله جل وعلا حرم فيما حرم ما أُهِل لغيره, وهذه المذبوحات داخل فيما أُهِل لغير الله لأن أصحابها إنما يتقربون بذبحها لأصحاب القبور, فهي مما أهلت للقبور وأصحابها لا مما أهلت لله جل وعلا, حتى وإن ذكروا عليها اسم الله تعالى فإن قلوبهم ونواياهم إنما هي إرادة القربان للقبور وأصحابها, وكذلك نقول:- لقد حرم الله تعالى فيما حرم ما ذبح على النصب وهي حجارة كانت تنصب وتعبد وتراق الدماء عندها، وهذه القبور المعظمة صارت بمنزلة هذه الأنصاب فما يراق عندها من دماء بهيمة الأنعام وغيرها إنما هو مما ذبح على النصب فهو حرام بلا شك وقال تعالى { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي لربك أيضاً، فالصلاة والذبح من العبادات العظيمة فكما أن الصلاة لغير الله تعالى محرم وشرك فكذلك الذبح لغيره جل وعلا محرم وشرك ويستدل على ذلك أيضاً بقوله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ } فدل ذلك على أن الصلاة والنسك من خصوصياته جل وعلا وأنها لا تصرف لغيره جل وعلا وقد سمى الله تعالى صرفها لغيره شركاً فدل ذلك على أن الذبح لغيره شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام بالكلية، والذابح لغير الله تعالى ملعون، فعن علي - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لعن الله من ذبح لغير الله لعن(109/26)
الله من لعن والديه، لعن الله من غير منار الأرض، لعن الله من آوى محدثا ))"رواه مسلم" وروى أبو داود في سننه بسند صحيح عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال:- نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا:- لا، فقال:- هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا:- لا، فقال للرجل:- أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم )) ومثله ما رواه أبو داود أيضاً بسند صحيح أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت (( إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، فقال:- لصنم؟ قالت:- لا، قال:- لوثن؟ قالت:- لا، فقال:- أوفي بنذرك )) وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب )) قالوا:- كيف ذلك يا رسول الله؟ قال (( مر رجلان على قومٍ لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً فقالوا:- لأحدهما قرب قال:- ليس عندي شيء أقرب، فقالوا:- قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر قرب، قال:- ما كنت لأقرب لأحدٍ دون الله عز وجل شيئاً فضربوا عنقه فدخل الجنة ))"أخرجه أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة في المصنف وإسناده جيد محتج به" فهذه الأدلة تقضي قضاءً جازماً بأن الذبح من القربات ومن أعظم الطاعات وأن صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر، فالذبائح التي تكون عند القبور لتعظيم أصحابها والتقرب لهم شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام بالكلية، نعوذ بالله من ذلك .(109/27)
ومنها :- النذر للقبور وأصحابها، وهذا من الشرك الأكبر لأن النذر عبادة، وقد تقرر في القواعد أن من سوى بين الله تعالى وبين أحد من الخلق فيما هو من خصائصه جل وعلا فقد أشرك الشرك الأكبر وقد نقل ابن تيمية رحمه الله تعالى اتفاق الفقهاء على أنه لا يجوز الوفاء بالنذر للقبور كمن ينذر لهم ذبحاً أو زيتاً أو ستارة أو حريراً أو شمعاً أو نفقة أو صدقة ونحو ذلك، فكل ذلك لا يجوز الوفاء باتفاق أهل العلم، فالنذر عبادة والعبادات لا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا قال تعالى { وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } وقال تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } وهذا في مقام المدح ولا يمدح الله تعالى إلا ما يحبه ويرضاه، والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه، والنذر كذلك فهو عبادة وفي الحديث (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه ))"رواه البخاري" وفي الحديث السابق (( فإنه لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم )) فلا يجوز النذر مطلقاً للقبور، فكما أنه لا يجوز الصلاة لها ولا الركوع ولا السجود لها ولا الذبح لها وغير ذلك من التعبدات فكذلك لا يجوز البتة النذر لها والله أعلم .
ومنها :- رفع الصوت خلف الجنائز بالتكبير والتهليل وغير ذلك من الأذكار وهذه الأذكار وإن كانت مشروعة باعتبار أصلها ولكنها ممنوعة وبدعة باعتبار وصفها وقد تقرر في القواعد أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، فهذا الفعل بدعة باعتبار الوصف لأنه ليس من هدي السلف ولا ثبت به دليل شرعي فهو محدث وكل محدث في الدين فهو رد، وبدعة وكل بدعة في الدين فهو ضلالة والله أعلم .(109/28)
ومنها :- دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم من دون الله تعالى وهذا ليس ببدعة فقط بل هو شرك أكبر مخرج عن الملة بالكلية، قال تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقال تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } وقال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقال تعالى { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } وقال تعالى { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } وقال تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } وقال تعالى { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال تعالى { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } وعن النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الدعاء هو العبادة ))"رواه الترمذي بإسناد صحيح" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - (( يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله(109/29)
وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف )) فهذه الآيات والأحاديث تفيد إفادة قطعية أن الدعاء عبادة وحيث كان كذلك فإنه لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا لأن العبادة حق الله المحصن الصرف فلا يجوز صرف شيء منها لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح فضلاً عن القبور أو الأحجار والأشجار وقد ذكرنا فيما مضى الشبه التي يثيرها عباد القبور حول هذه القضية بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى .
ومنها :- وضع الزهور على القبور فإنه من البدع الرديه والمحدثات المنكرة وذلك لأنه لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من صحابته ولا أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، وإنما هي محدثة قد وفدت إلينا من ديار الغرب وبئس هذه البدعة، وقد تقرر أن الأصل في العبادات التوقيف وتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد، وتقرر أن المتابعة شرط من شروط قبول التعبدات فالواجب الكف عن هذا الفعل لأنه بدعة ولا فائدة منه البتة، وهو وسيلة من وسائل تعظيم صاحب ذلك القبر ولو كان خيراً لسبقنا إليه السلف الصالح رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، لكنه بدعة في الدين ومحدثة في الشريعة وكل بدعة ضلالة، وشر الأمور محدثاتها .(109/30)
ومنها :- توزيع الصدقات والأطعمة في المقبرة، وهذا أيضاً من المحدثات المنكرة والبدع القبيحة فإنه لم يثبت فعل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحدٍ من سلف الأمة من الصحابة أو التابعين وقد تقرر أن الأصل في العبادات الوقف على الدليل، وتقرر أيضاً أن كل إحداث في الدين فهو رد وتقرر أيضاً أن المتابعة شرط لقبول الأعمال وتقرر أيضاً أن شرعية الشيء بأصله لا تستلزم شرعيته بوصفه، وتقرر أيضاً أن كل فعلٍ توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإن المشروع تركه والله أعلم .
ومنها :- وضع أوراق الشكوى بين فتحات سياج القبر، وهذه طامة كبيرة وهوة عظيمة للشرك الأكبر لأنه لا يجيب دعوة المضطرين إلا الله تعالى قال تعالى { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } وقال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وقد تقرر بالدليل القاطع أنه لا يجيب الخير ولا يدفع الضر إلا الله وحده لا شريك له فمن اعتقد في أحدٍ أنه يجلب خيراً أو يدفع شراً استقلالاً فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج عن الملة نعوذ بالله من ذلك .(109/31)
ومنها :- الأذان والإقامة في القبر قبل إدخال الميت أو في أثناء إدخاله أو بعد إدخاله وقبل وضع اللبن عليه، وهذا كله من المحدثات والبدع فهي داخلة في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي لفظ (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والأذان والإقامة باعتبار أصلهما عبادة ولكن باعتبار هذا الوصف المخصوص بدعة، فالأذان والإقامة في قبر الميت داخلة تحت قاعدة شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، فهما باعتبار الأصل مشروعان، لكنهما باعتبار هذا الوصف صارا ممنوعين، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قد تولى دفن بعض صحابته وقد حضر دفن كثيرٍ منهم، وهو مأمور بإبلاغ الشرع أمر إيجاب ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه كان يفعل ذلك، ولا نعلم ذلك ثابتاً عن أحدٍ من الصحابة والعبادات توقيفية والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها الأدلة الصحيحة الصريحة والله أعلم .(109/32)
ومنها :- أخذ شيء من تراب القبر للتبرك به، وهو أيضاً من البدع بل هو من الشرك، فإن كان الآخذ يعتقد أن هذا التراب من أسباب البركة فقط وأن الله تعالى هو واضع البركة ومقدرها فهذا شرك أصغر لأنه اعتقد سبباً ما ليس بسبب لا شرعاً ولا قدراً، ولأنه وسيله للشرك الأكبر، والمتقرر في قواعد التوحيد أن وسائل الشرك الأكبر يحكم عليها بأنها شرك أصغر- هذا عند بعض أهل العلم - وهو الذي نميل إليه، وأما إذا كان يعتقد أن الميت الذي أخذ من تراب قبره هو واضع البركة وهو الذي يأتي استقلالاً فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة لأن فعل الشيء استقلالاً من خصائصه جل وعلا، وكذلك إيجاد الشيء وخلقه استقلالاً من خصائصه جل وعلا فهذا الآخذ بلية كبيرة وطامة وخيمة قد ابتلي بها كثير من القبوريين، ولو كانوا يستطيعون الوصول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه لوجدت العجب ولكن نحمد الله تعالى أن سد عنا هذا الباب، فالواجب ترك ذلك والتحذير منه، ودعوة فاعليه بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلتهم بالتي هي أحسن، واعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر عند أهل العلم في قواعد التوحيد أن الأصل في التبرك التوقيف على النص أي أنه لا يجوز البتة اعتقاد وجود البركة في شيء من الأمكنة ولا الأزمنة ولا الأعيان إلا وعلى ذلك دليل شرعي صحيح صريح لأن وجود البركة في الشيء من الغيب الذي لا نستطيع أن ندركه بحواسنا والمتقرر عند أهل العلم أن مسائل الغيب مبناها على التوقيف، وبناء على ذلك فإنه بعد البحث الطويل لم نجد دليلاً يصلح أن يعتمد عليه يثبت وجود بركة في تراب قبر أحد من الأموات لا على وجه العموم ولا على وجه الخصوص، فحيث لا دليل على ذلك فالواجب تركه وعدم الاعتقاد فيه، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو السلف الصالح كان يأخذ من تراب أحدٍ من الأموات فلو كان ذلك خيراً لسبقونا إليه، وليس مرد إثبات الجواز إلى العقول أو عادات البلد أو إلى الأذواق والشهوات(109/33)
والمرويات الباطلة، بل مرد إثبات العبادة إلى النص ثم اعلم رحمك الله تعالى أن الذي يأخذ تراباً من قبرٍ إنما أخذه لأنه يعتقد أن عين هذا التراب فيه بركة ذاتية منتقلة وهذا ضلال مبين لأن ذلك لا يكون في هذه الأمة إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن البركة الذاتية المنتقلة هي بركة ذاته - صلى الله عليه وسلم - ولذلك فقد كان الصحابة يتبركون بعرقه ونخامته ووضوئه ولباسه وشعره وغير ذلك مما ثبت به النص وذلك لأن بركة ذاته كانت بركة ذاتية منتقلة، وأما بركة غيره فإنما هي بركة معنوية لازمة، فبركة المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الأقصى بركة معنوية لازمة، وبركة المصحف بركة معنوية لازمة وبركة الأزمنة التي ثبت النص ببركتها بركة معنوية لازمة، فلو سلمنا جدلاً أن تراب القبر فيه بركة لما جاز أخذه لأن بركته ستكون بركة معنوية لازمة ولكن لم يصح في ذلك شيء أصلاً وإنما هي تهوكات الشياطين وخرافات المجانين وشهوات البطالين الذين لا نقل يحكمهم ولا عقل يردعهم والله المستعان .(109/34)
ومنها :- رش الماء على القبور المجاورة القديمة بعد الفراغ من دفن قبرٍ حديث، وهذا يحصل أحياناً في مقابرنا جهلاً من فاعليه، أو ظناً منهم أنهم بهذا الرش يبردون على أهل القبور قبورهم، وهذا جهل وضلالة، وبدعة لابد من سد أبوابها، نعم رش الماء على القبر المدفون حديثاً لا بأس به إذا احتيج إليه لتثبيت تراب القبر وما عليه من الحصباء كما هو حاصل في هذه الأزمنة ولأنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رش الماء على قبر ابنه لما مات، وفي إسناده نظر وله طرق وبعضها قد يحتج به، قال ابن قدامة ( ويستحب أن يرش على القبر ماءً ليلتزق ترابه ) ا.هـ. وقال النووي ( ويستحب أن يرش عليه الماء ) ا.هـ. وقال المعلمي ( إن رش القبر مشروع ) ا.هـ. ولكن كلام العلماء هنا إنما هو في رش القبر الحديث، إذا احتاج الدافنون إلى ذلك لكثرة الرياح مثلاً التي تمر على المقبرة وغير ذلك من صور الحاجة وعلى ذلك جرى عمل الناس في القديم والحديث، ولكن النقاش هنا في البحث عن مشروعية رش القبور المجاورة فإن هذا لا دليل عليه ولا نعلمه منقولاً عن أهل العلم المعتبرين وإنما هي استحسانات لا خطام لها ولا زمام ولا أصل لها في المنقول الصحيح، فضلاً عن كونها نابعة عن اعتقادات وظنون لا يدل عليها الشرع، فإنهم يقصدون بذلك تبريد القبور على أصحابها، وهذا الفعل قد يكون مستنده غرس الغصن الرطب على صاحبي القبرين وقد بينا ما فيه سابقاً، وبالجملة فهذا الفعل بدعة ولا أصل له ولم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله أحد فيما نعلمه من سلف الأمة وأئمتها، والاستحسان لا مدخل له في التشريع ويقضي على ذلك كله قوله عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي لفظٍ (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والله أعلى وأعلم .(109/35)
ومنها :- اتخاذها عيداً, أي أن يجعل لها يوماً أو أياماً من العام يجتمع الناس فيه عندها ويدعونها ويحتفلون بذكراها ويذبحون عندها وينصبون الخيام ويوزعون الحلوى وتدق الطبول وترقص النساء وتوقد المصابيح ونحو ذلك مما لا يفعله الناس غالباً إلا في العيد فهذا كله من البدع المنكرة ومن الأفعال الشنيعة الخطيرة القبيحة وقد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذلك الإجماع القطعي المتواتر وقد ثبت الدليل بالمنع من ذلك التحذير منه فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) "رواه أبو داود وسنده صحيح" فقوله (( ولا تجعلوا قبري عيداً )) هذا نهي وقد تقرر في القواعد أن النهي يفيد التحريم إلا لصارف ولا صارف نعلمه لهذا النهي عن بابه وقوله (( لا تجعلوا قبري عيداً )) يستفاد منه حرمة اتخاذ كل القبور عيداً أياً كان صاحب هذا القبر, ووجه المنع أن هذا التحريم إذا كان في قبر خير خلق الله أجمعين فقبر غيره ممن هو دونه من باب أولى, وقد تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة الأولوي حجة ومثل ذلك حديث علي بن الحسين المعروف بزين العابدين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيدعو, فدعاه فقال:- ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم ))"رواه أبو يعلى وابن شيبة بسندٍ صحيح" وقد قدمنا إجماع أهل العلم على حرمة ذلك, وقد حاول بعض المبتدعة - كعادتهم - تحريف هذه الأدلة وإخراجها عن مدلولاتها الصحيحة فقالوا:- إن النهي عن اتخاذ قبره عيداً يقصد به زجر الأمة عن جعل قبره كالعيد فلا يؤتى إلا مرة واحدة أو مرتين في العام, بل لابد أن يؤتى دائماً وتكراراً ومرات كثيرة حتى لا يكون قبره(109/36)
كالعيد الذي لا يحصل إلا مرتين فقط, فمضمون هذا الحديث أمر بملازمة قبره والعكوف عنده والاحتفال به دائماً واعتياد قصده وانتيابه فكأنه قال:- لا تجعلوا قبري بمنزلة العيد لا يكون إلا من الحول إلى الحول ولكن اقصدوه دائماً في كل لحظة وساعة، كذا قالوا - ولبئس ما قالوا - وهذه صورة من صور تحريف المبتدعة للكلم عن مواضعه وهي من أبرز علاماتهم فإن للمبتدعة مع الأدلة المخالفة لمذاهبهم وقواعدهم طريقتين:- إن كان هذا الدليل آحاداً قالوا:- هذا من أخبار الآحاد وأخبار الآحاد لا يجوز إثبات العقائد بها، لأن القاعدة عندهم تقول:- الاعتقادات لا تثبت إلا بالمتواترات، فنسفوا بهذا القانون الفاسد جملاً كثيرة من عقائد الشريعة، والطريقة الثانية:- إن كان النص المخالف لمذهبهم من المتواترات فإنهم يكرون على مدلوله الصحيح بالتحريف والإلحاد مظاهر اللفظ باق على ما هو عليه ولكن قد سلب معناه الصحيح وأقحم فيه معان غريبة عليه إما بالأصالة وإما في هذا التركيب، فالآحاد يردونه سنداً، والمتواتر يردونه دلالة، وهذا طريق أهل الأهواء وما أشبه الليلة بالبارحة فانظر كيف قلب المبتدعة هذا الدليل إلى كونه ناهياً عن اتخاذ قبره عيداً لكونه آمراً بلزم القبر دائماً والعكوف عنده، اللهم إنا نعوذ بك من الفهم الفاسد والفكر المختل، يالله العجب لو كان الأمر كما تقولون فلما لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولماذا دفن في بيت عائشة خشية أن يبرز قبره فيتخذ مسجداً لو كان الأمر كما تقولون فلماذا يحذر أمته بقوله (( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) لو كان الأمر كما تقولون فلما يدعو ربه بقوله (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) ولو نظر هؤلاء المفتونون إلى آخر الحديث لعرفوا زيف قولهم فإنه قال (( ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) مما يدل على أن المقصود عدم اعتياد قصد القبر وعدم اعتقاد أن الدعاء(109/37)
عنده أفضل من غيره فلو كان المقصود ملازمته والعكوف عنده لما سوى بين صلاة البعيد وصلاة القريب، ثم ولو نظروا إلى سبب الحديث لتبين لهم الحق فإن علي بن الحسين رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيدعو فقال له علي بن الحسين رضي الله عنهما هذا الحديث فأفاد ذلك أن المقصود إنكار ما فعله هذا الرجل وأن اعتقاده أفضلية الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكراره للدخول في هذه الفرجة للدعاء من اتخاذ القبر عيداً, فعلي بن الحسين إنما أنكر على هذا الرجل فعله ذلك ولو كان الأمر كما يقوله أهل البدعة لما استحق ذلك الرجل الإنكار ولقال له:- أحسنت في ملازمة القبر ولكنك قصرت لأنك لا تأتيه كل يوم, فلازمه دائماً وعليك بالعكوف عنده, لكنه ما قال ذلك بل اشتد نكيره على هذا الرجل حتى قال كما في بعض الروايات:- وما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء, فالصحابة فهموا من قوله (( ولا تتخذوا قبري عيداً )) النهي الأكيد عن ملازمته والعكوف عنده وإحياء ليالي مولده عند قبره والاحتفال بذكرى بعثته ونحو ذلك من الدعاء عنده واعتقاد فضيلتها بخصوصها أو الذبح عند قبره وطلب الحاجات منه ونحو ذلك, ولذلك فقد اتفق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على عدم فعل شيء من ذلك عند قبره, فما يدل على أنهم فهموا الدليل فهماً مخالفاً لما يريده المبتدعة منه, بل فهم الصحابة في وادٍ وفهم المبتدعة في وادٍ, وعلى فهم الصحابة جرى عمل السلف الصالح وسار عليه أئمة الدين, وقد تقرر في قواعد الدين أن أصول الدعوة ثلاثة:- الأخذ بالكتاب, والأخذ بالسنة, وأن يكون ذلك على فهم سلف الأمة, فلابد من موافقة السلف الصالح في فهمهم لهذا الحديث, وتقرر في القواعد أيضاً أن كل فهم يخالف فهم سلف الأمة في مسائل الاعتقاد فهو باطل وهذا الحديث لا جرم من مسائل الاعتقاد وقد فهمه المبتدعة فهماً مناقضاً المناقضة التامة لما عليه فهم السلف,(109/38)
فالواجب رمي فهم المبتدعة خارجاً واعتماد ما قاله السلف وما فهموه من هذا الحديث, ومما استدل به المبتدعة أيضاً الأحاديث المروية في فضل زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص والتي سنفرد لها فصلاً خاصاً لنقل كلام العلماء على إسنادها, وقد تولاها ابن عبدالهادي في الصارم المنكي بما لا مزيد عليه وهو الفصل الآتي إن شاء الله تعالى والمقصود بيان بعض البدع التي تفعل عند بعض القبور فيا أيها المسلمون في سائر أرجاء المعمورة إني أحذركم هذه البدع والضلالات فإنها مخالفة للأدلة الصحيحات الصريحات وموجبة للغرق في مستنقع الشركيات, فإن الفتنة بالقبور من أعظم الفتن والبليات, فالذبح عندها من المهلكات, ودعاؤها والاستغاثة بأصحابها من أعظم الشركيات, والنذر لها والطواف بها والركوع والسجود لها هو غاية الخسارات يا أيها المسلمون في كل الأنحاء, إني نذير لكم من الاغترار بهذه الفتنة العظيمة والبلية الجسيمة فإنه لا يملك جلب الخيرات ولا دفع المضرات إلا رب الأرض والسماوات, هو وحده مالك الملك والمتصرف في كل الأكوان والبريات, فاحذروا - رحمكم الله تعالى - من الاغترار بشيء مما يفعل بها أو عندها من الأمور البدعيات والزموا جادة الحق وعليكم بآثار من سبق وتزودوا من الأعمال الصالحات, وتعوذوا بالله جل وعلا من الفتن ما ظهر منها وما بطن فإن العمر قصير والعقبة كؤود ولا نجاة مما أمامنا إلا بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح الموافق للكتاب والسنة وأقسم بالله يا إخواني إني لكم ناصح وعليكم مشفق فالله الله في التفقه في الدين واتباع السابقين في اعتقادهم الصافي وانهلوا من معينهم العذب الشافي الكافي, واحذروا رحمكم الله تعالى من زيغ القلوب واتباع الأهواء, وإياكم وشبه المضللين الذين توحي إليهم الشياطين زخرف القول غروراً ولو شاء ربنا ما فعلوه, فذروهم وما يفترون, فالذبح للقبور باطل والحق في تركه, ودعاؤها باطل والحق في تركه,(109/39)
والنذر لها باطل والحق في تركه والطواف بها باطل والحق في تركه والعكوف عندها وتوظيف السدنة لها باطل والحق في تركه والاستغاثة بها باطل والحق في تركه, واعتقاد أن أصحابها ينفعون أو يضرون باطل والحق في تركه, نعوذ بالله من الفتن عامة ومن فتنة القبور خاصة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
في المرويات الخاصة بزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - مع بيان نقدها
رواية ودراية مما قاله أهل العلم
رحمهم الله تعالى في ذلك(109/40)
أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التأييد والتحقيق :- اعلم رحمنا الله وإياك ووفقنا للعمل الصالح الرشيد أن هناك بعض المرويات المرغبة في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تناولها أهل العلم رحمهم الله تعالى بالبيان والتحقيق وأنا إن شاء الله تعالى سأنقل لك خلاصة ما قالوه في ذلك وقبل ذلك أذكرك بقاعدة مهمة في هذا الباب وقد قدمناها سابقاً في بداية هذا الكتاب ونصها يقول ( كل حديث في فضل زيارة قبر مخصوص فهو مما لا تقوم به الحجة ) ونذكرك أيضاً أن إثبات فضيلة لزيارة قبر مخصوص هي من إثبات حكم شرعي وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، وكل المرويات التي ستأتي في هذا الصدد دائرة بين كونها موضوعة وكذب مختلق وبين كونها ضعيفة شديدة الضعف، ولا يقال:- إننا نمنع من زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، نعوذ بالله من ذلك، إلا أن النقاش هنا في وضع المرويات المذكورة في ذلك فقط، نعم يستدل على زيارة قبره بالأدلة العامة المرغبة والآمرة بزيارة القبور على وجه الإجمال والتعميم، أما أن يكون هناك نقل خاص في فضيلة خاصة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فهذا مما لا نعلمه ثابتاً البتة، وهذا الكلام من باب الإجمال الذي سيعقبه التفصيل إن شاء الله تعالى، وقد تقرر في قواعد الدين أن الذب عن حياض سنته من علامات حبه - صلى الله عليه وسلم - ومن الذب عن سنته وجوب بيان الأحاديث الواهية والضعيفة والموضوعة التي لا يصح نسبتها لمقامه الشريف بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لأعلم أنه سيأتي في زمني أو بعده من يقول:- هذا الوهابي لا يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه ليمنع من زيارة قبر الحبيب الشفيع عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، هذا لابد أن يكون، ولذلك فلابد من إعادة التنبيه فأقول:- لا والله وبالله وتالله وأقسم بالأحد الصمد أن زيارة قبره - صلى(109/41)
الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه من السنن المشروعة من غير شد الرحل إليها، ومعاذ الله أن نمنع من ذلك، ولكن أهل البدعة يقلبون الكلام ويزيفون على العوام ويقطعون أول الكلام عن آخره، وهل ابتلي كثير من العلماء السابقين وسجنوا وعذبوا إلا بسبب أهل البدعة من المنافقين المندسين في صفوفنا، فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من شرهم وأن يكفيناهم بما شاء إنه هو السميع العليم، ونرجع إلى المقصود فنقول :-
الأول :- حديث (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) أقول:- هذا أمثل حديث ذكروه في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة الحديث العارفين به، ولا تقوم بمثله الحجة البتة، بل حكم عليه الشيخ تقي الدين بأنه موضوع، ولا نعلم أحداً من الحفاظ المشهورين الذين عليهم المعول في هذا الفن أنه صححه ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين وقد حكم عليه البيهقي بأنه منكر قال ابن عبد الهادي ( وهذا الذي قاله البيهقي في هذا الحديث وحكم به عليه قول صحيح بَيِّنٌ وحكم جلي واضح ولا يشك فيه من له أدنى اشتغال بهذا الفن ولا يرده إلا جاهل بهذا العلم ) ا.هـ. وقد بين سبب اقتناعه بهذا الحكم بقول ( وذلك أن تفرد مثل هذا العبدي- أي موسى بن هلال العبدي - المجهول الحال الذي لم يشتهر من أمره ما يوجب قبول أحاديثه وخبره عن عبدالله ابن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة عن نافع عن ابن عمر بهذا الخبر من بين سائر أصحاب نافع الحفاظ الثقات الأثبات مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني وعبدالله بن عون وصالح بن كيسان وإسماعيل بن أمية القرشي وابن جريج والأوزاعي وموسى بن عقبة وابن أبي ذئب ومالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهم من العالمين بحديثه الضابطين لرواياته المعتنين بأخباره، الملازمين له، من أقوى الحجج وأبين الأدلة وأوضح البراهين على ضعف ما تفرد به - أي موسى بن هلال - وإنكاره ورده وعدم قبوله، وهل يشك في هذا من(109/42)
شم رائحة الحديث أو كان عنده أدنى بصر به ) ا.هـ. كلامه، فبان بذلك أن ابن عبدالهادي له موآخذات على هذا الحديث وكلها مقبولة :-
الأولى :- أنه من رواية موسى بن هلال وهو ضعيف لأنه مجهول .
الثانية :- أنه من رواية عبدالله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف لسوء حفظه وشدة غفلته .
الثالثة :- أن موسى بن هلال مع ضعفه وعبدالله بن عمر العمري مع ضعفه، فقد خالفا بذلك الثقات الأثبات الذين هم ألصق منافع وأعلم برواياته عن ابن عمر رضي الله عنهما وجميع الثقات العارفين بحديث نافع لم يرووا شيئاً من ذلك، بل إن مالك بن أنس وهو أعرف الناس بحديث نافع وأثبت الناس في زمانه في الحديث، لا سيما حديث نافع وأضبطهم لحديثه وأشدهم اعتناءً بما رواه قد نص على كراهية قول القائل:- زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان هذا اللفظ مشروعاً عنده أو مأثوراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه، وقد ضعفه العقيلي رحمه الله تعالى، وضعفه ابن عدي في الكامل واعلم أن موسى بن هلال العبدي لم يرو هذا الحديث عن عبيدالله بن عمر الثقة لأن عبيدالله هذا قد مات قديماً ولم يلحق به موسى بن هلال، فإذا رأيت في بعض الطرق أن موسى بن هلال يرويه عن عبيدالله بن عمر فاعلم أنه غلط فالصحيح أنه من رواية موسى عن عبدالله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف في الحديث، وقد فرض ابن عبدالهادي فرضاً وقال ( ولو فرض أن الحديث من رواية عبيدالله لم يلزم أن يكون صحيحاً فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ وأصحاب عبيدالله بن عمر المعروفون بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان وعبدالله بن نمير وأبي أسامة حماد بن أسامة وعبدالوهاب الثقفي وعبدالله بن المبارك ومعتمر بن سليمان وعبدالأعلى بن عبدالأعلى وعلي بن مسهر ، وخالد بن الحارث وأبي ضمرة أنس بن عياض وبشر بن المفضل وأشباههم من الثقات(109/43)
المشهورين، فإذا كان هذا الحديث لم يروه عن عبيدالله أحد من الأثبات ولا رواه ثقة غيرهم علمنا أنه منكر غير مقبول وجزمنا بخطأ من حسنه أو صححه بغير علم ) ا.هـ. وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن موسى بن هلال فقال:- مجهول، وقال ابن القطان في هذا الحديث ( إن هذا الحديث الذي رواه موسى بن هلال حديث لا يصح ) ا.هـ. وقد ذكر النووي في شرح المهذب أن هذا الحديث ضعيف جداً, فتبين لك بعد ذلك أن هذا الحديث ضعيف شديد الضعف لا تقوم بمثله الحجة, ولو سلمنا أنه صحيح لما كان يدل إلا على الزيارة الشرعية لا على الزيارة البدعية, ونحن نقول بسنية زيارة قبره من غير شد رحل, لكن هذا الحديث ضعيف أصلاً, وقد حكم ابن خزيمة على هذا الحديث بأنه منكر وبرأ من عهدته, وضعفه الدولابي والدارقطني والحافظ بن حجرٍ والبرقاني فكلهم حكم على هذا الحديث بأنه لا يصح, ونحن نشهد الله تعالى أنه حديث لا يصح, بل هو ضعيف جداً شديد الضعف والله أعلم .(109/44)
الحديث الثاني :- (( من جاءني زائراً لا تعلمه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون شفيعاً له يوم القيامة )) وفي لفظٍ (( لا تحمله إلا زيارتي )) وفي أخرى (( لم تنزعه حاجة إلا زيارتي )) قال الحافظ ابن عبدالهادي رحمه الله تعالى ( هذا الحديث ليس في ذكر زيارة القبر ولا ذكر الزيارة بعد الموت مع أنه حديث ضعيف الإسناد منكر المتن لا يصلح للاحتجاج به ولا يجوز الاعتماد على مثله، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا رواه الإمام أحمد في مسنده ولا أحد من الأئمة المعتمد على ما أطلقوه في روايتهم ولا صححه إمام يعتمد على تصحيحه، وقد تفرد به هذا الشيخ الذي لم يعرف بنقل العلم ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره وهو مسلمة بن سالم الجهني الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وحديث آخر موضوع، ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين عن عبيدالله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب في زمانه وأحفظهم من نافع عن سالم عن أبيه من بين سائر أصحاب عبيدالله الثقات المشهورين والأثبات المتقنين علم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره ولا يجوز الاعتماد على روايته ) ا.هـ. كلامه فبان لك بذلك أن هذا الحديث حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة والله أعلم .(109/45)
الحديث الثالث :- حديث (( من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي )) وهو حديث رواه الدارقطني في سننه، وهذا الحديث حديث منكر ساقط لا يحل ذكره إلا مع بيان ضعفه، بل وذكره بعض أهل العلم بالحديث بأنه من الأحاديث الموضوعة، وعلته حفص بن أبي داود وهو حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي، وقد جرحه الأئمة وضعفوه وتركوه واتهمه بعضهم، قال يحيى بن معين:- ليس بثقة، وقال مرة عنه:- ليس بشيء، وقال عبدالله بن الإمام أحمد سمعت أبي يقول:- حفص بن سليمان أبو عمر القاري متروك الحديث وقول الإمام أحمد عنه ( القاري ) هذه صفة لأن حفص هذا كان مشهوراً بمعرفة القراءات ونقلها وأما الحديث فإنه لم يكن من أهله ولا ممن يعتمد عليه في نقله، وقال عنه البخاري:- تركوه، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني:- قد فرغ منه من دهر، وقال عنه مسلم ابن الحجاج:- متروك، وقال علي بن المديني:- ضعيف الحديث وتركته على عمدٍ وقال النسائي:- ليس بثقة ولا يكتب حديثه، وقال مرة:- متروك الحديث، وقال صالح بن محمد البغدادي:- لا يكتب حديثه وأحاديثه كلها مناكير، وقال أبو زرعة:- ضعيف الحديث، وقال ابن أبي حاتم:- سألت أبي عنه فقال:- لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث لا يصدق، متروك الحديث، وقال عبدالرحمن يوسف ابن خراش:- كذاب متروك، يضع الحديث، وقال الحاكم:- ذاهب الحديث، وقال الدارقطني:- ضعيف، وحيث كان مدار هذا الحديث فإنه حديث ضعيف شديد الضعف لا تقوم بمثله الحجة، قال البيهقي:- تفرد به حفص وهو ضعيف. والله أعلم.(109/46)
الحديث الرابع :- حديث (( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني )) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات, ورواه ابن عدي في الكامل قال ابن عبدالهادي رحمه الله تعالى ( واعلم أن هذا الحديث المذكور منكر جداً لا أصل له, بل هو من المكذوبات والموضوعات وهو كذب موضوع على مالكٍ مختلقٍ عليه, لم يحدث به قط ولم يروه إلا من جمع الغرائب والمناكير والموضوعات, ولقد أصاب الشيخ أبو الفرج الجوزي في ذكره في الموضوعات ) ا.هـ. وآفته محمد بن محمد بن النعمان وهو متهم بالكذب ووضع الأحاديث, والنعمان المذكور هو النعمان بن شبل وقد قال الأئمة فيه:- إنه يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوبات . وقد قال ابن عبدالهادي عنه ( لم يعرف بعدالة ولا ضبط, ولم يوثقه إمام يعتمد عليه ) ا.هـ. وقال الدارقطني عن هذا الحديث:- منكر . قلت:- وقد تفرد برواية هذا الحديث محمد بن محمد بن النعمان الذي ذكرت لك حاله سابقاً, فلا جرم أن هذا الحديث حديث موضوع وقد أفتى بذلك أبو العباس رحمه الله تعالى, والله أعلم .(109/47)
الحديث الخامس :- حديث (( من زار قبري أو من زارني كنت له شفيعاً أوشهيداً )) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده, وهذا حديث ساقط الإسناد كما ذكره ابن عبدالهادي رحمه الله تعالى, وقال رحمه الله تعالى ( هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم جعله المعترض - أي السبكي- ثلاثة أحاديث, وهو حديث واحد ساقط الإسناد لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله ) ا.هـ. وقد أخرجه البيهقي في كتاب شعب الإيمان وفي كتاب السنن الكبير وقال بعده:- هذا إسناد مجهول ا.هـ. قلت:- ومدار هذا الحديث على رجل يقال له هارون أبو قزعة وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث الضعيف ولم يشتهر من حاله ما يوجب قبول خبره وكذلك في إسناده رجل مبهم لا يعرف وهو رجل من آل عمر, ولا ندري من هذا الرجل, قال ابن عبدالهادي ( ومثل هذا لا يحتج به أحد ذاق طعم الحديث أو عقل شيئاً منه ) قلت:- وفي إسناده أيضاً سوار بن ميمون وهو شيخ مجهول الحال قليل الرواية, فهذا الحديث إسناده ساقط لا يجوز الاحتجاج بمثله ولا الاعتماد عليه للجهالة والاضطراب والانقطاع, والله أعلم .
الحديث السادس :- حديث (( من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة )) وهذا الحديث هو عين الحديث السابق، الذي رواه سوار بن ميمون وقد علمت حاله فيما مضى، وكذلك في سنده هارون بن قزعة، أو أبو قزعة وهو مجهول لا يعرف وذكر ابن حبان له في الثقات لا يعتبر، وطريقته في كتابه ضعيفة قد ناقشه فيها بعض الأئمة، ولا أدل على ذلك من أنه رحمه الله تعالى ذكر في كتابه الثقات خلقاً كثيراً ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وبين ضعفهم، رحمه الله وعفا عنه وجزاه الله خيراً على حسناته الكثيرة التي لا عَدَّ لها، لكن هذا الحديث حديث ساقط الإسناد وللجهالة والاضطراب والإرسال وقد حكم عليه بعض العلم بأنه موضوع وما أبعدوا في ذلك والله أعلم .(109/48)
الحديث السابع :- حديث (( من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه )) قال ابن عبدالهادي رحمه الله تعالى ( هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شكٍ ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث، ولم يحدث به عبدالله بن مسعود قط، ولا علقمة، ولا إبراهيم ولا منصور ولا سفيان الثوري، وأدنى من يعد من طلبة هذا العلم يعلم أن هذا الحديث مختلق مفتعل على سفيان الثوري وأنه لم يطرق سمعه قط ) ا.هـ. وعلة هذا الحديث الموضوع أحد رجلين:- إما أن يكون الحمل فيه على بدر بن عبدالله المصيصي الذي لم يعرف بثقةٍ ولا عدالةٍ ولا أمانة وإما أن يكون الحمل فيه على صاحب الجزء أبي الفتح محمد بن حسين الأزدري فإنه متهم بوضع الحديث, والله أعلم .(109/49)
الحديث الثامن :- حديث (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي )) وهذا حديث منكر لا أصل له, وإسناده مظلم, بل هو حديث موضوع, وآفته عدة رجال:- منهم:- رجل يقال له الحسن بن محمد السوسي, ومنهم:- أحمد بن سهل ابن أيوب الأهوازي وهما يرويان المنكرات ولا يحتج بخبرهما ولا يعتمد على روايتهما ومنهم:- خالد بن يزيد العمري المكي أبو الوليد وهو متروك الحديث متهم بالكذب قال يحيى بن معين:- كذاب, وقال ابن أبي حاتم:- وسئل عنه أبي فقال:- كان كذاباً, أتيته بمكة ولم أكتب حديثه وكان ذاهب الحديث, وكتب عنه أبو زرعة وترك الرواية عنه, وقال ابن حبان:- منكر الحديث جداً, وقال غير واحدٍ من الأئمة:- إنه يروي الموضوعات عن الأثبات وقال الأزدي:- متروك الحديث, وقال العقيلي:- يحدث بالخطأ ويحكي عن الثقات ما لا أصل له, وقال الدارقطني والبيهقي:- ضعيف الحديث وقال الحاكم:- أبو الوليد خالد بن يزيد العمري المكي:- ذاهب الحديث, وقال البخاري:- ذاهب الحديث, وقال ابن عدي:- له أحاديث وعامتها مناكير قال ابن عبدالهادي ( فإذا كانت هذه حال خالد بن يزيد العمري عند أئمة هذا الشأن فكيف يعتمد على حديث رواه أو يحتج بخبرٍ هو في طريقه هذا لو كان الإسناد إليه واضحاً فكيف وهو إسناد مظلم ) ا.هـ. قلت:- وقد حكم شيخ الإسلام بأنه حديث موضوع, والله أعلى وأعلم .(109/50)
الحديث التاسع :- حديث (( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً )) وفي رواية (( من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة )) وهذا إسناد ضعيف جداً, قال ابن عبدالهادي:- هذا الحديث ليس بصحيح ولا ثابت, بل هو حديث ضعيف الإسناد منقطع .ا.هـ. ومدار هذا الحديث على رجل يقال له ابن المثنى سليمان بن يزيد الكعبي وهو ممن لا يحتج بروايته, وليس هو ممن أدرك أنس ابن مالك فروايته عنه منقطعة, وروى ابن أبي حاتم عن أبيه أنه كان يقول فيه:- منكر الحديث ليس بقوي, فهذا الحديث لا يحل الاحتجاج به لأن مداره على ابن المثنى وهو ضعيف في الحديث, ولأن ابن المثنى هذا يرويه عن أنس, ولم يدركه فهو منقطع فعلته الانقطاع والضعف, قال ابن عبدالهادي ( ولو فرض أن روايته عنه صحيحة متصلة وأنه من جملة الثقات المشهورين لم يكن في هذا الخبر الذي رواه حجة على جواز شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبر بل إنما فيه ذكر الزيارة فقط والمراد بها الزيارة الشرعية ) ا.هـ.(109/51)
الحديث العاشر :- حديث (( ما من أحدٍ من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر )) قال ابن عبدالهادي ( هذا الحديث موضوع مكذوب مختلق مفتعل مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي, قبح الله واضعها, وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض, وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا تدري هل وجدت أم لا, وهذا المعترض - أي السبكي - إن كان لا يدري أن هذا الحديث من أقبح الموضوعات فهو من أجهل الناس وإن كان يعلم أنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج ويتكثر به ولا يبين حاله فهو داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين ))"رواه مسلم" فهو إما جاهل مفرط في الجهل أو معاند صاحب هوى متبع لهواه نعوذ بالله من الخذلان ) ا.هـ. وقد حكم أبو العباس عليه بأنه موضوع, بل أبو العباس يذهب إلى أن أحاديث الزيارة لقبره - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص كلها موضوعة .(109/52)
الحديث الحادي عشر :- حديث (( من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال:- شفيعاً )) وهذا حديث موضوع قال ابن عبدالهادي ( وهو حديث منكر جداً ليس بصحيح ولا بثابت بل هو حديث موضوع على ابن جريج وقد وقع تصحيف في متنه وفي إسناده، أما التصحيف في متنه فقوله (( من زارني )) وإنما هو (( من رآني في المنام كان كمن زارني في حياتي )) هكذا رأيته في كتاب العقيلي في نسخة ابن عساكر (( من رآني )) من الرؤية وعلى هذا يكون معناه معنى الحديث الصحيح (( من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي )) وفي رواية (( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي )) وأما التصحيف في إسناده فقوله:- سعيد بن محمد الحضرمي، والصواب شعيب بن محمد كما في رواية ابن عساكر، والحديث ليس بثابت على كل حال، سواءً بلفظ الزيارة أو الرؤية، وراويه فضالة بن سعيد بن زميل المازني شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه، وأما محمد بن يحيى المازني فإنه شيخ معروف لكنه مختلف في عدالته وقد ذكره ابن عدي في كتاب الضعفاء وقال:- هو منكر الحديث ) ا.هـ. وقال ابن عدي في أحاديث محمد المازني أحاديثه مظلمة منكرة . ا.هـ.(109/53)
الحديث الثاني عشر :- حديث (( من لم يزرني فقد جفاني )) قال ابن عبدالهادي ( هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، والنعمان بن شبل ليس بشيء ولا يعتمد عليه، ومحمد بن الفضيل بن عطية كذاب مشهور بالكذب ووضع الحديث، وجابر هو الجعفي ولم يكن بثقة، ومحمد بن علي هو أبو جعفر الباقر ولم يدرك جد أبيه علي بن أبي طالب، فلو كان الإسناد صحيحاً إليه كانت روايته عن علي منقطعة، فكيف والإسناد إليه ساقط مظلم ) ا.هـ. قلت:- قال أحمد في جابر الجعفي:- حديثه حديث أهل الكذب، وقال فيه البخاري:- سكتوا عنه، وقال الذهبي:- تركوه، وقال أيضاً:- مناكير هذا الرجل كثيرة لأنه صاحب حديث، وقال ابن معين:- ليس بشيء، وقال ابن أبي حاتم:- ذاهب الحديث، ترك حديثه، وقال الحافظ في التقريب:- كذبوه، وقد تركه يحيى بن مهدي ويحيى بن سعيد، وقال النسائي:- متروك، فالحديث بهذه الحال كذب موضوع والله أعلم. ومثله حديث (( من سأل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة ومن زار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وهذا أيضاً من المكذوبات على علي - رضي الله عنه -، فإن عبدالملك بن هارون بن عنترة متهم بالكذب ووضع الحديث قال ابن حبان:- كان ممن يضع الحديث لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة الاعتبار، وقال البخاري:- منكر الحديث، وقال الإمام أحمد:- ضعيف الحديث، وقال يحيى بن معين:- كذاب، وقال أبو حاتم الرازي:- متروك الحديث ذاهب الحديث، وقال الجوزجاني:- دجال كذاب، وقال النسائي:- متروك الحديث وقال أبو بشر الدولابي أيضاً:- متروك الحديث، وقال الحاكم:- روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال الدارقطني:- متروك يكذب، فبان بذلك أن هذا الحديث من الموضوعات التي لا يصح نسبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. فهذه بعض المرويات في زيارة قبره - صلى(109/54)
الله عليه وسلم - وقال ابن عبدالهادي بعد نقده لهذه الأحاديث ( فقد تبين أن جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض - أي السبكي - في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة أو موضوعة لا أصل لها، وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض وهو موضوع عند أهل هذا الشأن فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى وجزاه عن الأمة خير الجزاء ورفع الله نزله في الآخرة وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والصديقين إنه ولي ذلك والقادر عليه .(109/55)
ونختم هذا الفصل بكلام لأبي العباس بن تيمية رحمه الله تعالى، قال أبو العباس أحمد ابن عبدالحليم بن تيمية ( وأما قوله (( من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي )) وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - فليس منها شيء صحيح، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئاً لا أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي ولا الأئمة من أهل المسانيد كالإمام أحمد وأمثاله ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق ابن راهوية وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأمثالهم، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة كقوله (( من زارني وأبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة )) وقوله (( من حج ولم يزرني فقد جفاني )) فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب، والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده ومداره على عبدالله ابن عبدالله بن عمر العمري وهو ضعيف وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلاً، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه كقوله (( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ))"رواه أبو داود وغيره" وقوله (( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ))"رواه النسائي" وقوله (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا:- كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال (( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ))"رواه أبو داود وغيره" وقد كره مالك أن يقول الرجل:- زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا:- لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهى عنه، فإن القبور على وجهين، وجه شرعي ووجه بدعي فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواءً كان نبياً أو غير نبي ولهذا كان الصحابة إذا زاروا قبر النبي - صلى الله عليه(109/56)
وسلم - يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك وغيره ذلك، وقالوا:- إنه من البدع المحدثة، ولهذا قال الفقهاء:- إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، بل يستقبل القبلة وتنازعوا وقت السلام عليه:- هل يستقبل القبر أو يستقبل القبلة؟ فقال أبو حنيفة:- يستقبل القبلة وقال مالك والشافعي وأحمد:- يستقبل القبر، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) وقوله (( لا تتخذوا قبري عيداً )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ولهذا فقد اتفق السلف على أنه لا يستلم قبراً من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح به ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان كما قال تعالى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قال طائفة من السلف:- هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، فعبدوهم وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية وهي من جنس دين النصارى والمشركين وهو أن يكون الزائر قصده أن يستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه، أو يقسم على الله به في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه كلها من البدع التي لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعلها أصحابه وقد نص الأئمة على النهي من ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع، ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة قبر الخليل - عليه السلام - بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط، طاعة للحديث الذي ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام(109/57)
والمسجد الأقصى ومسجدي هذا )) ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة قبر الخليل والطور الذي كلم الله عليه موسى - عليه السلام -، أو جبل حراء ونحو ذلك لم يجب عليه الوفاء بنذره وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) والسفر إلى هذه البقاع معصية في أظهر القولين - ثم قال - والمقصود هنا أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع لا آثار الأنبياء ولا قبورهم ولا مساجدهم إلا المساجد الثلاثة، بل إذا فعل بعض الناس شيئاً من ذلك أنكر عليه غيره كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى، حتى إن غار حراء الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه وكذا الغار المأثور في القرآن ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى، وفي ختام الفصل أعيد التنبيه على أمور :-
الأول :- أن علامة حبه - صلى الله عليه وسلم - ليس هو في وضع الأحاديث المفضلة لزيارة قبره على
وجه الخصوص فإن وضع هذه الأحاديث هو في حقيقته بغض ومعاداة ومضادة له لأنه - صلى الله عليه وسلم - منع المنع الجازم القاطع أن يكذب أحد عليه وتوعد الوعيد الشديد الكذابين عليه بمقعدٍ من النار, بل علامة حبه هي في طاعته والإيمان به واتباعه وأن لا نعبد الله تعالى إلا بما شرع قال تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(109/58)
الثاني :- إن رد هذه الأحاديث الموضوعة ومناقشتها والنظر في أسانيدها لا يعني عدم احترامه - صلى الله عليه وسلم -, نعوذ بالله من ذلك بل إن ذلك من تعظيمه وتعظيم سنته واحترامه واحترام شريعته فليست الشريعة حفرة يضع فيها الكذابون والوضاعون ما يشاءون كيفما اتفق, لا بل شريعته منارة عالية, لها منزلتها وعظمتها, وإن الذب والدفاع عنها من محبته - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه .
الثالث :- إننا إذا رددنا الأحاديث الموضوعة فإننا لا نرد على النبي - صلى الله عليه وسلم -, معاذ الله من ذلك, وإنما نحن نرد على من افتعلها ووضعها واختلقها ونضرب بكذبهم في وجوههم .
الرابع :- إن ردنا لهذه الأحاديث الضعيفة الموضوعة لا يعني أننا نمنع من زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -, لا والله البتة, بل زيارة قبره مشروعة لكن لابد أن تكون على الوجه الشرعي الذي شرعه لنا, فلا يكون فيها شد رحل, لأنه هو - صلى الله عليه وسلم - منع من شد الرحال إلا لثلاثة مساجد فقط, ولا يكون فيها رفع الصوت عنده, بل لابد من ملازمة الأدب ولا يكون فيها شيء من الشركيات التي هو أصلاً جاء بإبطالها والتحذير منها كدعائه والاستغاثة به من دون الله تعالى وكالتمسح بالسياج الذي على قبره ونحو ذلك بل زيارته إنما يكون فيها السلام عليه والدعاء له فقط, وأما ما يفعله كثير من العامة اليوم عند قبره فإنه مما لا دليل عليه, فإذا منعناهم من فعل ذلك فلا نكون بذلك ممن يمنع زيارته, بل نكون ممن يمنع الإحداث في شريعته شيئاً لا دليل عليه فنقول لهم:- هذا أمر محدث وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق عليه" فأهل السنة بل العلماء قاطبة متفقون على مشروعية زيارة قبره لكن بلا شد رحل ولا فعل شيء مما لا دليل عليه والله ربنا أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
في زيارة القبور
وهذا الفصل الواسع نلخصه في مسائل :-(109/59)
{المسألة الأولى} اعلم رحمك الله تعالى أن زيارة القبور مشروعة شرع ندب واستحباب إذا كانت على الوجه الشرعي وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال (( استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ))"رواه مسلم" وعن بريدة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ))"رواه مسلم" وعن عائشة رضي الله عنها (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور ))"رواه الحاكم والبيهقي وابن عبدالبر في التمهيد وصححه الذهبي" وعن عائشة أيضاً رضي الله عنها قالت:- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول (( السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم غداً مؤجلون وإنا بكم إن شاء الله لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ))"رواه مسلم" وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - (( أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات )) وعن بريدة - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون, أسأل الله لنا ولكم العافية ))" رواه مسلم" فهذه بعض النقول المفيدة لاستحباب زيارة القبور والله أعلم .(109/60)
{المسألة الثانية} اعلم رحمك الله تعالى أن زيارة القبور من جملة القربات والتعبدات التي يرجو بها فاعلها الأجر والمثوبة من رب الأرض والسماوات وحيث كانت زيارة القبور عبادة فإنها تدخل تحت الأصل العام الذي اتفق عليه العلماء من أن الأصل في العبادات التوقيف على النص, فلا يجوز لأي زائر أن يحدث قولاً أو فعلاً في هذه العبادة إلا وعلى ذلك دليل شرعي صحيح صريح, فكل محدثةٍ في الزيارة فإنها ضلالة وبدعة, فأي قول أو فعل يفعله الزائر فإنه لابد أن يكون مستنداً إلى دليل من الكتاب أو صحيح السنة, فإنه قد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وتقرر أيضاً أن الشرع مبناه على الاتباع لا على الابتداع وتقرر أيضاً أن كل إحداث في الدين فهو رد وتقرر أيضاً أن المتابعة شرط من شروط قبول العبادات فمن اعتقد فضيلة قول مخصوص في زيارة القبور أو اعتقد فضيلة فعل مخصوص عند زيارتها فإنه مطالب بالدليل لأن الأصل المنع وتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقال (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) فالباب في زيارة القبور ليس باباً مفتوحاً للأهواء والرغبات والمرويات الباطلة أو الاستحسانات التي ما أنزل الله بها من سلطان أو للأعراف والتقاليد المخالفة للشرع, أو للمراسيم البدعية المناقضة لدين الله تعالى, لا بل هو باب توقيفي على النص, فإذا ورد النص الصحيح فتح الباب له بقدر ما يقتضيه النص فقط ثم يغلق الباب حتى يأتي نص آخر صحيح فيفتح له ثم يغلق, فانتبه لهذا, فإن زيارة القبور ليست من العادات التي يكون الأصل فيها الحل بل هو من جملة العبادات التي الأصل فيها المنع حتى يقوم دليل المشروعية وحيث كان الأمر كذلك فإنه ينبغي لمن أراد زيارة القبور أن يتعلم صفة الزيارة الشرعية وما يجوز فيها وما لا يجوز حتى يكون ممن(109/61)
يعبد الله على بصيرة, وأما التخبط والجهل فإنه يوقع في البدع والضلالات بل قد يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الشركيات المخرجة عن الملة, فكما أنه ينبغي معرفة صفة العبادة قبل مباشرتها سواءً كانت صلاة أو حجاًَ أو صياماً أو عمرة أو غير ذلك فكذلك أيضاً زيارة القبور لها صفة شرعية قد وردت بها الأدلة فلابد من نشرها بين الناس وتعليمها للجاهل بها, فإننا نجزم جزماً أن من أعظم أسباب انتشار البدع القبورية إنما هو الجهل بحقيقة الزيارة الشرعية, فانتبه لهذا واحفظ هذه القاعدة العظيمة التي تسد علينا ما لا يحصى من الشر والفساد والفتنة والله أعلم .
{المسألة الثالثة} اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء رفع الله منازلهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم وغفر لأمواتهم قد قسموا زيارة القبور إلى قسمين:- زيارة شرعية وزيارة بدعية، والذي يمكن حصره منهما هو الزيارة الشرعية، فقد قرر العلماء رحمهم الله تعالى أن الزيارة الشرعية هي ما كان قصد الزائر فيها السلام على الميت والدعاء له، وتذكر الآخرة، واغتنام الأجر بمتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارته للقبور، فهذه أربعة مقاصد وقد يدخل بعضها في بعض :-(109/62)
الأول :- السلام على الميت ففي الصحيح (( أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور:- السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين...الحديث )) وتقدم في حديث عائشة (( أنه إذا كانت ليلتها خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل إلى بقيع الغرقد فيقول:- السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين...الحديث )) وفي الأثر الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما (( أنه كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:- السلام عليك يا رسول الله، ثم يقول:- السلام عليك يا أبا بكر، ثم يقول:- السلام عليك يا أبهْ )) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ))"رواه أبو داود وسنده حسن" وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( ما من رجلٍ يمر بقبر رجلٍ كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام )) فمن دخل المقابر بنية السلام على الأموات فلا شيء عليه لأن هذا من الزيارة المشروعة .
الثاني :- الدعاء للأموات وهذا أيضاً من الزيارة الشرعية ودليله حديث السلام على(109/63)
الأموات عند الزيارة وفيه (( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا خرجوا إلى القبور أن يسلموا على الأموات وأن يدعوا لهم، وقد كان هو - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء إلى البقيع زائراً قال (( اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد )) ولأن هذا من أعظم ما ينفع الحيُ به أخاه الميت فهو داخل في عموم (( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )) وقد تقرر في قواعد الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على القبر ومن المعلوم أن صلاة الجنازة غالبها دعاء للميت، وفي الحديث (( إن هذه القبور مظلمة وإن الله ينورها بصلاتي على أهلها )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فالشك مني لبعد العهد بالحديث، فمن زار القبور بنية الدعاء لأهلها فقد أصاب السنة وزيارته هذه زيارة شرعية لأنه فعل فيها ما وردت به الأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة .
الثالث :- تذكر الآخرة وهذا أيضاً قد وردت الأدلة ففي الحديث (( فزوروا القبور فإنها تذكر الموت )) وقد سبق أنه عند مسلم وللترمذي (( فإنها تذكر الآخرة )) .(109/64)
الرابع :- أن يقصد متابعة السنة فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يزور القبور ويسلم على أصحابها ويدعو لهم ويأمر بزيارتها ويقر على ذلك، فمشروعية زيارة القبور قد دل عليها قوله وفعله وإقراره - صلى الله عليه وسلم -، فهذه المقاصد تسمى مقاصد الزيارة الشرعية، فأنصحك يا أخي من باب أخوة الدين ومحبة الإيمان أن لا تنوي حال زيارتك للقبور إلا أحد هذه المقاصد الأربعة فإن استجمعتها في قلبك فهو نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، واعلم رحمك الله تعالى أن ما عدا هذه المقاصد فإنه داخل في حد الزيارة البدعية، والباطل في مثل ذلك قد لا يكاد يحصر ولكن من باب التمثيل أقول:- من زار القبور بقصد دعاء أصحابها والاستغاثة بهم من دون الله تعالى فقد وقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها ليقدم لها نذراً من شمع أو زيت أو حريرٍ ونحو ذلك فهو واقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها ليأخذ من ترابها ليتبرك به فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها ليقيم عندها الليالي ذوات العدد فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن سافر من بلاده البعيده وشد رحله إليها فهو واقع في الزيارة البدعية ومن زارها للطواف بها فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها ليذبح عندها فهو واقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها ليعلق على سياجها أوراق الشكاية والهموم فهو واقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها ليبني عليها أو يرشها بماء الورد فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها بأولاده الصغار لتحل فيهم بركة الولي المقبور فهو واقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها ببهائمه المريضة طلباً لشفائها أو زارها المريض ليشفى هو فقد وقع في الزيارة الشركية البدعية، ومن زارها بقصد دلالته على شيء غائب له من ولدٍ أو متاع فهو واقع في الزيارة الشركية البدعية، ومن زارها طالباً الشفاعة من أصحابها ورفعة الدرجات منهم أو مغفرة الذنوب فهو واقع في الزيارة(109/65)
الشركية البدعية، ومن زارها بقصد هداية قلبه ونجاحه في تجارته أو دراسته ونحو ذلك فهو واقع في الزيارة البدعية الشركية، ومن زارها بقصد قراءة القرآن عندها فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها للنوح فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها للصلاة عندها أو الركوع والسجود لها فهو واقع في الزيارة الشركية البدعية، ومن زارها لاتخاذها عيداً فهو واقع في الزيارة البدعية، ومن زارها لتقبيل أعتابها والتمسح بجدرانها فهو واقع في الزيارة البدعية، وبالجملة فإن الزيارة البدعية لا نستطيع حصر مقاصدها، ولكن نقول:- كل زيارة خرج مقصودها عن المقرر شرعاً في الزيارة الشرعية فهي من قبيل الزيارة البدعية، قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وأما الزيارة البدعية فهي من جنس الشرك والذريعة إليه كما فعل اليهود والنصارى عند قبور الأنبياء والصالحين ) ا.هـ.(109/66)
{المسألة الرابعة} اعلم رحمك الله تعالى أن زيارة قبر المشرك جائزة في أصح قولي أهل العلم رحمهم الله تعالى إلا أن قبر المشرك لا يزار بقصد الدعاء والاستغفار له وإنما يزار بقصد الاعتبار والاتعاظ بحاله وبقصد تذكر الآخرة فقط, قال تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وأما دليل الجواز فما رواه مسلم في صحيحه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال (( استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يؤذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت )) ووجه الدلالة منه واضحة, فأمه - صلى الله عليه وسلم - ماتت على الشرك وقد نهي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لأي مشركٍ ولو كان ذا قربى, ومع ذلك فقد أذن الله عز وجل له في زيارة قبرها, فدل ذلك على جواز زيارة قبر المشرك, ولا يقال:- إن هذه الزيارة خاصة بأمه - صلى الله عليه وسلم - فقط لأن المتقرر في القواعد أن الخصائص لا تثبت إلا بدليل, وتقرر في القواعد أيضاً أن كل حكمٍ ثبت في حقه - صلى الله عليه وسلم - فإنه يثبت في حق أمته تبعاً إلا بدليل الاختصاص, ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال بعد الإذن له بزيارتها (( فزوروا القبور فإنها تذكر الموت )) وهذا خطاب عام للأمة وقد ورد على سبب خاص وقد تقرر في القواعد أن صورة السبب تدخل دخولاً أولياً في عموم الخطاب, ولأن قوله (( القبور )) جمع دخلت عليه الألف واللام وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على الجمع أفادته العموم, وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص وقبور المشركين داخلة في هذا العموم, ومن خصصها فإنه مطالب بالدليل لأنه مخالف للأصل وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن(109/67)
الأصل لا من الثابت عليه, ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( فإنها - أي زيارة القبور - تذكر الموت )) وهذه العلة أكسبت الحكم العموم, وقد تقرر في القواعد أن العلة قد تعمم الحكم وقد تخصصه وهنا قد عممته لأن تذكر الموت حاصل بزيارة قبور الكفار ويستفاد الجواز أيضاً من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )) "رواه مسلم" وهذا العموم يدخل فيه قبور المسلمين وقبور الكفار لأن العظة والاعتبار وتذكر الآخرة الذي قد عللت به زيارة القبور كما أنه حاصل بزيارة قبور المسلمين فهو حاصل أيضاً بزيارة قبور الكفار, واختار هذا جمع من المحققين كابن حزم والنووي وشيخ الإسلام أبي العباس رحمه الله تعالى كما في الفتاوى فإنه قال ( وتجوز زيارة الكافر لأجل الاعتبار دون الاستغفار له ) ا.هـ. قلت:- لقد بينا كيفية الاستدلال على جواز زيارة قبر المشرك من حديث زيارته - صلى الله عليه وسلم - لقبر أمه وفرعنا ذلك على القواعد المقررة عند أهل العلم وأزيد ذلك تقعيداً فأقول:- إن جواز زيارة قبر أمه - صلى الله عليه وسلم - حكم ثبت لواحدٍ من المشركين في الشريعة, وقد تقرر في القواعد أن الحكم إذا ثبت في حق واحدٍ فإنه يثبت في حق الجميع إلا بدليل الاختصاص, فحيث ثبت شرعاً جواز زيارة قبرها وهي مشركة فهذا يثبت في حق عموم قبور الكفار إذ لا دليل على تخصيص قبر أمه بذلك, ونقول أيضاً:- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( فزوروا القبور فإنها تذكر الموت )) واكتفى بذلك ولم يقل:- إلا قبر مشرك, فلو كانت زيارة قبور الكفار ممنوعة لبين ذلك وقرنه بالحكم لأنه سيتطرق لأذهانهم أن الحكم في الزيارة عام, فلو كانت زيارة قبر الكافر ممنوعة لبين لهم ذلك فلما لم يبينه دل على أنه أراد منهم أن يفهموا أن الحكم عام لأن المتقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, ونقول أيضاً:- إن زيارته - صلى الله عليه وسلم - لقبر(109/68)
أمه سبب خاص لقوله (( فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة )) لكن قوله (( القبور )) عام, فعندنا سبب خاص وعندنا لفظ حكم عام, فأيهما يقدم على الآخر خصوص السبب أم عموم الحكم؟ هذا ما تجيب عنه القاعدة التي تقول:- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, فتعميماً للفظ الحكم قلنا بجواز زيارة قبر كل كافر, لكن كما ذكرنا سابقاً أن قبور الكفار لا تزار لأجل الاستغفار لهم أو الدعاء لهم وإنما تزار لأجل الاعتبار وأخذ العظة وتذكر الموت والآخرة ولمعرفة عظيم قدر نعمة الله علينا أن لم يقبض أرواحنا ونحن كحالهم على الكفر أو الشرك .(109/69)
{المسألة الخامسة} اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء اتفقوا - فيما نعلم - على منع زيارة النساء للقبور إذا كانت إحداهن تخرج متبرجة متزينة متطيبة أو خشي عليها الفتنة بخروجها لبعد المقابر عن الديار أو كان المقابر يؤمها بعض الفساق للاستتار بفسقهم ونحو ذلك مما يخشى عليها أو بها الفتنة, هذا ما لا نعلم فيه خلافاً, واتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى - فيما نعلم - على أن المرأة ممنوعة من الإكثار من الزيارة للقبور إذا كان تكرار زيارتها يدخلها في وصف الزوارات للقبور, ولكن اختلفوا فيما إذا يخشى عليها أو بها شيء من الفتنة ولم تكن من المكثرات للزيارة على أقوال:- فقيل بالتحريم وقيل بالكراهة وقيل بالإباحة والقول الصحيح والرأي الراجح المليح في ذلك هو القول بالحرمة مطلقاً واختار هذا القول الشيرازي وهو قول للمالكية ورواية عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم, ونسب هذا القول للسيوطي والسندي وابن حجر الهيثمي وصديق حسن خان, واختاره سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وسماحة الوالد الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز, وهو الذي تفتي به اللجنة الدائمة في الديار السعودية عصمها الله من كل شر وبلاء, وهو اختيار الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في جزء المفيد:- (جزء في زيارة النساء للقبور) وهو الذي نراه راجحاً ولاشك عندنا في رجحانه إن شاء الله تعالى والدليل على رجحانه عدة أمور :-(109/70)
منها :- أنه - صلى الله عليه وسلم - (( لعن زوارات القبور )) رواه أحمد والترمذي وقال:- حديث حسن صحيح, وصححه كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة الألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة, ووجه الاستدلال به أن يقال:- قوله (( لعن )) واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى وهذا لا يكون إلا في أمرٍ محرم شديد التحريم وهو علامة على أن الأمر الملعون عليه من جملة الكبائر, فدل ذلك على تحريم زيارة المرأة للقبور وقوله (( زوارات )) اعلم إنه بضم الزاي لا بفتحها, كذا قال كثير من أهل العلم فعلى هذا لا تكون الصيغة للمبالغة كما فهمه بعض أهل العلم رحم الله الجميع رحمة واسعة, بل يكون معناها جمع زائرة فقوله (( زوارات )) بالضم جمع زائرة, وكذا نص أئمة اللغة فقال ابن منظور ( وامرأة زائرة من نسوة زُور ) فقوله ( زُور ) هو بعينه جمع زائرة, وقال الجوهري ( نسوة زُوَّرْ ) ا.هـ. وقال الفيروز آبادي ( الزائر والزائرون كالزُّوَّار والزُّور ) ا.هـ. فيكون معنى (( زوارات القبور )) أي اللاتي يزرن القبور من غير تعرض للإقلال أو الإكثار, فبان بذلك أن اللعن منصب على من زارت القبور, والله أعلم .
ومنها :- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) رواه أحمد في المسند والترمذي في سننه وحسنه وكذلك حسنه البغوي في شرح السنة, قلت:- وإسناده إما حسن لذاته أو صحيح لغيره, فهو على كل حال مما يحتج به ووجه الشاهد منه كما قررناه سابقاً من أن اللعن لا يكون إلا على فعلٍ محرم شديد التحريم, فاللعن يفيد التحريم, بل إفادته للتحريم أبلغ من مجرد إفادة صيغة النهي المجردة له, والله أعلم .(109/71)
ومنها :- حديث أم عطية رضي الله عنها قالت (( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا )) وهو في الصحيح, والشاهد منه قوله (( نهينا )) وهنا عدة قواعد لابد من تخريج الحديث عليها ليتم به الاستدلال على المطلوب وهي كما يلي :-
الأولى :- لقد تقرر في القواعد أن الصحابي إذا قال أُمِرْنا بكذا أو نُهِينَا عن كذا فإن له حكم الرفع, لأن الأعم الأغلب أن الآمر والناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم -, وقد صرحت بذلك في بعض روايات الحديث .
الثانية :- لقد تقرر في القواعد أن النهي المجرد عن القرينة يفيد التحريم وقولها (( نهينا )) نهي مجرد عن القرينة الصارفة فهو إذاً يفيد التحريم .
الثالثة :- لقد تقرر في القواعد أن العبرة فيما رواه الراوي لا فيما رآه إذا كان رأيه مخالفاً لظاهر الحديث, فقولها (( نهينا عن اتباع الجنائز )) هذا هو روايتها وقولها (( ولم يعزم علينا )) هذا هو رأيها, والعبرة فيما روت لا فيما رأت فالحجة في روايتها لا في رأيها فانتبه لهذا .
الرابعة :- لقد تقرر في القواعد أن القياس الأولوي حجة, فإذا كان النساء منهياتٍ عن اتباع الجنائز فلأن تكون منهية عن الزيارة من بابٍ أولى, فإن الأجر في اتباع الجنائز أعظم منه في الزيارة ولقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله ( ومطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن والصلاة فرض على الكفاية وليس شيء من الزيارة فرضاً على الكفاية - إلى أن قال - فإذا كانت النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال فما ليس بفرضٍ على أحد أولى ) ا.هـ. وهذا واضح .(109/72)
الخامسة :- لقد تقرر في القواعد أن الإخبار بالتأثيم ليس بشرطٍ في التحريم، أي ليس كل حرام في الشريعة لابد أن يقرن بعقوبة خاصة، وإلا لما كان محرماً، فإن الحرام دركات كما أن الواجب درجات، فالتحريم يستفاد من مجرد النهي، وقد استفدنا ذلك من قولها (( نهينا عن اتباع الجنائز )) وهذا كافٍ في فهم التحريم فقولها (( ولم يعزم علينا )) لا ينقض التحريم السابق لأن التعزيم في التحريم ليس بشرط فيه وقد أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في قوله ( وقولها (( ولم يعزم علينا )) إنما نفت وصف النهي وهو النهي المؤكد بالعزيمة وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كافٍ ولما نهاهن انتهين ) ا.هـ. ويوضح هذا القاعدة السادسة والله أعلم.
السادسة :- لقد تقرر في القواعد أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه وقولها (( ولم يعزم علينا )) ظن قد بان خطؤه إذ أنه قد وردت العزيمة في التحريم وهو هذا اللعن المؤكد وأي عزيمة غير هذه العزيمة فأم عطية رضي الله عنها وأرضاها لم تشهد العزيمة في ذلك النهي وقد دلت أحاديث لعن الزائرات على العزيمة فهذا اجتهاد منها رضي الله عنها قد عورض بالنص المرفوع والنص مقدم على كل قول والله أعلم .
السابعة :- لقد تقرر في القواعد أن المثبت مقدم على النافي وقولها (( ولم يعزم علينا )) نفي لهذه العزيمة وأحاديث لعن زائرات القبور إثبات لهذه العزيمة, فدار الأمر بين نافٍ لها ومثبت لها والمثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم خفيت على النافي .
الثامنة :- لقد تقرر في القواعد أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وقولها (( ولم يعزم علينا )) نفي لحفظها هذه العزيمة, وأحاديث لعن زائرات القبور فيه إثبات من روايتها أنهم حفظوا هذه العزيمة فهم حفظوها وهي لم تحفظها ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .(109/73)
التاسعة :- قاعدة سد الذرائع, فإننا قد قررنا بالدليل أن زيارة النساء للقبور محرمة تحريماً قد لعن فاعله, ومن المعتاد من الشريعة إنها إذا حرمت شيئاً فإنها تمنع جميع الطرق التي توصل إلى هذا الشيء ولا جرم أن ذلك من كمالها - زادها الله شرفاً ورفعة - وبناءً عليه فتحريم اتباع الجنائز على النساء إنما هو من باب سد الذرائع المفضية إلى المحرم, فلما كان تشييع الجنازة وحملها وإيصالها للمقبرة من ذرائع الزيارة الممنوعة سدت الشريعة هذا الباب ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء عن اتباع الجنائز والله تعالى أعلى وأعلم .
وأما حديث (( فزوروها فإنها تذكر الموت )) فهو عام مخصوص بأحاديث نهي النساء عن زيارة القبور والإخبار باللعن, وقد تقرر في القواعد أن الخاص مقدم على العام .(109/74)
وأما حديث المرأة التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - تبكي عند قبر ابن لها فلا حجة فيه وقد أجاب عنه ابن القيم بقوله ( وأما حديث أنس فهو حجة لنا فإنه لم يقرها, بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ومن جملتها النهي عن الزيارة, وقال لها (( اصبري )) ومعلوم أن مجيئها إلى القبر وبكاءها منافٍ للصبر فلما أبت أن تقبل منه ولم تعرفه انصرف عنها, فلما علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر لها, جاءته لتعتذر إليه من مخالفة أمره فأي دليل في هذا على جواز زيارة النساء - ثم قال - وبعد فلا يعلم أن هذه القضية أكانت بعد لعنه - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور أم لا؟ ونحن نقول إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع أو تكون دالة على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها على الجواز فعلى التقديرين فلا تعارض أحاديث المنع ولا يمكن دعوى نسخها بها ) ا.هـ. وعندي جواب آخر غير ما ذكره ابن القيم وهو أن يقال:- لقد تقرر في القواعد أن المتشابه يرد إلى المحكم, ومن المعلوم أن حديث هذه المرأة فيه تشابه واحتمال كما هو ظاهر, وأما أحاديث النهي فهي محكمة واضحة الدلالة لا يعتريها تشابه ولا احتمال فكان الواجب هو رد حديث المرأة إلى أحاديث اللعن, وإخضاع دلالته لدلالتها فأحاديث اللعن مقدمة على حديث هذه المرأة لأن حديثها محتمل متشابه, وأحاديث اللعن محكمة والمتقرر عند أهل العلم أن المتشابه يرد إلى المحكم, وثمة قاعدة أخرى وهي قاعدة ( النص مقدم على الظاهر ) فإذا تعارض في الظاهر حديثان أحدهما دلالته على المطلوب نصية وعارضه حديث آخر دلالته على المطلوب من قبيل الظاهر فإن المقدم هو ما كانت دلالته نصية ولا جرم أن أحاديث اللعن القاضية بمنع النساء من الزيارة دلالتها نصية قطعية, وأما حديث هذه المرأة فإن دلالتها على جواز الزيارة من قبيل الدلالة الظاهرة, فالمقدم إذاً أحاديث المنع(109/75)
لأن دلالتها نصية والمتقرر أن النص مقدم على الظاهر لأن النص أقوى من الظاهر, والأقوى هو المقدم .
وبالجملة فهم يستدلون بفعل هذه المرأة وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها وهذا خطأ من وجهين:- الأول:- أن فعلها لا يقدم على قوله - صلى الله عليه وسلم - لأن المتقرر في القواعد أن فعل الصحابي إذا كان معارضاً للنص المرفوع فليس بحجة بالاتفاق, الثاني:- أن دعوى الإقرار غير مسلمة فإنه قد أنكر عليها بقوله (( يا أمة الله اتقي الله واصبري )) والله أعلم .(109/76)
وأما حديث زيارة عائشة رضي الله عنها لقبر أخيها عبدالرحمن فلا حجة فيه أيضاً لأن زيارتها فعل لها صدر عن اجتهاد رضي الله عنها وأرضاها ونحن نمنع زيارتهن بالقول الصريح الصحيح القاضي بالمنع المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تقرر في القواعد أنه لا حجة في فعل الصحابي إذا كان مخالفاً للنص المرفوع, ويقال أيضاً:- أنها رضي الله عنها استدلت على من أنكر عليها الزيارة بقوله (( ثم أمر بزيارتها )) فهي رضي الله عنها وأرضاها قد استدلت بعموم حديث (( فزوروها )) وقد بينا سابقاً أنه حديث مخصوص بأحاديث المنع وهذا يبين أن أحاديث المنع قد خفيت عليها رضي الله عنها وخفاؤها عليها لا يؤثر في الاستدلال بها بل أحاديث المنع باقية على حالها في الاستدلال بها على منع النساء من زيارة القبور, ويقال أيضاً:- إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت ترى كراهة الزيارة أو كانت ترى المنع ذلك لأنها قالت (( ولو شهدت لما زرته )) فدل ذلك على أن المتقرر عندها المنع ولكن بسبب عدم شهودها لأخيها عبدالرحمن زارته ولو لم نقل ذلك لما كان لقولها (( لما زرته )) كبير فائدة ويقال أيضاً:- إنها رضي الله عنها وأرضاها لم يحفظ عنها أنها كانت ممن يزور القبور وسيرتها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته مسطرة معروفة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى ولا نعرف أنها فعلت ذلك في حياتها البتة إلا في قبر أخيها عبدالرحمن فلو كانت ترى الاستحباب كما ذهب إليه من يستدل بذلك لتكرر منها هذا الفعل لكنه لم يحصل في حياتها حسب تتبع سيرتها إلا هذه المرة فقط, فدل ذلك على أنها لا ترى للمرأة زيارة القبور, ويقال أيضاً:- إن الراوي قال لها:- أليس قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور؟ فظنت رضي الله عنها أنه يقصد النهي العام في قوله (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور )) فأجابت عن ذلك بقولها (( نعم ثم أمر بزيارتها )) وتعني بذلك الأمر في(109/77)
قوله (( فزوروها فإنها تذكر الآخرة )) وسكت الراوي ولم يذكر لها الأحاديث الخاصة بمنع النساء من الزيارة وبلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حتى نرى ما موقفها من ذلك, فقد استدلت على زيارتها لقبر أخيها عبدالرحمن بالدلالة العامة التي قد عارضتها الدلالة الخاصة, ويدل على ذلك أننا لا نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أذن للنساء في الزيارة بعد هذا اللعن, فقد استدلت بالأمر بالزيارة الذي قد نسخ النهي الأول ونحن نوافقها في أن النهي الأول قد نسخ بقوله (( فزوروها )) لكننا لا نوافقها في أن الأمر هنا باق على عمومه بل هو عام مخصوص, فقد خصت منه المرأة بالأحاديث التي أوردناها سابقاً, وفي الجملة فالمقدم هو قوله - صلى الله عليه وسلم - , فقوله هو الحجة ولا حجة في فعل أحدٍ أو قوله كائناً من كان والله أعلى وأعلم .
وأما حديث سؤالها النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا تقول إذا مرت بهم أي بالأموات فعلمها الدعاء في(109/78)
ذلك, فهذا أيضاً لا حجة فيه, فقد أجاب عنه الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد بقوله ( حمل سؤالها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه إياها على ما إذا اجتازت بقبرٍ في طريقها بدون قصدٍ للزيارة, ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة عند من خرجه بل قالت (( ماذا أقول لهم )) ولذلك صرح العلماء رحمهم الله تعالى بأنه يجوز لها أن تدعو بهذا الدعاء في هذه الحال, بل ولا تسمى زائرة والحالة هذه فكأنها رضي الله عنها قالت:- ماذا أقول إذا جزت بقبرٍ في الطريق فقال (( السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين...الحديث )) ولا أدل على ذلك من قولها في زيارة لأخيها عبدالرحمن (( لو شهدتك لما زرتك )) وإلا لما كان لقولها هذا كبير معنى وإن في حمل الحديث على هذا جمع بينه وبين أدلة المنع, ودفع للتعارض عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الجمع بين الدليلين متى أمكن فهو أولى من إطراح أحدهما أو دعوى التعارض بينهما ) ا.هـ. قلت:- ولقد تقرر في القواعد أن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ما أمكن, وتقرر أيضاً أن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال وسؤالها هذا يحتمل أن يكون بغير زيارة ويحتمل أن يكون بزيارة وحمله أن يكون بغير زيارة يجعله موافقاً للأحاديث وبذلك تتفق دلالتها وإذا لم يقبل ذلك فهو محتمل احتمالاً قوياً بأنه بلا زيارة, فيسقط به الاستدلال في هذه الجزئية منه لورود الاحتمال عليها والله أعلم. ويقال أيضاً:- إنها سألت عن ذلك لأنها مأمورة بإبلاغ ما يتلى عليها في بيتها من آيات الله والحكمة أي السنة, فسؤالها ذلك ليس لتعمل به بل لتعلمه للأمة, فيكون الاستدلال به خارجاً عن محل النزاع, والله ربنا أعلى وأعلم.(109/79)
وأما حديث فاطمة وأنها كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي, فما أسمجه من استدلال, فإن هذا حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة, ولأنه لو صح لما كان فيه حجة أصلاً لأنه فعل معارض للمتقرر في أحاديث السنة من منع الصلاة عند القبر ومن زيارة النساء لها, بل فعلها ذلك كل جمعة قد اتفق العلماء على النهي عنه لأن أهل العلم اتفقوا على أن المرأة ممنوعة من الإكثار لزيارة القبور كما قدمناه في أول المسألة, وبالجملة فهو ضعيف لا يحتج به على أية حال وبهذا يتبين لك إن شاء الله تعالى أن القول الصحيح في هذه المسألة هو المنع المطلق والله ربنا أعلى وأعلم .
…
في ذكر بعض القبور التي يعظمها زوارها في كثير
من بلاد الإسلام وبيان صدق نسبتها
إلى أصحابها(109/80)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وأما قبور الأنبياء فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -, فإن قبره منقول بالتواتر وكذلك قبر صاحبيه وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره وأنكر ذلك طائفة - ثم قال - ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية وليس حفظ ذلك من الدين ولو كان من الدين لحفظه الله كما حفظ سائر الدين, وذلك أن عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها والدعاء بها ونحو ذلك من البدع المنهي عنها ومن كان مقصوده الصلاة والسلام على الأنبياء والإيمان بهم وإحياء ذكرهم فذاك ممكن له وإن لم يعرف قبورهم صلوات الله عليهم ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى, وقال أيضاً ( القبر المتفق عليه هو قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم -, وقبر الخليل فيه نزاع, لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره, وأما يونس و إلياس وشعيب و زكريا فلا يعرف, و قبر علي بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة و قبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة:- إنه قبر هود ) ا.هـ. وقال أيضاً ( وأما القبر المشهور في سفحة بالكرك الذي يقال:- إنه قبر نوح فهو باطل محال لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة:- إن هذا قبر نوح ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلاً ) ا.هـ. ولما سئل رحمه الله تعالى عن مشهد الحسين بالقاهرة أجاب بقوله ( الحمد لله بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما الذي بالقاهرة كذب مختلق, بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذي يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم ولا يعرف عن عالم مسمى معروف يعلم وصدق أنه قال:- إن هذا المشهد صحيح, وإنما يذكره بعض الناس قولاً عمن لا يعرف, على عادة من يحكي مقالات الرافضة وأمثالهم من الكذب - إلى أن قال - ومن هذا الباب نقل الناقل أن هذا القبر الذي بالقاهرة هو مشهد الحسين - رضي الله عنه(109/81)
- بل وكذلك مشاهد غير هذا مضافة إلى قبر الحسين - رضي الله عنه -, فإنه معلوم باتفاق الناس أن هذا المشهد بني عام بضعٍ وأربعين وخمسمائة, وأنه نقل من مشهد بعسقلان وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة, فأصل هذا المشهد القاهري هو ذلك المشهد العسقلاني وذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة, وهذا المشهد القاهري محدث بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة وهذا مما لا يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم على اختلاف أصنافهم كأهل الحديث ومصنفي أخبار القاهرة, ومصنفي التواريخ وما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة فمثل هذا مستفيض عندهم, وهذا بينهم مشهور متواتر, سواءً قيل:- إن إضافته للحسين صدق أو كذب, لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية - ثم قال - فتبين بذلك أن إضافة مثل هذا إلى الحسين قول بلا علمٍ أصلاً وليس مع قائل ذلك ما يصح أن يكون معتمداً عليه, لا نقل صحيح ولا ضعيف ) ا.هـ. وقال أيضاً ( وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي, مشهد يقال إنه قبر أبي بن كعب وقد اتفق أهل العلم على أن أبَيَّاً لم يقدم دمشق وإنما مات بالمدينة فكان بعض الناس يقول:- إنه قبر نصراني, وهذا غير مستبعد فإن اليهود والنصارى هم السابقون في تعظيم القبور والمشاهد ) ا.هـ. وقال أيضاً ( ومنها:- القبر المضاف إلى أويس القرني, غربي دمشق فإن أويساً لم يجيء إلى الشام وإنما ذهب إلى العراق ) ا.هـ. وقال أيضاً ( ومنها القبر المضاف إلى هود - عليه السلام - بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم فإن هوداً لم يجيء إلى الشام بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة ) ا.هـ. وقال أيضاً ( ومنها قبر علي بن الحسين الذي بمصر فإنه كذب قطعاً فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس ودفن بالبقيع ) ا.هـ. وقال أيضاً ( ومنها قبر علي - رضي الله عنه - الذي بباطن النجف فإن المعروف عند أهل العلم أن علياً دفن(109/82)
بقصر الإمارة بالكوفة كما دفن معاوية بقصر الإمارة من الشام, ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم ولكن قيل إن الذي بالنجف هو قبر المغيرة ابن شعبة ولم يكن أحد يذكر أنه قبر علي ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة ومنها:- قبر عبدالله بن عمر في الجزيرة والناس متفقون على أن عبدالله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير وأوصى أن يدفن بالحل لكونه من المهاجرين فشق ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة, ومنها:- قبر جابر الذي بظاهر حران والناس متفقون على أن جابراً قد توفي بالمدينة النبوية وهو آخر من مات من الصحابة بها, ومنها:- قبر ينسب إلى أم كلثوم ورقية بالشام وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تحت عثمان ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى, قلت:- ومنها:- قبر إسماعيل وأمه عليهما السلام فإن كثيراً من الناس يظنون أنهما قد دفنا بالحجر وقد بينا ذلك وذكرنا أنه كذب موضوع وأن المرويات في ذلك لا تصح من أساسها ولا أصل لها أصلاً, ومنها:- تمثال الخشب في الجامع الأموي والذي يقال إن تحته رأس نبي الله يحيى بن زكريا والذي تسميه العامة بالمقام اليحيوي فإنه كذب مختلق لا أساس له من الصحة, ومنها:- قبر شعيب - عليه السلام - في الأغوار من الأرض كذلك كذب لا أصل له ومنها:- القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف فإنه خطأ, وقيل إنه قبر اللات وكانوا يعبدونه ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور, ويسألونه قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم, ومنها:- قبر أحمد البدوي وهو أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني البدوي, صاحب الشهرة في الديار المصرية والذي قبره يحتل المنزلة الثانية أو الثالثة في قلوب القبوريين وكان أصله من المغرب, وطاف البلاد ودخل مصر في أيام الملك الظاهر بيبرس وتوفي فيها ودفن بطنطا, لا يعرف بعلم ولا عبادة ولا زهد ولا ورع, بل كان في عامة أحواله درويشاً(109/83)
تائهاً تاركاً للفرائض, وكان لا يُرى في جمعة ولا جماعة ويقام عند قبره سوق عظيمة كل عام يفد إليها الناس من جميع أنحاء القطر المصري, ومن خارج القطر المصري, وكان غريب الأطوار في حياته, وكان والده من غلاة الشيعة الإسماعيلية وكان يصرف ولاءه التام للدولة الفاطمية الهالكة ( الدولة العبيدية ) وكان للبدوي ووالده وبعض إخوته لقاءات كثيرة مع الشيعة في العراق وله أخبار يطول ذكرها وكلها تخبر عن بعده عن الدين ومعاداته للسنة، بل ومعاداته للشريعة كلها، وقد ألصقت به منامات وحكايات سافلة تافهة ساقطة لا يصدقها عقل ولا يثبت بها نقل فضلاً عن مخالفتها للنصوص الصحيحة منها أنه سكن في سطحٍ دارٍ ما يقارب اثنتي عشر عاماً لا يرى أحداً ولا يراه أحد إلا من كان من مريديه وأتباعه، ومنها أنه كان لا يرضى بمقابلة رجلين في آنٍ واحد، ومنها طول صمته الطول المفرط حتى كان يبقى بالأيام لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ومنها بوله في المسجد عدة مرات، وغيرها كثير، وآهٍ ثم آهٍ لو ترى كم يزدحم عند قبره من الآلاف المؤلفة يتبركون به ويدعونه ويهتفون باسمه ويحلفون به ويستغيثون به من دون الله تعالى ومنهم الراكع والساجد له ومنهم الطائف به ومنهم الذابح له وغير ذلك من الأمور الشركية المناقضة للإسلام والعياذ بالله تعالى، مما يجعلك تجزم بأن التوحيد صار في غربةٍ عظيمة لا يعلم بها إلا الله تعالى، ومن هذه القبور:- قبر زينب بنت علي بن أبي طالب، ومنها:- قبر الدسوقي، ومنها:- قبر نفيسة بنت الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهذه القبور كلها في مصر، ومنها:- قبر أبي مسلم الخولاني في حمص وقبر خالد بن الوليد، وهذا خطأ وإنما هو قبر خالد بن يزيد في قول الأكثر، ومنها:- قبر مميت الدين ابن عربي، ومنها:- قبر رابعة العدوية في فلسطين، ومنها:- قبر أبي عبيدة عامر بن الجراح وقد شارك بعض علماء الأزهر في الاحتفال الكبير الذي أقيم مؤخراً في غور(109/84)
الأردن بمناسبة الانتهاء من الإعمار الهاشمي لمقام هذا الصحابي، ومنها:- قبر الجيلاني في بغداد، ومنها:- قبر النبي يونس - عليه السلام - وهو كذب مختلق فإن أهل العلم متفقون على أنه لا يعرف قبره بعينه، ومنها:- قبر سلمان الفارسي بالمدائن، ومنها:- قبر الزبير بن العوام في البصرة، ومنها:- قبر أبي الحسن العسكري في سامراء، وغير ذلك كثير، وأخيراً نقول:- لقد عظم المصاب في
ديار الإسلام بهذه الفتنة العظيمة والطامة الوخيمة والتي لابد لمحاربتها من وقفةٍ صادقة تعيد الأمة إلى توحيدها الصافي وهذا لا يكون إلا بتوحيد الجهود واتفاق الكلمة وإخلاص القصد وكثرة الدعاء والمسارعة في الإنكار، كل بحسبه، وتعليم الناس والوصول إلى هؤلاء في ديارهم والإنكار عليهم وتوجيههم بالتي هي أحسن وعلى ولاة الأمر من الولاة أن يتقوا الله في بلادهم وأن لا يرضوا أن يفعل فيها شيء من ذلك وأن يفتحوا لعلماء التوحيد والعقيدة الصحيحة مجالات تعليم الناس، وأن يسخروا وسائل الإعلام في ديارهم لتوجيه الناس للتوحيد الخالص والعقيدة الصافية وأن يقرروا المناهج السليمة في التوحيد والعقيدة ليدرسها الطلاب في المدارس وأن يقوموا بكل ما من شأنه صيانة التوحيد وحماية جنابه وأن يتذكروا دائماً قوله جل وعلا { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } فإن واجب الولاة في مثل ذلك عظيم لابد أن يقوموا به والله سائلهم عن رعاياهم فليعدوا للسؤال جواباً وللجواب صواباً، فيجب عليهم إزالة معالم الشرك والوثنية في بلادهم وأن يجددوا أمر التوحيد فيها وأن لا يقدموا شهوة المنصب وحب البقاء فيه على تطبيق شريعة الله تعالى وإحياءها في قلوب العام والخاص، وأن يحرصوا كل الحرص على رضا الله جل وعلا ولو كان في ذلك مخالفة أهواء الكفرة وسائر الناس، ويجب(109/85)
على العلماء أيضاً توجيه الأمراء إلى ذلك والوقوف معهم يداً واحدة في وجه هذه الفتنة العظيمة التي عصفت بالتوحيد وانتشر بسببها الشرك فإن قوة السلطان وعلم العالم إذا اجتمعا حصل الخير إن شاء الله تعالى في البلاد والعباد، وذلك كما حصل في زمن الأمير محمد بن سعود والشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله تعالى وجزاهما ربنا جل وعلا خير الجزاء فاجتمع المحمدان هذا بعلمه وحجته وهذا بقوته وسلطانه فأحيوا بذلك شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وزانة معالم الشرك وتعلم الناس التوحيد وبارك الله تعالى في هذه الدعوة حتى سمعت بها الدنيا وسارت بأخبارها الركبان ولا نزال في هذه البلاد على هذه الدعوة يجددها الأبناء والأحفاد من كلا المحمدين، رحم الله الأموات وثبت الأحياء وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يعين الأمراء والعلماء على القيام بهذا الواجب أتم القيام إنه خير مسئول والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
?
في بيان الذرائع المفضية إلى تعظيم القبور
أقول:- وهي ذرائع كثيرة ذكرنا كثيراً منها في ثنايا كلامنا السابق ولكن نجمعها لك هنا حتى تكون منها على ذكر فأقول :-
الذريعة الأولى :- الغلو في الصالحين وهي من أعظم هذه الذرائع .
الثانية :- التوجه إلى القبر حال الدعاء .
الثالثة :- البناء على القبور ووضع القباب عليها .
الرابعة :- الصلاة عندها .
الخامسة :- تعظيم القبور بما لم يرد به الشرع .
السادسة :- الجهل بالسنة في زيارة القبور الزيارة الشرعية .
السابعة :- اتخاذ القبور عيداً .
الثامنة :- زخرفة القبور ووضع الأغصان عليها .
التاسعة :- العكوف على القبور الليالي ذوات العدد .
العاشرة :- الوقوف عندها مع وضع اليد على الصدر على هيئة الخاضع المستكين .
الحادية عشرة :- الدعاء للنفس عند القبر .
الثانية عشرة :- الطواف به .
الثالثة عشرة :- الإقسام به .
الرابعة عشرة :- بناء المساجد عليها .(109/86)
الخامسة عشرة :- إيقاد السرج عليها .
السادسة عشرة :- أخذ ترابها للتبرك به .
السابعة عشرة :- الكتابة عليها .
الثامنة عشرة :- دفن بعض المقبورين في الشوارع والميادين العامة, وهذا يحصل في دفن بعض رؤساء الدول أو بعض المعظمين فيها .
التاسعة عشرة :- تقبيل القبر أو تقبيل أرضه .
العشرون :- التمسح بأعتاب القبر أو تمريغ الوجه بترابه .
الحادية والعشرون :- رفع الصوت عند القبور .
الثانية والعشرون :- وضع الكتب في كيفية زيارة القبور أو كيفية الحج إليها كما فعله بعض الرافضة .
الثالثة والعشرون :- نقل مراسم الدفن والعزاء في وسائل الإعلام .
الرابعة والعشرون :- السفر إلى آثار الصالحين للتبرك بها .
الخامسة والعشرون :- التوسل بجاه أصحاب القبور .
السادسة والعشرون :- تصديق أخبار هذه القبور من غير تثبت من حقيقة حالها ولا النظر في عدالة ناقليها .
السابعة والعشرون :- شكوى الحال للأموات كما يفعله بعض الجهال .
الثامنة والعشرون :- توظيف السدنة لخدمتها .
التاسعة والعشرون :- إدخال بعضها تحت إشراف وزارة الأوقاف .
الثلاثون :- وضع الصناديق لجباية أموال الزائرين .
الحادية والثلاثون :- اعتماد المنامات المتعلقة بهذه القبور وأصحابها من غير رجوع لأهل العلم العارفين بالتأويل .
الثانية والثلاثون :- ضعف التوحيد وخفاء نوره في كثير من البلاد .
الثالثة والثلاثون :- النذر لأصحابها .
الرابعة والثلاثون :- الاعتقاد فيهم ما لا يجوز اعتقاده في المخلوق .
الخامسة والثلاثون :- تدريس بعض أهل العلم في المساجد التي فيها قبر, وسكوته عن ذلك, أو مشاركة بعض أهل العلم في مراسم الموالد لبعض القبور .
السادسة والثلاثون :- تغشية القبور بالديباج ونحوه .
السابعة والثلاثون :- وضع الزهور عليه .
الثامنة والثلاثون :- إقامة السرادق الكبيرة في المقابر للعزاء .
التاسعة والثلاثون :- تكثير المديح في الميت والإسراف فيه .(109/87)
الأربعون :- نحت تمثالٍ له على صورته ويوضع قريباً من قبره أو في الشوارع العامة في البلد .
الحادية والأربعون :- تعطيل المعاش وإحداد البلد على وجه العموم من أجل موت رئيسها أو أحد العظماء فيها أو لموت أحدٍ من البلدان المجاورة لها .
الثانية والأربعون :- تخصيص مقابر لوجهاء البلد فإن ذلك يضفي تعظيماً زائداً على قبورهم قد يكون في يومٍ من الأيام سبباً للافتتان بهم .
الثالثة والأربعون :- إقامة المآتم وتكرارها كل عام عند قبور بعض الأموات .
الرابعة والأربعون :- تخصيص الزيارات العامة لبعض القبور, كما يفعل في بعض البلاد, فإن القبيلة أو سائر العائلة أو رئيس البلد ووجهاءه يخصصون يوماً من السنة أو الشهر أو الأسبوع للزيارة الجماعية لبعض الأموات لقريبهم أو لوجيهٍ كان في البلد ومات وهذه ذريعة كبيرة لتعظيم ذلك القبر .
الخامسة والأربعون :- المبالغة في تجهيز الميت والمبالغة في سعر كفنه, فإن العامة من ضعاف التوحيد قد يفتتنون بذلك الميت إذا رأوا هذه المبالغة كما يفعله بعضهم عند قبور وجهاء البلد في غير هذه البلاد .
السادسة والأربعون :- الطواف بالجنازة بعد الصلاة عليها أو قبلها في شوارع البلد مع كثير من الشرط وقد نكست الأعلام والناس على حافتي الطريق يبكون ويضربون خدودهم ويرمون بالورود على نعش الجنازة, وهذا من البدع المخالفة لسنة الإسراع بالجنازة كما في حديث (( أسرعوا بالجنازة )) وهذا من ذرائع تعظيم الجنائز التعظيم الخارج عن الحد المشروع .
السابعة والأربعون :- تسمية بعض المقابر بالأسماء الطنانة التي تفضي عليها شيئاً من العظمة كمقبرة القداسة, أو مقبرة المغفرة أو مقبرة الشهداء, أو مقبرة الإجابة ونحو ذلك, وهذه الأسماء السابقة هي حقيقة أسماء مقابر في بعض البلاد المجاورة ولكن نترك تسمية البلد للمصلحة .
الثامنة والأربعون :- اتباع الميت بالهتافات والأصوات العالية وضرب البنادق وإطلاق الرصاص ونحو ذلك .(109/88)
التاسعة والأربعون :- شد الرحال لحضور مراسم الدفن والعزاء وهذا وإن كان من الذرائع الخفيفة لكن سده من باب أولى .
الخمسون :- محاربة أهل التوحيد وتعطيل تدريسه في المدارس وعدم السماح لدخول الكتب التي تعلم التوحيد في البلد مع السماح لأهل البدعة بالتدريس وتمكينهم من مخاطبة العامة في الخطب والندوات وفتح الباب لهم لبث أفكارهم المخالفة للكتاب والسنة, والذرائع كثيرة ولكن هذا الذي يحضرني حال كتابة هذه الوريقات، فالله الله أيها المسلمون في محاربة هذه الذرائع وسد أبوابها وإحكام سدها، والله الله في التسلح بسلاح العلم المؤصل على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة, أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يقيكم كل شر وأن يحفظكم من كل بلاء وأن يعاملكم برحمته
وعفوه وجوده وكرمه وإحسانه إنه جواد كريم والله أعلى وأعلم .
في بعض النقول عن أهل العلم في مسألة
التحذير من فتنة القبور(109/89)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم وتدفع البلاء عنهم قد اتخذوها أوثاناً من دون الله وصاروا يظنون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم فإنهم كانوا يرجونها ويخافونها ويظنون أنها تنفع وتضر ) وقال أيضاً وهو يتكلم عن الأمور المبتدعة عند القبور وبيان مراتبها فقال رحمه الله تعالى ( وهذه الأمور المبتدعة من الأقوال هي مراتب أبعدها:- من الشرع أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس بكثير من الأموات وهو من جنس عبادة الأصنام ولهذا تتمثل لهم الشياطين على صورة الميت أو الغائب كما كانت تتمثل لعباد الأصنام بل أصل عبادة الأصنام إنما كانت من القبور كما قال ابن عباس وغيره وقد يرى أحدهم القبر ينشق وخرج منه الميت فعانقه أو صافحه أو كلمه ويكون ذلك شيطاناً تمثل على صورته ليضله وهذا يوجد كثيراً عند قبور الصالحين وأما السجود للميت أو للقبر فهو أعظم وكذلك تقبيله, المرتبة الثانية:- أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت فيقصد زيارته لذلك أو للصلاة عنده أو لأجل طلب حوائجه منه, فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين المرتبة الثالثة:- أن يسأل صاحب القبر أن يسأل الله له وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين ) وقال رحمه الله تعالى ( سؤال الميت والغائب نبياً كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين وهذا مما يعلم باضطرار من دين المسلمين أن أحداً منهم لم يكن يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت:- يا سيدي فلان أنا في حسبك, أو اقضي حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين ولا أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - استغاث(109/90)
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا أبعدوا عنها وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبيٍ ولا غيره من المخلوقين ولا أقسموا بمخلوقٍ على الله أصلاً ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها ) وقال رحمه الله تعالى عن عباد القبور ( وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ الميت رأى صورته وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه أو أنه ملك تصور على صورته وأن هذا من كراماته فيزداد به شركاً ومغالاةً, ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان, حيث تتراءى أحياناً لمن يعبدها, وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض الطلبات, ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في دين الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى في بيان حال السلف مع قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ولم ينقل أحد من أهل العلم أن أحداً من السلف سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بعد موته لا عند قبره ولا عند قبر غيره ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( أما قول القائل:- إن الدعاء مستجاب عند قبور المشائخ الأربعة المذكورين فهو من جنس قول غيره:- قبر فلان هو الترياق المجرب ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل:- من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان فإن كثيراً من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور, ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجلٍ صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذباً أو مجهول الحال, مثل أكثر ما يذكر من قبور الأنبياء وقد يكون صحيحاً والرجل ليس بصالح، فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول، أو من يقول:- إن الدعاء مستجاب عند قبرٍ بعينه، أو أنه استجيب له الدعاء عنده والحال(109/91)
أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والابتداع وإما قبر كافرٍ كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك ورأينا من ذلك أنواعاً وأصل هذا:- أن قول القائل:- إن الدعاء مستجاب عند قبور الصالحين قول ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله, ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المشهورين بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة ولا مشايخهم الذين يقتدى بهم كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني وأمثالهم, ولم يكن في الصحابة و الأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول:- إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين لا مطلقاً ولا معيناً ولا فيهم من قال:- إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة ولا أن الصلاة في تلك البقعة أفضل من الصلاة في غيرها ولا فيهم من كان يتحرى الصلاة ولا الدعاء عند هذه القبور، بل أفضل الخلق وسيدهم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في الأرض قبر اتفق الناس على أنه قبر نبي غير قبره، وقد اختلفوا في قبر الخليل وغيره واتفق الأئمة على أنه يسلم عليه عند زيارته وعلى صاحبيه لما في السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( ما من رجلٍ يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ))"وهو حديث جيد" وقد روى ابن أبي شيبة والدارقطني عنه (( من سلم علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائياً أبلغته )) وفي إسناده لين، لكن له شواهد ثابتة، فإن إبلاغ الصلاة والسلام عليه من البعد قد رواه أهل السنن من غير وجه كما في السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي )) قالوا:- كيف تعرض عليك صلاتنا وقد رممت؟ فقال (( إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل(109/92)
لحوم الأنبياء )) وفي النسائي وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام )) ومع هذا لم يقل أحد منهم إن الدعاء مستجاب عند قبره ولا أنه يستحب أن يتحرى الدعاء متوجهاً إلى قبره، بل نصوا على نقيض ذلك واتفقوا كلهم على أنه لا يدعو مستقبل القبر ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( ومن المعلوم بالاضطرار أن الدعاء عند القبور لو كان أفضل من الدعاء عند غيرها وهو أحب إلى الله وأجوب لكان السلف أعلم بذلك من الخلف وكانوا أسرع إليه، فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه وأسبق إلى طاعته ولكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين ذلك ويرغب فيه فإنه أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر وما ترك شيئاً يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به، ولا شيئاً يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا ينزوي عنها إلا هالك فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بلعنه ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد فنهى عن الصلاة مستقبلاً لها وإن كان المصلي لا يعبد الموتى، ولا يدعوهم، وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور كما قال تعالى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قال السلف كابن عباس وغيره:- كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم ) ا.هـ. وقال رحمه الله ( وأما ما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال:- إنه قبر نبي أو قبر أحدٍ من الصحابة والقرابة أو إلصاق بدنه أو شيء من بدنه بالقبر أو بما يجاور القبر من عودٍ وغيره كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال:- إنه قبر هود والذي عليه العلماء أنه قبر معاوية ابن أبي سفيان أو عند المثال الخشب الذي يقال:- تحته رأس يحيى بن زكريا ونحو ذلك فهو(109/93)
مخطئ مبتدع مخالف للسنة فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحدٍ من سلف الأمة وأئمتها ولا كانوا يفعلون ذلك بل كانوا ينهون عن مثل ذلك كما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أسباب ذلك ودواعيه وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به فكيف إذا قصدوا ذلك - إلى أن قال - وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي أو ولي فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين فأصله من دين المشركين لا من دين عباد الله المخلصين كاتخاذ القبور مساجد فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة لمن لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وقصد القبور لأجل الدعاء عندها رجاء الإجابة هو من هذا الباب فإنه ليس من الشريعة لا واجباً ولا مستحباً فلا يكون ديناً ولا حسناً ولا طاعة لله ولا مما يحبه الله ويرضاه ولا يكون عملاً صالحاً ولا قربة ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين ولهذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بهم الشدائد وأرادوا دعاء الله لكشف الضر أو طلب الرحمة لا يقصدون شيئاً من القبور لا قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء حتى أنهم لم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وأما زيارة القبور لأجل الدعاء عندها أو التوسل بها أو الاستشفاع بها فهذا لم تأت به الشريعة أصلاً ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( ولم يكن في العصور المفضلة مشاهد على القبور وإنما ظهر ذلك وكثر في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة كفار, مقصودهم تبديل دين الإسلام, فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد والصلاة عندها والدعاء(109/94)
عندها وما يشبه ذلك فصار هؤلاء الزنادقة وأهل البدع المتبعون لها يعظمون المشاهد ويهينون المساجد وذلك ضد دين المسلمين ويستترون بالتشيع ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( لا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور بل ولا يشرع شيء من العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور, فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة وأنها أفضل فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين بل قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقر عند القبر كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره, والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تتخذ القبور مساجد, فلعن الذين يفعلون ذلك تحذيراً لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم, فكيف تتخذ منسكاً يقصد النسك فيه؟ فإن هذا من التشبه بالمشركين وقد قال الخليل - عليه السلام - { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ) ا.هـ. وبالجملة فكلام أبي العباس رحمه الله تعالى في التحذير من هذه المسألة كثير جداً ولو أفرده بعض الطلاب في مؤلفٍ مستقل مع ترتيبه وتبويبه لكان حسناً جداً والله يتولانا وإياك .(109/95)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( ومن أعظم مكايده - أي الشيطان - التي كابدها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى وعبدت قبورهم واتخذت أوثاناً وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت الصور أجساداً لها ظل ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى ) وقال رحمه الله تعالى ( فإن قيل:- فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؟ قيل:- أوقعهم في ذلك أمور:- منها:- الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فقل نصيبهم جداً من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل وعصموا بقدر ما معهم من العلم، ومنها:- أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناقض دينه وما جاء به كحديث (( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور )) قلت:- قال أبو العباس فهذا الحديث كذب مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من أهل العلم بذلك ولا يوجد في شيءٍ من كتب الحديث المعتمدة، وكحديث (( لو أحسن أحدكم ظنه بحجرٍ نفعه )) قلت:- قال أبو العباس:- إنه كذب ونقل السخاوي عن شيخه ابن حجر أنه قال:- لا أصل له، وتجده في كتب الموضوعات )(109/96)
ثم قال ابن القيم ( وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعها المشركون وراحت على أشباههم من الجهال والضلال والله تعالى بعث رسوله بقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته فتنة القبور بكل طريق، ومنها:- حكايات حكيت لهم عن تلك القبور أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني من شدة فخلص منها وفلان دعاه أو دعا به في حاجته فقضيت له وفلان نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء يطول ذكره وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها، ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه، لا لأجل القبر فإنه لو دعاه كذلك في الخانة والخمارة والحمام والسوق أجابه، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيراً في إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً وقد قال تعالى { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا } وقد قال الخليل { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فقال تعالى { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضياً عنه ولا محباً له، ولا راضياً بفعله فإنه يجيب البر والفاجر والمؤمن والكافر - إلى أن قال - والمقصود أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام به على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحدٍ من خلقه وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك - إلى أن قال - فإذا قرر(109/97)
الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع في قضاء حاجته، نقله إلى درجة أخرى إلى دعائه بنفسه من دون الله تعالى، ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف عنده ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم ) ا.هـ. وقال أيضاً ( والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر ) وقال أيضاً ( والمقصود أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك والعبادة، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به هذه للعلم، وتلك للعمل ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا ولهذا, والذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطالهما وكسر الأنصاب والأزلام فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين من شجرة أو عامود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي - رضي الله عنه - (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:- ألا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )) وعمى الصحابة بأمر عمر - رضي الله عنه - قبر دانيال وأخفاه عن الناس, ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أرسل فقطعها, رواه ابن وضاح في كتابه فقال:- سمعت عيسى بن يونس يقول:- أمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة فإذا كان هذا(109/98)
فعل عمر - رضي الله عنه - بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها صحابةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها؟ وأبلغ من ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدم مسجد الضرار, ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم منه فساداً كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم, فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناءً محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً وقد أمر سول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة, فهدم القباب والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليها, فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله ونهى عنه والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرةً وأسرع تغييراً, وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبرٍ وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أنصاب القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين, ومن أعظم كيد الشيطان أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً يعظمه الناس ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله تعالى, ثم يوحي إلى أوليائه:- أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً وجعله وثناً فقد تَنَقَّصه وهضمه حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه, وذنبه عند أهل الإشراك أمره بما أمر الله به ورسوله ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعل هذا القبر وثناً وعيداً(109/99)
وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستعانة به من دون الله تعالى, مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله تعالى فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا:- قد تنقَّص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظام ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه, ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون المتبعون له الموافقون له, العارفون بما جاء به الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا, لابسوا ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم ويبغونهم عوجاً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى في سياق المفاسد في اتخاذ القبور أعياداً فقال ( فمن مفاسد اتخاذها أعياداً الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم, فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً وقد نزلوا عن الأكوار - أي الرحل - والدواب إذا رأوها من مكانٍ بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى سمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا على الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر أعظم من أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضوانا، وقد(109/100)
ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله - بل للشيطان - ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدىً للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول:- أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجه للقبر بحج المتخلف إلى بيت الله الحرام فيقول:- لا ولو بحجك كل عام هذا، ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح - كما تقدم - وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى مبيناً عظم المخالفة والمحادة لله ولرسوله فيما يفعله أصحاب القبور عند قبورهم فقال رفع الله درجته ( ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً, فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور(109/101)
وهؤلاء يصلون عندها, ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد, مضاهاةً لبيوت الله تعالى, ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها, ونهى أن تتخذ عيداً وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر, وأمر بتسويتها- وذكر الأحاديث - ثم قال:- وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليها كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه )) ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي:- حديث حسن صحيح, وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره, ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص, ونهى عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره وأوصى الأسود بن يزيد أن لا يجعلوا على قبره آجراً وقال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الآجر على قبورهم وأوصى أبو هريرة - رضي الله عنه - حين حضرته الوفاة:- أن لا تضربوا على قبري فسطاطاً, وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط, والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور والمتخذينها أعياداً الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محادون لما جاء به, وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه - إلى أن قال - وقد آل(109/102)
الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه ( مناسك حج المشاهد ) مضاهاةً منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى في تعداد المفاسد المترتبة على مخالفة هدي الشريعة في مسألة القبور فقال ( ولا ريب أن في ذلك مفاسد يعجز الإنسان عن حصرها, فمنها:- تعظيمها الموقع في الافتتان بها ومنها:- اتخاذها عيداً ومنها:- السفر إليها ومنها:- مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها, وعُبَّادُهَا يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها, ومنها:- النذر لها ولسدنتها ومنها:- اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل بها غيث السماء ويفرج الكرب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك, ومنها:- الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها, ومنها:- الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها:- إيذاء أصحابها بما فعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية, كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم, كما قال تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا(109/103)
سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال الله تعالى للمشركين { فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } وقال تعالى { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } وقال الله تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } ومنها:- مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها:- محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها:- التعب العظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم ومنها:- إماتة السنن وإحياء البدع ومنها:- تفضيلها على خير البقاع وأجها إلى الله تعالى فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه, ومنها:- أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله تعالى الذي بعث به رسوله ضد ذلك ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد, ومنها:- أن الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور إنما هو تذكر الله تعالى والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت, فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا(109/104)
المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له ) ا.هـ.
وقال النووي رحمه الله تعالى ( واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجدٍ على القبر سواءً كان الميت مشهوراً بالصلاح أم غيره ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( قال العلماء:- إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ) ا.هـ.(109/105)
وقال الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ( وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء والشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها عيداً وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر منها كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )) وهو - صلى الله عليه وسلم - حمى جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر, وثبت فيه أيضاً أنه بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه ولا تمثالاً إلا طمسه ولهذا قال غير واحدٍ من العلماء:- يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( فلا إله إلا الله, نفي, وإثبات الإلهية كلها, فمن قصد شيئاً من قبرٍ أو شجر أو نجم أو ملك مقرب أو نبي مرسل لجلب نفع وكشف ضر فقد اتخذه إلهاً من دونه مكذب بلا إله إلا الله يستتاب, فإن تاب وإلا قتل ) ا.هـ.(109/106)
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ( اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاعلها ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين ) ا.هـ. وقال الشوكاني أيضاً ( فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة وتحسينها بأكمل تحسين فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ونظر إلى القبور والستور الرائعة والسرج المتلألئة, وقد سطعت حوله مجامر الطيب فلاشك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين وأشد وسائله إلى ضلال العباد, ما يزلزله عن الإسلام قليلاً, حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى فيصير في عداد المشركين, وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة, وعند أول زورةٍ له, إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدةٍ يرجونها منه إما دنيوية أو أخروية فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومتمسحاً بأركانه وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر يخادعون من يأتي إليه من الزائرين, يهولون عليهم الأمر ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين, وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت ويبثونها في الناس ويكررون ذكرها في مجالسهم وعند(109/107)
اجتماعهم بالناس فتشيع وتستفيض, ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب فيرويها كما سمعها ويتحدث بها في مجالسه فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي وينذرون لذلك الميت بكرائم أموالهم, ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أجها إلى قلوبهم لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً ويعتقدون أن ذلك قربةً عظيمة وطاعة نافعة وحسنة متقبلة فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا على الناس بتلك التهاويل وكذبوا تلك الأكاذيب لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام وبهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور وبلغت مبلغاً عظيماً حتى بلغت غلاة ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفةً عظيمة من الفقراء وكلها من النذر في معصية الله, وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لا نذر في معصية )) وهي أيضاً من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( النذر ما ابتغي به وجه الله )) بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله تعالى وسخطه لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدين إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالماً نعوذ بالله من الخذلان ) ا.هـ. وقال الشوكاني أيضاً ( ومن المفاسد البالغة إلى حدٍ يرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكانٍ من الدين أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي(109/108)
فينحره عند ذلك القبر, متقرباً به إليه راجياً ما يضمر حصوله له منه, فينحره عند ذلك القبر, فيهل به لغير الله ويتعبد به لوثنٍ من الأوثان إذ إنه لا فرق بين النحائر لأحجارٍ منصوبة يسمونها وثناً وبين قبرٍ لميت يسمونه قبراً ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئاً ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً فإن من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها كان حكمه حكم من شربها وهو سميها باسمها, بلا خلاف بين المسلمين أجمعين, ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها كالهدايا والفدية والضحايا, فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به وهذه عبادة لاشك فيها وكفاك من شر سماعه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) ا.هـ.
وقال الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله تعالى ( فإن أصل الشرك قديماً وحديثاً لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم ) وقال أيضاً ( فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود ونحو ذلك, وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم كما أن ذاك – أي الغلو في الصالحين – هو الغالب على عباد القبور ونحوهم وهو أصل عبادة الأصنام, فإنهم عظموا الأموات تعظيماً مبتدعاً فصوروا صورهم وتبركوا بها فآل الأمر إلى أن عبدت الصور, وهذا أول شرك حدث في الأرض وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان, فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عندها من محبة الصالحين وتعظيمهم وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام وسائر المساجد فاعتادوها لذلك, فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به ) ا.هـ.(109/109)
وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى ( اعلم أن بدع المقابر والأضرحة كثيرة وقد طال فيها كلام العلماء وأفردت بالتآليف ونحن نذكر لك من هذه البدع الأهم فالأهم سالكين سبيل الاعتدال متجنبين إن شاء الله تعالى طرفي الإفراط والتفريط فنقول:- من هذه البدع اتخاذ الناس المقابر والأضرحة موسماً من مواسمهم وعيداً من أعيادهم يشدون إليها الرحال كما تشد لزيارة بيت الله الحرام ويبيتون عندها الليالي ذوات العدد وهناك تصنع ألوان الأطعمة وتذبح الذبائح وتنصب ملاعب الصبية وتقام أسواق الباعة, وأعياد المقابر أسبوعية, ولهم فوق ذلك عادات في المواسم الشرعية من عيد الفطر والأضحى وأول رجب ولغالب الأضرحة مواسم وأعياد أسبوعية خلاف الموالد يسمونها بالحضرة كليلة الثلاثاء ويومه للإمام الحسين - رضي الله عنه - وليلة السبت ويومه للإمام الشافعي رحمه الله, وهكذا لكل وليٍّ عندهم وقت معلوم تجتمع فيه العامة والخاصة من الرجال والنساء ومعهم الأطفال لزيارته على الوجه المعروف, وهذه البدعة ورد النهي عنها صريحاً مع ما ينشأ عنها من الشرور والمفاسد فمن ذلك ما روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال (( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) وعن سهل بن أبي سهيل قال:- رآني الحسين بن الحسن ابن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عند القبر فناداني وهو ببيت فاطمة يتعشى فقال:- هلم إلى العشاء فقلت:- لا أريد فقال:- مالي رأيتك عند القبر, فقلت:- سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقال:- لذا دخلت المسجد؟ ثم قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم مقابر وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم )) فما أنت ومن بالأندلس إلا سواء منه عليه الصلاة والسلام, رواه سعيد بن منصور في سننه وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى قبر(109/110)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد القبور وأفضلها فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان - ثم قال - وأما المفاسد التي تنشأ عن ذلك فكثيرة, منها:- أن النساء قد اتخذن ذلك ميداناً لشهواتهن فيتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ويتزين للخروج إلى المقابر والأضرحة بأجمل زينة ويتهتكن بأقبح صورة, لا دين يمنعهن ولا أدب يردعهن, ومن هذه المفاسد ما يقع عند الموتى مما يكرهونه ويتأذون منه من الجلوس على المقابر والوطء عليها فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر )) "رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه" وكذا الاستناد عليها فعن عمرو ابن حزم قال رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على قبر فقال (( لا تؤذ صاحب القبر ))"رواه الإمام أحمد" وكذا البول والتغوط عندها وكثرة اللغظ الذي يكون من الازدحام والبيع والشراء وأصوات الأراجيح وغيرها من كل ما يخالف الدين ويحول بين القلوب والخشية وبين الموتى والرحمة مع أن قصد الزيارة إنما هو نوال الإحسان إلى نفس الزائر وإلى الميت - ثم قال - ومن هذه المفاسد:- المبيت فيها وإيقاد السرج والشمع ونحوه على القبور ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أنه عليه الصلاة والسلام لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ))"رواه أبو داود والترمذي وحسنه" وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتبع الميت بنارٍ فكيف يفعل ذلك عند قبره قال العلامة البركوي:- فكل ما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء بتحريمه إذ لو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن من فعله واللعن لما فيه من تضييع المال من غير فائدة والإفراط في تعظيم القبور تشبهاً بتعظيم الأصنام ولهذا قال العلماء:- لا يجوز النذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا(109/111)
يجوز الوفاء به بالاتفاق ولا أن يوقف عليها شيء لأجل ذلك فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه - ثم قال - ومن المفاسد:- تقبيل واستلام قبور الأولياء والأنبياء والعلماء, صرح به النووي رحمه الله ومن المفاسد:- اتخاذ الملاهي والملاعب عند المقابر وكذا كثرة المزاح والضحك وإنشاد القصائد, يقع في موطن الخشوع والاعتبار وما هو جدير بالحزن والخشية, ومن البدع السيئة:- الطواف حول الأضرحة فإن الطواف لم يعهد عبادة إلا بالبيت الحرام, وكذا لم يشرع التقبيل والاستلام إلا للحجر الأسود - إلى أن قال - ومن البدع الستور على الأضرحة ويتنافس فيها, والشيلان التي توضع كالعمامة على تابوت الأولياء والعلماء, ومن البدع عند القبور ما يصنعه العامة من تقديم عرائض الشكوى وإلقائها داخل الضريح زاعمين أن صاحب الضريح يفصل فيها ومن البدع:- اتخاذ المقابر مساجد بالصلاة إليها, والسر في ذلك أن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها, وعلى الجملة:- تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً وكذلك الصلاة عليها لتبرك والإعظام كما صرح به الإمام النووي في شرح المهذب وليس معنى الإعظام أن تقصد أرباب القبور بالسجود فإنه كفر صراح, بل المعنى أنه بتحريه الصلاة لله تعالى على هذا الوجه زاعماً أنه أرجى للقبول عند الله تعالى ببركة صاحب الضريح يكون قد أعظم من شأن هذا الولي وهذا يقع كثيراً من العامة - ثم قال رحمه الله تعالى - ومن هذه البدع بناء المساجد على القبور ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ))"رواه أبو داود والترمذي وحسنه" وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت ما رأته فيها, وقال رسول الله - صلى الله(109/112)
عليه وسلم - (( أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )) والسر فيه ما تقدم من اتخاذها مساجد ومن البدع الفاشية وقوف بعض الزائرين قليلاً بغاية الخشوع عند الباب كأنهم يستأذنون ثم يدخلون, وبعضهم يقف أمام القبر واضعاً يديه كالمصلي ثم يجلس, فهذا كله من البدع التي لم يشهد لها أصل ولا حال ولا أدب يقتضيه وإذا لم يشرع ذلك بالنسبة لزيارة أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام فكيف بغيره, ومنشأ هذه البدعة عمل الشيعة فإنهم عند زيارتهم للأئمة - رضي الله عنهم - ينادي أحدهم:- أأدخل يا أمير المؤمنين؟ أو يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نحو ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهذا مما لم يعرف عن أحدٍ من السلف ولا ذكره أحد من الفقهاء ولا يعد فاعله إلا مضحكة للعقلاء وكون المزور حياً في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته ) ا.هـ. كلام الشيخ علي محفوظ, فرحمه الله تعالى وجزاه الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته .(109/113)
وقال الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى ( وأما الطواف بالقبر وطلب البركة منه فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك فإن الطواف من أنواع العبادات فصرفه لغير الله شرك وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله تعالى وطلبها من غير الله تعالى شرك ) ا.هـ. وقال الشيخ محمد رحمه الله تعالى ( والخلاصة:- أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور لأنها وسيلة إلى الشرك وهو عبادة صاحب القبر ولا يجوز أيضاً أن تقصد القبور للصلاة عندها وهذا من اتخاذها مساجد لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها فلو فرض أن رجلاً يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه، قلنا:- إنك اتخذت هذا القبر مسجداً وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة )ا.هـ. وقال أيضاً ( وخلاصة الباب أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح وكلام المؤلف - أي الشيخ محمد رحمه الله في كتاب التوحيد- في قوله ( فيمن عبد الله ) يشمل الصلاة عندها وغيرها من الأحاديث التي ساقها في الصلاة لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره فهو شبيه بمن اتخذه مسجداً لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأناً يفضل به على غيره ) ا.هـ. وقال أيضاً ( وفي هذا التحذير من الغلو في القبور ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفاً من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله تعالى وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر إذا بعث بعثاً بأن لا يدعوا قبراً مشرفاً إلا سووه, لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال:- لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا مزية لواحدٍ منها عن البقية ) ا.هـ.
وقال ابن عبدالبر رحمه الله تعالى ( يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد ) ا.هـ.(109/114)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله ( هذا الحديث - أي حديث بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور - يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين وتصويرهم صورهم فيها كما يفعله النصارى ولا ريب أن كل واحدٍ منهما محرم على انفراده, فتصوير صور الآدميين محرم وبناء القبور على المساجد بانفراده محرم كما دلت عليه نصوص أخرى, فإن اجتمع المسجد على القبر ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلاشك في تحريمه سواءً كانت صوراً مجسدة كالأصنام أو على حائطٍ ونحوه كما يفعله النصارى في كنائسهم ) ا.هـ.
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى حول ما يستفاد من الأحاديث الواردة(109/115)
في شأن البناء على القبور والصلاة عندها قال رحمه الله ( فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم الصلاة بالمساجد التي بها قبور كما تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر أنه نهى عن تجصيص القبور والبناء عليه والقعود عليها فالواجب على ولاة أمر المسلمين في جميع الدول الإسلامية أن يمنعوا البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها كما يجب عليهم أن يمنعوا تجصيصها والقعود عليها والكتابة عليها عملاً بهذه الأحاديث الصحيحة وسداً لذرائع الغلو في أهلها والشرك بهم ) ا.هـ. وقال سماحته أيضاً ( المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها ويجب أن تنبش القبور وينقل رفاتها إلى المقابر العامة كل قبر في حفرة كسائر القبور ولا يجوز أن يبقى فيها - أي في المساجد - قبور, لا قبر ولي ولا غيره لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى وحذر وذم اليهود والنصارى على عملهم ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة فيها صور وأنها كذا وكذا فقال (( أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) وقال عليه الصلاة والسلام (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) فنهى عن اتخاذ القبور مساجد ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجداً ومن بنى عليه ليصلي فيه فقد اتخذه مسجداً فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد وألا يجعل فيها قبور, امتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحذراً من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل على من بنى المساجد على القبور لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور فقد يزين له الشيطان دعوة الميت أو الاستغاثة به أو الصلاة له أو السجود له فيقع في الشرك الأكبر ولأن هذا من عمل(109/116)
اليهود والنصارى فوجب أن نخالفهم ونبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيء والله ولي التوفيق ) ا.هـ. وقال سماحته رحمه الله تعالى ( لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر - رضي الله عنه - قال (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه )) وخرجه الترمذي وغيره بإسنادٍ صحيح وزاد (( وأن يكتب عليه )) ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية وإنما يعاد تراب القبر ويرفع قدر شبرٍ تقريباً حتى يعرف أنه قبر هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها ولا كسوتها ولا وضع القباب عليها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ))"متفق على صحته" ولما روى مسلم في صحيحه عن جندب قال:- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمسٍ يقول (( إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام والثبات عليها والحذر مما يخالفها إنه سميع قريب ) ا.هـ. وسئل سماحته رحمه الله تعالى سؤال هذا نصه:- عندنا من المشايخ الصوفية من يهتمون بعمل القباب على الأضرحة والناس يعتقدون فيهم الصلاح والبركة فإن كان هذا الأمر غير مشروع فما هي نصيحتكم لهم وهم قدوة في نظر السواد الأعظم من(109/117)
الناس؟ أفيدونا بارك الله فيكم, فأجاب رحمه الله تعالى بجوابٍ طويل أنقله بنصه منه فقال ( النصيحة للعلماء الصوفية ولغيرهم من أهل العلم أن يأخذوا بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأن يعلموا الناس ذلك وأن يحذروهم اتباع من قبلهم فيما يخالف ذلك, فليس الدين بتقليد المشايخ ولا غيرهم وإنما الدين ما يؤخذ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه أهل العلم وعن الصحابة - رضي الله عنهم -, هكذا يؤخذ الدين لا عن تقليد زيد أو عمرو, ولا عن مشايخ الصوفية ولا غيرهم, وقد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه لا يجوز البناء على القبور ولا اتخاذ المساجد عليها ولا اتخاذ القباب ولا أي بناءٍ كل ذلك محرم بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) قالت رضي الله عنها:- يحذر ما صنعوا وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من الصور فقال - صلى الله عليه وسلم - (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )) فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الذين يتخذون المساجد على القبور هم شرار الخلق وهكذا من يتخذ عليها الصور لأنها دعاية إلى الشرك ووسيلة له, لأن العامة إذا رأوا هذا عظموا المدفونين واستغاثوا بهم ودعوهم من دون الله وطلبوهم المدد والعون وهذا هو الشرك الأكبر وفي حديث جندب بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - المخرج في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً(109/118)
لاتخذت أبا بكر خليلاً, ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ففي الحديث دلالة على تحريم البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها وعلى ذم من فعل ذلك من ثلاث جهات: إحداها:- ذمه من فعل ذلك, والثانية:- قوله (( فلا تتخذوا القبور مساجد )) والثالثة:- قوله (( فإني أنهاكم عن ذلك )) فحذر من البناء على القبور بهذه الجهات الثلاث فوجب على أمته أن يحذروا ما حذرهم منه, وأن يبتعدوا عما ذم الله به من قبلهم من اليهود والنصارى ومن تشبه بهم من اتخاذ المساجد على القبور والبناء عليها وهذه الأحاديث التي ذكرنا صريحة في ذلك, والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم:- الذريعة الموصلة إلى الشرك الأكبر فعبادة أهل القبور بدعائهم والاستغاثة بهم والنذور والذبائح لهم وطلب المدد والعون منهم كما هو واقع الآن في بلدانٍ كثيرة في السودان ومصر والشام وفي العراق وفي بلدانٍ أخرى, كل ذلك من الشرك الأكبر يأتي الرجل العامي الجاهل فيقف على صاحب القبر المعروف عندهم فيطلبه المدد والعون كما يقع عند قبر البدوي والحسين وزينب والست نفيسة, وكما يقع في السودان عند قبور كثيرة وكما يقع في بلدان أخرى وكما يقع في بعض الحجاج الجهال عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وعند قبور أهل البقيع وقبور أخرى يقع هذا من الجهال, فهم يحتاجون إلى التعليم والبيان والعناية من أهل العلم حتى يعرفوا دينهم على بصيرة فالواجب على أهل العلم جميعاً الذين مَنَّ الله عليهم بمعرفة دينهم على بصيرة سواءً كانوا من الصوفية أو غيرهم أن يتقوا الله وأن ينصحوا عباد الله وأن يعلموهم دينهم وأن يحذروهم من البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب أو غير ذلك من أنواع البناء وأن يحذروهم من الاستغاثة بالموتى ودعائهم فالدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده كما قال الله سبحانه { فَلَا تَدْعُوا مَعَ(109/119)
اللَّهِ أَحَدًا } وقال سبحانه { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } وقال - صلى الله عليه وسلم - (( الدعاء هو العبادة )) وقال عليه الصلاة والسلام (( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله )) فالميت قد انقطع عمله, وعمله وعلمه بالناس وهو في حاجةٍ أن يُدعى له ويستغفر له ويترحم عليه, لا أن يُدعى من دون الله تعالى, يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:- صدقة جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له )) فكيف يدعى من دون الله تعالى؟ وهكذا الأصنام وهكذا الأشجار والأحجار والشمس والقمر والكواكب كلها لا تدعى من دون الله تعالى ولا يستغاث بها, وهكذا أصحاب القبور وإن كانوا أنبياء أو صالحين وهكذا الملائكة والجن لا يدعون مع الله تعالى فالله سبحانه يقول { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } فالله تعالى لا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً من دونه لأن ذلك كفر بنص الآية وفي حديث جابر عند مسلم في صحيحه يقول - رضي الله عنه - (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور وعن القعود عليها وعن البناء عليها )) وما ذاك إلا لأن تجصيصها والبناء عليها وسيلة إلى الشرك بأهلها والغلو فيهم أما القعود عليها فهو امتهان لها, فلا يجوز ذلك, كما لا يجوز البول عليها والتغوط عليها ونحو ذلك من أنواع الإهانة لأن المسلم محترم حياً وميتاً فلا يجوز أن يداس قبره ولا أن تكسر عظامه ولا أن يقعد على قبره ولا أن يبال عليه ولا أن توضع عليه القمائم, كل هذا ممنوع, فالميت لا يمتهن ولا يعظم بالغلو فيه ودعائه مع الله, والطواف بقبره ونحو ذلك من أنواع الغلو, وبذلك يُعلم أن الشريعة الإسلامية(109/120)
الكاملة جاءت بالوسطية بشأن الأموات, فلا يغلى فيهم ويعبدون مع الله تعالى ولا يمتهنون بالقعود على قبورهم ونحو ذلك, وهي وسط في كل الأمور والحمد لله, لأنها تشريع من حكيم عليم يضع الأمور في مواضعها كما قال عز وجل { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ومن هذا ما جاء في الحديث الصحيح يقول - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )) فجمعت الشريعة الكاملة العظيمة بين الأمرين بين تحريم الغلو بدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم والصلاة إلى قبورهم وبين النهي عن إيذائهم وامتهانهم والجلوس على قبورهم أو الوطء عليها والاتكاء عليها, كل هذا ممنوع فلا هذا ولا هذه, وبهذا يعلم المؤمن ويعلم طالب الحق أن الشريعة جاءت بالوسط, لا بالشرك ولا بالإيذاء, فالميت المسلم يُدعى له ويستغفر له ويسلم عليه عند زيارته, أما أن يدعى من دون الله أو يطاف بقبره أو يصلى إليه فلا, أما الحي الحاضر فلا بأس بالتعاون معه فيما أباح الله, لأن له قدرة على ذلك, فيجوز شرعاً التعاون معه بالأسباب الحسية, وهكذا الإنسان مع إخوانه ومع أقاربه يتعاونون في مزارعهم وفي إصلاح بيوتهم وفي إصلاح سياراتهم ونحو ذلك يتعاونون بالأسباب الحسية المباحة المقدور عليها فلا بأس بذلك, وهكذا مع الغائب الحي عن طريق الهاتف أو عن طريق المكاتبة ونحو ذلك كل هذا تعاون حسي لا بأس به في الأمور المقدورة المباحة, كما أن الإنسان القادر الحي يتصرف بالأسباب الحسية فيعينك بيده ويبني معك أو يعطيك مالاً, هديةً أو قرضاً فالتعاون مع الأحياء شيء جائز بشروطه المعروفة, أما الاستغاثة بالأموات أو بالغائبين بغير الأسباب الحسية فشرك أكبر بإجماع أهل العلم ليس فيه نزاع بين الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان وأهل البصيرة, والبناء على القبور واتخاذ المساجد والقباب عليها فإنه منكر, معلوم عند أهل العلم أن الشريعة جاءت بالنهي عنه لكونه وسيلة إلى الشرك فالواجب على(109/121)
أهل العلم أن يتقوا الله تعالى أينما كانوا وأن ينصحوا عباد الله وأن يعلموهم شريعة الله وأن لا يجاملوا زيداً ولا عمراً, فالحق أحق أن يتبع, بل عليهم أن يعلموا الأمير والصغير والكبير ويحذروا الجميع مما حرم الله تعالى عليهم ويرشدوهم إلى ما شرع الله لهم, وهذا هو الواجب على أهل العلم أينما كانوا, من طريق الكلام الشفهي ومن طريق الكتابة ومن طريق التأليف أو من طريق الخطابة في الجمعة وغيرها أو من طريق الهاتف أو من أي طريق من الطرق التي وجدت الآن والتي تعين على تبليغ دعوة الله تعالى ونصح عباده, والله ولي التوفيق ) ا.هـ. كلامه العذب الجميل الذي يكتب بماء الذهب فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ورفع نزله في الفردوس وجزاه الله خير ما جزى عالماً عن أمته هو وسائر علماء المسلمين, آمين .(109/122)
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى ( وقول ابن القيم:- لما ماتوا عكفوا على قبورهم ففيه التحذير من الغلو في قبور الصالحين وذلك بالعكوف عندها أو البناء عليها أو غير ذلك من أي مظاهر الغلو, والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من البناء على القبور وحذر - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عند القبور والدعاء عند القبور لأن ذلك وسيلة إلى الشرك وحذر من إسراج القبور فقال (( لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) لأن هذا يغر العوام ويقولون:- ما عمل به بهذا العمل إلا لأنه يضر أو ينفع ولذلك أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال (( لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته )) المشرف:- هو المرتفع بالبناء (( إلا سويته )) يعني:- هدمت البناء الذي عليه وكذلك نهى - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور وطلائها بالجص أو بالنورة أو بالبويات أو الألوان المزخرفة لأن هذا يغر العوام ويظنون أنه ما عمل به هذا العمل إلا لأنه له خاصية ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة على القبور فلا يكتب على القبور اسم الميت ولا تاريخ وفاته ولا مكانته فلا يقال:- هذا قبر العالم الفلاني الذي عمل كذا وكذا كل هذا لا يجوز, لأن هذا يغرر بالناس في ما بعد ويقولون:- ما كتبت هذه الكتابة إلا لأن هذا الميت له خاصية كل هذه الأمور نهى عنها الشارع لأنها وسائل إلى الشرك والمشروع في القبور أن تدفن كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدفن بترابها وترفع عن الأرض قدر شبر بالتراب من أجل أن تعرف أنها قبور فلا تداس, ويجعل عليها نصائب من طرفيها لتحديد القبر لأجل أن لا يوطأ, وما زاد عن ذلك فهو ممنوع, هكذا كانت القبور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دفن الأموات ) ا.هـ. وقال أيضاً حفظه الله تعالى ( وأول من بنى على القبور في الإسلام كما يقول شيخ(109/123)
الإسلام ابن تيمية هم الشيعة الفاطميون وغيرهم ثم قلدهم من قلدهم من المنتسبين إلى السنة من الصوفية وغيرهم فبنيت المساجد على القبور والأمصار ولا تزال الأمة الإسلامية تعاني من شر هذه القبور وفتنتها وحدوث الشرك في الأمة الذي لا يقره من يؤمن بالله ورسوله لأنه شرك صراح, أصبحت المساجد المبنية على القبور أوثاناً تعبد من دون الله ويظن أصحابها أن ذلك من الإسلام وأن من أنكره فهو خارج عن الإسلام كالذين يقولون { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } فهم شرار الخلق وإن كانوا يزعمون في أنفسهم أن ذلك إصلاح وأنهم خير الخلق )ا.هـ. وقال حفظه الله تعالى عند قول الشيخ محمد في كتاب التوحيد:- فإن الصحابة لم يكونوا يبنوا حول قبره مسجداً, قال الشيخ ما نصه ( لأنهم معصومون عن ذلك - رضي الله عنهم - لا يمكن أبداً في حقهم, بل لم تبن المساجد - أي على القبور - في القرون الأربعة كلها لأن القرون الأربعة قد أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) فإذا كان القرون الأربعة لم يبن فيها على القبور مساجد فكيف يبنى في عهد الصحابة الذين خير القرن الأول - رضي الله عنهم -؟ فدل ذلك على أن المراد باتخاذ مساجد أي تحري الصلاة عندها ظناً أن الصلاة عندها فيها مزية وأنها يستجاب الدعاء عندها لأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد سداً لذريعة الشرك لأنه إذا صلى عندها ودعي عندها فإن ذلك يتطور وتدعى من دون الله تعالى, وتعبد من دون الله تعالى, يُذبح لها وينذر ويستغاث بالموتى ويتمرغ على تربتها ويعكف عندها ويطاف حولها كما يطاف بالكعبة كل ذلك لأن الباب فتح لما بني عليها ) ا.هـ. وقال حفظه الله تعالى ( المسألة الخامسة:- في الحديث دليل على تحريم الصلاة عند القبور وبناء المساجد(109/124)
عليها لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - (( فلا تتخذوا القبور مساجد )) يشمل المعنيين الصلاة المجردة عن البناء أو البناء على القبر, كله من اتخاذها مساجد وذلك سداً لذريعة الشرك لا كما يقوله من قلَّ فهمه أو أراد التضليل ممن زعم أن العلة هي نجاسة المكان فهذه علة غير صحيحة لأن المكان ليس فيه نجاسة, المسألة السادسة:- في الحديث دليل على بطلان الصلاة عند القبور أو في المساجد المبنية على القبور لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك والنهي يقتضي الفساد عند الأصوليين فالذي يصلي عند القبر, فصلاته غير صحيحة فعليه أن يعيد الفريضة لأن صلاته عند القبر أو في المسجد المبني على القبر غير صحيحة لأنها صلاة منهي عنها والصلاة المنهي عنها غير مشروعة فهي لا تصح المسألة السابعة:- في الحديث دليل على أن الذين يتخذون القبور مساجد شرار الخلق فالذين يفعلون هذا الفعل سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من المنتسبين إلى الإسلام هم شر الخلق, لا أحد شر منهم والعياذ بالله ) ا.هـ. فهذه بعض النقول عن أهل العلم ولعلنا نقتصر على ذلك خشية الإطالة, وفي كلامهم الخير والبركة لمن تدبره, وأما من عاند وطغى فلا شأن لنا به والله يحفظنا وإياك وهو أعلى وأعلم .
في فتاوى بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى
فيما يخص هذه المسألة
وهذا الفصل والذي قبله يتعاضدان في التحذير من هذه الفتنة العظيمة والطامة الوخيمة, عسى أن تنزجر قلوب تعتقد في الأموات وتفعل عندها الأمور المبتدعات فأقول وبالله التوفيق :-(109/125)
سئلت اللجنة الدائمة عن حكم قراءة الفاتحة أو شيء من القرآن عند زيارة القبر وهل هذه القراءة تنفع الميت فأجابت اللجنة بقولها ( ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يزور القبور ويدعو للأموات بأدعية علمها أصحابه وتعلموها منه, من ذلك:- السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ سورة من القرآن أو آيةٍ منه للأموات مع كثرة زيارته لقبورهم ولو كان ذلك مشروعاً لفعله وبينه لأصحابه رغبةً في الثواب ورحمة بالأمة وأداءً لواجب البلاغ فإنه كما وصفه تعالى بقوله { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } فلما لم يفعل ذلك مع وجود أسبابه دل على أنه غير مشروع, وقد عرف ذلك أصحابه - رضي الله عنهم - فاقتفوا أثره, واكتفوا بالعبرة والدعاء للأموات عند زيارتهم ولم يثبت عنهم أنهم قرؤوا قرآناً للأموات فكانت القراءة لهم بدعة محدثة وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق عليه" وبالله التوفيق ) ا.هـ.(109/126)
وطرح عليهم سؤال مشابه لذلك فقال السائل:- نشاهد في كثير من بلاد المسلمين استئجار قارئ يقرأ القرآن فهل يجوز للقارئ أن يأخذ أجراً على قراءته وهل يأثم من يوقع له الأجر على ذلك؟ فأجابت اللجنة الدائمة بقولها ( قراءة القرآن عبادة محضة وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه والأصل فيها وفي أمثالها من العبادات المحضة أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله, وطلباً للمثوبة عنده, لا يبتغي بها من المخلوق جزاءً ولا شكوراً, ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قومٍ يقرءون القرآن للأموات أو في ولائم أو حفلات ولم يؤثر عن أحدٍ من أئمة الدين أنه أمر بذلك أو رخص فيه ولم يعرف أيضاً عن أحدٍ منهم أنه أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، بل كانوا يتلونه رغبة فيما عند الله سبحانه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرأ القرآن أن يسأل ربه به, وحذر من سؤال الناس روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أنه مر على قارئٍ يقرأ ثم يسأل, فسترجع ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( من قرأ القرآن فليسأل الله به, فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس )) ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة أيضاً عن حكم الدعاء الجماعي للميت بعد الصلاة أو قبلها؟ فأجابت بقولها ( الدعاء عبادة من العبادات والعبادات مبنية على التوقيف فلا يجوز لأحدٍ أن يتعبد بما لم يشرعه الله، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا بصحابته على جنازة ما, بعد الفراغ من الصلاة عليها والثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقف على القبر بعد أن يسوى على صاحبه ويقول (( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )) وبما تقدم يتبين أن الصواب هو القول بعدم جواز الدعاء بصفةٍ جماعية بعد الفراغ من الصلاة على الميت وأن ذلك بدعة ) ا.هـ.(109/127)
وسئلت اللجنة الدائمة أيضاً عن حكم تشييع الجنائز إلى المقبرة بالصوت العالي بالتكبير والتهليل ونحوه؟ فأجابوا بقولهم ( لا يجوز, بل هو بدعة لعدم ورود ما يدل عليه من الكتاب والسنة ولقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) "أخرجه مسلم في صحيحه" ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة أيضاً سؤالاً هذا نصه:- يقوم النساء في المواسم والأعياد بزيارة القبور ومعلوم أن زيارة النساء للمقابر ممنوعة لقلة صبرهن وجزعهن وتبرجهن فيقومون بتأجير شيخ معلوم يذهب كل موسمٍ أو عيد للاسترزاق من ذلك فيقرأ على كل قبر من قصار السور ويأخذ على ذلك الفواكه والأرغفة والأموال فهل ذلك يصل إلى الميت وما حكم هذه الأشياء التي يأخذها هذا المقرئ؟ فأجابت اللجنة الدائمة بقولها ( الأعياد الإسلامية هي عيد الفطر وعيد الأضحى وأيام التشريق ويوم الجمعة, هذه أعياد المسلمين, وما عداها فلا يسمى عيداً شرعاً وتخصيص زيارة القبور بالأعياد بدعة سواءً كان ذلك من الرجال أم من النساء وزيارة النساء للقبور محرمة مطلقاً في الأعياد وغيرها وتوزيع الأطعمة والفواكه عند القبور بدعة ولا يجوز للقراء أن يقرؤوا القرآن على القبور ولا أن يأخذوا أجرة على قراءتهم ولا تنفع الميت لأن ذلك كله بدعة منكرة لا تجوز ) ا.هـ.(109/128)
وسئلوا أيضاً عن حكم القيام والجلوس عند القبر من أجل الدعاء للميت فأجابوا بقولهم ( الزيارة الشرعية للقبور أن يقصد إليها للعظة والاعتبار وتذكر الموت لا للتبرك بمن قبر فيها من الصالحين فإذا جاءها سلم على من فيها فقال (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية )) وإن شاء دعا للأموات بغير ذلك من الأدعية المأثورة, ولا يدعو الأموات ولا يستغيث بهم في كشف ضر أو جلب نفع فإن الدعاء عبادة فيجب التوجه به إلى الله وحده ولا بأس أن يقف عند القبر أو يجلس من أجل الدعاء للميت لا للتبرك ) ا.هـ.
وسئلوا عن حكم الأذان والإقامة عند القبر بعد دفن الميت، فأجابوا بقولهم ( لا يجوز الأذان ولا الإقامة عند القبر بعد دفن الميت ولا في القبر قبل دفنه لأن ذلك بدعة محدثة وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها " ) ا.هـ.
ولما سئلوا عن حكم بناء خيمة حول القبر قريباً منه ويقرأ فيها بعض القراء آيات من القرآن ويجعل ثوابها للميت فأجابوا ( بأن ذلك لا يجوز وأن ذلك لا ينفعه لأن ذلك بدعة وكل إحداث في الدين فإنه رد ) ا.هـ.
وسئلوا عن حكم البناء على القبور و تزيينها بالرخام و غير ذلك من كتابة آية أو(109/129)
آياتٍ على القبر؟ فأجابوا بقولهم ( يحرم بناء المساجد على القبور ورفع القباب عليها لما روته عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ))"متفق عليه" وما في صحيح مسلم عن جندب ابن عبدالله - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ولما في ذلك من الغلو فيها ولمن بها, ولا يجوز رفعها إلا بقدر ما يعرف أن هنا قبراً حتى يحافظ عليه من المشي فوقه أو قضاء الحاجة عليه فقد ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لأبي الهياج الأسدي (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ))"رواه مسلم" وكذلك يحرم تزيينها بالرخام ونحوه لما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه )) ولما في ذلك من الغلو في تعظيم من دفن به, وذلك ذريعة إلى الشرك, وتحرم كتابة آية أو آياتٍ من القرآن أو جملة منه على جدران القبور لما في ذلك من امتهان القرآن وانتهاك حرمته واستعماله في غير ما أنزل من أجله من التعبد بتلاوته وتدبره واستنباط الأحكام منه والتحاكم إليه كما تحرم الكتابة على القبور مطلقاً ولو غير القرآن لعموم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة عليها رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح ) ا.هـ.(109/130)
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن حكم التقرب بذبح الذبائح عند أضرحة الأولياء والصالحين؟ فأجاب بقوله ( من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين قال الله عز وجل { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } والنسك هو الذبح بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله تعالى كالصلاة لغير الله, وقال تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له خلافاً لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره وقال تعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقال سبحانه وتعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } والآيات في هذا المعنى كثيرة والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لعن الله من ذبح لغير الله )) ) ا.هـ.(109/131)
وسئل سماحته أيضاً عن حديث (( إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأصحاب القبور )) وأن بعض الناس يستدل به على جواز دعاء الأموات؟ فأجاب بما نصه ( هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نبه على ذلك غير واحدٍ من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه, حيث قال رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى:- هذا الحديث كذب مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة ا.هـ. كلام شيخ الإسلام, وهذا المكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضاد لما جاء به الكتاب والسنة من وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتحريم الإشراك به ولا ريب أن دعاء الأموات والاستغاثة بهم والفزع إليهم في النائبات والكروب من أعظم الشرك بالله عز وجل كما أن دعاءهم في الرخاء شرك بالله سبحانه, وقد كان المشركون الأولون إذا اشتدت بهم الكروب أخلصوا لله العبادة وإذا زالت الشدة أشركوا بالله كما قال الله عز وجل { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة, أما المشركون المتأخرون فشركهم دائم في الرخاء والشدة بل يزداد شركهم في الشدة والعياذ بالله وذلك يبين أن كفرهم أعظم وأشد من كفر الأولين من هذه الناحية وقد قال الله عز وجل { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء } وقال سبحانه { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وقال عز وجل { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال سبحانه { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن(109/132)
قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } وهذه الآية تعم جميع من يعبد من دون الله تعالى من الأنبياء والصالحين وغيرهم, وقد أوضح سبحانه أن دعاء المشركين لهم شرك به سبحانه كما يبين أن ذلك كفر به سبحانه في قوله تعالى { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } والآيات الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتوجيه الدعاء إليه دون كل ما سواه وعلى تحريم عبادة غيره سبحانه من الأموات والأصنام والأشجار والأحجار ونحو ذلك كثيرة جداً, يعلمها من تدبر كتاب الله وقصد الاهتداء به والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله ) ا.هـ.
وسئل سماحته عن حكم التبرك بالأموات وقبورهم؟ فأجاب سماحته بقوله ( هذا العمل لا يجوز بل هو منكر لأنه لا يجوز لأحدٍ أن يتبرك بالأموات أو قبورهم ولا أن يدعوهم من دون الله تعالى أو يسألهم قضاء حاجة أو شفاء مريض أو نحو ذلك لأن العبادة حق الله وحده ومنه تطلب البركة وهو سبحانه هو الموصوف بالتبارك كما قال عز وجل { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } وقال سبحانه { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } ومعنى ذلك أنه سبحانه بلغ النهاية في العظمة والبركة, أما العبد فهو مبارَك - بفتح الراء - إذا هداه الله تعالى وأصلحه ونفع به العباد كما قال الله عز وجل عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } والله ولي التوفيق ) ا.هـ(109/133)
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم طلب المدد من رجل ميت؟ وعن طلبه من رجل حي؟فأجابت بقولها ( أولاً:- طلب المدد من شخص ميت بأن يقول:- مدد يا فلان
فإنه يجب نصحه وتنبيهه بأن هذا أمر محرم بل هو شرك فإن أصر على ذلك فهو مشرك كافر لأنه طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى, فقد صرف حق الله إلى المخلوق, قال تعالى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } ثانياً:- طلب المدد من الحي الذي ليس بحاضرٍ لا يجوز لأنه دعا غير الله وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهو شرك أيضاً قال تعالى { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ودعاء الحي الغائب نوع من العبادة فمن فعل ذلك نصح, فإن لم يقبل فهو مشرك شركاً يخرج من الملة ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة أيضاً عن حكم الاستغاثة بالأولياء عند نزول الحوادث؟ فأجابت اللجنة بقولها ( من استغاث بالأولياء بعد موتهم أو في حال غيبتهم عنه فهو مشرك شركاً أكبر لقوله تعالى { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ) ا.هـ.(109/134)
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم الدفن في المسجد؟ فقال ( الدفن في المساجد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى عن اتخاذ المساجد على القبور ولعن من اتخذ ذلك وهو في سياق الموت يحذر أمته ويذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك من فعل اليهود والنصارى ولأنه وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل لأن إقامة المساجد على القبور ودفن الموتى فيها وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل في أصحاب هذه القبور, فيعتقد الناس أن أصحاب هذه القبور المدفونين في المساجد ينفعون أو يضرون أو أن لهم خاصية تستوجب أن يتقرب إليهم بالطاعات من دون الله سبحانه وتعالى, فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذه الظاهرة الخطيرة وأن تكون المساجد خالية من القبور وتكون مؤسسة على التوحيد والعقيدة الصحيحة قال الله تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } فيجب أن تكون المساجد لله سبحانه وتعالى وخالية من مظاهر الشرك, تؤدى فيها عبادة الله وحده ولا شريك له, هذا هو واجب المسلمين والله الموفق ) ا.هـ.
وسئل أيضاً عن حكم البناء على القبور فأجاب فضيلته رحمه الله تعالى بقوله ( البناء على القبور محرم وقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من تعظيم أهل القبور وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلهة مع الله تعالى كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور ويدعونها مع الله تعالى ودعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم لكشف الكربات شرك أكبر وردة عن الإسلام, والله المستعان ) ا.هـ.
وسئل أيضاً عن رجل أوصى بأن يدفن في المسجد؟ فأجاب ( هذه الوصية - أعني الوصية أن يدفن في المسجد - غير صحيحة لأن المساجد ليست مقابر ولا يجوز الدفن في المسجد, وتنفيذ هذه الوصية محرم والواجب الآن نبش هذا القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين ) ا.هـ.(109/135)
وسئل أيضاً عن حكم النذر والتبرك بالقبور والأضرحة؟ فأجاب فضيلته بما نصه ( النذر عبادة لا يجوز إلا لله عز وجل وكل من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فإنه مشرك كافر, قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار, قال الله تعالى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } وأما التبرك بها فإن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله عز وجل فهذا شرك في الربوبية مخرج عن الملة, وإن كان يعتقد أنها سبب وليست تنفع من دون الله تعالى فهو ضال غير مصيب, وما اعتقده فإنه من الشرك الأصغر, فعلى من ابتلي بمثل هذه المسائل أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى وأن يقلع عن ذلك قبل أن يفاجئه الموت فينتقل من الدنيا على أسوأ حال وليعلم أن الذي يملك الضر والنفع هو الله سبحانه وتعالى وأنه هو ملجأ كل أحدٍ كما قال الله تعالى { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } وبدلاً من أن يتعب نفسه في الالتجاء إلى قبر فلان وفلان ممن يعتقدونهم أولياء ليلتفت إلى ربه عز وجل وليسأله جلب النفع ودفع الضر فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملك ذلك )ا.هـ.
وسئل فضيلته عن حكم الطواف حول القبور ودعاء أصحابها فأجاب بما نصه ( هذا السؤال سؤال عظيم وجوابه يحتاج إلى بسط بعون الله عز وجل فنقول:- إن أصحاب القبور ينقسمون إلى قسمين :-(109/136)
القسم الأول :- قسم توفى على الإسلام ويثني الناس عليه خيراً فهذا يرجى له الخير ولكنه مفتقر إلى إخوانه المسلمين يدعون الله له بالمغفرة والرحمة وهو داخل في عموم قوله تعالى { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وهو بنفسه أحداً إذ أنه ميت جثة لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر ولا عن غيره ولا أن يجلب لنفسه النفع ولا لغيره فهو محتاج إلى نفع إخوانه غير نافع لهم .(109/137)
القسم الثاني :- من أصحاب القبور:- من أفعاله تؤدي إلى فسقه الفسق المخرج من الملة كأولئك الذين يدعون أنهم أولياء ويعلمون الغيب ويشفون من المرض ويجلبون الخير والنفع بأسباب غير معلومة حساً ولا شرعاً فهؤلاء الذين ماتوا على الكفر لا يجوز الدعاء لهم ولا الترحم عليهم لقول الله تعالى { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } وهم لا ينفعون أحداً ولا يضرونه ولا يجوز لأحد أن يتعلق بهم وإن قدر أن أحداً رأى كرامات لهم مثل يتراءى له أن في قبورهم نوراً أو أنه يخرج منها رائحة طيبة أو ما أشبه ذلك وهم معرفون بأنهم ماتوا على الكفر فإن هذا من خداع إبليس وغروره ليفتن هؤلاء بأصحاب هذه القبور وإنني أحذر إخواني المسلمين من أن يتعلقوا بأحد سوى الله عز وجل فإنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ولا يجيب دعوة المضطر إلا الله ولا يكشف السوء إلا الله قال تعالى { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } ونصيحتي لهم أيضاً أن لا يقلدوا في دينهم أحداً إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } وقوله تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } ويجب على جميع المسلمين أن يزنوا أعمال من يدعي الولاية بما جاء في الكتاب والسنة(109/138)
فإن وافق الكتاب والسنة فإنه يرجى أن يكون من أولياء الله وإن خالف الكتاب والسنة فليس من أولياء الله وقد ذكر الله في كتابه ميزان قسطاً عدلاً في معرفة أولياء الله حيث قال { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } فمن كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً ومن لم يكن كذلك فليس بولي لله وإن كان معه بعض الإيمان والتقوى كان فيه شيء من الولاية ومع ذلك فإننا لا نجزم لشخص بعينه بشيء ولكننا نقول على سبيل العموم كل من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً, وليعلم أن الله عز وجل قد يفتن الإنسان بشيء من مثل هذه الأمور فقد يتعلق الإنسان بالقبر فيدعو صاحبه أو يأخذ من ترابه يتبرك به فيحصل مطلوبه ويكون ذلك فتنة من الله عز وجل لهذا الرجل لأننا نعلم أن هذا القبر لا يجيب الدعاء وأن هذا التراب لا يكون سبباً لزوال ضرر أو جلب نفع نعلم ذلك لقول الله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } وقال تعالى { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة تدل على كل من دعي من دون الله فلن يستجيب الدعاء ولن ينفع الداعي ولكن قد يحصل المطلوب المدعو به عند دعاء غير الله فتنة وامتحان, ونقول:- إنه حصل هذا الشيء عند الدعاء - أي عند دعاء هذا الذي دعي من دون الله - لا بدعائه وفرق بين حصول الشيء بالشيء وبين حصول الشيء عند الشيء فإننا نعلم علم اليقين أن دعاء غير الله ليس سبباً لجلب النفع أو دفع الضر بالآيات الكثيرة التي ذكرها الله في كتابه ولكن(109/139)
قد يحصل الشيء عند هذا الدعاء فتنة وامتحاناً والله تعالى قد يبتلي الإنسان بأسباب المعصية ليعلم سبحانه من كان عبداً لله ومن كان عبداً لهواه ألا ترى إلى أصحاب السبت من اليهود حيث حرم الله عليهم أن يصطادوا الحيتان في يوم السبت فابتلاهم الله فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة عظيمة وفي غير يوم السبت تختفي فطال عليهم الأمد وقالوا كيف نحرم أنفسنا هذه الحيتان ثم فكروا وقدروا وانتظروا فقالوا نجعل شبكة ونضعها يوم الجمعة ونأخذ الحيتان منها يوم الأحد فأقدموا على هذا الفعل الذي هو حيلة على محارم الله فقلبهم الله قردة خاسئين قال تعالى { واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وقال تعالى { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } فانظر كيف يسر الله لهم هذه الحيتان في اليوم الذي منعوا من صيدها فيه ولكنهم لم يصبروا فقاموا بهذه الحيلة على محارم الله, ثم انظر إلى ما حصل لأصحاب النبي حيث ابتلاهم الله وهو محرمون بالصيود المحرمة على المحرم فكانت في متناول أيديهم ولكنهم - رضي الله عنهم - لم يجرؤوا على شيء منها قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } كانت الصيود في متناول أيديهم يمسكون الصيد العادي باليد وينالون الصيد الطائر بالرماح فيسهل عليهم جداً(109/140)
ولكنهم خافوا الله فلم يقدموا على أخذ شيء من الصيود وهكذا يجب على المرء إذا هيئت له أسباب الفعل المحرم أن يتقي الله وأن لا يقدم على فعل هذا المحرم وأن يعلم أن تيسير أسبابه من باب الابتلاء والامتحان فليحجم وليصبر فإن العاقبة للمتقين ) ا.هـ.
وسئل الشيخ عبدالله بن الشيخ النجدي عن بناء القباب على القبور فأجاب ( أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره لأن الله أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - بهدم الأوثان ولو كانت على قبر رجلٍ صالح لأن اللات رجل صالح فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها, قال العلماء:- وفي هذا أوضح دلالة على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بنيت على القبور واتخذت أوثاناً ولا يوماً واحداً فإنها شعائر الكفر وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه والكتابة عليه ) ا.هـ.(109/141)
وسئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى سؤالاً هذا نصه:- هل الذبح لغير الله لا يجوز؟ لأن عندنا ناساً يذبحون لرجل اسمه ( مجلى ) وعندما نقول من هو ( مجلى ) يقولون:- إنه نبي من أنبياء الله, أفيدونا في ذلك بارك الله فيكم؟ فأجاب يرحمه الله تعالى بقوله ( الذبح لغير الله منكر عظيم وشرك أكبر سواء كان ذلك لنبي أو ولي أو كوكب أو جني أو صنم أو غير ذلك لأن الله سبحانه يقول { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِي لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فأخبر سبحانه أن الذبح لله كما أن الصلاة لله, فلو ذبح لغير الله فهو كمن صلى لغير الله, يكون شركاً بالله عز وجل وهكذا يقول الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } فالصلاة والنحر عبادتان عظيمتان فمن صرف الذبح لأصحاب القبور أو للأنبياء أو للكواكب أو للأصنام أو للجن أو للملائكة فقد أشرك بالله تعالى كما لو صلى لهم أو استغاث بهم أو نذر لهم, كل هذا شرك بالله عز وجل والله سبحانه يقول { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } ويقول الله عز وجل { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ويقول سبحانه { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } فالعبادة حق الله, والذبح من العبادة وهكذا الاستغاثة من العبادة وهكذا الصلاة من العبادة وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لعن الله من ذبح لغير الله ))"رواه مسلم في صحيحه من حديث علي - رضي الله عنه -" فعليكم أن تنكروا على هؤلاء وأن تعلموهم بأن هذا شرك أكبر, وأن الواجب عليهم ترك ذلك فليس لهم أن يذبحوا لغير الله كما أنهم ليس لهم أن يصلوا لغير الله وهذا من باب التعاون على البر والتقوى ومن باب إنكار المنكر ومن(109/142)
باب الدعوة إلى الله تعالى وإخلاص العبادة له, ومن التوحيد الذي يجب أن يكون لله وحده سبحانه وتعالى وهذا هو واجب أهل العلم وواجب طلبة العلم وواجب أئمة المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن ينكروا الشرك على من فعله حتى يظهر التوحيد وحتى يقضى على أسباب الشرك ) ا.هـ.
وسئل أبو العباس رحمه الله تعالى عن حكم رفع الصوت في الجنازة؟ فأجاب قدس الله روحه بما نصه ( الحمد لله, لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك, هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفاً, بل قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أنه نهى أن يتبع بصوت أو نار ))"رواه أبو داود" وسمع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول في جنازة:- استغفروا لأخيكم فقال ابن عمر:- لا غفر الله بعد, وقال قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:- كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال, وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة, وأما قول السائل:- إن هذا صار إجماعاً من الناس, فليس كذلك, بل ما زال في المسلمين من يكره ذلك وما زالت جنائز كثيرة تخرج بغير هذا في عدة أمصار من أمصار المسلمين, وأما كون أهل بلدٍ أو بلدين أو عشر تعودوا ذلك فليس هذا بإجماع, بل أهل مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي نزل فيها القرآن والسنة وهي دار الهجرة والنصرة والإيمان والعلم, لم يكونوا يفعلوا ذلك, بل لو اتفقوا في مثل زمن مالك وشيوخه على شيء ولم ينقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خلفائه لم يكن إجماعهم حجة عند جمهور المسلمين وبعد زمن مالك وأصحابه ليس إجماعهم حجة باتفاق المسلمين فكيف بغيرهم من أهل الأمصار, وأما قول القائل:- إن هذا - أي خفض الصوت - يشبه بجنائز اليهود والنصارى, فليس كذلك, بل أهل(109/143)
الكتاب عادتهم رفع الأصوات مع الجنائز وقد شرط عليهم في شروط أهل الذمة ألا يفعلوا ذلك ثم إنما نهينا عن التشبه بهم في ما ليس هو من طريق سلفنا الأول وأما إذا اتبعنا طريق سلفنا الأول كنا مصيبين وإن شاركنا في بعض ذلك من شاركنا كما أنهم يشاركوننا في الدفن في الأرض وفي غير ذلك ) ا.هـ.
وسئل رحمه الله تعالى عن وضع المصاحف عند القبور للقراءة فيها؟ فأجاب رحمه الله تعالى بما نصه ( وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف بل هي تدخل في معنى اتخاذ المساجد على القبور وقد استفاضت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ذلك حتى قال (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا، قالت عائشة:- ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وقال (( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة والذكر وقراءة القرآن فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك كان داخلاً في النهي فإذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها فكيف إذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها ولا ينتفع بها لا حي ولا ميت؟ فإن هذا لا نزاع في النهي عنه ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك لفعله السلف فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه وأسرع إلى ذلك وتحريه ) ا.هـ.
وسئل الشيخ صالح حفظه الله تعالى عن بيان بعض البدع التي تقع عند قبر رسول الله(109/144)
- صلى الله عليه وسلم - فأجاب ( من البدع التي تقع عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثرة التردد عليه كلما دخل المسجد ذهب يسلم عليه وكذلك الجلوس عنده فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( لا تتخذوا قبري عيداً )) وإنما يستحب زيارته للقادم من سفر، ومن البدع كذلك الدعاء عند قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من القبور مظنة أن الدعاء عنده يستجاب وإنما المشروع السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وإذا أراد الدعاء فإنه يكون في أي مكانٍ من المسجد وإن كان بعد صلاةٍ فهو أفضل، ومن المنكرات التي تفعل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع الصوت وطلب الحوائج منه وهذا شرك أكبر فالواجب الحذر من ذلك ) ا.هـ.(109/145)
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم الاجتماع عند القبر وقراءة القرآن؟ وهل ذلك ينفع الميت؟ فأجاب ( هذا العمل من الأمور المنكرة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وهو الاجتماع عند القبر والقراءة, وأما كون الميت ينتفع بها فنقول:- إن كان المقصود انتفاعه بالاستماع فهذا منتفٍ لأنه قد مات وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث, صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له )) فهو وإن كان يسمع إذا قلنا إنه يسمع في هذه الحال فإنه لا ينتفع, لأنه لو انتفع لزم منه أن لا ينقطع عمله, والحديث صريح في حصر انتفاع الميت بعمله بالثلاث التي ذكرت في الحديث, وأما إن كان المقصود انتفاع الميت بالثواب الحاصل للقارئ بمعنى أن القارئ ينوي بثوابه أن يكون لهذا الميت, فإذا تقرر أن هذا من البدع فالبدع لا أجر فيها (( كل بدعةٍ ضلالة )) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -, ولا يمكن أن تنقلب الضلالة هداية, ثم إن هذه القراءة في الغالب تكون بأجرة والأجرة على الأعمال المقربة إلى الله تعالى باطلة, والمستأجر للعمل الصالح إذا نوى بعمله الصالح أجراً في الدنيا فإن عمله هذا لا ينفعه ولا يقربه إلى الله تعالى ولا يثاب عليه, لقوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فهذا القارئ الذي نوى بقراءته أن يحصل على أجر دنيوي نقول له:- هذه القراءة غير مقبولة, بل هي حابطة ليس فيها أجر ولا ثواب, وحينئذٍ لا ينتفع الميت بما أهدي إليه من ثوابها لأنه لا ثواب فيها إذاً فالعملية إضاعة مال, وإتلاف وقت وخروج عن سبيل السلف الصالح - رضي الله عنهم - لاسيما إذا(109/146)
كان هذا المال من تركة الميت وفيها حق صغار وقُصَّرْ وسفهاء, فيؤخذ من أموالهم ما ليس بحق فيزداد الإثم إثماً والله المستعان ) ا.هـ.
وسئل أيضاً رحمه الله تعالى عن حكم الاجتماع للعزاء فأجاب ( الاجتماع في بيت الميت ليس له أصل من عمل السلف الصالح وليس بمشروع ولاسيما إذا اقترن بذلك إشعال الأضواء وصف الكراسي وإظهار البيت وكأنه في ليلة زفاف عرس، فإن هذا من البدع التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - (( كل بدعة ضلالة )) ) ا.هـ.
وسئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن حكم أخذ حفنةٍ من تراب قبر الميت وحثوها على الكفن بعد قراءة القرآن عليه؟ فأجاب ( هذا شيء لا أصل له بل هو بدعة منكرة لا يجوز فعلها ولا فائدة منها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع ذلك لأمته وإنما المشروع أن يغسل المسلم إذا مات ويكفن ويصلى عليه، ثم يدفن في مقابر المسلمين ويشرع لمن حضر الدفن أن يدعو له بعد الفراغ من الدفن بالمغفرة والثبات على الحق كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك ويأمر به وبالله التوفيق ) ا.هـ.
وسئل ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم الأذان في أذن الميت؟ فأجاب ( الأذان في أذن الميت بدعة، وتلقينه عند الموت لا إله إلا الله قد أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما يلقينه إجابة الملكين بعد دفنه فهذا ورد فيه حديث لكنه ضعيف فلا يعتمد عليه ) ا.هـ.(109/147)
وسئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن حكم الأذان والإقامة في قبر الميت؟ فأجاب ( لا ريب أن ذلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان لأن ذلك لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - والخير كله في اتباعهم وسلوك سبيلهم كما قال الله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ))"متفق على صحته" وفي لفظٍ آخر قال - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته للجمعة (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ))"خرجه مسلم في حديث جابر - رضي الله عنه -" ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم استئجار قارئ يقرأ القرآن على نية الميت تنفيذاً لوصية الميت فأجابوا بقولهم ( استئجار من يقرأ قرآناً على نية الميت تنفيذاً لوصيته التي أوصى بها من الأمور المبتدعة فلا يجوز ذلك ولا يصح لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) والمال الذي وصى به هذا الميت ليدفع أجرة القارئ على نيته تصرف غلته في وجوه الخير فإن كان له ذرية فقراء تصدق عليهم منه بقدر ما يدفع حاجتهم وهكذا من يحتاج إلى المساعدة من متعلمي القرآن وطلبة العلم الشرعي فإنهم جديرون بالمساعدة من هذا المال وهكذا بقية وجوه الخير وبالله التوفيق ) ا.هـ.(109/148)
وسئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن حكم إقامة الحفلات للميت؟ فأجاب ( لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - ولا عن السلف الصالح إقامة حفل للميت مطلقاً لا عند وفاته ولا بعد أسبوع أو أربعين يوماً أو سنة بعد وفاته، بل ذلك بدعة وعادة قبيحة كانت عند قدماء المصريين وغيرهم من الكافرين، فيجب النصح للمسلمين الذين يقيمون هذه الحفلات وإنكارها عليهم عسى أن يتوبوا إلى الله ويجتنبوها لما فيها من الابتداع في الدين ومشابهة الكافرين وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقومٍ فهو منهم "رواه أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما" وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) وأصله في الصحيحين من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - )(109/149)
وسئل سماحته أيضاً سؤالاً هذا نصه:- يوجد عندنا في بلدتنا رجل صالح متوفى قد بني له مقام على قبره وله عادة عندنا في كل عام نذهب مع الناس إليه رجالاً ونساءً ويقيمون عنده ثلاثة أيام بالمدح والتهاليل والأذكار ويستمر بالأوصاف المعروفة فنرجوا التوجيه والإرشاد؟ فأجاب رحمه الله تعالى بجواب طويل أنقله بنصه فقال رحمه الله تعالى ( هذا العمل لا يجوز وهو من البدع التي أحدثها الناس, فلا يجوز أن يقام على قبر أحدٍ بناء, سوى سمي مقاماً أو قبةً أو مسجداً أو غير ذلك, وكانت القبور على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة - رضي الله عنهم - في البقيع وغيره مكشوفة ليس عليها بناء, والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبنى على القبر أو يجصص وقال (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ))"متفق على صحته" وقال جابر بن عبدالله الأنصاري - رضي الله عنه - (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه )) "رواه الإمام مسلم في صحيحه" فالبناء على القبور وتجصيصها ووضع الزينات عليها أو الستور كله منكر ووسيلة إلى الشرك, فلا يجوز وضع القباب أو الستور أو المساجد عليها وهكذا زيارتها على الوجه الذي ذكره السائل من الجلوس عندها والتهاليل وأكل الطعام والتمسح بالقبر والدعاء عند القبر والصلاة عنده كل هذا منكر وكله بدعة لا يجوز, وإنما المشروع زيارة القبور للذكرى والدعاء للموتى والترحم عليهم ثم ينصرف والمشروع للزائر للقبور أن يقول (( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, نسأل الله لنا ولكم العافية, يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين )) وما أشبه ذلك من الدعوات فقط هذا هو المشروع الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه - رضي الله عنهم - وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:- مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على(109/150)
قبور المدينة فقال (( السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم, أنتم سلفنا ونحن بالأثر )) وأما الإقامة عند القبر للأكل والشرب أو للتهاليل أو للصلاة أو قراءة القرآن فكل هذا منكر لا أصل له في الشرع المطهر, وأما دعاء الميت والاستغاثة به وطلب المدد منه فكل ذلك من الشرك الأكبر وهو من عمل عباد الأوثان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من اللات والعزى ومناة وغيرها من أصنام الجاهلية وأوثانها فيجب الحذر من ذلك وتحذير العامة منه وتبصيرهم في دينهم حتى يسلموا من هذا الشرك الوخيم, وهذا هو واجب العلماء الذين مَنَّ الله عليهم بالفقه في الدين ومعرفة ما بعث الله به المرسلين كما قال سبحانه { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وقال سبحانه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } وقال عز وجل { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وقال سبحانه { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة, ولما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن قال له (( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )) وفي رواية للبخاري رحمه الله (( فادعهم إلى أن يوحدوا الله, فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلة فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ))"متفق(109/151)
على صحته" فأمره أن يبدأهم بالدعوة إلى التوحيد والسلامة من الشرك مع الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والشهادة له بالرسالة, فعلم بذلك أن الدعوة إلى إصلاح العقيدة وسلامتها مقدمة على بقية الأحكام لأن العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الأحكام كما قال الله عز وجل { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال سبحانه { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة, فالواجب على أهل العلم في كل مكانٍ وزمان مضاعفة الجهود في ذلك حتى يبصروا العامة بحقيقة الإسلام ويبينوا لهم العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم -, وفق الله علماء المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه إنه خير مسئول ) ا.هـ.
وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم تخصيص العيدين والجمعة لزيارة المقابر؟ فأجاب ( ليس له أصل, فتخصيص زيارة المقابر في يوم العيد واعتقاد أن ذلك مشروع يعتبر من البدع لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال به, أما يوم الجمعة فقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي أن تكون الزيارة في يوم الجمعة ومع ذلك فلم يذكروا في هذا أثراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ا.هـ.
وسئل أيضاً عن حكم تغطية الميت بغطاء مكتوب عليه آيات من القرآن الكريم؟ فأجاب ( ليس لهذا العمل أصل في الشرع, أي ليس لكتابة الآيات القرآنية على ما يغطى به الميت فوق النعش أصل في الشرع, بل هو في الحقيقة امتهان لكلام الله عز وجل, بجعله غطاء يغطى به الميت, وهو ليس بنافع الميت بشيء وعلى هذا فالواجب تجنبه, أولاً:- لأنه ليس من عمل السلف .
وثانياً:- لأن فيه شيئاً من امتهان القرآن الكريم .(109/152)
وثالثاً:- لأن فيه اعتقاداً فاسداً وهو أن هذا ينفع الميت وهو ليس بنافعه ) ا.هـ.
وسئل أيضاً عن حكم التفريق في العلامة بين قبر الرجل وقبر المرأة؟ فأجاب ( هذا التفريق ليس بمشروع والعلماء قالوا:- إن وضع حجرٍ أو حجرين أو لبنة أو لبنتين من أجل العلامة على أنه قبر لئلا يحفر مرة ثانية فلا بأس, وأما التفريق بين الرجل والمرأة في ذلك فلا أصل له ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم الذبح عند القبور تبركاً بأهلها والدعاء عندها وإطالة المكث عندها رجاء بركة أهلها والتوسل بجاه الأموات؟ فأجابوا بقولهم ( الذبح لله عند القبور تبركاً بأهلها وتحري الدعاء عندها وإطالة المكث عندها رجاء بركة أهلها والتوسل بجاههم أو حقهم ونحو ذلك بدع محدثة بل ووسائل من وسائل الشرك الأكبر فيحرم فعلها ويجب نصح من يعمله, أما الذبيحة عند القبور تحرياً لبركات أهلها فهو منكر وبدعة لا يجوز أكلها حسماً لمادة الشرك ووسائله وسداً لذرائعه وإن قصد بالذبيحة التقرب إلى صاحب القبر صار شركاً بالله أكبر, ولو ذكر اسم الله عليها, لأن عمل القلوب أبلغ من عمل اللسان وهو الأساس في العبادات ) ا.هـ.(109/153)
وسئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن حكم الدين الإسلامي في زيارة القبور والتوسل بالأضرحة وأخذ خروف وأموال للتوسل بها كزيارة السيد البدوي والحسين, والسيدة زينب؟ فأجاب رحمه الله بما نصه ( زيارة القبور نوعان أحدهما:- مشروع ومطلوب لأجل الدعاء للأموات والترحم عليهم ولأجل تذكر الموت والإعداد للآخرة, لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة )) وكان يزورها - صلى الله عليه وسلم - وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم -, وهذا الفرع للرجال خاصة لا للنساء, أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور, بل يجب نهيهن عن ذلك, لأنه قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور من النساء, ولأن زيارتهن للقبور قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن مع قلة الصبر وكثرة الجزع الذي يغلب عليهن وهكذا لا يشرع لهن اتباع الجنائز إلى المقبرة لما ثبت في الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت (( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا )) فدل ذلك على أنهن ممنوعات من اتباع الجنائز إلى المقبرة لما يخشى في ذلك من الفتنة لهن أو بهن, وقلة الصبر, والأصل في النهي التحريم لقول الله سبحانه { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } أما الصلاة على الميت فمشروعة للرجال والنساء كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك, أما قول أم عطية (( لم يعزم علينا )) فهذا لا يدل على جواز اتباع الجنائز للنساء, لأن صدور النهي عنه - صلى الله عليه وسلم - كافٍ في المنع, وأما قولها (( لم يعزم علينا )) فهو مبني على اجتهادها وظنها, واجتهادها لا يعارض به السنة, النوع الثاني:- بدعي وهو زيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو للذبح لهم أو للنذر لهم, وهذا منكر وشرك أكبر نسأل الله العافية, ويلتحق بذلك أن يزورها للدعاء عندها والصلاة(109/154)
عندها والقراءة عندها, وهذا بدعة غير مشروع ومن وسائل الشرك فصارت في الحقيقة ثلاثة أنواع:- النوع الأول:- مشروع وهو أن يزورها للدعاء لأهلها أو لتذكر الآخرة, الثاني:- أن تزار للقراءة عندها أو للصلاة عندها أو للذبح عندها فهذه بدعة ومن وسائل الشرك, الثالث:- أن يزورها للذبح للميت والتقرب إليه بذلك أو لدعاء الميت من دون الله أو لطلب المدد منه أو الغوث أو النصر فهذا شرك أكبر نسأل الله العافية, فيجب الحذر من هذه الزيارات المبتدعة, ولا فرق بين كون المدعو نبياً أو صالحاً أو غيرهما, ويدخل في ذلك ما يفعله بعض الجهلة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعائه والاستغاثة به, أو عند قبر الحسين أو البدوي أو الشيخ عبدالقادر الجيلاني أو غيرهم والله المستعان ) ا.هـ.(109/155)
وسئل الشيخ صالح حفظه الله تعالى عن حكم السجود على تربة الأولياء قربة إلى الله تعالى مع اعتقاد قدسية ذلك التراب وطهارته؟ فأجاب ( السجود على التربة المسماة تربة الولي إن كان المقصود منه التبرك بهذه التربة والتقرب إلى الولي فهذا شرك أكبر وإن كان المقصود التقرب إلى الله تعالى مع اعتقاد فضيلة هذه التربة وأن في السجود عليها فضيلة كالفضيلة التي جعلها الله تعالى في الأرض المقدسة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى فهذا ابتداع في الدين وقول على الله تعالى بلا علم وشرع دين لم يأذن به الله ووسيلة من وسائل الشرك لأن الله لم يجعل لبقعة من البقاع خاصة على غيرها غير المشاعر المقدسة والمساجد الثلاثة وحتى هذه المشاعر وهذه المساجد لم يشرع لنا أخذ تربةٍ منها لنسجد عليها وإنما لنا حج بيته العتيق والصلاة في هذه المساجد الثلاثة وما عداها من بقاع الأرض فليس له قدسية ولا خاصية, وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )) ولم يخصص بقعة دون بقعة ولا تربة دون تربة وإنما هذا من افتراء الذين لا يعلمون, ومن تضليل الدجالين والمبطلين الذين يشرعون للناس ما لم يأذن به الله وليس لهذا العمل أصل في الشرع, و هو عمل مردود على أصحابه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو رد )) ) ا.هـ.(109/156)
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم السكن إلى جانب القبور عدة أيام أو أسابيع لإيناس الميت؟ فأجابوا بقولهم ( ليس السكن إلى جانب القبور عدة أيام أو أسابيع من أجل الميت إيناساً له في زعمهم, أو تعلقاً به وحباً له مثلاً من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ولا من هدي الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم - ولا عرف عن أئمة أهل العلم والخير كل الخير في اتباعهم وترك البدع والمبيت عند القبور لما ذكر اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة ومن تبعهم بإحسان - رضي الله عنهم -, أما تخصيص يوم الخميس بزيارة القبور فهو ابتداع في الدين وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أما إن كان ذلك لكون يوم الخميس أو غيره أيسر للزيارة دون اعتقاد في تخصيص ذلك اليوم للزيارة فلا حرج في ذلك لأن زيارة القبور للرجال مشروعة في جميع الأيام والليالي, وأما حكم زيارة النساء للقبور وبكائهن ولطمهن الخدود على الميت فمن كبائر الذنوب ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة الدائمة أيضاً عن حكم شد الرحال لزيارة قبور الأولياء والصالحين؟ فأجابوا بقولهم ( لا يجوز شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم، بل هو بدعة، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:- المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وأما زيارتهم دون شد رحال فسنة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ))"خرجه مسلم في صحيحه" وبالله التوفيق ) ا.هـ.(109/157)
وسئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن حكم الطواف على القبور؟ وعن طلب الحوائج من الموتى؟ فأجاب بقوله ( طلب الحوائج من الموتى أو من الأصنام أو من الأشجار والأحجار أو من الكواكب كله شرك بالله عز وجل، وهكذا الطواف على القبور منكر، والطواف يكون بالكعبة لا يطاف بالقبور فهذا منكر عظيم، بل شرك أكبر إذا قصد التقرب به إلى صاحب القبر، فهذا شرك أكبر، وإذا ظن أنه قربة لله وأنه يتقرب إلى الله بهذا الطواف فهذا بدعة، الطواف من خصائص البيت العتيق وأما القبور فلا يطاف بها أبداً، هذا منكر وبدعة وإذا كان فعله تقرباً لصاحب القبر صار شركاً أكبر، وهكذا دعاء الميت والاستغاثة بالميت والنذر له والذبح له كله من الشرك الأكبر ) ا.هـ.(109/158)
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم السجود على المقابر والذبح عليها فأجابوا بقولهم ( السجود على المقابر والذبح عليها وثنية جاهلية وشرك أكبر فإن كلاً منهما عبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده فمن صرفها لغير الله فهو مشرك قال الله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وقال تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } إلى غيره من الآيات الدالة على أن السجود والذبح عبادة وأن صرفها لغير الله شرك أكبر، ولاشك أن قصد الإنسان إلى المقابر للسجود عليها أو الذبح عندها إنما هو لإعظامها وإجلالها بالسجود والقرابين التي تذبح أو تنحر عندها وروى مسلم في حديث طويل في باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:- حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات (( لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض )) وروى أبو داود في سننه من طريق ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال:- نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ )) قالوا:- لا، فقال (( فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ )) قالوا:- لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم )) فدل ما ذكر على لعن من ذبح لغير الله وعلى تحريم الذبح في مكان يعظم فيه غير الله من وثن أو قبر أو مكان فيه اجتماع لأهل الجاهلية اعتادوه وإن قصد بذلك وجه الله وبالله التوفيق ) ا.هـ.
وسئلت اللجنة الدائمة أيضاً عن حكم الصلاة في مسجد فيه قبر؟(109/159)
فأجابوا بقولهم ( يجب نبش قبر أو قبور من دفن فيه ونقلها إلى المقبرة العامة، ودفنهم فيها، ولا تجوز الصلاة به والقبر أو القبور فيه، بل عليك أن تلتمس مسجداً آخر لصلاة الجمعة والجماعة قدر الطاقة ) ا.هـ.
وسئلوا عن الصلاة في المساجد التي يوجد بها قبور ومقامات؟ فأجابوا بجواب أوسع من الأول فقالوا ( لا يجوز للمسلم أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور والأصل في ذلك الأدلة الدالة على النهي عن بناء المساجد على القبور ومنها ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )) ومنها ما رواه أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) وبالله التوفيق ) ا.هـ.
والفتاوى في ذلك كثيرة ويصعب حصرها والحر تكفيه الإشارة ولعل فيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى لمن أراد الحق والهداية وأما المعاند والمكابر فلو ملأت له الأرض كتباً وفتاوى لما أجاب، ومن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
في نتائج هذا البحث وخاتمته
أقول:- وبعد هذا التطواف الطويل نلخص لك نتائج هذا البحث في عدة نقاط :-(109/160)
الأولى :- التحذير من فتنة القبور وأنها فتنة عظيمة خطيرة, يجب على أهل العلم أفراداً وجماعاتٍ أن يكثروا من بيانها والتحذير منها وإعادة التنبيه عليها المرة بعد المرة حتى يتضح أمرها وينزرع في قلوب العامة الخوف منها, وتكون تفاصيلها من الأمور التي تعلم من الدين بالضرورة .
الثانية :- أنه لابد من تقرر قاعدة عظيمة في هذا الباب وهذه القاعدة تقول ( كل ما يفعله في المقابر مما لا دليل عليه فهو بدعة وقد يوصل في كثير من أحيانه إلى الشرك الأكبر ) وهذه القاعدة حقها أن تشرح في مؤلفٍ, وأن يلقنها العلماء للعامة تلقين المحذر من هذه البلايا الخطيرة, فإن الأمة إذا حاربت هذه الفتنة فإنها ستكون بخير فإن بلاياها قد أوقعت الأمة في مهاوي الردى ومستنقعات الشرك والوثنية, لكن باعتماد هذه القاعدة فإن أبواب هذه الفتنة ستنغلق، وسيكفينا الله بها بلاءً عظيماً وشراً كبيراً بحوله وقوته .
الثالثة :- أن جميع ما يستدل به عباد القبور على ما يفعلونه عند القبور إنما هو خيالات واهية وحجج داحضة باطلة, فإما أن يكون من الموضوعات المكذوبة فنقول لهم:- الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وإما أن يكون الدليل صحيحاً ولكنهم يفهمونه فهماً مخالفاً لفهم السلف فنقول لهم:- كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فهو باطل, وإما أن يقيدوه بزمانٍ أو مكانٍ أو صفةٍ معينة لا دليل عليها فنقول لهم:- شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف . الرابعة :- أن ما يفعل عند القبور من الأمور المحدثة ليس كله شركاً أكبر بل منه ما يكون بدعة ومنه ما يكون شركاًَ أصغر ومنه ما يكون شركاً أكبر, و منه ما يختلف
حكمه باختلاف قصد فاعله .
الخامسة :- أن فتنة الغلو في الصالحين هي أول ما ابتلي به بنوا آدم من الفتن التي أوقعتهم في الشرك .(109/161)
السادسة :- أن الدين مبني على أصلين, على أن لا يعبد إلا الله تعالى وأن لا يعبد إلا بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -, وأنه لا مدخل للمرويات الضعيفة والواهية المكذوبة ولا للأهواء والآراء والاستحسانات والمنامات وما عليه الأسلاف مدخل في التشريع فباب التشريع موقوف على النص من الكتاب والسنة وما تفرع عنهما من الإجماع الثابت والقياس الصحيح المستوفي لأركانه .
السابعة :- أنه لابد من التحذير ومحاربة الأسباب الداعية إلى هذه الفتنة, فجميع الأسباب التي ذكرناها في محلها من هذا الكتاب لابد من الوقوف في وجهها لأن سد الوسائل المفضية إلى هذه الفتنة أول درجات محاربتها, فإن من رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
الثامنة :- أنه لابد من إحياء منهج الوسطية في قلوب العامة وتذكيرهم بأن الوسطية من أعظم خصائص هذه الأمة المكرمة, فإن إحياء منهج الوسطية في القلوب هو بمثابة حزام أمانٍ من الوقوع في الغلو, فإنه لم يقع في الغلو إلا من غفل عن هذه الوسطية .
التاسعة :- الحرص الكامل على نشر العلم الشرعي المؤصل على الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة لاسيما مسائل العقيدة والتوحيد, وأن لا نمل من طرح هذه المسائل العظيمة في المحاضرات والندوات واللقاءآت العامة والخاصة, فإن العقيدة إذا صحت صح العمل, وأن لا يشغلنا عن تصحيح الاعتقاد الدخول في البرلمانات والمسائل السياسية وخرافات الجرائد والمجلات, فالعقيدة أولاً العقيدة أولاً العقيدة أولاً, لأنها الأساس الذي يبنى عليه العمل, ولأنها زبدة دعوة الرسل ولأن المخالفة فيها أعظم والجهل بها يوجب البلاء الأكبر .(109/162)
العاشرة :- أنه لابد من تظافر الجهود واتصال الأفكار وتواصل العلماء فيما بينهم للبحث عن أسلم الطرق في درء هذه الفتنة, وفي الختام أحمده سبحانه على نعمة التوحيد وسلامة الاعتقاد فإنها النعمة التي لا توازيها نعمة, فيارب لك الحمد كله ولك الشكر كله, وأسألك باسمك الأعظم أن تهدي الضال وأن تثبت المطيع وأن تهدي القلوب وتردنا إليك رداً جميلاً وأن ترفع نزل العلماء وتعلي درجاتهم في الدنيا والآخرة وأن تجزيهم خير ما جزيت عالماً عن أمته, يا رب اغفر لهم, يا رب ارحمهم يا رب وفقهم لكل خير وأن تغفر لمقيد هذه الأوراق وأن تعامله بعفوك وجودك وإحسانك وكرمك وأن تحسن خاتمته, وإني لمعترف الاعتراف الكامل بالنقص والتقصير في العلم والعمل والدعوة فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه من زلل اللسان والجنان والبنان, ثم أستغفره وأتوب إليه من ذلك, ثم أستغفره وأتوب إليه من ذلك والله أعلى وأعلم وقد وافق الفراغ منه يوم الثلاثاء الموافق للسابع عشر من شهر ذي الحجة بعد صلاة الظهر من عام ست وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وسراً وعلانية وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(109/163)
دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنّته المطهرة
وكشف تواطؤ عيسى الحميري ومحمود سعيد ممدوح على وضع الحديث
(تفنيد القطعة المكذوبة التي أخرجاها ونسباها لمصنف عبد الرزاق)
بقلم
محمد زياد بن عمر التُّكْلة
عُفي عنه
الكتابة الثانية
مزيدة ومنقحة
13 محرم 1427
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى لما ختم الشرائع برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأتم نعمته علينا، ورضي الإسلام للناس دينا: لم يترك دينه هملاً، بل حفظ هذا الدين من التحريف والتبديل، فحفظ كلامه المنزل: القرآن الكريم، فلا يُزاد حرفٌ فيه ولا ينقص.
وحفظ سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فجعل الكذب عليه من أعظم الموبقات، ففي الحديث المتواتر: (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد).
وسخّر الله للسنّة عبر الأزمان نخبة الأمة في الديانة والعلم والعقل، تنفي عنها كذب الكاذبين، بل وأوهام الصادقين، فلا يمكن أن يسري حديثٌ يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت عنه إلا بيّنوه وحذروا منه، عبر قواعد متينة هي غاية ما بلغه العقل البشري من طرق التوثيق والتحقيق.
وما زال أهل الباطل على أنواعه يحاولون الدسّ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة أهوائهم الباطلة، أو لدعوة الناس للزندقة، فما أسرع أن ينكشفوا ويفضحهم الله عز وجل، وينقلب إليهم بصرهم خاسئا وهو حسير.
وقال سفيان الثوري: لو همّ رجل أن يكذب في الحديث وهو في جوف بيت لأظهر الله عليه.(110/1)
وروي معنى ذلك عن عبد الرحمن بن مهدي وابن معين وغيرهما.
وقال سفيان بن عيينة: ما ستر الله عز وجل أحداً يكذب في الحديث.
وثبت عن ابن المبارك رحمه الله أنه سئل: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة، ثم قرأ: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
* * *
واقتداء بمنهج أئمة الحديث في كشف الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ودفاعاً عن السُّنّة، ونُصحاً لعموم الأمة؛ كانت كتابة هذه الكلمات، مستعيناً بالله سبحانه، سائلاً إياه الأجر والمثوبة.
* * *
فقد صدر مؤخراً كتابٌ كُتب عليه: "الجزء الأول من المصنف للحافظ الكبير أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني"، بتحقيق عيسى بن عبد الله بن محمد بن مانع الحميري، وتقديم محمود سعيد ممدوح، الطبعة الأولى 1425هـ-2005م، دون ذكر للناشر، في مجيليد في 105 صفحات، منها 44 صفحة لمتن الكتاب.
وبتأمل الكتاب يتبيّن جلياً أنه كتاب مكذوب مفترى؛ أُلصق زوراً وبهتاناً بالحافظ عبد الرزاق رحمه الله، وإنما افتُعل ونُشر لما في متونه من آراء منحرفة وأباطيل مدسوسة، مثل إثبات أولية النور المحمدي، وجملة خرافات أخرى.
أما الأسانيد فقد رُكِّبت كيفما اتفق لتبدو كأنها من رواية عبد الرزاق فعلا، ولكن الممارس لكتب الحديث يعلم بطلانها وتركيبها بمجرد النظر، كيف إذا قرن معها المتون المنكرة ذات المخالفات الشرعية والتراكيب الأعجمية؟ ودرس النسخة المزعومة للكتاب؟
وإزاء ذلك فقد وجب كشف هذا الكذب الصراح؛ الذي فيه تشويه صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والدسّ في دينه ما ليس منه، والله المستعان.
مع العلم بأن جميع من عرفتُه علم بالكتاب جزم بوضعه، مثل الشيخ سعد الحميّد، والشيخ عبد القدوس محمد نذير، والشيخ خالد الدريس، والشيخ عمر الحفيان، والشيخ بندر الشويقي، والشيخ صالح العصيمي، والشيخ أحمد عاشور، والشيخ سعد السعدان، والشيخ عبد الوهاب الزيد، وغيرهم.
* * *(110/2)
وقد كنتُ كتبتُ كتابة أولية عن هذا الكتاب المزعوم في ملتقى أهل الحديث على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وكانت تلك الكتابة خلال يومين لغرض سرعة تحذير الناس من الكتاب أول نزوله الأسواق، اعتمدت فيها على القرائن المبينة لكذب الكتاب، وقسمتُ الكتابة إلى قسمين رئيسين: نقد المخطوط المزعوم وما يتعلق به، ونقد متون وأسانيد الجزء.
• ثم كانت هذه الكتابة الثانية بعد أن وصلتني معلومات مهمة عن ملابسات خروج الكتاب من أحد القريبين للقائمين عليه، وإفادات وملاحظات أخرى من غيره، فكانت كتابتي هذه مزيدة ومحررة، ناسخة للأولى، وسأبقى أزيد وأنقح فيها -إن شاء الله- ما زادت لديّ المعلومات والفوائد حول الموضوع، وأدعو الغيورين على السُّنّة للمشاركة والمساهمة في الكشف عن هذه الجريمة؛ لا حرمهم الله الأجر والمثوبة.
كما أنني أشكر جميع المشايخ الذين أفادوني ببعض الفوائد المتعلقة بالموضوع، سائلا الله أن يجزيهم الخير على نًصرتهم لسُنّة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك الصالحين.
وكتبه محمد زياد التكلة
حامداً مصلياً مسلّماً
الرياض، ليلة الأحد 13 المحرم 1427
الكلام على الأصل المخطوط
قصة هذا المخطوط:
إن مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني -المتوفى سنة (211) رحمه الله تعالى- من أهم وأقدم وأكبر مصادر السنّة النبوية، ويحتوي على عدد كبير من الأحاديث المرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وعدد أكبر من الآثار عن الصحابة والتابعين.
وقد طُبع هذا المصنف كاملاً بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي عن عدة نسخ خطية، وهي بمجموعها تكمّل الكتاب إلا قليلا من أوله ووسطه، فيبدأ الكتاب من باب غسل الذراعين من كتاب الطهارة، ويظهر أن السقط أول الكتاب لا يتعدى الورقة أو الورقتين، وفرح أهل العلم عامة، وأهل الحديث خاصة: بظهور هذا الكتاب العظيم للاستفادة منه.(110/3)
أما غيرهم من أهل الأهواء فكان يهمهم من خروج الكتاب شيء آخر! ألا وهو البحث عن حديث مكذوب عُزي خطأً لمصنف عبد الرزاق، ألا وهو حديث: "أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر" بطوله، فظنّوا -لجهلهم بالسُّنّة وكتبها- أنه يُمكن أن يكون الحديث في المصنّف فعلا! وبالطبع فلم يجدوه فيه!
ولما لاحظوا وجود السقط اليسير في أول المصنف المطبوع، تعلقوا بالأماني وأن يكون حديثهم في القدر الساقط من المصنف! وكأن حديثهم سيكون في أبواب الطهارة وإزالة الحدث! وبحثوا عنه في شتى خزائن المخطوطات العالمية دون جدوى.
• من هنا ارتأى بعض من هانت عليه نفسه من أهل الأهواء أن يستغل وجود النقص، ويكمله بما يناسب هواه! وكان من ذلك: الحديث المكذوب المذكور آنفا، فدسّه وغيره من الأباطيل في الكتاب على أن ذلك من القدر الساقط منه!
ولما فرغ من وضعه أعطاه لمن يروج عنده ذلك الكذب والهوى، ألا وهو عيسى مانع الحميري(1)، فما أسرع أن انطلى عليه وتبنّاه، وكان ذاك الحديث الموضوع هو السبب في إخراج الحميري للكتاب!
__________
(1) هذا الرجل جهمي قبوري خرافي جلد، تولى إدارة الأوقاف في دُبَيّ مدة من الزمن، وسخّر جهودها وأموالها في عهده لمحاربة السنّة والعقيدة السلفية الصافية، وجمّع حوله عدداً من أهل الأهواء والبدع في سبيل هذا الغرض، تاركاً ما يراه من فساد أخلاقي متزايد في دبي! وأُلِّفتْ باسمه مجموعة من الرسائل كلها في نصرة الهوى، مثل: "تصحيح المفاهيم العقدية في الصفات الإلهية، أو الفتح المبين في براءة الموحدين من عقائد المشبهين"، و"التأمل في حقيقة التوسل"، و"البدعة أصل من أصول التشريع"!! وغير ذلك، وفي كتبه هجوم مسف على أئمة السنّة وأعلامها قديماً وحديثاً، ثم أُخرج من الأوقاف، وبقي مدرّساً في كلية الإمام مالك، وما زال على محاربته للسنّة، بدليل آخر إنتاجه!(110/4)
فقال أول مقدمته (ص5 و6): "فقد كثر الجدل حول صحة حديث جابر، ذلك الحديث الذي ضمنه كثير من أهل السير كتبهم وعزوه إلى مصنف عبد الرزاق مجرداً عن الإسناد، وقد اجتهد ساداتنا أهل العلم.. في البحث عن حديث جابر في مظانه المختلفة".
وذكر أنه كلّف أناساً بالبحث عن تتمة الكتاب في مكتبات تركيا، كما بحث الباحثون في اليمن؛ دون جدوى، ثم قال (ص6 و7): "وقد بات هذا الأمر شغلي الشاغل، أبحث عنه هنا وهناك، مع الدعاء المتواصل في الأيام المباركات، وفي مهابط الرحمات، مع عباد الله الصالحين، وبالأخص عند النبي الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم في الروضة المباركة، والمواجهة الشريفة، حتى أتحفنا الله بالعثور على تلك النسخة اليتيمة، أو بالأحرى الجزء الأول والثاني من مصنف عبد الرزاق، على يد أحد الصالحين من بلاد الهند، وهو أخونا في الله الفاضل الدكتور السيد محمد أمين بركاتي قادري حفظه الله".
ثم قال: "ومن توفيق الله عز وجل أننا عثرنا في هذه النسخة على حديث جابر مسنداً.. وتبين لنا بعد ذلك صحة الحديث الذي يرويه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول الله عن أول شيء خلقه الله تعالى، فقال: هو نور نبيك يا جابر.. الحديث.
فثبت لدينا بأن سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول مخلوق في العالم (!) أي أول روح مخلوقة، وآدم أول شبحية مخلوقة، إذ أن آدم مظهر من مظاهره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بد للجوهر أن يتقدمه مظهر، فكان آدم متقدما بالظهور في عالم التصوير والتدبير، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مقدما في عالم الأمر والتقدير، لأنه حقيقة الحقائق، وسراج المشارق في كل المغارب! وما حديث جابر إلا تفسير لآية المشكاة..."! انتهى كلام الحميري.(110/5)
فأقول: لما عُرف السبب بطل العجب! وهكذا مدخل الاتحاديين، فمحمد صلى الله عليه وسلم (عندهم) هو النور الأولي المخلوق، وهو نور كل شيء؛ ومن ذلك السماوات والأرض، وهو تفسير آية المشكاة (الله نور السماوات والأرض)!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً.
وحاول الحميري أن يضفي الثقة على نسخته، مادحاً لها أنها أدق من المطبوع، وساق على ذلك بعض الأمثلة.
الحاصل أن المعلومات المذكورة في مقدمته والتي تهمنا عن المخطوط هي ما يلي:
1) أن المخطوط وُجد في الهند على يد أحد مشايخ القادرية (البريلوية) المعاصرين.
2) وأن الحميري تملك هذه النسخة، وأن محمود سعيد ممدوح رآها في خزانته.
3) وأنه كُتب عليها أنها نُسخت ببغداد سنة 938 على يد إسحاق بن عبد الرحمن السليماني.
4) وأن الناسخ متقن، بدليل زعم الحميري أن نسخته أدق من المطبوعة.
5) وأن الحميري قارن بين خطها وخطوط القرن العاشر ودقق وحقق فوجدها مطابقة لها.
6) وأنه لا سماعات ولا إسناد على النسخة.
7) وأن في المخطوط زيادة عشرة أبواب عن المطبوع في أوله، وهي: باب في تخليق نور محمد صلى الله عليه وسلم، وتسعة أبواب في الوضوء.
هذا ما أفاده الحميري عن نسخته، ولكن هناك أشياء كتمها عمداً، وكشفها الله على يد أحد عارفيه، كما سيأتي.
شهادة ذهبية من الشيخ الكَمَداني:
الشيخ أديب الكَمَداني أحد المشتغلين بعلم الحديث ومخطوطاته في دمشق، وله رسائل وتحقيقات حديثية، وهو أبرز أصحاب الشيخ فريد الباجي التونسي، انتقل منذ سنوات للعمل باحثاً شرعياً في أوقاف دبي، وإماماً وخطيباً في بعض مساجدها، فكانت له صلة عمل مباشرة مع الحميري قبل أن يُطرد الأخير من رئاسة أوقاف دبي.(110/6)
وكان وصلني عنه طرفٌ من أخبار المخطوط عبر أحد أصحابه وأصحابنا من طلبة العلم البارزين في دمشق، ثم يسّر الله التحدث معه مطولاً عبر الهاتف من منزل صاحبنا المشار إليه، وكان في المجلس غيرهما من طلبة العلم، وذلك ليلة الجمعة 11 محرم 1427.
فحدثني الشيخ أديب عن المخطوط، وكان مما أخبرني (وروايتي بالمعنى): نظراً لشغف الحميري وولعه الشديد بحديث النور، وسؤاله عن مخطوطات مصنف عبد الرزاق؛ أحب بعض من لا خلاق له من بريلوية الهند أن يُتحفه به، فزوّر المخطوط، وأرسل له مجلدين منه، ولما وصل المخطوط من الهند فرح الحميري به فرحاً شديداً، وأولم لأجله وليمة كبيرة!
وعرض الحميري المخطوط على الكمداني ومحمود سعيد ممدوح، فأصر الأول على أنه مفترى، وقال إنه موضوع حديثاً جداً بالنظر لورقه وخطه، فضلا عن المتون التي فيه بتلك الأسانيد، وقال لي الشيخ أديب: إنني لا أعطي للمخطوط عمراً أكثر من سنتين أو نحو ذلك! وكان الحميري مصراً على استبعاد مسألة الوضع، أما ممدوح فكان يحاول إرضاء الاثنين والتوفيق بينهما!
وقال لي الشيخ أديب إنه طلب من الحميري أن يقوم بفحص المخطوط في مركز جمعة الماجد في دبي لتأكيد حكمه بالتزوير، ونظراً لحداثة كتابة المخطوط فقد طالب الحميري أيضاً أن يطلب ممن أحضر له المخطوط أن يذكر له الأصل المنسوخ منه، فلما سئل أجاب: إن مخطوطه نُسخ من مكتبة في الاتحاد السوفييتي، واحترقت المكتبة في الحرب!!(1) ثم طالبهم بتكملة المصنف الذي أرسلوا منه مجلدين فقط، فلم يردوا عليه! وطلب الشيخ أديب من الحميري صورة من المخطوط فأبى الحميري.
__________
(1) قارن بين هذا الكلام وبين ما كُتب آخر النسخة المزعومة أنها نُسخت ببغداد سنة 933! وتأمل هذا مع إلحاح الحميري في مقدمته أنها من خطوط القرن العاشر، وكتمانه لأمر نسخة الاتحاد السوفييتي وحداثة النسخ منها!
وهكذا يُكتشف الكاذب من تضارب أقواله!(110/7)
وقال الشيخ أديب إن هذا الكلام كان سنة 2001 بتقويم النصارى تقريباً، وبعدها أُخرج الحميري من الأوقاف، فلم يلتق معه بعدها إلا مرتين أو ثلاثة، وأرسل له أخباراً في أن يقوم بتخريج الكتاب له، وقابلها بالرفض، ثم رأى الكتاب مطبوعاً سنة 2005م.
ويرى الشيخ أديب أن الحميري ليس له علاقة مباشرة في تزوير المخطوط، وأنه كان يجهل وضعه ذلك الوقت، بخلاف محمود سعيد ممدوح!
وقلت للشيخ أديب: هل تأذن لي بنقل هذا الكلام عنك، وهل تخشى أن يصيبك حرج في ذلك؟ فقال: أنا مسؤول عن كلامي هذا، ولا مانع من نقله عني، وإن شئت كتبتُ لك إفادتي خطياً، لأن التحرير أضبط في العبارة من المذاكرة.
فهذا ما ذكره لي الشيخ أديب، جزاه الله خيرا على موقفه الشجاع هذا وإفادته وإبرائه لذمته، وأسأل الله أن يسدده ويوفقه لما يحب ويرضى.
هل كان الحميري ومن معه يجهلون حال الكتاب؟
هذا سؤال مهم بعد معرفة ما سبق، وما يلحق من كلام على أسانيد ومتون الكتاب، ووجود جماعة من أهل العلم من أيام السيوطي إلى يومنا صرّحوا أن حديث جابر في النور (على الأقل) لا إسناد له، بل هو كذب مفترى.
لقد حاول الشيخ الكمداني كثيراً ثني الحميري ومن معه عن إخراج الكتاب، وأعلمهم بحاله، ولكن الحميري أبى إلا أن يخرجه، فماذا يسمى هذا؟
نعم، أفاد الشيخ الكمداني أن الحميري كان يجهل حال الكتاب وقت وصوله إليه، فهل استمر ذلك الجهل عند الحميري من ذلك الوقت إلى خروج الكتاب، وهو أربع سنوات على الأقل؟
يظهر لي بجلاء أن الجواب: لا! لماذا؟
لأن الحميري لو كان جاهلا به لأخرجه كما هو، دون مقدمة كلها إصرار متعمد على تمشية الكتاب، ولذكر ما له وما عليه في الكلام على حديث النور، وهو يعلم كلام أسياده الغماريين عن الحديث! لكنه كتم كل ما يشوش عليه أمره، بل ردَّ على من تكلم على حديث النور! ولبّس في ذلك ودلّس.(110/8)
فأقول بصراحة إن الحميري شريك في جريمة وضع الكتاب، لأنه علم أن الكتاب منسوخ حديثاً، وأنه مستنسخ عن نسخة في الاتحاد السوفييتي السابق فيما زُعم، ومع ذلك لم يذكر هذا في مقدمته مطلقا، مع أن الناسخ كتب أنه نسخ الكتاب سنة 933 من الهجرة! وهذا كافٍ لوحده في كشف تزوير النسخة وإسقاطها، وإسقاط من عَلِم بذلك ودلّسه على الناس، بل ذهب الحميري أمراً أبعد من ذلك في سبيل تسوية أمر النسخة، فمع علمه بما سبق أخذ يدلّس ويزعم في مقدمته أن المخطوط من خطوط القرن العاشر فعلا، ويعقد المقارنة الفاشلة بين مخطوطه المزور وغيره من نماذج خطوط ذلك القرن! فمعنى ذلك أنه عالمٌ بأمر النسخة وعيوبها الفاضحة لها، وإلا لما احتاج أن يتستر على تلك العيوب ويكتمها عمداً، ثم يدلّس ويسوّي أمر النسخة.
ولا فرق عند علماء الحديث بين من وضع ابتداء، وبين من سرق هذا الموضوع وروّجه عالماً به، فكلاهما يحكمون بأنه كذاب!
حتى لو لم يكن يعلم الحميري بتزوير الكتاب (وهو عالم!) فواجبه أن يتثبت في نشر الحديث، للأمر النبوي والوعيد الشديد فيه، أما أن يُعرَّى حال الكتاب أمامه ويُعلَّم ويُلَقَّن كيف يفحص المخطوط، ثم يعاكس ذلك كله فهذا الصنيع أخو الكذب والوضع الأصلي، وهو تواطؤ مع الواضع.
إن أمامَنا تسلسل في عملية التدليس والتلبيس بحال الكتاب قبل إخراجه، بدأت من وجوده عند طائفة متهمة وهي البريلوية(1)
__________
(1) ومن شاء أن يعرف مدى انحراف هذه الطائفة فليطالع كتاب البريلوية للشيخ الشهيد -إن شاء الله- إحسان إلهي ظهير، وترجمة رأس طائفتهم أحمد رضا خان البريلوي للعلامة عبد الحي الحسني وابنه مجيزنا أبي الحسن الندوي في نزهة الخواطر (8/49-52)، فذُكر عنه العجائب في تكفير مخالفيه من أئمة الديوبندية وغيرهم، وغلوه البالغ في جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى سُمّي: (عبد المصطفى)! وكذلك غلوه في القبورية والخرافات!
وقد رأيتُ بنفسي في الهند ما يسميه أتباعه أعياد القبور أو (أعراس القبور!)، وكنت أشاهد الزحام الشديد في القطارات أيامها لزيارة القبور من عوام البريلوية والهندوس معاً! والجميع يتوسل وينذر ويشرك بهذه القبور، وحصل بيني وبين أحد الأطباء الهندوس نقاش هناك حول الإسلام، فقال لي: لا فرق بيننا وبين المسلمين، كثير من مقدساتنا مشترك، وعباداتنا عند القبور واحدة، وعاداتنا متشابهة، وكان كل كلامه منصباً على البريلوية!
ولا عجب أن يكون عوام البريلوية هكذا إذا كان علماؤهم -بل مثل من وصفه الحميري بالشيخ الصالح الفاضل! محمد أمين بركاتي قادري- يكذبون ويفترون على رسول اله صلى الله عليه وسلم!
اللهم اهد ضال المسلمين، وادفع شرور المضلين والمفسدين.(110/9)
، وليس في مكتبة معروفة، وفي بلد تتبع فيها مشايخها المعتنين بالحديث نسخ الكتاب منذ زمن أنور الكشميري إلى تلميذه الأعظمي (كما في مقدمة المصنف الحقيقي!)، ثم تملك الحميري الكتاب المزور، وإعلامه بتزوير المخطوط وكذب ما فيه، وثبوت ذلك بعد قليل من السؤال (عبر قصة نسخه من مكتبة احترقت في الاتحاد السوفييتي، بينما كُتب أنه نُسخ سنة 933!)، ومع هذا حاول الحميري جاهداً صرف النظر عن عوار النسخة بأمور لا تنطلي إلا على أمثاله، وطوّل النقول (وغالبها عن الغماريين) في مقدمته (ص36-50) في أن غرابة المتون وركاكتها لا تقتضي الوضع والنكارة، بعد ذلك تهيأ للحميري تصحيح موضوعات الجزء، وقد فعل، فصحح؛ واستدل؛ واعتقد؛ ونشر؛ ودعا!!
وما دام أن الحميري ناشر هذا الكذب؛ ومُخرجه للناس؛ والملبّس عليهم بصحته؛ فهو يتحمل تبعته، ويجده في صحيفته إن شاء الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فلا يُستغرب أن كتب الحميري على غلافه الداخلي: "جميع الحقوق محفوظة للمؤلف"، فهل مؤلفه صاحب الحقوق عبد الرزاق أم ...؟!
• ومن صور تدليس الحميري أن يكتب على غلاف الكتاب الداخلي أنه طُبع سنة 1425هـ ويؤكده بالتاريخ النصراني 2005م، والواقع أن الكتاب طُبع حديثاً آخر سنة 1426، بدليل مقدمة ممدوح المؤرخة في 22 ربيع الآخر سنة 1426!! وتاريخ نزول الكتاب للأسواق!
تواطؤ محمود سعيد ممدوح في الجريمة:(110/10)
إن أعمال الحميري في إخراج الكتاب تذكرنا بالمثل (كاد المريب أن يقول خذوني)، فاحتاج إلى من يتابعه حتى لا ينفرد بالجناية، ولم يجد لهذا الأمر المهين سوى محمود سعيد ممدوح المصري، فكتب هذا مقدمة للكتاب (ص3-4)، الشاهد منها هو قوله إن صاحبه الحميري: "تحصّل على القسم المفقود من المصنف، وقد رأيتُه في مكتبته مخطوطاً، وقد وصف الشيخ المخطوط في تحقيقه بما يُثبت الثقة فيه.. فجزاه الله تعالى خيراً وأحسن إليه، وشرح صدره لكل عمل صالح، وهو جهدٌ يُشكر عليه، فلله درّه".
متابعة تامة في إثبات النسبة لعبد الرزاق، وأن المخطوط المزور ثبتت الثقة فيه، وأن عمل الحميري جهدٌ مشكور يُوافقه عليه! ولله درّه!!
من الممكن تصديق أن الحميري جاهل بالحديث ولا أسهل من انطلاء كتاب موضوع عليه، أما محمود سعيد ممدوح؟ فلا وربّي إن مثل ذلك لا يخفى عليه، كيف وهو يقدّس ويغلو في أشياخه الغماريين وآثارهم، وهناك رسالة مستقلة لشيخه عبد الله الغماري في إبطال حديث جابر في النور المحمدي، وأن نسبته لمصنف عبد الرزاق كذب؟!
كان على ممدوح أن ينأى بنفسه عن إسقاط نفسه وترويج هذا الكذب الصراح ونسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فضلا عن عبد الرزاق- مقابل ارتزاق دريهمات من ربِّه في العمل!!
وقد قال الإمام الشافعي -الذي يزعم ممدوح تقليده- عن حديث "من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين": إذا حدّثت بالحديث فيكون عندك كذبا ثم تحدّث به فأنت أحد الكاذبين في المأثم.(110/11)
ولا يخفى ممدوح(1) ما هو مأثم الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صاحبُه الحميري، ولكنه الهوى المُردي والإغراق في الضلال، والعياذ بالله.
نسأل الله أن يعصمنا من الهوى والضلالة، وأن يحفظنا من الموبقات والمهلكات، وأن يرزقنا اتباع السنّة والعمل بها ونصرتها، إنه سميع مجيب.
كشف علل المخطوط على ضوء ما ذكره الحميري نفسه:
كنتُ قد بيّنتُ كذب المحطوط عبر القرائن في كتابتي الأولى، وذلك قبل علمي بالمعلومات المفصّلة من الشيخ الكمداني التي فيها النص والتصريح بحاله، ومع ذلك فأرى من الضرورة إثبات القرائن التي ذكرتُها مع بعض التنقيح، لأنني لا آمن من مجرمين مثل الحميري وممدوح أن يكذّبا الشيخ أديب فيما ذكره، ويستخدما شتى ضروب التلبيس والتدليس في دعم جريمتهما، فمن استحل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواطأ عليه فلا يُستبعد عليه إطلاقا الكذب على الناس، وقد رأيتُ بعض ذلك من محمود سعيد ممدوح -على الأقل- في بعض حواراته في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، فهذه القرائن ذكرتُها على ضوء ما أورده الحميري نفسه في كتابه!
أقول مستعينا بالله:
أولاً:
__________
(1) ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، فبعد أن كان محمود سعيد ممدوح متتلمذاً مستفيداً من كتب الإمام الألباني، مُشتغلا بالسنة: بدأ معه الانحراف لغلوه في الغماريين، ثم زاد معه الانحراف، إلى أن صار يتملق لشتى أهل الأهواء، حتى أصبح ظهيراً للقبوريين والخرافيين والشيعة، ومن آخر ذلك هذا المصنف مع سيده الحميري، وكتابه (غاية التبجيل) الذي ألّفه نفاقاً لبعض المنتسبين لآل البيت، وخلص فيه لتفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع! نسأل الله الهداية والعافية.(110/12)
إن تفرد نسخة الكتاب ما بين قادرية الهند والحميري كافٍ للتشكيك بمصداقية الكتاب، لأن طائفة القادرية هناك (وهي البريلوية) من غلاة الطرقية الذين يعتقدون ويدعون لأولية النور المحمدي، ولما عرضتُ الكتاب على الشيخ المحدّث المحقق عبد القدوس محمد نذير الهندي قال: ما دام الكتاب خرج من عند قادرية الهند فلا شك أنه من عمل أيديهم، فهم يمتحنون الناس في هذه المسألة عندنا، وهي من أسس دعوتهم واعتقادهم، ومن أبرز ما يخالفون فيه، هم وأصحاب الطريقة الجشتية.
قلت: هذا الاعتقاد الردي يشاركهم فيه الحميري، فقد سوّد كتاباً مستقلاً في هذا الشأن أحال عليه في مقدمة الكتاب وتعليقاته المظلمة مراراً، بل صرّح أنه لم يدفعه لإخراج الكتاب إلا هذه المسألة.
ومن العجب تتبعه لهذا الحديث مع تضافر أسياده قبل غيرهم على أنه كذب!
وصدق شعبة إذ قال: لا يجيء الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ.
وإنني أؤيد كلام الشيخ عبد القدوس في أن واضعه هندي معاصر، لما سيأتي.
ثانياً:
إن المخطوط مزور، وليس من كتابات القرن العاشر -وإن كُتب عليه ذلك، وجاهد الحميري لتثبيته- فمن الواضح للعارف أن كاتبه خطاط معاصر هندي، وخطه من جنس خطوط الطبعات الحجرية في القرن الماضي في الهند، وطريقة كتابة الحروف تؤكد ذلك، مثل الياء آخر الكلمة (مثل كلمة الزهري)، وكلمة (الطاؤس)، و(الملئكة)، هذا في الصفحة الأولى التي أوردها الحميري (ص18) ويمكن النظر فيها في النموذج المرفق.(110/13)
وفي الصفحة الأخيرة التي أوردها الحميري (ص22): تلاحظ كتابة الهاء آخر الكلمة (مثل: مثله، الآية، عليه)، والحاء المقطوعة آخر (نجيح)، والغين المقطوعة آخر (الفراغ)، وهذه هي الطريقة الشائعة في الكتابة عند الهنود، ومن عنده مصحف من تلك المصاحف الباكستانية والهندية التي كانت منتشرة قبل اشتهار نسخة عثمان طه سيشاهد الخط نفسه، وقال لي الشيخ عبد القدوس نذير الهندي لما رأى الخط: هذا خط هندي معاصر. وكذلك قال لي الشيخ عمر بن سليمان الحفيان -وهو درس ماجستير علم المخطوطات في معهد المخطوطات في القاهرة- وغيرهما.
أما الحميري فأراد صرف النظر عن ذلك بالتأكيد أن ذلك الخط هو خط القرن العاشر، وأورد ثلاث نماذج لذلك، ولا يسلّم له ذلك إطلاقا، فالمخطوط كُتب بخط مقارب بين النسخي والثلث، وكاتبه خطاط، وغاية الأمر أن النماذج التي أوردها مكتوبة بخط نسخي وكتبها خطاطون أيضا، فلا غرابة أن تتشابه بعض طريقة الكتابة والخط مقارب على يد خطاطين يمشون على القاعدة، ولكن يرد عليه أن الخط النسخي قد استقرت قواعده على يد حمد الله الأماسي (ت922)، الذي قام بإدخال الإصلاحات النهائية على خطي النسخ والثلث فأضفى عليهما جمالاً باهرًا هو ما نشاهده هذه الأيام، ومع نهاية هذا القرن أصبح الخط مستقرًا، وعليه فإن خطوط القرن العاشر في النسخ والثلث لا تختلف عن خطوطنا نحن اليوم، فلماذا يتحكم الحميري في أن خط المخطوط هو خط القرن العاشر فقط؟
ثم لدينا نماذج كثيرة جدا من خطوط ذلك القرن ليست بالخط النسخي ولا الثلثي أصلا ولا تشبه الخط بتاتاً، فماذا يقول عنها؟
فكان على الحميري أن يكتفي بذكر تاريخ النسخة المثبت بآخرها ويسكت عن دعوى المقارنة ما دام أنه يثق في نسخته، إلا أن علمه بأن فيها ما يريب حمله على ما فعل!(110/14)
• هذا ما كنتُ سطّرتُه في كتابتي الأولى، أما الآن فقد تبين أن المخطوط حديث النسخ، أفاد الشيخ الكمداني أنه رآه بورق حديث وخط طري! وأنه لما طولب واضعه الهندي بأصل نسخته أفاد أنه استنسخها من مكتبة بالاتحاد السوفييتي، وأنها احترقت! فبطل أمر المخطوط أصلاً، وبان كذب ما جاء فيها أنه نُسخت سنة 933 في بغداد!!
ويأتي مزيد أدلة على أن الواضع هندي عند الكلام على متون الكتاب.
وهذه صورة المخطوط المزعوم:
ثالثاً:
أما إتقان الناسخ فادعاء غير صحيح، ولا يصدَّق الحميري في زعمه ونقله بشكل عام؛ وفي هذا خصوصاً، وأمامنا من نسخته -التي زعمها متقنة- صفحتان مصورتان فقط، وأربعون حديثا هي عدد أحاديث المطبوع، وبغض النظر عن مسألة الكذب نجد في الحديث الأول أنه أخطأ في اسم الصحابي الشهير السائب بن يزيد رضي الله عنه، فكتبه ابن زيد، وفي الحديث الثاني قال ابن جريج (من أتباع التابعين): أخبرني البراء الصحابي! فأين الإتقان وهذه البداية؟
ومن أدلة قولي إن الحميري لا يصدّق في نقوله أنه يغيّر ما في المخطوط (المتقن بزعمه) من عنده! ففي الصفحة الأولى من المخطوطة التي أوردها (ص18): (فسجد خمس مرات، فعُبِّدت علينا تلك السجدات)، فكتبها الحميري في المتن (ص53): (خمس مرات، فصارت علينا)، ولم يُشر إلى تغييره! لعله إخفاء لعُجمة التركيب في الأصل! وعلى كل حال فهذه خيانة في التحقيق لم يظهر لنا منها إلا من القدر اليسير الذي أظهره، فكيف بما خفي علينا ولم يورده؟!
وفي حديث جابر في النور (رقم 18) غيّر من أصله المتقن (؟!) وأثبت من نقل قدوته وإمامه محيي الدين بن عربي الحاتمي للحديث!
وفي أول الكتاب وضع عنواناً من عنده: كتاب الإيمان! ولا أصل لذلك لا واقعاً ولا عقلاً، فمتى سمع الناس أن مصنفا يذكر (كتاباً) فيه (باب واحد) فقط، وهو باب تخليق نور النبي صلى الله عليه وسلم؟! ثم هذا محله لو كان يفهم في كتاب الشمائل، لا الإيمان!(110/15)
كما أن الحميري أقل من أن يفهم معنى الإتقان، وهو يقول عن سند ابن جريج أخبرني البراء (ص55): ابن جريج حافظ ثقة، وكان يدلس، وقد صرّح هنا بالإخبار؟!
وله أمثلة أخرى من تعليقاته الصارخة بجهله في العلم، فأنَّى يصدَّق في ما يدّعيه؟ والنسخة إنما هي عنده وليست في مكتبة عامة؟ ورفض تصويرها لمن هو قريب منه، فكيف لأعدائه؟
فضلا أن القدر الضئيل الذي أخرجه من الكتاب مليء بالأخطاء في النص كما يذكر الحميري نفسه في تعليقاته! ولله في خلقه شؤون.
رابعاً:
ومما يدل على عدم الثقة في النسخة أنه لا سند لها ولا سماعات عليها، بخلاف المفترض لكتاب كهذا، مع أن الناسخ لما كتب الكتاب كتبه على الطريقة التي ينبغي فيها وجود سند، لأنه يقول عند كل حديث: عبد الرزاق، عن فلان وفلان، ولو كان نسخاً مجرداً للكتاب لما احتاج أن يذكر عبد الرزاق في كل إسناد.
• كما أن في النسخة تسمية الناسخ إسحاق بن عبد الرحمن السليماني، وأنه كتبه في بغداد سنة 933 من هجرة سيد المرسلين وأكمل الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم في بغداد المحروسة.
فأقول: لم تجر العادة بالنص على التأريخ الهجري إلا في آخر أيام الخلافة العثمانية، لما بدأ ينتشر تأريخ النصارى، وإلا فقد كان المعتاد أن يكتب التاريخ مجردا عن الإضافة للهجرة، ولهذا الموضوع كلام طويل نبّه عليه الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله، ومن بعده المشايخ: عبد الرحمن الباني، ومحمود شاكر المؤرخ، وبكر أبوزيد حفظهم الله، وغيرهم.(110/16)
• وكذلك فإن من الغريب أن يُكتب المصنف ببغداد -في ذلك الزمان- وقد اندثر فيها علم الحديث وندر من يطلبه، بل وقد مضى ثلاثة قرون على ذهاب غالب مكتباتها على يد التتار، ومن المؤشرات على غرابة وجود المصنف في بغداد وقتها أن مسنِد بغداد السراج القزويني (ت750) في مشيخته الحافلة لم يذكر المصنَّف ضمن مروياته، وإنما ذكر روايته لسنن عبد الرزاق (ص412) من رواية الطبراني عن الدبري عنه، وهذه غير المصنف، بل هو كتاب من تأليف الطبراني كما في المنتخب من معجم شيوخ السمعاني (1/587)، ورواه القزويني بالإجازة لا بالسماع.
فإذا كان هذا حال المصنف ببغداد في القرن الثامن وفيها بقية اشتغال بالحديث، فكيف بالقرن العاشر؟
وغالب كتب السنة المتخصصة التي وصلتنا إنما نُسخت قبل ذلك الوقت، ولم تعد تُنسخ إلا نادراً.
• ثم هنا تساؤلات عن الناسخ، وأين ترجمته، وما حاله؟ كل ذلك لم نجد له جوابا إلا أنه غير متقن! ولو وجد الحميري ترجمة له لأتى بها، فإنه كان في أمس الحاجة إلى ذلك!
• ولنا وقفة في كون ناسخ هذا الكتاب المتخصص خطاطا! فالخطاطون كانوا يكتبون المصاحف ودواوين الشعر وكتب الأدب التي لها طابع شعبي ويهتم باقتنائها الأمراء والأغنياء عمومًا، لذا قد نجد نسخا مخطوطة من صحيح البخاري أو مسلم كتبها الخطاطون ومعروف اهتمام عامة الناس بالصحيحين، بل قد تُقتنى للبركة، أما كتب العلم المتخصصة مثل كتب أصول الفقه والحديث فلم يكن يكتبها إلا طلبة العلم، ولهم طريقة في الكتابة تختلف عن طريقة الخطاطين والوراقين، فقد كان «الخط يوصف بالجودة إذا خرج عن نمط الوراقين» [أدب الكتاب ص50]، وكذلك كانت نُسخ الخطاطين والوراقين تمتاز بأحجامها وتباعد أسطرها وكلماتها، بخلاف النسخ التي كتبها طلبة العلم والعلماء؛ إذ يُحرَص على تراكب الكلمات وتراص السطور كي لا يستطيع أحد أن يدس كلمة أو يعبث بالمخطوط (نحو علم مخطوطات عربي ص69).(110/17)
إذا تقرر هذا نقول: إن هذا المخطوط كتبه خطاط بلا شك، وليس هو من المخطوطات التي يحرص الخطاطون والوراقون على استنساخها، بل ينسخها أهل الحديث المعنيون بها ولهم نمط في الخط طريقة في الكتابة يختلف عن غيرهم، وكل هذه الأمور لا نلحظها في هذه النسخة المُدعاة.
• وقد يقول قائل: ما ذكرتموه صحيح، ولكن ألا يمكن أن تكتب بعض المخطوطات على خلاف الأصول التي ذكرتموها؟
نقول: ممكن أن يقع الاستثناء في أمر أو أمرين، أما هنا فقد تضافرت أمور كثيرة من شأنها أن تضعف الثقة بهذا المخطوط المزعوم، وهي:
1- كتابة قيد الفراغ.
2- طريقة الكتابة.
3- نمط الخط.
4- جهالة الناسخ المزعوم (إن كان له وجود أصلاً).
5- تفرد بتأدية هذا المخطوط المزعوم إلينا رجل ينتسب إلى طائفة هندية منحرفة أشد الانحراف في مسألة الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن جل الأحاديث المنقولة فيه مما يؤيد بدعته وغلوه، والراوي عنه (الحميري) حاله قريب منه، فالإسناد مسلسل بِـ.....
6- أسانيد الأحاديث ومتونها، وتأتي.
فكل هذه قرائن تزيد من وهن الكتاب الخالي أصلا من أدنى مقومات التوثيق، وقضية التأريخ الهجري تجعلني اطمئن أكثر أنه وُضع في عصرنا الحالي(1).
خامساً:
بدأ الكتاب في هذه النسخة الموضوعة هكذا: باب في تخليق نور محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف الحميري قبله (كتاب الإيمان) من عنده، ثم بدأ كتاب الطهارة، فهل واقع مصنف عبد الرزاق كذلك في التبويبات؟
__________
(1) هذا ما كنتُ كتبتُه أولاً، ثم تبيّن صدق حدسي بعد شهادة الشيخ الكمداني وفقه الله، وتبيّن أن النسخ المدعى كان ما بين الهند والاتحاد السوفييتي! ولا شأن لبغداد بذلك، ولا القرن العاشر!(110/18)
إن المعلومات التي لدينا تشير إلى أن الباب الأول مفترى جملة وتفصيلاً، فالظاهر أن المصنَّف (الحقيقي) يبتدئ بكتاب الطهارة، فقد نص في كشف الظنون أن الكتاب مرتب على أبواب كتب الفقه، وهي تبدأ بالطهارة، ولما نقل ابن خير الإشبيلي في فهرسته (ص129) عن الحافظ أبي علي الغساني تسمية أبواب المصنف في رواية ابن الأعرابي عن الدبري للكتاب بدأ بكتاب الطهارة، وسرد أبواب الكتاب، وليس فيها كتاب الإيمان ولا ما يمكن أن يدخل تحته باب تخليق نور النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجد أحداً عزا هذين الباب أو الكتاب لعبد الرزاق على مدى الزمن.
سادساً:
صدّر الحميري الكتاب بقوله: "إسنادي إلى مصنف الإمام عبد الرزاق الصنعاني".
وساق سنده بالإجازة، وتصرفه هذا فيه إيهام من لا يعرف الشأن بأن الكتاب الذي بين أيدينا متصل السند، وفيه تغرير بثبوته، وليس كذلك! ولا سيما أن الكتاب موجه في الغالب إلى أمثال الحميري من عوام مشايخ الطرق الذين لا شأن لهم ولا بصر في الحديث.
ومع ذلك فقد وقع الحميري في عدد من الأخطاء والملاحظات في سنده، تدل على جهله حتى في هذا الرسم!
فقد ساق السند من طريق مجيزنا الشيخ عبدالفتاح أبوغدة رحمه الله عن الكوثري، عن عبد الحي الكتاني.
وهذا الحميري لعله يجهل أن شيحه يروي عن عبد الحي الكتاني بلا واسطة! لكنه الغرام بالكوثري إمامه في التلبيس والتدليس ومحاربة السنة!
ومن المشين أن يروي الكتاب عن الشيخ أبي غدة وهو ممن يرى وضع حديث النور! ورفض إخراج الأربعين العجلونية لوروده فيه!
كما روى الحميري عن مجيزنا الشيخ عبد العزيز بن الصديق رحمه الله ونسبَه حُسينياً! وهو حسني! عن عبد الحي بن عبد الكريم (!) الكتاني، وهو ابن عبد الكبير.
وجعل الرواية عن عبد الله بن سالم البصري على (كذا) الزيادي، وهو يريد: علي الزيادي، وبينهما مفاوز! وعليه فسند الحميري ضعيف لانقطاعه! فضلاً عن أوهام صاحبه.(110/19)
وحرّف عبد الوهاب بن منده إلى ابن منك!
وجعل ابن منده (أو ابن منك في رواية الحميري!) يروي المصنف عن محمد بن عمر الكوكبي عن الطبراني، وهذا غير دقيق، فقد رواه ابن منده عن الكوكبي، وعن أبي بكر محمد بن محمد بن الحسن الفقيه، وعن أبي عثمان سهل بن محمد، سماعاً على ثلاثتهم ملفقاً، عن الطبراني.
أما مسألة تفصيل السماع من الإجازة، ومسألة تحديد روايات قطع محددة من المصنف لم تقع من رواية الدبري عن عبد الرزاق فهذه أمور لا يكلّف بها من هو في مستوى الحميري بالرواية، والله أعلم.
وإزاء عدم ثبوت هذا الجزء المنسوب لمصنف عبد الرزاق، وتفرد الحميري بروايته فينبغي أن يطلق عليه (مصنف الحميري)، والله أعلم.
* * *
وبعد الكلام على المخطوط المزعوم يأتي الكلام على أسانيد ومتون النسخة، والله المستعان، وعليه التكلان.
الكلام على وضع متون وأسانيد النسخة
إن صاحب الحديث المتأمل في النسخة يراها جميعها ما بين إسناد مركب أو متن موضوع.
والواضع المجرم لم يأخذ في حسبانه مسألة هل تجيء الأسانيد كما ذكر؟ ولا مسألة التخريج والمتابعة، وفاته أنه لا يمكن أن يُروى حديث عن الزهري مالك ومعمر وأمثالهم؛ دون أن يكون مسطوراً معروفا في كتب السنة الأخرى، فضلا أن يتفرد عبد الرزاق في القرن الثالث بحديث فرد لا يرويه غيره، فضلا أن حديث عبد الرزاق منتشر مشتهر في الكتب، واستوعب حديثه أمثال الإمام أحمد والطبراني وغيرهما، وما علم أن الحافظ الثقة عبد الرزاق -أو غيره- لو كانت هذه الأسانيد والأحاديث من مروياته حقاً لحكم عليه الحفاظ بالكذب لا الثقة! وأن حديث النور لوحده لو ثبت عن عبد الرزاق لأسقط حديثه كله!
فركّب هذا الوضاع الجاهل الأسانيد كيفما اتفق، واكتفى بمجرد ظن المعاصرة، فكان كشف كذبه سهلا ميسورا ولله الحمد.(110/20)
هذا عن الأحاديث المروية متونها، أما ما كان غيرها فقد تبيّن أن واضع النسخة أخذ ستة مواضع من الصلوات والأحزاب التي أوردها الجزولي في كتابه دلائل الخيرات، ووضع لها أسانيد عن الصحابة والتابعين وأتباعهم! ويأتي تفصيل ذلك.
وجاء الحميري ليتابع الواضع في كل مفترياته عمداً! ولم ينبه على شيء من ذلك لئلا يُفسد عليه نشوته ومقصوده بإخراج مصنفه المكذوب.
ولن أتتبع جميع أحاديث الكتاب الأربعين، لأنها كلها مركبة: إما الإسناد أو المتن، ولكن أكتفي بالأمثلة الواضحة على الوضع والكذب، وهي تدل على البقية من أخواتها.
اختلاق المتون:
وقبل الكلام عليها ينبغي التذكير أن هذا الحميري قد سوّد في مقدمته الصفحات مؤكدا أن النكارة والركاكة في المتن لا تقتضي وضع الحديث -لعلمه أن أحاديث نسخته كذلك!- محاولاً توعير الطريق على من سينقده ومصنَّفه الموضوع، وختم مقدمته بقوله (ص50): "فتحصل لنا أن الحكم على بعض الألفاظ بالنكارة صعبٌ للغاية، ولا يتأتى إلا للبزل من الرجال، فالصواب أن من استشكل لفظة فلا يسارع بإعلان النكارة، بل يتوقف ويسأل الله فإن فوق كل ذي علم عليم".
ويُجاب باختصار: ليس هذا عشك فادرجي! وليس جهلة الطرقية حجة ولا حكاما على أهل الحديث، ولو تُرك الأمر على ذوقهم وحسّهم للنكارة لما بقي حديث موضوع يوافقهم إلا صححوه! وأمامنا شواهد حية على ذلك في هذا الكتاب قبل غيره.
• وأولها الحديث الأول في النسخة: وهو عن معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، وهذه صورته من الكتاب:(110/21)
قلت: لا شك أن المسلم العاقل يندهش عند رؤية هذا الهذيان والسُّخف منسوباً للنبي صلى الله عليه وسلم، نعم، لم تأت النسبة مرفوعة صراحة في الكتاب، لكنها مرفوعة حُكْماً، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة فيها، فلا يُقال إنها من الإسرائيليات، والصواب إنها من الهنديات! فالمتن بخيالاتهم وأدبياتهم أشبه، والركاكة والتراكيب الأعجمية واضحة جداً في المتن، وهذا الواضع الجاهل ما عرف كيبف يستر تأخره، وإلا لغيّر تسمية المهن المتأخرة، مثل الرمّاح، والسيّاف، والجلاد، والطرّاز!
وبالطبع فلم يعلّق عليه الحميري حرفاً واحداً، كذلك لم يخرّجه، لماذا؟ لأنه لا يمكن لبشر تخريج هذا الهراء أصلا! حتى من كتب الموضوعات في الحديث! ولو أراد لما وجد شاهداً إلا حديث عرق الخيل الذي لا يجهله الحميري الكوثري!
وقد وجدت الإشارة إلى مطلع هذا الحديث في بعض كتب الرافضة المتأخرة دون إسناد ولا ادعاء أنه حديث!
فهذا مثال لما يجب أن لا يَحكم بنكارته إلا البزل من الرجال؛ كما يقول الحميري! وهذا أول ما في النسخة التي أثبت هو ومتابعُه محمود سعيد ممدوح ثقتها!
• وهذا الحديث الرابع (ص56) هكذا: عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، أن ابن عباس قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه [في المطبوع: ضوءه، وهو يعكس المعنى!] ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه [في المطبوع: ضوءه أيضا!] ضوء السراج.
قلت: هذا المتن ليس له أصل مرفوعاً، وإنما يذكره المتوسعون في كتب السيرة والخصائص المتأخرة التي يجمع مؤلفوها بين الثابت وما لا يثبت والموضوع وما لا أصل له!(110/22)
وهذا السيوطي على سعة اطلاعه لم يجد له مخرجاً في الخصائص الكبرى (1/122 العلمية) سوى أن قال: أخرج الحكيم الترمذي من طريق عبد الرحمن بن قيس الزعفراني، عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد، عن ذكوان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى له ظل في شمس ولا قمر ولا أثر قضاء حاجة.
فهذا غاية ما أُسند في الباب، وهو كعدمه، ففيه على إرساله عبد الرحمن الزعفراني، وقد كذّبه ابن مهدي وأبوزرعة وصالح جزرة، وتركه بقية الحفاظ، وشيخه لم أميّزه، وكذا ذكوان، فضلا عن جهالة الوسائط بين الحكيم الترمذي والزعفراني! بل يكفي أن الحكيم تفرد به ليكون غير ثابت حتى على مذهب السيوطي (كما في خطبة الجامع الكبير)، على تساهله المعروف في التضعيف!
فهذا أعلى ما في الباب، ثم يجيء في آخر الزمان من يضع له هذا الإسناد المرفوع الذي ظاهره السلامة؟!
وإنما قلت: ظاهره السلامة لأنه لم تثبت لنافع مولى ابن عمر رواية عن ابن عباس من وجه صحيح، بل ذلك من جملة التركيبات الإسنادية التي تميز بها مصنف الحميري.
أما الحميري هذا فما صدّق أن صحح إسناد كتابه الموضوع حتى بدأ يرد على (البزل من الرجال) ويفوح من فمه ما لا يُقال، فقال (ص57): "فتضعيف الألباني للرواية ليس بجيد، وتعليل الهراس تعليل ساقط يؤدي بالمرء إلى الكفر والعياذ بالله، عافنا (كذا) الله من سوء السرائر وظلمة الضمائر".
قلت: الذي قد يؤدي بالمرء إلى الكفر هو تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإصرار على ترويجه ودسّه بين الناس مع العلم به، عافانا الله من سوء السرائر وظلمة الضمائر!
علماً أن الحميري عزاه لموضع آخر في الخصائص الكبرى حيث لم يُبرز السيوطي إسناد الحكيم الترمذي، ولعل ذاك لئلا تظهر علل الإسناد! وهكذا يكون التدليس!
من التراكيب الأعجمية والمتأخرة، وهي داخلة في اختلاق المتون:
• الحديث رقم (7) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس وجها وأنورهم لوناً.(110/23)
هذه الصيغة ليست عربية! فاسألوا عنها بريلوية الهند!
• ومثلها الحديث رقم (9) عن سالم بن عبد الله عن أم معبد أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان أحلى الناس وأجمله من بعيد، وأجهر الناس، وأحسنه من قريب.
علما أن الوضاع لم ينتبه -وكذا من روّج له- إلى أن رواية سالم عن أم معبد تركيب لا يصح، بل لم يدرك سالم أم معبد أصلا.
وحديث أم معبد لا يُروى بهذا الإسناد، ومتن روايته المطولة: "أجمل الناس"، كما يعبّر العرب.
• وفي رقم (10) عن ابن جريج قال: كان البراء يكثر من قول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله بحر أنوارك ومعدن أسرارك!
من الظاهر أن ثقافة الواضع متأثرة بالأحزاب والأوراد الصوفية المتأخرة، فهذا الحديث وما بعده أخذه الواضع من دلائل الخيرات للجزولي، كما سيأتي!
كما أن الصلاة على الآل غريبة عن الصحابة والصدر الأول خارج جلسة التشهد!
• وفي رقم (11): عن الحسن أنه قال: من يُكثر من قول "اللهم صلِّ على من تفتّقت من نوره الأزهار" زاد ماء وجهه!
لا شك أن واضعه الرقيع كان بحاجة إلى زيادة ماء وجهه فاخترع هذا الأثر!
• وفي رقم (12): عبد الرزاق أخبرني ابن عيينة عن مالك أنه كان يقول دائماً: اللهم صل على سيدنا محمد السابق للخلق نوره.
يلاحظ أن الواضع بدأ يندمج أكثر مع ثقافته في الأحزاب والأوراد، وتعبير (يقول دائما) و(سيدنا) غريبان عن الصدر الأول! أما قوله السابق للخلق نوره فهو تأييد للباطل الذي من أجله وُضع الكتاب وأُخرج!
• وفي رقم (13) عن سليمان بن يسار، قال: علمني أبوقلابة أن أقول بعد كل صلاة سبع مرات: اللهم صل على أفضل من طاب منه البخار (كذا في المخطوط المتقن! وصوبها الحميري إلى: النُّجار)، وسما به الفخار، واستنارت بنور جبينه الأقمار، وتضاءلت عند جنود (كذا، وجعلها الحميري: جود) يمينه الغمائم والبحار.
تركيبة تنادي على نفسها بالوضع!(110/24)
• ومثلها رقم (14) عن ابن جريج: قال: قال لي زياد: لا تنس أن تقول بالغدوة والآصال: اللهم صلِّ على من منه انشقت الأنهار (؟!)، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم.
كأن زياد بن سعد هنا من فلاسفة الطرقية!
• وفي رقم (15) معمر عن ابن أبي زائدة عن ابن عون، قال: علمني شيخي أن أقول ليل نهار: اللهم صل على من خلقت من نوره كل شيء!
فضلا عن المعنى الفاسد الذي اخترع الكتاب لأجله ونُشر: فالواضع يظن ابن عون من قادرية الهند حتى يعبّر قائلا علمّني شيخي! ثم تأمل في عبارة (أقول ليل نهار) وانظر إن كنت تجد مثله في الصدر الأول!
وزعم الحميري في تعليقه أن ابن أبي زائدة هو يحيى -هكذا خبط عشواء- بينما الذي يروي عنه معمر هو زكريا والد يحيى!
• وفي رقم (16) عن سالم أنه قال: علمني سعيد بن أبي سعيد أن أقول دوماً: اللهم صل على كاشف الغمة، ومجلي الظلمة، ومولي النعمة، ومولي الرحمة.
لا جديد: سجعات المتأخرين! وطريقة طرقية العجم في التعليم: علمني أن أقول دوماً!
وغني عن الذكر أن الآثار من (10) إلى (16) لا أصل لها عن أصحابها، بل هي من تفردات مصنف الحميري الموضوع.
• وهنا مثال طريف بسند نظيف، بل قيل فيه إنه أصح الأسانيد! ففي رقم (17): معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنه قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بعيني هاتين، وكان نورا كله، بل نورا من نور الله، من رآه بديهة هابه، ومن رآه مراراً أحبه أشد استحباب!
وهذا الهندي واضع الحديث أثَّرت عليه عجمته، وكأن لم يقرأ في القرآن العربي المبين: (والذين آمنوا أشدُّ حباً لله)!
أما الحميري فقال: إسناده صحيح!
حديث النور المحمدي:
نأتي لموضع الشاهد الذي لأجله أتعب الوضاع نفسه وعرّضها لمقعد النار، وهو رقم (18): عن معمر، عن ابن المنكدر، عن جابر، قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقه(110/25)
وهذا حديث باطل لا أصل له، لعن الله واضعه، وفيه ما هو مصادم لعدة نصوص صريحة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة في الخلق وغيره، وليس في شيء من كتب الإسلام مسنداً.
• وكان مبتدأ أمر الحديث عند متقدمي الإسماعيلية الباطنية، ففي كتبهم القديمة الكثير من الأحاديث المكذوبة في أن النبي صلى الله عليه وسلم وعليًّا من نور الله، وأن الشيعة (يقصدون أنفسهم) منهما. (انظر أصول الإسماعيلية للدكتور سليمان بن عبد الله السلومي 2/459)
وممن ذكر أصل الحديث قريباً منه علي بن محمد بن الوليد الإسماعيلي الباطني (ت612) في كتابه"تاج العقائد"(ص54 كما في رسالة العطايا) ولكن بلفظ آخر وهو: "إن الله تعالى خلقني وعليّ نوراً بين يدي العرش، نسبح الله ونقدسه قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما خلق آدم أسكننا في صلبه، ثم نقلنا من صلب طيب إلى باطن طاهر، لا تحتك فينا عاهة، حتى أسكننا صلب إبراهيم، ثم نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية، لا يمسنا عار الجاهلية، حتى أسكننا صلب عبد المطلب، ثم افترق النور من عبد المطلب ثلاثاً، ثلثان في عبد الله، وثلث في أبي طالب، فخرجتُ من ظهر عبد الله، وخرج عليٌّ من ظهر أبي طالب، ثم اجتمع النور مني ومن علي في فاطمة، فخرج منها الحسن والحسين، فهما نوران من نور رب العالمين"!(110/26)
• ثم تلقف حديثَ الباطنية هذا: ابنُ عربي الحاتمي الأندلسي صاحب وحدة الوجود (ت638) -وهو باطني النظر في الاعتقادات كما قال تلميذه وبلديُّه الحافظ ابن مُسدي- وأورده بلفظه المطول في تلقيح الأذهان (كما في إرشاد الحائر، وخرّجه الحميري من مخطوطة التلقيح 128/أ) وفي الفتوحات المكية (1/119 كما في رسالة العطايا)، قال عبد الله الغماري في إصلاح أبيات البردة (75): "وأول من شهر هذا الحديث ابنُ العربي الحاتمي، فلا أدري عمّن تلقّاه! وهو ثقة(1)، فلا بدَّ أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه".
__________
(1) كذا قال الغماري! ولا أدري من أين جاء بالتوثيق؟! فقد ترك الأئمةُ الرواية عن ابن عربي (كما ذكرتُ في كتابي فتح الجليل ص391)، وثبت أن سلطان العلماء العز ابن عبد السلام كذّبه، كما كذّبه جماعة من العلماء في ادعائه الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخراج كتابه (سرد فتاويهم التقي الفاسي)، وثبت كذب ابن عربي في ادعاء الرواية عن بعض شيوخه، مثل أبي الخير الطالقاني، واتُّهم في غيره، كأبي الحسن بن هُذيل، وعبد الحق بن عبدالرحمن الأزدي، والحافظ السِّلَفي، بل أبعد ابن عربي فادعى الإجازة من ابن عساكر -وقد توفي سنة 571 قبل السِّلفي- ومعلوم أن هذا متشدد في الإجازة، ولم نقف من إجازاته إلا على النادر جدا، وغالب مؤلفاته تُروى عنه بالسماع، ولذلك لم يُذكر أنه أجاز أهل عصره، وابن عربي ما رحل من الأندلس للمشرق إلا سنة 598 كما ذكر ابن النجار، فأنّى أخذ منه؟ ولهذا وغيره تُرجم ابن عربي في الميزان، واللسان.
ثم حديث النور هذا لم يُسبق إلى سياقه، وفيه اصطلاحات صوفية كما قال الغماري، فالظاهر أن ابن عربي علته دون غيره.(110/27)
• ثم سرى الحديث في كتب التصوف والتشيع والسيرة المتأخرة دون إسناد طبعاً! وغاية الأمر أن أحد المتأخرين ممن لا تحقيق له في الحديث نسبه من رواية عبد الرزاق خطأ (على أحسن الظن)، وأقدم من وقفتُ عليه عزاه له: القسطلاني في المواهب اللدنية (1/46) -بينما ذكر الغماري أن السيوطي عزاه له في الخصائص، ولم أهتد له فيه- وسواء كان هذا أو ذاك، فهما توفيا في القرن العاشر، ولم يذكرا إسناد عبد الرزاق.
ثم جاء العجلوني في القرن الثاني عشر وعزاه في كشف الخفاء (1/311) وفي الأوائل الأربعين (19) لعبد الرزاق، ونصَّ في الأربعين أنه لم يقف على إسناده تبعاً للقسطلاني؛ الذي ذكره بلا سند.
ثم تناقل المتأخرون هذا العزو بعضهم من بعض دون نظر ولا تحقيق؛ حتى وصل الأمر إلى أسافل المجرمين فأحبوا أن يلفقوا جزءً يدسُّوه فيه وينسبوه للمصنف! فكان ذلك قصة ظهور مصنف الحميري هذا، والعياذ بالله.
علماً بأن بعض غلاة الطرقية سبقوا إخوانهم البريلوية في محاولة الخروج من هذا المأزق، فوضع أحد الشناقطة له إسناداً كما سيأتي! وجاء المدعو محمد البرهاني فعزاه في تبرئة الذمة (ص9 كما في رسالة العطايا) إلى عبد الرزاق في كتابه جنة الخلد!! ولا وجود لهذا الكتاب أصلاً!
• ولما صار الحديث متداولا في كتب السيرة وتلقفه غلاة المتصوفة والاتحادية؛ واعتقدوا ما فيه من الأباطيل: ألّف بعض أهل العلم محذرين من هذا الحديث المكذوب المصادم للنصوص، فمنهم:
الشيخ محمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي المدني في رسالته: تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق، وقد طُبعت بتقديم وموافقة سماحة الشيخ ابن باز.(110/28)
ومنهم الشيخ عبد الله الغُماري -شيخ محمود سعيد ممدوح الذي قدّم لمصنف الحميري- فألّف رسالة بعنوان: مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر، وقال فيه: "وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ، لأنه لا يوجد في مصنفه، ولا جامعه، ولا تفسيره.. وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا! فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر! وهذا كذب يأثم عليه. وبالجملة فالحديث منكر موضوع، لا أصل له في شىء من كتب السُّنّة".
وقال عبد الله الغماري في إصلاح أبيات البردة (75): "قال السيوطي في الحاوي: إنه غير ثابت. وهو تساهل قبيح، بل ظاهر الحديث الوضع، واضح النكارة، وفيه نَفَس صوفي، حيثُ يذكر مقام الهيبة ومقام الخشية، إلى آخر مصطلحات الصوفية.
والعجيب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق، مع أنه لا يوجد في مصنفه ولا تفسيره ولا جامعه، وأعجبُ من هذا أن بعض الشناقطة صدّق هذا العزو المخطئ، فركّب له إسناداً من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له.
فجابرٌ رضي الله عنه بريء من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهَّر هذا الحديث ابنُ العربي الحاتمي، فلا أدري عمّن تلقّاه! وهو ثقة، فلا بدَّ أن أحد المتصوفة المتزهدين وَضَعه".
وقال عبد الله الغماري في إرشاد الطالب النجيب إلى ما في المولد النبوي من الأكاذيب (ص9 و10): "بيان الأحاديث المكذوبة، منها وهو أشهرها حديث: أول ما خلق الله نور نبيك من نوره يا جابر، عزاه السيوطي في الخصائص الكبرى لمصنف عبد الرزاق، وقال في الحاوي في سورة المدثر من الفتاوى القرآنية: ليس له إسناد يُعتمد عليه. وهذا تساهل كبير من السيوطي، كنتُ أنزهه عنه.
أما أولاً: فالحديث غير موجود في مصنف عبد الرزاق ولا في شيء من كتب الحديث.
أما ثانياً: فإن الحديث لا إسناد له أصلا.(110/29)
وأما ثالثاً: فإنه ترك بقية الحديث، وهي مذكورة في تاريخ الخميس للديار بكري، ومن قرأها يجزم بأن الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء شخص فيلالي من ذرية الشيخ محمد بن ناصر الدرعي، فألف كتاباً سماه: (التوجيه والاعتبار إلى معرفة القدر والمقدار) وموضوعه الكلام على النور المحمدي، أتى فيه بطامة كبرى! حيث قال في أوله: ومن أدلة سبقيته وأصليته حديث الإمام عبد الرزاق في مصنفه الشهير، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم أحد أعلام المدينة، عن محمد بن المنكدر شيخ الزهري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر! إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، وذكر بقية الحديث.
وقد تعجبت من وقاحة هذا الشخص وجرأته، حيث صنع هذا الإسناد الصحيح لحديث لا يوجد في مصنف عبد الرزاق ولا غيره من كتب الحديث المسندة! وهذه جرأة غريبة تشبه جرأة الخوارج في وضعهم أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده في جهنم). فأجاب: نحن لا نكذب عليه، ولكن نكذب له؟! ولعل هذا الموريتاني يعتقد أنه كذب للنبي صلى الله عليه وسلم"!
فأقول: انظر إلى تضارب الكذابين، فذاك الشنقيطي اختلق له سنداً، وبينما وضع له الهندي صاحب الحميري سنداً آخر إلى ابن المنكدر! وكلا الكاذبين يصح عنه وصف الغماري بالوقاحة والجرأة!!(110/30)
وللغماري كلام كثير في تكذيب الحديث، منها في رسالته رفع الإشكال (ص45)، وله مقالات وردود متعددة حول الحديث في مجلة الإسلام المصرية سنة 1353، وإنما أطلتُ في نقل أقواله لأنه شيخ محمود سعيد ممدوح، ومقدّس عنده وعند الحميري، والأول يعرف كلامه ربما أكثر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأنا أتيقن أنه يعلم حال الحديث من شيخه على أقل الأحوال، لكنه كتم ذلك وتواطأ على ترويج الكذب نفاقاً ومداهنة لسيّده الحميري!
كذلك ألّف أبو عمر محمد العطايا رسالة موجزة عن الحديث.
• وأبطله قبلهم السيوطي في الحاوي في الفتاوي (الفتاوى القرآنية، آخر سورة المدثر 2/43 دار الكتاب العربي) وفي قوت المغتذي، ونص أنه لا سند له وأنه لا يثبت، ومعلوم سعة اطلاع السيوطي.
وضعّفه الشيخ ابن عجيبة المغربي في شرح الحكم العطائية (كما في تنبيه الحذاق)، وممن نص على بطلانه ووضعه وأنه لا أصل له: محمد رشيد رضا في الفتاوى (2/447)، وأحمد الغماري (المقدّس عند الحميري وممدوح) في مقدمة كتابه المغير (6 و7)، والعلامة الشقيري في السنن والمبتدعات (93)، وسماحة الشيخ ابن باز في مقدمته لتنبيه الحذاق، وفي مجموع فتاويه (25/130)، ومحدث العصر الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة (1/207 و741 المكتب الإسلامي، 1/258 و820 المعارف)، وعبد العزيز السدحان في كتابه تحت المجهر (66)، وعداب الحمش في كتاب النور المحمدي، وغيرهم.
بل إن بعض رفقاء الحميري وممدوح في أصول الاعتقاد يصرحون بكذب حديث النور، منهم عبد الله الحبشي الهرري، وحسن السقاف، والأخير ألف رسالة مفردة في إبطالها، وهي مطبوعة. (وشهد شاهد من أهله)!(110/31)
كذلك حدثني الشيخ المطلع الثقة أحمد عاشور المكي ثم المدني -حفظه الله- أنه لما أراد أن يقرأ الأربعين العجلونية على مجيزنا الشيخ عبد الله التليدي المغربي (من كبار أصحاب أحمد الغماري) توقف التليدي عند الحديث المنسوب لعبد الرزاق فيه، ورفض قراءتها وغضب، وقال إنه مكذوب.
وأخبرني عن أحد التلاميذ المقربين من مجيزنا الشيخ عبد الفتاح أبوغدة، أنه قال له: سألت الشيخ عبد الفتاح: لماذا حققت الأوائل السنبلية ولم تحقق الأوائل (الأربعين) العجلونية، مع أن تلك شامية من بلدك؟ فقال: أنا لا أخرجها وقد أورد فيها ذاك الحديث الموضوع، يعني حديث جابر.
• ومن العجائب أن يستدل الحميري بكلامٍ لأحمد الغماري (في حديث آخر) في أن أي حديث يُستنكر لا ينبغي أن يُحكم عليه بالوضع لمجرد ركاكة ألفاظه وغرابته، بينما أحمد الغماري ينص في هذا الحديث بالذات أنه موضوع لا يُشك في وضعه، وأنه مشتمل على ألفاظ ركيكة ومعاني منكرة، فهكذا يكون الهوى المعتاد من الحميري وجماعته!
ومن العار أن يروي الحميري مصنفه من طريق الشيخ عبد الفتاح أوغدة، وهو يعتقد بطلانه ووضعه.
ومن باب تبكيت الحميري وأضرابه: فإن هذا المتن لو لم يكن فيه نكارة فالإسناد إليه لا يُسلَّم بصحته، وإن كان رجاله ثقات، فقد قال إمام الشأن البخاري: ما أعجب حديث معمر عن غير الزهري، فإنه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح!
رواه البيهقي في شعب الإيمان (9/109 رقم 4477 السلفية)
• وللتنبيه، فقد ذكر بعض الناس لهذا الحديث شاهداً!(110/32)
وهو ما رواه البيهقي في دلائل النبوة (5/483)، فقال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن سِيْماء المقرئ، قدم علينا حاجاً، حدثنا أبوسعيد الخليل بن أحمد بن الخليل القاضي السِّجزي، أنبأنا أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.بلفظ: «لما خلق الله عز وجل آدم خيَّر لأدم بنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض، قرآني نوراً ساطعاً في أسفلهم. فقال: يا رب! من هذا؟ قال: هذا ابنك أحمد، هو الأول، والآخر، وهو أول شافع».
وعزاه السيوطي في الخصائص الكبرى (1/67 العلمية) لابن عساكر أيضا.
قلت: إسناده ضعيف.
وفضالة فيه لين على صدقه، ونص ابن المديني أن له مناكير عن عبيد الله، وهو شيخه هنا، وتفرُّد فضالة بالحديث في طبقته ومرتبته وعزة مخرجه يوحي بأن هذا الحديث منها.
وشيخ البيهقي له ذكر في المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور (1249) ولم أجد فيه جرحاً ولا تعديلا.
وبقية رجاله ثقات معروفون.
هذا عن حال الحديث رواية، أما دراية فمعنى الأول والآخر في الحديث يُستدل عليه بما أخرجه البيهقي قبله، وفيه: نحن الآخرون الأولون، نحن آخر الأمم وأول من يحاسب.
فهذا معناه -على فرض ثبوته- لا ما يزعمه غلاة المتصوفة من أولية النور المحمدي! وأين هو من ذاك الحديث المكذوب الطويل ليكون شاهداً له؟!
والله تعالى أعلم.
* * *
هذا؛ وبالإمكان التفصيل أكثر في الكلام على متون مصنف الحميري لو تتبعتها كاملة، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق كما أسلفت، وهذا ما ظهر لي خلال مراجعات أيام قلائل، فسبحان من يسّر فضح الكذبة والوضاعين!
من موارد واضع الجزء:(110/33)
هذه أربع مصادر رئيسية اعتمد عليها الوضاع في تأليف الجزء، ولو تسنى الدراسة المفصلة والتقصي لجميع الأحاديث لظهرت الموارد الأخرى، ولكن حسبنا كشف أهم ما ظهر منها:
أولاً: دلائل الخيرات للجزولي!
اقتطف الواضع منه ستة مواضيع، ثم جعلها آثاراً ذات أسانيد!
• ففي رقم (10): كان البراء يكثر من قول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله بحر أنوارك ومعدن أسرارك.
وهذه الصيغة بحروفها مأخوذة من الدلائل، فصل في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الحزب الثاني، يوم الثلاثاء، (ص20)!
• وفي رقم (11) كان الحسن يُكثر من قولك اللهم صلِّ على نت تفتقت من نوره الأزهار!
وهي كذلك بحروفها (ص23) منه!
• وفي رقم (12): اللهم صل على سيدنا محمد السابق للخلق نوره.
وهي في الدلائل، الحزب الثالث، يوم الأربعاء (ص26)!
وفي رقم (13) اللهم صل على أفضل من طاب منه النجار، وسما به الفخار، واستنارت بنور جبينه الأقمار، وتضاءلت عند جود يمينه الغمائم والبحار.
وهي في الدلائل أيضا، الحزب السابع، يوم الأحد (ص52)!
• وفي رقم (14): اللهم صل على من منه انشقت الأنهار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزلت علوم آدم.
هكذا في مصنف الحميري المطبوع، وهي في الدلائل، الصلاة المشيشية (ص56) انشقت الأسرار بدل الأنهار، وعنده زيادة وهي: وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق!
وقد فاتت الناسخ فلم يكنمل عنده السجع!
• وفي رقم (16): اللهم صل على كاشف الغمة، ومجلي الظلمة، ومولي النعمة، ومولي الرحمة.
هكذا في طبعة الحميري، وهي في الدلائل، الاحزب الثاني، يوم الأربعاء، (ص22) بلفظ: ومؤتي الرحمة.
ولعل نسخة الوضاع من دلائل الخيرات ليست جيدة، أو لعل عجمة هذا الوضاع أوقعته في التصحيف!
ومن نافلة القول أن الحميري يعلم بوجود هذه المفتريات في دلائل الخيرات، فتجده يخرّج (؟!) منها ويصحح أخطاء نسخته التي زعم إتقانها، فهل يبقى له عذر في عدم معرفة حال أحاديث مصنفه؟(110/34)
ثانياً: كتب ابن عربي الصوفي!
أخذ منه حديث أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر، فابن عربي أقدم من عُزي الحديث إليه فيما نعم، دون إسناد طبعاً! وقد ساق نفس اللفظ.
ثالثاً: بعض كتب الشيعة المتأخرة:
يدل عليها الحديث الأول الذي مطلعه: إن الله تعالى خلق شجرة ولها أغصان فسماها شجرة اليقين، ثم خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم في حجاب.
فذكر أغا بزرك الطهراني الشيعي في الذريعة إلى تصانيف الشيعة (5/163-164) من كتبهم: "695: الجنة والنار، لبعض الأصحاب، قال في أوله بعد الحمد المختصر: "إن الله خلق شجرة ولها أربعة أغصان سماها شجرة اليقين، ثم خلق نور محمد صلى الله عليه وآله في الحجاب" رأيتُ النسخة عند الشيخ عبد الكريم العطار آل الشيخ راضي الكاظمي في الكاظمية".
وجاء في مجلة تراثنا الشيعية (3/96) ضمن دليل مخطوطات مكتبة الحاج هدايتي في قم بإيران: مجموع فيه عدة رسائل كُتبت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، فذكروا منها: "كتاب خلق الأشياء (حديث – عربي) تأليف: (؟) أبواب قصيرة تجمع الأحاديث المروية في خلق الإنسان والملائكة والجنة والنار والموت وما يتعلق بأحوال الإنسان ما بعد موته، أوله: "الحمد لله رب العالمين.. أما بعد: اعلم أن الله خلق شجرة ولها أربعة أغصان فيقال لها شجرة اليقين".
لاحظ أن كلا المصدرين نقلا صدر الحديث الذي في مصنف الحميري بحروفه، وكلاهما دون إسناد، فجاء الوضاع فتلقفه وركّب له إسناداً نظيفا!
علماً أن هذه حديث جابر المزعوم تناقلته مجموعة من كتب الشيعة بطوله مستدلين به على عقائدهم أيضا!
رابعاً: مصنف ابن أبي شيبة:
احتاج له الوضاع ليأخذ متون أحاديث الطهارة، بينما تبرع من عنده بتركيب الأسانيد، ومشّى الحميري جميع ذلك!(110/35)
• فالحديث رقم (20) من الطهارة في التسمية للوضوء أخذ متنه وطرف سنده من مصنف ابن أبي شيبة (1/2 و3 السلفية) بحروفه، لكن سنده فيه من طريق كثير بن زيد، حدثني ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده.
فبعد أن أخذ الوضاع المتن من هناك احتاج لتأليف سند لهذا المتن، فجعله عن معمر، عن الزهري، عن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده.
هكذا فعل الوضاع الجاهل، لعله لعجمته ظن (ابن) بين عبد الرحمن وأبي سعيد الخدري: (عن)، فحذف ربيح بن عبد الرحمن، وجعل الزهري متابعا له، فوقع في خطأ مركّب! ويأتي مزيد تنبيه على ذلك.
• وهكذا الحديث رقم (21) أتى بلفظ ابن أبي شيبة لحديث سعيد بن زيد في التسمية حرفياً، لكن جعل له إسناداً من عنده لأبي هريرة، وهو بالطبع غير الأسانيد المروية عن أبي هريرة في الباب.
• وحديث رقم (22) جاء بلفظ ابن أبي شيبة (1/3) لحديث أبي سعيد الخدري في القول عند الفراغ من الوضوء، واخترع سندا من عنده.
وفات الوضاع أن عبد الرزاق رواه في مصنفه الحقيقي في موضعين (1/186 و3/378) ولكن بسند آخر عن أبي سعيد ولفظ مغاير!
• أما حديث رقم (23) فجاء كذلك بمتن أثر ابن أبي شيبة عن سالم أبي الجعد عن علي في القول عند الفراغ من الوضوء، أما السند فلعب فيه، والنقل حرفي!
علماً أن عبد الرزاق أخرج الأثر بلفظ وسند آخر عن سالم في مصنفه الحقيقي (1/186)!
• كذلك حديث (24) نقل المتن بحروفه من ابن أبي شيبة (1/4) لحديث عقبة بن عامر في الباب نفسه، أما السند فركبه عن الزهري عن عقبة بن عامر، وانشغل الحميري في الحاشية بالكلام عن إدراك الزهري لعقبة من عدمه!
وهكذا مجموعة من أحاديث الطهارة أُخذت متونها من مصنف ابن أبي شيبة حرفيا، مع أن بعضها رواه عبد الرزاق في مصنفه الحقيقي، ولكن بسند ولفظ مغايران! ولو كان الوضاع عنده بعض علم بالسنّة لنَقَل أسانيد عبد الرزاق وألفاظه، بيد أن حبل الكذب قصير! والكاذب يُحرم التوفيق!(110/36)
الكلام على الأسانيد:
أولا: الكذب الصراح فيها:
• من ذلك ما جاء في النسخة رقم (2) من قول ابن جريج: أخبرني البراء -الصحابي!
وهذا كذب، فابن جريج من أتباع التابعين، ومع هذا قال الحميري في تعليقه: ابن جريج حافظ ثقة، وكان يدلس، وقد صرح هنا بالإخبار!!
• ومنها ما جاء رقم (28) قال عبد الرزاق: أخبرني الزهري!
وهذا كذب! فعبد الرزاق لم يدرك الزهري أصلا!
فهذا مما جاء من الكذب البيّن في الأسانيد.
ثانياً: تركيب الأسانيد وتلفيقها:
ليس مجرد الثقة والمعاصرة كافيان في قبول الأسانيد بشكل مضطرد، فهناك تراكيب إسنادية لا تجيء ولا تنتظم ولو توفر فيها الأمران، وهذه التراكيب يدركها المحدّث اليقظ العارف الممارس للحديث وأسانيده، ومن يوفقه الله لاحتذاء حذوه، وبطبيعة الحال لا يدركها الطرقي ولا الخرافي!
فمن ذلك ما قاله أحد أئمة هؤلاء الأيقاظ الحافظ أبوحاتم الرازي: عكرمة عن أنس ليس له نظام. (العلل 1/273)
وقال أيضا (1/309): الحسن البصري عن سهل بن الحنظلية لا يجيء.
وقال أيضا (2/158): هذا حديث باطل ليس له أصل، الزهري عن أبي حازم لا يجيء.
وبالتأكيد فإن من هو في مستوى الواضع -ومن روّج له- لا يمكن له إدراك ذلك، فيكشفه الله ويفضحه كما كشف أسلافه من الكذابين والوضاعين.
• فمنها ما جاء رقم (13) من قول عبد الرزاق: أخبرني يحيى بن أبي زائدة.
وهذا تلفيق، فلم أجده من شيوخ عبد الرزاق في المصنف ولا في تهذيب الكمال!
• وفي رقم (22): أخبرني مالك عن يحيى بن أبي زائدة! فهنا روى عن يحيى بواسطة! ومالك لا يروي عن يحيى! ومثله رقم (34)، أما في رقم (15) فروى عن معمر عن ابن أبي زائدة!
• وفي رقم (10) جعل معمرا يروي عن ابن جريج.
وفي رقم (15) روّاه عن ابن أبي زائدة.
وفي رقم (19) روّاه عن سالم بن عبد الله.
وفي رقم (36) روّاه عن الليث، وكل ذلك كذب، فليسو من شيوخ معمر.
ومن ذلك رقم (19): معمر، عن سالم، عن أبي هريرة.(110/37)
ففيه تركيبان: رواية معمر عن سالم، ورواية سالم عن أبي هريرة.
إلى غير ذلك من التركيبات التي لا تجيء!
ثالثاً: اختلاق المتابعات:
كثير من أحاديث أبواب الطهارة في نسخة الحميري عبارة عن أحاديث معروفة ولكن وردت بأسانيد لا تُعرف، ومن جهل الواضع ومن معه أنه افتعل لأسانيد هذه المتون متابعات موضوعة.
مثل الحديث رقم (20): وهو عن معمر، عن الزهري، عن أبي سعيد الخدري (كذا في النسخة التي زعم الحميري إتقانها!)، عن أبيه، عن جده أبي سعيد في التسمية عند الوضوء.
وراوي حديث التسمية هو حفيد الخدري، واسمه رُبيح بن عبد الرحمن (وليس رويبح كما قال الحميري!)، وهو معروف بهذا الحديث، وتفرد به عنه كثير بن زيد -كما أفاد الإمام أحمد ونص ابن عدي- فمن أين جاءت متابعة الزهري، وهو لا يروي عن ربيح أصلا؟ فهل جهلها الحفاظ متقدمهم ومتأخرهم وادُّخرت معرفتها للحميري ومحمود سعيد ممدوح؟ ومتابعة من؟ الزهري!
رابعاً: مخالفة الأسانيد للثابت من رواية عبد الرزاق:
تقدم على ذلك مثالان في الكلام على أخذ الوضاع المتون من مصنف ابن أبي شيبة، بينما هي في موجودة مصنف عبد الرزاق الحقيقي بلفظ مغاير، وسند آخر! وهكذا يشاء الله أن لا يدع منفذاً لهذا الوضاع إلا وافتضح! وإلا لجاء بمرويات عبد الرزاق كما هي!
أما تعليقات الحميري على الأحاديث:
فإنما تدل على جهله المطبق وتخليطه في السنّة، فتخريجاته لا قيمة لها البتة، يكون المتن في شيء فيخرج شيئا آخر من حديث آخر، لمجرد تشابه في طرف من المتن، أو أن يكون مقارباً لموضوعه، وحسبنا أنه يخرّج بعض الأحاديث من دلائل الخيرات للجزولي! ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، ولذلك أكتفي بما سبق نقده من غرائب تعليقاته، فليس هدفي إثبات جهله وخيانته العلمية، فذاك أمر متقرر قبل إخراجه لمصنفه هذا، إنما المقصود إثبات كذب مصنفه برمته، وتحذير الناس مما فيه.
والله من وراء القصد.
الخاتمة(110/38)
ظهر فيما سبق أن مصنف الحميري بيّن الوضع والتزوير، وأن واضعه مكشوف أنّى اتجه، وأن الحميري استخدم في ترويج هذا الكذب شتى ضروب التدليس والتلبيس والغش والكتمان الخبيث، وتابعه محمود سعيد ممدوح وشكر للحميري صنيعه! وأنه حصل التنبيه بحال المصنف قبل إخراج الكتاب، ولكن لا حياة لمن تنادي.
وظهر أن الحميري تواطأ في نشر هذا الكذب المفترى عبر كتم بعض المعلومات التي تكشف حال مخطوطه، وكذب على الناس في أنه من خط القرن العاشر، وهو يعلم أنه ليس كذلك، وتابعه على ذلك محمود سعيد ممدوح، مع علمه بحال الكتاب أيضا!
فتبين بذلك أنه لا يوثق بهما في دينهما ولا علمهما، ومن استحل الكذب ونشره عن النبي صلى الله عليه وسلم فماذا بقي فيه من خير؟ وليس هذا كذباً عادياً من جنس أكثر الأحاديث الموضوعة، بل فيه نسبة الضلالات والخرافات والأهواء الباطلة إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، إضلالا للمسلمين، ومحاربة للسنة وأهلها، وما ذلك عن أصحاب المصنف بغريب.
فعلى الناس الحذر من كل ما أخرج ويُخرج هذان، فقد أسقطا عدالتهما بأنفسهما، وظهر أنهما من شر دعاة الضلالة والهوى، الذين لا يتورعون عن الكذب وترويجه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى من اغتر بهما أن يعرف حال من يتبع، وإلى أي طريق يدعوان.
• وإنه من غرائب الموافقات أن يخرج مصنف الحميري في الوقت الذي يحارب فيه رسولنا الكريم ويُستهزأ بشخصه ودينه، وقبلها جرت محاولات تحريف القرآن الكريم باسم الفرقان الحق وغيره، نعم، إن تزامن ذلك مع محاولة جديدة من نوعها في تحريف السنة والدس فيها بحاجة إلى تأمل وتدبر، ووقفة ونصرة للسنّة، ولعله لذلك تعمّد تزوير تاريخ طبع الكتاب، وما ذلك ببعيد وقد علمنا أن مصنف الحميري كله مزوّر، والله المستعان.(110/39)
• وليعلم القارئ أنني إن شددت العبارة مع هؤلاء المجرمين فما ذاك إلا لعظم جريمتهم، وردعاً أن يعودوا هم وأمثالهم لاختراع كتب باطلة ونسبتها للأئمة، فضلا عن الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله من وراء القصد.
اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكف عنا وعن المسلمين شرور المفسدين، والضالين المضلين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه أفقر العباد
محمد زياد بن عمر التكلة(110/40)
توضيح العبارة في الرد على صاحب كتاب
(رفع المنارة في أحاديث الزيارة)
جمع ودراسة: عبد الغفار بن محمد حميده
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد:
فهذا جزء جمعت فيه الأحاديث الواردة في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من بطون الكتب، وتكلمت على أسانيدها بما يفتح الله علي متتبعا طرق كل حديث، مستفيدا من كتب أهل العلم في هذا الفن.
وهذه الأحاديث على رغم ضعفها الشديد، وبعضها موضوع مكذوب، إلا أن بعض أهل العلم استدل بها على جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبور بعض الأنبياء في فلسطين، وقبور ومشاهد الأولياء والصالحين في العالم الإسلامي للتبرك بها والدعاء عندها، والتوسل والاستغاثة بأصحابها، متشبهين بالروافض وأصحاب الطرق الصوفية.
ومسألة زيارة القبر الشريف، ألف فيه بعض أهل العلم رسائل خاصة في بين مانع ومجّوز، وممن ألف في ذلك:
1. علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) كتابا سماه "شفاء السقام في زيارة خير الأنام"، ذكر فيه خمسة عشر حديثا بطرقها، لكنه لم يوفي الموضوع حقه من الناحية العلمية حيث كان مجرد جامع لأحاديث الباب، محتجا بها غره كثرة الطرق، التي جلها إن لم يكن كلها ظلمات بعضها فوق بعض.
2. الحافظ الناقد ابن عبد الهادي (ت 744 هـ)، له كتاب سماه "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، فند تلك الأحاديث التي ذكرها السبكي في كتابه السابق الذكر ونقدها نقد العالم البصير الخبير، فبين عللها وعدم حجيتها في الاستدلال، فشرق بذلك أقوام.
3. الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدى بن عبد الله العلائي الشافعي. (ت 761 هـ). له مؤلف جمع فيه أحاديث زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن العماد في شذرات الذهب (6/191).(111/1)
4. أحمد بن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، له كتابان الأول إسمه "الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المعظم". والثاني إسمه: "تحفة الزوار في زيارة قبر النبي المختار".
5. العلامة المحدث محمد بشير السهسواني (ت 1326 هـ) له كتاب اسمه "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان".
6. العلامة محدث الجزيرة حماد الأنصاري رحمه الله تعالى (ت 1418 هـ). له رسالة مختصرة سماها "كشف الستر عما ورد في السفر إلى القبر"، بين فيها عدم صحة هذه الأحاديث.
7. محمود سعيد ممدوح له كتاب سماه "رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة ط. أولى نشر دار الإمام النووي"، تكلم فيه على أحاديث الزيارة، وحاول جاهدا تصحيحها منتصرا للسبكي، مع التشنيع وسوء الأدب والتطاول في مواطن على بعض الأئمة الأعلام الذين خالفوه في عدم حجية هذه الأحاديث، وعلى رأس هؤلاء الأئمة الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله، ذنبه في ذلك تمحيصه ونقده للسبكي سوقه الأحاديث على عواهنها. كما أن هذا المؤلف تعالم ولم يتبع المنهج العلمي في الكلام على أحاديث كل صحابي على حدة، حيث فرق حديث الصحابي الواحد في ثنايا الكتاب ولم يتكلم عليها في مكان واحد، ولعل الذي دفعه إلى ذلك علمه أن جمعها في مكان واحد يزيد في ضعفها، ففرقها ليشتت ذهن القاري ويتكثر بها أمام العوام وأنصاف المتعلمين، كما هو الحال في أحاديث ابن عمر وأنس وعمر وهذا التفريق كالتالي:
1. أحاديث ابن عمر: انظر رفع المنارة حيث تكلم من (ص 229 إلى ص 264)، على حديث واحد له، وتكلم بعده على حديث ابن عباس وأنس وحاطب وعمر ، ثم عاد لحديث ابن عمر ص 278 إلى ص 281، وتكلم بعده على حديث ابن مسعود ، ثم عاد وتكلم على حديثين لابن عمر (ص 283 إلى ص 285).(111/2)
2. أحاديث أنس انظر انظر المصدر السابق حيث تكلم من (ص 268 إلى ص 270) على حديث واحد، وتكلم بعد ذلك على حديث حاطب وعمر وابن عمر وابن مسعود وحديثين لابن عمر ، ثم عاد لحديث أنس من (ص 286 إلى ص 287).
3. حديث عمر: أما هذا الحديث فيروى تارة عن عمر وتارة عن رجل من آل حاطب عن حاطب، وهو عند التحقبق حديث واحد، فجعلها حديثين ليتكثر بها.
ومن أمثلة إساءته الأدب مع من هو أفضل منه وأعلم وأفقه، وأختار منهم الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله، حيث أساء الأدب معه في مواضع:
1. قال المعترض (ص 245): "وقد أشفقت على علوم الحديث التي تغافل عنها ابن عبد الهادي رحمه الله لغرض ينصره".
2. وقال أيضا (ص 247): "وقد تقعقع ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى كعادته فأخذ يضعف هذه المتابعة".
3. وقال (ص 248): "والحاصل أن كلام ابن عبد الهادي مخالف لأدني قواعد علم الحديث".
4. وقال (ص 248): "أما كونه (منكر المتن)، فهي دعوى لا يسندها إلا الدفع بالصدر فقط، فلا دليل أتى به ابن عبد الهادي ليقيم به صلب هذه الدعوى المتهاوية".
5. وقال أيضا (ص 270): "ولو وقف عليه ابن عبد الهادي لشنع عليه وصب تشنيعه على الراوي المبهم كما هي طريقته، لأنه يأبى أن يصح حديث في الباب".
6. وقال رادا على العلامة الألباني ومعرِّضا بابن عبد الهادي رحمهما الله (ص 272): "فعمدته قول ابن عبد الهادي الذي ما استطاع أن يقيم صلب دعوته المتهاوية، ثم جاء الألباني يردد الصدي لا غير وهذا هو التقليد المذموم، فأين البحث منه أو ممن قلده".
وسوف أذكر نبذة يسيرة عن هذا الإمام الذي ما عرف قدره هذا المعترض المغمور، وأن علماء عصره عرفوا له قدره وأنزلوه منزلته اللائقة به كما في ترجمته الآتية.(111/3)
كما أساء الأدب مع العلامة الشيخ ابن باز مفتي الديار السعودية رحمه الله لما علق على كلام الحافظ في الفتح فوصفه بالكاتب، قال المعترض (ص 73): "وكان الأولى بالكاتب أن يتقيد بمذهبه الحنبلي….الخ".
وقد جمعت في رسالتي هذه والتي أسميتها "توضيح العبارة في الرد على صاحب كتاب رفع المنارة في أحاديث الزيارة"، عشرين حديثا، ستة أحاديث عن ابن عمر، وأربعة عن أنس، وثلاثة عن ابن عباس، وحديثا عن كل من عمر وعلي و أبي هريرة وابن مسعود ومعاذ ، ومرسلا عن بكير بن عبد الله، وحديثين بدون إسناد، وخمس زيارات لقبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى ، وبلال وميسرة بن مسروق وعمر بن الخطاب وأبي أيوب الأنصاري ، وإبراد عمر بن عبد العزيز رحمه الله السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وأحاديث الزيارة ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم ومصنفاتهم الجامعة ضمن أحاديث الحج وفضائل المدينة.
والله أسأل أن ينفع بها، حيث قصدت فيها بيان الحق وتجلية كلام أهل العلم المعتبرين المُتبعَةِ أقوالهم في هذا الشأن في هذه الأحاديث وأسانيدها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
كتبه: عبد الغفار بن محمد حميده
المدينة النبوية 12/4/1424هـ
نبذة عن الإمام ابن عبد الهادي
ترجم لهذا العالم الحافظ الفذ الإمام الجِهْبِذ، الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه الدرر الكامنة (3/331)، وسأذكر منه ما يفي بالغرض:
"محمد بن أحمد بن عبد الهادى بن عبد الحميد بن عبد الهادى بن يوسف ابن محمد بن قدامة، المقدسى الحنبلى شمي الدين، أحد الأذكياء، ولد في رجب (سنة 705 هـ) وقيل قبلها وقيل بعدها، وتردد إلى ابن تيمية ومهر في الحديث والأصول والعربية وغيرها.
قال الصفدى: لو عاش كان آية، كنت إذا لقيته سألته عن مسائل أدبية وفوائد عربية، فينحدر كالسيل وكنت أراه يوافق المزى في أسماء الرجال ويرد عليه فيقبل منه.(111/4)
وقال الذهبى في معجمه المختص: الفقيه البارع المقرئ المجود المحدث الحافظ النحوى الحاذق ذو الفنون كتب عنى واستفدت منه.
وقال ابن كثير: كان حافظا علامة ناقدا حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار وبرع في الفنون وكان جبلا في العلل والطرق والرجال حسن الفهم جدا صحيح الذهن.
وقال المزى: ما التقيت به إلا واستفدت منه.
قال الذهبي: ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه وكثر التأسف عليه لما مات وحضر جنازته من لا يحصى كثرة ومات في عاشر جمادى الأولى سنة (744هـ)".
قال مقيده عفا الله عنه: فأين الثرى من الثريا، وأين المتعالم المغمور من الإمام المشهور، فالله المستعان على بعض مخرفي هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم [/CENTER]
ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، ويذكرون ذلك عادة في كتاب الحج، عند الكلام على زيارة المدينة النبوية.
انظر: (الفتاوي الهندية 1/265. المجموع للنووي 8/72). المغني لابن قدامة 3/588).
حجتهم أحاديث الزيارة الواردة في هذه الرسالة، والحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). أخرجه أحمد في المسند (2/527). وأبو داود في سننه (المناسك ح 2041).
قال العلامة المحدث محمد شمس الحق أبادي في عون المعبود (6/25): "واعلم أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من أكثر الطاعات وأفضل من كثير المندوبات، لكن ينبغي لمن يسافر أن ينوي زيارة المسجد النبوي، ثم يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي ويسلم عليه، اللهم ارزقنا زيارة المسجد النبوي، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم آمين".(111/5)
كما ذكر القاضي عياض في الشفا (2/667). عن الإمام مالك كراهته أن يقول الزائر: "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ". كما ذكر عنه (2/671) قوله: "لا أرى أن يقف الزائر عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلم ويمضي". وقال أيضا (2/675): "قال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء". وقال أيضا: "لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع! ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها! ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك! ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده". ثم قال: "قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتو القبر فسلموا، قال: وذلك رأي".
فهذا رأي إمام دار الهجرة رحمه الله، ولو أن أحدا من علماء زماننا قال ما قاله مالك، لقالوا: وهابي يكره النبي صلى الله عليه وسلم ويكره زيارة قبره المكرم ولأقذعوه بأقبح الألفاظ.
هذه الأقوال عن الإمام مالك تردُّ ما نقله الحافظ في الفتح (3/66) عن محققي المالكية أنه أرد اللفظ ولم يرد الفعل، ونَقْل القاضي عياض يدل عليه، حيث لم يعلق على كراهة مالك قولهم: "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ". وقيد الزيارة للغرباء والقادمين من سفر، وأن زيارة قبره ? ليست بلازم لأهل المدينة.(111/6)
ترى هل الإمام مالك من أتباع مدرسة ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، والذين جاءا بعده بقرون؟! وإذا كان هذا رأي مالك في كراهته تكرار الزيارة لأهل المدينة والوقوف على القبر، فكيف بمن يشد الرحل لمجرد الزيارة والوقوف أمام القبر للإستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطلب الإستغفار والحوائج منه.
أما مسألة شد الرحل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يرد فعله عن الصحابة الكرام ولا التابعين ولا الأئمة من الفقهاء والمحدثين، وإنما هو من فعل الرافضة قلدهم فيه أصحاب الطرق الصوفية.
فينبغي لمن رغب في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما أن يُعمل النية للسفر إلى مسجده، والصلاة فيه رغبة في الثواب الذي جاء في ذلك من كون الصلاة في مسجده بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، أخرجه البخاري (الجمعة ح 1190)، ومسلم (الحج ح 1394) من حديث أبي هريرة .
ثم يقوم بالزيارة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه تأسيا بفعل الصحابي الجليل ابن عمر ، وعليه فتوى إمام دار الهجرة.
فعن مسلم بن أسلم بن بجرة أخي الحارث بن الخزرج وكان شيخا كبيرا قد حدث عن نفسه قال: ثم إن كان ليدخل المدينة فيقضي حاجته بالسوق ثم يرجع إلى أهله، فإذا وضع رداءه ذكر أنه لم يصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: والله ما صليت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد قال لنا:
(من هبط منكم إلى هذه القرية فلا يرجعن إلى أهله حتى يصلي ركعتين في هذا المسجد ثم يرجع إلى أهله).(111/7)
أخرجه الطبراني في الكبير (19/435): "حدثنا أبو خليفة، ثنا علي بن المديني، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي عن بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن مسلم به….". رجاله ثقات، وابن إسحاق صدوق مدلس صرح بالتحديث، وعزاه الحافظ في الإصابة (6/83) لابن مندة، وقال: "غريب لا يعرف عنه إلا من هذا الوجه". وقال الهيثمي في المجمع (4/8): "رجاله ثقات".
فهذا الصحابي الجليل حدث عن نفسه عندما يأتي المدينة أنه يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتطرق لزيارة القبر الشريف، لأنها لم تكن معروفة لدى كبار الصحابة رضي الله عنهم فضلا عن صغارهم، ولعل هذا هو مستند إمام دار الهجرة عندما قال عمن يزور القبر كلما دخل المسجد: "لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع! ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها! ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك! ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده".
أول من قام بزيارة القبر الشريف
ذكرت الروايات الصحيحة أن أول من فعل ذلك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر ، روى عبد الرزاق عن نافع قال: "كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه".
قال عبد الرزاق في المصنف (3/576).: "وأخبرناه عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر".
فهذه شهادة من عبيد الله بن عمر الثقة لهذه القضية، كالمتعجب من فعل ابن عمر ?، وتفرده من دون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيستبعد أن يروي عبيد الله حديثا منكرا في الزيارة كما سيأتي بيانه في أحاديث ابن عمر .(111/8)
وحيث أن هذا الفعل صح عن ابن عمر وبمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فصار كالإجماع لقبول هذا العمل.
قد يعترض معترض فيقول: هذا ابن عمر جاء مسافرا إلى المدينة، وبدأ بزيارة القبر الشريف، وهو حجة في الباب.
فنقول: إن ابن عمر من أهل المدينة فلما أراد السفر منها بدأ بزيارة القبر، ولما عاد إليها فعل الشيء نفسه، ولو كان من غير أهلها لقلنا بأن فعله يشهد للأحاديث الواهية والموضوعة في الزيارة، ففعله موافق لقول الرسول :
(لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى).
أخرجه البخاري (الجمعة ح 1189). ومسلم (الحج ح 827).
فينبغي لكل مسلم حصل له شوق لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، اتباع سنة من اشتاق لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فينوي شد الرحل لزيارة مسجده والصلاة فيه، طلبا للأجر المترتب على ذلك، ثم يزور القبر المكرم، وهو كذلك لساكن المدينة إن عرض له سفر أو قدم منه.
من أدلة الزيارة طلب المغفرة من النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره
يستدل المجيزون لشد الرحل لزيارة قبر الرسول وطلب المغفرة منه بهذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء 64)، حيث فهموا هذا الفهم الفاسد من قصتين باطلتين تُذكران عند تفسيرها من بعض المفسرين:
الأولى:(111/9)
قال القرطبي (5/266). عند تفسير هذه الآية: "روى أبو صادق عن علي قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله ? وحثا على رأسه من ترابه، فقال: قلت يارسول الله، فسمعنا قولك، ووعيت عن الله، فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ … الآية}، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي! فنودي من القبر أنه قد غفر لك".
وذكر ابن عبد الهادي رحمه الله سندها في الصارم (ص 430) فقال: "روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي، عن علي بن محمد بن علي، حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم، حدثني أبي عن أبيه، عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق، عن علي بن أبي طالب ".
وللقصة علل:
" أحمد بن محمد بن الهيثم".
لم أقف على ترجمته، وقال ابن عبد الهادي في الصارم (ص 430): "أظنه ابن عدي الطائي، فإن يكن هو فهو متروك كذاب، وإلا فهو مجهول"، وذكر من طعن فيه.
"أبو صادق". اختلف في اسمه، قيل: "مسلم بن يزيد أبو صادق الأزدي"، وقيل "عبد الله بن ناجذ"، وذهب أبو حاتم في الجرح (8/199) إلا أنه لم يسمع من علي.
الثانية:
قال ابن كثير (1/520).: "ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل، الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}، وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم(111/10)
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال يا عتبي: إلحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له".
وقد أسند البيهقي في شعبه (3/495 ح 4178) قصة مشابهة: أخبرنا ابو علي الرودباري، نا عمرو بن محمد بن عمرو بن الحسين بن بقية، إملاء نا سكر الهروي، نا ابو زيد الرقاشي، عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي:
"حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر، ووقف بحذاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال":السلام عليك يا رسول الله ثم سلم على أبي بكر وعمر، ثم أقبل على رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله جئتك مثقلا بالذنوب والخطايا مستشفعا بك على ربك، لأنه قال في محكم كتابه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}، وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلا بالذنوب والخطايا أستشفع بك على ربك أن يغفر لي ذنوبي، وأن تشفع في ثم أقبل في عرض الناس وهو يقول:
يا خير من دفنت في الأرض أعظمه فطاب من طيبه الأبقاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وفي غير هذه الرواية: فطاب من طيبه القيعان والأكم".
" قال مقيده عفا الله عنه: لم أستطع الوقوف على ترجمة كل من:
"محمد بن حرب الهلالي، أو أبو حرب الهلالي". و"محمد بن روح بن يزيد البصري".
وأخرجها ابن الجوزي في مثير الغرام الساكن (ص 275 ح 295). بإختلاف بسيط من طريق: "محمد بن روح، إلا أنه قال: محمد بن حرب".(111/11)
وذهب السبكي في شفاء السقام (ص 65)، إلى أن اسم العتبي هو "محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان"، ولم يذكر مستنده، ومن ترجموا للعتبي ذكروا أنه صاحب أخبار وأدب وشعر، ولم يذكروا في ترجمته أنه صاحب القصة المذكورة.
انظر تاريخ بغداد (2/324)، والعبر (1/403)، تهذيب الكمال (12/202)، في ترجمة سهل بن محمد السجستاني. وشذرات الذهب (2/65).
الترجيح
هذا الفهم الفاسد بأن نأتي قبره صلى الله عليه وسلم ليستغفر لنا كلما عصينا الله، لم يفهمه الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان، كما لم ينقل لنا عن أئمة الإسلام الأعلام ولم يفعلوه وهم غير معصومين، وإنما هو فهم فهمه أهل الأهواء والبدع وعملوه. ويقبح بنا أن نفعل شيئا في حقه لم يفعله أئمة الدين من الصحابة فمن بعدهم.
ومما يرد هذا الإستدلال الباطل ويدحضه أمور:
أولا: سياق الآية
هذه الآية في سياق الكلام على المنافقين الراغبين في التحاكم إلى الطاغوت، الرافضين للتحاكم إلى الله ورسوله.
ثانيا: المجيء في الآية والقرآن
تحكي الآية ظلم المنافقين لأنفسهم، وعقّبه استغفارٌ ومجيء له لطلب الاستغفار، والمجيء في الآية لا يكون للأموات، فلا تقول جئت والدي الميت، بل تقول زرته أو جئت قبره، وهكذا في حقه فالمجيء إليه بعد الموت ليس مجيء لشخصه ، بل هو مجيء لقبره فلا يقال: جئت رسول الله، بل يقال: جئت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زرته.
والمقصود في الآية المجيء له حال الحياة لا الموت، ولو كان المقصود من الآية قبره لأنتفت البلاغة في القرآن، والتي هي إحدى معجزات التنزيل وهذا مطعن لايقول به عاقل، يشهد له قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة 84)، وقوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} (التكاثر 2).(111/12)
وكل آية جاء فيها ذكر المجيء للنبي في القرآن يفهم منه أنه حال الحياة، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (النساء 62)، وقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة 42)، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنعام 25).
ثالثا: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن
كل استغفار في القرآن من قِبل النبي صلى الله عليه وسلم ، المراد منه استغفار حال الحياة أيا كان نوع المعصية التي يُستغفر منها. مثل:
• استغفاره لذنبه وذنوب المؤمنين، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد 19).
• استغفاره للأعراب، قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} (الفتح 11).
• استغفاره للمبايعات من النساء قال تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الممتحنة 12).
• نهي الله عز وجل نبيه من الاستغفار للمنافقين وذي القربى من المشركين.(111/13)
ولا أدل على ما ذهبنا إليه من كون استغفاره حال الحياة، هو: انقطاع استغفاره بموته قال الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال آية 33)، وفي ذلك قال :
(أنزل الله علي أمانين لأمتي {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة).
أخرجه أحمد (4/393) بسند حسن، قال: (حدثنا وكيع عن حرملة بن قيس عن محمد بن أبي أيوب عن أبي موسى..)، والترمذي في التفسير (ح 3082) قال: (حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة ابن أبي موسى عن أبيه..). بسند ضعيف قال الترمذي: "حديث غريب وإسماعيل بن مهاجر يضعف في الحديث". وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (ص 378 ح 596).
قال مقيده عفا الله عنه: فهذا نص صريح ونكتة بديعة غابت عن عقول الطُّرقيّين وأهل الأهواء من الرافضة وغيرهم، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأمته حال الحياة، فإذا مضى إلى جوار ربه كان الأمان الباقي في الأمة هو استغفار أفرادها، وليس مجيئهم إلى قبره صلى الله عليه وسلم لطلب الاستغفار منه فتنبه!
كما يرده تفسير أغلب المفسرين لهذه الآية.(111/14)
قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله في تفسيره (4/157): "ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدودا، إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله، إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت، راضين بحكمه دون حكمك جاءوك تائبين منيبين فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم وسأل لهم الله رسوله مثل ذلك، وذلك هو معنى قوله: (فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول)".
وإلى هذا التفسير ذهب ابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (2/583).
والعبرة في الآية عموم اللفظ لا خصوص السبب، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (الفرقان 77). وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران 17). وقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات 18).
كما بين الحق صراحة حال الظالمين أنفسهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران 135). فليس في هذه الآيات ذكر لإتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب المغفرة أو ترغيب لفعله، مما يدل ويؤكد على أن الإتيان كان حال الحياة.
فهذه الآيات البينات الواضحات صريحة الدلالة في طلب المغفرة والدعاء من الله الغفور لا من أصحاب القبور، كما لم يطلب الحق منا أن نأتي قبر نبيه ونفعل ذلك.
رابعا: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة(111/15)
السنة المطهرة ترد هذا المعنى الباطل، وتثبت أن طلب الاستغفار منه حال الحياة الذي هو أحد الأمانين كما مر في ثالثا، وقد ردت عدة أحاديث متواترة المعنى تؤكد وتخصص طلب الدعاء والاستغفار من الباري جل وعلا مباشرة دون واسطة، منها:
1. حديث ابن عمر قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه حرملة بن زيد فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الإيمان ههنا وأشار بيده الى لسانه، والنفاق ههنا وأشار بيده الى صدره، ولا يذكر الله إلا قليلا. فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فردد ذلك عليه، وسكت حرملة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بطرف لسان حرملة فقال: اللهم اجعل له لسانا صادقا، وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحب من يحبني، وصَيّر أمره إلى الخير. فقال حرملة: يا رسول الله إني لي إخوانا منافقين كنت فيهم رأسا أفلا أدلك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذنبه فالله أولى به ولا تخرق على أحد سترا).
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/5). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/410): "رجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ في الإصابة (1/320): "إسناده لا بأس به، وأخرجه ابن منده أيضا، وروينا في فوائد هشام بن عمار رواية أحمد بن سليمان بن زبان، بالزاي والموحدة من حديث أبي الدرداء نحوه".
قال مقيده عفا الله عنه: قيد النبي صلى الله عليه وسلم استغفاره لأصحابه الغائبين عنه وهو حي، بالمجيء إليه يفهم من قوله لحرملة : "من جاءنا كما جئتنا…". وأن المجيىء بعد موته كما يزعم الخرافيون القبوريون وأشابههم من الروافض، يرده نص الحديث. فهل يَعقل هذا المتعسفون في تفسير قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك…} الآية.(111/16)
2. حديث عبد الله بن عمرو قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع، وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد أمحصت الشمس).
أخرجه بهذ اللفظ أبو داود (الصلاة ح 1194)، وصححه الألباني.
3. حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله).
أخرجه أحمد (6/20) بسند ضعيف، فيه رشدين ابن سعد، وراو آخر مجهول، ويشهد له أحاديث الاستغفار، والحديث الذي بعده.
4. حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني). أخرجه أحمد (3/29).
5. حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب).
أخرجه أبو داود (ح 1518)، وابن ماجة (ح 3819).
خامسا: فعل الصحابة رضي الله عنهم
الصحابة رضي الله عنهم بشر غير معصومين، فلم ينقل عن أحد منهم أنه جاء إلى قبره صلى الله عليه وسلم لطلب المغفرة من الذنوب بعد موته، بل الذي فهموه خلافه، فقد جاؤا إليه حال حياته لطلب المغرة، يثبت ذلك صحة النقول عنهم:
1. حديث ابن عمر السابق المذكور في (رابعا).(111/17)
قصة ماعز : فعن نعيم بن هزال قال: "كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرجا فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه فعاد، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله ، فأعرض عنه فعاد، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله، حتى قالها أربع مرار، قال إنك قد قلتها أربع مرات، فَبِمَن؟ قال: بفلانة، فقال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم. قال: هل باشرتها؟ قال: نعم. قال: هل جامعتها؟ قال: نعم. قال: فأمر به أن يرجم فأخرج به إلى الحرة، فلما رجم وجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه".
أخرجه الترمذي (المناقب ح 3712)، وأبو داود (الحدود ح 4419).
وفي رواية عند مسلم (الحدود ح 1695): أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم تطهيره مما اقترفه.
2. كما جاءت إليه إمرأتان الغامدية والجهنية في قصة مماثلة بعد اقتراف معصية الزنا وطلب التطهير منه . أخرجه مسلم (الحدود ح 1695 ، ح 1696).
ومحل الشاهد: ماعزا والصحابيتان رضي الله عنهم جاؤا إليه حال الحياة، وأيضا قصة الصحابي الجليل كعب بن مالك وتخلفه عن غزوة تبوك، واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمتخلفين.
أخرجه البخاري (المغازي ح 4418)، ومسلم (التوبة ح 2769).
فهذا كله نقل لنا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته بالأسانيد الصحيحة، ولم ينقل لنا خلافه عنهم بعد موته ، ولا حتى بسند ضعيف فضلا عن موضوع، كما أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم أذنبوا حال حياته ولم يأتوا إليه لطلب استغفاره، وأكتفوا بإستغفارهم.(111/18)
وحمل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} على العموم - حال الحياة وبعد الموت - يقدح في اعتقاد الصحابة رضي الله عنهم الذين أذنبوا ولم يأتوا قبره صلى الله عليه وسلم لطلب المغفرة، كما يقدح فيمن بعدهم من علماء الأمة المعتبرين، وعليهم ينطبق قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون 5). وهذا لايقوله عاقل.
سادسا: فهم السلف
قال الأوزاعي رحمه الله: "قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات، ذاك شيء قرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه! قال: فبث فيهم الأهواء". انظر سنن الدارمي (المقدمة رقم 308).
وقال القرطبي (7/399): "قال المدائني عن بعض العلماء قال: كان رجل من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسرفا على نفسه ولم يكن يتحرج، فلما أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف، ورجع عما كان عليه وأظهر الدين والنسك، فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك، قال: كان لي أمانان فمضى واحد وبقي الآخر، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، فهذا أمان والثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}".
قلت: وهذا يحتاج إلى سند للحكم عليه، لكن ذكرته استئناسا.
سابعا: لغويا
ترد اللغة العربية وقوانينها هذا الفهم الباطل لأن (إذ) من حروف المعاني ولها أربع حالات:
الأولى: أن تكون إسما للزمن الماضي، ولها أربع استعمالات:
1. أن تكون ظرفا وهو الغالب، نحو قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (التوبة 40).
2. أن تكون مفعولا به نحو قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} الأعراف 86).(111/19)
3. أن تكون بدلا من المفعول، نحو قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ} (مريم 16).
4. أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للإستغناء عنه نحو: "يومئذ، وحينئذ"، أو غير صالح له نحو {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آل عمران 8).
الثانية: أن تكون اسما للزمن المستقبل نحو {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة 4). ونحو {إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ}. (غافر 79).
الثالثة: أن تكون للتعليل نحو {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}. (الزخرف 39).
الرابعة: أن تكون للمفاجأة، وهي الواقعة بعد: "بينا، أو بينما"، كقول الشاعر:
استقدر الله خيرا وارضين به فبينما العسر إذ دارت مياسير
انظر مغني اللبيب (1/80).
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
استدل المعترض في رفع المنارة (ص 57) بقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ..الآية}، على استحباب شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "وهذه الآية تشمل حالتي الحياة وبعد الإنتقال، ومن أراد تخصيصها بحال الحياة فما أصاب".
قلت: يلزمه إثباته من قول المشرع وفعل الصحابة رضي الله عنهم بالأسانيد الصحيحة، وهذا ما لاسبيل إليه ودونه خرط القتاد، بل الأدلة تثبت أن الآية تفيد الإتيان حال الحياة كما سبق بيانه.
ثم قال المعترض (ص 57): "وقد فهم المفسرون من الآية العموم، ولذلك تراهم يذكرون معها حكاية العتبي الذي جاء للقبر الشريف".(111/20)
كلامه يفيد أن جميع المفسرين ذكروا قصة العتبي، وهذا تعالم من المعترض وكذب صراح، فكتب التفسير والحمد لله كثير منها مطبوع متداول بين أيدي العلماء والباحثين، وقد طالعت تفسير "الطبري والكشاف والرازي، والبحر المحيط وابن الجوزي والسيوطي، والسمرقندي والألوسي وأبي السعود والشوكاني والبيضاوي وسيد قطب"، فلم أقف على ذكرهم لهذه القصة المختلقة، والذين ذكروها حسب علمي فيما وقفت عليه من المطبوع من تفاسيرهم: القرطبي وابن كثير والنسفي والثعالبي".
ثم تناقض المعترض (ص 59) فأقر بعدم صحتها، واستدل بها لإثبات أمر شرعي فقال: "وهي حكاية غير صحيحة الإسناد، لكن محل ذكرها هو بيان أن العلماء ذكروها إستئناسا لبيان أن الآية تفيد العموم".
ثم قال المعترض (ص 59): "وحديث عرض الأعمال يؤيد الإستدلال بهذه الآية وهو قوله : (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم وتعرض علي أعمالكم، فما وجدت خيرا حمدت الله، وما وجدت غير ذلك استغفرت لكم)".
قلت: الإستدلا بالقصص الضعيف والمختلق والحديث الواهي والموضوع، استئناسا تعالم وقصور في فهم المعترض، يثبته استدلاله بحديث عرض الأعمال وإن كان فيه كلام، إلا أن منطوقه يفهم منه عدم المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم ، لأن أي مسلم في أي مكان في الدنيا تعرض أعماله على النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا خاصا بمن جاء إلى القبر الشريف فافهم!!.
ثم تعالم المعترض مرة أخرى فقال (ص 59): "ومع عموم الآية الذي لا يرتاب فيه مرتاب، أغرب ابن عبد الهادي فقال: ولم يفهم أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستعغر لهم".
قلت: من هم السلف الذين فهموا ما زعمه المعترض، هل هم الصحابة أو التابعون، أم من؟ وقد سبق وأن بينا كلام الإمام مالك في الزيارة، وهو من السلف.
هل شد النبي صلى الله عليه وسلم الرحل لزيارة القبور(111/21)
قد يعترض معترض بأن الرسول شد الرحل لزيارة قبر أمه بالأبواء، وهي مكان على طريق الذاهب إلى مكة وجدة. كما روي عنه قوله: "لو أعرف قبر يحيى بن زكريا لزرته". وهذا الإعتراض غير وارد، وسأتكلم على حديث زيارة قبر يحيى أولا، وأثني بالكلام على زيارته لقبر أمه.
أولا: حديث زيارة قبر يحيى عليه السلام
أخرجه ابن كثير في جامع المسانيد، في مسند زُكرة بن عبد الله، من طريق بقية عن عمرو بن عتبة، عن أبيه عن زياد بن سمية، سمعت زكرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أعرف قبر يحيى بن زكريا لزرته).
انظر: جامع المسانيد (4/370 ح 2736). والفردوس بمأثور الخطاب (3/375 ح 5140)، والإستيعاب (2/564)، وأسدالغابة (2/319 ت 1756)، والإصابة (2/566).قال ابن عبد البر في الإستيعاب (2/564): "ليس إسناده بالقوي".
وزياد بن سمية قال ابن حجر في الإصابة (2/566): "قال أبو حاتم: زياد بن سمية هذا ليس هو الأمير المشهور الذي دعاه معاوية". وإن كان هو الأمير فقال ابن حبان في المجروحين (1/305): "ظاهر أحواله معصية الله، وقد أجمع أهل العلم على ترك الإحتجاج من كان ظاهر أحواله غير طاعة الله، والأخبار المستفيضة في أسبابه تغني عن الإنتزاع منها للقدح فيه". وقال الحافظ في لسان الميزان (2/493): "لا يعرف".
ثانيا: قصة زيارة قبر النبي قبر أمه
كما هو معلوم أن والدة النبي صلى الله عليه وسلم توفيت بالأبواء (قرية من أَعمال الفُرْع من المدينة، بينها وبين الجُحْفَة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. انظر معجم البلدان 1/79). وهي عائدة إلى مكة، وروى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: أستأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". أخرجه مسلم (الجنائز ح 976).(111/22)
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خروجه لأجل زيارة القبر بل كان لأمر آخر، فعن بريدة الأسلمي قال:
"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله ما لك؟ قال: إني سألت ربي عزوجل في الإستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها خيرا".
أخرجه أحمد في المسند (5/355). والحاكم في المستدرك (1/376) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (1/117): "ورجاله رجال الصحيح".
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بصدد أمر آخر، وفيه أقوال:
الأول: أنه كان في عمرة الحديبية، وهذي رواية ضعيفة. انظر طبقات ابن سعد (1/116)، وهذه الرواية علتها "محمد بن واقد"، متروك.
الثاني: كان في عمرته بعد غزوة تبوك وهذي رواية ضعيفة. أخرجه الطبراني في الكبير (11/12049)، قال الهيثمي في المجمع (1/117): "وفيه أبو الدرداء وعبد الغفار بن المنيب عن إسحاق بن عبد الله عن أبيه عن عكرمة ومن عدا عكرمة لم أعرفهم ولم أر من ذكرهم".
الثالث: أنه كان في عودته من فتح مكة. انظر طبقات ابن سعد (1/117) بسند جيد، عن بريدة الأسلمي ، وتفسير الطبري (11/42) مرسلا.
ورجح ابن تيمية إلى أن زيارته كانت وهو في طريقه لفتح مكة. انظر الرد على الأخنائي – حاشية الرد على البكري (ص 133).
وذهب الحافظ إلى أنها كانت في إحدى عمره . انظر فتح الباري (8/368 ح 4772 ط الريان).
وهذا يدل على أنه لم يخرج من المدينة لأجل الزيارة، وقد مر بالأبواء مرات ولم ينقل لنا زيارته لقبرها:
فقد ترجم البخاري في صحيحه (باب غزوة العشيرة أو العسيرة. قال ابن إسحاق: أول ما غزا النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة). انظر الفتح (7/326 ح 3949 ط الريان).(111/23)
كما فقدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قلادتها بالأبواء. انظر مسند أحمد (1/220 – 276)، ومسند الحميدي (1/88)، ومسند أبي يعلى (5/56 ح 2648)، والمعجم الكبير للطبراني (10/321)، وانظر فتح الباري (1/516 ح 334).
ومر بعض الصحابة بالأبواء ولم يمروا بقبر أمه لزيارته، كابن عباس ومعاوية. انظر الفتح (4/67 شرح ح 1840)، والمعجم الكبير للطبراني (19/306).
وحتى قبر والده والمدفون بالمدينة لم ينقل لنا زيارته له مدة حياته بها، وهو على بعد خطوات منه.
القائلين بشد الرحل أدلتهم وفعلهم مشابه للرافضة
لو كان الأمر مقتصرا على شد الرحل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم لهان الخطب والأمر، لكنه تعدى إلى شد الرحل لزيارة قبور ومشاهد الأولياء والصالحين، والدعاء عندها والطواف حولها والتبرك بها والنذر لها والإستغاثة بأصحابها. وهذا من أسس دين الرافضة، الذين يشدون الرحال لزيارة قبور ومشاهد أئمتهم من أهل البيت في بعض الأقطار الإسلامية، وشابههم في ذلك أهل التصوف، ومن أشهر هذه المشاهد التي تشد الرحال لزيارتها مشهد الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة، وأحمد البدوي ومشهد عبد القادر الجيلاني، ومشاهد أهل البيت بكربلاء والنجف والكوفة، ومشاهد أقطاب التصوف المنتشرة في العالم الإسلامي.
نقل السبكي في شفاء السقام (ص 70) عن أحد الحنابلة، وهو "محمد بن عبد الله السامري" قوله: "اللهم إني أتوجه إليك بنبيك …وذكر دعاء طويلا، ثم قال: وإذا أراد الخروج عاد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فودع".(111/24)
وقال مفتي الشافعية بمكة أحمد دحلان (ت 1304هـ) في الدرر السنية (ص 86): "وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت من العلماء والصلحاء يقول: بلغنا أن من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه وسلم وا تَسْلِيماً}، وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان ولم تسقط له حاجة".
قلت: هذا احتجاج باطل من ابن دحلان لأن ابن فديك روى عن مجهول والمجهول عن مثله، ظلمات بعضها فوق بعض، وهذا شأن المتصوفة والقبوريين الإستدلال بالغث والهش والنطيحة والمتردية وما لا طائل تحته.
أدلة الروافض على شد الرحل لزيارة قبر النبي
روى شيخ الرافضة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت460 هـ):
1. حدثنا أبو الحسن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال: حدثني أبي عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إلي في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إلي بالسلام فإنه يبلغني".
2. وبسنده عن صفوان بن سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله قال: "من زارني في حياتي وبعد موتي كان في جواري يوم القيامة".
3. وبسنده عن ابن أبي نجوان قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عمن زار النبي صلى الله عليه وسلم قاصدا؟ قال: له الجنة".
4. وبسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: "من أتاني زائرا كنت شفيعه يوم القيامه".
5. وبسنده عنه أيضا: "من أتى مكة حاجا ولم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائرا وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة".(111/25)
6. وبسنده عنه قال: "ما لمن زار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله؟ قال: كمن زار الله فوق عرشه".
7. وبسنده عن الحسين عليه السلام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: "يا أبتاه ما جزاء من زارك؟ فقال: يابني من زارني حيا أو ميتا، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك كان حقا علي أن أزوره يوم القيامة، وأخلصه من ذنوبه".
ثم إن الرافضي استحسن أن يقول الزائر لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، وإني أتيتك مستغفرا تائبا من ذنوبي، وإني أتوجه بك إلى الله عزوجل، ربي وربك ليغفر لي ذنوبي".
انظر في تهذيب الأحكام (6/3 فما بعدها).
وقال الطوسي أيضا: "باب وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله".
وبسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا أردت أن تخرج من المدينة فاغتسل، ثم ائت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وآله بعد ما تفرغ من حوائجك فودعه واصنع مثل ما صنعت عند دخولك وقل: "اللهم لا تجعله آخر العهد من زيارة قبر نبيك، فإن توفيتني قبل ذلك فإني أشهد في مماتي على ما شهدت عليه في حياتي أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك وآله". انظر المصدر السابق (6/11).
وروى الطوسي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "نحن نقول بظهر الكوفة قبر لا يلوذ به ذو عاهة إلا شفاه الله". المصدر السابق (6/34).
أحاديث ابن عمر
رويت عنه ستة أحاديث تراوحت بين شديد الضعف والواهي والموضوع والمختلق، وهي:
الحديث الأول
(من حج فزار قبرى بعد موتى كان كمن زارني في حياتي)
حديث واه جدا إلى درجة الوضع، أخرجه من طريق:
(حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر ).(111/26)
عدد من الحفاظ: الجندي. والفاكهي. والطبراني. وابن عدي وزاد (وصحبني). والدارقطني. والبيهقي وضعفه. وابن الجوزي. والأصبهاني. وسعيد بن منصور عزاه له ابن عبد الهادي. وعزاه الذهبي للبخاري في كتابه الضعفاء من طريق سعيد بن منصور. وابن النجار عزاه له السبكي. كما عزاه لأبي يعلى الموصلي ابن عبد الهادي إلا أنه زاد بين حفص وليث "كثير بن شنظير".
انظر على الترتيب (فضائل المدينة (ص39 ح 52). أخبار مكة (1/435 ح 949). المعجم الكبير (12/406)، والأوسط (3/351). الكامل (2/790). سنن الدارقطني (2/278). السنن الكبرى (5/246) ، الشعب الإيمان (3/489). مثير الغرام الساكن (ص 272). الترغيب والترهيب (1/446). الصارم المنكي (ص 96). ميزان الإعتدال (1/559). شفاء السقام (ص 21). الصارم المنكي (ص 89).
علل الحديث
على رغم كثرة من أخرجه إلا أن فيه علتين قادحتين:
الأولى: "حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي"، صاحب القراءة.
طعن فيه أئمة الحديث من جهة الرواية، وذكروه ضمن الوضاعين للحديث النبوي.
انظر تهذيب التهذيب (2/400 – 402). والكشف الحثيث (ص 101)، وتنزيه الشريعة (1/54).
وخلاصة القول فيه عند الإمامين الذهبي وابن حجر: أنه متروك الحديث، مع إمامته في القراءة.
انظر الكاشف (1/177)، والتقريب (ص 257 ت 1414).
وقد نص أئمتنا المعتمدة أقوالهم في هذا الشأن أن من قيل فيه: "متروك الحديث" فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه. انظر انظر الكفاية (ص 23). ، ومن كان هذا حاله فكيف يتابع حديثه، وحفص قال فيه الأئمة: أحمد والبخاري ومسلم وابن المديني والنسائي وغيرهم: "متروك الحديث"، وأقوالهم مبسوطة في ردنا الآتي على المعترض.
الثانية: "ليث بن أبي سليم بن زنيم القرشي".(111/27)
وهو وإن كان من رجال مسلم والأربعة، إلا أنه طعن فيه أئمة الجرح والتعديل من جهة الرواية، ووصفوه بالإضطراب والتخليط. انظر تهذيب التهذيب (8/465 – 468). وسأل البرقاني الدارقطني عنه فقال: "صاحب سنة يخرّج حديثه. ثم قال: إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد". انظر سؤالات البرقاني (ص 58).
وهو هنا يروي عن مجاهد. وخلاصة القول فيه عند الذهبي أنه: (فيه ضعف يسير من سوء حفظه )، وعند الحافظ ابن حجر أنه: (صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك). انظر الكاشف (2/13). تقريب التهذيب (ص 817 ت 5721).
الرد على المعترض صاحب كتاب رفع المنارة
آفة أهل الأهواء والبدع هي عدم قبول الحق إذا خالف أهواهم، والمعترض أحدهم. ولما كان رد هذا الحديث من قبل الأئمة خالف هواه، طفق يبحث عما ينصر غرضه وبدعته، ويقلل من أقوالهم في الراوي حفص بن سليمان، فقال (ص 278). بعد إقراره بضعف سنده: "وبالغ فيه بعضهم فنسبه إلى الكذب".
والمعترض حاله كالمستغيث من الرمضاء بالنار، لجأ إلى قول السبكي في الدفاع عن حفص بن سليمان، وترك اللجوء إلى أقوال أئمة الجرح والتعديل، لهوى ينصره وبدعة يعتقدها، وكل الذي دافع به السبكي عن حفص هو: تعجبه من كونه إماما في القراءة كيف يكذب في الحديث! وأن الطعن فيه إسراف.
إن اتهام أئمة العلم بالقدح في الرواة دون مبرر من قبل السبكي وابن ممدوح، تعالم منهما لهوى في نفسيهما. على أن الأئمة لم يجهلوا كون حفص من القرّاء، وإليك أقوال من وصفهم السبكي بالإسراف والمعترض بالمبالغة، في حق حفص بن سليمان:(111/28)
قال الدارمي عن ابن معين في: "وسألته عن حفص بن سليمان الأسدي الكوفي كيف حديثه؟ فقال: ليس بثقة".وقال البخاري: "تركوه". وقال مسلم: "متروك الحديث". وقال الجوزجاني: "قد فرغ منه منذ دهر". وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت أبي يقول: حفص بن سليمان يعني أبا عمر القارىء متروك الحديث". كما ذكر عن أبيه عن شعبة أنه قال: "أخذ مني حفص بن سليمان كتابا فلم يرده وكان يأخذ كتب الناس فينسخها". كما اتهمه بذلك ابن أبي حاتم فقال: "أخذ منى حفص بن سليمان كتابا فلم يرده، قال: وكان يأخذ كتب الناس فينسخها". وقال ابن حبان: "كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها سماع". وقال النسائي: "متروك الحديث". وذكر الخطيب عن علي بن المديني أنه قال: "متروك ضعيف الحديث وتركته على عمد". كما ذكر عن أبي علي صالح بن محمد أنه قال: "لا يكتب حديثه هو المقرىء كان يتيما في حجر عاصم بن أبي النجود أحاديثه كلها مناكير". كما ذكر عن عبد الرحمن بن يوسف بن خراش أنه قال: "حفص بن سليمان كذاب متروك يضع الحديث". كما ذكر عن يحيى الساجي أنه قال: "أحاديثه بواطل". وذكر الذهبي عن الدارقطني أنه قال: "ثبتا في القراءة واهيا في الحديث".
انظر على الترتيب: - تاريخ ابن معين (1/97). التاريخ الكبير (2/363). الكنى والأسماء (1/540 ت 2164). أحوال الرجال (ص 110). العلل ومعرفة الرجال (1/401). المصدر السابق (2/42). الجرح والتعديل (1/140). المجروحين (1/255). الضعفاء (ص 31 ت 134). تاريخ بغداد (8/186). سير أعلام النبلاء (5/260) -.
فهؤلاء أربعة عشر إماما نقل أقوالهم أئمة مثلهم في حق (حفص بن سليمان)، لم يجهلوا كونه من أئمة القراء. ثم ذكر المعترض أن حفص بن سليمان له متابعات، تقوى الحديث السابق وتعضده، وهو ما سنتكلم عليه:
متابعات
لحفص بن سليمان متابعان، لكن لايفرح بهما لشدة ضعف إسناديهما:(111/29)
الأولى: عن علي بن الحسن بن هارون الأنصاري.
أخرجها الطبراني المعجم الكبير (12/406).، قال: (حدثنا أحمد بن رشدين ثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري ثنا الليث بن بنت الليث بن أبي سليم قال حدثتني جدتي عائشة بنت يونس امرأة الليث عن ليث…به).
سند ظلمات بعضها فوق بعض، وله عدة علل:
1. "أحمد بن رشدين"، وهو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين المصري، أبو جعفر.
قال ابن عدي: كذبوه وأنكرت عليه أشياء. وقال: سمعت محمد بن سعد السعدي يقول: سمعت أحمد بن شعيب النسائي يقول: كان عندي أخو ميمون وعدة، فدخل ابن رشدين يعني أبا جعفر، فصفقوا به وقالوا له: يا كذاب! فقال لي ابن رشدين: ألا ترى ما يقول هؤلاء؟ فقال له أخو ميمون: أليس أحمد بن صالح أمامك! قال: بلى. فقال: سمعت علي بن سهل يقول: سمعت أحمد بن صالح يقول: إنك كذاب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: سمعت منه بمصر، ولم أحدث عنه لما تكلموا فيه. وقال ابن يونس: وكان من حفاظ الحديث وأهل الصنعة. وقال مسلمة في الصلة: حدثنا عنه غير واحد، وكان ثقة عالما بالحديث. وذكروه ضمن الوضاعين للحديث.
انظر لسان ميزان الإعتدال (1/257). الكشف الحثيث (ص 58)، تنزيه الشريعة (1/32).
2. "علي بن الحسن بن هارون، والليث ابن بنت الليث، وعائشة بنت يونس".
ثلاثتهم لم أقف على تراجمهم. قال الهيثمي مجمع الزوائد (4/2): "رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عائشة بنت يونس ولم أجد من ترجمها". وقال الحافظ تلخيص الحبير (2/267).: "أما رواية الطبراني: ففيها من لايعرف".
الثانية: عن جعفر بن سليمان الضبعي.
ذكرها ابن عبد الهادي في (الصارم ص 98) فقال: (قال أبو بكر محمد بن عمر بن خلف بن زنبور الكاغدي، أخبرنا محمد بن السري بن عثمان التمار، حدثنا نصر بن شعيب مولى العبيديين، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ليث…به).
علل المتابعة
1. "أبو بكر محمد بن عمر بن خلف بن زنبور الكاغدي".(111/30)
قال الخطيب في تاريخه (3/35): "كان ضعيفا جدا. سألت الأزهري عن ابن زنبور فقال ضعيف في روايته عن ابن منيع". وذكر عن العتيقي أنه قال: "فيه تساهل".
2. "محمد بن السري بن عثمان التمار".
قال الذهبي في الميزان (3/559).: "يروي المناكير والبلايا ليس بشيء". وقال ابن حجر في لسان ميزان (1/172)، ترجمة أحمد بن روح البزاز: "كان مخلطا".
3. "نصر بن شعيب".
قال الذهبي في ميزان الإعتدال (4/251): "ضُعِّف".
4. "جعفر بن سليمان الضبعي".
قال ابن عبد الهادي في الصارم (ص 98): "هكذا وقع في هذه الرواية جعفر بن سليمان الضبعي، وذلك خطأ قبيح ووهم فاحش، والصواب حفص بن سليمان، وهو حفص بن أبي داود القاري، والحديث حديثه وبه يعرف ومن أجله يُضعف، ولم يتابعه عليه ثقة يحتج به. وهذا التصحيف الذي وقع في هذا الإسناد هو من بعض هؤلاء الشيوخ الذين لايعتمد على نقلهم، ولا يحتج بروايتهم".
وعلى فرض عدم التصحيف، وأن الرواي هو جعفر الضبعي، وإن كان ثقة فقد تكلم فيه بعضهم وأنكروا عليه بعض ما روى، قال الذهبي في المغني في الضعفاء (1/132): "صدوق صالح ثقة مشهور، ضعفه يحيى القطان وغيره فيه تشيع، وله ما ينكر وكان لا يكتب".
الرد على المعترض صاحب كتاب رفع المنارة
لم يفرح المعترض بهاتين المتابعتين، إذ لم يستطع دفع ما قيل في بعض رواتهما، واكتفي بقوله في المتابعة الثانية (ص 280).: "وهذا الإسناد ضعيف بسبب أبي بكر محمد بن السري بن عثمان التمار"، وذكر قول الذهبي فيه، وقول ابن عساكر أن جعفر وهم والصحيح "حفص".
قلت: تقيده ضعف الإسناد بـ "أبي بكر محمد بن السري"، تعالم، فالسند فيه ثلاثة رواة متكلم فيهم غير أبي بكر التمار كما حققناه آنفا.
عبد الغفار بن محمد
عرض الملف الشخصي الخاص بالعضو
إرسال رسالة خاصة إلى عبد الغفار بن محمد
إيجاد جميع المشاركات للعضو عبد الغفار بن محمد
إضافة عبد الغفار بن محمد إلى قائمة الأصدقاء لديك
#5 07-01-2005, 12:19 PM(111/31)
عبد الغفار بن محمد
عضو جديد تاريخ التّسجيل: Jan 2005
المشاركات: 19
--------------------------------------------------------------------------------
الحلقة الرابعة
وتشمل بقية أحاديث ابن عمر الخمسة متضمنة الرد على المتعالم ابن ممدوح
الحديث الثاني
(من زار قبري وجبت له شفاعتي - وفي رواية – حلّت).
حديث منكر. اختلف في روايته على موسى بن هلال، فتارة يرويه:
1. "عن عبيد الله بن عمر – المصغر الثقة - عن نافع عن ابن عمر ".
2. "عن عبد الله بن عمر – المكبر الضعيف - عن نافع عن ابن عمر ".
دندن حول هذا الحديث من يريد إثباته، والعمل به أنه من رواية - المصغر الثقة – والصحيح خلافه. وزعم المعترض صاحب كتاب رفع المنارة (ص 236). أن رواية موسى بن هلال عن عبيدالله المصغر رواها عنه خمسة هم:
1. عبيد بن محمد الوراق.
2. جعفر بن محمد البزوري.
3. محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي.
4. الفضل بن سهل.
5. محمد بن عبد الرزاق.
ثم ذكر (ص 238) من روى عن موسى بن هلال عن عبد الله المكبر وهم:
1. علي بن معبد بن نوح.
2. الفضل بن سهل.
3. محمد بن إسماعيل الأحمسي.
4. عبيد الوراق.
ثم رجح المعترض على طريقته في التعالم رواية المصغر لهوى ينصره.
قال مقيده عفا الله عنه: الحديث يرويه عن موسى بن هلال ستة رواة، أربعة رووا عنه كلا الطريقين (المصغر والمكبر)، وانفرد الخامس برواية طريق المصغر، وانفرد السادس برواية طريق المكبر. تفصيل ذلك:
• من روى الطريقين:
الأول: "عبيد بن محمد بن القاسم بن أبي مريم الوراق". وثقه الخطيب في تاريخه (11/97).
أخرج طريق (المصغر): الدارقطني في سننه (2/278) ، وابن خزيمة في صحيحه عزاه له الحافظ في اللسان (7/140 ت 8779). والبيهقي في الشعب (3/490 ح4160).
أما طريق (المكبر) فقد أخرجه الخطيب في كتابه تلخيص المتشابه (1/581).
الثاني: "محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي". وثقه الحافظ في التقريب (ص 826 ت 5769).(111/32)
وأخرج طريق (المصغر): الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/447). أما طريق (المكبر) فقد أخرجه: ابن عدي في الكامل (6/2350). وابن خزيمة في صحيحه عزاه له الحافظ ابن حجر في اللسان (6/135).
الثالث: "الفضل بن سهل الأعرج".
قال في التقريب (ص 782 ت 5438): "صدوق". أخرج رواية (المصغر): البيهقي في الشعب (3/490 ح 4160). وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن (ص273 ح 290). أما طريق (المكبر) فقد أخرجه: السبكي في شفاء السقام (ص 7). والحسيني في (أخبار المدينة) عزاه له السبكي في الشفاء، والراوي عن الفضل رجل مجهول، حيث قال الحسيني: حدثنا رجل من طلبة العلم.
الرابع: "محمد عبد الرزاق".
لم أوفق في العثور على ترجمته. أخرجه القاضي عياض في شفائه، واختلفت طبعات الكتاب في ذلك: ففي بعض الطبعات يروي عن (المصغر)، كطبعة "دار الفكر لعام 1401هـ بدون تحقيق (2/83)". أما رواية (المكبر) ففي طبعة "دار الكتاب العربي بتحقيق البجاوي (2/666)" ، وشرح الشفا للخفاجي "الطبعة السلفية (3/511)".
فهؤلاء الأربعة رووا كلا الطريقين عن موسى بن هلال.
• من تفرد برواية (المصغر)
تفرد جعفر بن محمد البزوري - لم أوفق في العثور على ترجمته وهو من شيوخ الطبري - برواية المصغر، التي أخرجها العقيلي في الضعفاء الكبير (4/170).
• من تفرد برواية (المكبر)
تفرد علي بن معبد بن نوح، برواية المكبر التي أخرجها الدولابي في الكنى (2/64). وثقه في التقريب (ص 705 ت 4835).
ترجيح الأئمة رواية المكبر
أقوى دليل صريح صحيح في هذه المسألة هو استنكار عبيدالله بن عمر - المصغر – من قيام ابن عمر بزيارة القبور الثلاثة إذا قدم من سفر أو أراده، كما رواه عبد الرزاق المصنف (3/576) فقال: "وأخبرناه عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر". ثم عقبه باستنكار عبيد الله، فقال: "قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر".(111/33)
قال مقيده عفا الله عنه: فهذه شهادة من عبيدالله بن عمر الثقة لهذه القضية، كالمتعجب من فعله وتفرده من دون الصحابة رضي الله عنهم، فيستبعد أن يروي عبيدالله حديثا منكرا في الزيارة.
أئمة الحديث وحفاظه عند رواية هذا الحديث ووقوفهم على الخلاف فيه، رجحوا بعد التحقيق أنه من رواية عبد الله المكبر، وهم:
1. الحافظ ابن عدي.
قال الكامل في الضعفاء (6/2350) عند ذكره لرواية (محمد بن إسماعيل بن سمرة): "وقد روى غير ابن سمرة هذا الحديث عن موسى بن هلال، فقال: عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. قال وعبد الله أصح، ولموسى غير هذا، وأرجو أنه لا بأس به".
2. الحافظ أبو بشر الدولابي.
نص على ذلك في سياق سنده في كتابه الكنى (2/64) فقال: "حدثنا علي بن معبد بن نوح حدثنا موسى بن هلال حدثنا عبد الله بن عمر – أبو عبد الرحمن أخو عبيدالله - عن نافع عن ابن عمر". قال الحافظ ابن حجر معقبا عليه في اللسان (5/135): "فهذا قاطع للنزاع من أنه عن المكبر، لا عن المصغر، فإن المكبر هو الذي يكنى أبا عبد الرحمن، وقد أخرج الدولابي هذا الحديث فيمن يكنى أبا عبد الرحمن".
3. الحافظ ابن خزيمة.(111/34)
ذكر ابن حجر في تلخيص الحبير (2/267) قوله فقال: "إن صح الخبر فإن في القلب من إسناده، ثم رجح أنه من رواية عبد الله بن عمر العمري المكبر الضعيف، لا المصغر الثقة وصرح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر، وقال: إنه لا يصح حديث موسى ولا يتابع عليه ولا يصح في هذا الباب شيء". كما ذكر عنه الحافظ أيضا قوله: "أنا ابرأ من عهدته، هذا الخبر من رواية الأحمسي أشبه لأن عبيد الله بن عمر أجل واحفظ من أن يروى مثل هذا المنكر، فإن كان موسى بن هلال، لم يغلط في من فوق أحد العمرين، فشبه أن يكون هذا من حديث عبد الله بن عمر، فأما من حديث عبيد الله بن عمر فإنى لا أشك أنه ليس من حديثه". ثم قال الحافظ: "هذه عبارته بحروفها وعبد الله بن عمر العمرى بالتكبير ضعيف الحديث، وأخوه عبيد الله بن عمر بالتصغير ثقة حافظ جليل، ومع ما تقدم من عبارة ابن خزيمة وكشفه عن علة هذا الخبر، لا يحسن أن يقال أخرجه بن خزيمة في صحيحه إلا مع البيان".
4. الحافظ البيهقي.
قال في الشعب (3/490) بعد أن ذكر إسناده، من طريق موسى بن هلال: "وسواء قال: عبيد الله أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره".
5. الحافظ الضياء المقدسي.
قال ابن حجر في التلخيص (2/267): "جزم الضياء في الأحكام، وقبله البيهقي بأن عبد الله بن عمر المذكور في هذا الإسناد هو المكبر".
6. الحافظ الذهبي
وافق في الميزان (4/226) من سبقه من الأئمة في كون الحديث من رواية عبد الله المكبر، ونص كلامه فيه: "وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا من زار قبري وجبت له شفاعتي".
7. الحافظ ابن حجر
حيث تابع الذهبي في نكارة حديثه وكونه من رواية عبد الله - المكبر. انظر لسان الميزان (6/134).
علل الحديث:
أما وقد أثبتنا بما لا يدع مجالا لشك طالب الحق، كون الحديث من رواية المكبر، بترجيح الأئمة لذلك، فيكون فيه علتان قادحتان:
الأولى: "موسى بن هلال".(111/35)
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبى عنه؟ فقال: مجهول". الجرح والتعديل (8/166). وقال العقيلي الضعفاء الكبير (4/170): "لا يصح حديثه ولا يتابع عليه". وقال ابن عدي في الكامل (6/2350): "لا بأس به". وزاد الذهبي في الميزان (4/226): "صالح الحديث .. وقال: وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر". وذكره في المغني في الضعفاء (2/688). وتابعه الحافظ في اللسان (5/134)، وذكر عن ابن القطان قوله فيه: "أنه لم تثبت عدالته"، كما ذكر عن البرقاني تجهيل الدارقطني له.
الرد عل المعترض
طفق المعترض يدفع الجهالة عن موسى بن هلال في موضعين من كتابه (من صفحة 230 إلى 235، ومن صفحة 240 إلى 245)، حيث سود صفحات بما لا طائل تحته، لو تركها بيضاء نقية لكان أجدى له، وقد أثبتنا بما لايدع مجالا للشك من كلام أئمة الجرح والتعديل، أنه من رواية عبد الله المكبر الضعيف، واستنكار أخيه عبيدالله هذا الفعل من ابن عمر. فلا فائدة في تحسين حال موسى بن هلال في هذا الحديث.
قال العلامة السهسواني رحمه الله في صيانة الإنسان (ص 57): "وبالجملة فموسى بن هلال في عداد من ينجبر ضعفه بالمتابعة وتعدد الطرق، فلينظر هل تابع أحد موسى بن هلال في رواية هذا الحديث؟ وعلى الأول فهل ذلك المتابع صالح للمتابعة أم لا؟ فأقول: قد تابعه مسلم بن سالم الجهني وهو لا يصلح للمتابعة، فإن أبا داود السجستاني قال في حقه: أنه ليس بثقة، نص عليه الحافظ في اللسان. ومن يكتب في حقه هذا اللفظ فهو لا يصلح للمتابعة".
وسيأتي الكلام على مسلم بن سالم الجهني، عند كلامنا على متابعة موسى بن هلال.
الثانية: "عبد الله بن عمر بن حفص العمري".(111/36)
أختلفت فيه أقوال الأئمة: كابن معين، ذكر عنه ابن عدي (4/1459 – 1461) أنه: "ضعفه مرة، ومرة قال: ليس به بأس يكتب حديثه"، كما ذكر عنه لما سئل عن حاله في نافع فقال: "صالح ثقة". واقتصر الخطيب في تاريخه (10/19) على قوله: "صالح"، فقط. واختلفت فيه أقوال أحمد بن حنبل، فنقل عنه ابن عدي في الكامل (4/1459 – 1461) قوله: (صالح قد روي عنه، لابأس به، وقال المروزي عنه: لم يرضه، وقال: لين الحديث، ونقل عن أبي زرعة: قيل لابن حنبل: فكيف حديث عبد الله بن عمر؟ فقال: كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلا صالحا). ووافق ابن حبان في المجروحين (2/7)، أحمد فيما نقله أبو زرعة.
وقال الحافظ في التهذيب (5/326 - 328): "وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق في حديثه اضطراب. وقال العجلي: لابأس به. وقال أحمد بن يونس: لو رأيت هيئته لعرفت أنه ثقة. وقال الخليلي: ثقة غير أن الحفاظ لم يرضوه. وقال صالح جزرة: لين مختلط. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الترمذي في علله الكبير عن البخاري: ذاهب لا أروي عنه شيئا. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي. وقال النسائي: ضعيف الحديث".
قال مقيده عفا الله عنه: فالرجل عداده في الضعفاء المتروك حديثهم، ولم يستقر عليه رأي الأئمة المتشددين والمتساهلين، ولأجله طعن الأئمة في حديثه وأنكروه وتبراوا منه.
الرد على المعترض صاحب كتاب رفع المنارة
شرِق المعترض برد أئمة الجرح والتعديل لأحاديث الزيارة، فطفق يعمل كحاطب ليل يجمع الحطب والخشب والهش والقش والروث والغث في تقوية الحديث، وتبجح عليهم بما لايليق، وظن نفسه – وبعض الظن إثم – أنه من أعلم أهل الأرض بالحديث وعلومه، فقال (ص 229):
"وقد صححه عبد الحق الإشبيلي، وصححه أو حسنه السبكي في (شفاء السقام)، والسيوطي في (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا)".(111/37)
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق العلمي يقتضي البحث والتحري والتقصي والتوثيق، وعدم سوق الكلام على عواهنه مع التلفيق، إذ هذا شأن أهل البدع والأهواء. وأما قوله: "صححه عبد الحق"، دعوى عارية عن التحقيق وتعالم، والذي ذكره ابن حجر عنه خلاف ذلك فكشف عوار المعترض، ففي لسان الميزان (6/135): "عن موسى بن هلال عن عبد الله بن عمر مكبرا، فأورده عبد الحق في الأحكام من طريقه وسكت عليه، فتعقبه ابن القطان وقال: الظاهر أنه لم يسكت عنه تصحيحا وانما تسامح فيه لأنه من الحث أو الترغيب، ثم ذكر كلامهم في موسى بن هلال، وقال: الحق أنه لم تثبت عدالته". فأين التصحيح المزعوم؟
وأما قوله: "صححه السبكي"، فهذا لاعبرة به ولا يعتد به عند التحقيق، إذ السبكي ليس من أهل تصحيح الأحاديث، يُعرف ذلك من سَوقِه أحاديث الزيارة على عواهنها في كتابه الشفاء، حيث ظن ـ وبعض الظن إثم ـ أن كثرة الطرق مدعاة لتصحيح الحديث وهذا ليس على إطلاقه، وديدن أهل العلم المحققين نقد الأحاديث وطرقها مع البيان.
وأما زعمه تصحيح السيوطي له في "مناهل الصفا" خيانة علمية، فالسيوطي لم يحسِّن الحديث أو يصححه، وعبارته فيه (ص 208 ح 1115): "…ابن خزيمة في صحيحه متوقفا في ثبوته، والبزار والطبراني، وله طرق وشواهد حسَّنه الذهبي لأجلها". فأين تصحيح السيوطي؟ ثم إن الذهبي لم يحسن هذا الحديث كما زعم السيوطي، بل حكم بنكارته كما ذكرنا ذلك عنه آنفا عند كلامه على "موسى بن هلال" وعبارته: "وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر" انظر ميزان الإعتدال (4/226). ويؤيد ذلك نقل السخاوي عن الذهبي قوله: "طرقه كلها لينة". انظر المقاصد الحسنة (ص 410).
وبعد ما تقدم من العلل القادحة التي صرح بها أئمة هذا الشأن في الحديث، تعالم المعترض فقال (ص 229): "وقد أُعل هذا الحديث بعلل لا يصح منها شيء".
فأقول للمعترض: يغنيك عن قول قبيح تركه قد يوهن الرأي الصحيح شكه. وقد مرت علل قوادح.(111/38)
ثم قال المعترض (ص 234): "والحاصل مما سبق أن إطلاق جهالة الحال على موسى بن هلال، من ابن عبد الهادي في الصارم (ص 32) فيها نظر ظاهر، وانظر إلى المقال ولا تنظر لمن قال، فإذا وافق المقال القواعد فهو الحق، وإن خالفه فهو مما لايلتفت إليه والله المستعان".
تعالم المعترض جعله يَشرق بنقد الإمام ابن عبد الهادي للسبكي، فخصه بسؤ الأدب في المقال ليثأر للسبكي بالهوى ودعوى الباطل. وابن عبد الهادي مسبوق في الحكم على ابن هلال بالجهالة سبقه الحافظان الناقدان، الدارقطني وأبو حاتم الرازي كما في اللسان (2/134 – 135)، وهل تجهيلهما لموسى بن هلال مخالف لقواعد الحديث كما زعم المتعالم المعترض؟
ثم تعالم مرة أخرى وكأنه أحد أئمة نقاد الحديث فقال (ص 236): "فتحسين حديث موسى بن هلال، هو ما أراه صوابا، والله أعلم".
قلت: هذا الحديث طعن في صحته وحكم بنكارته وتبرأ منه كبار أئمة الحديث ونقاده وصيارفته: "كابن خزيمة والعقيلي والبيهقي وابن القطان والذهبي وابن حجر"، والمعترض متعالم لا يؤبه لقوله بجانب أقوالهم!!
ثم حاول المعترض متعالما إثبات رواية عبيدالله – المصغر - للحديث فقال (ص 240): "بل حدث به موسى بن هلال، عن عبيدالله بن عمر بأسانيد صحيحة مرات وبمخارج متعددة، فقد رواه هنا من هذا الوجه كما سبق خمسة من الثقات وتعددت مخارجهم".
هذه دعوى باطلة والدعاوى إن لم تقم عليها البينات أصحابها أدعياء، وفي بداية تحقيق هذا الحديث، بينت من روى هذا الحديث عن ابن هلال كلا الطريقين - المكبر والمصغر - وذكرت عدم وقوفي على ترجمة كل من: "جعفر بن محمد البزوري" راوي طريق المكبر، و"محمد بن عبد الرزاق" وهو ممن رُوي عنه الطريقان، فليذكر المعترض المتعالم من هما ومن وثقهما؟(111/39)
ثم تعالم المعترض رادا على ابن عبد الهادي فقال (ص 247): "أما كونه ضعيف الإسناد منكر المتن، فهو معارض بتصحيح من هو أعلم وأقدم وأقعد بهذا الفن منه، أعني الحافظ أبا علي بن السكن الذي صحح هذا الطريق بمفرده … إلى أن قال: … أما كونه منكر المتن فهي دعوى لايسندها إلا الدفع بالصدر فقط، فلا دليل أتى به ابن عبد الهادي ليقيم به صلب هذه الدعوى المتهاوية".
قال مقيده عفا الله عنه: شرق المعترض بإنكار ابن عبد الهادي الحديث، وهو مسبوق بإنكار كبار الأئمة كما سبق، وتجاهل المعترض أقوالهم، وجعل حكمهم على الحديث دعاوي متهاوية لا يسندها إلا الدفع بالصدر. وتفرد ابن السكن بتصحيح الحديث غير ملزم، لما فيه من علل قادحة.
ثم حكم المعترض متعالما على الحديث بقوله (ص 264): "حديث حسن ولابد، وهذا ماتقتضيه قواعد الحديث، أما من كابر فلا كلام لنا معه".
قال مقيده عفا الله عنه: هذه طريقة أهل الأهواء والمبتدعة البطالين المتعالمين، فالأئمة: "ابن خزيمة والعقيلي والبيهقي وابن القطان، والذهبي وابن عبد الهادي وابن حجر"، لما صدر حكمهم على الحديث بالنكارة والبراءة من عهدته، لم يصدر عنهم مثل هذا الهراء، الذي صدر عن هذا المتعالم في حق المخالف لهم. فاللهم أرزقنا الأدب والإقتداء بأئمتنا.
ومتابعة الحديث الآتي تثبت أن الحديث من رواية عبد الله المكبر.
متابعة لموسى بن هلال عن عبيدالله – المصغر -
(من جاءني زائرا لا يعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة) ).
حديث منكر. أخرجه الطبراني المعجم الكبير (12/291)، والأوسط (5/275)، (حدثنا عبدان بن أحمد ثنا عبد الله بن محمد العبادي البصري ثنا مسلم بن سالم الجهني حدثني عبيد الله بن عمر.. به..).(111/40)
رويت هذه المتابعة من طريق عبد الله – المكبر الضعيف -، عزاها الذهبي في الميزان للدارقطني وأبي الشيخ من رواية مسلم بن سالم عن عبد الله المكبر، وقد رجعت لطبعتين من الميزان: (تحقيق البجاوي 4/104) ، و تحقيق مجموعة (6/415)، وفي كليهما ذكر عبد الله المكبر. وهو كذلك في اللسان لابن حجر في طبعتين مختلفتين هما: (دار الفكر (6/29)، و (دار إحياء التراث العربي (6/705)، في ترجمة مسلم عن عبد الله المكبر.
وأخرجه من طريق – المكبر - أيضا: أبو نعيم في أخبار أصبهان، وهو كذلك في طبعتين عن - المكبر- هما: (دار الكتاب الإسلامي (2/219)، و (دار الكتب العلمية تحقيق سيد كسروي (2/190).
ونص عليه الحافظ في التلخيص (2/267) فقال: "رواه الطبراني من طريق مسلمة بن سالم الجهني، عن عبد الله بن عمر بلفظ: (من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة)، وجزم الضياء في الأحكام وقبله البيهقي، بأن عبد الله بن عمر المذكور في هذا الإسناد هو المكبر". كما نص في التهذيب (10/131) على أنه روى عن المكبر والمصغر. ومع ذلك لم تسلم هذه المتابعة من العلة.
علة المتابعة: "مسلم بن سالم الجهني".(111/41)
ويقال له "مسلمة بن سالم" كما في التقريب (ص 938 ت 6672). وضعفه، قال ابن حزم في المحلى (10/326): "ليس بالمعروف"، وقال الذهبي في المغني في الضعفاء (2/655) عن أبي داود: "ليس بثقة". ولأجله ضعف الهيثمي الحديث في مجمع الزوائد (4/2). وقال ابن عبد الهادي في الصارم (ص 68): " تفرد هذا الشيخ الذي لم يعرف بنقل العلم، ولم يشتهر بحمله ولم يعرف من حاله ما يوجب قبول خبره، وهو: (مسلمة بن سالم الجهني)، الذي لم يشتهر إلا برواية هذا الحديث المنكر، وحديث آخر موضوع ذكره الطبراني بالإسناد المتقدم، ومتنه (الحجامة في الرأس أمان من الجنون والجذام والبرص والنعاس والضرس).. وإذا تفرد مثل هذا الشيخ المجهول الحال، القليل الرواية بمثل هذين الحديثين المنكرين، عن عبيد الله بن عمر أثبت آل عمر بن الخطاب في زمانه وأحفظهم، عن نافع عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، من بين سائر أصحاب عبيد الله الثقات المشهورين والأثبات المتقنين، عُلم أنه شيخ لا يحل الاحتجاج بخبره، ولا يجوز الاعتماد على روايته".
الرد على المعترض
تعالم المعترض فقال (ص 246): "والحاصل: أن السند صح إلى مسلمة بن سالم الجهني، فانحصر الكلام فيه. فأقول: الرجل وإن قال عنه أبو داود: ليس بثقة، لكن صحح له ابن السكن، ومقتضى ذلك أن يكون ثقة عنده، فمع توثيق ابن السكن، وكلام أبي داود فالرجل يصلح للمتابعات ولا ريب".
قال مقيده عفا الله عنه: فرح المعترض ـ والله لا يحب الفرحين ـ بمتابعة مسلم هذا لموسى بن هلال، فشغب معتمدا تصحيح ابن السكن للحديث، وقد ذكرنا قبل كلام الأئمة النقاد في مسلم وأنه ليس بثقة ولا معروف، وتضعيف الحافظ الهيثمي الحديث لأجله، وقول المحدث السهسواني أنه لا يصلح للمتابعة، ولكن المعترض صاحب هوى.
الحديث الثالث
(من زار قبري حلت له شفاعتي)(111/42)
حديث واه ضعيف منكر جدا يصل لدرجة الموضوع على النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح الإحتجاج به، أخرجه البزار، قال: (حدثنا قتيبة ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر … الحديث). قال البزار : "عبد الله بن إبراهيم لم يتابع على هذا، وإنما يكتب ما يتفرد به".انظر كشف الأستار (2/57 ح 1198).
علل الحديث:
1. "عبد الله بن إبراهيم"، هو ابن أبي عمرو المدني الغفاري.
"يدلسونه لوهنه. نسبة ابن حبان الى الوضع. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لايتابع عليه. وقال الدار قطني: حديثه منكر. قال الحاكم: يروي عن جماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة. وذكر له الذهبي أحاديث موضوعة وباطلة".انظر ميزان الإعتدال (2/388). وقال العقيلي الضعفاء الكبير(2/233): "كان يغلب على حديثه الوهم". وذكر الحافظ في التهذيب (5/137) إنكار أبي داود والساجي حديثه. وفي التقريب (ص 490 ت 3216): "متروك". كما ذكروه ضمن الوضاعين للحديث النبوي. انظر الكشف الحثيث (ص 148)، وتنزيه الشريعة (1/71).
2. "عبد الرحمن بن زيد"، هو ابن أسلم.
أجمع نقاد الحديث وعلماء الجرح والتعديل على ضعفه، وأن له أحاديث أنكرت عليه، وبعضهم ترك حديثه وروى عن أبيه أحاديث موضوعة. انظر تهذيب التهذيب (6/177). وذكره في تنزيه الشريعة (1/78) ضمن الوضاعين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم .(111/43)
وعلى رغم ماقاله الأئمة في هذين الراويين، إلا أن السبكي غض الطرف عن ذلك فقال في شفاء السقام (ص 14): "وإذا كان المقصود من هذا الحديث تقوية الأول به وشهادته له، لم يضر ما قيل في هذين الرجلين، إذ ليس راجعا إلى تهمة كذب ولا فسق، ومثل هذا يحتمل في المتابعات والشواهد". فنَقَد العلامة الإمام ابن عبد الهادي كلام السبكي السابق فقال (ص 56): "ولو ذكر بدل هذا الحشو ما يتعلق بعلة الحديث، وتحرير القول في إسناده لكان أحسن وأولى، وإنما ذكرت مثل هذا عن المعترض وإن كان فيه تطويل للتنبيه على أنه يطول بمثله الكلام على الأحاديث في كثير من المواضع".
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الحديث حاله كحال بعض راوته، وأدنى طلبة العلم معرفة بعلم الحديث يستطيع الحكم عليه بأنه حديث واه منكر موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ، ليس عليه من عَبق النبوة شيء، إذ لا يعقل أن عدم زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تمنع من شفاعته ، وهذا لايقوله عاقل، لأنه أول الشافعين لأمته في المحشر. انظر صحيح مسلم (الإيمان ح 196).
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"(111/44)
من بدهيات المشتغلين بعلم الحديث عند تحقيق حديث ما، جمع شواهده ومتابعاته وطرقه في موضع واحد، ليفسر بعضه بعضا، وللحكم عليه صحة وضعفا قبولا وردا، لكن المعترض فاتته هذه البديهة لغرض ينصره وبدعة يعتقدها، إذ من المفترض ذكر هذا الحديث مع الحديث الثاني الذي علته "موسى بن هلال"، لأنه من متابعاته، فذكر هذا الحديث وتكلم عليه فيه (ص 285)، وتكلم على حديث "موسى بن هلال" من (ص 229 حتى ص 263)، ثم تكلم بعده على أحاديث ابن عباس وأنس وبكر بن عبد الله وحاطب وعمر رضي الله عنهم من (ص 264 وحتى ص 278) ، ثم عاد في (ص 278 حتى ص 281) فتكلم على حديث "حفص بن سليمان" وهو أول حديث من أحاديث ابن عمر تكلمنا عليه في كتابنا هذا. ثم ذكر حديث ابن مسعود بعده حتى (ص 283) ، ثم ذكر بعده حديثا لابن عمر في جفوة من لم يزره بعد الحج من (ص 283 ص 285)، ثم ذكر بعده الحديث الذي نحن بصدده هنا.
ولما كانت علل أحاديث ابن عمر ، تمنع من تقويتها والقول بحسنها عند التحقيق، فرقها المعترض في ثنايا كتابه ليشتت ذهن القارئ ظنا منه _ وبعض الظن إثم _ أن ذلك ينفعه في تحسين حال الحديث. ومع ذلك لم يستطع المعترض التهويل والشغب لتحسينه كما فعل في سابقه.
الحديث الرابع
(من زارني إلى المدينة كنت له شفيعا أو شهيدا).
حديث مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه الدارقطني في علله، قال: (حدثنا جعفر بن محمد الواسطي، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن الحسن الختلي، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا عون بن موسى، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر..). عزاه له ابن عبد الهادي والسبكي. انظر الصارم المنكي (ص 128). شفاء السقام (ص 28). وقال الأخير: "وإنما لم أفرد هذا الحديث بترجمة لأن نسخة العلل للدارقطني التي نقلت منها سقيمة". فقال ابن عبد الهادي معقبا عليه :(111/45)
"والجواب أن يقال: هذا اللفظ المذكور غلط في هذا الحديث، حديث نافع عن ابن عمر، ولفظ الزيارة فيه غير محفوظ، ولو كان محفوظا لم يكن فيه حجة على محل النزاع، والمحفوظ في هذا عن أيوب السختياني، ما رواه هشام الدستوائي وسفيان بن موسى عنه عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أستطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فإنه من مات بها كنت له شفيعا أو شهيدا). هذا هو حديث أيوب عن نافع، ليس فيه ذكر الزيارة أصلا… إلى أن قال: ... وقد وقف هذا المعترض على ما ذكره الدارقطني في كتاب العلل من الإختلاف في إسناد الحديث ومتنه، ولم ينقل منه إلا طريقا واحدا أخطأ فيه الراوي، ولفظا واحدا وهم فيه الناقل، وأعرض عن ذكر الطرق الواضحة والألفاظ الصحيحة، وهل هذا إلا عين الخذلان أن ينظر الرجل في ألفاظ الحديث وطرقه في موضع واحد فينقل منها الضعيف السقيم ويدع القوي الصحيح من غير بيان لذلك، ثم يعتل بأن النسخة التي نقل منها سقيمة".
قلت: لم ينفرد ابن عبد الهادي بهذا، بل وافقه ابن حجر فقال لسان الميزان (4/389 ترجمة عون بن موسى): "المحفوظ: من أستطاع".
فأين المتعالم المعترض ابن ممدوح من السبكي وسقطاته
الحديث الخامس
(من حج ولم يزرني فقد جفاني)
حديث كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم حكم بوضعه أئمة.
أخرجه ابن عدي (7/2480). وحكم بوضعه، وابن حبان في المجروحين (3/73)، والدارقطني في غرائب مالك عزاه له السبكي في شفاء السقام (ص 26)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/217) وحكم بوضعه. كلهم من طريق:
(محمد بن محمد بن النعمان، عن جده، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر).
كما حكم بوضعه الذهبي في ميزان الإعتدال (4/265).
علل الحديث:(111/46)
1. "محمد بن محمد بن النعمان بن شبل الباهلي".قال الحافظ في التهذيب (9/433): " أتهمه الدارقطني وضعفه جدا". كما ذكر عنه في اللسان (5/358) أنه أخرج في غرائب مالك أحاديث من طريقه واستنكرها. وفي التقريب (ص 894 ت 6315): "متروك". وذُكر ضمن الوضاعين للحديث النبوي. انظر الكشف الحثيث (ص 246)، تنزيه الشريعة (1/113).
2. "النعمان ين شبل الباهلي".قال ابن حبان في المجروحين (3/73): "يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوبات". وذكر ابن عدي في الكامل (7/2470) عن موسى بن هارون الحمال: "كان متهما". كما ذكر بسنده عن صالح بن أحمد بن أبي مقاتل، ثنا عمران بن موسى الدجاجي، ثنا النعمان بن شبل، وكان ثقة. ثم ذكر ابن عدي في آخر ترجمته: "لم أر في أحاديثه حديثا قد جاوز الحد فاذكره".
وقد رد ابن عبداهادي (ص 120) التوثيق الذي ساقه ابن عدي عن التعمان، لأن موثقه "صالح بن أحمد بن أبي مقاتل القيراطي"، مطعون فيه. وقال الذهبي في الميزان (2/287): "قال الدارقطني: متروك كذاب دجال أدركناه ولم نكتب عنه يحدث بما لم يسمع. وقال ابن عدي كان يسرق الحديث. وقال البرقاني: ذاهب الحديث". وذهب الحافظ في الإصابة (1/237 ت 1164) إلى أنه ضعيف في الجملة. وفي التلخيص (2/267): ضعيف جدا.
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
هذا أحد أحاديث ابن عمر التي فرقها المعترض في ثنايا كتابه (ص 283) ، لغرض ينصره وبدعة تعلق بها وشاغب لأجلها.
والمعترض كثير التعالم ومن ذلك قوله (ص 284) عن النعمان هذا: "ارتضاه ابن عدي". وأعرض عمن لم يرتضه من أئمة نقاد الحديث!
الحديث السادس
(من حج حجة الإسلام وزار قبري، وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس، لم يسأله الله فيما افترض عليه).(111/47)
حديث موضوع باطل حكم ببطلانه الذهبي وابن عبد الهادي ووافقهم ابن عراق، كما سيأتي بيانه في علل الحديث. وعزاه السبكي في شفاء السقام (ص 33) لأبي الفتح الأزدي في الثاني من فوائده، قال الأزدي: "حدثنا النعمان بن هارون بن أبي الدلهاث حدثنا أبو سهل بدر بن عبد الله المصيصي، حدثنا الحسن بن عثمان الزيادي، حدثنا عمار بن محمد، حدثني خالي سفيان، عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله".
قال مقيده عفا الله عنه: كان الأجدر بالسبكي التحقق من صحة الحديث شأن المحققين من العلماء لكنه تجاهل ذلك كله، وطفق يحسن حال رواته كـ: عمار بن محمد ابن أخت الثوري، والمصيصي والنعمان بن هارون والأزدي، وسكت عن متن الحديث المرفوض عقلا ونقلا، إذ لا يعقل أن من عمل بهذا الحديث لايسأله الله عما افترض عليه من أمر التوحيد والإيمان، والصلاة المفروضة والتي هي الفارق بين الإيمان والكفر، والزكاة والصيام والحج، هذا لايقوله عاقل. فما أحرى بالمعترض المتعالم صاحب كتاب رفع المنارة الشفقة على الحديث وعلومه من مثل السبكي ومقلديه.
علة الحديث: "بدر بن عبد الله المصيصي". قال الذهبي في الميزان (1/300): "عن الحسن بن عثمان الزيادي بخبر باطل، وعنه النعمان بن هارون".ووافقه في بطلانه ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/175)، والفتني في تذكرة الموضوعات (ص 73)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص 109 ح 18). وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/40) ضمن الوضاعين للحديث. وقال ابن عبد الهادي (ص 226): "ولا يخفى أن هذا الحديث الذي رواه في فوائده، موضوع مركب مفتعل إلا على من لا يدري علم الحديث ولا شم رائحته، والله الموفق".
أحاديث عبد الله بن عباس
رويت عنه ثلاثة أحاديث باطلة منكرة، طعن في رواتها أئمة الحديث:
الحديث الأول
(من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له شهيدا يوم القيامة، أو قال شفيعا).(111/48)
حديث موضوع أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (3/457) فقال: (حدثناه سعيد بن محمد الحضرمي حدثنا فضالة بن سعيد بن زميل المأربي حدثنا محمد بن يحيى المأربي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ).
حكم بوضعه الذهبي في ميزان الإعتدال (3/348).
علل الحديث:
1. "سعيد بن محمد الحضرمي".رجح ابن عبد الهادي (ص 238) أنه تصحيف من (شعيب بن محمد الحضرمي).
قلت: ولعله (سعيد بن محمد بن ثواب الحصري). ذكره ابن حبان والخطيب. وقال الأخير: "وغيره يخالفه في الإسناد".
انظر الثقات (8/272). تاريخ بغداد (9/94).
2. "فضالة بن سعيد بن زميل المأربي".
قال العقيلي (3/457).: "حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به". وقال عن الحديث: "يروى بغير هذا الإسناد من طريق أيضا فيه لين". وقال الذهبي في الميزان (3/348): "موضوع على ابن جريج ويروى في هذا شيء أمثل من هذا". ووافقه الحافظ في اللسان (4/435) وزاد: "قال أبو نعيم: روى المناكير".
3. "محمد بن يحيى بن قيس المأربي".
قال الذهبي في الميزان (4/62): "قال ابن عدي أحاديثه مظلمة منكرة ووثقه الدارقطني". وفي الكاشف (3/95): "وثق". وقال في ديوان الضعفاء (2/642): "أحاديثه مظلمة منكرة"، مما يدل على أن الرجل مجروح عنده. وزاد ابن حجر في التهذيب (9/521) ذِكر ابن حبان له في الثقات، وتجهيل ابن حزم له. وفي التقريب (ص 908 ت 6433): "لين الحديث". وقال ابن عبد الهادي (ص 239): "شيخ معروف مختلف في عدالته". وذكره الحلبي في الكشف الحثيث (ص 252)، وابن عراق في التنزيه (1/115). ضمن الوضاعين للحديث.
4. "عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج".
قال الحافظ في تعريف أهل التقديس (ص95 ت 83): "فقيه الحجاز مشهور بالعلم والتثبت كثير الحديث، وصفه النسائي وغيره بالتدليس، قال الدارقطني: شر التدليس تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس الا فيما سمعه من مجروح".
5. "عطاء". شيخ ابن جريج.(111/49)
هكذا بإهماله، وابن جريج روى عن ثلاثة كلهم إسمه عطاء وهم: "عطاء بن أبي رباح"، و"ابن السائب"، و"ابن أبي مسلم الخرساني". انظر تهذيب الكمال (18/342).
فالأول: "عطاء بن أبي رباح"، قال في التقريب (ص 677 ت 4623): "ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال…تغير بآخرة". وفي التهذيب (7/203): "إن ابن جريج وغيره تركوا عطاء بآخرة لأجل تغيره".
الثاني: "عطاء بن السائب"، قال في التقريب (ص 678 ت 4625): "صدوق اختلط". وقال ابن الكيال في الكواكب النيرات (ص 323): "احتج أهل العلم برواية الأكابر عنه، مثل سفيان الثوري وشعبة لأن سماعهم منه كان في الصحة، وتركوا الاحتجاج برواية من سمع منه آخر".
أما الذين رووا عن ابن عباس فيمن إسمه عطاء فليس فيهم ابن السائب.
الثالث: "عطاء بن أبي مسلم الخرساني"، قال في التقريب (ص 679 ت 4633): "صدوق يهم كثيرا، ويرسل ويدلس". وقال أحمد ابن حنبل كما في جامع التحصيل (ص 238): "لم يسمع من ابن عباس شيئا". وقال يحيى بن سعيد القطان: "ابن جريج عن عطاء الخراساني ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه". انظر المصدر السابق (ص230).
الرد على المعترض صاحب كتاب رفع المنارة
المعترض المتعالم شأنه عجيب، كشف عواره بتشغيبه على الأئمة، فشرق بردهم لأحاديث حاول لاهثا تصحيحها، دون مستند علمي لغرض ينصره وبدعة تشرب بها قلبه، فظهر تعالمه وسوء أدبه مع العلم والعلماء، فقال (ص 265): "وإن تعجب فعجب من الحافظ الذهبي رحمه الله، ففي ترجمته لفضالة بن سعيد بن زميل المأربي، ذكر الحديث موضع البحث، ثم قال (3/349): هذا موضوع على ابن جريج. اهـ ولا يوجد في الإسناد أو المتن ما يساعده على دعواه، فهي دعوى لابرهان عليها، ولا ذكر الذهبي دليلا يشهد لها، وكلام العقيلي هنا أقوى وأقعد".(111/50)
قلت: وافق ابن حجر الذهبي في هذه المقولة!! والمعترض لم يفهم عبارة العقيلي في الضعفاء الكبير (3/457)، والتي وافقه عليها الذهبي، وهي: "وهذا يروى بغير هذا الإسناد من طريق أيضا فيه لين"، وبقية قول الذهبي في الميزان (3/348) والذي تعامى عنه المعترض: "يروى في هذا شيء أمثل من هذا".
فيا عجبى من تعالم المعترض وقوله: "كلام العقيلي هنا أقوى وأقعد". فأي فرق بين العبارتين!!
ثم لو فتش المعترض كتاب الشفاء للسبكي (ص 38) لوقف على نقله عن ابن عساكر عن العقيلي قوله في فضالة: "لا يتابع على حديثه من جهة تثبت، ولا يعرف إلا به". لكنه التعالم بالهوى والبدعة، أعماه عن رؤية الحق والحقيقة حتى في كتب أسياده. ثم عَجبُ المعترض فيه تعالم آخر! فالراوي فضالة ذكر ابن حجر فائدة عن أبي نعيم قوله فيه: "روى المناكير" والحديث من مروياته. وليس هو علة الحديث الوحيدة.
ثم قال المعترض (ص 265) عن "محمد بن يحيى بن قيس المأربي": "فقبول توثيق الدارقطني وابن حبان، هو الموافق لقواعد الحديث، ومن علم حجة على من لم يعلم".
قلت: كم ظن المعترض نفسه إماما لا يجارى فهرف بما لم يعرف، فمحمد بن يحيى بن قيس المأربي اختلفت فيه أقوال الأئمة، بين موثق ومضعف، لكن رجح الذهبي وابن حجر جرحه. وعند تعارض الجرح والتعديل قال الخطيب في الكفاية (ص 105): "اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والإثنان، وعدله مثل عدد من جرحه فإن الجرح به أولى، والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه ويصدق المعدل ويقول له: قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها، وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، وأخبار المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفى صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل".(111/51)
ترى ما هو الموافق لقواعد الحديث، قول المعترض الذي أبان عن جهله وتعالمه، أم قول الخطيب البغدادي الذي وافقه أئمة الحديث، ثم الجرح في هذا الراوي من ابن عدي مفسر، وهو نكارة أحاديثه التي ساق بعضها في ترجمته في الكامل، ثم تقديم الذهبي للجرح وذكر الراوي في ديوان الضعفاء والاكتفاء بعبارة ابن عدي، وهذا لا يعارض قوله في الكاشف "وثق"، حيث ذكرها بصيغة التمريض.
ويستمر تعالم المعترض فقال (ص 267): "بقي الكلام على ما قد يظن بعضهم أنه علة ثالثة في هذا الإسناد، وهي أن ابن جريج … مدلس ولم يصرح بالسماع. والجواب على ذلك: أن هذا يرويه ابن جريج عن عطاء وروايته عنه محمولة على السماع صرح أو لم يصرح، فإن ابن جريج قال: إذا قلت: قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل سمعت. وعزاه المعترض لتهذيب ابن حجر 6/406".
كم أثبت المعترض تعالمه وتطاوله على الأئمة، فأقول:
أولا: لم يحقق لنا المعترض هنا من هو عطاء المهمل، وابن جريج يروي عن ثلاثة كلهم عطاء، ويروي عن ابن عباس منهم إثنان، هما ابن أبي رباح والخرساني.
ثانيا: من تعالمه ذكره مقولة ابن جريج السابقة في روايته عن عطاء. وسند الحديث هنا فيه عنعنة ابن جريج عن عطاء، وليس فيه قال عطاء. وهذا منتهى التعالم من المعترض وهو عدم تفريقه بين (عن) و(قال). وجهله بما قاله الدارقطني في ابن جريج: "شر التدليس تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس الا فيما سمعه من مجروح". انظر تعريف أهل التقديس (ص95 ت 83). كما ذهب الدارقطني إلى اجتناب حديثه المعنعن. انظر فتح المغيث (1/185). لكن المعترض محروم من التحقيق العلمي.
وتمادى المعترض في تعالمه الفج فقال (ص 267): "فالحاصل مما تقدم أن هذا الإسناد فيه راو غاية ما فيه أنه مجهول وتفرد بهذا الحديث وآخر اختلف فيه".(111/52)
قلت: تعالم المعترض منعه من تحقيق إسناد الحديث من أوله إلى منتهاه، وظن وبعض الظن إثم أن علة الحديث في هذيين الراويين فقط، فما قوله في:
• "عطاء" المهمل ومن هو؟
• وتدليس ابن جريج الذي وصفه الدارقطني بأنه شر تدليس، وقد عنعن؟
• ثم من هو شيخ العقيلي؟ "سعيد بن محمد الحضرمي".
ومن علم حجة على من لم يعلم، ونسأل الله الإنصاف في تحقيق الحق عند الخلاف.
الحديث الثاني
(من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان).
حديث باطل مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم . ذكر ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 79) أن بعض الحفاظ أخرجه في زمن ابن مندة والحاكم في كتاب كبير له، كما ذكر أنه وقف على بعضه، وإسناده: (حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن سيار بن محمد النصيبي، حدثنا أسيد بن زيد، حدثنا عيسى بن بشير عن محمد بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس….). كما عزاه السيوطي للديلمي في مسند الفردوس. انظر الجامع الكبير (مصورة دار الكتب المصرية ق1/771).
علل الحديث:
1. "أسيد بن زيد"، هو ابن نجيح الجمال الهاشمي الكوفي. "قال الجنيد عن ابن معين: كذاب أتيته ببغداد فسمعته يحدث بأحاديث كذب. وقال الدوري عنه نحو ذلك. وقال أبو حاتم: كانوا يتكلمون فيه. وقال النسائي: متروك. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المناكير ويسرق الحديث. وقال ابن عدي: يتبين على رواياته الضعف وعامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. وقال ابن ماكولا: ضعفوه. وقال الخطيب: قدم بغداد وحدث بها، مرضي في الرواية. وقال البزار: حدث بأحاديث لم يتابع عليها. وقال في موضع آخر: قد احتمل حديثه مع شيعية شديدة فيه. وقال الساجي: سمعت أحمد بن يحيى الصوفي يحدث عنه بمناكير". انظر تهذيب التهذيب (1/344). وذكره الحلبي في الكشف الحثيث (ص 73) فيمن رمي بوضع الحديث.
2. "عيسى بن بشير".(111/53)
قال الذهبي في الميزان (3/310): "لا يدري من ذا وأتى بخبر باطل"، وذكر سند الحديث السابق، ثم قال: "تفرد به أسيد وهو ضعيف ولا يحتمله".
الحديث الثالث
(من زار العلماء فكأنما زارني، ومن صافح العلماء فكأنما صافحني، ومن جالس العلماء فكأنما جالسني، ومن جالسني في الدنيا أجلسه ربه في الجنة).
حديث كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه من طريق: (حفص بن عمر المدني عن الحكم بن أبان العدني عن أبيه عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس): السهمي في تاريخ جرجان (ص 197 ح280)، وأبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان (2/364). غير أن أبا نعيم أسقط أبان العدني.
والحديث حكم بوضعه السيوطي في ذيل الموضوعات (ص 35)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/272).
علة الحديث:
"حفص بن عمر المدني" ابن ميمون العدني أبو إسماعيل.
"وثقه أبو عبد الله الطهراني. وقال أبو حاتم: لين الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه غير محفوظ. وقال ابن حبان: يروي عن مالك وأهل المدينة، كان ممن يقلب الأسانيد لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عنه فقال: لم أكتب عنه. وقال البرقي: عن ابن معين ليس بثقة. وقال أبو العرب الصقلي: ليس بشيء. وقال العقيلي: يحدث بالأباطيل. وقال الآجري: عن أبي داود ليس بشيء، قال: وسمعت ابن معين يقول: كان رجل سوء، وسمعت أحمد يقول: كان مع حماد في تلك البلايا. وقال الآجري: يعني حماد البربري. قال أبو داود: وهو منكر الحديث. وقال العجلي: يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف، وفي موضع آخر ليس بقوي في الحديث، وقال في العلل: متروك". انظر تهذيب التهذيب (2/410). وذكره في تنزيه الشريعة (1/54) ضمن الوضاعين للحديث.
أحاديث أنس بن مالك
رويت عنه أربعة أحاديث مكذوبة منكرة، لا يجوز الاحتجاج بها أو ذكرها إلا على سبيل البيان.
الحديث الأول(111/54)
(من زارني بالمدينة محتسبا كنت له كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة).
حديث منكر ملفق من عبارتين زيارته بالمدينة والترغيب في الموت بأحد الحرمين، أخرجه من طريق: (محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، أخبرني أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي، عن أنس بن مالك..). ابن أبي حاتم في العلل (1/291). والبيهقي في الشعب (3/490 ح 4157) ، مع اختلاف بينهما، حيث أن ابن أبي حاتم لم يذكر لفظ الزيارة، أما البيهقي زاد في أوله: (من مات في أحد الحرمين…)، مع ذكر لفظ الزيارة، وأقتصر مرة على لفظ الزيارة. كما أخرجه باللفظ المذكور أعلاه السهمي في تاريخ جرجان (ص 220 ، ص 434)، وابن الجوزي في مثير الغرام (ص 273).
علة الحديث: "أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي".
ومدار الحديث عليه. قال أبو حاتم: منكر الحديث ليس بقوي، وذكره ابن حبان في الثقات وذكره ابن حبان في الضعفاء في الكنى، فقال: أبو المثنى شيخ يخالف الثقات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار. وتعقبه الدارقطني في حواشيه، فقال: أبو المثنى هذا هو سليمان بن يزيد الكلبي مدني، وقال في العلل: سليمان بن يزيد ضعيف، وقعت روايته عن أنس في كتاب القبور لابن أبي الدنيا وقيل إنه لم يسمع منه. انظر تهذيب التهذيب (12/221).
والحديث فيه إنقطاع، حيث نفى الدارقطني سماعه من أنس ، بل ذهب بعضهم إلى عدم سماعه من بعض التابعين. انظر جامع التحصيل (ص 190). قال ابن أبي حاتم في العلل (1/291): "قال أبي هذا خطأ إنما هو سليمان، أخاف أن يكون عن الثقة عن أنس".(111/55)
قال مقيده عفا الله عنه: الذي ظهر لي والله أعلم، أن هذا الحديث ملفق من عبارتين، عبارة "الموت بأحد الحرمين" كما سبق في رواية البيهقي، والثانية عبارة "الزيارة"، وحديث أنس "الموت بأحد الحرمين" أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3/69 ح 1813) بلفظ: (من مات بين الحرمين حشره الله تعالى من الآمنين)، والحديث علته: "أبان بن عياش"، أحد المتروكين.
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
نقل المعترض ما ذكره الذهبي عن غيره في حق سليمان بن يزيد، بقوله (ص 269): "وأجاد الحافظ الذهبي فقال في الكاشف (3/331): وثق، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي". والمعترض غالبا ما يتعالم فينقل من كلام الأئمة ما يؤيد فكرته، ويُعرِض عما يدحضها ويهدمها، فالذهبي ذكر في الكاشف قولين متعارضين، لكن رأي الذهبي مغاير لما أراد إثباته المعترض، وهو إما أنه لم يقف عليه وهذه مصيبة على مدعي البحث والتحقيق، أو أنه وقف عليه وتجاهله وهذه أعظم. والذهبي أيضا استدرك على الحاكم في المستدرك (4/221 – 222) تصحيح حديثه بقوله: "سليمان واه، وبعضهم تركه"، والمعترض وقف على تصحيح الحاكم لحديث الكعبي في رفع المنارة (ص 269)، فلماذا تجاهل استدراك الذهبي؟؟! وهو الذي ذكره في المغني في الضعفاء (1/284 ت 2632) فقال فيه: "منكر الحديث، ليس بقوي".
ثم فرح المعترض بذكره طريقا آخر للحديث - والله لا يحب الفرحين - (نقلا عن كتاب المداوي للغماري – 6/232) ، فقال (ص 269).: "وله طريق آخر عن أنس، قال إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا عيسى بن يونس، ثنا ثور بن يزيد، حدثني شيخ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . قلت ـ أي المعترض ـ عيسى بن يونس هو ابن إسحاق السبيعي ثقة، وثور بن يزيد ثقة ثبت. فلولا الشيخ المبهم الذي لم يسم لكان السند في أعلى درجات الصحة. لكن هذا الطريق إذا ضم لسابقه استفاد الحديث قوة".(111/56)
قلت: لَوْلَوة المعترض تعالم والسند السابق فيه أبو المثنى الكعبي لم يحتج به المحققون من المحدثين ويخالف الثقات، والسند الآخر فيه مجهول، فكيف يستفيد الحديث قوة على زعم المعترض؟؟
كما أقر المعترض بإنقطاع سند الحديث الأول، وبالمبهم في السند الثاني. والمنقطع لا يحتج به عند جمهور المحدثين، قال الجوزقاني في الأباطيل عن عبد الرحمن بن مهدي: "إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث لا يسمى عالما. فمما يعرف به صحيح الأحاديث من سقيمها أن يكون الحديث متعريا من سبع خصال:
الأول: أن لا يكون الشيخ الذي يرويه مجروحا.
الثاني: أن لا يكون فوقه شيخ مجهول يبطل الحديث به.
الثالث: أن لا يكون الحديث مرسلا، فإن المرسل عندنا لا تقوم به حجة.
الرابع: أن لا يكون الحديث منقطعا، فإن المنقطع عندنا أسوأ حالا من المرسل".
انظر الأباطيل والمناكير (1/12). وانظر جامع التحصيل (ص 96). إرشاد الفحول (ص 66).
ثم شنع المعترض كعادته تعالما،على ابن عبد الهادي فقال (ص 270): "وابن عبد الهادي لم يذكر الطريق الثاني وكأنه لم يقف عليه، ولذا كان كلامه مقصورا على الطريق الأول فقط. ولو وقف عليه ابن عبد الهادي لشنع عليه وصب تشنيعه على الراوي المبهم كما هي طريقته، لأنه يأبى أن يصح حديث في الباب والله المستعان".
قلت: المعترض مثله: - رمتني بدائها وانسلت.
الحديث الثاني
(من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة. وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر).(111/57)
حديث مكذوب موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه ابن النجار في "الدرة الثمينة في فضائل المدينة"، عزاه له السبكي وذكر سنده فقال في شفاء السقام (ص 36): "أنبأنا أبو محمد بن علي، أنبأنا أبو يعلى الأزدي، أنبأنا أبو إسحاق البجلي، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوري، أنبأنا إبراهيم بن محمد المؤدب، أنبأنا إبراهيم بن محمد، حدثنا محمد بن محمد، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا جعفر بن هارون، حدثنا سمعان بن مهدي، عن أنس… رفعه".
علل الحديث:
1. "محمد بن مقاتل".
قال البخاري: "لأن أخر من السماء أحب إلي من أروي عن محمد بن مقاتل الرازي". انظر تهذيب التهذيب (9/470). وقال الذهبي في الميزان (4/47).: "تكلم فيه ولم يترك".
2. "جعفر بن هارون".
قال الذهبي في الميزان (1/420): "عن محمد بن كثير الصنعاني، أتى بخبر موضوع". وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/46) ضمن الوضاعين.
3. "سمعان بن مهدي".
قال الذهبي في الميزان (2/234): "عن أنس بن مالك حيوان لا يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها، قبح الله من وضعها". وقال ابن حجر في اللسان (3/114): "وهي من رواية محمد بن مقاتل الرازي، عن جعفر بن هارون الواسطي، عن سمعان. فذكر النسخة وهي أكثر من ثلاثمئة حديث أكثر متونها موضوعة".
4. الرواة من دون محمد بن مقاتل لم أقف عليهم.
الرد على المعترض و السبكي(111/58)
سبق وأن بينت أن من بدهيات المشتغلين بعلم الحديث عند تحقيق حديث ما، جمع شواهده ومتابعاته وطرقه في موضع واحد، ليفسر بعضه بعضا، وللحكم عليه صحة وضعفا قبولا وردا، لكن المعترض المتعالم فاتته هذه البديهة في أحاديث ابن عمر ، حيث أوضحنا ذلك عنه – انظر انظر ردنا على المعترض عند كلامنا على حديث ابن عمر الثالث -، كما فاتته هنا أيضا، حيث كان من المفترض أن يذكر هذا الحديث مع الحديث الأول السابق، فقد تكلم عليه في كتابه رفع المنارة (ص 268)، ثم عاد وتكلم على الحديث الثاني (ص 286)، وكل حديث منفردا لم يصح فكيف لو جمع معه غيره، فآثر المعترض التفريق والتلفيق على التحقيق.
أما السبكي فعلى الرغم مما قيل في رواة الحديث من جرح، إلا أنه لما عزا الحديث لابن النجار في شفائه، سكت عنه ولم يعلق عليه ولا بكلمة واحدة، بخلاف الحافظ الناقد الإمام ابن عبد الهادي لما وقف على الحديث، قال عن السبكي في الصارم (ص 234): "هكذا ذكر المعترض هذا الحديث، وخرس بعد ذكره فلم ينطق بكلمة، وهو حديث موضوع مكذوب مختلق مفتعل، مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان بن مهدي قبح الله واضعها، وإسنادها إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض. وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا يدرى هل وجدت أم لا؟ وهذا المعترض إن كان لا يدري أن هذا الحديث من أقبح الموضوعات فهو من أجهل الناس، وإن كان يعلم أنه موضوع ثم يذكره في معرض الاحتجاج ويتكثر به ولا يبين حاله، فهو داخل في حديث (من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكذابين)، فهو إما جاهل مفرط في الجهل، أو معاند صاحب هوى متبع لهواه، نعوذ بالله من الخذلان".
الحديث الثالث
(من زار عالما فكمن زارني، ومن صافح عالما فكمن صافحني، ومن جالس عالما فكمن جالسني، ومن جالسني في دار الدنيا أجلسه الله معي غدا في الجنة).(111/59)
حديث مكذوب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه ابن النجار، عزاه له ابن عراق فقال في تنزيه الشريعة (1/272): "من حديث أنس في قصة بينة الكذب".
الحديث الرابع
(إن لله عزوجل مدينة تحت العرش، من مسك أذفر على بابها ملك ينادي كل يوم: ألا من زار العلماء فقد زار الأنبياء، ومن زار الأنبياء فقد زار الرب عز وجل، ومن زار الرب فله الجنة).
حديث مكذوب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه الديلمي، عزاه له ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/272) فقال: "من حديث أنس، وفيه إبراهيم بن سليمان البلخي يسرق الحديث. قلت – ابن عراق -: إنما اتهمه ابن عدي بالسرقة في حديث واحد أورده له عن الثوري ثم قال: وسائر أحاديثه غير منكرة. وقال الحاكم: محله الصدق. وقال الخليلي في الإرشاد: صدوق، نعم الراوي عنه عمران بن سهل لم أقف له على ترجمة، فلعل البلاء منه والله أعلم".
حديث عمر بن الخطاب
(من زار قبري – أو قال: من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا. ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة).
حديث مختلق مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث عجيب غريب التركيبة إسنادا ومتنا، أخرجه من طريق: (سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي حدثني رجل من آل عمر عن عمر )، الطيالسي في المسند (1/15)، والبيهقي في سننه الكبرى (5/245)، وقال: "هذا إسناد مجهول"، وانظر وشعب الإيمان (3/488).
هذا الحديث المختلق أختلف في سنده ومتنه، على ثلاثة أحوال مضطربة الإسناد والمتن:
الحالة الأولى: رواية اقتصر فيها على الموت بأحد الحرمين وليس فيها ذكر زيارة القبر، عن:
(سوار بن مبمون عن أبي قزعة، قال حدثني رجل من آل عمر بن الخطاب مرفوعا: من مات بأحد الحرمين مكة أو المدينة بعث من الأرض يوم القيامة). أخرجه ابن أبي عاصم الآحاد والمثاني (2/61 ح 756).
الحالة الثانية: فيها ذكر الزيارة دون ذكر القبر، مع ذكر الموت في أحد الحرمين، عن:(111/60)
(سوار بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب مرفوعا: من زارني متعمدا كان في جوار الله يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة). أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير (4/362) وقال: "الرواية في هذا لينة". والبيهقي في الشعب (3/488) بنحوه.
الحالة الثالثة: رواية مكونة من عبارتين زيارته بعد الموت والموت بأحد الحرمين، من طريق:
(الأسود بن ميمون عن هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب رفعه: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين). أخرجها الدارقطني في السنن (2/278)، والبيهقي في الشعب (3/488).
علل الحديث
هذا الحديث مختلق مركب الإسناد والمتن كما مر في الأحوال الثلاثة السابقة، لأمور:
أولا: رواية الطيالسي التي صدرنا بها حديث عمر . وجهالة من يروي عنه سوار وهو مجهول.
ثانيا: رواية ابن أبي عاصم ـ الحالة الأولى ـ وهي رواية سوار عن أبي قزعة عن رجل مجهول من آل عمر.
ثالثا: رواية العقيلي والبيهقي في الشعب ـ الحالة الثانية ـ وهي رواية سوار عن هارون بن قزعة عن رجل مجهول من آل الخطاب مرفوعا)، وليس فيها ذكر زيارة القبر، وإنما هي زيارة عامة.
قلت: ولا ندري هل الرجل من آل عمر أو آل الخطاب صحابي أو تابعي؟
رابعا: رواية الدارقطني والبيهقي في الشعب ـ الحالة الثالثة ـ ، وهي طريق: (الأسود بن ميمون عن هارون أبي قزعة عن رجل مجهول من آل حاطب عن حاطب مرفوعا).(111/61)
وأيضا مما يثبت اختلاق هذه الرواية ورودها من حديث حاطب، أو رجل من آل حاطب: فالبيهقي قال في الشعب (3/488) بعد الرواية السابقة: "وفي تاريخ البخاري: ميمون بن سوار العبدي عن هارون أبي قزعة عن رجل من ولد حاطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات في احد الحرمين". فقلب اسم سوار بن ميمون، وبنفس الطريق عزاها رجل من ولد حاطب. ومما يزيد الأمر غرابة أن هذا الحديث ورد عن حاطب بلفظ الرؤية بعد الموت فقط، ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (1/275)، واستدركه ابن حجر في الإصابة (1/300) فقال: "وأغرب أبو عمر فقال: لا أعلم له غير حديث واحد (من رآني بعد موتي.. الحديث). قلت: وقد ظفرت بغيره". ووافقه العيني في عمدة القاري (17/275).
خامسا: وهو خلاصة ما سبق تبين لنا ما يلي:
1. الاختلاف في اسم سوار على ثلاثة أقوال، وزاد العقيلي في الضعفاء الكبير (4/361) قولا رابعا هو: "سوار بن منصور". ولم يترجم لسوار بن ميمون في كتب التراجم أحد، وتفرد ابن حبان في الثقات (9/173) بالترجمة لميمون بن سوار.
2. الاختلاف في الرجل المجهول فمرة يروي عنه سوار، وتارة يروي عنه ابن قزعة، ثم هل هو من آل عمر أو آل الخطاب أو آل حاطب.
3. الاختلاف في اسم هارون شيخ سوار بن ميمون على ثلاثة أقوال: "فمرة هارون بن قزعة، وتارة هارون بن أبي قزعة، وأخرى هارون أبي قزعة". ترجم له ابن حجر في اللسان (6/180) في موضعين، فقال في الأول: "هارون بن أبي قزعة المدني، عن رجل في زيارة قبر النبي ?، قال البخاري: لا يتابع عليه….وقال أيضا: ضعفه أيضا يعقوب بن شيبة وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في الضعفاء". وقال عن الثاني (6/183): "هارون أبو قزعة: لا يعرف. قال الأزدي: متروك انتهى. وقال البخاري: روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه. قلت: ما يبعد أن الأزدي أراد ابن قزعة الذي تقدم".(111/62)
4. الاختلاف في متن الحديث فمرة بذكر زيارة القبر، وتارة بعموم الزيارة، وأخرى الاقتصار على الموت بأحد الحرمين، وأخيرا بذكر الرؤية بدل الزيارة.
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
تعالم المعترض في كتابه رفع المنارة (ص 272 إلى ص 278) فجعل هذا الحديث المختلق حديثين، "عن عمر وعن حاطب"، ليتكثر بها وشغب كعادته على ابن عبد الهادي بما لا طائل تحته، فقال (ص 274) عن حديث حاطب: "فإن الكلام في هذا الإسناد انحصر في هارون بن أبي قزعة وشيخه المبهم".
قالت: فلِم سكت المعترض عن تحرير القول في الأسود بن ميمون الراوي عن ابن قزعة وبيان حاله، وهل هو سبب الاختلاف في اسم هارون أم غيره؟ ثم تعالم مرة أخرى فقال (ص275): "وتبقى علة واحدة في هذا الإسناد وهي شيخ هارون أبي قزعة المبهم".
قلت: اعتمد المعترض توثيق هارون على رواية الشعبي عنه وتوثيق ابن حبان له، وسكت عن الأسود بن ميمون المجهول العين والحال، حيث لم يستطع الوقوف عليه في كتب التراجم وقوله (ص 274): " تبقى علة واحدة"، هراء فالحديث بمجموعه له أربع علل كما مر معنا آنفا.
ثم قال المعترض (ص 275): "وليكن الضعف في هذا الحديث غير شديد، بل ضَعْفه قريب ويحتج الفقهاء بمثله في إثبات مشروعية أمر ما، ودونك كتب الفقه لتتحقق من صحة مقولتي، فكيف ولأحاديث الزيارة طرق بعضها من شرط الحسن، فإذا وقفت بعد على قولهم: أحاديث الزيارة ضعيفة بل موضوعة فأضرب به عرض الحائط لأنه مخالف للقواعد".
قال مقيده عفا الله عنه: هذا منتهى التعالم من المعترض، حديث فيه راو اختلف في اسمه على أربعة أقوال، ولم يترجم له علماء الجرح والتعديل، وفيه راو آخر مجهول، وبينهما ابن قزعة فيه كلام، حديث ضعفه غير شديد؟؟(111/63)
ثم إن كتب الفقه مليئة بالأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة بل والموضوعة يعرف ذلك المحققون، وبعض الفقهاء يستدل بالضعيف والموضوع لتأيد مذهبه، والمعول في التشريع على الحديث الصحيح والحسن، أما الضعيف والموضوع فلا عبرة به، وأحاديث الزيارة من هذا الباب فلا يحتج بها.
حديث علي بن أبي طالب
(من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني).
حديث موضوع،
أخرجه الحسيني في أخبار المدينة: "حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبو أحمد الهمداني حدثنا النعمان بن شبل حدثنا محمد بن الفضل المديني سنة ست وسبعين، عن جابر عن محمد بن علي عن علي رفعه". عزاه له السبكي وسكت عن سند الحديث.
انظر شفاء السقام (ص 38).
علل الحديث:
1. "النعمان بن شبل".
تقدم الكلام عليه في أحاديث ابن عمر الحديث الخامس، ومما قيل فيه: "يأتي عن الثقات بالطامات، وأنه متهم".
2. "محمد بن الفضل المديني".
لم أقف علي ترجمته، وذهب ابن عبدالهادي إلى أنه "محمد بن الفضل بن عطية"، وقال عنه: "كذاب مشهور بالكذب". نظر الصارم المنكي (ص 240).
وقال السخاوي: "روى عنه النعمان بن شبل" ، وذكر الحديث ثم قال: "وقوله: مديني زال … - بياض بالأصل - كأنه محمد بن الفضل بن عطية الكوفي أو المروزي نزيل بخارى". انظر التحفة اللطيفة (3/710).
قال مقيده عفا الله عنه: فإن كان هو ما ذهب إليه ابن عبد الهادي والسخاوي، فالرجل مجروح لايحتج بروايته، قال الذهبي: "تركوه". انظر الكاشف (3/79). وقال الحافظ: "كذبوه". انظر التقريب (ص 888 ت 6265).
3 . "جابر" ، هو ابن يزيد الجعفي.
رافضي كان سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ يؤمن بالرجعة، كذبه وطعن فيه أكثر أئمة الجرح والتعديل. انظر المجروحين لابن حبان (1/208).
قال الذهبي: "من أكبر علماء الشيعة وثقه شعبة فشَذّ وتركه الحفاظ، قال أبو داود: ليس في كتابي له شيء سوى حديث السهو". انظر الكاشف (1/122).
متابعة(111/64)
ذكر السبكي بسنده متابعة لهذا الحديث الموضوع ظن أنها تنفعه، عن ابن عساكر فقال: "أنبأنا عبدالمؤمن وآخرون، عن ابن الشيرازي، أنبأنا ابن عساكر، أنبأنا أبو العز أحمد بن نصير بن عرفة، حدثنا محمد بن إبراهيم الصلحي حدثنا منصور بن قدامة الواسطي، حدثنا المضيء بن أبي الجارود، حدثنا عبدالملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال:
"من سأل لرسول الله الدرجة والوسيلة يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله كان في جوار رسول الله ".
انظر شفاء السقام (ص 39).
علة المتابعة: "عبد الملك بن هارون بن عنترة
".
قال الحافظ: "..عن أبيه قال الدارقطني: هما ضعيفإن. وقال أحمد عبد الملك: ضعيف. وقال يحيى: كذاب. وقال أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث وهو الذي يقال له عبد الملك بن أبي عمر … ثم قال الحافظ: قلت: والسند إليه ظلمة فما أدرى من افتعله …. وذكر عن السعدي قوله: دجال كذاب. وقال الحافظ أيضا: وقال صالح بن محمد: عامة حديثه كذب، وأبوه هارون ثقة وضعفه يعقوب بن سفيان. وقال الحربي: غيره أوثق منه. وقال مسعود السجزى عن الحاكم: ذاهب الحديث جدا. وقال في المدخل: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وذكره الساجى والعقيلى وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء. وقال أبو نعيم الاصبهاني: يروى عن أبيه مناكير".انظر لسان الميزان (4/71).
وذكروه ضمن الوضاعين للحديث. انظر الكشف الحثيث (ص 173 ت 462)، و تنزيه الشريعة (1/82).
السبكي والقبورية
ذكر السبكي أن أبا سعيد عبدالملك بن محمد بن إبراهيم، روى هذا الحديث عن علي ? في كتابه (شرف المصطفى)، قال السبكي: "وهذا الكتاب في ثمان مجلدات، ومصنفه عبدالملك النيسابوري، صنف في علوم الشريعة كتبا، توفي سنة ست وأربعمائة، وقبره بها مشهور يزار ويتبرك به". انظر شفاء السقام (ص 39).
قال مقيده عفا الله عنه: هنا ملاحظتان على السبكي:(111/65)
الأولى: سكوته عن الحديث وعدم تحقيق سنده، يثبت أ نه ليس من رجال هذا العلم وأهله، وهنا يظهر الفرق بينه وبين الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله، حيث محص ونقد الأحاديث التي ساقها السبكي في شفائه على عواهنها، بطريقة علمية هي طريقة أئمة الحديث، فشرق بذلك صاحب كتاب (رفع المنارة) وغيره من أهل الأهواء والبدع.
الثانية: قوله عن قبر أبي سعيد النيسابوري: "مشهور يزار ويتبرك به" قبورية من السبكي.
إذ التبرك بالقبور بدعة لم نعهدها عن النبي ولا صحابته الكرام رضي الله عنهم ولا من الأئمة المتبوعين، كما لم يُعهد عنهم شد الرحل لزيارتها والعكوف عندها، والطواف حولها وتقديم النذور وعمل الموالد لأصحابها، إذ كل ذلك من فعل المبتدعة وأهل الأهواء من الروافض والمتصوفة، وهو من جنس عمل الجاهلية، حيث التبرك بالأصنام والطواف حولها وتقديم النذور لها، كما قص لنا القرآن الكريم عن قوم نوح، نعوذ بالله من الخذلان.
والسبكي أثبت هنا أنه من المؤيدين والداعين لذلك، حيث قال في شفائه: "وكذلك إذا المقصود التبرك ممن لا يقطع له بذلك، وإن كنا نستحب زيارة قبور الصالحين من حيث الجملة، ونرجو البركة بزيارتها أكثر مما نستحب زيارة مطلق القبور، وأما من يقطع ببركته كقبور الأنبياء ومن شهد الشرع له بالجنة كأبي بكر وعمر، فيستحب قصده". انظر المصدر السابق (ص 97).
قال مقيده عفا الله عنه: يستحب زيارة القبور على العموم، ولم يرد نص بزيارة قبور بعينها لانبي ولا ولي ولا أن بزيارتها تحصل البركة، قال ابن كثير رحمه الله: "وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي بتسويه القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام". انظر البداية والنهاية (10/274).(111/66)
وقال أيضا في ترجمة "الخضر بن نصر": "وترجمه ابن خلكان في الوفيات وقال: قبره يزار وقد زرته غير مرة، ورأيت الناس ينتابون قبره يتبركون به". فتعقبه ابن كثير بقوله: "وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور". انظر المصدر السابق (12/307).
وما قاله السبكي آنفا هو من جنس هذا المنكر الذي قاله ابن خلكان، وأنكره الحافظ ابن كثير.
حديث أبي هريرة
(من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي، ومن زارني كنت له شهيدا – أو – شفيعا يوم القيامة).
حديث منكر موضوع،
عزاه السبكي في شفائه لأبي الفتوح سعيد بن محمد بن إسماعيل اليعقوبي في جزء له فيه فوائد مشتملة على شمائل النبي ، فقال: "حدثنا الإمام السمعاني أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن الحافظ إملاء في الروضة بين قبر النبي ومنبره في الزورة الثانية، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن عبدالرحمن الزكواني، أنبأنا أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ، حدثنا الحسن بن محمد السوسي ، أنبأنا أحمد بن سهل بن أيوب، حدثنا خالد بن يزيد، حدثنا عبدالله بن عمر العمري قال: سمعت سعيدا المقبري يقول: سمعت أبا هريرة…الحديث.
ثم ذكر السبكي أن علة الحديث هو "خالد بن يزيد"، وذكر كلام ابن حبان فيه.انظر شفاء السقام (ص 34 ، 35).
علل الحديث
:
1. "خالد بن يزيد" العمري أبو الوليد.
اكتفى السبكي من كلام ابن حبان بقوله فيه: "إنه منكر الحديث"، وأعرض عن ذكر بقية كلامه وهو قوله: "منكر الحديث جدا، أكثر من كتب عنه أصحاب الرأي، لا يشتغل بذكره لأنه يروي الموضوعات عن الأثبات". انظر المجروحين (1/284).
وهذا من السبكي تعالم مخالف للأمانة العلمية في النقل، كما أنه لم يتتبع بقية أقوال الأئمة فيه:(111/67)
قال البخاري: "ذاهب الحديث". كذا في التاريخ الكبير (3/184). وذكر ابن أبي حاتم عن ابن معين قوله: "كذاب"، كما ذكر عن أبيه قوله: "كان كذابا أتيته بمكة ولم أكتب عنه، وكان ذاهب الحديث". انظر الجرح والتعديل (3/360).
وقال ابن عدي: "أحاديثه عامتها مناكير". انظر الكامل في الضعفاء (3/890).
وقال العقيلي: "يحدث بالخطأ ويحكي عن الثقات ما لا أصل له". انظر الضعفاء الكبير (2/18).
ترى هل خفيت هذه الأقوال على السبكي؟! ومن روى حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين، فأين المعترض المتعالم ابن ممدوح صاحب كتاب رفع المنارة من السبكي.
2. "الحسن بن محمد السوسي".
3. "أحمد بن سهل بن أيوب".
قال ابن عبدالهادي: "يرويان المنكر، لا يحتج بخبرهما ولا يعتمد على روايتهما". انظر الصارم المنكي (ص 227).
قلت: وفيه علة رابعة وهي: "عبدالله العمري"، المكبر الضعيف، سبق وتكلمنا عليه في أحاديث ابن عمر.
مرسل بكير بن عبدالله
(من أتى زائرا إلي وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا).
حديث واه.
عزاه السبكي للحسيني في "أخبار المدينة"، قال: (محمد بن يعقوب، حدثنا عبدالله بن وهب عن رجل عن بكر)، كذا في المطبوعة. انظر شفاء السقام (ص 40). وذكره ابن عبدالهادي عن السبكي، لكنه قال: عن "بكير" بالتصغير. انظر الصارم المنكي (ص 243).
علة الحديث: [/CENTER]
الحديث فيه رجل مجهول، وهذا وحده كاف لرد الحديث لكن فيه علة أخرى، وهي الإختلاف بين ما ذكره السبكي وابن عبدالهادي في راوي الحديث هل هو بكر أو بكير، فإن كان بكرا، فقد قال السمهودي: "وبكر بن عبدالله، إن كان المزني فهو تابعي جليل فيكون مرسلا، وإن كان هو بكر بن عبدالله بن الربيع الأنصاري، فهو صحابي". انظر وفاء الوفاء (4/1348).(111/68)
قلت: إن كان هو المزني فهو ثقة جليل من الثالثة، كما في التقريب (ص 175 ت 751). وقد روى عن بعض الصحابة والتابعين من طبقته ومن الرابعة، وهذه الطبقة جل روايتهم عن كبار التابعين، والمزني من أوسطهم، فالله يعلم كم سقط من السند إلى رسول الله . وإن كان هو ابن الربيع الصحابي، فالمشكلة أكبر إذ كم سقط بين الراوي المجهول وبين الصحابي ، ولأجل ذلك قال ابن عبدالهادي في هذا الحديث: "حديث باطل لا أصل له، وخبر معضل لا يعتمد على مثله، وهو من أضعف المراسيل، وأوهى المنقطعات، ولو فرض أنه من الأحاديث الثابتة لم يكن فيه دليل على محل النزاع". انظر الصارم المنكي (ص 243).
[CENTER]الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
تعالم المعترض ف لم يعجبه قول ابن عبدالهادي السابق فشَرِق بذلك فقال: "فمن مجانبة قواعد الحديث قول ابن عبدالهادي….. وذكر كلامه السابق إلى قال:… تزّيد الرجل جدا وبالغ وتعنت وتشدد، فإسناد الحديث ليس فيه إلا الرجل المبهم، وإمامه أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الفقه والحديث يحتجون بالمرسل. ولم يذكر ابن عبدالهادي دليل مقولته لأن قواعد الحديث لا توافقه". انظر رفع المنارة (ص 271).
قال مقيده عفا الله عنه: كلام المعترض فيه تعالم وعار عن التحقيق، وكان الأجدر به أن ينتقد السبكي في سوقه الأحاديث على عواهنها، دون خطام أو زمام كالحديث الذي ساقه بعد أن ذكر هذا الحديث، وكأنه لا يدري ما علم الجرح والتعديل، ولا الحديث الصحيح من الموضوع، حيث قال في الشفاء: "وقد وردت أحاديث أخر في ذلك منها: (من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام)". انظر شفاء السقام (ص 40).(111/69)
قلت: فكيف غاب عن السبكي أن الحديث من الأحاديث الموضوعة على خير البرية . فلو أن المعترض ابن ممدوح ترك تعالمه على ابن عبدالهادي، وصرف همته ووقته في بيان حكم أمثال هذه الأحاديث التي ساقها السبكي في شفائه الممرض لكان أجدى له. وقال ابن عبدالهادي عن حديث زيارة قبر الخليل : "فإنه من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة، وأدنى من يعد من طلبة العلم يعلم أنه حديث موضوع وخبر مفتعل مصنوع، وأن ذكر مثل هذا الحديث المكذوب من غير تبين لحاله لقبيح بمن ينتسب إلى العلم". انظر الصارم المنكي (ص 243).
على الرغم من أن المعترض ذكر حديث زيارة قبر الخليل وبين أنه موضوع. انظر رفع المنارة (ص 287).
فلماذا سكت عن نقد السبكي وعدم تمكنه من علم الحديث، ووجه سهامه الواهنة نحو العلامة ابن عبدالهادي؟
حديث بدون إسناد
(من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة).
حديث باطل موضوع لا سند له
،
قال النووي: "حديث باطل ليس هو مرويا عن النبي ، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة". انظر المجموع (8/277).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا ليس في شيء من الكتب لا بإسناد موضوع ولا غير موضوع، وقد قيل: إن هذا لم يسمع في الإسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس في زمن صلاح الدين، فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا، لا على سبيل الإعتضاد، ولا على سبيل الإعتماد". انظر مجموع الفتاوى (27/217).
الرد على السبكي والمعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
ومع كون الحديث باطلا إلا أن السبكي ذكره دون بيان ولفظه: (من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل). انظر شفاء السقام (ص 40).
وعلى رغم ذكر الأئمة له في كتب الموضوعات كـ: الزركشي انظر التذكرة في الأحاديث المشتهرة (ص 172). وابن طولون انظر الشذرة في الأحاديث المشتهرة (2/171 ح 961)، والسيوطي انظر ذيل الموضوعات (ص 203).(111/70)
تجرأ السبكي بذكره دون بيان وضعه، كما سكت عن نقده المعترض ابن ممدوح. وأئمة علم الحديث لم يجوزوا ذكر حديث موضوع دون بيان، قال الحافظ العراقي في ألفيته (ص 119):
وكيف كان لم يجيزوا ذِكْره لمن عَلِمْ ما لم يُبَيِّن أَمْرَه
فيا ترى هل المعترض المتعالم وسكوته عن شيخه السبكي، ممن اتبعوا قواعد علم الحديث، اللهم لا!!
حديث بدون إسناد
(رحم الله من زارني وزمام ناقته بيده).
حديث باطل موضوع،
ذكره بعض علماء الحديث في كتب الموضوعات.
انظر تنزيه الشريعة (2/176). والأسرار المرفوعة (ص 128 ح 483). المصنوع (1/105). الفوائد المجموعة (ص 364 ح 514). النخبة البهية (ص 64 ح 132). كشف الخفاء (1/514 ح 1373). أسنى المطالب (ص 151 ح 222).
قال السخاوي في المقاصد: "قال شيخنا _ يعني الحافظ ابن حجر _ إنه لا أصل له بهذا اللفظ". انظر المقاصد الحسنة (ح 514).
زيارة النبي عيسى قبر النبي
(عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: والذي نفس أبا القاسم بيده، لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدلا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين، وليذهبن الشحناء وليعرضن عليه المال فلا يقبله، ثم لئن قام على قبري فقال: يا محمد لأجيبنه).
حديث ضعيف جدا. تفرد به سعيد المقبري عن أبي هريرة
الكلام على رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة
هذا الحديث يرويه سعيد المقبري عن أبي هريرة على ثلاثة أوجه:
الأول: روايته عن أبي هريرة بدون واسطة، أخرجه أبو يعلى في المسند (11/462 ح 6584)، قال: "حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا بن وهب عن أبي صخر، أن سعيدا المقبري أخبره أنه سمع أبا هريرة…".
قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". انظر مجمع الزوائد (8/211).
الثاني: روايته عنه بواسطة "عطاء مولى أم صُبَيَّة"، أخرجه الحاكم مرفوعا بنحوه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي.(111/71)
انظر المستدرك (2/595) قال: أخبرني أبو الطيب محمد بن أحمد الحيري، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عطاء مولى أم صبية قال: سمعت أبا هريرة رفعه.
الثالث: روايته عنه بواسطة أبيه، أخرجه ابن عساكر بنحوه.
انظر تاريخ دمشق (47/493): " أخبرناه أبو الفتح محمد بن علي بن عبدالله المصري، أنبأنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى، أنبأنا أبو محمد بن أبي شريح، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا أبو مسلم الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة…".
طريق آخر عن أبي هريرة:
أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق الحديث عن أبي هريرة، وفيه إشكال سنتكلم عليه لاحقا، قال ابن عساكر: "أخبرنا أبو محمد بن طاوس، أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عبدالرحمن بن محمد الذكواني، أنبأنا أبو الفرج عثمان بن أحمد بن إسحاق البرجي، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمر بن حفص، حدثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان، حدثنا سعد بن الصلت، عن حميد بن صخر، عن شبيه المدني عن أبي هريرة…". المصدر السابق (47/496).
علل طرق الحديث:
أولا: علة طريق أبي يعلى: "حميد بن صخر" الرواي عن سعيد المقبري(111/72)
ذكره المزي في شيوخ ابن وهب وسماه بـ "حميد بن زياد المدني"، انظر تهذيب الكمال (16/277). ثم ذكره (10/466) في ترجمة المقبري وسماه "حميد بن صخر المدني". وجعلهما ابن عدي في الكامل في الضعفاء (2/685 ، 691) إثنان، وخالفه ابن حبان في الثقات (6/188) فجعلهما واحدا وقال: "حميد بن زياد أبو صخر الخراط، من أهل المدينة مولى بنى هاشم، يروى عن نافع ومحمد بن كعب. روى عنه حيوة بن شريح، وهو الذي يروى عنه حاتم بن إسماعيل، ويقول: حميد بن صخر وإنما هو حميد بن زياد أبو صخر، لا حميد بن صخر". وقال البخاري في التاريخ الكبير (2/350): "وقال بعضهم "حميد بن صخر". مما يدل على أنهما واحد لا إثنان.
وعلى فرض أنهما إثنان فحميد بن زياد ضعفه ابن معين مرة ووثقه أخرى، وقال ابن عدي في الكامل في الضعفاء (2/285): "أرجو أن يكون مستقيما". و"حميد بن صخر" ضعفه النسائي، وذهب ابن عدي (2/691) إلى أن أحاديثه لا يتابع عليها.
فإن كانا إثنين ففيهما كلام، وإن كان واحدا فهو راو مختلف فيه.
ثانيا: علة طريق الحاكم، "عطاء مولى أم صبية":
وهو الطريق الذي يرويه المقبري بواسطة "عطاء مولى أم صبية"، سكت عنه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/339). وقال الذهبي في ميزان الإعتدال (3/78): "عن أبي هريرة في السواك، لايعرف. تفرد عنه المقبري".
قلت: فالأولى أن لا يوافق الذهبي الحاكم في تصحيحه كما مر آنفا في المستدرك (2/595)، مادام عطاء مجهولا لا يعرف، ولأجله ضعف الألباني الحديث، لكن سعيد المقبري يروي هذا الحديث عن عطاء آخر هو ابن ميناء، أخرجه مسلم (الإيمان ح 155) وليس فيه لفظ الزيارة: قال رسول الله ?:
(ثم لينزلن بن مريم حكما عادلا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية ولتتركن القلاص، فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء، والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد).(111/73)
و أَيّد ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/493) هذه الرواية بقوله: "وهذا هو المحفوظ".
مسألة إختلاط سعيد المقبري:
رُمي المقبري بالإختلاط، رماه الواقدي ـ والواقدي غير حجة ـ. قال الحافظ عن المقبري: "مجمع على ثقته، لكن شعبة يقول: حدثنا سعيد المقبري بعد أن كبر، وزعم الواقدي أنه اختلط قبل موته بأربع سنين، وتبعه ابن سعد ويعقوب بن شيبة وابن حبان، وأنكر ذلك غيرهم. وقال الساجي عن يحيى بن معين: أثبت الناس فيه ابن أبي ذئب. وقال ابن خراش: أثبت الناس فيه الليث بن سعد". انظر مقدمة الفتح (2/130).
وقال الباجي في التجريح والتعديل (3/1079) عن ابن عجلان: "كان سعيد بن أبي سعيد يسندها عن رجال عن أبي هريرة، فاختلطت عليه فجعلها عن أبي هريرة". وقال العلائي في جامع التحصيل (ص 184): "سمع من أبي هريرة، ومن أبيه عن أبي هريرة وأنه اختلف عليه في أحاديث، وقالوا: أنه اختلط قبل موته وأثبت الناس فيه الليث بن سعد، يميز ما روى عن أبي هريرة مما روى عن أبيه عنه، وتقدم أن ما كان من حديثه مرسلا عن أبي هريرة فإنه لا يضر لأن أباه الواسطة".
ثالثا: علل طريق ابن عساكر:
1. "محمد بن إسحاق"
صاحب المغازي، مدلس من الطبقة الثالثة التي لا تقبل عنعنتها. قال العلائي (ص 261): "مشهور بالتدليس، وأنه لا يحتج إلا بما قال فيه حدثنا". وقال الحافظ في تعريف أهل التقديس (ص 132): "صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء المجهولين وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما".
أما الطريق الآخر الذي رواه ابن عساكر ففيه إشكال الراوي "شبيه المدني"، فالذي ظهر لي والله أعلم أنه تصحيف من الناسخ ومشى على طابع الكتاب، وصوابه "سعيد المدني" وهو المقبري، لأن الراوي عنه هو حميد بن صخر، وفيه ما تقدم من الكلام.
2. "إسحاق بن إبراهيم الملقب بشاذان"(111/74)
قال الحافظ في لسان الميزان (1/347): "له مناكير وغرائب، مع أن ابن حبان ذكره في الثقات…إلى أن قال الحافظ:.. وقد جمع ابن مندة غرائبه، ووقعت لنا من طريقه. وقد ذكره ابن أبي حاتم فنسبه: إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله بن عمر بن زيد النهشلي. وقال: صدوق".
الخلاصة:
مما سبق تبين لنا أن هذا الحديث مداره على المقبري. والحديث روي من طريقه من غير ذكر لزيارة القبر، رواه عنه الليث بن سعد وهو من أثبت الناس فيه، كما في رواية مسلم التي ذكرناها آنفا عند كلامنا على طريق الحاكم، مما يدل على أن عبارة "زيارة القبر" شاذة. كما روي عن أبي هريرة دون ذكر الزيارة، رواه عنه إمامان ثقتان هما:
"سعيد بن المسيب" في الصحيحين انظر انظر (البخاري ح 2222، ومسلم ح 155).
و"محمد بن سيرين" انظر مسند أحمد (2/411).
مما يقوي شذوذ عبارة "زيارة القبر". ولأجل ذلك ساق الحافظ ابن عساكر في تاريخه (47/524) قرابة عشر روايات عن أبي هريرة ليس فيها ذكر لزيارة القبر الشريف، ولما ذكر الرواية التي فيها ذكر دفن عيسى بجوار النبي قال: "قال البخاري هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه"، وقال (47/493) عن رواية مسلم: "وهذا هو المحفوظ".
الرد على المعترض صاحب كتاب "رفع المنارة"
تعالم المعترض فقال في رفع المنارة (ص 292) عن حديث الباب: "قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وسلمه الذهبي. وللحديث أوجه أخر، ورجح هذا الوجه أبو زرعة الرازي في العلل رقم (2747)، ولا يضر هنا عدم تصريح محمد بن إسحاق بالسماع".(111/75)
قال مقيده عفا الله عنه: هذا كل ما جادت به قريحته، والمقام يقتضي البحث والتحقيق ودراسة أسانيد هذه الأوجه، وترجيح ما في الصحيحين على غيرهما كما تقتضيه قواعد علم المصطلح التي خالفها المعترض بتعالمه، ولكونه صاحب هوى ينصره وبدعة اشرأبت عنقه للدفاع عنها، اكتفى بهذه الرواية الشاذة، كالذي استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ثم ترجيح أبي زرعة لا يصحح الرواية ولا يزيل إشكال عنعنة ابن إسحاق!.
وقوله: "ولا يضر هنا عدم تصريح محمد بن إسحاق بالسماع"، تعالم مخالف لأدنى قواعد الحديث التي أشفق على ابن عبدالهادي عدم اتباعها بزعمه. قال الحافظ العلائي في جامع التحصيل (ص 261) عن ابن إسحاق: "مشهور بالتدليس وأنه لا يحتج إلا بما قال فيه حدثنا".
فكم تعالم المعترض وخالف أقوال الأئمة وأحكامهم على أحاديث الزيارة.
زيارة بلال بن رباح وآذانه بالمدينة(111/76)
عن أبي الدرداء قال: (لما دخل عمر بن الخطاب الجابية، سأل بلال أن يقدم الشام ففعل ذلك، قال: وأخي أبو رويحة الذي آخى بينه وبيني رسول الله ، فنزل داريا في خولان فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان، فقال لهم: قد جئناكم خاطبين وقد كنا كافرين فهدانا الله، ومملوكين فأعتقنا الله وفقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وأن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله فزوجوهما، ثم إن بلالا رأى في منامه النبي وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال أما ان لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينا وجلا خائفا، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله في السحر ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر أرتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله زاد تعاجيجها، فلما أن قال: أشهد أن محمدا رسول الله، خرج العواتق من خدورهن، فقالوا: أَبُعث رسول الله ! فما رئي يومئذ أكثر باكيا ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم).
قصة مكذوبة موضوعة
،
أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/137)، قال: "أنبأنا أبو محمد بن الأكفاني، نا عبد العزيز بن أحمد، أنا تمام بن محمد نا محمد بن سليمان، نا محمد بن الفيض، نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء عن أبي الدرداء…". وعزاها السبكي له في شفاء السقام (ص 55)
من طريق محمد بن الفيض به…، وقال: "روينا ذلك بإسناد جيد إليه، وهو نص في الباب".
علل القصة
1. "أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان".(111/77)
قال الحافظ في اللسان (1/107): "إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، فيه جهالة حدث عنه محمد بن الفيض الغساني. ترجم له ابن عساكر، ثم ساق من روايته عن أبيه، عن جده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، في قصة رحيل بلال إلى الشام، وفي قصة مجيئه إلى المدينة وأذانه بها، وارتجاج المدينة بالبكاء لأجل ذلك، وهي قصة بينة الوضع ". وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/24) ضمن الوضاعين للحديث النبوي.
2. "سليمان بن بلال".
لم أقف على ترجمته. وقال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (ص 320): "رجل غير معروف، بل هو مجهول الحال قليل الرواية، لم يشتهر بحمل العلم ونقله، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه، ولم يذكر له البخاري ترجمة في كتابه، وكذا ابن أبي حاتم، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء".
الرد على المعترض صاحب كتاب رفع المنارة
قال مقيده عفا الله: عجبت لأمر السبكي كيف جوَّد إسناد هذه القصة المكذوبة، والأعجب تعامي المتعالم ابن ممدوح صاحب كتاب رفع المنارة عن تعقب هفواته، وحرصه على تعقب ابن عبدالهادي في تحقيقاته.
قصة بينة الوضع على رأي ابن حجر، طعن فيها الأئمة المحققون قبله. قال الذهبي في السير (1/357): "إسناده لين ، وهو منكر". وقال ابن عبدالهادي الصارم المنكي (ص 314: "وهو أثر غريب منكر، وإسناده مجهول فيه إنقطاع". كما حكم بوضعها ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/24).
قال ابن حزم في المحلى (3/152): "لم يؤذن بلال لأحد بعد رسول الله إلا مرة واحدة بالشام للظهر والعصر فقط، ولم يشفع الأذان".
ترى فأين الجودة التي زعمها السبكي، وهل مثلها نص في الباب؟ فإن دل فإنما يدل على جهل السبكي بأبسط قواعد علم الحديث، ثم أين المعترض المتعالم عن نقد السبكي على أبسط قواعد علوم الحديث التي خالفها!!
ومما يثبت كذب هذه القصة، آذان بلال في غير وقت الصلاة، مطعن فيه وتجهيل له، إذ كيف يعقل لمؤذن رسول الله فعله.
زيارة ميسرة بن مسروق(111/78)
قال أبو عبيدة: (فَخُذ الكتاب بارك الله فيك، فأخذه ميسرة واستوى على ناقة له كوماء، ولم يزل سائرا الى أن دخل المدينة فدخلها ليلا، وقال: والله لا نزلت عند أحد من الناس، فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها، ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله ، وعلى قبر أبي بكر الصديق ….).
قصة موضوعة.
ذكرها الواقدي في فتوح الشام (1/235)، وسيأتي تفصيل الكلام عليها في قصة زيارة عمر الآتية.
زيارة عمر بن الخطاب
قال كعب: (..فلما سمعت هذه الآيات، قلت: يا أمير المؤمنين أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ففرح عمر بإسلام كعب الأحبار، ثم قال: هل لك أن تسير معي الى المدينة فنزور قبر النبي وتتمتع بزيارته، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك).
قصة موضوعة،
ذكرها الواقدي في فتوح الشام (1/244). وذكر السبكي في شفاء السقام (ص 59) كلا القصتين.
علل القصتين:
هاتين القصتين ذكرهما الواقدي "محمد بن عمر" دون إسناد، وهو غير حجة في الرواية، قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/348): "الحافظ البحر، لم أسق ترجمته هنا لإتفاقهم على ترك حديثه، وهو من أوعية العلم لكنه لا يتقن الحديث". وبسط الكلام عليه في ترجمته في الميزان (3/662)، وذكر من عدله ومن جرحه وكذبه، وقال في آخر ذلك: "استقر الإجماع على وهن الواقدي".
كما ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/2) عن الشافعي قوله فيه: "كتب الواقدي كذب". وذكر العقيلي في الضعفاء الكبير (4/107): "أن علي بن المديني لم يرضه لا في الحديث ولا في الأنساب ولا شيء". وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/111) ضمن الوضاعين للحديث.
الرد على السبكي(111/79)
قال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (ص 330) رادا على السبكي سوقه القصتين فقال: "هو مطالب أولا: ببيان صحته. وثانيا: ببيان دلالته على مطلوبه، ولا سبيل له إلى واحد من الأمرين، ومن المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب . وفتوح الشام فيه كذب كثير، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، لكن شأن هذا المعترض الإحتجاج دائما بما يظنه موافقا لهواه، ولو كان من المنخنقة والموقوذة والمتردية، وليس هذا من شأن العلماء، بل المستدل بحديث أو أثر عليه أن يبين صحته ودلالته على مطلوبه".
زيارة أبي أيوب الأنصاري
(أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم جئت رسول ولم آت الحجر، سمعت رسول الله يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله).
قصة منكرة ضعيفة جدا.
أخرجها من طريق: (كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح فذكره…)، أحمد في المسند (5/422)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/515) وصححه ووافقه الذهبي. ولها طريق آخر: (عن كثير بن زيد عن عن المطلب بن عبد الله بن حنطب…)، أخرجها الطبراني مقتصرا على قوله: "لا تبكوا على الدين…الخ" انظر المعجم الأوسط (1/94)، وقال: "لا يروى هذا الحديث عن أبي أيوب إلا بهذا الإسناد تفرد به حاتم".
وبنحو رواية أحمد من طريق المطلب أخرجها ابن عساكر في تاريخه (57/250)، والحسيني في أخبار المدينة عزاها له السبكي في شفائه (ص 162).
علل القصة:
1. "داود بن أبي صالح".(111/80)
وهو علة راوية أحمد والحاكم، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (3/188): "روى عن نافع عن ابن عمر أن النبي : (نهى أن يمشي الرجل بين المرأتين)، وعنه الحسن بن أبي عزة الدباغ، وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي وغيرهم، قال البخاري: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال أبو زرعة: لا أعرفه إلا في حديث واحد وهو حديث منكر. وقال أبو حاتم: مجهول حدث بحديث منكر. قلت: وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات حتى كأنه يتعمد".
2. "المطلب بن عبدالله بن حنطب".
وهو علة الرواية الأخرى، قال العلائي جامع التحصيل (ص 281): "قال البُخاري: لا أعرف للمطلب بن حنطب عن أحد من الصحابة سماعاً، إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النّبيّ . قال الترمذي: وسمعت عبدالله بن عبد الرحمن ـ يعني الدّارمي ـ يقول مثله. قال عبدالله: وأنكر علي بن المدينيّ أن يكون المطلب سمع من أنس بن مالك. وقال أبو حاتم: المطلب بن حنطب عامة أحاديثه مراسيل، لم يدرك أحداً من أصحاب النّبيّ إلا سهل بن سعد وأنساً، وسلمة بن الأكوع أو من كان قريباً منهم".
وقال الحافظ في تقريب التهذيب (ص 949 ت 6756): "صدوق كثير التدليس والإرسال من الرابعة".
3. "مروان بن الحكم".
قال الذهبي في ميزان الاعتدال (6/396): "روى عن بسرة وعن عثمان، وله أعمال موبقة نسأل الله السلامة، رمى طلحة بسهم وفعل وفعل".
إرسال عمر بن عبدالعزيز السلام إلى النبي بالبريد
(عن يزيد بن أبي سعيد المقبري قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز إذ كان خليفة بالشام، فلما ودعته قال إن لي إليك حاجة، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي ? فأقرئه مني السلام).
قصة ضعيفة.
أخرجها من طريق: (ابن أبي فديك، عن رباح بن بشير، عن يزيد…). البخاري في التاريخ الكبير (8/339) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/270)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/492 ح 4167)..
علل القصة:
1. "رباح بن بشير".(111/81)
سكت عنه البخاري في التاريخ (3/317) ، وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/490): "مجهول". وذكره ابن حبان في الثقات (8/242).
2. "يزيد بن أبي سعيد المقبري".
قوله "المقبري" تصحيف صوابه: "المهري" كما في تهذيب الكمال (32/141) حيث قال: "يزيد بن أبي سعيد المدني مولى المهري روى عن عمر بن عبد العزيز وأبيه أبي سعيد مولى المهري روى عنه رباح بن بشير بن محرز". وقد سكت عنه البخاري التاريخ الكبير (8/339)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/270)، والذهبي في الكاشف (3/243). وذكره ابن حبان في الثقات (9/272). وقال الحافظ في التقريب (ص 1075 ت 7770): "مقبول".
متابعة
(كان عمر بن عبد العزيز يوجه بالبريد قاصدا الى المدينة، ليقرئ عنه النبي ? السلام).
متابعة ضعيفة. أخرجها البيهقي شعب الإيمان (3/491 رقم 6)، قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف الأصفهاني أنا ابراهيم بن فراس بمكة حدثني محمد بن صالح الرازي نا زياد بن يحيى عن حاتم بن وردان..).
علل المتابعة:
1. "إبراهيم بن فراس".
لم أوفق في الوقوف عليه.
2. "محمد بن صالح الرازي". لم أستطع تميزه.
3. الإنقطاع بين حاتم بن وردان وبين عمر بن عبدالعزيز، حيث أن عمر توفي (101هـ)، وحاتم توفي (184هـ). قال ابن عبدالهادي في الصارم المنكي (ص 328): "وأكبر شيخ لحاتم، أيوب السختياني، وكانت وفاة أيوب سنة (131هـ)".
قلت: هذه متابعة لا تعضد الأثر السابق لأمور:
أولا: شدة الضعف في كلا الإسنادين.
ثانيا: كان عمر بن عبدالعزيز أميرا على المدينة، ولم ينقل لنا أنه زار قبره ، وهذا مما لا يخفى على أهل المدينة، فكيف يبرد السلام إلى رسول الله وهو عنه بعيد ولا يزور القبر وهو منه قريب.(111/82)
ثالثا: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم كتابا، ولم يذكر له أن يقريء النبي السلام، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات بسند صحيح رجاله ثقات قال: "أخبرنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه، فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله".
انظر الطبقات الكبرى (5/480). والجرح والتعديل (9/337)، والتعديل والتجريح (3/1255).
الرد على السبكي
لقد خبرنا السبكي ونقولاته التي بدون خطام أو زمام، فقد قال في شفاء السقام (ص 57): "وقد استفاض عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يبرد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله . وممن ذكر ذلك ابن الجوزي ونقلته من خطه في كتاب (مثير الغرام الساكن)".
قال مقيده عفا الله عنه: كأن السبكي لم يقف على إسناد ما ذكره عن عمر فأكتفى بما قال. وابن الجوزي ذكر العبارة السابقة، دون ذكر لفظة "استفاض" انظر مثير الغرام الساكن (ص 273)، فلعلها سقطت من المطبوعة أو أنها زيادة من السبكي الذي قال في شفاء السقام (ص 58): "فسفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلا للزيارة والسلام على النبي ، ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك، لا من أمر الدنيا ولا من أمر الدين، لا من قصد المسجد ولا من غيره. وإنما قلنا ذلك لئلا يقول بعض من لا علم له: إن السفر لمجرد الزيارة ليس بسنة".
كلام السبكي فيه تعالم يدل على أنه لم يتحقق من أسانيد ما ذكر، حيث أن قصة بلال وإيراد عمر بن عبد العزيز السلام لم تصح من حيث الإسناد وهي في حكم القصص المكذوب كما مر تحقيقه.
انتهى الكتاب والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.(111/83)
تيسير العزيز الحميد
في شرح كتاب التوحيد
تأليف
الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب
كتاب تيسير العزيز الحميد
ص ... نص كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد
1 ... كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد
11 ... قال المصنف رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم افتتح المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بالحديث كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو اقطع رواه الحافظ عبدالقادر الرهاوي في الاربعين من حديث أبي هريرة مرفوعا واخرجه الخطيب في الجامع بنحوه فإن قلت هل جمع المصنف بين البسملة والحمدلة لما روى ابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا كل امر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية لأحمد لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع قيل المراد الافتتاح بما يدل على المقصود من حمد الله والثناء عليه لأن الحمد متعين لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله وقد حصل بالبسملة وأيضا فليس في الحديث ما يدل على أنه تتعين كتابتها معه النطق بها فقد يكون المصنف نطق بذلك في نفسه واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره الكوفيون فعلا مقدما والتقدير ابدأ وقدره البصريون اسما مقدما والتقدير ابتدائي كائن أو مستقر قال فالجار والمجرور في موضع نصب على الأول وعلى الثاني في موضع رفع وذكر ابن كثير ان القولين متقاربان وكل قد ورد به القران أما من قدره باسم تقديره باسم الله ابتدائي فلقوله تعالى وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ومن قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ باسم الله أو ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق وكلاهما صحيح فان الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل وتصدره وذلك بحسب الفعل الذي سميته قبله إن كان قياما أو(112/1)
12 ... قعودا أو أكلا أو شربا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله تعالى في ذلك كله تبركا وتيمنا واستعانة على الاتمام والتقبل وقدره الزمخشري فعلا مؤخرا أي باسم الله أقرأ او أتلو لأن الذي يتلوه مقروء وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمرا ما تجعل التسمية مبدأ له كما ان المسافر اذا حل أو ارتحل فقال بسم الله كان المعنى بسم الله أحل وبسم الله أرتحل وهذا أولى من أن يضمر ابدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه او ابتدائي لزيادة الاضمار فيه وانما قدم المحذوف متأخرا وقدم المعمول لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسم الله تعالى مقدم على القراءة كيف وقد جعل آلة لها من حيث ان الفعل لا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى وأما ظهور فعل القراءة في قوله اقرأ باسم ربك فلأن الأهم ثمة القراءة ولذا قدم الفعل فيها على متعلقه بخلاف البسملة فإن الأهم فيها الإبتداء قاله البيضاوي وهذا القول أحسن الاقوال وأظنه اختيار شيخ الإسلام وقد ألم به ابن كثير إلا انه جعل المحذوف مقدرا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها أنه موطن لا ينبغي ان يتقدم فيه سوى ذكر الله تعالى فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعني ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلوة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقا لمقصود الجنان وهو ان لا يكون في القلب إلا ذكر الله وحده فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه ومنها أن الفعل اذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة وليس فعل أولى بها من فعل فكان الحذف أعم من الذكر فأي فعل(112/2)
13 ... ذكرته كان المحذوف اعم منه الله علم على الرب تبارك وتعالى ذكر سيبويه انه أعرف المعارف ويقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر إلى اخر السورة فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له واختلفوا هل هو اسم جامد او مشتق على قولين أصحهما أنه مشتق قال ابن جرير فانه على ما روي لنا عن ابن عباس قال الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال فأدخلت الالف واللام بدلا من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقال الكسائي والفراء أصله الإله خذفوا الهمزة أدمغوا اللام الاولى في الثانية وعلى هذا فالصحيح انه مشتق من أله الرجل اذا تعبد كما قرأ ابن عباس ويذرك وإلهتك اي عبادتك وأصله الإله اي المعبود فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف فأدغمت إحداهما في الاخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة وفخمت تعظيما فقيل الله قال ابن القيم القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبوبه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وان اسم الله تعالى هوالجامع لجميع معاني الاسماء الحسنى والصفات العلى قال وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي ان اسم الله غير مشتق لان الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم(112/3)
14 ... ولا القديم مادة له فيستحيل الاشتقاق ولا ريب أنه أريد بالاشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالإشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما ارادوا انه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فان هذه الاسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الاسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله تعالى ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعني لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وكيف تحصى خصائص اسم مسماه كل كمال على الاطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير واحسان وجود وبر وفضل فله ومنه فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه ولا عند هم وغم إلا فرجه ولا عند ضيق إلا وسعه ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنيا ولا مشتوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره ولا مضطر إلا كشف ضره ولا شريد إلا آواه فهو الاسم الذي تكشف به الكربات وتستنزل به البركات والدعوات وتقال به(112/4)
15 ... العثرات وتستدفع به السيئات وتستجلب به الحسنات وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض وبه انزلت الكتب وبه ارسلت الرسل وبه شرعت الشرائع وبه قامت الحدود وبه شرع الجهاد وبه انقسمت الخليقة الى السعداء والأشقياء وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط وقام سوق الجنة والنار وبه عبد رب العالمين وحمد وبحقه بعثت الرسل وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام واليه المحاكمة وفيه الموالاة والمعاداة وبه سعد من عرفه وقام بحقه وبه شقي من جهله وترك حقه فهو سر الخلق والامر وبه قاما وثبتا واليه انتهيا فالخلق والامر به واليه ولأجله فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب الا مبتدءا منه منتهيا اليه وذلك موجبه ومقتضاه ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار الى اخر كلامه رضي الله عنه الرحمن الرحيم قال ابن كثير اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمان اشد مبالغة من رحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان احدهما أرق من الآخر اي اوسع رحمة وقال ابن المبارك الرحمن اذا سئل أعطى والرحيم اذا لم يسأل يغضب قلت كأن فيه اشارة الى معنى كلام ابن عباس لان رحمته تعالى تغلب غضبه وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء وقال ابو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع انواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم انما هو في جهة المؤمنين قال الله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما ونحوه قال بعض السلف ويشكل عليه قوله تعالى ان الله بالناس لرؤوف رحيم(112/5)
16 ... وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما فالصواب إن شاء الله تعالى ما قاله ابن القيم ان الرحمان دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الاول للوصف والثاني للفعل فالاول دال على ان الرحمة صفته والثاني دال على انه يرحم خلقه برحمته واذا اردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما انه بهم رؤوف رحيم ولم يجيء قط رحمان بهم فعلم ان رحمان هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته والرحمن الرحيم نعتان لله تعالى واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله قال تعالى الرحمن على العرش استوى فهو علم فكيف ينعت به والجواب ما قاله ابن القيم أن اسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فانها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله تعالى ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورد الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به سبحانه حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله فانه دال على صفة الالوهية فلم يجىء قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة قلت قوله عن اسم الله ولم يجىء قط تابعا لغيره بل لقد جاء في قوله تعالى الى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات والارض على قراءة(112/6)
17 ... الجر وجواب ذلك من كلامه المتقدم فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن كتاب التوحيد الكتاب مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا ومدار المادة على الجمع ومنه تكتب بنو فلان اذا اجتمعوا والكتيبة لجماعة الخيل والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف وسمي الكتاب كتابا لجمعه ما وضع له ذكره غير واحد والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا اي جعله واحدا وسمي دين الاسلام توحيدا لأن مبناه على ان الله واحد في ملكه وافعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له والى هذه الانواع الثلاثة ينقسم توحيد الانبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله وهي متلازمة كل نوع منها لا ينفك عن الآخر فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك الا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب وان شئت قلت التوحيد نوعان توحيد في المعرفة والاثبات وهو توحيد الربوبية والاسماء والصفات وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الالهية والعبادة ذكره شيخ الاسلام وابن القيم وذكر معناه غيرهما النوع الأول توحيد الربوبية والملك وهو الاقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار الذي له الامر كله وبيده الخير كله القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك ويدخل في ذلك الايمان بالقدر وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الاسلام بل لا بد ان يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الآلهية لان الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله(112/7)
18 ... فقل أفلا تتقون وقال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وقال تعالى أمن يجيب المضطر اذا دعاه الآية فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون قال مجاهد في الآية إيمانهم بالله قولهم إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدعون أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر كما قال زهير يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم وقال عنترة ياعبل اين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها ومثل هذا يوجد في اشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى ان ينظر ويبحث عن السبب الذي اوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الاقرار والمعرفة وما ذاك الا لاشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا اله الا الله(112/8)
19 ... النوع الثاني توحيد الأسماء والصفات وهو الاقرار بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم الذي لا تأحذه سنة ولا نوم له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأنه سميع بصير رؤوف رحيم على العرش استوى وعلى الملك احتوى وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون الى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى وهذا أيضا لا يكفي في حصول الاسلام بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبيه والالهية والكفار يقرون بجنس هذا النوع وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك إما جهلا وإما عنادا كما قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فأنزل الله فيهم وهم يكفرون بالرحمن قال حافظ ابن كثير والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فانه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن قال الشاعر وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وقال الآخر ألا قضب الرحمن ربي يمينها وهما جاهليان وقال زهير فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة ولو كانوا ينكرونه لردوا علىالنبي صلىالله عليه وسلم ذلك كما ردوا عليه توحيد الآلهية فقالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب لا سيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد(112/9)
20 ... النوع الثالث توحيد الآلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والدعاء لله وحده وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له لا يجعل فيها شيئا لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى اياك نعبد واياك نستعين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون وقوله تعالى فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله تعالى رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا وقوله تعالى عليه توكلت واليه أنيب وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو اول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والاجلال والتعظيم وجميع انواع العبادة ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء اهل الجنة وأشقياء أهل النار قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون فهذا(112/10)
21 ... أول أمر في القرآن وقال تعالى لقد أرسلنا نوحا الى وقومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك وقال هود لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال ابراهيم عليه السلام لقومه اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وقال تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم قال يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ انك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية ان يوحدوا الله وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد الى النظر ولا الشك في الله كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني الكتاب والحكمة فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الاسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة حديث صحيح وقال(112/11)
22 ... أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله متفق عليه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الافصاح وأبدأ فيه وأعاد وضرب لذلك الأمثال بحيث أن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا التوحيد ويسمى هذا النوع توحيد الآلهية لأنه مبني على إخلاص التآله وهو أشد المحبة لله وحده وذلك يستلزم إخلاص العبادة وتوحيد العبادة لذلك وتوحيد الارادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالاعمال وتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده قال الله تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين وقال قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل الله اعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه الى قوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون الى قوله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية إلى قوله اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية الى قوله وأنيبوا الى ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون إلى قوله قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين الى آخر السورة(112/12)
23 ... فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد والأمر به والجواب عن الشبهات والمعارضات وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم وما أعد لمن خالفه من العذاب الأليم وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن فهي داعية إلى هذا التوحيد شاهدة به متضمنة له لأن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الربوبية وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا متضمن له وإما دعاء الى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه أوامر بانواع من العبادات ونهي عن المخالفات فهذا هو توحيد الالهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما ايضا واما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرههم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد وهذا التوحيد هو حقيقة دين الاسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت رواه البخاري ومسلم فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال فدل على أن الاسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له بفعل المأمور وترك المحظور والاخلاص في ذلك لله وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة فيجب إخلاصها لله تعالى فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم(112/13)
24 ... فمنها المحبة فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الى قوله تعالى وما هم بخارجين من النار ومنها التوكل فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وعلى الله فليتوكل المؤمنون والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر ومنا الخوف فلا يخاف خوف السر إلا من الله ومعنى خوف السر هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى ان يصيبه مكروه بمشيئته و قدرته وإن لم يباشره فهذا شرك أكبر لأنه اعتقاد للنفع والضر في غير الله قال الله تعالى فأياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ومنها الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر قال الله تعالى ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ومنها الصلاة والركوع والسجود قال الله تعالى فصل لربك وانحر(112/14)
25 ... وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الاية ومنها الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله سواء كان طلبا للشفاعة أو غيرها من المطالب قال الله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وقال تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية ومنها الذبح قال الله تعالى قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية والنسك الذبح ومنها النذر قال الله تعالى وليوفوا نذورهم وقال تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ومنها الطواف فلا يطاف إلا ببيت الله قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ومنها التوبة فلا يتاب إلا لله قال الله تعالى ومن يغفر الذنوب الا الله(112/15)
26 ... وقال تعالى وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون ومنها الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ومنها الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها فهو مشرك وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة لأن عباد القبور صرفوها للاموات من دون الله تعالى أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها وإلا فكل نوع من انواع العبادة من صرفه لغير الله أو شرك بين الله تعالى وبين غيره فيه فهو مشرك قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وهذا الشرك في العبادة هوالذي كفر الله به المشركين وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر ليس له شريك في ملكه وانما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله الذي مضمونه أن لا يعبد إلا الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما فقالوا أجعل الآلهة الها واحدا إن هذا لشيء عجاب(112/16)
27 ... وكانوا يجعلون من الحرث والأنعام نصيبا لله وللآلهة مثل ذلك فإذا صار شيء من الذي لله الى الذي للآلهة تركوه لها وقالوا الله غني واذا صار شيء من الذي للآلهة الى الذي لله تعالى ردوه وقالوا الله غني والالهة فقيرة فأنزل الله تعالى وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وهذا بعينه يفعله عباد القبور بل يزيدون على ذلك فيجعلون للأموات نصيبا من الأولاد إذا تبين هذا فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة الى أنواع التوحيد وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا وقد يكون أكبر بالنسبة الى ما هو أصغر منه ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه القسم الأول الشرك في الربوبية وهو نوعان أحدهما شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوما أصلا بل لم يزل ولا يزال والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى اسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الاسلام ومزجوه بشيء من الحق حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب وأوصافه من غلاة الجهمية والقرامطة(112/17)
28 ... النوع الثاني شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة وشرك المجوس القائلين باسناد حوادث الخير الى النور و حوادث الشر إلى الظلمة ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم قلت ويلتحق به من و جه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ اليهم ولاذ بحماهم فإن هذه من خصائص الربوبية كما ذكره بعضهم في هذا النوع القسم الثاني الشرك في توحيد الأسماء والصفات وهو أسهل مما قبله وهو نوعان أحدهما تشبيه الخالق بالمخلوق كمن يقول يد كيدي وسمع كسمعي وبصر كبصري واستواء كاستوائي وهو شرك المشبهة الثاني اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون قال ابن عباس يلحدون في أسمائه يشركون وعنه سموا اللات من الاله والعزى من العزيز القسم الثالث الشرك في توحيد الآلهية والعبادة قال القرطبي أصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تعالى في الآلهية وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل وهو قول(112/18)
29 ... من قال إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاد وإن لم يعتقد كونه الها هذا كلام القرطبي وهو نوعان احدهما أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله ويرجوه كما يرجو الله ويحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله وبالجملة فهو أن يجعل لله ندا يعبده كما يعبد الله وهذا هو الشرك الأكبر وهو الذي قال الله فيه واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرض ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تذكرون والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدا الثاني الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة فلله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ كالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت ومالي إلا الله وأنت وأنا في حسب الله وحسبك ونحوه وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره(112/19)
30 ... وقد استوفى المصنف رحمه الله بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها لله بالتنبيه على بعض أنواعها وبيان ما يضادها من الشرك بالله تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ كما سيمر بك ان شاء الله تعالى مفصلا في هذا الكتاب فالله تعالى يرحمه ويرضى عنه فان قلت هلا أتى المصنف رحمه الله بخطبه تنبىء عن مقصده كما صنع غيره قيل كأنه والله أعلم اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده فانه صدره بقوله كتاب التوحيد وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها مما يدل على مقصوده فكأنه قال قصدت جمع أنواع توحيد الالهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك فاكتفى بالتلويح عن التصريح والألف واللام في التوحيد للعهد الذهني قوله وقول الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون يجوز في قول الله الرفع والجر وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب قال شيخ الاسلام العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل وقال أيضا العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة قال ابن القيم ومدارها على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح وقال القرطبي(112/20)
31 ... أصل العبادة التذلل والخضوع وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى وقال ابن كثير العبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وغير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف وهكذا ذكر غيرهم من العلماء ومعنى الآية أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته فهذا هو الحكمة في خلقهم ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام بل هو الرازق ذو القوة المتين الذي يطعم ولا يطعم كما قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم الآية وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وذلك هو حقيقة دين الإسلام لأن معنى الاسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد في غاية الذل والخضوع قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الاية إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم الى عبادتي وقال مجاهد إلا لآمرهم وأنهاهم واختاره الزجاج وشيخ الاسلام قال ويدل على هذا قوله أيحسب الانسان أن يترك سدى قال الشافعي لا يؤمر ولا ينهى وقوله قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم أي لولا عبادتكم اياه وقد قال في القرآن في غير موضع اعبدوا ربكم اتقوا ربكم فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل الى الجن والانس بذلك وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية(112/21)
32 ... عليه ويقرون أن الله إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية وهي طاعته وطاعة رسله لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم وقوله وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ثم قد يطاع وقد يعصى وكذلك ماخلقهم إلا للعبادة ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون وهو سبحانه لم يقل إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم انتهى والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة لأنه سبحانه هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا وما فعله بك لا يقدر عليه غيره ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره وهوالذي يدفع الضر لا يدفعه غيره كما قال تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور وهو سبحانه ينعم عليك ويحسن اليك بنفسه فإن ذلك موجب ما تسمى به ووصف به نفسه اذ هو الرحمن الرحيم الودود المجيد وهو قادر بنفسه وقدرته من لوازم ذاته وكذلك رحمته وعلمه وحكمته لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه بل هو الغني عن العالمين فمن شكر فإنما يشكر لنفسه(112/22)
33 ... ومن كفر فإن ربي غني كريم فالرب سبحانه غني بنفسه وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه واجب له من لوازم ذاته لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره ففعله وإحسانه وجوده من كماله لا يفعل شيئا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه بل كل ما يريد فعله فإنه فعال لما يريد وهو سبحانه بالغ أمره فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده ولا يعينه أحد ولا يعوقه أحد لا يحتاج في شيء من اموره الى معين وما له من المخلوقين من ظهير وليس له ولي من الذل قاله شيخ الإسلام قال وقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت قالوا الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد وقد فسره السلف ببعض أفراده قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطاغوت الشيطان وقال جابر رضي الله عنه الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبي حاتم وقال مجاهد الطاغوت الشيطان في صورة الإنسان يتحاكمون اليه وهو صاحب أمرهم وقال مالك الطاغوت كل ما عبد من دون الله قلت وهو صحيح لكن لا بد فيه من استثناء من لا يرضى بعبادته وقال ابن القيم الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله فهذه طواغيت العالم اذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله الى عبادة الطاغوت وعن طاعته أو متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته(112/23)
34 ... وأما معنى الآيه فأخبر تعالى أنه بعث في كل أمة أي في كل طائفة وقرن من الناس رسولا بهذه الكلمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه فلهذا خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به اليه أدعو وإليه مآب وهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله فإنها تضمنت النفي والاثبات كما تضمنته لا لله إله إلا الله ففي قوله اعبدوا الله الاثبات وفي قوله اجتنبوا الطاغوت النفي فدلت الآية على أنه لا بد في الاسلام من النفي والاثبات فيثبت العبادة لله وحده وينفي عبادة ما سواه وهو التوحيد الذي تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وهو معنى قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم قال ابن القيم وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالاثبات فينفي عبادة ما سوى الله وثبت عبادته وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الاثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والاثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله انتهى ويدخل في الكفر بالطاغوت بغضه وكراهته وعدم الرضى بعبادته بوجه من الوجوه ودلت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وان أصل دين الانبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله وان اختلفت شرائعهم كما قال تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وانه لابد في الايمان من العمل ردا على المرجئة(112/24)
35 ... قال قوله وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانا هكذا ثبت في بعض الأصول لم يذكر الآية بكمالها قال مجاهد وقضى يعني وصى وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله وقضى ربك يعني أمر وقوله ألا تعبدوا إلا إياه أن هي المصدرية وهي في محل جر بالباء والمعنى أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرا ولا نفعا بل هو إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها وأما جماد لا يستجيب لمن دعاه وقوله وبالوالدين إحسانا أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا كما قضى بعبادته وحده لا شريك له وعطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله وهذا كثير في القرآن يقرن بين حقه عز وجل وبين حق الوالدين كقوله ان اشكر لي ولوالديك إلى المصير وقال وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ولم يخص تعالى نوعا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الاحسان وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك وتحريم عقوقهما كما في القرآن ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ولو استزدته لزادني وعن أبي بكرة قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا و شهادة الزور فما زال يكررها(112/25)
36 ... حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك أخرجاه وعن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وعن أبي أسيد الساعدي قال بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم اذ جاء رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما رواه ابو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر البخاري منها شطرا صالحا في كتاب الادب المفرد قال وقوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الآيات قال ابن كثير يقول الله تعالى النبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة وتسويل الشيطان لهم تعالوا اي هلموا وأقبلوا أتل ما حرم ربكم عليكم أي أقصص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحي منه وأمر من عنده الا تشركوا به شيئا قال وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق وتقديره وصاكم ان لا تشركوا به شيئا ولهذا قال في آخر الآية ذلكم وصاكم به قلت ابتدأ تعالى هذه(112/26)
37 ... الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه فحرم علينا أن نشرك به شيئا فشمل ذلك كل مشرك به وكل مشرك فيه من أنواع العبادة فإن شيئا النكرات فيعم جميع الاشياء وما أباح تعالى لعباده ان يشركوا به شيئا فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح ولفظ الشرك يدل على ان المشركين كانوا يعبدون الله ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وكانت لا إله إلا الله متضمنة لهذا المعنى فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الى الاقرار بها نطقا وعملا واعتقادا ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم قالوا يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله ابو سفيان وقوله وبالوالدين إحسانا قال القرطبي الاحسان الى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما و إحسانا نصب على المصدرية وناصبة فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم الاملاق الفقر أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر فإني رازقكم و اياهم وكان منهم من يفعل ذلك بالاناث والذكور خشية الفقر ذكره القرطبي وفي الصحيحين عن ابن سعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب اعظم عند الله قال إن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ان تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال ابن عطية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء وفي(112/27)
38 ... التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية وهو تفسير عظيم و لا تقربوا الفواحش أي القبائح وعن ابن عباس والضحاك والسدي أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسا إذا كان سرا وقيل الظاهر ما بينك وبين الخلق والباطن ما بينك وبين الله انتهى وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا أحد أعير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق قال ابن كثير هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا باحدي ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة وعن ابن عمر مرفوعا من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما رواه البخاري ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون قال ابن عطية ذلكم إشارة الى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر وقوله لعلكم تعقلون ترج بالاضافة الينا أي من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها قلت هذا غير صحيح والصواب أن لعل هنا للتعليل أي ان الله وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وفي تفسير الطبري الحنفي ذكر أولا تعقلون ثم تذكرون ثم تتقون لأنهم اذا(112/28)
39 ... عقلوا تذكروا فإذا فإذا تذكروا تذكروا خافوا واتقوا المهالك ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده قال ابن عطية هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو التشمير والسعي في نمائه قال مجاهد التي هي أحسن التجارة فيه فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذا ثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف قاله ابن زيد وقوله حتى يبلغ أشده قال مالك وغيره هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ قال ابن عطية وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع قلت وقد روي نحوه عن زيد ابن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم ويدل عليه قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم فاشترط تعالى للدفع اليهم ثلاثة شروط الأول ابتلاؤهم وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم والثاني البلوغ والثالث الرشد وأوفوا الكيل والميزان بالقسط قال ابن كثير يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد عليه في قوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أوزنوهم يخسرون إلى قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين وقد(112/29)
40 ... أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان وقال غيره القسط العدل وقد روى الترمذي وغيره باسناد ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان انكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم وروي عن ابن عباس موقوفا باسناد صحيح لانكلف نفسا إلا وسعها قال ابن كثير أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فان اخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه وقد روى ابن مردويه عن سعيد المسيب مرفوعا اوفوا الكيل والميزان بالقسط لا يكلف نفسا إلا وسعها قال من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها قال هذا مرسل غريب قلت وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد قال الحنفي العدل في القول في حق الولي والعد لا يتغير بالرضى والغضب بل يكون على الحق والصدق وإن كان ذا قربى فلا يميل الى الحبيب ولا الى القريب ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وبعهد الله أوفوا قال ابن جرير يقول وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه وتعملوا بكتابه وسنة رسوله وذلك هو الوفاء بعهد الله وكذا قال غيره قلت وهو حسن ولكن الظاهر أن الآية فيما هو خص كالبيعة والذمة(112/30)
41 ... والأمان والنذر ونحو ذلك وهذه الآية كقوله وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم فهذا هوالمقصود بالآية وان كانت شاملة لما قالوا بطريق العموم ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون يقول تعالى هذا وصاكم وأمركم به وأكد عليكم فيه لعلكم تذكرون أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ش قال القرطبي هذه آية عظيمة عطفها الله على ما تقدم فانه لما نهى وأمر حذر عن اتباع غير سبيله وأمر فيا باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف وأن في موضع نصب أي واتلوا أن هذا صراطي عن الفراء والكسائي قال الفراء ويجوز أن يكون خفضا أي وصاكم به وبأن هذا صراطي قال والصراط الطريق الذي هو دين الاسلام مستقيما نصب على الحال ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج الى تلك الطرق أفضت به الى النار قال الله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله أي تميل انتهى وروى أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ليس منها سبيل الا عليه شيطان يدعو اليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله(112/31)
42 ... وعن النواس بن سمعاس مرفوعا قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فاذا أراد الانسان أن يفتح شيئا من تلك الابواب قال لا تفتحه فانك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم رواه احمد والترمذي والنسائي وابن جرير ابن ابي حاتم وعن مجاهد في قوله ولا تتبعوا السبل قال البدع والشبهات رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وعباد القبور وسائر أهل الملل والاوثان والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء والتعمق في الجدل والخوض في الكلام فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم الى موافقة أصحاب الجحيم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد حديث صحيح قال ابن مسعود تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله الا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق رواه الدارمي قلت العتيق هو القديم يعني ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهدى دون ما حدث بعدهم فالهرب الهرب و النجاء النجاء والتمسك(112/32)
43 ... بالطريق المستقيم والسنن القويم وهو الذي كان عليه السلف الصالح وفيه المتجر الرابح قاله القرطبي وقال سهل بن عبدالله عليكم بالأثر والسنة فاني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلىالله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤا منه وأذلوه وأهانوه قلت رحم الله سهلا ما أصدق فراسته فلقد كان ذلك وأعظم وهو أن يكفر الانسان بتجريد التوحيد والمتابعة والأمر بإخلاص العبادة لله وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في الدقيق والجليل قال ابن القيم رحمه الله تعالى ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا فان الناس قد تنوعت عباراتهم عنه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته بشيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم اليه ولا طريق اليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق الا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصولا لعباده اليه وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحد في عبوديته ولا يشرك برسوله أحد في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبة وحسن معاملة وهذا كله مضمون شهادة أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع الا معمور بحبه ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا اله الا الله والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله وهذا هوالهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل به وهو(112/33)
44 ... معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به فقل ماشئت من العبارات التي هذا اخيتها وقطب رحاها قال وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية قال ابن كثير يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته قلت هذا أول أمر في القرآن وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك كما في قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته أي فعلها خالصة له ولم يخص بذلك نوعا من أنواع العبادة لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما ليعم جميع أنواع العبادة ونهى عن الشرك به ولم يخص أيضا نوعا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه في هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه والا فكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره فأسروا بالتوحيد وهو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف وهو الكفر بالطاغوت والايمان بالله المستلزم لعبادته وحده لا شريك له وأن من عبد غير الله بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك سواء كان المعبود ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما قال ابن مسعود من أراد ان ينظر الى وصية محمد صلىالله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قال تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الى قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الاية(112/34)
45 ... ابن مسعود هو عبدالله بن مسعود بن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي أبو عبدالرحمن صحابي جليل من السابقين الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان ومن كبار العلماء من الصحابة أمره عمر على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم نحوه قال بعضهم ما معناه أي من أراد أن ينظر الى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها ثم طويت فلم تغير ولم تبدل تشبيها لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها وختم عليها وأوصى بها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص الا بكتاب الله كما قال فيما رواه مسلم واني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله قلت وقد روى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره الى الآخرة كان أمره الى الله ان شاء أخذه وان شاء عفا عنه رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه فهذا يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بهن ويبالغ في الحث على العمل بهن وعن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله فقلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لاتبشرهم فيتكلوا اخرجاه في الصحيحين(112/35)
46 ... هذا الحديث في الصحيحين وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف ومعاذ هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي أبو عبدالرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان اليه المنتهى في العلم بالاحكام والقرآن رضي الله عنه مات سنة ثمان عشرة بالشام قوله كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فيه جواز الارداف على الدابة وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلىالله عليه وسلم قوله على حمار في رواية اسمه عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة قال ابن الصلاح وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم قيل انه مات في حجة الوداع وفيه تواضعه صلىالله عليه وسلم للارداف ولركوب الحمار خلاف ما عليه أهل الكبر قوله أتدري ما حق الله على العباد الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم فان الانسان اذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فان ذلك وعى لفهمها وحفظها وهذا من حسن ارشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم وحق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتما وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده ووعده حق إن الله لا يخلف الميعاد وقال شيخ الإسلام كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق والمعتزلة(112/36)
47 ... يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب وغلطوا في ذلك وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية تباع جهم والقدرية النافية قوله فقلت الله ورسوله أعلم فيه حسن أدب المتعلم وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك بخلاف أكثر المتكلفين قوله ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أي يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئا وفائدة هذه الجملة بيان أن التجرد من الشرك لابد منه في العبادة والا فلا يكون العبد آتيا بعبادة الله بل مشرك وهذا هو معنى قول المصنف إن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه وفيه معرفة حق الله على العباد وهو عبادته وحده لا شريك له فيا من حق سيده الاقبال عليه والتوجه بقلبه اليه لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره فما هذه الاساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة فهو يعظمك ويدعوك الى الاقبال وأنت تأبى الا مبارزته بقبائح الأفعال في بعض الآثار الالهية إني والجن والانس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ورزق ويشكر سواي خيري الى العباد نازل وشرهم الى صاعد أتحبب اليهم بالنعم ويتبغضون الى بالمعاصي وكيف يعبده حق عبادته من صرف سؤاله ودعاءه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا من ميت رميم في التراب أو بناء مشيد من القباب فضلا مما هو شر من ذلك قوله وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال الخلخالي تقديره أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئا والعبادة هي(112/37)
48 ... الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي لأن مجرد عدم الاشتراك لا يقتضي نفي العذاب وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة وقال الحافظ اقتصر على نفي الاشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ويستدعي إثبات الرسالة بالزوم إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل من توضا صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به قلت وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى قوله أفلا أبشر الناس فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا نبه عليه المصنف قوله قال لا تبشرهم فيتكلوا وفي رواية إني أخاف أن يتكلوا أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة وفي رواية فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي تحرجا من الأثم قال الوزير أبو المظفر لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم وقال الحافظ دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم وإلا لما أخبر به أصلا أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الاخبار عموما فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم التنبيه على عظمة حق الوالدين وتحريم(112/38)
49 ... عقوقهما والحث على إخلاص العبادة لله تعالى وأنها لا تنفع مع الشرك بل لا تسمى عبادة شرعا والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام ذكره المصنف وجواز كتمان العلم للمصلحة ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام كما قال بعضهم فأكثر ما استطعت من الخطايا اذا كان القدوم على كريم وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض وفضيلة معاذ ومنزلته من العلم لكونه خص بما ذكر واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه صلى الله عليه وسلم ذكره المصنف قوله أخرجاه في الصحيحين أي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وإنما أضمرهما للعلم بهما والبخاري هو الامام محمد بن إسماعيل بن ابراهيم الجعفي مولاهم الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب الفرد وغير ذلك من مصنفاته روى عن الامام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم وروى عنه مسلم والترمذي والنسائي والفربري راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين ومسلم هو ابن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب الصحيح والعلل والوحدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم(112/39)
50 ... روى عنه الترمذي وابراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة اربع ومائتين ومات سنة احدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان فضل التوحيد وبيان ما يكفر من الذنوب وما يجوز أن تكون موصولة أي وبيان ما يكفره من الذنوب ويجوز أن تكون مصدرية أي وبيان تكفيره الذنوب وهذا أرجح لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبا لا يكفرها التوحيد وليس بمراد ولما ذكر معنى التوحيد ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبا فيه وتحذيرا من الضد وقول الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال بعض الحنفية في تفسيره هذا ابتداء قال ابن زيد وابن إسحاق هذا من الله على فصل القضاء بين ابراهيم وقومه قال الزجاج سأل ابراهيم واجاب بنفسه وعن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية قالوا فأينا لم يظلم قال عليه السلام إن الشرك لظلم عظيم وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك فيكون الأمن من تأبيد العذاب وعن عمر أنه فسره بالذنب فيكون الأمن من كل عذاب وقال الحسن والكلبي أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا انتهى وانما ذكرته لأن فيه شاهدا لكلام شيخ الاسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في الصحيح والمسند وغيرهما وفي لفظ لأحمد عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا(112/40)
51 ... ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله فأينالا يظلم نفسه قال إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك قال شيخ الإسلام والذي شق عليهم ظنوا ان الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء الا لمن لم يظلم نفسه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على ان الشرك ظلم في كتاب الله وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس ايمانهم بهذا الظلم فمن لم يلبس ايمانه به كان من اهل الأمن والأهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به فبين أن المؤمن الذي اذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه قال فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة يعني الظلم الذي هو الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى وقد هداه الله الى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه الى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من ايمانه بظلمه لنفسه ليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر(112/41)
52 ... يكون له الأمن التام والاهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين الى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم بل معهم أصل الاهتداء الى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة وقوله إنما هو الشرك إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد الى ذلك وان كان مراده جنس الشرك فيقال ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر وحبه ما يبغض الله حتي يقدم هواه على محبة الله شرك أصفر ونحو ذلك فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار انتهى ملخصا وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب لأن من أتى به تاما فله الأمن التام والاهتداء التام ودخل الجنة بلا عذاب ومن أتى به ناقصا بالذنوب التي لم يتب منها فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر لآية النساء والنجم وان كانت كبائر فهو في حكم المشيئة إن شاء الله غفر له وان شاء عذبه ومآله الى الجنة والله أعلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه عبادة هو بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله(112/42)
53 ... اثنتان وسبعون سنة وقيل عاش الى خلافة معاوية قوله من شهد أن لا اله الا الله أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا كما دل عليه قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله وقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فان ذلك غير نافع بالاجماع وفي الحديث ما يدل على هذا وهو قوله من شهد اذ كيف يشهد وهو لا يعلم ومجرد النطق بشيء لا يسمي شهادة به قال بعضهم أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر افراد لأن معناه الألوهية منحصرة في الله الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه وليس قصر قلب لأن أحدا من الكفار لم ينفها عن الله وإنما اشرك معه غيره وقال النووي هذا حديث عظيم جليل الموقع وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد فانه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم انتهى ومعنى لا اله الا الله أي لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله وحده لاشريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا اله الا أنا فاعبدون مع قوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فصح أن معنى الا له هو المعبود ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش قولوا لا إله إلا الله قالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وقال قوم هود أجئتنا لنعبد الله وحده(112/43)
54 ... ونذر ما كان يعبد آباؤنا وهو إنما دعاهم إلى لا اله الا الله فهذا هو معنى لاإله إلا الله وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو الكفر بالطاغوت وايمان بالله فتضمنت هذه الكلمة العظيمة إن ما سوى الله ليس بإله وأن الهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الالهية لغيره فتضمنت نفي الالهية عما سواه وإثباتها له وحده لا شريك له وذلك يستلزم الأمر باتخاذه الها وحده والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والاثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتي أو يستشهد من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد المفتي فلان والشاهد فلان فإن هذا أمر منه ونهي وقد دخل في الالهيه جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له فيجب إفراد الله تعالى بها كالدعاء والخوف والمحبة والتوكل والإنابة والتوبة والذبحح والنذر والسجود وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له فمن صرف شيئا مما لا يصلح الا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك ولو نطق لا إله إلا الله إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والاخلاص ذكر نصوص العلماء في معنى الإله قال ابن عباس رضي الله عنه الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الوزير أبو المظفر في الافصاح قوله شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله كما قال الله عز وجل فاعلم أنه لا إله إلا الله وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها فقد قال الله عز(112/44)
55 ... وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون قال واسم الله تعالى مرتفع بعد الأمن حيث إنه الواجب له الالهية فلا يستحقها غيره سبحانه قال واقتضى الاقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث فانه لا يكون إلها فإذا قلت لا إله إلا الله فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس باله فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده قال وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم ان هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والايمان بالله فانك لما نفيت الالهية وأثبت الايجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله وقال أبو عبد الله القرطبي في التفسير لا إله إلا هو أي لا معبود إلا هو وقال الزمخشري الإله من أسماء الاجناس كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل ثم غلب على المعبود بحق وقال شيخ الإسلام الاله هو المعبود المطاع وقال أيضا في لا إله إلا الله إثبات انفراده بالآلهية والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه الى العباد فان الاله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع وقال ابن القيم رحمه الله الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا وقال ابن رجب رحمه الله الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح ذلك كله(112/45)
56 ... إلا لله عز وجل فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصا في توحيده وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك وهذا كله من فروع الشرك وقال البقاعي لا إله إلا الله أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة وإنما يكون علما إذا كان نافعا وإنما يكون نافعا إذا كان الاذعان والعمل بما تقتضيه وإلا فهو جهل صرف وقال الطيبي الإله فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من إله أي عبد عبادة وهذا كثير جدا في كلام العلماء وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله كدعاء الأموات والاستغاثة بهم في الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والنذر لهم في الملمات وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات إلى غير ذلك من أنواع العبادات وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الاقرار ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الإختراع ويعبدونه بأنواع من العبادات فليهن أبا جهل وأبو لهب ومن تبعهما من الإسلام بحكم عباد القبور وليهن أيضا إخوانهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم نزاع بل كانوا يبادرون الى إجابته ويلبون دعوته إذ يقول لهم قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه(112/46)
57 ... لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون سمعنا وأطعنا قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والأبصار الآيه إلى غير ذلك من الآيات لكن القوم أهل اللسان العربي فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله وصرف الالهية لغيره لأم الرأس فقالوا ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى هؤلاء شفعاؤنا عند الله أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب فتبا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه لا إله إلا الله قال تعالى إنهم كانوا إذا قيل لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده أنترك سادتنا وشفعاءنا في قضاء حوائجنا فقال لهم نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق كما قال تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين ولا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلا عن غيرهم فليس باله ولا له من العبادة شيء وأثبتت الالهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره أي لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء(112/47)
58 ... من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك وبالجمله فلا يأله إلا الله أي لا يعبد إلا هو فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به فهذا هو المسلم حقا فان عمل به ظاهرا من غير اعتقاد فهو المنافق وان عمل بخلافها من الشرك فهو الكافر ولو قالها إلا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرا وهم في الدرك الأسفل من النار واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر فلم تنفعهم وكذلك من ارتد عن الإسلام بإ نكار شيء من لوازمها وحقوقها فانها لا تنفعه ولو قالها مائة الف فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله كعباد القبور والأصنام فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها وما أشبهه من الأحاديث وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وحده لا شريك له تنبيها على أن الانسان قد يقولها وهو مشرك كاليهود والمنافقين وعباد القبور لما رأوا ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله ظنوا أنه إنما دعاهم الى النطق بها فقط وهذا جهل عظيم وهو عليه السلام إنما دعاهم اليها ليقولوها ويعملوا بمعناها ويتركوا عبادة غير الله ولهذا قالوا أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فلهذا أبوا عن النطق بها وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد ويتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده لا شريك له وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والاجماع وأما عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة ولا عرفوا الالهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له بل لم يعرفوا من معناه إلا ما أقربه المؤمن والكافر واجتمع(112/48)
59 ... عليه الخلق كلهم من أن معناها لا قادر على الاختراع أو أن معناها الإله هو الغني عما سواه الفقير اليه كل ما عداه ونحو ذلك فهذا حق وهو من لوازم الالهية ولكن ليس هو المراد بمعنى لا إله إلا الله فان هذا القدر قد عرفه الكفار وأقروا به ولم يدعوا في آلهتهم شيئا من ذلك بل يقرون بفقرهم وحاجتهم إلى الله وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة والأمر كله لله وحده لا شريك له وقد عرفوا معنى لا إله إلا الله وأبوا عن النطق والعمل بها فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الالهية كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون به فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والاجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الايمان صادقا أو كاذبا ولو قيل له احلف بحياة الشيخ فلان أو بتربته ونحو ذلك لم يحلف إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب وما كان الأولون هكذا بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى كما في قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية وهي في صحيح البخاري وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد ويصرحون بذلك والحكايات عنهم بذلك فيها(112/49)
60 ... أطول وهذا امر ما بلغ إليه شرك الاولين وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب وهتفوا باسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب وهذا أمر ما فعله الأولون بل هم في هذه الحال يخلصون للكبير المتعال فاقرأ قوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين الاية وقوله ثم اذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم اذا فريق منكم بربهم يشركون وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشعا ذليلا خاضعا بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب والنجاة من النار وأن يحطوا عنهم الأوزار فكيف يظن عاقل فضلا عن عالم أن التلفظ بلا إله إلا الله مع هذه الأمور تنفعهم وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول وصلى وصام وحج ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئا من الشرك فانه لا يشك أحد في عدم إسلامه وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب الدر الثمين في شرح المرشد المعين من المالكية ثم قال شارحه وهذا الذي افتوا به جلي في غاية الجلاء لا يمكن إن يختلف فيه اثنان انتهى ولا ريب ان عباد القبور أشد من هذا لأنهم اعتقدوا الالهية في أرباب متفرقين فإن قيل قد تبين معني الإله والالهية فما الجواب عن قول من قال بان معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة(112/50)
61 ... قيل الجواب من وجهين أحدهما أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا الثاني على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للاله الحق فان اللازم له أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي الها وليس مراده أن من عرف أن الاله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فان هذا لا يقوله أحد لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطىء يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية قوله وأن محمدا عبده ورسوله أي وشهد بذلك وهو معطوف على ما قبله فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد ومعنى العبد هنا يعني المملوك العابد أي مملوك لله تعالى وليس له من الربوبية والإلهية شيء إنما هو عبد مقرب عند الله و رسوله أرسله الله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا الآيات قيل وقدم العبد هنا على الرسول ترقيا من الأدنى إلى الأعلى وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وذلك يتضمن تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والإنتهاء عما عنه زجر فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره وارتكب نهيه(112/51)
62 ... قوله وان عيسى عبد الله ورسوله وفي رواية وابن أمته أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فيشهد بأنه عبد الله أي عابد مملوك لله لا مالك فليس له من الربوبية و لا من الالهية شيء ورسول صادق خلافا لقول اليهود إنه ولد بغي بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا الآيات وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون قال القرطبي ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم قوله وكلمته إنما سمي عليه السلام كلمة الله لصدوره بكلمة كن بلا أب قاله قتادة وغيره من السلف قال الامام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية الكلمة التي ألقاها الى مريم حين قال له بكن فكان عيسى كن وليس عيسى هو بكن ولكن كن كان فكن من الله قول وليس كن مخلوقا وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالت عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال إن هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة انتهى يعني به ما قال قتادة وغيره(112/52)
63 ... قوله ألقاها الى مريم قال ابن كثير خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى باذن الله عز وجل وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام قوله وروح منه قال أبي بن كعب عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله ألست بربكم قالوا بلى بعثه الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن ابي حاتم وغيرهم وقال أبو روق وروح منه أي نفخة منه إذ هي من جبرائيل بأمره وسمي روحا لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام وقال الامام أحمد وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره وقال شيخ الاسلام المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبرائيل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى(112/53)
64 ... لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين أحدهما أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عبيدالله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله الوجه الثاني أن يضاف اليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره وكما يقال عن مال الفيء والخمس هو مال الله ورسوله ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه انتهى ملخصا والمقصود منه أن إضافة روح إلى الله هو من الوجه الثاني والله أعلم قوله والجنة حق والنار حق أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله بها في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق أي ثابتة لا شك فيها وشهد أن النار التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك كما قال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله الاية وقال تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لأهل البدع الذين قالوا لا يخلقان إلا في يوم القيامة وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد قوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية قال القاضي عياض(112/54)
65 ... وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الايمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة قال ولهما من حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله قوله ولهما أي للبخاري ومسلم في صحيحيهما وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف وعتبان بكسر المهمله بعدها مثناة فوقيه ثم موحدة ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوض صحابي شهير مات في خلافة معاوية قوله فان الله حرم على النار الحديث اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرجل فقال يا معاذ قال لبيك يا رسول وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله إلا حرمه على النار قال يا رسول الله إلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أخرجاه ولمسلم عن عبادة مرفوعا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرم الله عليه النار ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة وليس فيها أنه يحرم على النار منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا وحديث أبي هريرة أنهم كانوا(112/55)
66 ... مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك الحديث وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة رواه مسلم وحديث أبي ذر في الصحيحين مرفوعا ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة الحديث وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره ان هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح الى الله جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة لأن الإخلاص هو انجذاب القلب الى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فانه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبنيها وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشه قلبه وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم(112/56)
67 ... وهم أقرب الناس من قوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون وحينئذ فلا منافاه بين الأحاديث فانه إذا قالها باخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا فإن كمال اخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب اليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم من النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا يتركون له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار وان قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرا على ذلك فإنه يستوجب النار وان قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده فانه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئة فإن مات على ذلك دخل الجنة وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه فلا يقولها باخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر(112/57)
68 ... فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف الى ذلك سيئات تنضم الى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين فيضعف بذلك قول لا اله إلا الله فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين بل يقولونها من غير يقين وصدق ويموتون من ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسى القلب عن قولها وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن واستبشر بذكر غيره واطمأن الى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة وكره مخالطة أهل الحق فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه وبغيه مالا يصدق عمله كما قال الحسن ليس الايمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصفته الاعمال فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه ومن قال شرا وعمل شرا لم يقبل منه وقال بكر بن عبدالله المزني ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه فمن قال لاإله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا وسيئات وكان صادقا في قولها موقنا بها لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه وانضاف الى ذلك الشرك الأصغر العملي رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة ومات مصرا على الذنوب بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام فإنه لا يموت مصرا على الذنوب إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين إما أنهم لم يقولها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات أو لرجحان السيئات أو قالوها واكتسبوا بعد(112/58)
69 ... ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام لأن الذنوب قد أضعف ذلك الصدق واليقين من قلوبهم فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم انتهى ملخصا وقد ذكر معناه غيره كابن القيم وابن رجب والمنذري و القاضي عياض وغيرهم وحاصله أن لا أله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك ولكن المقتضي لا يعمل عمله الا بإستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ولهذا قيل للحسن إن ناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فإدى حقها وفرضها دخل الجنة وقال وهب بن منبه لمن سأله أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنه قال بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له اسنان فتح لك وإلا لم يفتح ويدل على ذلك أن الله رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي أيوب ان رجلا قال يا رسول الله اخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصل وتصل الرحم وفي المسند عن بشر بن الخصاصية قال اتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة ان لا أله إلا الله وأن ومحمدا عبده ورسوله وان اقيم الصلاة وأن أوتي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن اصوم رمضان وان أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله اما اثنتين فو الله ما أطيقها الجهاد و الصدقة فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها وقال فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا قلت يا رسول الله أبايعك عليهن كلهن ففي الحديث ان الجهاد والصدقة شرط في(112/59)
70 ... دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والحج والصيام والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لله تعالى قال وعن ابي سعيد الخدري عن رسول صلى الله عليه وسلم قال قال موسى يارب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون هذا قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضون السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه أبو سعيد اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الانصاري الخزرجي صحابي جليل وأبوه أيضا كذلك استصغر أبو سعيد بأحد ثم شهد ما بعدها مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل أربع وسبعين قوله أذكرك هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أنا أذكرك وقيل بل هو صفة وأدعوك معطوف عليه أي أثني عليك وأحمدك به وأدعوك أي أتوسل به اليك إذا دعوتك قوله قل يا موسى لا إله إلا الله فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة ولا يقول أيضا هو كما يقوله غلاة جهالهم فإذا أرادوا الدعاء قالوا يا هو فإن ذلك بدعة وضلالة وقد صنف جهالهم في المسألتين وصنف ابن عربي كتابا سماه كتاب الهو قوله كل عبادك يقولون هذا هكذا ثبت بخط المصنف يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل والذي في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وهذا الحديث بهذا اللفظ الذي(112/60)
71 ... ذكره المصنف أطول منه وفي سنن النسائي والحاكم وشرح السنة بعد قوله كل عبادك يقولون هذا إنما أريد ان تخصني به أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدا إلا بشيء يختص به دون غيره كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت اليه الحاجة والضرورة كان أكثر وجودا كالبر والملح والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ ولما كان بالناس بل بالعالم كله من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الإذكار وجودا وأيسرها حصولا وأعظمها معنى والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والاوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة قوله وعامرهن غيري هو بالنصب عطف على السموات أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وفيه دليل على أن الله تعالى فوق السموات قوله في كفة بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان قال بعضهم ويطلق لكل مستدير قوله مالت بهن لا إله إلا الله أى رجحت عليهن وذلك لما اشتملت(112/61)
72 ... عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة ورأس اللبن فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها واستقام على ذلك فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم والحديث يدل على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر كما في حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رواه احمد الترمذي وعنه أيضا مرفوعا يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال أتنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقال ألك عذر أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقال بلى ان لك عندنا حسنات وانه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيج على شرط مسلم وقال الذهبي في تلخيصه صحيح قال ابن القيم فالاعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما(112/62)
73 ... بين السماء والأرض قال تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه وعن أبي هريرة مرفوعا ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط الا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي الى العرش ما اجتنبت الكبائر رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال على شرط مسلم قوله رواه ابن حبان والحاكم ابن حبان اسمه محمد بن حبان بكسر المهمله وتشديد الموحدة ابن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك قال الحاكم كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة واما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبدالله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة احدى وعشرين وثلاثمائة وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما ومات سنة خمس واربعمائة قال وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة الترمذي اسمه محمد بن عيسى بن سورة بفتح المهملة ابن موسى بن الضحاك السلني أبو عيسى صاحب الجامع وأحد الأئمة الحفاظ كان ضرير البصر روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق ومات سنة تسع وسبعين ومئتين(112/63)
74 ... وأنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة ومات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول حدثنا أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض الحديث قال ابن رجب واسناده لا بأس به وسعيد بن عبيد هو الهنائي ذكره ابن حبان في الثقات وقال الدارقطني تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعا قال ابن رجب وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا وقد رواه الإمام احمد من حديث أبي ذر بمعناه واخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث وفيه ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة قوله لو أتيتني بقراب الأرض قراب الأرض بضم القاف وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها قوله ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله صغيره وكبيره ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى يوم لا ينفع مال ولا(112/64)
75 ... بنون الا من أتى الله بقلب سليم قال ابن رجب من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له وأن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة فان كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه او بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر وربما قلبتها حسنات فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات وقال شيخ الإسلام الشرك نوعان أكبر وأصغر فمن خلص منهما وجبت له الجنة ومن مات على الأكبر وجبت له النار ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرا أصغر والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به وفي هذه الأحاديث كثرة ثواب التوحيد وسعة كرم الله وجوده ورحمته حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه والرد على الخوارج الذين(112/65)
76 ... يكفرون المسلم بالذنوب وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق فيقولون ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الايمان على الإطلاق ولا يعطاه عى الاطلاق بل يقال هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن عاص أو مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته وعلى هذا يدل الكتاب والسنة واجماع سلف الأمة وقال المصنف تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين وفيه إن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا اللهوفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان ان الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إذا ترك الشرك ليس قولها باللسان انتهى ملخصا باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي ولا عذاب وتحقيق التوحيد هو معرفته والاطلاع على حقيقته والقيام بها علما وعملا وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح الى الله محبة وخوفا وإنابة وتوكلا ودعاء واخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله ولا إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود ووما أحسن ما قال ابن القيم فلو احد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان وذلك هو حقيقة الشهادتين فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب(112/66)
77 ... قوله وقال تعالى ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف ابراهيم عليه السلام في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد ترغيبا في اتباعه في التوحيد وتحقيق العبودية باتباع الأوامر وترك النواهي فمن اتبعه في ذلك فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام الاولى أنه كان أمة أي قدوة وإماما معلما للخير وإماما يقتدى به روي معناه عن ابن مسعود وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون الثانية أنه كان قانتا لله أي خاشعا مطيعا دائما على عبادته وطاعته كما قال شيخ الإسلام القنوت في اللغة دوام الطاعة والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه او سجوده فهو قانت في ذلك كله قال تعالى امن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فجعله قانتا في حال السجود والقيام انتهى فوصفه في هاتين الصفتين بتحقيق العبودية في نفسه أولا علما وعملا وثانيا دعوة وتعليما واقتداء به وما كان يقتدى به إلا لعمله به في نفسه ووصفه في الثانية بالاستقامة على ذلك كما قال تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين فتضمنت العلم والعمل والاستقامة والدعوة الدعوة الثالثة انه كان حنيفا والحنف الميل أي مائلا منحرفا قصدا عن الشرك كما قال تعالى حكاية عنه وجهت وجهي للذي فطر السموات(112/67)
78 ... والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا الرابعة أنه ما كان من المشركين أي هو موحد خالص من شوائب الشرك مطلقا فنفى عنه الشرك على أبلغ وجوه النفي بحيث لا ينسب اليه شرك وان قل تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام وقال المصنف في الكلام على هذه الآيه إن إبراهيم كان أمة لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين قانتا لله لا للملوك ولا للتجار المترفين حنيفا لا يميل يمينا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين ولم يك من المشركين خلافا لمن كثر سوادهم وزعم انه من المسلمين قلت وهو من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية لكنه ينبه بالأدنى على الأعلى وقوله لئلا يستوحش تنبيه على بعض معنى الآية وهو المنفرد وحده في الخير وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله إن إبراهيم كان أمة قانتا كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره فلذك قال الله كان أمة قانتا ولا تنافي بينه وبين كلام ابن مسعود المتقدم قوله وقال والذين هم بربهم لا يشركون مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات أعظمها الثناء عليهم بأنهم بربهم لا يشركون أي شيئا من الشرك في وقت من الأوقات فإن الإيمان النافع مطلقا لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح في إيمانه من شرك جلي أو خفي نفى عنهم ذلك ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية وفاز بأعظم التجارة ودخل الجنة بلا حساب و لا عذاب(112/68)
79 ... قال ابن كثير والذين هم بربهم لا يشركون أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له قال عن حصين بن عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة فقلت أنا ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال فما صنعت قلت ارتقيت قال فما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه الشعبي قال وما حدثكم الشعبي قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال لا رقية إلا من عين أو وحمة فقال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال انت منهم ثم قال رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة ش هكذا اورد المصنف هذا الحديث غير مزور وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا ومسلم واللفظ له والترمذي والنسائي(112/69)
80 ... قوله عن حصين بن عبد الرحمن هو السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة تغير حفظه في الآخر مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنه وسعيد بن جبير هو الامام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة وهو كوفي مولى لبني أسد قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين قوله انقض هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط والبارحة هي أقرب ليلة مضت قال أبو العباس ثعلب يقال قبل الزوال رأيت الليلة وبعد الزوال رأيت البارحة وهكذا قال غيره وهي مشتقة من برح إذا زال قوله أما إني لما كن في صلاة القائل هو حصين خاف أن يظن الحاضرون انه ما رأي النجم إلا لأنه يصلي فأراد أن ينفي عن نفسه ايهام العبادة وأنه يصلي مع أنه لم يكن فعل ذلك وهذا يدل على فضل السلف الصالح وحرصهم على الاخلاص وشدة ابتعادهم عن الرياء بخلاف من يقول فعلت وفعلت ليوهم الأغمار أنه من الاولياء وربما علق السبحه في عنقه أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس اعلاما للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز وقد قال الإمام محمد بن وضاح حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن برهام قال مر ابن مسعود بامرأة تسبح به فقطعه وألقاها ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال لقد جئتم ببدعة ظلما أو لقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما قوله ولكني لدغت هو بضم أوله وكسر ثانية مبني لما يسم فاعله أي لذغته عقرب أو نحوها قوله قلت ارتقيت لفظ مسلم استرقيت أي طلبت من يرقينى قوله فما حمله على ذلك فيه طلب الحجة على صحة المذهب(112/70)
81 ... قوله حديث حدثناه الشعبي حملني عليه حديث حدثناه الشعبي واسمه عامر بن شرحبيل الهمداني بسكون الميم الشعبي ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم مات سنة ثلاثة ومائة قوله عن بريدة بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي صحابي شهير مات سنة ثلاث وستين قاله ابن سعد قوله لارقية إلا من عين أو حمة هكذا روي هنا موقوفا وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا قال الهيثمي رجال أحمد ثقات والعين هي إصابة العائن غيره بعينه والحمة بضم المهملة وتخفيف الميم سم العقرب وشبهها قال الخطابي ومعنى الحديث لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة وقد رقي النبي صلى الله عليه وسلم ورقي قلب وسيأتي ما يتعلق بالرفى أن نشاء الله تعالى قوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن لأنه أدى ما وجب وعمل بما بلغه من العلم بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم وارشادهم من أخذ بشيء وإن كان مشروعا الى ما هو أفضل منه وإن من عمل بما بلغه عن الله وعن رسوله فقد أحسن ولا يتوقف العمل به على معرفة كلام أهل المذاهب أو غيرهم قوله ولكن حدثنا ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل فكان كذلك قال عمر لوأدرك ابن عباس اسناننا ما عشره منا أحد(112/71)
82 ... أي ما بلغ عشره في العلم مات بالطائف سنة ثمان وستين قال المصنف فيه عمق علم السلف لقوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع ولكن كذا وكذا فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني قوله عرضت علي الأمم في رواية الترمذي والنسائي من رواية عبشر ابن القاسم عن حصين بن عبدالرحمن أن ذلك كان ليلة الاسراء ولفظة لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي ومعه الواحد قال الحافظ فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب الى تعدد الاسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة كذا قال وليس بظاهر بل قد يكون رأي ذلك ليلة الاسراء ولم يحدث به الا في المدينة وليس في الحديث ما يدل على أنه حدث به قريبا من العرض عليه قوله فرأيت النبي ومعه الرهط هو الجماعه دون العشرة قاله النووي قوله والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد فيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم وأن بعضهم لا يتبعه أحد وفيه الرد على من احتج بالأكثر وزعم أن الحق محصور فيهم وليس كذلك بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان قوله اذ رفع لي سواد عظيم السواد ضد البياض والمراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد أي رفع لي أشخاص كثيرة قوله فظننت أنهم أمتي استشكل الاسماعيلي كونه صلى الله عليه وسلم لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى عليه السلام وقد ثبت حديث أبي هريرة كيف تعرف من لم تر من أمتك فقال إنهم غر محجلون من أثر الوضوء وأجاب بأن الأسخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها الا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه(112/72)
83 ... ذكره الحافظ قوله فقيل لي هذا موسى وقومه أي موسى بن عمران كليم الرحمن وقومه الذين اتبعوه وفيه فضيلة موسى وقومه قوله فنظرت فإذا سواد عظيم لفظ مسلم بعد قوله هذا موسى وقومه ولكن انظر الى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى انظر الى الأفق الآخر فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك قوله ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلاحساب ولا عذاب أي لتحقيقهم التوحيد قال الحافظ المراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا اليهم قلت وما قاله ليس بظاهر فإن في رواية ابن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا وقد ورد في حديث أبي هريره في الصحيحين وصف السبعين ألفا بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر وفيهما عنه مرفوعا أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة وجاء في أحاديث أخر أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم فروى أحمد والبهيقي في البعث حديث أبي هريرة في السبعين ألفا فذكره وزاد قال فاستزدت ربي فزادني مع كل الف سبعين الفا قال الحافظ وسنده جيد وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حديفة عند احمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند أبي عاصم قال فهذه طرق يقوي بعضها بعضا قال وجاء في احاديث أخر أكثر من ذلك فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا مع كل ألف سبعين كذا الفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي وروى أحمد وأبو يعلى من(112/73)
84 ... حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت سبعين الفا يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي عز وجل فزادني امع كل واحد سبعين ألفا قال الحافظ وفي سنده راويان احدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم قلت وفيه أن كل أمة تحشر مع نبيها قوله ثم نهض أي قام قوله فخاض الناس في اولئك قال النووي هو بالخاء والضاد المعجمتين أي تكلموا وتناظروا قال وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على وجهة الاستفادة وإظهار الحق وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعلم وفيه حرصهم على الخير ذكره المصنف قوله فقال هم الذين لا يسترقون هكذا ثبث في الصحيحين وفي رواية مسلم التي ساقها المصنف هنا زيادة ولا يرقون وكان المصنف اختصرها كغيرها لما قيل انها معلولة قال شيخ الإسلام هذه الزيادة وهم من الراوي لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لا يرقون لأن الراقي محسن الى أخيه وقد قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى قال من استطاع منكم أن ينفع إخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا قال وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قال والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن قال وإنما المراد وصف السبعين الفا بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون وكذا قال ابن القيم ولكن اعترضه بعضهم بأن قال تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار اليه والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقى لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال والذي(112/74)
85 ... يفعل به غيره ذلك ينبغبي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل وليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام دلالة على المدعى ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة في مقام التشريع وتبيين الأحكام كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه الأول أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها كقول بعضهم المراد لا يرقون بما كان شركا أو احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا اصلا وايضا فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيره فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركا الثاني قوله فكذا يقال الخ لا يصح هذا القياس فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي فهو فاسد الاعتبار لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم أيضا وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سببا للسبق الى الجنان وهذا بخلاف من رقى أو رقي من غير سؤال فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز أن يقال إنه عليه السلام لم يكن متوكلا في تلك الحال الثالث قوله ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام الخ كلام غير صحيح بل هما سيداالمتوكلين فإذا وقع ذلك منهما دل على أنه لا ينافي التوكل فاعلم ذلك قوله ولا يكتوون أي لا يسألون غيرهم ان يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقاهم استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء أما الكي في نفسه فجائز كما في(112/75)
86 ... الصحيح عن جابر بن عبدالله أن النبي صلىالله عليه وسلم بعث الى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا الشفاء في ثلاث شربه عسل وشرطه محجم وكية نار وأنا أنهى عن الكي وفي لفظ وما احب أن أكتوي قال ابن القيم فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع أحدها فعله والثاني عدم محبته له والثالث الثناء على من تركه والرابع النهي عنه ولا تعارض بينهما بحمد الله فإن فعله له يدل على جوازه وعدم محبته له لا يدل علىالمنع منه وأما الثناء على تاركيه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهية قوله ولا يتطيرون أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء الله تعالى قوله وعلى ربهم يتوكلون ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء اليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به ربا وإلها والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد الى التلذذ بالبلاء وعده من النعماء فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء والله ذو الفضل العظيم واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا كما يظنه الجهلة فان مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال(112/76)
87 ... تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلا على الله كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروها لاسيما والمريض يتشبث بما يظنه سببا لشفائه بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعا كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وعن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله أنتداوى فقال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءا إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا ما هو قال الهرم رواه أحمد قال ابن القيم فقد تضمنت هذه الاحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والامر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدداها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وان تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه و دنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل أو مستحب أو واجب فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في(112/77)
88 ... معناه ولكن على ما تقدم لا يتم الاستدلال به على ذلك والمشهور عند الشافعي الثاني حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر قال ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب قال ومذهب مالك أنه يستوى فعله وتركه فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه وقال شيخ الإسلام ليس بواجب عند جماهير الأئمة إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد قوله فقام اليه عكاشة بن محصن بضم العين و تشديد الكاف ويجوز تخفيفها ومحصن بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء وبعدها مثلثة الأسدي من بني أسد بن خزيمة ومنه خلفاء بني أمية كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها قال ابن اسحق وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير فارس في العرب عكاشة ومناقبه مشهورة استشهد في قتال أهل الردة مع الردة بيدي طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك قوله قال ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم في رواية البخاري فقال اللهم اجعله منهم وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله وفي بعض الروايات أمنهم أنا يا رسول الله قال نعم قال الحافظ ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم هل أجيب فأخبره وفيه طلب الدعاء من الفاضل قوله ثم قام اليه رجل آخر لم نقف على تسميته إلا في طريق واهية(112/78)
89 ... ذكرها الخطيب في المبهمات من رواية أبي حذيفة اسحق بن بشر أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزاة بني المصطلق فساق قصة طويلة فيها ذلك قال الحافظ وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي ابن مخلد وفي الصحابة سعد بن عمارة فلعل اسم ابيه تحرف قوله سبقك بها عكاشة قال ابن بطال معنى قوله سبقك أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه وعدل عن قوله لست منهم أو لست على أخلاقهم تلطفا بأصحابه وحسن أدب معهم وقال القرطبي لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر فسد الباب بقوله ذلك وهذا اولى من قول من قال كان منافقا لوجهين أحدهما أن الاصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يصدر ذلك من منافق قلت هذا أولى ما قيل في تأويله وإليه مال شيخ الإسلام قال المصنف وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم باب الخوف من الشرك ش لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي نسائهم وأولادهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه نبه(112/79)
90 ... المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويجذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه ولهذا قال حذيقة كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه رواه البخاري وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فأما أن يقع فيه وأما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية قال شيخ الإسلام وهو كما قال عمر فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف فلم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي قال وقول الله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال ابن كثير أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء من عباده قلت فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة(112/80)
91 ... وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا لذنب الذي هذا شأنه عند الله وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به كما قال تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لاصلاح للعالم الا بذلك فمتى خلا منه خرب و قامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله رواه مسلم ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره شبيها بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فأزمة الأمور كلها بيديه سبحانه ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فأقبح التشبيه تشبيه العاجر الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات ومن خصائص الآلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ولك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والاجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة(112/81)
92 ... والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة هذا معنى كلام ابن القيم وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد ولا يخرجون منها وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال تعالى في الآية الأخرى قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به ما لم يتب قاله شيخ الإسلام قوله وقال الخليل عليه السلام واجنبني وبني أن نعبد الأصنام الصنم ما كان منحوتا على صورة البشر والوثن ما كان منحوتا على غير ذلك ذكره الطبري عن مجاهد والظاهر أن الصنم ما كان مصورا على أي صورة والوثن بخلافه كالحجر والبنية وإن كان الوثن قد يطلق على الصنم ذكر معناه غير واحد ويروي عن بعض السلف ما يدل عليه وقوله واجنبني أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيني وبينها قيل واراد بذلك بنيه وبناته من صلبه ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين وقد(112/82)
93 ... استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام وإنما دعا ابراهيم عليه السلام بذلك لأن كثيرا من الناس افتتنوا بها كما قال رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فخاف من ذلك ودعا الله ان يعافيه وبنيه من عبادتها فإذا كان ابراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره كما قال ابراهيم التيمي ومن يأمن من البلاء بعد ابراهيم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك لا كما يقول الجهال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة قال وفي الحديث أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معرف وقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد وهذا لفظ أحمد قال حدثنا يونس ثنا ليث عن يريد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله يوم القيامة اذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء قال المنذري ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال له صحبه قال وقال بي لا تعرف له صحبة ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبه وقال رجل روايته عن الصحابة وقد رواه الطبراني باسناد جيد عن محمود ابن لبيد عن رافع بن خديج وقيل إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع مات محمود سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة(112/83)
94 ... قوله إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليهم وتحذيره مما يخاف عليهم فانه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق الامن سلم الله كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين لقوة الداعي الى ذلك والمعصوم من عصمه الله وهذا بخلاف الداعي الى الشرك الأكبر فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر وإما ضعيف هذا مع العافية وإما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فلذلك صار خوفه صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر لما تقدم مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله فهذا وجه ايراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين قال المصنف وفيه أن الرياء من الشرك وأنه من الأصغر وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين وفيه قرب الجنة والنار والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة قال وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من مات وهو(112/84)
95 ... يدعو لله ندا دخل النار رواه البخاري ش قال ابن القيم الند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه انتهى وهذا كما قال تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال تعالى وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أي من مات وهو يدعو لله ندا أي يجعل لله ندا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبيه والإلهية دخل النار لأنه مشرك فان الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب اليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر اليه مقهور بالعبودية له تجري عليه أقداره وأحكامه طوعا وكرها فكيف يصلح أن يكون ندا قال الله تعالى وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين وقال إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا الآيتان وقال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد فبطل أن يكون له نديد من خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون واعلم أن دعاء الند على قسمين أكبر وأصغر فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو الشرك الأكبر والأصغر كيسير الرياء وقول الرجل ما شاء الله وشئت ونحو ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده رواه أحمد وابن أبي شيبة(112/85)
96 ... والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد قال ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ش جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام بمهملتين الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل مكثر ابن صحابي له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله من لقي الله لا يشرك به شيئا قال القرطبي أي من لم يتخذ معه شريكا في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه بين المسلمين وقال النووي أما دخول المشرك إلى النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره ولا بين من خالف ملة الاسلام وبين من انتسب اليها ثم حكم بكفره بحمده وغير ذلك وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة ولا وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة فإن عفا عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة وقال غيره اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء(112/86)
97 ... واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو كقولك من توضأ صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به إجمالا في الاجمالي تفصيلا في التفصيلي قلب قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد قال المصنف وفيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري في صحيحه يعني أن معنى لا اله إلا إلله ترك الشرك وافراد الله بالعبادة والبراءة ممن عبد سواه كما بينه الحديث وفيه فضيلة من سلم من الشرك باب الدعاء الى شهادة أن لا اله الاالله ش لما بين المصنف رحمه الله الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجها ل ويقولون اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس بل يدعو الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم الى يوم الدين وكما حرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين وإذا أراد الدعوة الى ذلك فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ لا تصح الاعمال إلا به فهو اصلها الذي تبنى عليه ومتى لم يوجد لم ينفع العمل بل هو حابط إذ لا تصح العبادة مع الشرك كما قال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد فكان أول ما يبدأ به في الدعوة(112/87)
98 ... قال وقوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ش قال ابن كثير يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته وسنته وهي الدعوة الى شهادة أن لا إله إلا الله يدعو الى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه تدعو الى ما دعا اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة وبرهان عقلي شرعي وقوله سبحان الله أي وأنزه الله وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا قلت فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة قيل ويظهر ذلك إذا كان قوله ومن اتبعني عطفا على الضمير في أدعو الى الله فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله تعالى وان كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون الى الله وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف منها التنبيه على الأخلاص لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ومنها أن البصيرة من الفرائض ووجه ذلك أن اتباعه صلى الله عليه وسلم وليس أتباعه حقا إلا أهل البصيرة فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه فتعين أن البصيرة من الفرائض ومنها دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله عز وجل عن المسبة ومنها أن من أقبح الشرك كونه مسبة لله ومنها ابعاد المسلم عن المشتركين لا يصير معهم ولو لم يشرك وكل هذه الثلاث في قوله سبحان الله الآية قال وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه(112/88)
99 ... شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه ش قوله لما بعث معاذا إلى اليمن قال الحافظ كان بعث معاذا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف يعني البخاري في أواخر المغازي وقيل كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك رواه الواقدى باسناده الى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول قلت الظاهر انه كان واليا قاضيا قوله إنك تاتي قوما من أهل الكتاب قال القرطبي يعني به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب وانما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإمتحانهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان وقال الحافظ هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها ثم ذكر معنى كلام القرطبي قلت وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل والتنبيه على أنه ينبغي للانسان أن يكون على بصيرة في دينه لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه والحرص على طلب العلم(112/89)
100 ... قوله فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله يجوز رفع أول مع نصب شهادة وبالعكس قوله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله هذه الرواية في التوحيد من صحيح البخاري وفي بعض الروايات فادعهم الى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله واكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين وأشار المصنف رحمه الله بايراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ معناها توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ شهادة أن لا إله إلا الله ومرة إلى أن يوحدواالله ومرة فليكن أول ما تدعوهم اليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي قال الله فيه فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومعنى الكفر بالطاغوت هو خلع الأنداد والآلهة التي تدعى من دون الله من القلب وترك الشرك بها رأسا وبغضه وعداوته ومعنى الإيمان بالله هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام المستلزم ولإخلاص العبادة لله تعالى وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له فلله ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الالفاظ المختلفة لفظا المتفقة معنى فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علما ونطقا وعملا خلافا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير(112/90)
101 ... شريك فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به فضلا عن أهل الكتاب ولو كان كذلك لم يحتاجوا الى الدعوة اليه وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب فلهذا كان أول ما دعت اليه الرسل عليهم السلام كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ققال شيخ الإسلام رحمه الله وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله في بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان وفيه البدءاة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم واستدل به من قال من العلماء إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك وفي ذلك تفصيل وفيه أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين قال شيخ الإسلام فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها قلت هذا والله أعلم فيمن لا يقربهما أو باحداهما أما من كفره مع الإقرار بهما ففيه بحث والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به وفيه أن الإنسان قد يكون قارئا عالما وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله(112/91)
102 ... أو يعرفه ولا يعمل به نبه عليه المصنف وقال بعضهم هذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه قلت فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة أما من لم تبلغه فتجب دعوته قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي شهدوا وانقادوا لذلك قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فيه أن الصلاة بعد التوحيد والإقرار بالرسالة أعظم الواجبات وأحبها واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعاهم أولا إلى التوحيد فقط ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء وأيضا فإن قوله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء قال النووي وهذا الاستدلال صعيف فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة قال ثم اعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه هذا قول المحققين والأكثرين قلت ويدل عليه قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآيات وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي آمنوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء بالذكر مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وان كانوا اغنياء لأن الفقراء والله أعلم هم أكثر من(112/92)
103 ... تدفع اليهم أو لأن حقهم آكد وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا قيل وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر وأن الفقير لا زكاة عليه وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون كما كما هو قول الجمهور لعموم قوله من أغنيائهم قوله فإياك وكرائم أموالهم هو بنصب كرائم على التحذير والكرائم جمع كريمة أي نفيسة قال صاحب المطالع هي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم وصوف ذكره النووي وفيه أنه يحرم على العامل اخذ كرائم المال في الزكاة بل يأخذ الوسط ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال بل يخرج الوسط فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز قوله واتق دعوة المظلوم أي احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل وترك الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم ذكره الحافظ قوله فانه أي الشأن ليس بينها وبين الله حجاب أي لا تحجب عن الله تعالى بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيا كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه واسناده(112/93)
104 ... حسن قاله الحافظ وقال أبو بكر بن العربي هذا وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب إما ان يعجل له ما طلب وإما ان يدخر له أفضل منه وإما ان يدفع عنه من السوء مثله وهذا كما قيد مطلقا قوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه بقوله تعالى فيكشف ما تدعون اليه إن شاء وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته ويأمرهم بتقوى الله ويعلمهم ما يحتاجون اليه وينهاهم عن الظلم ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج ذكره المصنف وآعلم انه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان في آخر الامر كما تقدم فأشكل ذلك على كثير من العلماء قال شيخ الاسلام أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك فإن هذا طعن في الرواة لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره فأما الحديثان المفصلان فليس الأمر فيهما كذلك ولكن عن هذا جوابان أحدهما أن ذلك بحسب نزول الفرائض وأول ما فرض الله الشهادتان ثم الصلاة فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة قلت وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب الثاني أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام فإما أن يكون قبل فرض الحج كما في حديث عبد القيس ونحوه وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه(112/94)
105 ... وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته بخلاف الصلاة والزكاة وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام وإن كان واجبا كما في آيتي براءة فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة انتهى ملخصا بمعناه قوله أخرجاه أي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرجه أيضا أحمد وأبو دا ود والترمذي والنسائى وابن ماجه قال ولهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غدارجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقيل هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرايه وقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يدوكون أي يخوضون(112/95)
106 ... ش قال شيخ الاسلام هذا الحديث أخح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه قوله عن سهل هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير وابوه صحابي ايضا مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة قوله قال يوم خيبر أي في غزوة خيبر في الصحيحين واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال كان علي رضى الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان رمدا فقال انا تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية أو ليأخذن بالراية غدا رجل يحبه الله ورسوله أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا هذا علي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه وهذا يبين أن عليا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قوله لأعطين الراية قال الحافظ في رواية بريدة إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله والراية بمعني اللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه لمقدم العسكر وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض ومثله عند الطبراني عن بريده وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية(112/96)
107 ... قوله يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك ولكن ليس هذا من خصائصه قال شيخ الإسلام ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا وفيه إثبات صفة المحبة لله وفيه إشارة إلى أن عليا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحبه الله ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق ذكره الحافظ بمعناه قوله يفتح الله على يديه صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه فكان الأمر كذلك ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله قوله فبات الناس يدوكون ليلتهم هو بنصب ليلتهم على الطرفية ويدوكون قال المصنف يخوضون والمراد انهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها اليه وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والايمان قوله أيهم يعطاها فهو يرفع أي على البناء قوله فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال ما أحببت الإمارة إلا يومئذ فإن قلت أن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه ليست من خصائصه فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك قيل الجواب كما قال شيخ(112/97)
108 ... الاسلام أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا واثبات لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه وهذا كالشهادة بالجنة لثاتب بن قيس وعبد الله بن سلام وغيرهما وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين والشهادة لمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر قلت وفي هذه الجملة أيضا حرص الصحابة على الخير قوله فقال أين علي بن أبي طالب قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن لا سيما وقد قال لأعطين الراية إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هذا الذي يفوز بذلك الوعد وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير قوله فقيل له هو يشتكي عينيه اي من الرمد كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينيه قوله قال فأرسلوا إليه بهمزة قطع أمر من الإرسال أمرهم بأن يرسلو اليه فيدعوه له ولمسلم من طريق اياس بن سلمة عن أبيه قال فأرسلني الى علي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأ قوله فبصق بفتح الصاد أي تفل قوله ودعا له فبرأ وهو بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب ويجوز الكسر بوزن علم أي عوفي في الحال عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلا وعند الطبراني من حديث على فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية وفيه دليل على الشهادتين(112/98)
109 ... قوله فأعطاه الراية قال المصنف فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعا عمن سعى وفيه التوكل على الله والاقبال بالقلب اليه وعدم الالتفات الى الاسباب وان فعلها لا ينافي التوكل قوله وقال انفذ على رسلك أما انفذ فهو بضم الفاء أي امض لوجهك ورسلك بكسر الراء وسكون السين أي على رفقك ولينك من غير عجلة يقال لمن يعمل الشيء برفق وساحتهم فناء أرضهم وهو حواليها وفيه الأدب عند القتال وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة اليها وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عريمة كما يشير اليه قوله حتى تنزل بساحتهم قوله ثم ادعهم الى الاسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة وفي حديث أبي هريرة عند مسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه الراية وقال أمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس فقال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفيه أن الدعوة الى شهادة أن لا إله ألا الله المراد بها الدعوة الى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة اليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها واعتقاد معناها والعمل به وذلك هو معنى قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وقوله قل إنما أمرت أن(112/99)
110 ... أعبد الله ولا أشرك به شيئا إليه أدعو واليه مآب وذلك هو معنى قوله ثم ادعهم إلى الاسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه وان كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم وقوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الاسلام أي إذا اجابوا الى الاسلام فأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لابد من فعلها كالصلاة والزكاة وهذا كقوله في حديث أبي هريرة فإذا فعلوا ذلك فعد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لم قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قال أبو بكر فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها وحاصله أنهم إذا أجابوا الى الاسلام الذي هو التوحيد فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الاسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقا وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله اجماعا فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة أو يقال هو العصمة لكن بشرط العمل يدل على ذلك(112/100)
111 ... قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا الآية ولو كان النطق بالشهادتين عاصما لم يكن للتثبت معنى يدل على ذلك قوله تعالى فإن تابوا أي عن الشرك وفعلوا التوحيد وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فدل على ان القتال يكون على هذه الأمور وفيه ان لله تعالى حقوقا في الاسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه قوله فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم أن هي المصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم وأن ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره خير وحمر بضم المهملة وسكون الميم والنعم بفتح النون والعين المهملة أي خير لك من الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء قيل المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل تقتنيها وتملكها قلت هذا هو الأظهر والأول لا دليل عليه أي انكم تحبون متاع الدنيا وهذا خير منه قال النووي وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من الآخرة خير من الارض بأسرها وأمثالها معها وفيه فضيلة الدعوة إلى الله وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد وجواز الحلف على الفتيا والقضاء والخبر والحلف من غير استحلاف باب تفسير التوحيد وشهادة ان لا إله إلا الله ش أي تفسير هاتين الكلمتين والعطف لتغاير اللفظين وإلا فالمعنى(112/101)
112 ... واحد ولما ذكر المصنف في الابواب السابقة التوحيد وفضائله والدعوة اليه والخوف من ضده الذي هو الشرك فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الامر الذي خلقت له الخليقة والذي بلغ من شأنه عند الله أن من لقيه به غفر له وإن لقيه بملء الارض خطايا بين رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسما لا معنى له أو قولا لا حقيقة له كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معنى الاله هو الخالق المتفرد بالملك فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا ليس هو المراد بالتوحيد ولا هو أيضا معنى لا إله إلا الله وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله والإقبال بالقلب والعبادة على الله وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن(112/102)
113 ... ما تدعوننى إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة والايات في هذا كثيرة تبين أن معنى لإ إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد وإفراد الله بالعبادة فهذا هو الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربما يخلص لغير الله من عباداته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلا مشركا والحالة هذه كما هو شأن عباد القبور ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال وقول الله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية قلت يبين معنى هذه الآية التي قبلها وهي قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا اولئك الذين يدعون الآية قال ابن كثير يقول تعالى قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد وارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية ولا تحويلا أي أن يحولوه الى غيركم والمعنى إن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لاشريك له قال العوفي عن ابن عباس في الآية كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح ووهم الذين يدعون يعني الملائكة وعزيزا وقوله أولئك الذين يدعون الآية وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا(112/103)
114 ... وفي رواية كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم وقال السدي عن ابي صالح عن ابن عباس في الآية قال عيسى وامه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد عيسى وعزير والملائكة وقوله ويرجون رحمته ويخافون عذابه لاتتم العبادة إلا بالخوف والرجاء وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون أي الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القربة إلى الله فيرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا أي مما يحذره كل عاقل وعن الضحاك وعطاء أنهم الملائكة وعن ابن عباس أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرا قال شيخ الإسلام وهذه الأقوال كلها حق فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفا فيقول هذا فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول فالآية خطاب للنوعين فاية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين(112/104)
115 ... ولا تحويله لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره ولهذا قال ولا تحويلا فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله انتهى وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله فكيف ممن أخلص لهم الدعوة وإنه لا يكفي في التوحيد دعواه والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وإن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف قال وقوله وإذ قال ابراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي لا إله إلا الله أي جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام لعلهم يرجعون أي اليها قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله وجعلها كلمة باقية في عقبه يعني لا إله إلا(112/105)
116 ... الله لا يزال في ذريته من يقولها وقال ابن زيد كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة قلت وروى ابن جرير عن قتادة في قولة إلا الذي فطرني قال خلقني وعنه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني قال إنهم يقولون إن الله ربنا ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد قلت يعني أن قوم إبراهيم يعبدون الله ويعبدون غيره فتبرأ مما يعبدون إلا الله لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله ولا يعبدونه أصلا وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة وجعلها كلمة باقية في عقبه قال الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يعبد من دون الله وإفراد الله بالعبادة وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء فإن هذا يقربه الكفار وذلك هو معنى قوله إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله قاله المصنف قال وقوله تعالى اتخدوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية ش الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم اياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني(112/106)
117 ... وغيرهم من طرق وهكذا قال جميع المفسرين قال السدي استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء طهورهم ولهذا قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله الا الله أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله حل وما شرعه اتبع سبحانه تعالى عما يشركون أي تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد والأنداد لا إله إلا هو ولا رب سواه ومراد المصنف رحمه الله بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال وتحليل الحرام من العبادة المنفية من غير الله تعالى ولهذا فسرت العبادة بالطاعة وفسر الإله بالمعبود المطاع فمن أطاع مخلوقا في ذلك فقد عبده اذ معنى التوحيد وشهادة أن لا اله الا الله يقتضي افراد الله بالطاعة وافراد الرسول بالمتابعة فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فعد أطاع الله وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة فما ظنك بشرك العبادة كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من انواع الشرك في العبادة وسيأتي مزيد لهذا ان شاء الله تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء قال وقوله ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله الآية ش قال المصنف رحمه في مسائله ومنها اي من الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم وما هم بخارجين من النار وذكر أنهم يحبون اندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله قلت مراده أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو إفراد الله بأصل الحب الذي(112/107)
118 ... يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة فمن أشرك بالله تعالى في ذلك فهو المشرك لهذه الآية أخبر تعالى عن أهل هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم تالله إن كنا لفي ضلال مبين أذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك وانما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة فمن قال لا اله الا الله وهو مشرك بالله في هذه المحبة فما قالها حق القول وان نطق بها اذ هو قد خالفها بالعمل كما قال المصنف فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها أن شاء الله تعالى قال في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقه مات في حدود الأربعين ومائة وأبوه طارق بن أشيم بالمعجمة والمثناة التحتيه وزن أحمر ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث قال مسلم لم يرو عنه غير ابنه قوله من قال لا اله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين الأول قول لا اله الا الله الثاني الكفر فيمن يعبد من دون الله فلم يكتف بلفظ المجرد عن المعني بل لا بد من قولها والعمل بها قال المصنف وهذا من أعظم ما يبين معنى لا اله الا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو الا الله وحده لا شريك له بل لا(112/108)
119 ... يحرم دمه وماله حتى يضيف الى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أجلها وياله من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع قلت وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد والتزام أحكامه وترك الشرك كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله والفتنة هنا الشرك فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله كما قال تعالى وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقال تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامه شعائر الدين الظاهرة فإذا فعلوها خلي سبيلهم ومتى ابوا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باق بحاله إجماعا ولو قالوا لا إله إلا الله وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي الصحيحين عنه قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن(112/109)
120 ... قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر ابي بكر للقتال فعرفت أنه الحق لفظ مسلم فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها فكان ذلك هو الصواب واتفق عليه الصحابة ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فهذا الحديث كأية برآءة بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتدآء فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا بحقه فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك وجب قتالهم إجماعا ولم تعصمهم لا إله إلا الله و لا ما فعلوه من الأركان وهذا من أعظم ما بين معنى لا إله إلا الله وأنه ليس المراد منها مجرد النطق فإذا كانت لا تعصم من استباح محرما أو أبى عن فعل الوضوء مثلا بل يقاتل على ذلك حتى يفعله فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله واحبه ومدحه وأثنى على أهله ووالى عليه وعادى عليه وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وتبرأ منه وحارب أهله وكفرهم وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور(112/110)
121 ... وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم قال ابو سليمان الخطابي في قوله امرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف وقال القاضي عياض اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعي إلى الاسلام وقوتل عليه فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك جاء في الحديث الآخر ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وقال النووي لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما جاء في الرواية الأخرى ويؤمنوا بي وبما جئت به وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل ابو بكر والصحابة رضي الله عنهم ما نعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم(112/111)
122 ... قال فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الاموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء قال وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة ما نعي الزكاة ومثل هذا كثير في كلام العلماء والمقصود التنبيه على ذلك ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو أتى بحميع الدين وهو صريح في كفر عباد القبور ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرا يجب قتاله فكيف بمن أشرك بالله ودعي إلى اخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عبد غير الله فأبي عن ذلك واستكبر وكان من الكافرين قوله وحسابه على الله أي الى الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حسابه فإن كان صادقا من قلبه جازاه بجنات النعيم وان كان منافقا عذبه العذاب الأليم وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرا وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها(112/112)
123 ... لا تقبل لقوله تعالى الا الذين تابو وأصلحوا وبينوا والزنديق لا يتبين رجوعه لأنه مظهر للاسلام مسر للكفر فإذا أظهر التوبه لم يزد على ما كان منه قبلها والحديث محمول على المشرك ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقا قبلت وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وفيه أن الإنسان قد يقول لا اله الا الله ولا يكفر بما يعبد من دون الله وفيه أن شرط الايمان الاقرار بالشهادة والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن مال المسلم ودمه حرام الا في حق كالقتل قصاصا ونحوه وتغريمه قيمة ما يتلفه قوله وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني أن ما يأتي بعد هذه الترجمة من الأبواب شرح للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله ولا يعتقد النفع والضر إلا في الله وأن يكفر بما يعبد من دون الله ويتبرأ منها ومن عابديها وما بعد هذا من الأبواب بيان لأنواع من العبادات والاعتقادات التي يجب إخلاصها لله تعالى وذلك هو معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والله أعلم باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ش رفع البلاء إزالته بعد حصوله ودفعه منعه قبله ومن هنا ابتدأ(112/113)
124 ... المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر فإن الضد لا يعرف إلا بضده كما قيل وبضدها تتبين الأشياء فمن لا يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس فبدأ بالأصغر الاعتقادي انتقالا من الأدني إلى الأعلى فقال وقول الله تعالى أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن إرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ش قال ابن كثير في تفسيرها أي لا تستطيع شيئا من الأمر قل حسبي الله أي الله كافي من توكل عليه وعليه يتوكل المتوكلون كما قال هود عليه السلام حين قال له قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها قلت حاصله أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين أرأيتم أي أخبروني عما تدعون من دون الله أي تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأصنام والآلهة المسميات بأسماء الإناث الدالة أسماؤهن على بطلانهن وعجزهن لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة كاللات والعزى إن أرادني الله بضر أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة هل هن كاشفات ضره أي لا يقدرون على ذلك أصلا أو أرادني برحمة أي صحة وعافية وخير وكشف بلاء هل هن ممسكات رحمته قال مقاتل فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر فهم يعلمون أن ذلك لله(112/114)
125 ... وحده كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلا عن غيرهم فلا يقدر أحد على كشف ضر ولا إمساك رحمة كما قال تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل وليس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك فهذا وجه استدال المصنف بالآية وان كانت الترجمة في الشرك الأصغر فان السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما وكذلك من جعل رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين فإنه يدخل في ذلك وقد يحتجون على ذلك بما رواه أبو داود في المراسيل عن علي بن الحسين مرفوعا احرثوا فان الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم وعنه أجوبة أحدها أنه حديث ساقط مرسل وأبو داود لم يشترط في مراسيله جمع المراسيل الصحيحة الاسناد وقد ضعفه السيوطي وغيره الثاني أنه اختلف في تفسير الجماجم فقيل هي البذر ذكره العزيزي في شرح الجامع وقيل الخشبة التي يكون في رأسها سكة الحرث قاله أبو السعادات ابن الأثير في النهاية وقيل هي جماجم رؤوس الحيوان ذكره العزيزي وغيره وعلى هذا فقيل أمر يجعلها لدفع الطير ذكره العزيزي وغيره وهذا هو الأقرب لو ثبت الحديث مع أنه باطل وقيل بل لدفع(112/115)
126 ... العين وفيه حديث ساقط أنه أمر بالجماجم في الزرع من أجل العين وهو مع ذلك منقطع ذكره السيوطي وغيره وهذا المعني هو الذي تعلق به أشباه المشركين ولا ريب أنه معنى باطل لم يرده النبي صلىالله عليه وسلم لو كان الحديث صحيحا وكيف يريده وقد أمر بقطع الأوتار كما في الصحيح وقال من تعلق شيئا وكل اليه وقال من تعلق ودعة فلا ودع الله له وكانوا يجعلون ذلك من أجل العين كما سيأتي فهلا أرخص لهم فيه الثالث أن هذا مضاد لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله فانه تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يشرك به شيء لا في العبادة ولا في الاعتقاد وهذا من جنس فعل الجاهلية الذين يعتقدون البركة والنفع والضر فيما لم يجعل الله فيه شيئا من ذلك ويعلقون التمائم والودع ونحوهما على أنفسهم لدفع الأمراض والعين فيما زعموا فان قيل الفاعل لذلك لم يعتقد النفع فيه استقلالا فإن ذلك لله وحده فهو النافع الضار وإنما اعتقد أن الله جعله سببا كغيره من الأسباب قيل هذا باطل أيضا فإن الله لم يجعل ذلك سببا أصلا وكيف يكون الشرك سببا لجلب الخير ولدفع الضر ولو قدر أن فيه بعض النفع فهو كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما فإن قيل كيف يكون شركا وقد روى أبو داود ذلك في مراسيله وغيره من العلماء يروون الحديث ولم ينكروه قيل أهل العلم يروون الأحاديث الضعيفة والموضوعة لبيان حالها وإسنادها لا للاعتماد عليها واعتقادها وكتب المحدثين مشحونة بذلك فبعضهم يذكر علة الحديث ويبين حاله وضعفه إن كان ضعيفا ووضعه ان كان موضوعا وبعضهم يكتفي بايراد الحديث باسناده ويرى أنه قد برىء من عهدته اذا أورده(112/116)
127 ... باسناده لظهور حال رواته كما يفعل ذلك الحافظ أبو نعبم وأبو القاسم بن عساكر وغيرهما فليس في رواية من رواه وسكوته عند دليل علىأنه عنده صحيح أو حسن أو ضعيف بل قد يكون موضوعا عنده فلا يدل سكوته عنه على جواز العمل به عنده وسيأتي في الكلام على حديث قطع الأوتار ما يدل على النهي عن هذا من كلام العلماء قال عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه قال من الواهنة فقال انزعها فإنها لا تزيدك الا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا رواه أحمد بسند لا بأس به ش هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه أما لفظه فقال الامام أحمد حدثنا خلف بن الوليد ثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة قال أراه قال من صفر فقال ويحك ما هذه قال من الواهنة قال أما إنها لا تزيدك إلا وهنا انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا ورواه ابن ماجه دون قوله انبذها الى آخره وابن حبان في صحيحه وقال فانك إن مت وكلت اليها والحاكم وقال صحيح الاسناد واقره الذهبي قال المنذري رووه كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران ورواه ابن حبان أيضا بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن وهذه متابعة جيدة إلا أن الحسن اختلف في سماعه من عمران قال ابن المدني وغيره لم يسمع منه وقال الحاكم وأكثر مشايخنا على أنه سمع منه قلت رواية الإمام أحمد ظاهرة في سماعه منه فهو الصواب قوله عن عمران بن حصين أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد(112/117)
128 ... بنون وجيم مصغر صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة قوله رأى رجلا في رواية الحاكم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال ما هذه قلت من الواهنة فقال انبذها فالمبهم في رواية أحمد ومن وافقه هو عمران راوي الحديث قوله فقال ما هذا يحتمل أن الاستفهام للاستفصال هل لبسها تحليا أم لا ويحتمل أن يكون للانكار فظن اللابس أنه استفصل قوله من الواهنة قال أبو السعادات الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها وقيل هو مرض يأخذ في العضد وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له خرز الواهنة وهي تأخذ الرجال دون النساء قال وإنما نهاه عنها لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم فكان عنده في معنى التمائم المنهي عنه قلت وفيه استفصال المفتي واعتبار المقاصد قوله انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا لفظ الحديث انبذها وهو أبلغ أي اطرحها والنزع هو الجذب بقوة والنبذ يتضمن ذلك وزيادة وهو الطرح والابعاد أمره بطرحها عنه وأخبر أنها لا تنفعه بل تضره فلا تزيده إلا وهنا أي ضعفا وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا اصلا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه وفيه النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره والتنبيه على النهي عن التداوي بالحرام وروى أبو داود بإسناد حسن والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا في حديث تداووا ولا تداووا بحرام فإن قيل كيف قال صلى الله عليه وسلم لا تزيدك إلا وهنا وهي ليس لها تأثير وقيل هذا والله أعلم يكون عقوبة له على شركه لأنه وضعها لدفع الواهنة فعوقب بنقيض مقصوده(112/118)
129 ... قوله فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا أي لأنه مشرك والحالة هذه والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة قال المصنف فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر وأنه لم يعذر بالجهالة والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك قلت وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدا ففيه رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين أو من اصحابهم ويظنون أنهم يشفون لهم عند الله وإن فعلوا المعاصي وفيه أن رتب الإنكار متفاوتة فإذا كفى الكلام في إزالة المنكر لم يحتج إلى ضرب ونحوه وفيه أن المسلم إذا فعل ذنبا وأنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه وأنه ليس من شرط أولياء الله عدم الذنوب قوله رواه أحمد بسند لا بأس به هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة روى عن الشافعي ويزيد بن هرون وابن مهدي ويحيى القطان وأبن عيينة وعفان وخلف وروى عنه ابناه عبدالله وصالح والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو بكر الأثرم والمروزي وخلق لا يحصون مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة قال وله عن عقبة بن عامر مرفوعا من تعلق تميمة فلا أثم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية من تعلق تميمة فقد أشرك ش الحديث الأول رواه أحمد كما قال المصنف ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وقوله وفي رواية هذا يوهم أن هذا في بعض الأحاديث المذكورة وليس(112/119)
130 ... كذلك بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضا فقال حدثنا عبدالصمد ابن عبدالوارث ثنا عبدالعزيز ابن مسلم ثنا يزيد بن أبي منصور عن دحين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا قال إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال من علق تميمة فقد أشرك ورواه الحاكم بنحوه ورواته ثقات وقوله في هذا الحديث فأدخل يديه فقطعها أي الرجل بينه الحاكم في روايته قوله عن عقبة بن عامر هو الجهني صحابي مشهور وكان فقيها فاضلا ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبا من الستين قوله من تعلق تميمة أي متمسكا بها عليه وعلى غيره من طفل أو دابة ونحو ذلك قال المنذري يقال انها خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى وقال أبو السعادات التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطله الإسلام قال كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمائم الدواء والشفاء قوله فلا أتم الله له دعاء عليه بأن الله لا يتم له أموره قوله ومن تعلق ودعة بفتح الواو وسكون المهملة قال في مسند الفردوس شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين قوله فلا ودع الله له بتخفيف الدال أي لا جعله في دعة وسكون وقيل هو لفظ بني من الودعة أي لا خفف الله عنه ما يخافه قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك فإنه مع كونه شركا فقد دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقيض مقصوده(112/120)
131 ... قوله من تعلق تميمة فقد أشرك قال ابن عبد البر إذا اعتقد الذي علقها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر واعتقاد ذلك شرك وقال أبو السعادات إنما جعلها شركا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه قال ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن الحسين بن إبرايهم بن اشكاب ثنا يونس بن محمد ثنا حماد بن مسلمة عن عاصم الأحول عن عزرة قال دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبدالرحمن ابن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ابن الحافظ صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وحذيفة هو ابن اليمان واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغرا ويقال حسل بكسر ثم سكون العبسي بالموحدة حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين ويقال صاحب السر وأبوه أيضا صحابي مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين قوله رأى رجلا في يده خيط من الحمى أي من أجل الحمى لدفعها وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها وروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال ما هذا(112/121)
132 ... فقال شيء رقي لي فيه فقطعه فقال لو مت وهو عليك ما صليت عليك قوله فقطعه فيه إنكار هذا وإن كان يعتقد أنه سبب فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم الاعتماد عليه فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل وإن كان يظن أن الفاعل يزيله وان إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها قوله وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون استدل حذيفه بهذه الآية على أن تعليق الخيط ونحوه لما ذكر شرك أي أصغر كما تقدم في الحديث ففيه صحة الاستدلال بما نزل في الاكبر على الأصغر ومعنى الآية أن الله أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان بالله أي بوجوده وأنه الخالق الرازق المحيي المميت ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك وابن زيد وغيرهم باب ما جاء في الرقى والتمائم ش أي في حكمها ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام قسم يجوز وقسم لا يجوز وقسم في جوازه خلاف لم يجزم المصنف بكونهما من الشرك لأن في ذلك تفصيلا بخلاف لبس الحلقة والخيط ونحوهما لما ذكر فان ذلك شرك مطلقا قال في الصحيح عن أبي بشير الانصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بغير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت(112/122)
133 ... ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله عن أبي بشير بفتح أوله وكسر المعجمة الانصاري قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد وقال ابن عبد البر لا يوقف له على اسم صحيح وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين يقال جاوز المائة قوله في بعض أسفاره قال الحافظ لم أقف على تعيينها قوله فأرسل رسولا هو زيد بن حارثة وروى ذلك الحارث ابن أبي اسامة في مسنده قاله الحافظ قوله أن لا يبقين هو بالمثناة والقاف المفتوحتين وفي رواية لا تبقين بحذف أن والمثناه الفوقية والقاف المفتوحتين أيضا وقلادة مرفوع على أنه فاعل والوتر بفتحتين واحد أوتار القوس قوله أو قلادة إلا قطعت هو برفع قلادة أيضا عطف على الأول ومعناه أن الراوي شك هل قال شيخه قلادة من وتر فقيد القلادة بأنها من وتر وقال قلادة وأطلق ولم يقيد ويؤيده ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر وفي رواية أبي دواد ولا قلادة بغير شك والأولى أصح لاتفاق الشيخين عليها وللرخصة في القلائد إلا الأوتار وكما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجيشاني مرفوعا اربطوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار ولأحمد عن جابر مرفوعا مثله وإسناده جيد قال البغوي في شرح السنن تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصم من الآفات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا وقال أبو عبيد القاسم بن(112/123)
134 ... سلام كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بإن الأوتار لا ترد شيئا وكذلك قال ابن الجوزي وغيره قال الحافظ ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه ابو داود وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى فعلى هذا يكون تقليد الإبل وغيرها الأوتار وما في معناها لهذا المعنى حراما بل شركا لانه من تعليق التمائم المحرمة ومن تعلق تميمة فقد أشرك ولم يصب من قال إنه مكروه كراهة تنزيه قال وعن ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود ش الحديث رواه أحمد وأبو داود كما قال المصنف وفيه قصة كأن المصنف اختصرها ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود أن عبدالله بن مسعود رأى في عنقي خيطا فقال ما هذا قلت خيط رقي لي فيه قالت فأخذه فقطعه ثم قال أنتم آل عبدالله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت لم تقول هكذا لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت فقال عبدالله إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده فإذا رقى كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك سفاء لا يغادر سقما ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي قوله إن الرقى قال المصنف الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين(112/124)
135 ... والحمة يشير الى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي الرقى التي منها شرك من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به كالرقى باسماء الملائكة والانبياء والجن ونحو ذلك أما الرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له فليست شركا بل ولا ممنوعة بل مستحبة أو جائزة قوله فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد وكذلك رخص فيه من غيرها كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك وفيه عن أنس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة وعن عمران بن حصين مرفوعا لا رقية الا من عين أو حمة او دم رواه أبو داود في باب أحاديث كثيرة قال الخطابي وكان عليه السلام قد رقى ورقي وأمر بها وأجازها فاذا كانت بالقرآن أو باسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك قال ويحتمل أن يكون الذي يكره من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم قلت ويدل على ذلك قول علي بن أبي طالب إن كثيرا من هذه الرقى والتمائم شرك فاجتنبوه رواه وكيع فهذا يبين معنى حديث ابن مسعود ونحوه وقال ابن التين الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الرباني فاذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء باذن الله تعالى فلما(112/125)
136 ... عفي عن هذا النوع فزع الناس الى الطب الجسماني وتلك القرى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مستبهة مركبة من حق وباطل يجمع الى ذكرالله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها الانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فاذا عزم على الحية بأسماء الشياطين جابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رقي بتلك الاسماء سالت سمومها من بدن الانسان ولذلك كره الرقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من سوب الشرك وعلى كراهية الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة قال شيخ الإسلام كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية فأما جعل الألفاظ العجمية شعارا فليس من الإسلام قلت وسئل ابن عبدالسلام عن الحروف المقطعة فمنع منها مالا يعرف لئلا يكون فيه كفر وقال السيوطي قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي وبما يعرف معناه وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى فتلخص أن الرقية ثلاثة أقسام قوله والتمائم تقدم كلام المنذري وابن الأثير في معناه في الباب قبله وظاهر تخصيص التمائم بما ذكراه وقال المصنف التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين وقال الخلخالي التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين وهذا منهي عنه لأنه لا دافع إلا الله ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته وظاهره أن ما علق لدفع العين وغيرها فهو(112/126)
137 ... تميمة من أي شيء كان وهذا هو الصحيح وقد يقال إن كلام المنذري وابن الأثير وغيرهما لا يخالفه قال المصنف لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته فقالت طائفة يجوز ذلك وهو قول عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره وهو ظاهر ما روي عن عائشة وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية وحملوا الحديث على التمائم الشركية أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته فكالرقية بذلك قلت وهو ظاهر اختيار ابن القيم وقالت طائفة لا يجوز ذلك وبه قال ابن مسعود وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم رضي الله عنه وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في روايه اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإن ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها بخلاف الرقى فقد فرق فيها ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث فهموا العموم كما تقدم عن ابن مسعود وروى أبو داود عن عيسى بن حمزة قال دخلت على عبدالله بن عكيم وبه حمرة فقلت ألا تعلق تميمة فقال نعوذ بالله من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلق شيئا وكل إليه وروى وكيع عن ابن عباس قال اتفل بالمعوذتين ولا تعلق وأما القياس على الرقية بذلك فقد يقال بالفرق فكيف يقاس التعليق الذي لا بد فيه من ورق أو جلود ونحوهما على مالا يوجد ذلك فيه فهذا الى الرقى المركبة من حق باطل أقرب هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء الله وصفاته فما ظنك بما حدث بعدهم من الرقى(112/127)
138 ... بأسماء الشياطين وغيرهم وتعليقها بل والتعلق عليهم والاستعاذة بهم والذبح لهم وسؤالهم كشف الضر وجلب الخير مما هو شرك مخض وهو غالب على كثير من الناس إلا من سلم الله فتأمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه والتابعون وما ذكره العلماء بعدهم في هذا الباب وغيره من أبواب الكتاب ثم انظر الى ما حدث في الخلوف المتأخرة يتبين لك دين الرسول صلى الله عليه وسلم وغربته الآن في كل شيء فالله المستعان قوله والتولة شرك قال المصنف هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة الى زوجها والزوج الى امرأته وكذا قال غيره أيضا وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا يا ابا عبدالرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما فما التولة قال شيء يضعه النساء يتحببن الى ازواجهن قال الحافظ التولة بكسر المثناه وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله قال وعن عبدالله بن عكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل اليه رواه احمد والترمذي ش ورواه أيضا أبو داود والحاكم قوله عن عبدالله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرا ويكنى ابا معبد الجهني الكوفي قال البخاري أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم قال معناه أبو زرعة وابن حبان وابن منده وأبو نعيم وقال البغوي يشك في سماعه وقال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقه وذكر ابن سعد عن غيره أنه(112/128)
139 ... مات في ولاية الحجاج وظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن الحديث مرسل قوله من تعلق شيئا وكل اليه التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل ويكون بهما جميعا أي من تعلق شيئا بقلبه أو تعلقه بقلبه وفعله وكل اليه أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه فمن تعلقت نفسه بالله وأنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وفوض أمره كله اليه كفاه كل مؤنة وقرب اليه كل بعيد ويسر له كل عسير ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال الله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال الامام أحمد حدثنا هشام بن القاسم ثنا أبو سعيد المؤدب ثنا من سمع عطاء الخراساني قال لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز قال نعم أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته الا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك قال وروى الامام أحمد عن رويفع قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فان محمدا بريء منه ش الحديث رواه الامام أحمد عن يحيى بن اسحق والحسن بن موسى(112/129)
140 ... الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة وفيه قصة فاختصرها المصنف وهذا لفظ الحسن قال حدثنا ابن لهيعة ثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال ثنا رويفع بن ثابت قال كان أحدنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش والآخر القدح ثم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان ثنا المفضل حدثني عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني يقول استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض قال فسرنا معه فقال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفي الإسناد الأول ابن لهيعة وفيه مقال وفي الثاني شيبان القتباني قيل فيه مجهول وبقية رجالهما ثقات ورواه أبو داود من طريق المفضل به مطولا وسكت عليه ثم قال حدثنا يزيد بن خالد أنا مفضل عن عياش أن شييم بن بيتان أخبره أيضا بهذا الحديث عن أبي سالم الجيشاني عن عبدالله ابن عمرو يذكر ذلك وهو معه مرابط بحصن باب البون قال أبو داود حصن البون بالفسطاط على جبل قلت وهذا اسناد جيد رواه النسائي من رواية شييم عن رويفع وصرح بسماعه منه ولم يذكر شيبان فان كان ذكر شيبان وهما فالاسناد صحيح وحسنه النووي وصححه بعضهم قال الحافظ أبو زرعة في شرح أبي داود ورواه الطحاوي مختصرا فذكر منه الاستنجاء برجيع دابة أو عظم فقط رواه محمد بن الربيع الجيزي في كتاب من دخل مصر من الصحابة مطولا وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة(112/130)
141 ... قوله فأخبر الناس دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع وليس هذا مختصا به بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج اليه الناس وجب عليه تبليغه للناس وإعلامهم به فان اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية هذا كلام أبي زرعة قوله لعل الحياة تطول بك علم من إعلام النبوة لأنه وقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات فيها ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها وهو من الأنصار وقيل مات سنة ثلاث وخمسين قاله ابن يونس قوله أن من عقد لحيته بكسر اللام لا غير قاله في المشارق والجمع لحى بالكسر والضم قال الجوهري قال الخطابي وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين أحدهما ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قلت كأنهم كانوا يفعلونه تكبرا وعجبا كما ذكره أبو السعادات قال ثانيهما أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث وقال أبو زرعة ابن العراقي والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع المتقدم ذكرها فهو موافق للحديث الصحيح في النهي عن كف الشعر والثوب فإن عقد اللحية فيه كفها وزيادة قوله أو تقلد وترا أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ونحو ذلك وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وترا يريد تميمة فهذا يدل على أنهم كانوا يتقلدون الأوتار من أجل العين إذ فسره بالتميمة وهي تجعل لذلك(112/131)
142 ... قوله أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه قال النووي أي بريء من فعله وقال بهذه الصيغة ليكون أبلغ في الزجر قلت فيه النهي عن الاستنجاء برجيع الدواب والعظام وقد ورد في ذلك أحاديث منها ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن وعلى هذا فلا يجزىء الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد واختار شيخ الإسلام وجماعة الإجزاء وان كان محرما قالوا لأنه لم ينه عنه لكونهما لا ينقيان بل لافسادهما قلت الأول أولى لما رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق الحسن ابن الفرات عن أبيه عن ابي حازم الأشجعي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال إنما لا يطهران وهذا إسناد جيد قال وعن سعيد بن جبير قال من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة رواه وكيع ش هذا عند أهل العلم له حكم الرفع لأن مثل ذلك لا يقال بالراي فيكون على هذا مرسل لأن سعيدا تابعي وفيه فضل قطع التمائم لأنها من الشرك ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره روى عنه الإمام أحمد وطبقته مات سنة سبع وتسعين ومائة قال وله عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن(112/132)
143 ... ابراهيم هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة إمام من كبار فقهاء الكوفة قال المزني دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة ونحوها قوله كانوا يكرهون التمائم إلى آخره مراده بذلك أصحاب عبدالله بن مسعود كعلقمة والاسود وابي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من أصحاب ابن مسعود وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية قوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره باب من تبرك بشجرة او حجر ونحوهما ش كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك مما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة ويعني بقوله تبرك أي طلب البركة ورجاها واعتقدها أي ما حكمه هل هو شرك أم لا قال وقول الله تعالى أفرأيتم اللات والعزى الآيات ش هكذا ثبت في خط المصنف الآيات يعني إلى قوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى قال القرطبي لما ذكر الوحي الى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من آثار قدرته ما ذكر حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقيل أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين اليكم شيئا كما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت اللات لثقيف والعزى لقريش وبني كنانة ومناة لبني هلال وقال ابن هشام كانت مناة لهذيل وخزاعة(112/133)
144 ... ذكر صفة هذه الأوثان ليعرف المؤمن كيفية الأوثان وكيفية عبادتها وما هو شرك العرب الذين كانوا يفعلونه حتى يفرق بين التوحيد والاخلاص وبين الشرك والكفر فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب اللات بتشديد التاء فعلى الأولى قال الأعمش سمو اللات من الآله والعزى من العزيز قال ابن جرير وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى فقالوا اللات مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا قال وكذا العزى من العزيز قال ابن كثير وكانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش قال ابن هشام وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى فلم يزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار وعلى الثانية قال ابن عباس كان رجلا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري وقال ابن عباس كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويلته عليها فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور والفاكهي وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وقال ابن جريج كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا إلى قبره وثنا وبنحو ذلك قال جماعة من أهل العلم ولا تخالف بين القولين فإن من قال إنها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه(112/134)
145 ... فعظمت وعبدت تبعا لا قصدا فالعبادة إنما أرادوا بها صاحب القبر فهو الذي عبدوه بالأصالة يدل على ذلك ما روى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووزان بينه وبين بناء القباب على القبور والعكوف عندها ودعائها وجعلها ملاذا عند الشدائد وأما العزى فقال ابن جرير كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا الله مولانا ولا مولى لكم وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها امتنعوا في الجبل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعلاها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى قال ابن هشام وكانوا يسمعون منها الصوت وقال أبو صالح العزى نخلة كانوا يعلقون عليها السيور والعهن رواه عبد بن حميد وابن جرير فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووازن بينه وبين ما يفعله عباد القبور من دعائها والذبح عندها وتعليق الخيوط وإلقاء الخرق في ضرائح الأموات ونحو ذلك فالله المستعان وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة وأصل(112/135)
146 ... اشتقاقها من اسم الله المنان وقيل من منى الله الشيء إذا قدره وقيل سميت مناة لكثرة ما يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها قال ابن هشام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح قال ابن اسحق في السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة وتطوف بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لانها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده قلت هذا الذي ذكره ابن اسحق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عباد القبور بل زادوا على الاولين إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي إن فيها حذفا تقديره أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله وقال غيره ومناة الثالثة الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله وقالت أولاهم لأخراهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم وقوله ألكم الذكر وله الأنثى قال ابن كثير أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور وقال غيره يجوز أن يراد اللات والعزى ومناة إناث وقد جعلتموهن لله شركاء ومن شأنكم أن تحتقروا أناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم أو ينسبن إليكم فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهن آلهة قلت ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية وقوله تلك إذا قسمة ضيزى أي جور وباطلة فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها(112/136)
147 ... فتنزهون أنفسكم عن الاناث وتجعلونهن لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقوله إن هي اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قال ابن كثير ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الاصنام وتسميتها آلهة إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أي من تلقاء أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطان أي من حجة إن يتبعون إلا الظن أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإلاحظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين وقوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى ش قال ابن كثير ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما تبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له قلت في هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت وأشباهها مالا مزيد عليه فسبحان من جعل كلامه شفاء وهذى ورحمة وبشرى للمسلمين منها أنها أسماء مؤنثة دالة على اللين والرخاوة وما كان كذلك فليس بإله ومنها أنكم قاسمتم الله بزعمكم فجعلتم له هذه الاسماء المؤنثة شركاء ودعوتم له الاولاد ثم جعلتموهم بنات واختصصتم بالذكور فجعلتم له المكروه الناقص ولكم المحبوب الكامل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ومنها أنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وابتدعتموها ومنها ما أنزل الله بها من سلطان أي حجة وبرهان ومنها(112/137)
148 ... أنكم لم تستندوا في تسميتها إلى علم ويقين وإنما استندتم في ذلك إلى الظن والهوى الذين هما اصلا الهلاك دنيا وأخرى ومنها ولقد جاءهم من ربهم الهدى أي بإبطال عبادتها وما كان كذلك فهو عين المحال البين البطلان وكل واحد من هذه الأدلة كاف شاف في بطلان عبادتها فان قلت فأين دليل الترجمة من الآيات قيل هو بين بحمد الله لأنه إن كان التبرك بالشجر والقبور والأحجار من الأكبر فواضح وإن كان من الأصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر قال وعن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة قال أنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصححه ش الحديث روله الترمذي كما قال المصنف ولفظه حدثنا سعيد ابن عبد الرحمن المخزومى حدثنا سفيان عن الزهرى عن سنان بن ابي سنان عن أبي واقد الليثى أن رسول الله لما خرج إلى الحنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعقلون عليها أسلحتهم قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم هذا حديث حسن صحيح وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد وابى هريرة هذا لفظ الترمذي بحروفه(112/138)
149 ... وفيه مخالفة لما في الكتاب لفظا ومعنى وقد اتفق اللفظان على المقصود هنا وقد رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن ابيه عن جده نحوه أيضا قوله عن أبي واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف كما قال الترمذي وقيل الحارث بن مالك صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة قوله خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين في حديث عمرو بن عوف قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ولا مخالفة بينهما في المعنى فإن غزوة الفتح وحنين كانتا في سفر واحد قوله ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريبوا عهد بكفر ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا وان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ذكره المصنف قوله يعكفون عندها الاعتكاف هو الإقامة على الشيء بالمكان ولزومها ومنه قوله ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكانوا يعكفون عند هذه السدرة تبركا بها وفي حديث عمرو بن عوف قال كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها الحديث فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها قوله وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة(112/139)
150 ... قوله يقال لها ذات أنواط قال أبو السعادات سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط قوله فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط أي شجرة مثلها نعلق عليها ونعكف حواليها ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله فقصدوا التقرب إلى الله بذلك وإلا فهم أجل قدرا وان كانوا حديثي عهد بكفر عن قصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله اكبر هكذا في بعض الروايات وفي رواية الترمذي سبحان الله والمقصود باللفظين واحد لأن المراد تعظيم الله وتنزيهه عن الشرك والتقرب به إليه وفيه تكبير الله وتنزيهه عند التعجب أو ذكر الشرك خلافا لمن كرهه قوله أنها السنن بضم السين أي الطرق قوله قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى اجعل لنا إلها الخ أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا الامر الذي طلبوه منه وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركا كالأمر الذي طلبه بنو اسرائيل من موسى عليه السلام حيث قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات والأستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب لها وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركا قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء(112/140)
151 ... والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها وقال الحافظ ابو محمد عبدالرحمن بن اسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب البدع والحوادث ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث ثم ذكر الحديث المتقدم وكلام الطرطوشي الذي ذكرنا ثم قال ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو اسحق الجبنياني رحمه الله تعالى أحد الصالحين ببلاد افريقية في المائة الرابعة حكى عنه صاحبه الصالح ابو عبد الله محمد ابن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت امضوابي إلى العافية فتعرف بها الفتنة قال أبو عبد الله فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي اسحق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال فما رفع لها رأس إلى الآن قلت أبو إسحق الذي هدمها إمام مشهور من أئمة المالكية زاهد اسمه ابراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم وكان الإمام أبو محمد ابن أبي زيد يعظم شأنه ويقول(112/141)
152 ... طريق أبي اسحق خالية لا يسلكها أحد في الوقت وكان القابسي يقول الجبنياني إمام يقتدى به مات سنة تسع وستين وثلاثمائة وذكر ابن القيم نحو ما ذكره أبو شامة ثم قال فما أسرع اهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر الى المنذور له وسيأتي شيء يتعلق بهذا الباب عند قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وفي هذه الجملة من الفوائد أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ولا يغتر بالعوام والطغام ولا يستبعد كون هذا شركا ويقع في هذه الأمة فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا وطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني اسرائيل اجعل لنا إلها فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني اسرائيل ولم يلتفت إلى كوتهم سموها ذات أنواط فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه كمن يسمي دعاء الأموات والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيما ومحبة فإن ذلك هو الشرك وإن سماه ما سماه وقس على ذلك وفيها أن من عبد فهو إله لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق وإنما أرادوا البركة والعكوف عندها فكان ذلك اتخاذا له مع الله تعالى وفيها أن معنى الإله هو المعبود وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلا فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر وأن لا إله إلا الله تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة ذكره المصنف فكيف بما هو أعظم منه ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ونحو(112/142)
153 ... ذلك من العبارات والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلا قوله لتركبن بضم الموحدة أي لتتبعن أنتم أيها الأمة سنن من كان قبلكم بضم السين أي طرقهم ومناهجهم وأفعالهم ويجوز فتح السين وهذا خبر صحيح وجد كما أخبر صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم النهي عن التشبه بأهل الجاهلية من أهل الكتاب والمشركين وأنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيها التنبيه على مسائل القبر أما من ربك فواضح وأما من نبيك فمن إخباره بأنباء الغيب وأما ما دينك فمن قولهم اجعل لنا إلها إلى آخره قاله المصنف وفيه أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة كما وقع فيمن قبلها ففيه رد على من قال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة وفيه سد الذرائع والغضب عند التعليم وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه لنا لنحذره ذكر ذلك المصنف تنبيه ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين والتبرك بعرقهم ونحو ذلك وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في شرح مسلم في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئا من ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ صريح لوجوه منها عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة ومنها عدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثني الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك أما(112/143)
154 ... غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم ومنها انا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته ولو كان خيرا لسبقونا إليه فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم فدل أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها أن فعل هذا مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم باب ما جاء في الذبح لغير الله أي من الوعيد وهل يكون شركا أم لا قال وقول الله تعالى قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية ش قال ابن كثير يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له وهذا كقوله فصل لربك وانحر أي أخلص له صلاتك وذبيحتك فإن المشركين يعبدون الاصنام ويذبحون لها فأمر الله بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه(112/144)
155 ... والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى قال مجاهد في قوله صلاتي ونسكي قال النسك الذبح في الحج والعمرة وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير ونسكي ذبحي وكذا قال الضحاك وقال غيره ومحياي ومماتي أي وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه لا شريك له وبذلك من الإخلاص أمرت وأنا أول المسلمين لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته كما قال قتادة وأنا أول المسلمين أي من هذه الأمة قال ابن كثير وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الاسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وأخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه فان توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وذكر آيات في هذا المعنى قلت وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك كما هو بين عند التأمل وفيها بيان العبادة وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له قال وقوله فصل لربك وانحر قال شيخ الإسلام أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله والى عدته عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ولهذا جمع بينهما في قوله قل إن صلاتي ونسكي الآية والنسك الذبيحة لله تعالى ابتغاء وحهه(112/145)
156 ... فإنها أجل ما يتقرب به إلى الله فانه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب لان فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر وأجل العبادات البدنية الصلاة وأجل العبادات المالية النحر وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه آرباب القلوب الحية وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الايمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب وكان صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر وقال غيره أي فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للأوثان انتهى وهذا هو الصحيح في تفسيرها وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع الحديث فهو حديث منكر جدا وفي إسناده اسرائيل بن حاتم ثم قال ابن حبان يروي عن مقاتل الموضوعات وغيره من الثقات الأوابد والطامات يروي عن مقاتل بن حيان ما وضعه عليه ابن عمر بن صبيح كان يسرقها منه وروى عن مقاتل عن الأصبغ بن نباته عن علي لما نزلت فصل لربك وانحر الحديث قال عن علي رضي الله عنه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الارض رواه مسلم ش الحديث رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف وفيه قصة(112/146)
157 ... ورواه الإمام أحمد كذلك وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء واسم ابي طالب عبد مناف ابن عبد المطلب ابن هاشم القرشي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن أهل بدر وبيعة الرضوان وأحد العشرة لهم بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ومناقبه كثيرة رضي الله عنه قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين قوله لعن الله قولوا اللعنة البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة أودعي عليه بها قال أبو السعادات أصل اللعنة الطرد والإبعاد من الله ومن الخلق السب والدعاء قوله من ذبح لغير الله قال النووي المراد به أن يذبح باسم غير اسم الله تعالى كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للكعبة ونحو ذلك وكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله و العبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ذكره في شرح مسلم ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم وقال شيخ الإسلام قوله تعالى وما أهل به لغير الله ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذه ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين الى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من(112/147)
158 ... الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنجوم ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لاتباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن قلت هذا الحديث رواه البيهقي عن الزهري مرسلا وفي إسناده عمر بن هارون وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ورواه ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر عن عبدالله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن حبان وعبدالله يروي عن ثور ما ليس من حديثه قال الزمخشري كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن فأضيفت الذبائح إليهم لذلك قال النووي وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود قلت إن كانوا يذبحون استبشارا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك وإن كانوا يذبحونه تقربا إليه فهو داخل في الحديث قوله لعن الله من لعن والديه قال بعضهم يعني أباه وأمه وإن عليا(112/148)
159 ... وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فإذا كان هذا حال المتسبب فما ظنك بالمباشر قوله ولعن الله من آوى محدثا أما آوى بفتح الهمزة ممدوة أي ضم إليه وحمى وقال أبو السعادات يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري وأويته وأنكر بعضهم المقصور المتعدي وقال الأزهري هي لغة فصيحة وأما محدثا فقال أبو السعادات يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول فمعنى الكسر من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه والفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه قلت الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية فإيواؤه أعظم إثما ولهذا عده ابن القيم في كتاب الكبائر وقال هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم قوله ولعن الله من غير منار الأرض قال المصنف هي المراسيم التي تفرق بينك وبين جارك وقال النووى منار الأرض بفتح الميم علامات حدودها والمعنى واحد قيل وتغييرها أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين رواه البخارى ومسلم وفي الحديث دليل على جواز(112/149)
160 ... لعن أنواع الفساق كقوله لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ونحو ذلك فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام أحدهما أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره والثاني لا يجوز اختاره أبو بكر عبدالعزيز وشيخ الإسلام قال والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله وأن يقول كما قال الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين قال وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما قرب قال ما عندي شيء قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة رواه أحمد ش هذا الحديث ذكره المصنف معزوا لأحمد وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد قال ابن القيم قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال دخل رجل الجنة في ذباب الحديث وقد طالعت المسند فما رأيته فيه فلعل الإمام رواه في كتاب الزهد أو غيره قوله عن طارق بن شهاب أي البجلي الأحمسي أبو عبدالله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل ويقال إنه لم يسمع منه شيئا(112/150)
161 ... قال البغوي ونزل الكوفة قال أبو حاتم ليست له صحبة والحديث الذي رواه مرسل وقال أبو داود رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عن مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث وذلك مصير منه إلى اثباب صحبته وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنه ثلاث وثمانين قوله دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجل ذباب قوله قالوا وكيف ذلك يا رسول الله سألوا عن هذا الأمر العجيب لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالاعمال الصالحة كما قال تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالاعمال السيئة فكانهم تقالوا ذلك وتعجبوا واحتقروه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة ويستحق الآخر عليه النار ولعل هذين الرجلين من بني اسرائيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن بني اسرائيل كثيرا قوله فقال مر رجلان من قوم لهم صنم الصنم ما كان منحوتا على صورة قوله لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه حد حتى يقرب له شيئا وإن قل قوله قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل وأنه يوجب النار ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار(112/151)
162 ... لاشراكه في عبادة الله إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة وهذا مطابق لقوله تعالى إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وفيه الحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان كما قال أنس إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول لله صلى الله عليه وسلم من الموبقات رواه البخاري قال المصنف ما معناه وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم وفيه أن الذي دخل النار مسلم لأنه لو كان كافرا لم يقل دخل النار في ذباب وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان قوله وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل إلى آخره في هذا بيان فضيلة التوحيد والإخلاص قال المصنف وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر وفيه شاهد للحديث الصحيح الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك قلت وفيه التنبيه على سعة مغفرة الله وشدة عقوبته وأن الأعمال بالخواتيم باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ش أي أن ذلك لا يجوز لما سيذكره المصنف قال وقول الله تعالى لاتقم فيه أبدا الآية(112/152)
163 ... ش حاصل كلام المفسرين في الآية أن الله نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبدا والأمة تبع له في ذلك ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني فيه على التقوى وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا ومنزلا للاسلام وأهله بقوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه والسياق إنما هو في مسجد قباء ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجد قباء كعمرة وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبا وماشيا وقد صرح بأن المسجد المؤسس على التقوى هو مسجد قباء ذكره جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغير واحد وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث أبي سعيد قال تمارى رجلان في المسجد الذي اسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مسجدي هذا رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم قال ابن كثير وهذا صحيح ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد اسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي اسس على معصية الله تعالى كما قال تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون فلهذه الأمور نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام فيه للصلاة وكان المنافقون الذين بنوه جاؤوا إلى النبى قبل خروجه إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة(112/153)
164 ... في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل الوحي بخبر السمجد فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة ووجه الدلالة من الآية على الترجمة من جهة القياس لأنه إذا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن القيام لله تعالى في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله لأنها قد اسست على معصية الله والشرك به يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي وقوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا روى الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به فقالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي رواية عن جابر وأنس مرفوعا هو ذاك فعليكموه رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وقوله والله يحب المطهرين أي الذين يتنزهون من القاذورات والنجاسات بعد ما يتنزهون من أوضار الشرك وأقذاره قال أبو العالية إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب قال ابن كثير وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنزهين عن ملابسة القاذورات المحافظين على إسباغ الوضوء قلت وفيه إثبات المحبة(112/154)
165 ... قال عن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لاوفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود وإسناده على شرطهما ش هذا الحديث رواه أبو داود فقال حدثنا داود بن رشيد قال ثنا شعيب بن اسحق عن الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو قلابة قال حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها وثن الحديث وهذا إسناد جيد وروى أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوف بنذرك مختصر ومعنى قوله لصنم الى آخره هل يذبحون فيه لصنم أو وثن فيكون كحديث ثابت قوله عن ثابت بن الضحاك أى أن ابن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبو قلابة وغيره ومات سنه أربع وستين قوله نذر رجل يحتمل أن يكون هو كردم بن سفيان والد ميمونة لما روى أبو داود عنها قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فدنا اليه أبي فقال يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من(112/155)
166 ... النعم قال لا أعلم إلا أنها قالت خمسين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان شيء قال لا قال فأوف بما نذرت لله وذكر الحديث قوله أن ينحر إبلا في حديث ميمونة قال فأوف بما نذرت لله قال فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها فيحتمل أن يكون نذر إبلا وغنما ويحتمل أن يكون ذلك قضيتبن قوله ببوانة بضم الباء وقيل بفتحها قال البغوي موضع في أسفل مكة دون يلملم وقال أبو السعادات هضبة من وراء ينبع قوله فقال هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال في عروة المفتاح الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة قلت هذا هو الصحيح في الفرق بينهما وقد جاء عن السلف ما يدل على ذلك وفيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن من أوثانهم ولو بعد زواله ذكره المصنف قوله فهل كان فيها عيد من أعيادهم قال شيخ الاسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع الجاهلية فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا فالزمان كقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا والاجتماع والاعمال كقول ابن عباس شهدت العبد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمكان كقوله لا تتخذوا قبري عيدا وقد يكون لفظ العيد(112/156)
167 ... اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم لابي بكر دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا انتهى وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده ذكره المصنف قوله فأوف بنذرك هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغيره أو في محل أعيادهم معصية لأن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا عن هذين الوصفين فيكونان مانعين من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به ولأنه عقبه بقوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله فدل أن الصورة المسؤول عنها مندرجة في هذا اللفظ العام لأن العام إذا أورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه ولأنه لو كان الذبح فيما ذكر جائزا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به لأنه عليه السلام استفصل فلما قالوا لا قال له فأوف بنذرك وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم أو بها وثن من أوثانهم مانع من الذبح بها وإن نذر وإلا لما حسن الاستفصال هذا معنى كلام شيخ الإسلام وفيه أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع قوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله دليل على أن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به لما تقدم وعلى أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به وقد أجمع العلماء على ذلك لهذا الحديث وحديث عائشة الآتي وما في معناهما(112/157)
168 ... واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما تجب وهو المذهب المشهور عن أحمد وروي عن ابن مسعود وابن عباس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لحديث عائشة مرفوعا لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين رواه أحمد وأهل السنن وأحتج به أحمد واسحق والثاني لا كفارة عليه روي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي لحديث الباب وحديث عائشة الآتي ولم يذكر فيهما كفارة وجوابه أن عدم ذكر الكفارة لا يدل على عدم وجوبها قوله ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح يعني إذا أضاف النذز إلى معين لا يملكه بأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه ونحو ذلك فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه فيصح نذره مثاله إن شفي الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره وإذا شفي ثبت النذر في ذمته قوله رواه أبو داود وإسناده على شرطيهما أي شرط البخاري ومسلم وأضمرهما للعلم بذلك وأبو داود اسمه سليمان بن الأشعث بن اسحق بن بشر بن شداد الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد ومصنف السنن وغيرها ثقة امام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين باب من الشرك النذر لغير الله ش أي إنه من العبادة فيكون صرفه لغير الله شركا فإذا نذر طاعة(112/158)
169 ... وجب عليه الوفاء بها وهو عبادة وقربة إلى الله ولهذا مدح الله الموفين به فإن نذر لمخلوق تقربا إليه ليشفع له عند الله ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادة الله تعالى غيره ضرورة كما أن من صلى لله وصلى لغيره فقد أشرك كذلك هذا لقوله تعالى يوفون بالنذر وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم لا يمدح على فعل المباح المجرد وذلك هو العباده فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه فقد أشرك قال وقوله وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه ويجازينا عليه فدل ذلك أنه عبادة وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئا من انواع العبادة لغير الله فقد أشرك قال ابن كثير يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده إذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور وأشباههم لم يعتقدون فيه نفعا أو ضرا فيتقرب اليه بالنذر ليقضي حاجته أو ليشفع له كل ذلك شرك في العبادة وهو شبيه بما ذكر الله عن المشركين في قوله وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون روى ابن أبي حاتم في(112/159)
170 ... الآية يعني جعلوا لله جزءا من الحرث ولشركائهم ولأوثانهم جزءا فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني وما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم الى جزء الله أخذوه وعباد القبور يجعلون لله جزءا من أموالهم بالنذر والصدقة وللأموات والطواغيت جزءا كذلك وقد نص غير واحد من العلماء على أن النذر لغير الله شرك قال شيخ الإسلام وأما ما نذره لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وقال أيضا فيمن نذر للقبور ونحوها دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين فهذا النذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت للات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقوله تعالى وجاوزنا ببني اسرائيل التحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل للشريعة في في المجاورة فيها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان المجاورين عندها أو لسدنة الأبدال التي في الهند والمجاورين عندها(112/160)
171 ... ثم هذا المال إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين يستعينون بالمال على عبادة الله كان حسنا وقد تقدم كلام ابن القيم في قوله ويقولون إنها تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة إلى آخره وقال الإمام الأذرعي في شرح منهاج النووي وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع من قصود العاقد في تعظيم البقعة والمشهد والزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت اليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسها ويرون أنها مما يدفع به البلاء ويستجلب به النعماء ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى انهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل إنه جلس اليها أو استند اليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ويقولون القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض وقدوم غائب وسلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا من ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الايقاد على القبر تبركا وتعظيما ظانا أن ذلك قربة فهذا مما لاريب في بطلانه والانقياد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا إلى آخر كلامه وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار النذر الذي ينذره(112/161)
172 ... أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للانسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول ياسيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقاد ذلك كفر إلى أن قال إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق في آخر كتاب الصوم ومنه نقله المرشدي أيضا في تذكرته ونقله غيرهما عنه وزاد وقد ابتلي الناس بهذا لاسيما في مولد أحمد البدوي وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء وأثبت الأجر في ذلك فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله فيكون باطلا وفي التنزيل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له أي صلاتي وذبحي لله كما فسر به قوله فصل لربك وانحر وفي الحديث لا نذر في معصية الله رواه أبو داود وغيره والنذر لغير الله إشراك مع الله إلى أن قال فالنذر لغير الله كالذبح لغيره(112/162)
173 ... وقال الفقهاء خمسة لغير الله شرك الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين قال والحاصل أن النذر لغير الله فجور فمن أين تحصل لهم الأجور انتهى ملخصا وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي قد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله تعالى والتضرع له وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة فقد نص أبو بكر على ان الدعاء والنذر عبادتان ولا يمتري مسلم أن من عبد غير الله فقد اشرك ولكن كما قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون قال وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله عن عائشة هي أم المؤمنين وزوج النبي صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين وهي أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيهما خلاف كثير ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح قاله الحافظ قوله من نذر أن يطيع الله فليطعه أي فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة بشرط يرجوه كقوله إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه أن يوفي بها مطلقا إذا حصل الشرط إلا أنه حكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء بما لا أصل له في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض والحديث حجة عليه لأنه لم يفرق(112/163)
174 ... بين ما له أصل في الوجوب وما لا أصل له فان نذر ابتداء كقوله لله تعالى علي صوم شهر فالحكم أيضا كذلك في قول الأكثرين وعن بعضهم أنه لا يلزم والحديث حجة عليه أيضا لأنه لم يفرق بين ما علقه على شرط وبين ما نذره ابتداء قوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه زاد الطحاوي وليكفر عن يمينه قال ابن القطان عندي شك في رفع هذه الزيادة أي لا يفعل المعصية التي نذرها وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية قال الحافظ في الفتح واتفقوا على تحريم النذر في المعصية وتنازعوا هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا وقد تقدم ذلك في الباب قبله وقد يستدل بقوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه بصحة النذر في المباح كما هو مذهب أحمد وغيره يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أحمد والترمذي عن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال أوف بنذرك وإذا صححناه فحكمه حكم الحلف على فعله فيخير بين فعله وكفارة اليمين وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد فيخير بين فعله وكفارة اليمين لحديث عمران بن حصين مرفوعا لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين رواه سعيد واحمد والنسائي وله طرق وفيه كلام فان نذر مكروها كالطلاق استحب ان يكفر ولايفعله باب من الشرك الاستعاذة بغير الله الاستعاذه الالتجاء والاعتصام والتحرز وحقيقتها الهرب من شيء(112/164)
175 ... تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا وملجأ ووزرا فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه الى ربه ومالكه وفر اليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ اليه وهذا تمثيل وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاطراح بين يدي الرب والافتقار اليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة هذا معنى كلام ابن القيم وقال ابن كثير الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذ يكون لدفع الشر واللياذ لطلب الخير وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية وتواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وقال وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب ان يحضرون وقال فاستعذ بالله انه هو السميع البصير وقال قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا اليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره ولا يذل ولا يخضع لغيره ولا يتوكل إلا عليه لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومتولي(112/165)
176 ... شأنك فهو ربك فلا رب لك سواه وتكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك اليه أعظم من حاجتك الى حياتك وروحك فهو الإ له الحق إله الناس فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجأوا الى غير حماه فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم فكيف لا يلتجىء العبد عند النوازل ونزول عدوه به الى ربه وملكه وإلهه وهذه طريقه القرآن يحتج عليهم باقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية هذا معنى كلام ابن القيم فاذا تحقق العبد بهذه الصفات الرب والملك والاله وامتثل أمر الله واستعاذ به فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات بل هو من حقائق توحيد الالهية فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله كذلك في الاستعاذة ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه بخلاف ما لايقدر عليه إلا الله فلا يستعاذ فيه إلا بالله كالدعاء فإن الاستعاذة من أنواعه قال وقول الله تعالى وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ش المعنى والله اعلم على قول أن الانس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقا أي إثما وطغيانا وشرا فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن وعلى القول الثاني بالعكس وزيادتهم للانس رهقا باغوائهم وإضلالهم وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في(112/166)
177 ... واد قفر في بعض مسائره وخاف على نفسه قال اعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم قال مجاهد كانوا يقولون إذا هبطوا واديا نعوذ بعظيم هذا الوادي فزادوهم رهقا قال زادوا الكفار طغيانا رواه عبد بن حميد وابن المنذر والآثار بذلك عن السلف مشهورة ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية من جملتها الاستعاذة بغير الله وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها خشية ان يكون فيها شيء من ذلك قال ملا علي القاري الحنفي ولا يجوز الاستعاذة بالجن فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا الى إن قال وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض الآية فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره أو إخباره بشيء من المغيبات واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه واستعاذته به واستغاثته وخضوعه له وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيويه من كف شرا وجلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك ذكره المصنف قال وعن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك رواه مسلم(112/167)
178 ... قوله عن خولة بنت حكيم أي ابن أمية السلمية يقال لها أم شريك ويقال لها خويلة بالتصغير ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون قال ابن عبد البر وكانت صالحة فاضلة قوله أعوذ بكلمات الله التامات هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته قال القرطبي في المفهم قيل معناه الكاملات اللاتي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر وقيل معناه الشافية الكافية وقيل الكلمات هنا هي القرآن فان الله أخبر عنه بأنه هدى وشفاء وهذا الأمر على جهة الارشاد إلى ما يدفع به الأذى ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى والالتجاء اليه كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه ويتوكل في ذلك عليه ويحضر ذلك في قلبه فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه وقال غيره وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز واستدلوا بحديث خولة وقالوا فيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة وردوا به على الجهيمة والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن قالوا فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها لان الاستعاذة بالمخلوق شرك وقال شيخ الإسلام وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الإستعاذة بمخلوق وهذا مما استدلوا به على أنه كلام الله غير مخلوق قالوا لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون(112/168)
179 ... فيها شرك وقال ابن القيم ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما وصدق هو استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به قوله من شر ما خلق أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة وما ههنها موصولة ليس إلا وليس المراد بها العموم الاطلاقي بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر لامن شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة والملائكة والانبياء ليس فيهم شر هذا معنى كلام ابن القيم قال والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي اليه قوله لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك قال القرطبي هذا الخبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلا فتفكرت في نفسى فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات قال المصنف فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ش قال شيخ الإسلام الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة(112/169)
180 ... كالاستنصار طلب النصر والاستعانة طلب العون وقال غيره الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وقال إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثه من عطف العام على الخاص وقال أبو السعادات الاغاثة الإعانة فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة وقوله أو يدعو غيره المراد بالدعاء هنا هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات واعلم أن الدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم شيخ الاسلام وابن القيم وغيرهما ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر فالمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا كقوله قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا و لا نفعا والله السميع العليم وقوله ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لابد وأن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء(112/170)
181 ... عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر الله في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له قالوا المراد به العبادة فيقولون في مثل قوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا أي لا تعبدوا مع الله أحدا فيقال لهم وإن أريد به دعاء العبادة فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع قال الله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وقال تعالى وادعوه خوفا وطمعا وقال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله وقال تعالى واسألوا الله من فضله وقال تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أوتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون وقال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام إن ربي لسميع(112/171)
182 ... الدعاء وقال عنه أيضا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله الآية وقال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وقال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقال تعالى عن زكريا عليه السلام قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم الآية وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانا في الفرق بين التوحيد والشرك عموما وفي هذه المسألة خصوصا وقال تعالى فابتغوا عند الله الرزق وقال تعالى وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا اليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار وقال تعالى(112/172)
183 ... والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وغير ذلك من الآيات وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مالا يحصى منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم رواه مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وقوله ليس شيء أكرم على الله من الدعاء رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وقوله من لم يدع الله يغضب عليه رواه أحمد وابن أبي شيبه والحاكم وقوله سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل رواه الترمذي وقوله الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والارض رواه الحاكم وصححه وقوله الدعاء هو العبادة رواه أحمد والترمذي وفي حديث آخر الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وقوله لما سئل أي العبادة أفضل قال دعاء المرء لنفسه رواه البخاري في الأدب وقوله لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء يا عباد الله رواه أحمد وقوله سلوا الله كل شيء حتى الشسع(112/173)
184 ... إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر رواه أبو يعلى بإسناد صحيح وقوله ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح رواه البزار بإسناد صحيح وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه وقال ابن عباس رضي الله عنهما أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم رواه ابن المنذر والحاكم وصححه وقال مطرف تذكرت ما جماع الخير فاذا الخير كثير الصلاة والصيام وإذا هو في يد الله تعالى وإذا انت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك رواه أحمد والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا الله تعالى فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات بل هو أكرمها على الله كما تقدم فإن لم يكن الإشراك فيه شركا فليس في الارض شرك وإن كان في الارض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة بل الإشراك في الدعاء وهو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله ولهذا يخلصون في الشدائد لله وينسون ما يشركون حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون يا الله يا الله لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر وقال تعالى أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون فهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك على أنه هو الإله(112/174)
185 ... الحق وعلى بطلان الهية ما سواه وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون فهذه حال المشركين الأولين وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برا وبحرا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله واكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه دبدنه وهجراه إن قام وإن قعد وإن عثر هذا يقول يا علي وهذا يقول يا عبد القادر وهذا يقول يابن علوان وهذا يدعو البدوي وهذا يدعو العيدروس وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب وترجيح الميزان ودخول الجنة والنجاة من النار والتثبيت عند الموت والسؤال وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من الله وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية ويلفقون لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب منها أنهم يدعون أنهم يخلصون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم من النار والعذاب فيقول أحدهم إنه يقف عند النار فلا يدع أحدا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تخليص أحد من النار فكيف بغيره بل كيف بمن يدعي نفسه أنه هو يفعل ذلك ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو في كربة ففرج عنه وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند(112/175)
186 ... عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذين جاوزوا الحد في مدحه صلى الله عليه وسلم وعصوه في نهيه من الغلو فيه وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم وصار حظهم منه صلى الله عليه وسلم هو مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد مع عصيانهم له في أمره ونهيه فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه ويقع من ذلك كثير في مدح غيره فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه وأنزلوه منزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية حتى انهم اذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح بادروا الى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف وعبدوها بأنواع من العبادات واما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره فكثير منهم اذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنزلوا عن الاكوار فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها وتمسحوا بها وصلوا عندها ركعتين وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وهذا هو الحج وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها ويعفرون وجوههم في التراب تعظيما لها وخضوعا لمن فيها فإن كان الإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك نادى صاحب القبر يا سيدي فلان جئتك قاصدا من مكان بعيد لا تخيبنى وكذلك اذا قحط المطر أو عقرت المرأة عن الولد أو دهمهم عدو أو جراد فزعوا الى صاحب القبر وبكوا عنده فإن جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك الى صاحب القبر فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن(112/176)
187 ... صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر أو ساخط لبعض أعمالهم أو ان اعتقادهم في الولي ضعيف أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم قول البوصيري يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فان لي ذمة منه بتسميتي محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم إن لم يكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك منها أنه نفى أن يكون له ملاذا إذا حلت به الحوادث إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو الثاني أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار اليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب الا من الله وذلك هو الشرك في الالهية الثالث سؤاله منه أن يشفع له في قوله ولن يضيق رسول الله البيت وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه وهو الجاه والشفاعة عند الله وذلك هو الشرك وأيضا فان الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء الرابع قوله فان لي ذمة الى آخره(112/177)
188 ... كذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة لا بمجرد الاشراك في الاسم مع الشرك الخامس قوله إن لم يكن في معادي البيت تناقض عظيم وشرك ظاهر فإنه طلب أولا أن لا يضيق به جاهه ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلا وإحسانا وإلا فيا هلاكه فيقال كيف طلبت منه أولا الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك فان كنت تقول إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة فهلا سألتها من له الشفاعة الامن بعد إذانه فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله وإن قلت ما أريد إلا جاهه وشفاعته بإذن الله قيل فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين فهذا مضاد لقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فكيف يجتمع في قلب عبد الايمان بهذا وهذا وإن قلت سألته أن يأخذ بيدي ويتفضل علي بجاهه وشفاعته قيل عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله وذلك هو محض الشرك السادس في هذه الأبيات من التبري من الخالق تعالى وتقدس والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة مالا يخفى على مؤمن فأين هذا من(112/178)
189 ... قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقوله تعالى فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى بذنوب عباده خبيرا وقوله تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته فإن قيل هو لم يسأله أن يتفضل عليه وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه قيل المراد بذلك سؤاله وطلب الفضل منه كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لاملاذ له سواه ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومن شعر البرعي قوله ماذا تعامل يا شمس النبوة من أضحى إليك من الأشواق في كبدي فامنع جناب صريع لا صريخ له نائي المزار غريب الدار مبتعدي حليف ودك واه الصبر منتظر لغارة منك يا ركني ويا عضدي أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل أرجو النجاة به إن أنت لم تجد وجرى في شركه الى أن قال وحل عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد وإن نزلت ضريحا لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد(112/179)
190 ... وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن يليه من أجله وانعشه وافتقد وإن دعا فأجبه واحم جانبه من حاسد شامت أو ظالم نكد وقوله من أخرى يا رسول الله ياذا الفضل يا بهجة الحشر جاها ومقاما عد على عبد الرحيم الملتجي بحمى عزك ياغوث اليتامى وأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب فى خمسين عاما وقوله يا سيدي يا رسول الله يا أملي يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني هبني بجاهك ما قدمت من زلل جودا ورجح بفضل منك ميزاني واسمع دعائي واكشف ما يساورني من الخطوب ونفس كل أحزاني فأنت أقرب من ترجى عواطفه عندي وإن بعدت داري وأوطاني إني دعوتك من نيابتي برع وأنت أسمع من يدعوه ذو شان فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي برحمة وكرامات وغفران لقد أنسانا هذا ما قبله وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها وترك الاسم إذ في الاسم نوع تمييز فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم قرب الى ترويج الباطل وقبوله عند ذوي العقول السخيفة إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب فالله المستعان(112/180)
191 ... وهذا كثير جدا في أشعار المادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك بالله ويحتجون بأشعار هؤلاء ولم يقتصروا أيضا على طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بل يطلبون مثل ذلك من غيره كما حدث بعض التقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد هذه راية البحر التيار به أستغيث وأستجير وبه أعوذ من النار وقال بعضهم من قصيدة في بعض آلهتهم يا سيدي ويا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر الى أن قال وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انقضى عمري وكف عنا أكف الظالمين اذا امتدت بسوء لأمر مؤلم نكري فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر قال بعض العلماء فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر فان المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا انتهى وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لايخطر على بال وكذلك إذا أصابتهم الشدائد من مرض أو كسوف أو ريح شديدة أو غير ذلك فالولي في ذلك نصب أعينهم والاستغاثة به هي ملاذهم ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام اذا عرفت هذا فقد تقدم ذكر دعاء المسألة(112/181)
192 ... وأما دعاء العبادة فهو عبادة الله تعالى بأنواع العبادات من الصلاة والذبح والنذر والصيام والحج وغيرها خوفا وطمعا يرجو رحمته ويخاف عذابه وان لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار وهو سائل راغب راهب يرغب في حصول مراده ويذهب من فواته وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة وقد فسر قوله تعالى ادعوني أستجب لكم بهذا وهذا قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم وقيل سلوني أعطكم وعلى هذا القول تدل الاحاديث والآثار اذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعو على أن من صرف شيئا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال لا إله الا الله محمد رسول الله صلى وصام اذ شرط الاسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعب الا الله فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله ما أتى بهما حقيقة وان تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا اله الا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الاسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعا ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه و سلم عن كل كلام إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبا إلى طائفة معينة فلو أتيته بكل آية من كتاب الله وكل سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب اليها قال الامام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب الفنون الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد وغيره من التصانيف قال في الكتاب المذكور لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع(112/182)
193 ... إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتي بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى نقله غير واحد مقررين له راضين به منهم الامام أبو الفرج بن الجوزي والامام ابن مفلح صاحب كتاب الفروع وغيرهما وقال شيخ الاسلام في الرسالة السنيه فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الاسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب الى الاسلام والسنة في هذه الازمان أيضا قد يمرق أيضا من الاسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم الآية وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فان الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسله تنهى(112/183)
194 ... ان يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب الخطط في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير الله شرك وقال شيخ الاسلام من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعا نقله عنه غير واحد مقررين له منهم ابن مفلح في الفروع وصاحب الانصاف وصاحب الغاية وصاحب الاقناع وشارحهم وغيرهم ونقله صاحب القواطع في كتابه عن صاحب الفروع قلت وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن دعاء الله عبادة له فيكون صرفه لغير الله شركاء وقال الامام ابن النحاس الشافعي في كتاب الكبائر ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار ويقولون انها تقبل النذر وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو أثرها فان أكثر الجهال يعتقدون إنها تنفع وتضر وتجلب وتدفع وتشفي المرض وترد الغائب إذا نذر لها وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم قلت فصرح رحمه الله أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها أن ذلك شرك وإذا ثبت أنه شرك فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان إذ لا يجوز الاشراك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه كما قال تعالى ولا يأمركم أن(112/184)
195 ... تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وشفاء ذوي الأمراض والعاهات فثبت أن ذلك شرك وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببا لأذنه وإنما السبب لأذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم وندعو لهم ونسأل لهم العافية والمغفرة فعكس المشركون هذا وزاروهم زيادة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله در خليله ابراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وما نجا من أشرك بهذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله(112/185)
196 ... وقال الأمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على البكي وقوله أي قول البكي إن المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة يراد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين قلت هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بعض ذلك والأمر أعظم وأطم من ذلك وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للاجماع على كفر معتقد ذلك وان اراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك وعلى التقديرين تأمله تجده صريحا في كفر من دعى أهل القبور لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك ويقدرون على إجابة سؤاله وقضاء مأموله وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى ان للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة هذا وانه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين على أن ذلك منهم كرامات وقالوا منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيها الأجور قال وهذا(112/186)
197 ... الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة وفي التنزيل ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير الى أن قال الفصل الاول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم إلى أن قال فأما قولهم إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى أإله مع الله ألا له الخلق والأمر لله ملك السموات والأرض ونحوه من الآيات الداله على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله هل من خالق غير الله والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره إلى أن قال فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة قال جل ذكره إنك ميت وإنهم ميتون الله يتوفى الأنفس حين(112/187)
198 ... موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت كل نفس ذائقة الموت كل نفس بما كسبت رهينة وفي الحديث أذا مات ابن آدم انقطع عمله الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان فدل ذلك أن ليس للميت تصرفا في ذاته فضلا عن غيره بحركة وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فاذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة قل أأنتم أعلم أم الله قال وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم كما في قصة مريم بنت عمران وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءإله مع الله قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين وأنه المستغاث لذلك كله وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج(112/188)
199 ... غيره من ملك ونبي وولي قال والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره قال وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرا فقد وقع في وادي جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشى لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن هؤلاء شفعاؤنا عند الله ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ءأتخذ من دونه الهة إن يردن الرحمن بضر لاتغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون فان ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره قال وأما ما قالوه من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين وابن الجوزي وابن تيمية انتهى باختصار(112/189)
200 ... ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء والمقصود ان أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن اصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطىء في ذلك ضال مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد باجماعهم المخالف لكلام الله وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها وأما الإحماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم صلى الله عليه وسلم في قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء رواه مسلم لا ما كان عليه العوام والطغام والخلف المتأخرون الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون قال وقول الله تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فان فعلت فإنك اذا من الظالمين وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ش قال ابن عطية معناه قيل لي ولا تدع فهو عطف على أقم وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت هكذا فأحرى أن يتحذر من ذلك غيره وقال غيره فإن فعلت معناه فإن دعوت من دون الله ما لاينفعك ولا يضرك فكني عنه بالفعل إيجازا فإنك إذا من الظالمين إذا جزاء للشرط(112/190)
201 ... وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إن الشرك لظلم عظيم قلت حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو من دونه مالا ينفعه ولا يضره والمراد به كل ما سوى الله فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وساء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم كما قال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رواه الترمذي وقال حسن صحيح وفي الآية تنبيه على أن المدعو لابد أن يكون مالكا للنفع والضرر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه وليس ذلك إلا لله وحده فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه والآية شاملة لنوعي الدعاء وقوله فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين أي المشركين وهذا كقوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقوله ولقد أوحي اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وقوله في الأنبياء ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب الله فما ظنك بغيرهم فلم يبق شيء يقرب الى الله ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم او وثن أو مال أو غير ذلك من(112/191)
202 ... الاسباب ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر ولهذا قال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير لأنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يجلب الخير إلا هو ما يفتح الله للناس من رحمه فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وهذا ضد ما عليه عباد القبور فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه وأن لهم التصرف المطلق في الملك أي على سبيل الكرامة وهذا فوق شرك كفار العرب وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين الله بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين ذكره المصنف وقوله يصيب به من يشاء من عباده فلا يرده عنه راد لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها فإنه تعالى فعال لما يريد لا يغنبه عنه شفيع ولا غيره بل لا يتكلم أحد عنده إلا باذنه ولا يشفع أحد إلا باذنه ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا(112/192)
203 ... تتذكرون وقوله وهو الغفور الرحيم أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك قال وقوله فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه الآية ش أمر الله تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقا من الأوثان والأصنام وغيرها كما قال في أول الآية إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا قال ابن كثير وهذا أبلغ في الحصر كقوله إياك نعبد وإياك نستعين رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ولهذا قال فابتغوا عند الله الرزق أي لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئا من ذلك فاعبدوه أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروا له أي على ما أنعم عليكم وإليه ترجعون أي فيجازي كل عامل بعمله قلت في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير الله ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور وقال المصنف وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه قال وقوله ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة الآيتين ش حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو(112/193)
204 ... من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة كما قال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقوله وهم عن دعائهم غافلون أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة وإما أموات كالأنبياء والصالحين وإما أصنام وأوثان وقوله وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء أي إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف أحدها أنه لا أضل ممن دعا غير الله الثانية أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه الثالثة أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له الرابعة تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو الخامسة كفر المدعو بتلك العبادة السادسة أن هذه الأمور هي سبب كونه اضل الناس(112/194)
205 ... قال وقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ش يقرر تعالى أنه الاله الواحد الذي لا شريك له ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر لأن القلوب مفطورة على ذلك فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب الى الفطرة وزال ما ينازعها فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى فإذا مس الانسان ضر دعا ربه منبيا اليه ثم اذا خوله نعمة منه ننسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ومثل هذا كثير في القرآن يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد الكاشف للسوء وحده فيكون هو المعبود وحده وكذا قال في هذه الآية أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا اليه والذي لا يكشف ضر المصطرين سواه ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وحده وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء لله كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون فتبين أن من اعتقد في غير الله أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر أو دعاه لذلك فقد اشرك شركا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد القبور(112/195)
206 ... قال وروى الطبراني باسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ش قوله روى الطبراني هو الإمام الحافظ الثقة سليمان بن أحمد ابن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها روى عن النسائي واسحق بن ابراهيم الديري وخلق كثير ومات سنة ستين وثلاثمائة وقد بيض المصنف لاسم الراوي وكأنه والله أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قوله أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين هذا المنافق لم أقف على تسميته ويحتمل أن يكون هو عبدالله بن أبي فانه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك أما أذاهم ينحو ضرب أو زجر فلا نعلم منافقا بهذه الصفة قوله فقال بعضهم أي بعض المؤمنين وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدا وان يكون جماعة والظاهر أنه واحد وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوله قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم بنحو ضربه أو زجره لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله قوله إن لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله قال بعضهم فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور وإنما يستغاث بالله والظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم إرشادهم الى التأدب مع الله في الالفاظ لإن استغاثتهم به(112/196)
207 ... صلى الله عليه وسلم من المنافق من الأمور التي يقدر عليها إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه صلى الله عليه وسلم لجانب التوحيد وتعظيم الله تبارك وتعالى فإذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في الاستغاثة به فيما يقدر عليه فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا الله كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم وقل من يعرف أن ذلك منكر فضلا عن معرفة كونه شركا فإن قلت ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى فاستغاثه الذين من شيعته على الذي من عدوه فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه وظاهر الآية جوازه قيل تحمل الآية على الجواز والحديث على الأدب والاولى والله أعلم وقد تبين بما ذكر في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث واقوال العلماء أن دعا الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستفاثة بغير الله في كشف الضر أو تحويله هو الشرك الاكبر بل هو أكبر انواع الشرك لأن الدعاء مخ العبادة ولأن من خصائص الإلهية إفراد الله بسؤال ذلك إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور ولأن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع مله مما سواه وذلك هو خلاصة التوحيد وهو انقطاع الأمل مما سوى الله فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد ساوى بينه وبين الله وذلك هو الشرك ولهذا يقول المشركون لآلهتم وهم في الحيم ج تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ولكن لعباد القبور على هذا شبهات ذكر المصنف كثيرا منها في كشف الشبهات ونحن نذكر هنا ما(112/197)
208 ... لم يذكره فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في جامعه حيث قال حدثنا محمود بن غيلان ثنا عثمان بن عمرو ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادع الله أن يعافيني قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه فأمره أن يتوضا ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في قال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر وهو غير الخطمي هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك وفي بعض الروايات يا محمد إني أتوجه إلى آخره وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون وليست عند هؤلاء الأئمة قالوا فلو كان دعاء غير الله شركا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله والجواب من وجوه الأول أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي فإن في ثبوته نظرا لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم لكن الترمذي أحسن نقدا كما نص على ذلك الأئمة ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي وإذا كان غيره فهو لا يعرف ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة وهذا فيه نظر فقد قال عاصم بن علي سمعت شعبة يقول لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة وفي نسخة عن ثلاثين ذكره الحافظ العراقي وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله و يتوقف الاحتجاج به على ثبوب صحته الثاني أنه في غير محل النزاع فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وتوجهه بدعائه مع حضوره من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم والتوكل عليهم(112/198)
209 ... والاتجاء إليهم في الشدائد والنذرو والذبح لهم وخاطبهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة يا سيدي يا مولاي افعل في كذا فحديث الأعمى شيء ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر فليس في حديث الأعمى شيء غير انه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ويشفع له فهو توسل بدعائه وشفاعته ولهذا قال في آخره اللهم فشفعه في فعلم أنه شفع له وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته فهذا من أعظم الأدلة أن دعاء غير الله شرك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه الا بدعاء الله له فأين هذا من تلك الطوام والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله أما أن تأتي شخصا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى فالحديث سواء كان صحيحا او لا وسواء ثبت قوله فيه يا محمد او لا لا يدل على سؤال الغائب ولا على شؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات ومن ادعى ذلك فهو مفتر على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه وهو أن يدعو له وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه فهو لم يسأل منه وإنما سأل من الله به سواء كان متوجها بدعائه كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح أو كان متوجها بذاته على قول ضعيف فإن التوجه بذوات المخلوقين والإقسام بهم على الله بدعة منكرة لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله(112/199)
إلا به وقال أبو يوسف أكره بحق فلان
210 ... وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام وقال القدوري المسألة بحق المخلوق لا تجوز فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق واختاره العز بن عبدالسلام إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إن ثبت الحديث يشير إلى حديث الأعمى وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لابذاته وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في مستدركه فأبعد النجة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال أسألك بحق محمد إلا غفرت لي الحديث وهو حديث ضعيف بل موضوع لأنه مخالف للقرآن قال تعالى قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فهذا هو الذي قاله آدم قال الذهبي في هذا الحديث أظنه موضوعا وعبدالرحمن بن زيد متفق على ضعفه قال ابن معين ليس حديثه بشيء الثالث أن قوله يا محمد إني أتوجه الخ لم تثبت في اكثر الروايات وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير الله لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه ولا إنكار في ذلك فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون واحتجوا ايضا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في عمل اليوم والليلة فقال ابن السني حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمر وبن شقيق ثنا معروف بن حسان ثنا أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فليناد يا عباد الله احبسوا هكذا في كتاب ابن السني وفي الجامع الصغير فإن لله عز وجل في الأرض(112/200)
211 ... حاضرا سيحبسه عليكم والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي فقوله في الأصل ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ قال ابن عدي منكر الحديث وقال الذهبي في الميزان قال ابن عدي منكر الحديث قد روى عن عمرو بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة وقال السيوطي حديث ضعيف وأقول بل هو باطل إذ كيف يكون عند سعيد عن قتاده ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان واسمعيل بن علية وأبي أسامة وخالد ابن الحارث وأبي خالد الأحمر وسفيان وشعبة وعبدالوارث وابن المبارك والأنصاري وغندر وابن أبي عدي ونحوهم حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث فهذا من أقوى الأدلة على وضعه وبتقدير ثبوته لا دليل فيه لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم واحتجوا أيضا بحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير فقال حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف أئت الميضأة فتوضأ ثم أئت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي الحديث والجواب من وجوه الأول أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول قال الذهبي طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد(112/201)
212 ... ابن أبي مريم ويحيى بن بكير وأصبغ بن الفرج وعنه الطبراني توفي سنة اثنتين و تسعين ومائتين ولم يذكر فيه حرجا ولا تعديلا فهو إذا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة الثاني قوله عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبدالرحمن وزمعة بن صالح وابن عيينة وطلحة بن عمرو الحضرمي وابن جريج وعمر بن قيس ومسلم بن خالد الزنجي وليس فيهم من يكنى ابا سعيد فتبين أنه مجهول الثالث إن قلنا بتقدير ثبوته فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه فأين هذا من دعاء الميت فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص وبين السؤال به فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله ولكن توجه على الله بذاته أو بدعائه وأما في سؤاله نفسه مالا يقدر عليه إلا الله فقد جعله شريكا لله في عبادة الدعاء فليس في حديث الأعمى وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه إلا قوله يا محمد إني أتوجه بك وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه إنما فيه مخاطبته مستحضرا له في ذهنه كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الرابع أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد الى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح ولا دليل فيه اصلا على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا في حياته فيما لا يقدر عليه ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقا لأن هذا قياس مع وجود الفارق وهو باطل(112/202)
213 ... الإجماع إذا ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد فلا يجوز قياس غيره عليه وأيضا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه فبطل قياسهم بنفس مذهبهم هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب المعروفة وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم كقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه قال ابن القيم وهو من وضع المشركين عباد الأوثان باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا الآية ش المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله أنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام فكل من دعي من دون الله فهذه حاله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته وقال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا(112/203)
214 ... ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الملائكة أنه يتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم لها أن قوله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى عبادا لا تخلق شيئا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام فالمراد به ما ذكرناه وقوله ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون أي ويشركون به ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر ومن هذه حاله فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها معبودا وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرا ولا ينصرون أنفسهم وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون الله قال وقوله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية ش حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره انه تعالى يخبر عن حال(112/204)
215 ... المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك وسماع الدعاء والقدرة على استجابته فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوا فكيف اذا عدمت كلها فنفى عنهم الملك بقوله ما يملكون من قطمير قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة القطمير اللفافة التي تكون على نواة التمر أي ولا يملكون من السموات والأرض شيئا ولا بمقدار هذا القطمير كما قال ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآية فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون الله ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد فلعل المشرك يقول هذا في الأصنام أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون فنفى سبحانه ذلك بقوله ولو سمعوا ما استجابوا لكم أي لا يقدرون على ما تطلبون منهم وما خص تعالى الأصنام بل عم جميع من يدعى من دونه ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة وقوله ويوم القيامة(112/205)
216 ... يكفرون بشرككم كقوله واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وهذا نص صريح على ان من دعا غير الله فقد أشرك بشرطه وان المدعوين يكفرون به يوم القيامة ويتبرؤون منهم كقوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فهل على كلام رب العزة استدراك ولهذا قال ولا ينبئك مثل خبير أي ولا يخبرك بعواقب الامور ومآلها وما تصير اليه مثل خبير بها قال قتادة يعني نفسه تبارك وتعالى فإنه أخبر بالواقع لا محالة قال وفي الصحيح عن أنس قال شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس به ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن اسحق في المغازي حدثني حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم الى ربهم فأنزل الله الآية قوله شج النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو السعادات الشج في الرأس خاصة في الأصل وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه ثم استعمل في غيره من الأعضاء وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي(112/206)
217 ... وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته السفلى وأن عبدالله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته وأن عبدالله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال له لن تمسك النار وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال رمى عبدالله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته فقال خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة قال القرطبي والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء وهي كل سن بعد ثنية قال النووي وللانسان أربع رباعيات قال الحافظ والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها قلت فظهر بهذا أن قول بعضهم إنه شج في رأسه فيه نظر قال النووي وفي هذا وقوع الاسقام والابتلاء بالانبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم قال القرطبي وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم قوله يوم أحد جبل معروف إلى الآن كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت اليه قوله فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس وكسروا رباعيته وأدموا وجهه(112/207)
218 ... قوله فأنزل الله ليس لك من الامر شيء قال ابن عطية كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم فقيل له بسبب ذلك ليس لك من الأمر شيء أي عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء لربك وقال غيره المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور بانذارهم وجهادهم فعلى هذا يكون قوله ليس لك من الأمر شيء اعتراض المعطوف والمعطوف عليه وقال ابن اسحق أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم قال وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيره من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله ليس لك من شيء في رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله وفيه أي في الصحيح والمراد به صحيح البخاري ورواه النسائي قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب صحابي جليل من عباد الصحابة شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها قوله إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد قوله اللهم العن فلانا وفلانا قال أبو السعادات أصل اللعن(112/208)
219 ... الطرد والابعاد من الله ومن الخلق السب و الدعاء قلت الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن لا مطلق السب والشتم قوله فلانا وفلانا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة وأن ذلك لا يضر الصلاة قوله بعد ما يقول سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات اي أجاب حمده وتقبله وقال السهيلي مفعول سمع محذوف لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهو الاستجابة لمن حمده وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ما معناه عدى سمع الله لمن حمده باللام لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك وإنما هو مضمن قوله ربنا ولك الحمد في بعض روايات البخاري باسقاط الواو قال النووي لا ترجيح لأحداهما على الأخرى وقال ابن دقيق العيد كأن إثباتها دال على معنى زائد لأنه يكون التقدير مثلا ربنا استجب ولك الحمد فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر قال شيخ الاسلام والحمد ضد الذم والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له وكذا قال ابن القيم وفرق بينه وبين المدح بأن الاخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال الحمد(112/209)
220 ... لله او قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف وخالف في ذلك مالك وأبو جنيفة فقالا يقتصر على قول سمع الله لمن حمده قوله وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام إنما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم رؤساء المشركين يوم أحد والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هم وابو سفيان ومع ذلك فما استجيب له فيهم بل أنزل الله عليه ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فتاب الله عليهم وآمنوا مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار منها غزوهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في بلاده وشجهم له وكسر رباعيته وقتلهم بني عمهم المؤمنين وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين وإعلانهم بشركهم وكفرهم ومع هذا كله لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم عن نفسه ولا عن أصحابه كما قال تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل اني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته بل لجأ صلى الله عليه وسلم الى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم ودعا عليهم صلى الله عليه وسلم في الصلاة المكتوبة جهرا وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم بل تاب عليهم وآمنوا فلو كان عنده صلى الله عليه وسلم من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة ولكن الأمر كما قال تعالى هذا(112/210)
221 ... بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم وينصرون من لاذ بحماهم ويدعونهم برا وبحرا في غيبتهم وحضرتهم قال وفيه عن أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين قال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتي لا أغني عنك من الله شيئا ش قوله وفيه أي في صحيح البخاري قوله عن أبي هريرة اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولا صحح النووي أن اسمه عبدالرحمن بن صخر كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسميت في الاسلام عبد الرحمن وقال غيره اسمه عبدالله بن عمرو وقيل ابن عامر وقال ابن الكلبي اسمه عمير بن عامر ويقال كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وكناه أبا هريرة وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عبدالله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم وعلمائهم حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة قوله قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من رواية ابن عباس صعد النبي(112/211)
222 ... صلى الله عليه وسلم على الصفا قوله حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين عشيرة الرجل هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته والأقربين أي الأقرب فالأقرب منهم لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة الآية وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له من ابر قال أمك قال ثم من قال ثم أباك ثم أختك وأخاك ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد والطاعة له ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف ولذلك أمر بانذارهم خاصة وقد أمره الله أيضا بالنذارة العامة كما قال لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وقال لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ولا تنافي بينهما لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة قوله يا معشر قريش المعشر كمسكن الجماعة قوله أو كلمة نحوها هو بنصب كلمة على أنه معطوف على ما قبله أي أو قال كلمة نحو قوله يا معشر قريش أي بمعناها قوله اشتروا أنفسكم أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وعدم الإشراك به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر فإن جميع ذلك ثمن النجاة والخلاص من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب وترك الأسباب فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب ودفع بقوله لا أغني عنكم من الله شيئا ما عساه أن يتوهم بعضهم أنه يغني عنهم من الله شيئا(112/212)
223 ... بشفاعته فإذا كان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه كما قال تعالى قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فكيف يملك لغيره نفعا أو ضرا أو يدفع عنه عذاب الله وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض العصاة فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم لا أنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء وفي صحيح البخاري بعد قوله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا فلعل المصنف اختصرها قوله يا عباس بن عبدالمطلب بنصب ابن و يجوز في عباس الرفع والنصب وكذا القول في قوله ويا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قوله سليني من مالي ما شئت في رواية مسلم عن عائشة قالت لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبدالمطلب سلوني من مالي ما شئتم فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله وإنما الذي يقرب إلى الله ويدخل الجنة وينجي من النار برحمة الله هو طاعة الله وأما ما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم كما قال سلوني مالي ما شئتم وكما قال ألا إن لكم رحما سأبلها ببلالها رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وهو عند مسلم في حديث آخر فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته وآمن الانسان أنه لا يقول إلا الحق ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من(112/213)
224 ... الانبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب البردة فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم تبين له التوحيد وعرف غربة الدين فأين هذا من قول صاحب البردة والبرعي وأضرابهما من المادحين له صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارا ويبين اختصاصه بالخالق تعالى وتقدس كما قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها وكلام نبيها لوساوس صدرها وما ألقاه الشيطان في نفوسها ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين وتعظيمهم ولعمر الله ان تبرئتهم من هذا التعظيم والمحبة هوالتعظيم لهم والمحبة وهوالواجب المتعين وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في صورة بغض النبي صلى الله عليه وسلم وبغض الصالحين والتنقص بهم وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى وبخسوه حقه وتنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين بذلك أما تنقصهم للخالق تعالى فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر وأما بخسهم حقه تعالى فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى فإذا جعلوا شيئا منها لغيره فقد بخسوه حقه(112/214)
225 ... وأما تنقصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللصالحين فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن قاله المصنف وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئا كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئا وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وفيه أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل طاعته ومتابعته في محياه ومماته كما قال صلى الله عليه وسلم ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين رواه مسلم وروى عبد بن حميد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع أهل بيته قبل موته فقال ألا إن لي عملي ولكم عملكم ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا ألا إن أوليائي منكم المتقون ألا لا إعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة باب قول الله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا(112/215)
226 ... الحق وهو العلي الكبير ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى وهيبتهم منه وخشيتهم له فكيف يدعوهم أحد من دون الله وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم وقد قال تعالى فيهم وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون فهذه حالهم و صفاتهم وليس لهم من الربوبية والإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له وكذا قال في هذه الآية حتى إذا فزع عن قلوبهم أي زال الفزع عنها قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبدالرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله لا يملكون وفي أموالهم وماله منهم وحتى تدل على الغاية وليس في الكلام ما يدل على أن غاية له فقال ابن عطية في الكلام حذف يدل عليه الظاهر كأنه قال ولاهم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون أبدا يعني منقادون حتى إذا فزع عن قلوبهم والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره قال ابن كثير وهو الحق الذي لامرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار وقال أبو حيان تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله(112/216)
227 ... حتى إذا فزع عن قلوبهم إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي الى جبريل يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة قال وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ومن يشعر أن الملائكة مشار اليهم من أول قوله الذين زعمتم لم تتصل له هذه الآية بما قبلها وقال ابن كثير هذا مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما وقوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا أخذوا يتساءلون فيقولون ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق قوله وهو العلي أي العالي فهو فوق كل شيء فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السموات كما قال الرحمن على العرش استوى قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري(112/217)
228 ... قوله إذا قضى الله الأمر في السماء أي إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون كما روى سعيد بن مصنور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود قال إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول الا حقا قوله ضربت الملائكة بأجنحتها حضعانا لقوله أي لقول الله تعالى قال الحافظ خضعانا بفتحتين من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين قوله كأنه سلسلة على صفوان أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس قال الحافظ هو مثل قوله في بدء الوحي صلصلة كصلصلة الجرس وهو صوت الملك بالوحي وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان الحديث قوله ينفذهم ذلك هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول والضمير في ينفذهم عائد على الملائكة اي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة أي يلقيه أليهم وقيل وهو أظهر أي يخلص ذلك القول ويمضى في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه فلا ينزل على أهل سماء الا صعقوا وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعا إذا تلكم الله بالوحي سمع أهل السماء(112/218)
229 ... الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل الحديث قوله حى إذا فزع عن قلوبهم أي أزيل عنها الخوف والغشي قوله قالوا ماذا قال ربكم أي قال الملائكة بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق علموا أن الله لا يقول إلا حقا قوله فيسمعها مسترق السمع أي يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله كما قال تعالى وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب قوله وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض وسفيان هو بن عيينة أو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بأخره وربما دلس لكن عن الثقات مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة قوله فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء(112/219)
230 ... قوله وبدد أي فرق بين أصابعه قوله فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته أي يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته ثم يلقيها الآخر من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن وحينئذ يقع الرجم قوله فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها الشهاب هو النجم الذي يرمى به أي ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمى به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي ابن حسين عن أبن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من اصحابه فرمى بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر الى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه قال معمر قلت للزهري أكان يرمى بها في الجاهلية قال نعم قال أرأيت وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والاعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس وعلى حسب كونها في البروج الموافقة أو المنافرة ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها(112/220)
231 ... لما خلقت له كما قال تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين قوله فيكذب معها مائة كذبة أي يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة ويخبر بالجميع وليه من الانس فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق وما خلط فيه فهو كذب ومع هذا فيفتتن الانس بالانس الساحر والكاهن ويفتتنان بوليهما من الشياطين ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء قوله فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا هكذا بيض المصنف في هذا الموضع ولفظ الحديث في الصحيح فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقا وتلك الكلمة من الحق كما في الصحيح عن عائشة قلت يا رسول الله إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا قال تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة وفيه قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ذكره المصنف وفيه أن الشيء اذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم قوله فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من المساء أي يستدلون على صدقها(112/221)
232 ... قال وعن النواس بن سمعان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل ش قوله عن النواس بن سمعان بكسر السين أي ابن خالد الكلابي ويقال الأنصاري صحابي ويقال إن أباه صحابي أيضا قال أبو حاتم الرازي سكن الشام قوله إذا أراد الله أن يوحي بالأمر الخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى كما يدل عليه عموم اللفظ ويدل على ذلك أيضا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة قوله أخذت السموات منه رجفة هو برفع رجفة على أنه فاعل أي أصاب السموات منه رجفة أي ارتجفت كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا قوله أو قال رعدة شديدة يعني أن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة أو قال رعدة وهو بفتح الراء بمعنى الأول قوله خوفا من الله عز وجل لا ينكر أن السموات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله عز وجل فقد قال تعالى تسبح له السموات السبع(112/222)
233 ... والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وقال تعالى فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقال تعالى تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقال تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان وهو حديث مشهور في المسانيد وكذلك في الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر ومثل هذا كثير قوله صعقوا وخروا لله سجدا أي يقع منهم الأمران الصعق وهو الغشي والسجود والله أعلم أيهما قبل الآخر فإن الواو لا تقتضي ترتيبا قوله فيكون أول من يرفع رأسه جبريل معنى جبريل عبدالله كما روى ابن جرير وأبو الشيخ الأصبهاني عن علي بن حسين قال اسم جبريل عبدالله واسم ميكائيل عبيدالله واسرافيل عبدالرحمن وكل شيء راجع الى إيل فهو معبد لله عز وجل وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين قال أبو صالح في قوله عند ذي العرش مكين قال جبريل يدخل في سعبن حجابا من نور بغير إذن وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة منها ما رواه أحمد(112/223)
234 ... باسناد صصحيح عن عبدالله بن مسعود قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت والله به عليم قوله ثم يمر جبريل على الملائكة إلى آخره معناه ظاهر فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم ممن عبد من دون الله وشدة خشيتهم من الله وهيبتهم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله فقال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وفي ضمن ذلك النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة أو غيرها كما قال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقربون عند الله فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعا ولا يملكون ضرا ولا نفعا أولى بالبطلان إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين وقال والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرةر وهم مستكبرون(112/224)
235 ... قوله ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل قد بيض المصنف رحمه الله بعد هذا ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه وتمامه إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض ورواه ابن جرير وابن خزيمة وابن أبي حاتم والطبراني وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافا للجهمية وإثبات الصوت خلافا لهم وللأشاعرة باب الشفاعة لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة كما قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها وأخبر أنه شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع كما قال تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفيه دنيا وأخرى وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء لا يشفع ابتداء(112/225)
236 ... كما يظنه أعداء الله فإن قلت اذا كان من اتخذ شفيعا عند الله إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل اليه بالشفعاء فلما كان هذا القدر شركا قيل قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى فكم من يقصد التعظيم لشخص ينقصه بتعظيمه ولهذا قيل في المثل المشهور يضر الصديق الجاهل ولا يضر العدو العاقل فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية وتنقص للعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين إنهم ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندا أو شفيعا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته ويدعوه ويذبح له وينذر وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلا وضلالا فيقولون وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال ولا قالوا إن آلهتكم خلقت السموات والأرض وانها تحيي وتميت و إنما ساووهم به في المحبة والتعظيم والعبادة كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام وإنما كان ذلك هضما لحق الربوبيه وتنقصا لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين لأن المتخذ للشفعاء والأنداد إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو معين وهذا أعظم التنقص لمن هو(112/226)
237 ... غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم أو لا يكفي وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده كما يشفع عند المخلوق أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك أو يظن أن للشفيع عليه حقا فهو يقسم عليه بحقه ويتوسل إليه بذلك الشفيع كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا تمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ذكر معناه ابن القيم فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه فقال ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون فإن قلت إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء أما من دعاهم للشفاعة فقط فهو لم يعبدهم فلا يكون ذلك شركا قيل مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك والشرك لازم له كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم فإن الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة فإذا دعاهم للشفاعة فقد عبدهم وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى قال وقول الله عز وجل وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع(112/227)
238 ... ش الإنذار هو الاعلام بموضع المخافة وقوله به قال ابن عباس بالقرآن وقوله الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أي أنذر يا محمد بالقرآن الذي هم من خشية ربهم مشفقون الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وهم المؤمنون كما روي ذلك عن ابن عباس والسدي وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب إنما عاتب الذين يعقلون فقال وأنذر به الذين يخافون أن يحشرون إلى ربهم أي وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية فإنهم المقصودون والمنظور اليهم لا أصحاب التجمل والسيادة فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم وقوله ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع قال الزجاج موضع ليس نصب على الحال كأنه قال متخلين من ولي وشفيع والعامل فيه يخافون وقال ابن كثير ليس لهم من دونه يؤمئذ ولي ولا شفيع من عذابه إن أرادهم به لعلهم يتقون فيعلمون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة قلت فنفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم ولي أو شفيع من دون الله كما هو دين المشركين فمن اتخذ من دون الله شفيعا فليس من المؤمنين ولا تحصل له الشفاعة وليس في الآية دليل على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باذن الله كما ادعته المعتزلة بل فيها دليل على نفي اتخاذ الشفعاء من المؤمنين وعلى نفيها بغير إذن الله ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع كما قال ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون قال وقوله قل لله الشفاعة جميعا(112/228)
239 ... ش هكذا أوردها المصنف ونتكلم عليها وعلى الآية التي قبلها ليتضح المعنى قال الله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم اليه ترجعون فقوله أم اتخذوا أي بل اتخذوا اي المشركون والهمزة للانكار من دون الله شفعاء أي أتشفع لهم عند الله بزعمهم كما قال ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية وقال والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ان الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم وكفرهم بذلك وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون فهذا هو مقصود المشركين ممن عبدوهم وهو الشفاعة لهم عند الله قوله من دون الله أي من دون إذنه وأمره والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأن يكون المشفوع له مرتضى وههنا الشرطان مفقودان فإن الله سبحانه لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لمنعه وغضبه قوله قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أي أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم أو أموات كذلك حتى ولا يملكون الشفاعة كما قال قل لله الشفاعة(112/229)
240 ... جميعا أي هو مالكها كلها فليس لمن تدعونهم منها شيء قال البيضاوي لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها وقوله له ملك السموات والارض تفرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بانه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه فاندرج في ذلك ملك الشفاعة فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائن من كان وقوله ثم اليه ترجعون أي فتعلمون أنهم لا يشفعون ويخيب سعيكم في عبادتهم بل يكونون عليكم ضدا ويتبرؤون من عبادتكم كما قال تعالى كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ان كنا عن عبادتكم لغافلين قال وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم وبين عظيم ملكوته وكبريائه وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام كقوله لا يتكلمون(112/230)
241 ... إلا لمن أذن له الرحمن وقوله يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه قال ابن جرير في هذه الآية نزلت لما قال الكفار ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفي فقال الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم والاذن راجع الى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم اذا قيل له اشفع تشفع وكذلك قاله غير واحد من المفسرين قال وقوله وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن ياذن الله لمن يشاء ويرضى ش قال أبو حيان كم خبرية ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر لا تغني والغناء جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغني وكم لفظها مفرد ومعناها جمع وإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله وررضاه أن يرضاه أهلا للشفاعة فكيف تشفع الاصنام لمن عبدها قلت في هذه الآيات من الرد على من عبد الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها مالا يخفى لأنهم إذا كلوا لا يشفعون إلا بإذن من الله ابتداء فلأي معنى يدعون ويعبدون وأيضا فإن الله لا يأذن إلا لمن ارتضى قوله وعمله وهو الموحد لا المشرك كما قال يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا والله لا يرتضي الا التوحيد كما قال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال النبي صلى الله عليه وسلم أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فلم يقل أسعد الناس بشفاعتي من(112/231)
242 ... دعاني فإن قال المشرك أنا أعلم أنهم لا يشفعون إلا بإذنه لكن أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي قيل فإن الله لم يجعل الشرك به ودعاء غيره سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لغضبه ولهذا نهى عن دعاء غيره في غير آية كقوله ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فانك إذا من الظالمين فتبين أن دعاء الصالحين من الملائكة والأنبياء وغيرهم شرك كما كان المشركون الأولون يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله فأنكرالله عليهم ذلك وأخبر أنه لا يرضاه ولا يأمر به كما قال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وقال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب الآية قال ابن كثير تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدنيا فتقول الملائكة تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا الآية روى سعيد ابن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير عن ابن مسعود في الآية كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن فأسلم نفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة كلاهما بالياء وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية(112/232)
243 ... لكان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرا وفي رواية عنه عندهما في قوله فلا يملكون كشف الضر عنكم قال عيسى وأمه وعزير وقال تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون إلى قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية قال ابن اسحق لما ذكر قصة ابن الزبعرى ومخاصمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قال وأنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآيتين أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على أمر الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان الآيات وروى ابن أبي حاتم عن الزهري قال نزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من السب والشتم والشر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذيبهم واحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا(112/233)
244 ... قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآيات فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بعداوتهم وضلالتهم للمسلمين واشتدوا عليه وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكرها أيضا أهل السير وغيرهم وأصلها في الصحيحين والمقصود منها قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي الملائكة على قول وعلى آخر هي الأصنام ولا تنافي بينهما فإن المقصود بعبادتهم الأصنام الملائكة والصالحين كما تقدم عن البيضاوي فلما سمع المشركون هذا الكلام المقتضى لجواز عبادة الملائكة رجاء شفاعتهم عند الله ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فرضوا عنه وسجدوا معه وحكموا بأنه قد وافقهم على دينهم من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة حتى طارت الكلمة كل مطار وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت أن الفارق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مسألة الشفاعة لأنهم يقولون نريد من الملائكة والأصنام المصورة على صورهم بزعمهم أن يشفعوا لنا عند الله والرسول صلى الله عليه وسلم قد(112/234)
245 ... أتاهم بإبطال ذلك والنهي عنه وتكفير من دان به وتضليلهم وتسفيه عقولهم ولم يرخص لهم في سؤال الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا الأصنام بل أتاهم بقوله تعالى قل لله الشفاعة جميعا وقوله أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وهذا كثير جدا لمن تتبعه والمقصود أن المشركين الأولين يدعون الملائكة والصالحين ليشفعوا لهم عند الله كما تشهد به نصوص القرآن وكتب التفسير والسير والآثار طافحة بذلك ويكفي العاقل المنصف قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون قال وقوله قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآيتين ش هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها قال ابن القيم في الكلام عليها وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت فالمشرك إنما يتخذ معبدوه لما يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع إما مالك لما يريد عابده منه فإن لم يكن مالكا كان(112/235)
246 ... شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه قال فهو الذي يأذن للشافع وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما دعا به القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان و تجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا فالله المستعان وقال(112/236)
247 ... الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى وما أعز من يخلص من هذا بل ما اعز من يعادي من أنكره والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكره الله عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله تعالى أن يشفع له فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة فيهم لمن يشاء حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن الله تعالى له صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله والشفاعة التي أثبتها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله تعالى هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض مقصودهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون انتهى ولكن تأمل الآية كيف أمرهم تعالى بدعاء الملائكة أمر تعجيز والمراد بيان أنهم لا يملكون شيئا فلا يدعون لا لشفاعة ولا غيرها ثم أخبر أنهم هم الذين اتخذوهم بزعمهم شفعاء فنسبه إلى زعمهم وإفكهم الذي ابتدعوه من غير برهان ولا حجة من الله وهذه الآية نزلت في دعوة الملائكة ودخول غيرهم فيها من باب الأولى كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله وما له منهم من ظهير يقول من عون من الملائكة وكما يدل عليه قوله تعالى حتى(112/237)
248 ... إذا فزع عن قلوبهم كما تقدم فإذا كان اتخاذ الملائكة شفعاء من دون الله شركا فكيف باتخاذ الأموات كما يفعله عباد القبور أم كيف باتخاذ الفجار والفساق إخوان الشياطين من المجاذيب الذين جذبهم إبليس إلى جانبه وطاعته شفعاء وأعظم من ذلك اعتقاد الربوبية في هؤلاء الملاعين مع ما يشاهده الناس منهم من الفجور وأنواع الفسوق وترك الصلوات وفعل المنكرات والمشي في الأسواق عراة كما قال بعض المتأخرين كقوم عراة في ذرى مصر ما على عورة منهم هناك ثياب يدورون فيها كاشفين لعورة تواتر هذا لا يقال كذاب يعدونهم في مصر هم فضلاءهم دعاؤهم فيما يرون مجاب ومن العجب أنهم لم يأتوا بشيء يدل على كون هؤلاء الشياطين من جملة المسلمين فضلا عن كونهم أولياء فضلا عن كونهم يدعون ويستغاث بهم إلا بشيء من المخاريق والسحر والشعبذة يدعون أن لهم كرامات وأنهم أولياء لما ليظهرونه من المخاريق واعلم أن الضلال والكفر إنما استولى على أكثر المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإحسان الظن بمن سحرهم ودعا إلى نفسه واقتصارهم على القوانين والدعاوي والأوضاع التي وضعوها لأنفسهم وإلا فلو قرؤوا كتاب الله وعلموا بما فيه ورجعوا عند الاختلاف إليه لوجدوا فيه الهدى والشفاء والنور ولكن نبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون وتقدم الكلام على بقية الآية(112/238)
249 ... قال المؤلف قال أبو العباس نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك وقل يسمع واسأل تعط واشفع تشفع وقال له أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فقتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولاتكون لمن أشرك بالله وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى كلامه ش قوله قال أبو العباس هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام بن تيمية الإمام المشهور صاحب المصنفات شهرته وإمامته في علوم الإسلام وتفننه تغني عن الإطناب في وصفه قال الذهبي لم يأت قبله بخمس مائة سنة مثله وفي رواية بأبع مائة وقال أيضا لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثله وما رأى بعينيه مثل نفسه رحمه الله وقال ابن دقيق العيد لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء وبالجملة فما أتى بعد عصر الإمام أحمد له نظير وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وسبع مئة(112/239)
250 ... قوله نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون أي ان الله تعالى نفى في الآية المذكورة قبل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله من الملك والشركة فيه والمعاونة والشفاعة فهذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون قوله فنفى أن يكون لغيره ملك وذلك في قوله تعالى لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يدعى قوله أو قسط منه أي من الملك والقسط بكسر القاف هو النصيب من الشيء وذلك في قوله وما لهم فيهما من شرك أي ما لمن تدعون من الملائكة وغيرهم فها أي في السموات والأرض من شرك ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعى من دون الله قوله أو أن يكون عونا لله وذلك في قوله وما لهم منهم من ظهير أي ما لله من تدعونهم عوين قوله ولم يبق إلا الشفاعة فتبين أنها لا تنفع إلا لمن أدن له الرب الخ جملة الشروط التي لا بد وان يكون أحدها في المدعو أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه الاول الملك فنفاه بقوله لايملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض(112/240)
251 ... الثاني إذا لم يكن مالكا فيكون شريكا للمالك فنفاه بقوله وما لهم فيهما من شرك الثالث إذا لم يكن مالكا ولا شريكا للمالك فيكون عونا ووزيرا فنفاه بقوله وما له منهم من ظهير الرابع إذا لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عوينا فيكون شفيعا فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة كما قال تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا قوله فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن يعني أن الشفاعة التي يطلبها المشركون من الشفعاء والأنبياء من دون الله منتفية دنيا وأخرى كما قال تعالى عن مؤمن يس أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون(112/241)
252 ... لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وقال تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتكم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذه حال كل من دعي من دون الله لشفاعة أو غيرها في الدنيا والآخرة قوله وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا إلى آخره هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال ارفع محمد قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود اليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد قل يسمع فتعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله(112/242)
253 ... الله أن يدعين ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع راسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن الحديث فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يشفع إلا بعد الإذن في الشفاعة وفي المشفوع فيهم كما قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قوله وقال أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك إلى آخره هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه وفي رواية خالصا مخلصا من قلبه أو نفسه رواه أحمد من طريق آخر وصححه ابن حبان وفيه وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه قال شيخ الإسلام فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا وقال في الحديث الصحيح من سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي فعلم أنما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها مالا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا لسؤال الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه فذلك لا ينال به خير لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح فإنه يضرهم ولا ينفعهم ونظير هذا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد فبحسب توحيد العبد لربه(112/243)
254 ... وإخلاصه دينه لله تعالى يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها وقال ابن القيم ما معناه تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده إحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة الا من رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وفي الفصل الثاني ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها انتهى ملخصا وقال الحافظ المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة هي التي يقول صلى الله عليه وسلم أمتي أمتي فيقال له أخرج من النار من كان في قلبه وزن كذا من الإيمان فأسعد الناس بهذه الشفاعة حتى يكن إيمانه أكمل ممن دونه وأما الشفاعة العظمى فالاراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة وهم الذين يدخلونها بغير حساب ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط وأعم أن شفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع كما ذكره ابن القيم الأول الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي اليه فيقول أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى(112/244)
255 ... الانبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد الثاني شفاعته لأهل الجنة في دخولها وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه الثالث شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار فيشفع لهم ان لا يدخلوها الرابع شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم والاحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال الخامس شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجتهم وهذه مما لم ينازع فيها أحد السادس شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده قوله وحقيقته أي حقيقة الأمر أي أمر الشفاعة أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فهذا هو حقيقة الشفاعة لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء فيدخله الجنة وينجيه من النار ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم وذلك أنهم قالوا إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك(112/245)
256 ... الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكل ما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له قال ابن القيم وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وقالوا إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت الأصنام المجسدة لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله قالوا فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته اليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم واباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم واوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى(112/246)
257 ... آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم انتهى قوله وينال المقام المحمود أي المقام الذي يحمده فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى قال ابن جرير قال أكثر أهل التأويل ذلك المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم الشفاعة للناس ليريحهم ربهم مما هم فيه من شدة ذلك اليوم وقال ابن عباس المقام المحمود مقام الشفاعة وكذا قال ابن ابي نجيح عن مجاهد وقال قتادة هو أول من تنشق عنه الارض وأول شافع وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود قوله فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك يعني أن الشفاعة التي نفاها الله في القرآن هي الشفاعة التي فيها شرك بالله من دعاء غير الله وعبادته ليشفع له عند الله فإن الله سبحانه نفى هذه الشفاعة وأخبر أنها لا تكون أبدا بل أخبر أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للمؤمنين ولي أو شفيع من دونه مع أن الشفاعة يوم القيامة لهم بإذنه لا للمشركين كما قال تعالى يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا فنفى سبحانه أن تنفع الشفاعة أحدا الا من أذن له الرحمن ورضي قوله وعمله وهو المؤمن المخلص وأما المشرك الداعي لغير الله ليشفع له فلا تنفعه الشفاعة ولا يؤذن لأحد في الشفاعة فيه كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون قوله وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره تقدم ما يتعلق بذلك والله أعلم(112/247)
258 ... باب قول الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت الآية أراد المصنف رحمه الله الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وهداية القلوب وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك ويحتجون على ذلك بقوله لهم ما يشاؤون عند ربهم يقول قائلهم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فإذا عرف الانسان معنى هذه الآية ومن نزلت فيه تبين له بطلان قولهم وفساد شركهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأقربهم من الله وأعظمهم جاها عنده ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه ثم استغفر له بعد موته فلم يغفر له حتى نهاه الله عن ذلك ففي هذا أعظم البيان وأوضح البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرا ولا نفعا ولا عطاء ولا منعا وأن الأمر كله بيد الله فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويكشف الضر عمن يشاء ويصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة وهو بكل شيء عليم ولو كان عنده صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس به وأولاهم(112/248)
259 ... من قام معه أتم القيام ونصره وأحاطه من بلوغه ثمان سنين وإلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر بل قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي الآية فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها والإيمان بذلك البيت وما أشبههه ولكن قاتل الله أعداءه الذين جاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه وأما معنى الآية فقال ابن كثير يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لا تهدي من أحببت أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقال وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهذه الآية أحض من هذا كله فإنه قال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين أي أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في حقه ويحبه حبا طبعيا لا حبا شرعيا فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه واختطف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحجة البالغة فإن قلت قال الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فالجمع بينها وبين الآية المترجم لها قيل الهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي(112/249)
260 ... هداية الإرشاد والدلالة كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم اي ترشد وتبين والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة ذكره بعضهم بمعناه قال في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن أبي أمية وابو جهل فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا فكان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا اله الا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله عن ابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار الحافظ العباد اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علما منه مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين وابوه المسيب صحابي بقي الى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي استشهد باليمامة قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة أي حضرت علامات الوفاة وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا(112/250)
261 ... النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه يخصوصه ويسوغ فيه شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أجادل لك بها وأشهد لك بها وأحاج لك بها ويدل على الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد ومات على الامتناع منه لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة له بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة إلى غيره وكان ذلك من الخصائص في حقه قوله جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة فإن المذكورين من بني مخزوم وهو أيضا مخزومي وكانوا يومئذ كفارا فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران وقول بعض الشراح إن هذا الحديث من مراسيل الصحابة مردود وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه قوله يا عم منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها قوله قل لا إله إلا الله أي قل هذه الكلمة عارفا لمعناها معتقدا له في هذه الحال وإن لم تعمل به إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدا رسول الله قوله كلمة قال القرطبي أحسن ما تقيد كلمة بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله ويجوز رفعها على احتمال المبتدأ قوله أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة وهي مفاعلة من الحجة والجيم مفتوحة على الجزم وجواب الأمر أي أشهد لك بها عند الله كما في الرواية الأخرى وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم لأنه لو قالها لنفعته وإن مات على التوحيد نفعته الشفاعة وان لم يعمل شيئا غير ذلك وأن من كان كافرا يجحدها إذا قالها عند الموت أجريت عليه أحكام الإسلام فإن كان صادقا من قلبه نفعته عند الله إلا فليس لنا إلا الظاهر بخلاف من كان(112/251)
262 ... يتكلم بها في حال كفره قوله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يتعلق بها المشركون من الأولين والآخرين ويردون بها على الرسل وهي تقليد الآباء والكبراء وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة في قلوب الضالين وكذلك اكتفيا بها في المجادلة مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصرا عليها قال المصنف وفيه تفسير لا إله الا الله بخلاف ما عليه أكثر من يدعي العلم وفيه أن ابا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم اذا قال الرجل قل لا اله الا الله فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام قوله فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأعادا أي أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مقالته وأعادا عليه مقالتهما مبالغة منه صلى الله عليه وسلم وحرصا على اسلام عمه ومع ذلك لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولا على تخليصه من عذاب الله بل سبق فيه القضاء المحتوم واستمر على كفره ليعلم الناس أن لا إله إلا الله فلو كان عن النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس بذلك وأولاهم عمه الذي فعل معه ما فعل وفيه الحرص في الدعوة إلى الله والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان رد ذلك على صاحبه وتكريره وعدم الاكتفاء بمرة واحدة قوله فكان آخر ما قال هو بنصب آخر على الظرفية أي آخر زمن تكليمه اياهم ويجوز رفعه قوله هو على ملة عبدالمطلب الظاهر أن ابا طالب قال أنا فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور وهي من(112/252)
263 ... المتصرفات الحسنة قاله الحافظ وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا فدل على ما ذكرناه قوله وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه منه في تلك الحال كذا قال وفيه نظر بل نفيه مستند إلى إباء أبي طالب عن قولها بقوله وهو على ملة عبد المطلب قال المصنف وفيه الرد على من زعم إسلام عبدالمطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر أي زيادة على المشروع بحيث يجعل أقوالهم حجة يرجع اليها عند التنازع قوله فقال النبي لاستغفرن لك ما لم أنه عنك أقسم صلى الله عليه وسلم ليسغفرن له إلا أن ينهى عن ذلك كما في رواية مسلم أما والله لأستغفرن لك قال النووي وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار وتطييبا لنفس أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل قال ابن فارس مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام قوله فأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين أي ما ينبغي لهم ذلك وهو خبر بمعنى النهي وقد روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر إبارهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي فقال أصحابه نستغفر بائنا كما استغفر نبيا لعمه فنزل ما كان للنبي والذين آمنوا أن(112/253)
264 ... يستغفروا للمشكرين ولو كانوا أولي قربى من عبد ما تبين أنهم لهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لآبيه الا عند موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية وفيه دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب ولكن يحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم ويكون لنزولها سببان متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر أمه ويؤيد تأخر النزول استغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك فإن ذلك يقتضي تأخر النزول وإن تقدم السبب ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب وأنزل الله في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت لأنه يشعر بأن الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية فيه وحده ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد عن علي قال سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ما كان للنبي الآية قاله الحافظ وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وتحريم موالاتهم ومحبتهم لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين أما تركهم فهو مجرور عطفا على المضاف إليه ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك أراد أن يبين السبب(112/254)
265 ... في ذلك ليحذر وهو الغلو مطلقا لا سيما في الصالحين فإنه أصل الشرك قديما وحديثا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم وقول الله عز وجل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم قال العلماء الغلو هو مجاوز الحد في مدح الشيء أو ذمه وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي وكذا قال تعالى في هذه الآية يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم أي لاتتعددوا ما حدد الله لكم وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك كما قال تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه فادعوا فيهم العصمة فاتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فغلوا فيه فحطوه من منزلته حتى جعلوه ولد بغي قال شيخ الإسلام ومن تشبه من هذه الأمة بالهيود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمساند وغير ذلك وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية(112/255)
266 ... والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وقال أيضا فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق وهو قول أكثر العلماء قال في الصحيح عن بن عباس في قول الله تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم أن أنصبوا الى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى اذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري وهذا الأثر اختصره المصنف وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح ف العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين في قوم نوح إلى آخره وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن اسحق نحو هذا وقال ابن جرير حدثنا بن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسر كانوا قوما(112/256)
267 ... صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كانوا اشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وروى ابن أبي حاتم عن عروة ابن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه وكان ود أكبرهم وأبرهم به هكذا رواه عمر بن شيبة في أخبار مكة من طريق محمد بن كعب القرظي وذكر السهيلي في التعريف أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل وكذا سواع وما بعده فكانوا يتبركون بدعائهم وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام أم الشيطان الهم العرب ذلك انتهى وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة ثم أئت سيف جدة تجد بها أصناما معده ثم أوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وردا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب(112/257)
268 ... وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي قاله الحافظ قلت وهو سيد خزاعة وكان أول من سيب السوائب وغير دين ابراهيم عليه السلام وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رايت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إبراهيم وبجر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي إسناده حسن وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب قوله أن انصبوا بكسر الصاد المهملة قوله أنصابا جمع نصب وأصله ما نصب كغرض ونحوه والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم قوله حتى إذا هلك أولئك أي الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها قوله ونسي العلم أي زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك قوله عبدت تقدم انه دب اليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم وفي رواية أنهم قالوا ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء(112/258)
269 ... الصالحين وهو رجاء شفاعتهم عند الله وكذلك هو السبب في عبادة صورهم وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين وقد بين الله ذلك في القرآن بيانا شافيا وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله قال وقال ابن القيم قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ش قوله وقال ابن القيم هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم قال الحافظ السخاوي في حقه العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان المجمع عليه بين الموافق والمخالف صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة مات سنة احدى وخمسين وسبعمائة قوله قال غير واحد من السلف إلى آخره الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ وقد روى عن غير واحد من السلف معنى ذلك منهم ابو جعفر الباقر وغيره وتقدم ما يدل على ذلك قوله ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم فعبدوهم فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود ونحو ذلك وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور ونحوهم وهو أصل عبادة الأصنام فإنهم عظموا الأموات تعظيما مبتدعا فصوروا صورهم وتبركوا بها فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته وهذا أول شرك حدث في الأرض وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان فإنه ألقى اليهم أن البناء(112/259)
270 ... على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم وأن الدعاء عندها أرجى في الاجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها لذلك فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والاقسام على الله به قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهذا أعظم من الذي قبله فإن شان الله اعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا يعكف عليه وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده فإذا تقرر ذلك عندهم نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه الا المتقون قلت وفي القصة فوائد نبه المنصف على بعضها منها ان من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام ورأى من(112/260)
271 ... قدرة الله وتقليبه القلوب العجب ومنها معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين ومنها معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء ومنها معرفة سبب قبول البدع من كون الشرائع والفطر تنكرها ومنها أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل فالأول محبة الصالحين والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم انهم رادوا غيره ومنها معرفة جبلة الانسان في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد ومنها أن فيها شاهدا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر وأنها أحب إلى ابليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ومنها معرفة الشيطان بما تؤول اليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل ومنها معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول اليه ومنها مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح ومنها معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها ومنها معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة اليها مع الغفلة عنها ومنها وهي أعجب قرائتهم اياها في كتب التفسير الحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام وكون الله حال بين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال ومنها التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة ومنها ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك ومنها التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ففيها معرفة قدر وجوده ومضرة فقده(112/261)
272 ... ومنها أن سبب فقد العلم موت العلماء انتهى بمعناه ومنها شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة وأن ضرورتهم اليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب ومنها الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك ومنها مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام قال وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أخرجاه ش قوله عن عمر هو بن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبدالله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما ولي الخلافة عشر سنين ونصفا فامتلأت الدنيا عدلا وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين قوله لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه قاله أبو السعادات وقال غيره لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الاطراء أي لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي قوله إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية وإنما أنا عبدلله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبدالله ورسوله فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه وناقضوه اعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبدالله ورسوله وأنه لا يدعى ولا يستغاث به ولا ينذر له ولا يطاف بحجرته وأنه ليس له من الأمر شيء ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن(112/262)
273 ... في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره فرفعوه فوق منزلته وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وقد ذكر شيخ الاسلام في كتب الاستغاثة عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله وصنف فيه مصنفا وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول ان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى وسبحوه بكرة وأصيلا إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا ومنهم من يقول نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا قلت وقال البوصيري فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فجعل الدنيا والآخرة من جوده وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس وكل ذلك كفر صريح ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق الذين لم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق لأن هذا ليس بتعظيم فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه فإن التعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران(112/263)
274 ... أحدهما تجريد التوحيد فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات حتى قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه الثاني تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم والاعراض عما خالفه وعدم الالتفات إلى ما خالفه حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي اليه الرغبة والرهبة الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده وليس لغيره من الأمر شيء كائنا من كان لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا جبريل عليه السلام ولا غيرهما فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده والذي هو لازم إيمانه وملزومه أما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأنثى على نفسه من غير غلو ولا تقصير كما فعل عباد القبور فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية وأما التعظيم بالجوارح فهل العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء(112/264)
275 ... عما عنه نهى وزجر والموالاة والمعاداة والحب والبعض لأجله وتحكيمه وحده والرضى بحكمه وأن يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله صلى الله عليه وسلم قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدا وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك والله المستعان وقال المصنف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والغلو فانما أهلك من كان قبلكم الغلو ش هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف وذكره أيضا غير معزو والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس وهذا لفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد ابن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته القظ لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين وهذا إسناد صحيح وعوف هو الأعرابي ثقة مشهور قوله إياكم والغلو إلى آخره قال شيخ الاسلام هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك قال ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هلك المتنطعون قالها ثلاثا(112/265)
276 ... ش قوله هلك المتنطعون قال الخطابي المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم وقال أبو السعادات هم المتعمقون الغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا وقال غيره هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة وكل هذه الأقوال صحيحة فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون والغالون في عبادتهم متنطعون وبالجملة فالتنطع التعمق في قول أو فعل كما قال أبو السعادات وقال النووي فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم قوله قالها ثلاثا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التحذير والتعليم فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين فما ترك شيئا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها فغلوا وتنطعوا فهلكوا ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلموا وسعدوا قال تعالى أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم مؤمنون باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف اذا عبده(112/266)
277 ... أي عبد القبر أو الرجل الصالح ولما كان عباد القبور إنما دهوا من حيث ظنوا أنهم محسنون فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة كما قال تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الآية نوع المصنف التحذير من الافتتان بالقبور وأخرجه في أبواب مختلفة ليكون أوقع في القلب وأحسن في التعليم وأعظم في الترهيب فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من النهي والوعيد ما سيمر بك إن شاء الله فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة قال في الصحيح عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل ثلاث وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين قوله ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كما جاء مبينا في رواية في الصحيح وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله كنيسة وفي رواية يقال لها مارية وهي بفتح الكاف(112/267)
278 ... وكسر النون معبد النصارى قوله أولئك بفتح الكاف وكسرها قوله إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا ففيه التحري في الرواية وجواز رواية الحديث بالمعنى قوله ينبوا على قبره مسجدا أي موضعا للعبادة وإن لم يسم مسجدا كالكنائس والمشاهد قوله وصوروا فيه تلك الصور الإشارة بتلك الصور إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قوله أولئك شرار الخلق عند الله مقتضى هذا تحريم ما ذكر لا سيما وقد ثبت اللعن عليه قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنع المسلمين عن مثل ذلك قال القرطبي وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدا للزريعة المؤدية إلى ذلك قوله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين إلى آخره هذا من كلام شيخ الإسلام ذكره المصنف عنه يعني ان الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين ضل بها كثير من الخلق الأولى فتنة القبور لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها تعظيما مبتدعا فآل بهم إلى الشرك وهي أعظم(112/268)
279 ... الفتنتين بل هي مبدأ الفتنة الثانية وهي فتنة التماثيل اي الصور فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها وبنوا عليها المساجد وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور وهي التى أوقعت كثيرا من الأمم اما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبه أو حجر ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون فهيا الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة قال وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم(112/269)
280 ... بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي ان تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه قال ولهما عنها قالت لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا أخرجاه ش هكذا ثبت في أول هذا الحديث ولهما وفي آخره أخرجاه بخط المصنف وأحد اللفظين يغني عن الآخر لأن المراد صاحبا الصحيحين قوله لما نزل هو بضم النون وكسر الزاي أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام قوله طفق بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح وبه جاء القرآن ومعناه جعل قوله خميصة بفتح المعجمة كساء له أعلام قوله فإذا اغتم بها كشفها أي إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه قوله لعن الله اليهود والنصارى إلى آخره لعنهم صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد أي كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله وإن لم يسموها مساجد فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم ومثل ذلك القباب والمشاهد المبينة على قبور الأنبياء والصالحين فإنها هي(112/270)
281 ... المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزا لهم عن غيرهم فإذا كان صلى الله عليه وسلم لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء فكيف بمن بناها على قبور غيرهم قوله يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرا لأمته أن تصنع ما صنعوا قال القرطبي وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام قوله ولولا ذلك أي لولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا ولعن من فعل ذلك قوله لأبرز قبره أي لدفن خارج بيته ومنه الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس أي جالسا خارج بيته قوله غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول قالوا فأما رواية الفتح فإنها تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك وأما رواية الضم فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر غير أني أخشى أو هي ومن معها من الصحابة قلت وهذا أظهر ورواية غير أني أخشى لا تخالفه قال القرطبي ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلو حيطان تربته وسدوا المداخل اليها وجعلوها محدقة بقبره ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحدا من استقبال قبره(112/271)
282 ... قلت وفي الحديثين مسائل نبه المصنف على بعضها منها ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بني مسجدا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح ولو صحت نية الفاعل ومنها النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر ومنها نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر ومنها أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ومنها لعنه إياهم على ذلك ومنها مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره ومنها العلة في عدم إبراز قبره ومنها ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع قلت ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك وعلة لعن من فعله قال ولسلم عن جندب بن عبدالله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني إبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك فقد نهى عنه وهو في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله والصلاة عندها من ذلك وان لم يبن مسجدا وهو معنى قوله أخشى أن يتخذ مسجدا فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ش قوله عن جندب بن عبدالله أي ابن سفيان البجلي أبو عبدالله وينسب إلى جده صحابي مشهور مات بعد الستين قوله إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع من هذا وأنكره والخليل هو المحبوب غاية المحبة مشتق من الخلة بفتح(112/272)
283 ... الخاء وهي تخلل المودة في القلب كما قال الشاعر قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا هذا هو الصحيح في معناه كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم قال القرطبي وإنما كان في ذلك لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع لمخالة غيره قوله فإن الله قد اتخذني خليلا فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة قال ابن القيم وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة وأن ابراهيم خليل الله ومحمد صلى الله عليه وسلم حبيب الله فمن جهلهم فإن المحبة عامة والخلة خاصة وهي نهاية المحبة قال وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين وخلته خاصة بالخليلين وفيه جواز ذكر الانسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك قوله ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا فيه دليل على أن الصديق أفضل الصحابة حيث صرح صلى الله عليه وسلم أنه لو اتخذ خليلا غير ربه لاتخذ ابا بكر ففيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله قاله المصنف وفيه اشارة إلى خلافته لأن من كانت محبته لشخص أشد فهو أحق الناس بالنيابة عنه لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته خصوصا وقد استخلفه على الصلاة بالناس وغضب لما صلى بهم عمر واسم أبي بكر عبدالله ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة الصديق(112/273)
284 ... الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة باجماع من يعتد به من اهل السنة مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة قوله ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلى آخر الحديث قال الخلخالي وإنكار النبي صلى الله لعيه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين أحدهما أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم والثاني أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم والتوجه إليها حالة الصلاة نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء والأول هو الشرك الجلي والثاني الخفي فلذلك استحقوا اللعن قلت الحديث أعم من ذلك فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها قوله فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب قوله ثم انه لعن وهو في السياق من فعله أي كما في حديث عائشة قوله والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجدا يعني أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله وإن لم يبن مسجدا فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور بل لا تنعقد أصلا لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من لعن من اتخذها مساجد وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا الأرض كلها مسجد الا المقبرة والحمام رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور وفعل(112/274)
285 ... انس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه لعله لم يره ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر تنبه وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى وعباد اللات والعزى من الشرك ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة لأن قبور الأنبياء من اطهر البقاع فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض اليها المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها قال ابن القيم وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم من تحقيق لا إله الا الله فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لهاتعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد(112/275)
286 ... لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الالهية قلت وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الاسلام وغيرهم وهو الحق قوله فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه ولعن من فعله فكيف يتخذون على قبره مسجدا وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده من غير شعور من الصحابة بذلك فلذلك دفنوه في بيته قوله وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا أي وإن لم يبن مسجدا قوله بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة وإن لم يبن فيها مسجدا وهذا في أي موضع صلى فيه وإن يعد لذلك كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد فقد اتخذها مساجد قوله كما قال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أي فسمى الأرض مسجدا وليست مسجد مبنيا لكن لما كانت يسجد فيها سميت مسجدا فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو اليها فقد اتخذها مساجد وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر قال البغوي في شرح السنة أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم واباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفا عليهم وتيسيرا ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس وقوله طهورا أراد به التيمم وفي حديث جندب من الفوائد أيضا(112/276)
287 ... العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن بناء المساجد على القبور كيف بين لهم ذلك أولا ثم قبل موته بخمس قال ما قال ثم لما كان في النزع لم يكتف بما تقدم بل لعن من فعل ذلك فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقا فلذلك اكتفى المصنف بايرادها عن غيرها كحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم وغره وزاد أبو داوود والحاكم وأن يكتب عليه قال ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه ش قوله إن من شرار الناس هو بكسر الشين جمع شر قوله من تدركهم الساعة وهم أحياء أي من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم احياء وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق فإن قلت ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان لا تزال طائفة من أمتي على الحق وما في معناه قيل حديث ثوبان مستغرق للأزمنة عام فيها وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى قوله والذين يتخذون القبور مساجد الذين في محل نصب عطفا على من الموصولة أي إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد بالصلاة عندها وإليها وبناء المساجد عليها وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم معلوم بالاضطرار من دينه وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها كما قاد إلى ذلك اليهود(112/277)
288 ... والنصارى فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر أو الدفع في صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل اليهم العواطف الروحانية ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله وهذا هو قول اليهود سمعنا وعصينا فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى أو من عموم أحاديث أخر فمن أعظم المراغمة والمناسبة والمحادة لله ورسوله أن تحمل على غير ما وردت فيه ويباح ما وردت بالنهي عنه ولعن من فعله ولكن هذا شأن عباد القبور إنما يتبعون اهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشد ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك إما مطلقا واما في المملوكة قال الإمام أبو محمد بن قدامة ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب اليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها وقال شيخ الإسلام أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث(112/278)
289 ... الصحيحة وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه قال ولا ريب في القطع بتحريمه ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وقال ابن القيم يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وقال أبو حفص تحرم الحجرة بل تهدم فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة وقال الشافعي أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس وقال أيضا تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع وتكون على وجه الأرض وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنيه منهم من بن الجميزى والظهير الترميني وغيرهما وقال القاضي بن كج ولا يجوز أن تجصص القبور ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب والوصية بها باطلة وقال الأذرعي وما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة وإنفاق الأموال الكثيرة فلا ريب في تحريمه قلت وجزم النووي في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا وقال القرطبي في حديث جابر نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه وبظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره وهذا الحديث حجة عليه ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال هو حرام كما قال به بعض أهل العلم وقال ابن مرشد كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة وهو من بدع أهل الطول احدثوه إرادة الفخر(112/279)
290 ... والمباهاة والسمعة وهو مما لا اختلاف فيه وقال الزيلعي في شرح الكنز ويكره أن يبني على القبر وفي الخلاصة ولا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء وذكر أيضا قاضي خان أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله ما يغضب لله من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان كما نبه عليه ابن القيم وغيره فمنها اعتيادها للصلاة عندها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ومنها تحري الدعاء عندها ويقولون من دعا الله عند قبر فلان استجاب له وقبر فلان الترياق المجرب وهذا بدعة منكرة ومنها ظنهم ان لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء ويقولون إن البلاء يدفع عن اهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والاجماع فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به سلط الله عليهم من انتقم منهم وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك وهذا أكثر من أن يحصر ومنها الدخول في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد كما هو الواقع ودين الله بضد ذلك ومنها اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء(112/280)
291 ... بالرجال وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات ويزعمون أن صاحب التربة تحملها عنهم بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيادة المشايخ كالبدوي وغيره تقربا إلى الله بذلك فهل بعد هذا في الكفر غاية ومنها كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك ومنها جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج اليه من ترميمها ونحو ذلك ومنها إهداء الأموال ونذر النذور ولسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانا دعا صاحب التربة فأجابه واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم ومنها جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام ومنها الاقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها ومنها أن كثيرا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هذا هو عبادة الأوثان لأن السجود للقبة عبادة لها وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل فإنهم عبدوها ومن هي صورته وكذلك عبادة القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله عز وجل ومنها النذر للمدفون فيها وفرض نصيب من المال والولد وهذا هو الذي قال الله فيه وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم ومنها أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف ولهذا(112/281)
292 ... لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبا أو صادقا وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبا ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها ومنها سؤال الميت قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاخلاص له من دون الله في اكثر الحالات ومنها التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد وهذا أمر ما بلغ اليه شرك الأولين فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها وهؤلاء يرون العكوف المشاهد أفضل من العكوف في المساجد ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة كما قال روا القبور فإنها تذكركم الآخرة والإحسان إلى المزور بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب عباد القبور الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى(112/282)
293 ... وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ومنها محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر إنما حدثت بسبب البناء على القبور ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد ولعن من فعله فالخير والهدى في طاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور ثم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة كما يظنه بعض متاخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة كما يظنه بعض متأخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورا الأول التحذير من الغلو في قبور الصالحين الثاني أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها الثالث(112/283)
294 ... أنها اذا عبدت سميت اوثانا ولو كانت قبور الصالحين الرابع التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها وقد تقدم بيان ذلك وقيل الوثن هو الصنم والصنم هو الوثن وهذا غير صحيح إلا مع التجريد فأحدهما قد يعنى به الآخر وأما مع الاقتران فيفسر كل واحد بمعناه قال روى مالك في الموطا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ش هذا الحديث رواه مالك في باب جامع الصلاة مرسلا عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجعلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وعمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ الموطأ سواء وهو ممن تقبل زيادته وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه اللهم لاتجعل قبري وثنا يعبد لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قوله روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبدالله المدني الفقيه إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين في الحديث حتى قال البخاري أصح الأسانيد(112/284)
295 ... كلها مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد قد استجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن القيم فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران ودل الحديث عن أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي واربابها من دون الله وإذا أريد تغيير شيء من ذلك انف عبادها واشمأزت قلوبهم واستكبرت نفوسهم وقالوا تنقص أهل الرتب العالية ورموهم بالعظائم فماذا يقولون لو قيل لهم إنها أوثان تعبد من دون الله فالله المستعان على غربة الإسلام وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود كيف انتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل غيرت السنة ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين كقبورهم ومجالسهم ومواضع صلاتهم للصلاة والدعاء عندها فإن ذلك من البدع أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا نعلم أحدا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور وهو إرادة التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة بل خالفه أبوه وغيره لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع قال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك ان يدفن في المسجد قال وإذا منع من ذلك فسائر آثاره أحرى بذلك وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى انتهى وقال ابن وضاح سمعت عيسى بن يونس يقول أمر عمر بن الخطاب(112/285)
296 ... بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة قال عيسى بن يونس وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه وقال المعرور بن سويد صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يصلون فيه فقال إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وفي مغازي بن اسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر فدعا له ركعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حضرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعمينه على الناس لا ينبشونه قلت وما يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاث مائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض قال ابن القيم رحمه الله تعالى ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره(112/286)
297 ... لئلا يفتتن به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله قال شيخ الإسلام رحمه الله وهو إنكار منهم لذلك فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها أو ليسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التى لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها من يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فإن ذلك ونحوه لا بأس به وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه والفرق بين النوعين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرا قوله اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف وفيه تحريم البناء على القبور وتحريم الصلاة عندها وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعلل وجه الكراهة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدا للذريعة وحسما للباب ذكره الطبري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما(112/287)
298 ... يخاف وقوعه ذكره المصنف قال ولأبن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد أفرأيتم اللات والعزى قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس كان يلت السويق للحاج ش قوله ولابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ وغيرهما قال ابن خزيمة لا اعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من الأئمة المجتهدين لا يقلد أحدا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ولد سنة اربع وعشرين ومائتين ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة قوله عن سفيان هو أحد السفيانيين إما ابن عيينة وإما الثوري فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبدالله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد وكان مجتهدا له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه مات سنة إحدى وستين ومائة وله أربع وستون سنة قوله عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أو عتاب بمثناة ثقيلة ثم موحدة الكوفي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة قوله عن مجاهد هو ابن جبر بالجيم والموحدة أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير والعلم أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره مات سنة أربع ومائة قاله يحيى القطان وقال ابن حبان مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه(112/288)
299 ... قوله كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه وقد قيل إن اسم الرجل صرمة بن غنم وعن ابن عباس كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه رواه ابن أبي حاتم وعن مجاهد كان اللات رجلا في الجاهلية وكان له غنم فكان يسلو من رسلها ويأخذ من زبيب الطائف والاقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وقالوا هو اللات وكان يقرأ اللات مشددة رواه سعيد بن منصور والفاكهي قوله وكذا قال أبو الجوزاء إلى آخره هو أوس بن عبدالله الربعي بفتح الراء والباء ثقة مشهور مات سنة ثلاث وثمانين وهذا الاثر ذكره المصنف ولم يعزه وقد رواه البخاري ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف وقال إنه كان حجر فعبدوه واشتقوا له من اسم الله الإله كما تقدم تقريره في باب من تبرك بشجرة وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد وخفف لكثرة الاستعمال وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الاله فلا ينافي ذلك أيضا فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنا يعبد كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق نسر وغيرهم وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم فإنهم غلوا فيهم وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد وجعلوها ملاذا لقضاء المآرب وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والأخرين إلى يوم القيامة وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم ونهانا عن الغلو فيهم(112/289)
300 ... فلا نرفعهم فوق منزلتهم ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم فإن الشرك بهم غلو فيهم وأنزلوهم منازل الالهية وعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم العاكفين على قبورهم معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه وتعظيم الانبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا اليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم والعكوف عليها كالذين يعكفون على الاصنام واتخاذها أعيادا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا في تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا قال وعن ابن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن ش قوله لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور أي من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة وقيل في تعليل ذلك أنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها كما في حديث آخر فإنكن تفتن الحي وتؤذن الميت وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال وتقدير ذلك غير مضبوط لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم(112/290)
301 ... بمظنتها فتحرم سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة وكما حرمت الخلوة بالأجنبية وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به وذلك ممكن في بيتها وقد روى الامام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعا لعن الله زوارات القبور وعن أبي هريرة أن رسول الله صلىالله عليه وسلم لعن زوارات القبور رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وضعفه عبدالحق وحسنة ابن القطان ولا يعارض هذا حديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها رواه مسلم وغيره لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه فهو عام والأول خاص والخاص مقدم عليه وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عندالأصوليين قوله والمتخذين عليها المساجد تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله قوله والسرج هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور قال أبو محمد المقدسي لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام وقال ابن القيم اتخاذها مساجد وايقاد السرج عليها من الكبائر ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج وقرن بينهما فهما قرينان في اللعنة فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة بل لأجل نجاسة الشرك ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها وليس النهي عن الاسراج لأجل النجاسة فكذلك البناء(112/291)
302 ... قوله رواه أهل السنن يعني هنا أبا داود وابن ماجه والترمذي فقط ولم يروه النسائي باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك الجناب هو الجانب واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة ولقد بالغ صلى الله عليه وسلم وحذر وأنذر وأبدأ وأعاد وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل كما قال بعض العلماء هي أشد الشرائع في التوحيد والابعاد عن الشرك وأسمح الشرائع في العمل قال وقوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية ش قوله لقد جاءكم رسول هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم إذ جاءهم بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به أبد الآبدين وقوله رسول أي رسول عظيم أرسله الله اليكم من أنفسكم أي ترجعون معه إلى نفس واحدة لأنه وأنتم من أب قريب كما قال تعالى عن ابراهيم عليه السلام أنه قال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم(112/292)
303 ... آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحك واللجاجة وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب قال جعفر بن محمد في قوله من أنفسكم قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقوله عزيز عليه أي شديد عليه جدا ما عنتم أي عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر ولا يهتدي للمخرج وهي هنا لفظ عام أي ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق و ما مصدرية وهي مبتدأ و عزيز خبر مقدم ويجوز أن يكون ما عنتم فاعلا به عزيز و عزيز صفة للرسول وهذا أصوب وقوله حريص عليكم أي بليغ الحرص عليكم أي على نفعكم وإيمانكم وهداكم والحرص شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه وروى الطبراني باسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علما قال وقال ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبونني وتقحمون فيها(112/293)
304 ... وقوله بالمؤمنين أي لا بغيرهم كما يفيده تقديم الجار رؤوف أي بليغ الشفقة قال أبو عبيدة الرأفة أرق الرحمة رحيم أي بليغ الرحمة كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته ويبلغ البلاغ المبين ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك وأعظم ذلك الفتنة بالقبور فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك لاجرم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور حتى نهى عن جعله عيدا ودعا الله أن لا يجعله وثنا يعبد وفي الآية مسائل منها التنبيه على هذه النعمةالعظيمة وهي إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فينا كما قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ومنها كونه منا نعمة أخرى عظيمة ومنها كونه بهذه الصفات نعم متعددة ومنها مدح نسبه صلى الله عليه وسلم فهو أشرف العرب بيتا ونسبا ومنها رأفته بالمؤمنين ومنها غلظته على الكفار والمنافقين قال عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات ش قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه أي لاتعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله(112/294)
305 ... المشركون من النصارى ومن تشبه بهم وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك قوله ولا تجعلوا قبري عيدا قال شيخ الإسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك وقال ابن القيم رحمه الله تعالى العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإن كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام العيد فيها عيدا وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالاسلام أبطلها وعرض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر وقال غيره هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت قال ابن القيم رحمه الله وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم(112/295)
306 ... وقلب للحقائق ونسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعدالتناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله لا تجعلوا عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان وهكذا غيرت أديان الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسال ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل ان يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما هوأعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا انتهى قلت وكيف يريد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم وكان يمكنه أن يقول أكثروا زيارة قبري أو اجعلوه عيدا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده فظهر بطلان هذا القول اذا تبين ذلك فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص(112/296)
307 ... واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص في زمان مخصوص وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها لأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان قال المصنف وفيه النهي عن الاكثار من الزيارة قوله وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم قال شيخ الإسلام يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا انتهى وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا ما من احد يسلم علي الا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وعن أوس بن أوس مرفوعا أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره كما قال الحسن بن الحسن ما أنتم ومن بالأندلس الاسواء وأما حديث من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي غائبا بلغته فرواه البيهقي وغيره من حديث العلى بن عمرو الحنفي حدثنا أبو عبدالرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره قال البيهقي أبو عبدالرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر قلت محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين ليس بثقة وقال الجوزجاني ذاهب الحديث وقال النسائي متروك الحديث وكذلك قال أبو حاتم الرازي والازدي وقال صالح بن محمد كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر كاخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم اذا(112/297)
308 ... مر على قبورهم فان قيل اذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه قيل هذا لو حصل الوصول الى قبره أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل مزية فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده اذا دخله أو في أقصى المشرق والمغرب فالكل يبلغه كما وردت به الأحاديث وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره فانه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه ولكن لا يوصل إلى قبره صلى الله عليه وسلم قال وعن على بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم رواه في المختارة ش هذان الحديثان جيدان حسنا الاسنادين أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبا الله بن نافع الصائغ قال أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ورواته ثقات مشاهير لكن عبدالله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال ابن معين هو ثقه وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ تعرف وتنكر قال شيخ الإسلام رحمه الله ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانا فاذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة وقال الحافظ ابن عبدالهادي(112/298)
309 ... هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقى بها إلى درجة الصحة وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي اسماعيل والحافظ الضياء في المختارة قال أبو يعلى حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر ابن ابراهيم من ولد ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين فذكره وعلي بن عمر هو علي بن عمر بن علي بن الحسين قال شيخ الإسلام فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار لأنهم الى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط قلت وللحديثين شواهد منها ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وقال سعيد بن منصور حدثنا عبدالعزيز ابن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال اذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لاتتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور انبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس الا سواء ورواه القاضي اسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء وقال سعيد أيضا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني قال شيخ الإسلام فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على(112/299)
310 ... ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد تقدم مستدا قوله عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح وأبوه الحسين سبط النبي صلى الله عليه وسلم وريحانته حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة قوله انه رأى رجلا يجيء إلى فرجة هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما قوله فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك لأن ذلك من اتخاذها عيدا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله علعه وسلم للدعاء عنده فكيف بقبر غيره ويدل أيضا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدا المنهي عنه ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد قال شيخ الإسلام ما علمت أحدا أي من علماء السلف رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه لأن ذلك من اتخاذه عيدا وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل انسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها بل كان الصحابة والتابعون يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي(112/300)
311 ... رضي الله عنهم ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني فبين أن الصلاة تصل اليه من بعد وكذلك السلام ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد وكانت الحجرة في زمانهم يدخل اليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون اليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ولا لسؤال عن حديث أو علم ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمهم كلاما او سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عن قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير قال شيخ الإسلام إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة وفي(112/301)
312 ... المبسوط قال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك يا أبا عبدالله استقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك فهذه الرواية ضعيفة أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن تجهل حاله ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلا القبلة يوليه ظهره وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في أخبار المدينة عن عمر بن هارون عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد لأن ذلك من اتخاذها أعيادا بل من أعظم الأسباب الإشراك بأصحابها كما وقع من عباد القبور الذين يشدون اليها الرحال وينفقون في ذلك الكثير من الأموال وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام اعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب فقام عليه بعض المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه(112/302)
313 ... إلى إنكار الزيارة مطلقا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل كما أنكره جمهور العلماء قبله أوالزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والإستغاثة بهم في الملمات مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للإستحباب وقد جاء في رواية في الصحيح بصيغة النهي صريحا فتعين أن يكون للنهي ولهذا فهم منه الصحابة المنع كما في الموطأ والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور لو أدمتك قبل أن تخرج اليه لما خرجت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال اتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور فقال إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته وروى أحمد وعمر بن شبة أيضا عن شهر بن حوشب قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها الى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي والطور إنما يسافر من يسافر اليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه الوادي المقدس(112/303)
314 ... والبقعة المباركة وكلم الله موسى هناك وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه وهم الجمهور الأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر ان يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أوفي بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره قال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ذكره إسماعيل ابن اسحق في المبسوط ومعناه في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فالجمهور على المنع وطائفة من المتأخرين على الجواز فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره قول مبتدع مخالف للإجماع قبله والأحاديث التي احتج بها كحديث من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه البتة بل هي ما بين ضعيف وموضوع أو كلها موضوعة كما قد بين عللها شيخ الإسلام وغيره وكثير منها لا يدل على محل النزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة وذلك لا ينكره شيخ الاسلام ولا غيره من العلماء لأنه محمول على الزيارة الشرعية الجارية على وفق مراد النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يكون فيها شرك ولا شد رحل إلى قبر وبتقدير ثبوتها لا تدل على شد الرحال إلى قبر غيره والسبكي أجاز ذلك(112/304)
315 ... في سائر القبور فخالف الأحاديث وخرق الإجماع والله أعلم قال المصنف وفيه أنه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام قوله رواه في المختارة المختارة كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين ومؤلفه هو أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام وحفاظ الحديث قال الذهبي أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والثقة والإتقان انتفع الناس بتصانيفه والمحدثون بكتبه فالله يرحمه ويرضى عنه وقال شيخ الإسلام تصحيحه في مختارته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب مات سنة ثلاث واربعين وستمائة باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ش أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى قال وقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب(112/305)
316 ... يؤمنون بالجبت والطاغوت ش يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا أي أعطوا نصيبا أي خطا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ألا ترى إلى هذا الصنبر المنتبر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدنة وأهل السقاية قال أنتم خير قال فنزلت فيهم إن شانئك هو الأبتر ونزل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى نصير وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال ما أنتم وما محمد فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو فقالوا أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت السحر والطاغوت الشيطان وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضا الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت حيي بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف قلت الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم(112/306)
317 ... والكاهن والساحر ونحو ذلك وفي الحديث الطيرة والعيافة والطرق من الجبت قال وهذا ليس من محض العربية لإجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذو لقي قال المصنف وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في الموضع هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب قال وقوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ش يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بناهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله من لعنه الله أي أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه أي غضبا لا يرضى بعده وجل منهم القردة والخنازير أي مسخ منهم الذين عصوا أمره فجعلهم قردة وخنازير كما قال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت والقيام بأمره وترك الاصطياد فيه وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت فتحيلوا على اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله(112/307)
318 ... تعالى إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بانسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن فكان جزاؤهم من جنس عملهم قال العوفي عن ابن عباس في قوله فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله فقال إن الله لم يهلك قوما أو قال لم يمسخ قوما فيجعل الله لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك وقوله وعبد الطاغوت قال شيخ الإسلام الصواب أنه معطوف على قوله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية أي من لعنه الله ومن غضب عليه ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها هو اسم الله مظهرا ومضمرا وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه لفظ من لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود قال وقوله قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ش يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدا وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين(112/308)
319 ... أحدهما أنهم المسلمون والثاني أنهم المشركون وعلى القولين فهم مذمومون لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا رواه البخاري ومسلم ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى فيجرها ذلك إلى الشرك لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرا بشبر وذراعا بذراع كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد المصنف بهذه الآيات قال عن ابي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن أخرجاه ش هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا للصحيحين ولعله نقله عن غيره ولفظهما والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن ويحتمل أن يكون مرويا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه قوله لتتبعن هو بضم العين وتشديد النون قوله سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم اي الذين قبلكم قال المهلب الفتح أولى وقال ابن التين قرأناه بضمها قوله حذو القذة بالقذة هو بنصب حذو على المصدر والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهي ريش السهم وله قذتان متساويتان أي(112/309)
320 ... لتفعلن أفعالهم ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى ثم ان هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع وهذا من معجزاته فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد وتعظيم القبور واتخاذها مساجد حتى عبدوها ومن فيها من دون الله وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة والتسليم بالأصابع وعدم عيادة المريض يوم السبت والسرور بخميس البيض وأن الحائض لا تمس عجينا واتخاذ الأحبار والرهبان اربابا من دون الله والإعراض عن كتاب الله والإقبال على كتب الضلال من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى قوله حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه الجحر بضم الجيم بعدها حاء مهملة معروف وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وفي حديث آخر حتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه صحت بذلك الأحاديث فأخبر أن امته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والإختلاف قال شيخ الإسلام هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة وقال غيره وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملا ولا قولا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون مالا يعلمون ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود(112/310)
ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى
321 ... وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم بما سبق في علمه لكن ليس الحديث إخبارا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة قوله قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف اي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم وقوله قال فمن استفهام إنكار أي فمن هم غير أولئك ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض كما قال بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام فحيث قيل فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات صولها وفروعها كذا قال ولا يلزم وجود قرينة بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقا والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى إذ المقصود التمثيل لا الحصر ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع قال ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما ذوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف(112/311)
322 ... على امتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ش هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف ورواه الترمذي مختصرا ببعضها قوله عن ثوبان هو ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين قوله زوى لي الأرض قال التوربشتي زويت الشيء جمعته وقبضته يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره وقال القرطبي أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره ورفع عنه الموانع المعتادة فادرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه وكما قال إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ويحتمل أن يكون مثلها الله له والأول أولى قوله وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها قال القرطبي هذا الخبر وجد مخبره كما قاله فكان ذلك من دلائل نبوته وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق ما وراء خرسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد ولم يتسع ذلك الإتساع من جهة الجنوب والشمال(112/312)
323 ... ولذلك لم يفكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه وقوله زوي يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وأن يكون مبنيا للمفعول والأول أظهر قوله وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض قال القرطبي يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في أمارة عمر رضي الله عنه فإنه سيق اليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي والأبيض والأحمر منصوبان على البدل قوله وإني سألت ربي لأمتي أن يهلكها بسنة بعامة هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء هي رواية صحيحية في أصل مسلم وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها قال القرطبي وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة فكأنه قال بسنة عامة ويعني بالسنة الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما قال تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب المتوالي قوله من سوى أنفسهم أي من غيرهم يعني الكفار(112/313)
324 ... قوله فيستبيح بيضتهم قال الجوهري بيضة كل شيء حوزته وبيضة القوم ساحتهم وعلى هذا فيكون معنى الحديث ان الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ولو اجتمع عليهم كل من بين اقطار الأرض وهو جوانبها وقيل بيضتهم معظمهم وجماعتهم قلت وهذا هو الظاهر وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع قوله وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم أي إذا حكمت حكما مبرما فإنه نافذ لا يرد بشيء ولا يقدر احد على رده بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار طوعا وكرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا راد لما قضيت قلت الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء والنبي صلى الله عليه وسلم سأل ذلك مطلقا فأجيب بهذا واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا إلى آخره أي حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة ثم ايضا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط وكذلك وقع فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضا وسبى بعضهم بعضا فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو واستولوا عليهم كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب فاختلف ملوك(112/314)
325 ... المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خرسان وعلى العراق وديار الروم وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها فهي في أيديهم إلى اليوم بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتىاستنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره قوله ورواه البرقاني في صحيحه البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة قال الخطيب كان ثبتا ورعا لم نر في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه كثير التصنيف صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة وكان حريصا على العلم منصرف الهمة اليه قلت وهذا المسند الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا اليه المصنف قوله وانما أخاف على امتي الأئمة المضلين أي الأمراء والعلماء والعباد الذين يقتدي بهم الناس ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم كما قال تعالى عن أهل النار حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار وقال تعالى ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وقال تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين(112/315)
326 ... أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يعملون به ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله بل بما تهوى أنفسهم فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما رواه أبو داوود وغيره فمن كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو من الأئمة المهديين ومن خالفهم فهو من الضالين كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب أو نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه ويضر بهم إذا كفروا به وحاربوه ويدعي أن ذلك من كراماته وكالذي يمشي في الأسواق عريانا ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علما بل يعيب علماء الشرع ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر ويدعي أنه صاحب علم الباطن وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ونحو ذلك من الكفر والهذيان وكالذين يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف أو يدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة او أنه يطلع على اللوح المحفوظ ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وايقادها بالسرج والشموع وكسوتها بالحرير والديباج والفرش النفيسة أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه فقد ضل وأضل وابتدع او ان ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل وأن الهدى(112/316)
327 ... لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحذر منهم والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يجببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين فافهم عن ربك وكن على بصيرة ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هوالقرض والعصمة منتفية عن غير الرسول وربك أدرى بما في الضمائر فرب من تعتقده إمام هدى ليس كذلك وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون فكل من أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله فهو من أهواء الذين لا يعلمون ومن لم يستجب للرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يتبع هواه قال الله تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وعن زياد بن حدير قال قال لي عمر هل تعرف ما يهدم الإسلام قلت لا قال يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين رواه الدرامي وقال يزيد بن عميرة كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه واحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني(112/317)
328 ... رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع الحق وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها قوله وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة أي إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامةوكذلك وقع فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم وكذلك يكون إلى يوم القيامة ولكن يكثر تارة ويقل أخرى ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى قوله ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين الحي واحد الأحياء وهي القبائل وفي رواية أبي داود ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين والمعنى أنهم ينزلون معهم في ديارهم ويصيرون منهم بالردة ونحوها قوله وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان الفئام مهموز الجماعات الكثيرة قاله أبو السعادات وفي رواية أبي داود وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ومعناه ظاهر وهذا هو شاهد الترجمة ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة وفي معنى هذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات لنساء دوس على ذي الخلصة قال وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية وروى ابن حبان عن معمر قال إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا وفي صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا لا يذهب الليل(112/318)
329 ... والأنهار حتى تعبد اللات والعزى وقيل إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات وكانوا يعبدونه ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم قوله وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة أخرجه أبو نعيم وقال هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام قلت حديث ثوبان اصح من هذا قال القاضي عياض عدد من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالته فوجد هذا العدد فيهم ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا وقال الحافظ قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة والأسود العنسي باليمن ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة وسجاح التميمية في بني تميم وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه ويقال إن سجاح تابت أيضا ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين فاتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه فأحبه الناس ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبدالملك بن مروان فقتل وخرج في خلافة بني العباس جماعة وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا فإنهم لا يحصون كثرة لكون(112/319)
330 ... غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة كمن وصفنا وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر قوله وأنا خاتم النبيين الخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم قال الحسن خاتم الذي ختم به أي آخر النبيين كما قال تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وإنما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته فهو كآحاد أمته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية قوله ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم لا من خالفهم قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم وكذلك قال انهم أهل الحديث عبدالله بن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم وقال ابن المديني في رواية هم العرب واستدل برواية من روى هم أهل الغرب وفسر الغرب بالدلو العظيمة لأن العرب هم الذين يستقون بها قلت ولا تعارض بين القولين إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث ولا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لا يكون منصورا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم اهل الحديث من العرب وغيرهم فإن قيل فلم خصصه بالعرب قيل المراد التمثيل لا الحصر أي أن العرب ان استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم قال القرطبي وفيه دليل(112/320)
331 ... على أن الاجماع حجة لأن الأمة اذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة وقال المصنف وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى بل لا تزال عليه طائفة قوله حتى يأتي أمر الله الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم وأصله في مسلم عن عبدالرحمن بن شماسة أن عبدالله ابن عمرو قال لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شرار من أهل الجاهلية فقال عقبة بن عامر لعبد الله أعلم ما تقول وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك فقال عبد الله ويبعث الله ريحا ريحها المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وفي صحيحه أيضا لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة رواه أحمد ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال رواه أبو داود والحاكم وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الآحاديث حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ وهو المعتمد وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال إنها تكون(112/321)
332 ... ببيت المقدس حتى إلى أن تقوم الساعة كما روى الطبري من حديث أبي امامة قيل يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه هم بالشام وهذا قول اكثر الشارحين وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في أول بيت المقدس دائما إلى أن يقاتلوا الدجال بل قد تكون في موضع آخر لكن لا تخلوا الأرض منها حتى يأتي أمر الله قلت وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات بل ليس فيه إلا عباد القبور وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة وأيضا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدا من أهل الكفر وإنما بأسهم وقتالهم بينهم وعلى هذا فقوله في الحديث هم ببت المقدس وقول معاذ هم بالشام المراد أنهم يكونون فيه بعض الأزمان دون بعض وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا قوله تبارك وتعالى قال ابن القيم البركة نوعان أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى والنوع الثاني بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح عليه السلام جعلني مباركا أينما كنت فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفة تبارك فمختصه به كما أطلقها على نفسه بقوله تبارك الله رب العالمين تبارك(112/322)
333 ... الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم وقال ابن عباس جاء بكل بركة وأعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في السحر ش السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه ولهذا جاء في الحديث إن من البيان لسحرا وسمي السحور سحورا لأنه يقع خفيا آخر الليل وقال تعالى سحروا أعين الناس أي اخفوا عنهم علمهم ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه ولهذا جاء في الحديث ومن سحر فقد أشرك أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليبين ذلك تحذيرا منه كما ذكر غيره من أنواع الشرك قال أبو محمد المقدسي في الكافي السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق المرء وزوجته ويأخذ احد الزوجين عن صاحبه قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرق بين المرء وزوجه وقال سبحانه(112/323)
334 ... قل اعوذ برب الفلق إلى قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يعقدون في سحرهن وينفثن في عقدهن ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى انه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وانه قال لها ذات يوم أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن أعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان رواه البخاري انتهى وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له هذا ليس بصحيح على إطلاقه بل منه ما هو تخييل ومنه ما له حقيقة كما يفهم مما تقدم قال وقول الله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ش أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله ما له في الأخرة من خلاق قال ابن عباس من نصيب قال قتادة وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله اليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقال الحسن ليس له دين فدلت الآية على تحريم السحر وهو كذلك بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث اتى واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله لمن اشتراه يدل عليه قوله فيتعلمون منها ما يفرقون به(112/324)
335 ... بين المرء وزوجه وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه وروى عبدالرزاق عن صفوان بن سليم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله وهذا مرسل واختلفوا هل يكفر الساحر أولا فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد قال أصحابه إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر وقيل لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر وهذا قول الشافعي وجماعته قال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد اباحته كفر وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب ولهذا سماه الله كفرا في قوله انما نحن فتنة فلا تكفر وقوله وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وفي حديث مرفوع رواه رزين الساحر كافر وقال أبو العالية السحر من الكفر وقال ابن عباس في قوله إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علماه الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر وقال ابن جريج في الآية لا يجترىء على السحر إلا الكافر وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر وإن سمي سحرا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرا ولكنه يكون حراما لمضرته يعزر من يفعله تعزيرا بليغا قال وقوله يؤمنون بالجبت والطاغوت(112/325)
336 ... ش تقدم الكلام عليها في الباب الذي قبله ووجه إيرادها هنا ظاهر لأن السحر من الجبت كما قال عمر بن الخطاب قال المصنف قال عمر بن الخطاب الجبت السحر والطاغوت الشيطان ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره وفيه معرفة الجبت والطاغوت والفرق بينهما قال وقال جابر الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد هذا ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال سألت جابر بن عبدالله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها قال إن في جهينة واحدا وفي أسلم واحدا وفي هلال واحدا وفي كل حي واحدا وهم كهان تنزل عليهم الشياطين قوله قال جابر هو ابن عبدالله بن عمرو بن حرام أبو عبدالله الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل ابن صحابي جليل مكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله الطواغيت كهان إلى آخره المراد بهذا أن الكهان من الطواغيت لا أنهم الطواغيت لا غير وقوله كان ينزل عليهم الشيطان أراد الجنس لا الشيطان الذي هو ابليس فقط بل تتنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم ببعض الغيب مما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة ويكذبون مائة قوله في كل حي واحد الحي واحد الأحياء وهم القبائل أي في كل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء(112/326)
337 ... بالشهب ومطابقة هذا للترجمة ظاهر من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن فالساحر أولى لأنه أشر وأخبث قال عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث غر معزو وقد رواه البخاري ومسلم قوله اجتنبوا السبع أي ابعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي قوله السبع الموبقات بموحدة وقاف أي المهلكات وسميت الكبائر موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب قلت هكذا ثبت في هذه الرواية عن السبع الموبقات وكذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن أبيه عن جده قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الفرائض والديات والسنن وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن الحديث بطوله وفيه وكان في الكتاب وإن اكبر الكبائر الشرك فذكر مثل حديث أبي هريرة سواء وأخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمرو بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه الكبائر الشرك بالله وقتل النفس الحديث وذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة وكذلك في حديث عند الطبراني وقال عبد الرزاق انبأنا(112/327)
338 ... معمر عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله فذكر مثل الأول سواء الا أنه قال اليمين الفاجرة بدل السحر وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبدالرزاق مرفوعا وموقوفا قال الكبائر تسع فذكر السبع المذكورة وزاد رد الالحاد في الحرم وعقوق الوالدين واخرج اسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال هن عشر فذكر السبع التي في الاصل وزاد عقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر ولابن أبي حاتم عن علي قال الكبائر فذكر السبع إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة ونكث الصفقة وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا الشرك ومال اليتيم والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والربا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وقد جاء في أحاديث غير ما ذكرنا جملة من الكبائر منها اليمين الغموس وشهادة الزور والامن من مكر الله والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والزنا والسرقة وغير ذلك قال الحافظ ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الاخذ بالزائد أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك وقد أخرج الطبري واسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هن أكثر من سبع وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب وفي رواية(112/328)
339 ... الى السبع مئة وإذا تقرر ذلك عن فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد لأن اكثر المذكورات لا يجب فيها الحد انتهى وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله قوله قال الشرك بالله هو أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله ويخافه كما يخاف الله وبدأ به لانه أعظم ذنب عصي الله به كما في الصحيحين عن ابن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم اي الذنب اعظم عند الله قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قوله والسحر تقدم معناه وهذا وجه إيراد المصنف لهذا الحديث في الباب قوله وقتل النفس التي حرم الله أي حرم قتلها إلا بالحق أي بفعل موجب للقتل كقتل المشرك المحارب والنفس بالنفس والزاني بعد الإحصان كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وسواء في ذلك القتل عمدا أو شبه عمد كما صرح به طائفة من الشافعية بخلاف قتل الخطأ فإنه لا كبيرة ولا صغيرة لأنه غير معصية قلت ويلتحق بذلك قتل المعاهد كما صح في الحديث من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة الحديث قوله وأكل الربا أي تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس إلى قوله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قال ابن(112/329)
340 ... دقيق العيد وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك قوله وأكل مال اليتيم يعنى التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع كما قال تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا قوله والتولي يوم الزحف أي الادبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير منحرف لقتال كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير قوله وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات هو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا وبكسرها الحافظات فروجهن منه والمراد الحرائر العفيفات ولا يختص بالمتزوجات بل حكم البكر كذلك بالاجماع كما ذكره الحافظ إلا إن كانت دون تسع سنين والمراد رميهن بزنا أو لواط والغافلات أي عن الفواحش وما رمين به لا خبر عندهن من ذلك فهو كناية عن البريئات لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا والمؤمنات أي بالله تعالى احترازا عن قذف الكافرات فإنه من الصغائر قال وعن جندب مرفوعا حد الساحر ضربه بالسيف رواه الترمذي وقال الصحيح أنه موقوف ش هذا الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف من طريق اسماعيل ابن مسلم المكي وقال بعد أن رواه لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه واسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه واسماعيل بن(112/330)
341 ... مسلم العبدي البصري قال وكيع هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف انتهى ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال صحيح غريب وقال الترمذي في العلل سألت عنه محمدا يعني البخاري فقال هذا لا شيء واسماعيل ضعيف جدا وقال الذهبي في الكبائر إنه من قول جندب وأشار مغلطاي إلى أنه وإن كان ضعيفا يتقوى بكثرة طرقه وقال خرجه جمع منهم البغوي الكبير والصغير والطبراني والبزار ومن لا يحصى كثرة قوله عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبدالله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره وخالد العبد ضعيف قال الحافظ والصواب أنه غيره فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب وقيل جندب بن زهير وقيل هما واحد كما قاله ابن حبان أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضرب ضربة فيكون أمة وحده قوله حد الساحر ضربه بالسيف روى بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا يقتل الساحر وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبدالله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبدالعزيز ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر وبه قال ابن المنذر وهو رواية(112/331)
342 ... عن أحمد والأول أولى للحديث ولأثر عمر الذي ذكره المصنف وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا قال وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر ابن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال فقلنا ثلاث سواحر ش هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف لكنه لم يذكر قتل السحرة ولفظه عن بجالة بن عبدة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوسي هجر وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرا ورواه عبدالرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولا ورواه القطيعي في الجزء الثاني من فوائده بزيادة فقال حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي ثنا هوذة بن خليفة ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعا كيما نلحقهم بأهل الكتاب ثم اقتلوا كل كاهن وساحر قلت وإسناده حسن قوله عن بجالة هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة قوله كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة إلى آخره صريح في قتل الساحر والساحرة وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل وظاهره أنه يقتل من غير استتابة وهو كذلك على المشهور عن أحمد وبه قال مالك إن الصحابة لم يستتيبوهم ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة(112/332)
343 ... وعن أحمد يستتاب فإن تاب قبلت توبته وخلي سبيله وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب وتقبل توبته فكذلك الساحر وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم قلت الأول أصح لظاهر عمل الصحابة فلو كانت الاستتابة واجبه لفعلوها أو بينوها وأما قياسه على المشرك فلا يصح لأنه أكثر فسادا وتشبيها من المشرك وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب لأن الاسلام يجب ما قبله وهذا الخلاف إنما هو في اسقاط الحد عنه بالتوبة أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقا قبلت توبته قال وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ش هذا الأثر رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت ورواه عبدالرزاق وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس واربعين قال وكذا صح عن جندب ش المراد به هنا قطعا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر وهو جندب ابن كعب بن عبدالله قال أبو حاتم جندب بن كعب قاتل الساحر ويقال جندب بن زهير فجعلها واحدا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره قال ابن عبد البر ذكر الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله ورواه البيهقي في(112/333)
344 ... الدلائل مطولا وفيه فقال الناس سبحان الله يحيى الموتى وراه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال إن كان صادقا فليحيي نفسه فأمر به الوليد فسجن وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة قوله قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ش أحمد هو الامام أحمد بن محمد بن حنبل وقوله عن ثلاثة أي صح قتل الساحر عن ثلاثة أوجاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني عمر وحفصة وجندبا والله اعلم باب بيان شيء من أنواع السحر لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء وعدوها من كرمات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتا بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليا لله تعالى لأن العادة تنخرق بفعل(112/334)
345 ... الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياضة مخالفة للشريعة كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم فيطيرون بهم في الهواء ويمشون بهم على الماء ويأتون بالطعام والشراب والدراهم وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الانسان في نفسه فتوافق القدر وتقع كما أخبر وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى وقد يكون ذلك استدراجا والأحوال الشيطانية كثيرة وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده لا إله إلا هو فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى قال الله تعالى إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون ولم يشترط ان يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة فدل أن الشخص قد يكون وليا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنا متقيا وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا ما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما ينهى وأعطوا من يجب أن يعطى ومنعوا من(112/335)
346 ... يجب أن يمنع وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون اليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئا وإن لم تجر على أيديهم خوارق فإن كانت الخوارق دليلا على ولاية الله فلتكن دليلا على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس ورهبان اليهود والنصارى وعباد الاصنام فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف ولكن هي من قبل الشياطين فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية فقال لا إله إلا الله فسقط وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانا أو يمشي على الماء أو يملأ ابريقا من الهواء أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلا من أن يكون وليا لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليا لله وقد يكون عدوا له فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع وتكون(112/336)
347 ... لهؤلاء من قبل الشياطين أو تكون استدراجا فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى المزابل رائحته خبيثة ركابا للفواحش يمشي في الأسواق كاشفا لعورته غامزا للشرع مستهزئا به وبحملته يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين كافرا بالله ساجدا لغير الله من القبور وغيرها يكره سماع القرآن وينفر منه ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليا لله محبوبا عنده حتى يكون متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فإن قلت فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية قيل إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق لأنه إذا كان الشخص مخالفا للشرع فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله ولا يستعان بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة كانت الخوارق الشيطانية له اقوى وأكثر من غيره فإن الجن الذي يقترنون بالإنس(112/337)
348 ... من جنسهم فإن كان كافرا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه وللسجود لهم وكتابة اسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي بخلاف الكرامة فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له والتمسك بكتابه واجتناب المحرمات فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا اسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين اولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين قال رحمه الله قال أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ثنا حبان بن العلاء وثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال العوف العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض والجبت قال الحسن رنة الشيطان إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه ش قوله قال احمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبدالرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك مات سنة ست ومائتين وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم العبدي(112/338)
349 ... البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة وله ست وثمانون سنة وحبان بن العلاء هو بالتحية ويقال حيان بن مخارق ابو العلاء البصري مقبول وقطن بفتحتين أبو سهلة البصري صدوق قوله عن أبيه هو قبيصة بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبدالله الهلالي صحابي نزل البصرة قوله إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال عوف العيافة زجر الطير هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك قال أبو السعادات العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا وهو كثير في أشعارهم يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وظن قوله والطرق الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف وهو تفسير صحيح وقال أبو السعادات هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء قلت وايا ما كان فهو من الجبت وأما الطيرة فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى قوله من الجبت أي من أعمال السحر قال القاضي والجبت في الاصل الفشل الذي لا خير فيه ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر وقال الطيبي من فيه إما ابتدائية أو تبعيضية فعلى الأول المعنى الطيرة ناشئة من الساحر وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة أو من جملة عبادة غير الله أي الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي الطيرة شرك انتهى وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم لأنه إذا كان الحظ ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة قوله قال الحسن رنة الشيطان لم أجد فيه كلاما(112/339)
350 ... قوله ولابي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه يعني أن هؤلاء رووا الحديث واقتصروا على المرفوع منه ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف وقد رواه أبو داود في التفسير المذكرو بدون كلام الحسن والنسائي هوالإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبدالرحمن صاحب السنن وغيرها من المصنفات روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة بن سعيد وخلق وكان اليه المنتهى في الحفظ والعلم لعلل الحديث مات سنة ثلاث وثلاث مئة وله ثمان وثمانون سنة قال وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد رواه ابو داود بإسناد صحيح ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف باسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه قوله من اقتبس قال أبو السعادات قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته انتهى وعلى هذا فالمعنى من تعلم قوله شعبة أي طائفة وقطعة من النجوم والشعبة الطائفة من الشيء والقطعة منه ومنه الحديث الحياء شعبة من الإيمان أي جزء منه قوله فقد اقتبس شعبة من السحر أي المعلوم تحريمه قال شيخ الإسلام فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر وقد قال الله تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة قوله زاد ما زاد يعني كلما زاد من علم النجوم زاد له من الأثم مثل إثم(112/340)
351 ... الساحر أو زاد اقتباس شعب السحر ما زاد اقتباس علم النجوم قلت والقولان متلازمان لأن زيادة الإثم فرع عن زيادة السحر وذلك لأنه تحكم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه فعلم أن تأثير النجوم باطل محرم وكذا العمل بمقتضاه كالتقرب إليها بتقريب القرابين لها كفر قاله ابن رجب قال وللنسائي من حديث أبي هريرة من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل اليه ش هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي ولم يبين هل هو موقوف أو مرفوع وقد رواه النسائي مرفوعا وذكر المصنف عن الذهبي أنه قال لا يصح وحسنه ابن مفلح قوله من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس مماذج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي لا الإذن القدري قاله ابن القيم قوله ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم(112/341)
352 ... قوله ومن تعلق شيئا وكل اليه أي من تعلق قلبه شيئا بحيث يتوكل عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء فإن تعلق العبد على ربه والهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه وكله اليه فكفاه ووقاه وحفظه وتولاه ونعم المولى ونعم النصير كما قال تعالى أليس الله بكاف عبده ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله اليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة وبالجملة فمن توكل على غير الله كائنا من كان وكل اليه وأتاه الشر في الدنيا والآخرة من جهته مقابلة له بنقيض قصده وهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه أو ركن إلى مخلوق يدبره أجرى الله تعالى له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به أماله وهذا أمر معلوم بالنص والعيان ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق بعين البصيرة النافذة رأى ذلك عيانا وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها الإشارة إلى أن الساحر متعلق على غير الله فإنه متعلق على الشياطين قال وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا هل أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس رواه مسلم ش قوله هل أنبئكم أي أخبركم قوله ما العضه هو بفتح العين المهملة وسكون المعجمة قال أبو السعادات هكذا تروى في كتب الحديث والذي جاء في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضة بكسر العين وفتح الضاد وفي حديث آخر اياكم والعضة قال الزمخشري أصلها العضهة فعلة من العضه وهو البهت فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة وتجمع على عضين ثم فسره بقوله هي النميمة القالة بين الناس وعلى هذا فاطلق عليها العضة لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبا ذكره(112/342)
353 ... القرطبي قلت ظاهر ايراد المصنف لهذا الحديث هنا يدل على أن معنى العضه عنده هنا هو السحر ويدل على ذلك حديث كادت النميمة أن تكون سحرا رواه ابن لال في مكارم الأخلاق بإسناد ضعيف وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال يفسد النمام والكذاب في ساعة مالا يفسد الساحر ف يسنة وقال ابو الخطاب في عيون المسائل ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس قال في الفروع ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة أشبه السحر ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين لكنه يقال الساحر إنما كفر لوصف السحر وهو امر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصا وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة والحديث دليل على تحريم النميمة وهو كذلك بالاجماع وقد قال أبو محمد بن حزم اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر وقوله القالة بين الناس قال أبو السعادات أي كثرة القول وايقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض ومنه الحديث ففشت القالة بين الناس قال ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال إن من البيان لسحرا ش البيان البلاغة والفصاحة قال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله أما قوله إن من البيان لسحر فالرجل يكون عليه الحق وهو الحن الحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر(112/343)
354 ... تأولته طائفة على الذم لأن السحر مذموم وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان قال وقد قال عمر بن عبدالعزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله فقال هذا والله السحر الحلال قلت الأول أصح وهو أنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه حتى يتوهم السامع انه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ونحو ذلك فسماه سحرا لأنه يستميل القلوب كالسحر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عيله وسلم إن من البيان لسحرا كما رواه مالك والبخاري وغيرهم وأما جنس البيان فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكما ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب أو تصوير الباطل في صورة الحق فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم وعلى هذا تدل الاحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها رواه أحمد وأبو داود وقوله لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير رواه أبو داود باب ما جاء في الكهان ونحوهم اعلم ان الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية لأن الله تعالى حرس(112/344)
355 ... السماء بالشهب ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى فيلقيه الى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب وأما ما يخبر به الجني مواليه من الانس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الانسان غالبا فكثير جدا في أناس ينتسبون الى الولاية والكشف وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء ولما ذكر المصنف شيئا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة والكهانة ادعاء علم الغيب كالاخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة فتلقيه في اذن الكاهن والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم وقال في المحكم الكاهن القاضي بالغيب وقال الخطابي الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون اليهم الكلمات قال وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما ش هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله في نسخة عبدالله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة اربعين يوما وليلة هكذا رواه وليس فيه فصدقه قوله عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هي حفصة على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة(112/345)
356 ... قوله من اتى عرافا فسأله عن شيء العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه أو شك في خبره لأن اتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية ابن الحكم السلمي قلت يا رسول الله إن منا رجالا يأتون الكهان قال فلا تأتهم رواه مسلم ولأنه إذا شك في خبره فقد شك في أنه لا يعلم الغيب وذلك موجب للوعيد بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله قوله لم تقبل له صلاة أربعين يوما إذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسؤول قال النووي وغيره معناه أنه لا ثواب له فيها وان كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى اعادة ونظير هذه الصلاة في ارض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء لكن لا ثواب له فيها قاله جمهور أصحابنا قالوا فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبه حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله هذا كلامه وهو مبني على الملازمة بين الإجراء وعدم الاعادة والصواب أن عدم الاعادة لا يستلزم الإجزاء لكن الصلاة في الارض المغصوبة في أجزائها نزاع والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزىء وتجب إعادتها وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئا من ذلك من التعزيرات وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في اتيانهم من المحذور قال وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا فصدقه(112/346)
357 ... بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ش هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه حدثنا موسى ابن اسماعيل ثنا حماد ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا قال موسى في حديثه فصدقه بما يقول أو أتى امرأة قال مسدد امرأته حائضا أو أتى أمرأة قال مسدد يعني امرأته في دبرها فقد برىء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث الأثرم وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده وقال البغوي سنده ضعيف وقال الذهبي ليس إسناده بالقائم قلت أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر وأخطأ في إطلاق ذلك فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة منها ما ذكره المصنف بعده وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسألني عن الكفر ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعا لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر والأحاديث في ذلك كثيرة وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم قال وللأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ش هكذا بيض المصنف اسم الراوي وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا ولفظ أحمد(112/347)
358 ... حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا اسناد صحيح على شرط البخاري فقد روى عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة حديث أن موسى كان رجلا حييا الحديث قال العراقي في أماليه حديث صحيح وقال الذهبي اسناده قوي وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم واظنه تبع في ذلك الحافظ فإنه عزاه في الفتح إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم ولعله أراد الذي قبله قوله من أتى كاهنا الى آخره قال بعضهم لا تعارض بين هذا الخبر وبين حديث من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر فإن اعتقد أن الجن تلقي اليه ما سمعته من الملائكة أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال وفيه نظر وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنه يعلم الغيب وسواء كان ذلك من قبل الشياطين أو من قبل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعا من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر قال المنذري ضعيف فهذا لو ثبت نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها اطلاق الكفر مقيدة بتصديقه قوله فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال الطيبي المراد بالمنزل الكتاب والسنة أي من ارتكب الهناة فقد برىء من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه انتهى وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر أو يجب التوقف(112/348)
359 ... فلا يقال ينقل عن الملة ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل هذا على التشديد والتأكيد أي قارب الكفر والمراد كفر النعمة وهذان القولان باطلان قال ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا ش أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك المسند وغيره روى عن يحيى بن معين وابي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة وهذا الأثر رواه البزار أيضا واسناده على شرط مسلم ولفظه من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر والمصدق لهما يعقتد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا قال وعن عمران بن الحصين مرفوعا ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه البزار بإسناد جيد ورواه الطبراني باسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله ومن أتى الى آخره ش هذا الحديث رواه الطبراني كما قال المصنف في الأوسط قال لمنذري اسناد الطبراني حسن واسناد البزار جيد قوله ليس منا أي ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا قوله من تطير أي فعل الطيرة أو تطير له اي امر من يتطير له كذلك معنى تكهن او تكهن له أو سحر له قوله رواه البزار اسمه أحمد بن عمرو بن عبدالخالق أبو بكر البزار(112/349)
360 ... البصري صاحب المسند الكبير الذي عزا اليه المصنف روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق قال الدارقطني ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين قوله قال البغوي العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقد مات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير وقال أبو العباس ابن تيمية العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق ش البغوي بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيها زاهدا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة قوله العراف الذي يدعي معرفة الأمور الى آخره هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة وأحسن منه كلام شيخ الإسلام أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالا منه فيلحق به من جهة المعنى وقال الامام أحمد العراف طرف من السحر والساحر أخبث وقال ابو السعادات العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به وقال ابن القيم من اشتهر باحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به(112/350)
361 ... وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة السحر ونحو هذا من علوم الجاهلية ونعني بالجاهلية كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة والكهان المنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فان هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس أعلموا إني أعلم المغيبات فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان فيكذبون معها مائة كذبة فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله فلا تزكوا أنفسكم وليس هذا من شأن الأولياء بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم فكيف يأتون الناس يقولون اعرفوا أنا أولياء وأنا نعلم الغيب وفي(112/351)
362 ... ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعودونه الناس وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار تم يقوم الى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الاولياء الأصفياء لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب بل مجرد دعواه علم الغيب كفر فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على خفافيش البصائر نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة فإن قلت كيف يكون علم الخط من الكهانة وقد روى أحمد ومسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك قلت قال النووي معناه أن من وافق خطه فهو مباح له لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة فلا يباح والقصد أنه لا يباح الا بيقين الموافقة وليس لنا يقين وقال غيره المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعلما لنبوته وقد انقطعت نبوته ولم يقل فذلك الخط حرام دفعا لتوهم ان خط ذلك النبي حرام قلت ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة(112/352)
363 ... صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي فمن وافق خطه أصاب وإذا كان كذلك وكانت الاصابة نادرة بالنسبة الى الخط ولا طريق الى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى اذا علمت ذلك فاعلم أن مذهب الامام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة فإن تابا وإلا قتلا ذكره غير واحد من الأصحاب فأما المعزم الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه والذي يحل السحر فقال في الكافي ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر فقال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال ما أدري ما هذا قيل له فترى أن يؤتى مثل هذا يحل قال ما أدري ما هذا قال وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه ولا يقتل قلت إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن فإنه يكفر ويقتل ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين قوله وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النحوم ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ش هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس ولم يعزه وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف ولفظه رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة ورواه أيضا حميد بن زنجويه عنه بلفظ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق قوله ما أرى يجوز فتح الهمزة من أرى بمعنى لا أعلم له عند الله من خلاق أي من نصيب ويجوز ضمها بمعنى لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من(112/353)
364 ... اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحروف ولبعض المبتدعة فيه مصنف فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس بذلك قوله وينظرون في النجوم هذا محمول على علم التأشير لا التسيير كما سيجيء في باب التنجيم وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون باب ما جاء في النشرة لما ذكر المصنف حكم السحرة والكهانة ذكر ما جاء في النشرة لأنها قد تكون من قبل الشياطين والسحرة فتكون مضادة للتوحيد وقد تكون مباحة كما سيأتي تفصيله قال أبو السعادات النشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال وقال الحسن النشرة من السحر وقد نشرت عنه تنشيرا ومنه الحديث فلعل طبا أصابه ثم نشره ب قل أعوذ برب الناس أي رقاه وقال غيره ونشرة أيضا إذا كتب له النشرة وهي كالتعويذ والرقية(112/354)
365 ... وقال ابن الجوزي النشرة حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر قال عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان رواه أحمد بسند جيد وأبو داود قال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله ش هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبدالرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح إسناد جيد وحسن الحافظ إسناده ورواه ابن أبي شيبة وابو داود في المراسبل عن الحسن رفعه النشرة من عمل الشيطان قوله سئل عن النشرة الألف واللام في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان لا النشرة بالرقي والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فإن ذلك جائز كما قرره ابن القيم فيما سيأتي قوله وقال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله مراد أحمد والله أعلم أن ابن مسعود يكره النشرة التي من عمل الشيطان والنشرة التي بكتابة وتعليق كالتمائم فإن ابن مسعود كان يكره التمائم كلها من القرآن وغير القرآن أما النشرة بالتعويذ والرقي بأسماء الله وكلامه من غير تعليق فلا أعلم أحدا كرهه وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر محمول على ما ذكرنا قال وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون(112/355)
366 ... به الاصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه ش هذا الأثر علقه البخاري ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب السنن من طريق ابان العطار عن قتادة مثله ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ يلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي البصري ثقة ثبت فقيه من أحفظ التابعين يقال إنه ولد أكمه مات سنة بضع عشرة ومائة قوله رجل به طب بكسر الطاء أي سحر يقال طب الرجل بالضم أذا سحر ويقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم وقال ابن الأنباري الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء طب والسحر من الداء يقال له طب قوله أو يؤخذ بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة أي يحبس عن امرأته ولا يصل الى جماعها والأخذة بضم الهمزة الكلام الذي يقوله الساحر قوله يحل بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول قوله وينشر بتشديد المعجمة قوله قال لا بأس به الى آخره يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الاصلاح أي ازالة السحر ولم ينه عما يراد به الاصلاح إنما ينهى عما يضر وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر ام لا فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك حاشاه منه ويدل على ذلك قوله إنما يريدون به الاصلاح فأي اصلاح في السحر بل كله فساد وكفر(112/356)
367 ... والله أعلم قال وروي عن الحسن أنه قال لا يحل السحر الا ساحر ش هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد بغير اسناد ولفظه لا يطلق السحر الا ساحر وروى ابن جرير في التهذيب من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا اذا كان بالرجل سحر أن يمشي الى من يطلق عنه فقال هو صلاح قال قتادة وكان الحسن يكره ذلك يقول لا يعلم ذلك الا ساحر قال فقال سعيد بن المسيب إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن الحسن هو ابن أبي الحسن واسمه يسار بالتحتانية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام فاضل من خيار التابعين مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين قوله قال ابن القيم النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان حل بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر الى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة فهذا جائز ش هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب أو على نوع لا يدري هل هو من السحر أم لا وكذلك ما روي عن الامام أحمد من اجازة النشرة فإنه محمول على ذلك وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية وليس في كلامه ما يدل على ذلك بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال لا أدري ما هذا قيل له أفترى أن يؤتى مثل هذا قال لا أدري ما هذا وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه وكيف(112/357)
368 ... وهو الذي روى الحديث انها من عمل الشيطان لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان وحاشاه من ذلك ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر باذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر أن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين الى قوله ولو كره المجرمون وقوله فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون الى آخر أربع آيات وقوله ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال ابن بطال في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل اذا حبس عن أهله باب ما جاء في التطير مصدر تطير يتطير والطيرة أيضا بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن مصدر تطير يقال تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فإذا أرادوا أمرا فإن رأوا الطير مثلا طاديمنة تيمنوا به وإن طار يسره تشاءموا به فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب(112/358)
369 ... نفع أو دفع ضر قال المدائني سألت رؤبة بن العجاج ما السانح قال ما ولاك ميامنه قلت فما البارح قال ما ولاك مياسره قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيع والذي يجىء من خلفك هو القاعد والقعيد ولما كانت الطيرة بابا من الشرك منافيا للتوحيد أو لكماله لأنها من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكره المصنف في كتاب التوحيد تحذيرا منها وإرشاد الى كمال التوحيد بالتوكل على الله وأعلم أن من كان معتنيا بها قابلا بها كانت اليه أسرع من السيل الى منحدره وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك قال وقول الله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ش اول الآية قوله تعالى فإذا جاءتهم حسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه الآية المعنى أن آل فرعون إذا صابتهم الحسنة أي الخصب والسعة والعافية على ما فسره مجاهد وغيره قالوا لنا هذه اي نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله وإن تصبهم سيئة أي بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه فيقولون هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال ألا إنما طائرهم عند الله قال ابن عباس طائرهم ما قضي عليهم وقد لهم وفي رواية ذكرها ابن جرير عنه قال الأمر من قبل الله وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله(112/359)
370 ... وقيل المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار لا هذا الذي اصابهم في الدنيا والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله أي ان الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي اجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير وقوله ولكن أكثرهم لا يعلمون أي ان أكثرهم جهال لا يدرون ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة وقال ابن جرير يقول تعالى ذكره ألا إنما طائر آل فرعون وغيرهم وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من انصباء الخير والشر عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه قال وقوله قالوا طائركم معكم الآية ش المعنى والله أعلم أي حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عندالله كما قال تعالى وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطيرة كأنه خير محض لا شر فيه وصلاح لا فساد فيه وحكمة لا عيب فيها ورحمة لا جور فيها فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير(112/360)
371 ... المحض والحكمة والرحمة بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم وانصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم ويحتمل أن يكون المعنى طائركم معكم أي راجع عليكم فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ذكره ابن القيم وقوله أئن ذكرتم أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون وقال قتادة ائن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر لأن الله تعالى لم يذكر النظير إلا عن اعدائه فهو من أمر الجاهلية لا من امر الاسلام قال عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر أخرجاه زاد مسلم ولا نوء ولا غول ش قوله لا عدوى قال أبو السعادات العدوى اسم من الإعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والابقاء يقال أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا يتقي مخالطته بابل أخرى حذار أن يتعدى ما به من الجرب اليها فيصيبها ما أصابه انتهى وفي بعض روايات هذا الحديث فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الابل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول وفي رواية في مسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يورد ممرض على مصح ثم أن أبا هريرة اقتصر على حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه فقالوا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة فلا أدري أنسي ابو هريرة أو نسخ أحد(112/361)
372 ... القولين الآخر وقد روى حديث لا عدوى جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وجابر بن عبدالله والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم فنسيان أبي هريرة له لا يضر وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا فردت طائفة حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه قالوا والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى وهذا ليس بشيء لأن حديث لا عدوى قد رواه جماعة كما تقدم وعكست طائفة هذا القول ورجحوا حديث لا عدوى وزيفوا ما سواه من الأخبار وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد وبأن عائشة انكرته كما روى ابن جرير عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت ما قال ذلك ولكنه قال لا عدوى وقال فمن أعدى الأول قالت وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي وهذا أيضا ليس بشيء فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة وحملت طائفة أخرى الاثبات والنفي على حالتين مختلفتين فحيث جاء لا عدوى كان للمخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد لكن القوي اليقين لا يتأثر به وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها وحيث جاء الاثبات كان المراد به ضعيف الايمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر وقال مالك لما سئل عن حديث فر من المجذوم ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك الا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء ومعنى هذا انه نفى العدوى أصلا وحمل الأمر(112/362)
373 ... بالمجانية على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد قلت وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله لا عدوى على الوجه الذي كانوا يعقتدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك ولهذا قال فر من المجذوم كما تفر من الأسد وقال لا يورد ممرض على مصح وقال في الطاعون من سمع به بأرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال فمن اعدى الأول يشير إلى أن الأول انما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده وروى الإمام أحمد والترمذي عن بن مسعود مرفوعا لا يعدي شيء قالها ثلاثا فقال الاعرابي يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أجرب الأول لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وأما أمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن ايراد الممرض على المصح وعن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك والأذى والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا(112/363)
374 ... كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك كما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم وقدوم بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره وأما اذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما اذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وقد أخذ به الإمام أحمد وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم ومن مشي سعد بن أبي وقاص وابي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب قوله ولا طيرة قال ابن القيم هذا يحتمل أن يكون نفيا أو يكون نهيا أي لا تتطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفي وابطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهي لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهي إنما يدل على المنع منه وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا أناس يتطيرون فقال ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به فوهمه وخوفه واشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا ان الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه(112/364)
375 ... ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم الى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة فما استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر فبادره بالانكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى ملخصا ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعا لا طيرة والطيرة على من تطير فظاهر هذا أنها تكون سببا لوقوع الشر بالمتطير وجوابه أن المراد بذلك من تطير تطيرا منهيا عنه وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا ورجاء وقطعه عن الالتفات الى غير الله وقال وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالاسباب المنهي عنها فانه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فانه كثيرا ما يصاب بما يخشى به وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس انها تدل على جواز الطيرة منها قوله عليه السلام الشؤم في ثلاث في المرأة والدابة والدار وفي رواية لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث الحديث وفي حديث آخر أن كان(112/365)
376 ... ففي الفرس والمرأة والمسكن رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه وقال الخطابي وابن قتيبة هذا مستثنى من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فانه شؤم وقالت طائفة لم يجزم النبي صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة بل علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها قالوا والراوي غلط قلت لا يصح تغليطه مع إمكان حملة على الصحة ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم وقالت طائفة أخرى الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشوؤمة عليه قالوا ويدل عليه حديث انس الطيرة على من تطير وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاءمه سببا لحلول المكروه كما يجعل الثقة بها الشر وقال ابن القيم اخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه اثبات الطيرة التي نفاها الله(112/366)
377 ... وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانا منها مشؤومة على من قاربها وسكنها وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما يريان الشر على وجهه وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له ويخلق بعضها نحوسا ينتحس بها من قاربها وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة والشركية لون انتهى قلت ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه وكذلك ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك ولكن يبقى على هذا أن يقال هذا جار في كل مشؤوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك ذكره في شرح السنن ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقالت يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة رواه أبو داود عن أنس بنحوه وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه وإن كان لا سبب له في ذلك(112/367)
378 ... وحب من جرى على يديه الخير لهم وإن لم يردهم به ولأن مقامهم فيها قد يقودهم الى الطيرة فيوقعهم ذلك في الشرك والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته وهذا بمنزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها الى غيرها ومنها فان قيل ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة الى هذا المعنى ثلاثة اقسام احدها ما لا يقع التطير منه نادرا أو لا مكررا فهذا لا يصغى اليه كنعي الغراب في السفر وصرخ بومة في دار وهذا كانت العرب تعتبره ثانيها ما يقع به ضرر ولكنه يعم ولا يخص يندر ولا يتكرر كالوباء فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه وثالثها سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة والفرس والدار فيباح له الاستبدال أو التوكل على الله والإعراض عما يقع في النفس ذكره في شرح السنن ومنها حديث اللقحة لما منع النبي صلى الله عليه وسلم حربا ومرة من حلبها وأذن ليعيش رواه مالك وجوابه أن ابن عبد البر قال ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله وإنما هو من طلب الفأل الحسن وقد كان قد أخبرهم عن أقبح الاسماء أنه حرب ومرة فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد وقد روى ابن وهب في جامعه ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث فقام عمر بن الخطاب فقال اتكلم يا رسول الله أم أصمت فقال بل اصمت(112/368)
379 ... واخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير الا طيره لا خير الا خيره ولكن أحب الفأل الحسن وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة قوله ولا هامة بتخفيف الميم على الصحيح قال الفراء الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني البومة قال ابن الأعرابي كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري وقال أبو عبيد كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير ويسمون ذلك الطائر الصدى وبه جزم ابن رجب قال وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل الى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور وكل هذه اعتقادات باطله جاء الإسلام بابطالها وتكذيبها ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها الى أن يردها الله الى أجسادها وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن العرب كانت في الجاهلية تقول إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة وهي دودة فتدور حول قبره وتقول اسقوني وفي ذلك يقول شاعرهم يا عمر وإن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حتى تقول الهامة اسقوني قال وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب قوله ولا صفر بفتح الفاء روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن رؤبة أنه قال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام ومن قال بهذا سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير وقال آخرون المراد به شهر(112/369)
380 ... صفر والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك وفيه نظر وروى أبو داود عن محمد ابن راشد عمن سمعه يقول إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال ابن رجب ولعل هذا القول أشبه الأقوال وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهي عن السفر فيه والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة قوله ولا نوء النوء واحد الأنواء وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء قوله ولا غول هو بالفتح مصدر معناه البعد والهلاك وبالضم الأسم وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا قال أبو السعادات الغول واحد الغيلان وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا أي تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله وقيل قوله لا غول ليس نفيا لعين الغول ووجوده وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله فيكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا ويشهد له الحديث الآخر لا غول ولكن السعالي سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل ومنه الحديث إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان أي ادفعوا شرها بذكر الله وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها ومنه حديث أبي أيوب كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ قال ولهما عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا طيرة(112/370)
381 ... ويعجبني الفأل وقالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة ش قوله ويعجبني الفأل قال أبو السعادات الفأل مهموز فيما يسر ويسوء والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء وربما استعملت فيما يسر يقال تفاءلت بكذا وتفاءلت على التخفيف والقلب وقد اولع الناس بترك الهمزة تخفيفا وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير ولو غلطوا في جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير وإذا قطعوا املهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول يا سالم أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد فيقع في ظنه أنه برىء من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل يا رسول الله ما الفال فقال الكلمة الصالحة قوله قالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة بين لهم صلى الله عليه وسلم ان الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها قال ابن القيم ليس في الاعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة ومن حب الفطرة الانسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها كما أخبرهم أنه حبب اليه من الدنيا النساء والطيب وكان يحب الحلوى والعسل ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع اليه ويجب معالى الاخلاق ومكارم الشيم وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي اليهما والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الاعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم اليه وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك فإذا قرعت هذه الاسماء الاسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب وإذا سمعت اضدادها أو جب لها ضد هذه الحال فأحزنها(112/371)
382 ... ذلك وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الايمان ومقارفة للشرك وقال الحليمي وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سؤء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق والتفاؤل حسن ظن به والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال قال ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فاذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ش قوله عن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما وهو مكي اختلف في نسبه فقال أحمد بن حنبل في روايته عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره الجهني واختلف في صحبته فقال الباوردي له صحبة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال المزي لا صحبة له تصح قوله فقال أحسنها الفأل قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد وروى أبو داود عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به وإن كره اسمه رؤي كراهيته ذلك في وجهه واسناده حسن فهذا في استعمال الفأل قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهماومضرة الآخر ونظير(112/372)
383 ... هذا منعه من الرقى بالشرك واذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة قوله ولا ترد مسلما قال الطيبي تعريض بأن الكافر بخلافه قوله اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ويعد من اعتقدها سفيها مشركا قوله ولا حول ولا قوة إلا بك استعانة بالله تعالى على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات والحول التحول والانتقال من حال إلى حال والقوى على ذلك أي لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك وذلك يفيد التوكل علىالله لأنه علم وعمل فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر وعامة المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين وهو داخل في هذه الكلمة لأن فيها التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والاقرار بقدرته على كل شيء وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة قال وعن ابن مسعود مرفوعا الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل(112/373)
384 ... آخره من قول ابن مسعود ش هذا الحديث رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان ولفظ أبي داود الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثا قوله الطيرة شرك صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله وقال ابن حمدان في الرعاية تكره الطيرة وكذا قال غير واحد من اصحاب أحمد قال ابن مفلح والأولى القطع بتحريمها ولعل مرادهم بالكراهة التحريم قلت بل الصواب القطع بتحريمها لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه قال في شرح السنن وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى قوله وما منا إلا قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري في الحديث إضمار والتقدير وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى وحاصله وما منا إلا من يعتريه التطير ويسبق الى قلبه الكراهة فيه فحذف ذلك اعتمادا على فهم السامع وقال الخلخالي حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام قوله ولكن الله يذهبه بالتوكل أي ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به واتبعنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدنا صدقه أذهب الله ذلك عنا وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق قوله وجعل آخره من قول ابن مسعود قال الترمذي سمعت محمد بن اسماعيل يقول كان سليمان بن حرب يقول في هذا وما منا هذا عندي من(112/374)
385 ... قول ابن مسعود فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء قال ابن القيم وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك قال ولأحمد من حديث ابن عمرو من ردته الطيرة من حاجته فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك قال أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ش هذا الحديث رواه الامام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص مرفوعا وفي اسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف وبقية رجاله ثقات قوله من حديث ابن عمرو هو عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل أبو عبدالرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف قوله من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين فيصير قلبه متعلقا بغير الله وذلك شرك فيفسد عليه إيمانه ويبقى هدفا لسهام الطيرة ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة قوله فما كفارة ذلك الى آخر الحديث هذا كفارة لما يقع من الطيرة ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله لا يأتي بخير ولا يدفع شرا وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلا على عباده واحسانا اليهم وأن الالهية كلها لله ليس فيها لاحد من الملائكة والانبياء عليهم السلام شركة فضلا عن(112/375)
386 ... أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به قوله من حديث الفضل بن العباس إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ش هذا الحديث رواه أحمد في المسند ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال ثنا بن علاثة عن مسلمة الجهني قال سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت يا رسول الله تطيرت قال إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هكذا رواه أحمد وفي اسناده نظر وقرأت بخط المصنف فيه رجل مختلف فيه وفيه انقطاع أي بين مسلم وبين الفضل وهوابن العباس بن عبدالمطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر ولد العباس قال ابن معين قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه وقال غيره قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة قال أبو داود قتل بدمشق كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم وقال الواقدي وابن سعد مات في طاعون عمواس قوله إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هذا حد للطيرة المنهي عنها بأنها ما أوجب للانسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله فإن ذلك من الطيرة وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته فإن ذلك أيضا من الطيرة باب ما جاء في التنجيم المراد هنا ذكر ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز وما ورد فيه من الوعيد(112/376)
387 ... قال شيخ الإسلام التنجيم هوالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وقال الخطابي علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ومجي المطر وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار وما كان في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها ويدعون أن لها تأثيرا في السفليات وأنها تجري على قضايا موجباتها وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطي لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه قلت واعلم أن التنجيم على ثلاثة أقسام أحدها ما هو كفر باجماع المسلمين وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكوكب والروحانيات وأن الكوكب فاعلة مختارة وهذا كفر بأجماع المسلمين وهذا قول الصابئة المنجمين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل عليه السلام ولهذا كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيما يسجدون لها ويتدللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم ويدعونها دعوات لا تنبغي إلا لخالقها وفاطرها وحده لا شريك له ويبنون لكل كوكب هيكلا أي موضعا لعبادته ويصورون فيه ذلك الكوكب ويتخذونه لعبادته وتعظيمه ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تنزل عليهم وتخاطبهم وتقضي حوائجهم وتلك الروحانيات هي الشياطين تنزلت عليهم وخاطبتهم وقضت حوائجهم وقد صنف بعض المتأخرين في هذا الشرك مصنفا وذكر صاحب التذكرة فيها الثاني الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها ونحو ذلك ويقول إن ذلك بتقدير الله ومشيئته فلا ريب في تحريم ذلك واخلتف المتأخرون في تكفير القائل بذلك وينبغي أن يقطع بكفره(112/377)
388 ... لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه الثالث ما ذكره المصنف في تعلم المنازل وسيأتي الكلام عليه قوله قال البخاري في صحيحه قال قتادة خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به ش هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه كما قال المصنف وأخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ والخطيب في كتاب النجوم عن قتادة ولفظه قال إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوما للشياطين فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه واضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم الا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذاالغيب ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء كل شيء قوله خلق الله هذه النجوم لثلاث إلى آخره هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله تعالى وعلامات وبالنجم هم يهتدون وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما هو ظاهر الآية وفيه حديث رواه ابن مردويه عن ابن مسعود قال(112/378)
389 ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظا من كل شيطان رجيم وقوله وعلامات أي دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك يهتدى بها بصيغة المجهول أي يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وليس المراد يهتدون بها في علم الغيب ولهذا قال فمن تأول فيها ذلك أي زعم فيها غير ماذكر الله تعالى في هذه الثلاث فادعى بها علم الغيب فقد أخطأ أي حيث تكلم رجما بالغيب وأضاع نصيبه أي حظه من عمره لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه بل مضرة محضة وتكلف ما لا علم له به أي تعاطى شيئا لا يتصور علمه لأن أخبار السماء والأمور المغيبة لا تعلم الا من طريق الكتاب والسنة وليس فيهما أزيد مما تقدم قال الداوودي قول قتادة في النجوم حسن الا قوله أخطأ وأضاع نصيبه فإنه قصر في ذلك بل قائل ذلك كافر فان قلت إن المنجمين قد يصدقون بعض الأحيان قيل صدقهم كصدق الكهان يصدقون مرة ويكذبون مئة وليس في صدقهم مرة ما يدل على أن ذلك علم صحيح كالكهان وقد استدل بعض المنجمين بآيات من كتاب الله على صحة علم التنجيم منها قوله وعلامات وبالنجم هم يهتدون والجواب انه ليس المراد بهذه الآية أن النجوم علامات على الغيب يهتدي بها الناس في علم الغيب وإنما المعنى وعلامات أي دلالات على قدرة الله وتوحيده وعن قتادة ومجاهد ان من النجوم ما يكون علامة لا يهتدى بها وقيل إن هذا(112/379)
390 ... من تمام الكلام الاول وهو قوله والقى في الارض رواسي أن تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات أي وألقى لكم معالم يعلم بها الطريق والاراضي من الجبال الكبار والصغار يستدل بها المسافرون في طرقهم وقوله وبالنجم هم يهتدون قال ابن عباس في الآية وعلامات يعني معالم الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون قال يهتدون به في البحر في اسفارهم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فهذا القول ونحوه هو معنى الآية فالاستدلال بها على صحة علم التنجيم استدلال على ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الاسلام بما لا يدل عليه لا نصا ولا ظاهرا وذلك أفسد انواع الاستدلال فإن الاحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم وذمه منها حديث ومن اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر الحديث وقد تقدم وعن عبدالله بن محيريز التابعي الجليل أن سليمان بن عبدالملك دعاه فقال لو علمت علم النجوم فازددت إلى علمك فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اخوف ما أخاف على أمتي ثلاث حيف الأئمة وتكذيب بالقدر وايمان بالنجوم وعن رجاء بن حيوة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة رواهما عبد بن حميد فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وعن أبي محجن مرفوعا أخاف على امتي من بعدي ثلاثا حيف الائمة وايمانا بالنجوم وتكذيبا بالقدر رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي وعن أنس مرفوعا أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبا بالقدر وإيمانا بالنجوم رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب النجوم وحسنه السيوطي أيضا وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر مرفوعا مفاتيح الغيب خمس(112/380)
391 ... لا يعلمها إلاالله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأت المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله لفظ الخباري وعن العباس بن عبدالمطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم رواه ابن مردويه وعن ابن عمر مرفوعا تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا وعن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم رواهما ابن مردويه والخطيب وعن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أما بعد فإن ناسا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وأنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة ورواه أبو داود وفي الباب آحاديث وآثار غير ما ذكرنا فتبين بهذا أن الاستدلال بالآية على صحة أحكام النجوم من أفسد أنواع الاستدلال ومنها قوله تعالى عن ابراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم والجواب أن هذا من جنس استدلاله بالآية الأولى في الفساد فأين فيها ما يدل على صحة أحكام النجوم بوجه من وجوه الدلالات وهل اذا رفع انسان بصره إلى النجوم فنظر إليها دل ذلك على صحة علم النجوم عنده وكل الناس ينظرون إلى النجوم فلا يدل ذلك على صحة علم أحكامها وكأن هذا ما شعر أن ابراهيم عليه السلام إنما بعث إلى الصابئة المنجمين مبطلا لقولهم مناظرا لهم على ذلك فإن قيل على هذا فما فائدة نظرته في النجوم(112/381)
392 ... قيل نظرته في النجوم من معاريض الأفعال ليتوصل به إلى غرضه من كسر الأصنام كما كان قوله بل فعله كبيرهم هذا فمن ظن أن نظرته في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن طالعه يقتضي عليه بالنحس فقد ضل ضلالا بعيدا ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح أنه عليه السلام يقول لست هنا كم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن وعدها العلماء قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله لسارة هي أختي فلو كان قوله إني سقيم أخذه من علم النجوم لم يعتذر من ذلك وإنما هي من معاريض الأفعال فلهذا اعتذر منها كما اعتذر من قوله بل فعله كبيرهم ذكر ذلك ابن القيم لكن قوله وعدها العلماء يدل على أنه لم يستحضر الحديث الوارد في عدها وقد رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب ابراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة هي أختي لفظ ابن جرير وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعا في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حال بها عن دين الله فقال إني سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي وفي اسناده ضعف وقال قتادة في الآية العرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم قال ابن كثير يعني قتادة أنه نظر الى السماء متفكرا فيما يكذبهم به فقال إني سقيم أي ضعيف قال وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد واسحق ش هذا هو القسم الثالث من علم التنجيم وهو تعلم منازل الشمس والقمر(112/382)
393 ... للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول وهو كما ترى من اختلاف السلف فيه فما ظنك بذينك القسمين ومنازل القمر ثمانية وعشرون كل ليلة في منزلة منها فكره وقتادة وسفيان بن عينية تعلم المنازل وأجازه أحمد واسحق وغيرهما قال الخطابي أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي واذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي وهذا علم يصح دركه بالمشاهدة إلا أن أهل هذه الصناعه قد دبروها بما اتخذوا له من الألات التي يستغني الناظر فيها عن مراعات مدته ومراصدته وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها على حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وادراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفته قلت وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا ان يتعلم الرجل منازل القمر قلت لأنه لا محذور في ذلك وعن ابراهيم أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به رواه ابن المنذر قال ابن رجب والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم قليله وكثيره وأما علم التسيير فتلعم ما يحتاج اليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور وما زاد عليه لا حاجة اليه لشغله عما هو أهم منه وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى اساءة الظن بمحاريب المسلمين كما وقع من أهل هذا العلم قديما وحديثا وذلك يفضي(112/383)
394 ... اعتقاده إلى خطأ السلف في صلاتهم وهو باطل انتهى مختصرا قلت وهذا هو الصحيح إن شاء الله ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تقدمت وهل يدخل في النهي وقت الكسوف الشمسي والقمري أم لا رجح ابن القيم أنه لا يدخل قوله ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من اجله أصحاب الإمام أحمد ورى عن أحمد وإسحق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم وله مصنفات جليلة منها كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره وأورد فيها الأحاديث والآثار وأظنه روى أثر قتادة وابن عيينة فيها مات سنة ثمانين ومائتين واسحق هو ابراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم قال أحمد اسحق عندنا إمام من أئمة المسلمين وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وروى هو أيضا عن أحمد مات سنة تسع وثلاثين ومائتين قال وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال صحيح واقره الذهبي وتمام الحديث ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن قوله عن أبي موسى هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري صحابي جليل استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وأمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين(112/384)
395 ... قوله ثلاثة لا يدخلون الجنة هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا أمروها كما جاءت وإن كان صاحبها لا ينتقل عن الملة عندهم وكان المصنف رحمه الله يميل إلى هذا القول وقالت طائفة هو على ظاهره فلا يدخل الجنة أصلا مدمن الخمر ونحوه ويكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلا أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم قوله مدمن الخمر أي المداوم على شربها قوله وقاطع الرحم أي القرابة كما قال تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم قوله ومصدق بالسحر مطلقا ويدخل فيه التنجيم لحديث من اقتبس علما من النجوم اقتبس علما من السحر وهذا وجه مطابقة الحديث للباب قال الذهبي في الكبائر ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها وهو محض السحر وعقد المرء عن زوجته ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه واشباه ذلك بكلمات مجهولة قال وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه وما بلغه الزجر فيه ولا الوعيد عليه فهذا الضرب فيهم تفصيل فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه(112/385)
396 ... باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء أي من الوعيد والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر قال ابو السعادات وهي ثمانيه وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها ومنه قوله تعالى والقمر قدرناه منازل يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر وينسبونه اليها فيقولون مطرنا بنوء كذا وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض وطلع قال وقول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلون رزقكم يقول شكركم أنكم تكذبون يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وهذا أولى ما فسرت به الآية وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة فالمعنى على هذا وتجعلون شكركم لله على ما انزل اليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون أي تنسبونه إلى غيره وقال ابن القيم أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم(112/386)
397 ... التكذيب به يعني القرآن قال الحسن تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله الا التكذيب به قلت والآية تشمل المعنيين قال عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم ش قوله عن أبي مالك الأشعري اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا جزم به الحافظ قوله أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن أي من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث سموا بذلك لفرط جهلهم وكل ما يخالف ما جاءت به الانبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة الى الجاهل فإن ما كانوا عليه من الاقوال والاعمال إنما أحدثة لهم جاهل وإنما يفعله جاهل قال شيخ الاسلام أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن في(112/387)
398 ... ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الاولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة قوله الفخر بالأحساب أي التشرف بالآباء والتعاظم بعد مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم إذ إلا شرف غلا بالتقوى كما قال تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحا الآية وقال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا إن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم من تراب ليد عن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الانسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك قوله والطعن في الانساب أي الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر اعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية متفق عليه فدل ذلك ان التعيير بالانساب من أخلاق الجاهلية وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذكر كفره وفسقه قاله شيخ الاسلام قوله والاستسقاء بالنجوم أي نسبة السقيا ومجيء المطر الى النجوم والانواء وهذا هو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على امته كما روى الامام أحمد(112/388)
399 ... وابن جرير عن جابر السوائي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أخاف على أمتي ثلاثا استسقاء بالنجوم وحيف السلطان وتكذيبا بالقدر إذا تبين هذا فالاستسقاء بالنجوم نوعان أحدهما أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم فهذا كفر ظاهر إذ لا خالق إلا الله وما كان المشركون هكذا بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر كما قال تعالى ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وليس هذا معنى الحديث فالنبي صلى الله عليه وسلم اخبر أن هذا لا يزال في أمته ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر الثاني أن ينسب إنزال المطر الى النجم مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له لكن معنى أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم فحكى انب مفلح خلافا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم لأنه من الشرك الخفي وهو الذي أراده النبي وأخبر أنه من أمر الجاهلية ونفاه وابطله وهو الذي كان يزعم المشركون ولم يزل موجودا في هذه الأمة إلى اليوم وأيضا فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد وسد لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الانسان كما قال لرجل قال له ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الانواء كدعاء الأموات وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب فإن هذا من الشرك الاكبر سواء قالوا إنهم شفعاؤنا إلى الله كما قال المشركون هؤلاء شفعاؤنا عند الله او اعتقدوا أنهم يخلقون ويرزقون(112/389)
400 ... وينصرون استقلالا على سبيل الكرامة كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الانواء مع عدم القصد والاعتقاد فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه اليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم انواع التصرفات أولى وأحرى قوله والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه الذي كل قضائه عدل وأيضا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر قوله وقال النائحه إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب وهو كذلك بالاجماع فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين كما يظنه كثير من أهل البدع فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم وعفو الله عنهم وفيه أن من تاب قبل الموت ما لم يغرغر فإن الله يتوب عليه كما في حديث ابن عمر مرفوعا ان الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه قوله تقام يوم القيامة أي تبعث من قبرها وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي السربال واحد السرابيل وهي الثياب(112/390)
401 ... والقمص يعني أنهن يلطخن بالقطران فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن والمها بسبب الجرب أشد وروي عن ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب وروى الثعلبي في تفسيره عن عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها فقيل يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها قال انها لا حرمة لها قال ولهما عن زيد بن خالد قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ش قوله عن زيد بن خالد أي الجهني المدني صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين بالكوفة وقيل غير ذلك وله خمس وثمانون سنة قوله صلى لنا أي صلى بنا فاللام بمعنى الباء قال الحافظ وفيه جواز إطلاق ذلك مجازا وإنما الصلاة لله قوله بالحديبية بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل قوله على إثر بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة وهو ما يعقب الشيء قوله سماء أي مطر واطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهه السماء قوله فلما انصرف أي من صلاته لا من مكانه كما يدل عليه قوله أقبل على الناس أي التفت اليهم بوجهه الشريف ففيه دليل على أنه لا ينبغي(112/391)
402 ... للامام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة بل ينصرف الى المأمومين كما صحت بذلك الأحاديث قوله هل تدرون لفظ استفهام ومعناه التنبيه وفي رواية النسائي ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة وهذا من الأحاديث القدسية قال الحافظ وهي تحمل على ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف قوله قالوا الله ورسوله أعلم فيه حسن الأدب للمسؤول عما لا يعلم وإنه يقول ذلك او نحوه ولا يتكلف ما لا يعنيه قوله قال أصبح من عبادي الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر فان قيل هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر قيل ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار قوله مؤمن بي وكافر المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك الى غير الله وكفران نعمته وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنزل له بدليل قوله في الحديث فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إلى آخره فلو كان المراد هو الأكبر لقال أنزل علينا المطر نوء كذا فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببا وفي رواية فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي فلم يقل فأما من قال إني المنزل للمطر فذالك من آمن بي لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك فدل على أن المراد إضافة ذلك الى غير الله وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله وروى النسائي والإسماعيلي نحوه(112/392)
403 ... وقال في آخره وكفر بي أو كفر نعمتي وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم قال الله تعالى ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين وله من حديث ابن عباس اصبح من الناس شاكر ومنهم كافر الحديث وفي حديث معاوية الليثي مرفوعا يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه فيصبحون مشركين يقولون مطرنا بنوء كذا رواه أحمد فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى بأن يقال مطرنا بنوء كذا قال ابن قتيبة كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم وإما بعلامته فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرا فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعا في ذلك فكفره كفر شرك وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وارادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة فيحمل الكفر فيه على المعنيين وقال الشافعي من قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا وغيره من الكلام أحب إلى منه قلت قد يقال إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك وغيره من الكلام أحسن منه أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز فالصحيح انه لا يجوز لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظا وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ كقوله لولا فلان لم يكن كذا وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فإن كثيرا من النعم قد تجر الانسان الى شر كالذين قالوا مطرنا بنوء كذا بسبب(112/393)
404 ... نزول النعمة وفيه التفطن للايمان في هذا الموضع ذكره المصنف يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى الله وحمده عليها كما في قوله فأما من حمدني على سقياي وثنى علي فذاك من آمن بي وقوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته الحديث وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة ذكره المصنف قوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته أي من نسبه الى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه فقال مطرنا بفضل الله ورحمته وفي الرواية الأخرى فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي وهكذا يجب على الانسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها اليك وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك والسر في ذلك والله أعلم أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان صنع له في ذلك وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك قوله وأما من قال مطرنا بنوء كذا الى آخره كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير الله وإن كان يعتقد أن المنزل للمطر هو الله ولهذا لم يقل فأما من قال أنزل علينا المطر أو أمطرنا نؤ كذا قال المصنف وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير الله كالنوء ونحوه على ما تقدم ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم فلا يستغنون عنه أبدا كان من شكره الواجب عليهم ان يضيفوه الى البر الرحيم المنعم ويشكروه(112/394)
405 ... فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن اليها والله تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله قال ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله تكذبون ش قوله ولهما الحديث لمسلم فقط ولفظه عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله قال بعضهم ذكر الواقدي في مغزيه عن أبي قتادة أن عبدالله بن أبي هو القائل في ذلك الوقت مطرنا بنوء الشعرى وفي صحة ذلك نظر قوله فلا أقسم بمواقع النجوم هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه وتقديره اقسم بمواقع النجوم ويكون جوابه إنه لقرآن كريم فعلى هذا تكون لا صلة لتأكيد النفي فتقدير الكلام ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم قال ابن جرير قال بعض أهل العربية معنى قوله فلا أقسم فليس الأمر كما تقولون ثم استؤنف القسم بعد فقيل أقسم ومواقع النجوم قال ابن عباس يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا(112/395)
406 ... إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا في السنين بعد ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء وقيل النجوم هي الكواكب ومواقعها مساقطها عند غروبها قال مجاهد مواقع النجوم يقال مطالعها ومشارقها واختاره ابن جرير وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه أحدها أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وآيات القرآن هداية بها في ظلمات الغي والجهل فتلك هداية في الظلمات الحسية وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الانس والجن والنجوم آياته المشهودة العيانية والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم وقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم قال ابن كثر أيو إن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه وقوله إنه لقرآن كريم هذا هو المقسم عليه وهو القرآن أي انه وحي الله وتنزيله وكلامه لا كما يقول الكفار إنه سحر وكهانة أو شعر بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله قال ابن القيم فوصفه بما يقتضي حسنا وكثرة خيره ومنافعه وجلالته فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع وهو من كل شيء أحسنه وأفضله والله سبحانه وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ووصف به عرشه ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر(112/396)
407 ... السلف الكريم بالحسن قال الأزهري الكريم اسم جامع لما يحمده والله تعالى كريم جميل الفعال وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة وقوله في كتاب مكنون قال ابن كثير أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر وقال ابن القيم اختلف المفسرون في هذا فقيل هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ويدل على انه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله لا يمسه إلا المطهرون فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وقوله لا يمسه الا المطهرون قال ابن عباس لا يمسه إلا المطهرون قال الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس قال وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون واختار هذا القول كثيرون منهم ابن القيم ورجحه وقال ابن زيد زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال وما تنزلت به الشياطين إلى قوله لمعزولون قال ابن كثير وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله وقال البخاري في صحيحه في هذه الآية لا يجد طعمه إلا من آمن به قال ابن القيم وهذا من اشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا وأنزله على رسوله وحيا ولا ينال معانيه إلا من(112/397)
408 ... لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه وقال آخرون لا يمسه إلا المطهرون أي من الجنابة والحدث قالوا ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب قالوا والمراد بالقرآن ههنا المصحف كما في حديث ابن عمر مرفوعا نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عيه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن الا طاهر وقوله تنزيل من رب العالمين قال ابن كثير أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع وفي هذه الآية إثبات أنه كلام الله تكلم به قال ابن القيم ونظيره ولكن حق القول مني وقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق واثبات علو الله سبحانه على خلقه فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج لأنا نقول إن الذي أنزلها فوق سمواته فأنزلها لنا بأمره قال ابن القيم وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم وحكمه عليهم وإحسانه وإنعامه عليهم وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى ويدعهم هملا ويخلقهم عبثا لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله(112/398)
409 ... واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس وتلك إنما تكون لخواص العقلاء وقوله أفبهذا الحديث انتم مدهنون قال مجاهد أي تريدون أن تمالوا فيه وتركنوا اليهم قال ابن القيم ثم وبجهنم سبحانه على وضعهم الأوهان في غير موضعه وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به ويعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب والافئدة ويحارب ويسالم لأجله ولا يلتوي عنه يمنه ولا يسره ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ولا محاكمة إلا إليه ولا مخاصمة إلا به ولا اهتداء في طرق المطالب العالية الا بنوره ولا شفاء الا به فهو روح الوجود وحياة العالم ومدار السعادة وقائد الفلاح وطريق النجاة وسبيل الرشاد ونور البصائر فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة وانما أنزل بالحق وللحق والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن ازالته أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن فيه وقوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون تقدم الكلام عليها أول الباب والله أعلم باب قول الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا(112/399)
410 ... يحبونهم كحب الله ش لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الاسلام الذي يدور عليه قطب رحاها فبكمالها يكمل الإيمان وبنقصانها ينقص توحيد الانسان نبه المنصف رحمه الله على وجوبها على الاعيان ولهذا جاء في الحديث أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه الحديث رواه الترمذي والحاكم وفي حديث آخر أحبوا الله بكل قلوبكم وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك رواه أحمد والترمذي وصححه وما أحسن ما قال القيم في وصفها هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون والى عملها شمر السابقون وعليها تفافي المحبون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده ففي بحار الظلمات والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الاسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام وهي روح الإيمان والاعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين الى بلاد لم يكونوا الا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم الى منازل لم يكونوا ابدا بدونها واصليها وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة وقد قضى الله تعالى يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة ان المرء مع من أحب فيا لها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون وأجابوا مؤذن الشوق إ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى(112/400)
411 ... محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا اليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وانما يحمد القوم السرى عند الصباح وأطال في وصفها فراجعه في المدارج واعلم أن المحبة قسمان مشتركة وخاصة فالمشتركة ثلاثة أنواع أحدها محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك وهذه لا تستلزم التعظيم الثاني محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم الثالث محبة أنس والف وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضا وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان يحب نساءه وعائشة أحبهن اليه وكان يحب أصحابه وأحبهم اليه الصديق رضي الله عنه القسم الثاني المحبة الخاصة التي لا تصلح الا لله ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وايثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا كما حققه ابن القيم وهي التي سوى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها كما قال تعالى في الاية التي ترجم لها المصنف ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا قال ابن كثير يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أندادا أي امثالا ونظراء يحبونهم كحبه ويعبدونهم معه وهو(112/401)
412 ... الله الذي لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه وقوله يحبونهم كحب الله أي يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم ولهذا يقولون لاندادهم وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فهذا هو مساواتهم برب العالمين وهو العدل المذكور في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون اما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الامور فما كان احد من المشركين يساوون اصنامهم بالله في ذلك وهذا القول رحجه شيخ الاسلام والثاني ان المعنى يحبون انداهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة اصحاب الانداد لاندادهم قال شيخ الاسلام وهذا متناقض وهو باطل فان المشركين لا يحبون الانداد مثل محبة المؤمنين الله ودلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله فقد اتخذه ندا لله وذلك هو الشرك الأكبر قاله المصنف وعلى وجوب افراد الله بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الالهية بل الخلق والامر والثواب والعقاب انما نشأ عن المحبة ولاجلها فهي الحق الذي خلقت به السموات والارض وهي الحق الذي تضمنه الامر والنهي وهي سر التأله وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله او ليس كما زعم المنكرون أن الإله هو الرب الخالق فإن المشركين كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه ولم يكونوا مقرين بتوحيد الالهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله الذي تألهه القلوب حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة إله بمعنى مألوه أي محبوب معبود واصله من التأله وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب فالمحبة حقيقة العبودية ودلت ايضا على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه وانما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الانداد في المحبة فكيف بمن لم(112/402)
413 ... احب الأنداد اكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب الله أصلا ولم يحب إلا الند وحده فالله المستعان وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلا للفائدة وإن لم يذكرها المصنف وفيها قولان أحدهما وهو الصحيح أن المعنى والذين آمنوا إشد حبا لله من محبة المشركين بالانداد لله فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الانداد قد ذهبت اندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من حب اصحاب الانداد لأندادهم التي يحبونها من دون الله قال ابن القيم والقولان مرتبان على القولين في قوله يحبونهم كحب الله وفي الآية دليل على أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وأن الشرك محبط للأعمال قال وقوله قل إن كان آباؤكم إلى قوله أحب إليكم من الله ورسوله الآية هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه أو أحد هذه الأشياء على الله ورسوله وجهاد في سبيله وقد خوطب بهذا المؤمنون في آخر الأمر كما قاله شيخ الاسلام فقيل لهم إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها أي حصلتموها وتجارة تخشون كسادها أي رخصها وفوات وقت نفاقها ومساكن ترضونها أي لحسنها وطيبها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره أي انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب الله والله لا يهدي القوم الفاسقين أي الخارجين عن طاعة الله(112/403)
414 ... وهو تنبيه على أن من فعل ذلك فهو من الفاسقين فهذا تشديد ووعيد عظيم ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص لله سره وإعلانه وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله وجهاد في سبيله فإن قلت قد قال شيخ الإسلام إن كثيرا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة قيل مراده أن كثيرا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب اليه من الله ورسوله أي في إيثار ذلك على فعل أمر الله وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب فهو مشرك فكيف اذا كان غير الله أحب اليه كما هو الواقع من عباد القبور فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة فإنها لا تقبل الشركة أصلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن وأسامة اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما حديث صحيح واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني فلما كثر المدعون لمحبة الله طولبوا بإقامة البينة فجاءت هذه الآية ونحوها فمن ادعى محبة الله وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله فهو كاذب كمن يدعي محبة الله وهو على غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب إذ لو كان صادقا لكان متبعا له قال مبارك بن فضالة عن الحسن قال كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون يا رسول الله إننا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني(112/404)
415 ... يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الانبياء ويطلبون من الله مالا يصلح بكل وجه إلا لله وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وشرط المحبة موافقة المحبوب فتحب ما يحب وتكره ما يكره وتبغض ما يبغض وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف وكقول بعضهم أي مريد لي ترك في النار أحدا فإنه بريء منه فقال الآخر أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فإنه بريء منه ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر والعاقل يتنبه وما هكذا كان سادات المحبين الانبياء والمرسلون والصحابة والتابعون فكن على حذر من ذلك فإن كثيرا من جهال المتصوفة وقع فيه وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين وهو إما كذب عليهم وإما خطأ منهم فإن العصمة منتفية عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجاه ش قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الايمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب(112/405)
416 ... إليه من أهله وولده والناس أجمعين بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضا كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر رواه البخاري فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرا فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله الا إذا ترك بعض واجباته فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الايمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أبو بكر ولا عمر فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين وهذا لا يقوله عاقل وعلى هذا فمن قال عن المنفي هو الكمال فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قاله شيخ الإسلام وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلا فالمدعي كاذب فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين الى قوله إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله(112/406)
417 ... ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة لكن كل مسلم لابد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلما وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الايمان المطلق لأن ذلك لا يحصل الا لخواص المؤمنين فإن الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الايمان الخاص قال شيخ الإسلام وهذا الفرق يجده الانسان من نفسه ويعرفه من غيره فعامة الناس اذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله وهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك وإلا فكثير من الناس لا يصلون الى اليقين ولا الى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ولا منافقين بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا الى نوع من النفاق انتهى قوله أحب هو بالنصب خبر كون قوله والناس أجمعين هو من عطف العام على الخاص وهو كثير وفي الحديث من الفوائد(112/407)
418 ... إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله وفيه أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل وقد نفي الإيمان عمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام وفيه وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ذكرهما المصنف قال ولهما عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وفي رواية لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى الى آخره ش قوله ثلاث أي ثلاث خصال وجاز الابتداء بثلاث لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين قوله من كن فيه أي وجدن وحصلن فهي تامة قوله وجد بهن حلاوة الايمان قال ابن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قلت والشجرة لها ثمرة والثمرة لها حلاوة فكذلك شجرة الإيمان لابد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث قوله أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما أحب منصوب(112/408)
419 ... لأنه خبر يكون قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه بطبعه ويميل اليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الإئتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذ بذلك التذاذا عقليا إذ الإلتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك قلت وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب اليه مما سواهما حبا قلبيا كما في بعض الأحاديث أحبوا الله بكل قلوبكم فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده وإنما يحب من سواه تبعا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه وان كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه الى آخر كلامه فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازما له لا أنه هو الحب وقال شيخ الاسلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي قال فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور تكميل هذه المحبة(112/409)
420 ... وتفريعها ودفع ضدها فتكميلها أن يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب بل لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما قلت ولا يكون كذلك الا إذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه قال وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله قلت فإن من أحب مخلوقا لله لا لغرض آخر كان هذا من تمام حبه لله فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب فإذا أحب أنبياء الله وأولياءه لأجل قيامهم بمحبوبات الله لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره قال ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار قلت وإنما كره الضد لما دخل قلبه من محبة الله فانكشف له بنور المحبة محاسن الاسلام ورذائل الجهل والكفران وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب كما في الصحيحين عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال ما أعددت لها قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنى أحب الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت وفي رواية للبخاري فقلنا ونحن كذلك قال نعم قال أنس ففرحنا يومئذ فرحا شديدا وقوله مما سواهما فيه جمع ضمير الرب سبحانه وضمير الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنكره على الخطيب لما قال ومن يعصهما فقد غوى وأحسن ما قيل فيه قولان أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره أنه ثنى الضمير هنا إيماء الى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة فإنها وحدها لاغية وأمر بالأفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم قلت وهذا جواب بليغ جدا(112/410)
421 ... الثاني حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى وهذا على الجواز وجواب ثالث وهو أن هذا ورد على الأصل وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح قوله كما يكره أن يقذف في النار أي يستوي عنده الأمران الإلقاء في النار والعود في الكفر قلت وفي الحديث من الفوائد أن الله تعالى يحبه المؤمنون وهو تعالى يحبهم كما قال يحبهم ويحبونه وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرا فأسلم فمن اتصف بهذه الأمور فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقا ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا والصواب أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة وإن كانوا في أول الأمر كفارا يعبدون الأصنام بل المنتقل من الضلال الى الهدى ومن السيئات الى الحسنات يضاعف له الثواب قاله شيخ الإسلام وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم لأن من أبغض شيئا أبغض من اتصف به فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار فكذلك يكره من اتصف به قوله وفي رواية لا يجد أحد هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه ولفظه لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله(112/411)
422 ... وحتى أن يقذف في النار أحب اليه من أن يرجع الى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه وحتى يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما قال وعن ابن عباس قال من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا رواه ابن جرير ش هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال المصنف وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط قوله من أحب في الله أي أحب المسلمين والمؤمنين في الله قوله وأبغض في الله أي أبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس اليه كما قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية قوله ووالى في الله هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة فيه إشارة الى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب وهي النصرة والاكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنا وظاهرا قوله وعادى في الله هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه أي اظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم والبعد عنهم باطنا وظاهرا اشارة الى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب بل لا بد مع ذلك من الاتيان بلازمه كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه(112/412)
423 ... إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فهذا علامة الصدق في البغض في الله قوله فإنما تنال ولاية الله بذلك يجوز فتح الواو وكسرها أي لا يكون العبد من أولياء الله ولا تحصل له ولاية الله الا بما ذكر من الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله وفي حديث آخر أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله عز وجل رواه الطبراني وغيره وينبغي لمن أحب شخصا في الله أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في الله كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعا إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب فإنه يجد مثل الذي يجد له قوله ولن يجد عبد طعم الإيمان الى آخره أي لا يجد عبد طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعا من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان رواه أبو داود والعجب ممن يدعي محبة الله وهو على خلاف ذلك وما أحسن ما قال ابن القيم أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمكان(112/413)
424 ... قوله وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا أي المؤاخاة على امر الدنيا لا يجدي على أهله شيئا أي لا ينفعهم أصلا بل يضرهم كما قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين فهذا حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة الله فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة الله فإنها من أعظم القربات كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين في وللمتزاورين في وللمتباذلين في وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه فكيف لو رأى الناس فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وفيه إشارة إلى ان الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر الى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلا عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى ابن ماجه عن ابن عمر قال لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم وأبلغ منه قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب وهؤلاء هم المتحابون لجلال الله كما في الحديث القدسي يقول الله عز وجل أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا وهي التي اوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قال المصنف وقال ابن عباس في قوله وتقطعت بهم الأسباب قال المودة(112/414)
425 ... ش هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قوله قال المودة أي المحبة التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا اليها وتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى عن ابراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لقومه إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب الله فإنها عامة لأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولهذا قال قتادة وتقطعت بهم الأسباب قال أسباب الندامة يوم القيامة والأسباب المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها فصارت عداوة يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير الله فاحذر من ذلك باب قول الله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها فلذلك قال المصنف على وجوب إخلاصه لله تعالى وقد ذكره الله تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة(112/415)
426 ... والأولياء والصالحين قال الله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال الله تعالى وهم من خشيته مشفقون وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وأمر باخلاصه له فقال تعالى وإياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى أفغير الله تتقون وهو على ثلاثة أقسام احدها خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة أو على سبيل الاستقلال فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له إن نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون(112/416)
427 ... من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون وقال تعالى ويخوفونك بالذين من دونه وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت كما يخافون الله بل أشد ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الايمان كاذبا أو صادقا فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى وكذلك لو أصاب أحدا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب وإذا أراد أن يظلم أحدا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدا ولم يتعرض له بالأذى حتى ان بعض الناس أخذ من التجار أموالا عظيمة أيام موسم الحج ثم بعد أيام اظهر الإفلاس فقام عليه أهل الأموال فالتجأ الى قبر في جدة يقال له المظلوم فما تعرض له أحد بمكروه خوفا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر وهذا الخوف لا يكون العبد مسلما إلا باخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه الثاني أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس فهذا محرم وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول يا رب خشيت الناس فيقول إياي كنت أحق أن تخشى رواه أحمد الثالث خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه(112/417)
428 ... ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال تعالى قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقال تعالى ويخافون يوما كان شره مستطيرا وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ونسبة الأول إليه كنسبة الاسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودا إذ لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله ولهذا قال شيخ الإسلام هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك فهو غير محتاج اليه بقي قسم رابع وهو الخوف الطبيعي كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والس في قوله فخرج منها خائفا يترقب إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف اولياءه أي يخوفكم اولياءه ويوهمكم أنهم ذو باس وشدة قال الله تعالى فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين اي فاذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على الا فإنه كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى اليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه إلى قوله قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال تعالى فقاتلوا اولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا قاله ابن كثير وقال ابن القيم ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده واوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر(112/418)
429 ... فأخبر تعالى ان هذا من كيده وتخويفه ونهانا أن نخافهم قال والمعنى عند جميع المفسرين يخوفكم بأوليائه قال قتادة يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم قلت فأمر تعالى باخلاص هذا الخوف له وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب ففيه ان إخلاص الخوف لله من الفرائض قال وقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى الا الله الآية لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله الآية إذا لا تنفعهم عمارتها مع الشرك كما قال تعالى وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة الذين لا يخشون الا الله ولا يخشون معه الها آخر كما قال تعالى ولا يخشون أحدا الا الله وكفى بالله حسيبا فهذه هي العمارة النافعة وهي الخالصة من الشرك فإنه نار تحرق الأعمال وقوله ولم يخش الا الله قال ابن عطية يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنيوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه(112/419)
430 ... قلت ولهذا قال ابن عباس الآية لم يعبد الا الله فإن الخوف كما قال ابن القيم عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والانابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب وقوله فعسى اولئك ان يكونوا من المهتدين قال ابن ابي طلحة عن ابن عباس يقول إن أولئك المهتدون كقوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وكل عسى في القرآن فهي واجبة وتضمنت الآية أن من عمر المساجد من المسلمين بالعبادة هو من المؤمنين كما في حديث إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان قال الله انما يعمد مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر رواه أحمد والترمذي والحاكم قال وقوله ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن قوم من الذين يدعون الايمان بألسنتهم ولم يثبت الايمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم فارتدوا عن الاسلام قال ابن عباس يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله وقال ابن القيم الناس إذا أرسل اليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول احدهم آمنا وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن(112/420)
431 ... بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلى بما يؤلمه ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تصل له اللذة ابتداء ثم يصير له الألم الدائم والانسان لابد أن يعيش مع الناس والناس لهم ارادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وان وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم الا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالاهانة والاذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو انكر عليهم وخالفهم وان سلم منهم فلا بد ان يهان ويعاقب على يد غيرهم فالحزم كل الحزم بما قالت ام المؤمنين لمعاوية من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا فمن هذاه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم ثم أخبر عن حال الداخل في الايمان بلا بصيرة وأنه اذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له وهي أذاهم له ونيلهم اياه بالمكروه وهو الألم الذي لا بد ان ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالايمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله الى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء(112/421)
432 ... الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم الى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن اذا استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة الى ألم الأبد واذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى قلت وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن جعل فتنة الناس كعذاب الله هوالخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله وذلك من جملة الخوف من غير الله وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة وفي الآية رد على المرجئة والكرامية وفيها الخوف على نفسك والاستعداد للبلاء اذ لابد منه مع سؤال الله العافية قال عن أبي سعيد مرفوعا إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله إن رزق الله لا يجره حوص حويص ولا يرده كراهية كاره ش هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي وأعله بمحمد ابن مروان السدي وقال ضعيف وفيه أيضا عطية العوفي أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال ضعفوة وموسى بن بلال قال الأزدي ساقط قلت اسناده ضعيف ومعناه صحيح وتمامه وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط قوله ان من ضعف اليقين قال في المصباح والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش خلاف القوة والصحة واليقين المراد به الإيمان كله كما قال ابن مسعود اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان رواه الطبراني بسند صحيح ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد(112/422)
433 ... من حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه قاله الحافظ ويدخل في ذلك تحقيق الايمان بالقدر السابق كما في حديث ابن عباس مرفوعا فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل وان لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وفي رواية أخرى في اسنادها ضعف قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك قوله أن ترضي الناس بسخط الله أي تؤثر رضاهم على رضي الله فترافقهم على ترك الأمور أو فعل المحظور استجلابا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هوالنافع الضار وأنه لا معول الا على رضاه وليس لسواه من الأمر شيء كائنا ما كان فلا يهاب أحدا ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته كما قال تعالى ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا قوله وأن تحمدهم على رزق لله أي تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرا قيض له أسبابا ولا ينافي ذلك حديث من لا يشكر الناس لا يشكر الله لأن المراد هنا اضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق والمراد بشكر الناس عدم كفر احسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت فإن لم تجد فجازهم بالدعاء قوله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله أي اذا طلبتهم شيئا فمنعوك ذمتهم على(112/423)
434 ... ذلك فلو علمت يقينا ان المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وان المخلوق مدبر لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وان الله لو قدر لك رزقا أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه وان ارادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في ايصاله اليك لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك الى الخالق تبارك وتعالى ولهذا قرر ذلك بقوله ان رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فلا ترض الخلق بما يسخط الله ولا تحمدهم على رزق الله ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله طلبا لحصول رزق من جهتهم فما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم قال شيخ الاسلام اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره فإذا ارضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعد الله ولا برزق الله فإنه انما يحمل الانسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة فإنك اذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم وإرضاؤهم بما يسخطه انما يكون خوفا منهم ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك الى الله لا لهم فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا ذممتهم على ما يقدر كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم ولما قال بعض وفد بني تميم أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين قال صلى الله عليه وسلم ذاك الله وفي الحديث ان الإيمان يزيد وينقص وان الأعمال داخلة في الإيمان والالم(112/424)
435 ... تكن هذه الثلاث من ضعفه واضدادها من قوته قال وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال كتب معاوية الى عائشة ان اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي فكتبت عائشة الى معاوية سلام عليك اما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام عليك رواه أبو نعيم وغيره قوله من التمس أي طلب قال شيخ الإسلام وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن ارضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما هذا اللفظ المأثور عنها وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كاف عبده ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك لكن يرضون إذا سلموا من الاعراض وإذا تبين(112/425)
436 ... لهم العاقبة ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا كالظالم الذي يعض على يديه وأما كون حامده ينقلب ذاما فهذا يقع كفرا ويحصل في العاقبة فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم قلت وإنما يحمل الانسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم فلو كان خوفه خالصا لله لما ارضاهم بسخطه فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة وما بهم من نعمة فمن الله فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله ومنه الخير كله وإليه يرجع الامر كله لا إله إلا هو العزيز الحكيم وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في قوله لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون وما أحسن ما قيل إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الارباب أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب ان هذا لشيء عجاب وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضى الله وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذا بالله من ذلك فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الاموال والأبدان وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب لا سيما في الدين فإن كثيرا من الناس يفعل(112/426)
437 ... المعاصي ويستهين ولا يرى اثرا لعقوبتها ولا يدري المسكين بماذا أصيب فقد تكون عقوبته في قلبه كما قال تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا ما وعدوه وبما كانوا يكذبون اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك باب قول الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قال أبو السعادات يقال توكل بالأمر اذا ضمن القيام به ووكلت أمري الى فلان أي ألجأته واعتمدت عليه فيه وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب اخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما تقدم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة بل جعله شرطا في الإيمان والاسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والاسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وقوله رب المشرق(112/427)
438 ... والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقوله ألا تتخذوا من دوني وكيلا وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وغير ذلك من الآيات وفي الحديث من سره أن يكون أقوى الناس إيمانا فليتوكل على الله رواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه أحمد وابن ماجه قال الامام أحمد التوكل عمل القلب وقال أبو اسماعيل الأنصاري التوكل كله الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الارض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفا من الجبارين بل يمضوا قدما لا يهابونهم ولا يخشونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين قال ابن القيم فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عد انتفائه وفي الآية الأخرى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فجعل دليل صحة الاسلام التوكل وقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه وكلما قوي ايمان العبد كان توكله أقوى واذا ضعف الإيمان ضعف التوكل واذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات(112/428)
439 ... الايمان والاحسان ولجميع أعمال الاسلام وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الراس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الايمان ومقوماته إلا على ساق التوكل قلت وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة وعلى أنه فرض وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك قال شيخ الاسلام وما جاء أحد مخلوقا أو توكل عليه الا خاب ظنه فيه فإنه مشرك ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قلت لكن التوكل على غير الله قسمان أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى الثاني التوكل في الأسباب الظاهرة العادية كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك فهذا نوع شرك خفي والوكالة الجائزة هي توكل الانسان في فعل مقدور عليه ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الاسلام قال وقوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية قال ابن عباس في الآية المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله(112/429)
440 ... ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فادوا فرائضه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف من الله ففعل أوامره وترك زواجره فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور وترك المحظور كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ولهذا قال السدي في قوله إذا ذكر الله وجلت قلوبهم هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وقوله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان ونقصانه قال عمر بن حبيب الصحابي إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه رواه ابن سعد وقال مجاهد في هذه الآية الايمان يزيد وينقص وهو قول وعمل رواه ابن أبي حاتم وحكى الاجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم وقوله وعلى ربهم يتوكلون أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين اليه امورهم وحده لا شريك له فلا يرجون سواه ولا يقصدون الا إياه ولا يرغبون الا اليه يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي الخوف وزيادة الايمان والتوكل على الله وحده فإن قيل إذا كان المؤمن حقا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور(112/430)
441 ... فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء قيل لأن ما ذكر مستلزم لما ترك فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله وزيادة ايمانهم اذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه واقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا والانفاق من المال والمنافع فكان مستلزما للباقي فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور وكذلك زيادة الايمان عند تلاوة آيات الله يقتضي ريادته علما وعملا ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه وأصل ذلك الصلاة والزكاة فمن قام بهذه الخمس كما أمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الاسلام قال وقوله يا أيها النبي حسبك الله الآية قال ابن القيم أي الله وحده كافيك وكافي اتباعك فلا تحتاجون معه الى أحد وقيل المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنين قال ابن القيم وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأنثى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم(112/431)
442 ... ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله سبحانه وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فتأمل كيف جعل الايتاء لله والرسول كما قال وما آتاكم الرسول فخذوه وجعل الحسب له فلم يقل وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال إنا إلى الله راغبون ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة اليه وحده كما قال وإلى ربك فارغب فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون الا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله وحسب اتباعه اي كافيهم وناصرهم فنعم المولى ونعم النصير وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل قال وقوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه قال ابن القيم اي كافيه ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء وهو في الحقيقة إحسان إليه واضرار بنفسه وبين الضرر الذي يشتفى به منه قال بعض(112/432)
443 ... السلف جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه وجلع جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا وكفاه ونصره انتهى وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال الله عز وجل في بعض كتبه بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والارضون بمن فيهن فإني أجعل له بذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الارض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفا بي لعبدي مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه وفي الآية دليل على فضل التوكل وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له ذكره شيخ الاسلام وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل كما قال واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فجعل التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها فحينئذ إذا توكل على الله فهو حسبه فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها(112/433)
444 ... كلها ذكر معناه ابن القيم قال عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقى في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا الآية رواه البخاري ش قوله حسبنا الله أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه كما قال ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه كما قال أليس الله بكاف عبده قوله ونعم الوكيل أي نعم الموكول اليه المتوكل عليه كما قال تبارك وتعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء اليه قال ابن القيم وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته اليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر وجلب اليه كل ما يحتاج اليه من المنافع قوله قالها ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين القي في النار في رواية عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل رواه البخاري وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء عليهم السلام قوله وقالها محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخره وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ان ابا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن مسعود وأبو عبيدة بن(112/434)
445 ... الجراح في سبعين راكبا حتى انتهى الى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع الى مكة ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون فقالوا نريد المدينة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها اليه قالوا نعم قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل والقصة مشهور في السير والتفاسير ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد ولهذا جاء في الحديث إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل رواه ابن مردوية وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان بل يجب على العبد القيام بهما كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فقال ما قلت قال قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص قال مجاهد في قوله فزادهم إيمانا قال الإيمان يزيد وينقص وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرا له وان التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير ودفع الشر في الدنيا والآخرة(112/435)
446 ... باب قول الله تعالى أفامنوا مكر الله فلا يامن مكر الله الا القوم الخاسرون المراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون هذا هو مقام الانبياء والصديقين كما قال تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فابتغاء الوسيلة اليه هو التقرب بحبه وطاعته ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان وقال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وقال عن شعيب قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الى أن يشاء الله ربنا فوكلا الأمر الى مالكه وقال تعالى عن الملائكة عليهم السلام يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكلما قوي ايمان العبد ويقينه قوي خوفه ورجاؤه مطلقا(112/436)
447 ... قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون قالت عائشة يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف ان يعاقب قال لا يا بنت الصديق هوالرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه رواه الامام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قال ابن القيم الخوف من أجل منازل الطريق وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم اليه أحوج وهم به أليق وله ألزم فإن العبد إما أن يكون مستقيما أو مائلا عن الاستقامة فإن كان مائلا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله ولا يصح الايمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أمور أحدها معرفته بالجناية وقبحها والثاني تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها الثالث أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها اذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف وضعفه هذا قبل الذنب فإذا عمله كان خوفه أشد وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيما مع الله فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب ويكفي في هذا قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فأي قرار لمن هذه حاله(112/437)
448 ... ومن احق بالخوف منه بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه فالخوف حشو قلبه لكن توارى عنه بغلبة غيره فوجود الشيء غير العلم به فالحوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله عز وجل وعزته وجلاله وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم انتهى فهذا الخوف الثاني هو من خوف المكر إذا علمت هذا فمعنى الآية المترجم لها أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هوالأمن من عذاب الله وعدم الخوف منه كما قال أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة بالله فأمنوا مكره فيما ابتلاهم به من السراء والضراء بأن يكون استدراجا فقال أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أي الهالكون فدل على وجوب الخوف من مكر الله قال الحسن من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له وقال قتادة بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط الا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر به الا القوم الفاسقون رواهما ابن أبي حاتم وفي الحديث إذا رايت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وقال اسماعيل بن رافع من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة رواه ابن أبي حاتم قال وقوله ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون(112/438)
449 ... نبه المصنف رحمه الله بهذه الآية على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط من رحمة الله بل يرجوها مع العمل الصالح كما قال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم فذكر سبحانه أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الاصرار على المعاصي فذاك من غرور الشيطان إذا تبين ذلك فقوله تعالى ومن يقنط حكاية قول ابراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بولده اسحاق عليه السلام فقال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبما تبشرون استبعادا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه ومن زوجته قالوا بشرناك بالحق اي الذي لا ريب فيه ولا مثنوية بل هو أمر الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وإن بعد مثله في العادة التي أجراها فإن ذلك عليه يسير إذا أراده فلا تكن من القانطين أي لا تيأس من رحمة الله قال ابراهيم عليه السلام ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون فأجابهم بأنه ليس بقانط ولكن يرجو من الله الولد وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك قال السدي ومن يقنط من رحمة ربه قال من ييأس من رحمة ربه رواه ابن أبي حاتم الا الضالون قال بعضهم إلا المخطئون طريق الصواب أو الكافرون كقوله لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون وفي حديث مرفوع العاجز الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القانط رواه الحكيم الترمذي والحاكم في تاريخه(112/439)
450 ... قال عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر قال الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ش هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئا فدخل عليه رجل فقال ما الكبائر فقال الشرك بالله وذكر الحديث ورجاله ثقات الا شبيب ابن بشر فقال ابن معين ثقة ولينه ابن أبي حاتم ومثل هذا يكون حسنا وقال ابن كثير في اسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا قوله الشرك بالله هو أكبر الكبائر إذ مضمونه تنقيص رب العالمين والههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله الا هو وعدل غيره به كما قال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فهو أظلم الظلم وأقبح القبيح ولهذا لا يغفر إن لم يتب منه بخلاف غيره من الذنوب ففي مشيئة الله إن شاء غفرها وإن شاء عذب بها قوله واليأس من روح الله اي قطع الرجاء والامل من الله فيما يرومه ويقصده قال تعالى ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح إلا القوم الكافرون وذلك إساءة ظن بكرم الله ورحمته وجوده ومغفرته قوله والأمن من مكر الله أي من استدراجه للعبد أو سلبه ما أعطاه من الإيمان نعوذ بالله من غضبه وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر بل الكبائر كثيرة لكن ذكر ما هو أكبرها أو من اكبرها ولهذا قال ابن عباس هي الى السبعين أقرب منها الى السبع رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وفي رواية هي الى سبعمائة أقرب منها الى سبع غير أنه لا كبيرة(112/440)
451 ... مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار قال وعن ابن مسعود قال اكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله رواه عبد الرزاق ش هذا الأثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود قال ابن كثير وهو صحيح اليه بلا شك ورواه الطبراني أيضا قوله اكبر الكبائر الإشراك بالله أي في ربوبيته أو عبادته وهذا بالاجماع قوله والقنوط من رحمة الله قال أبو السعادات هو أشد اليأس من الشيء قلت فعلى هذا يكون الفرق بينه وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء فيكون القنوط من اليأس وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر ولأهل القنوط بالضلال وفيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف وفي المرض الرجاء هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة إنه على كل شيء قدير باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله لما كان ببديع حكمته ولطيف رحمته قضى أن يبتلي النوع الانساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم أمرهم بالصبر على ذلك(112/441)
452 ... وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع صبر على المأمور وصبر على المحظور وصبر على المقدور ويشملها قوله تعالى والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وقوله تعالى الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ولما كان الصبر لا يحصل إلا بالله كما قال واصبر وما صبرك إلا بالله ارشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما وقال تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا قال الامام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا وقال النبي صلى الله عليه وسلم والصبر ضياء رواه أحمد ومسلم وقال عليه السلام ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر الصبر نصف الإيمان رواه أبو نعيم والبهيقي في الشعب وقال عمر وجدنا خير عيشنا بالصبر رواه البخاري وقال علي بن أبي طالب ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا قطع الرأس بار الجسد ثم رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة واشتقاقه من صبر اذا حبس منع فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والسخط والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم قال وقوله تعالى ومن يؤمن بالله يهد قلبه ش أول الآية ما اصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه(112/442)
453 ... والله بكل شيء عليم اخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله أي بقدره وأمره كما قال في الآية الأخرى إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قال ابن عباس في قوله إلا بإذن الله إلا بأمر الله يعني من قدره ومشيئته ومن يؤمن بالله يهد قلبه أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة وقد يخلف عليه أيضا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرا منه كما قال وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال ابن عباس يهد قلبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وفي الحديث الصحيح عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد الا للمؤمن وقوله والله بكل شيء عليم تبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته وذلك يوجب الصبر والرضى قوله قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح وعلقمة هو ابن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم وهو من(112/443)
454 ... كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين قوله هو الرجل تصيبه المصيبة إلى آخره هذا تفسير للايمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح لأن هذا لازم للايمان الراسخ في القلب وقريب منه تفسير سعيد بن جبير ومن يؤمن بالله يهد قلبه يعني يسترجع يقول إنا لله وانا إليه راجعون وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وان الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر قال وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ش قوله هما أي الاثنتان قوله بهم كفر أي هما بالناس أي فيهم كفر قال قال شيخ الإسلام أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار وهما قائمتان بالناس لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق حى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الاثبات قوله الطعن في النسب أي عيبه ويدخل فيه أن يقال هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم قوله والنياحة على الميت أي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله(112/444)
455 ... لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر وذلك كقول النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه ونحو ذلك وفيه دليل على أن الصبر واجب لأن النياحة منافية له فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر مالا ينقل عن الملة قال ولهما عن ابن مسعود مرفوعا ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية ش قوله ليس منا هذا من نصوص الوعيد وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تاويلها ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا وليس المراد اخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاقبته لست مني ولست منك فالمراد ان فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان قوله من ضرب الخدود قال الحافظ خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله قلت بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر فكما لو ضرب الخد فيدخل في معنى ضرب الخد إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم قوله وشق الجيوب جمع جيب وهوالذي يدخل فيه الرأس من الثوب وكانوا يشقونه حزنا على الميت قال الحافظ والمراد إكمال فتحه الى آخره قلت الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله قوله ودعى بدعوى الجاهلية قال شيخ الإسلام هو ندب الميت(112/445)
456 ... وقال غيره هو الدعاء بالويل والثبور وقال الحافظ أي من النياحة ونحوها وكذا الندب به كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور وقال ابن القيم الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء الى القبائل والعصبية للانسان ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية وكونه منتسبا اليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به فكل هذا من دعوى الجاهلية قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم الصبر الواجب والاضرار بالنفس من لطم الوجه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى وبدون هذا يثبت التحريم الشديد فأما الكلمات اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن أنس ان أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفاه وكذلك صح عن فاطمة رضي الله عنها انها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت يا ابتاه اجاب ربا دعاه الحديث واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلا وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة وحلق الشعر وخمش الوجوه ونحو ذلك أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك(112/446)
457 ... فيجوز بل قال شيخ الإسلام البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب ولا ينافي الرضى بقضاء الله بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه قلت ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه ابراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول الا ما يرضي الرب وإنا بك يا ابراهيم لمحزونون وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن اسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق الى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع اليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء قال وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ش هذا الأثر رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي وفي اسناده سعد بن سنان قال الذهبي في موضع سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبدالله بن مغفل وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي قوله اذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا قال شارح الجامع الصغير أي بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة كما يعلم من مقابله الآتي ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به لأن من حوسب بعمله عاجلا في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من الكاتب فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه(112/447)
458 ... قلت وفي الصحيح لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة قال شيخ الإسلام المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب ولأنها تدعو الى الصبر فيثاب عليها ولأنها تقتضي الانابة الى الله والذل له والاعراض عن الخلق الى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا ومعلوم أن هذا من أعظم النعم ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق الا أن يدخل صاحبها بسبها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فتكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب أو الكفر الظاهر أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررا في دينه بحسب ذلك فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة المصيبة كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية فهي بعينها فعل الرب عز وجل رحمة للخلق والله تبارك وتعالى محمود عليها فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها وإن اقترن بها للمؤمن معصية فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون فحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم فالصبر واجب على كل مصاب فمن(112/448)
459 ... قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصا قوله وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه اي أخر عنه العقوبة بذنبه قوله حتى يوافي به يوم القيامة هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل قال العزيزي أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب قلت وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا والله تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه كما لم يرضها لاثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم كما قال تعالى إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر لهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأسقام قال رجل يا رسول الله وما الأسقام والله ما مرضت قط قال قم عنا فلست منا رواه أبو داود وهذه الجملة هي آخر الحديث فأما قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عظم الجزاء إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي باسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافا لما يظنه كثير من الناس وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر وفيه تنبيه على رجاء الله وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية قال المصنف وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط حسنه الترمذي(112/449)
460 ... ش هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه حديثا قتيبة ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبده الخير الحديث الذي قبل هذا ثم قال وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن عظم الجزاء الحديث ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ورواه ابن ماجه وصححه السيوطي روى الامام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعا إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع قال المنذري رواته ثقات قوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقا قلت ولما كان الانبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء كما في حديث سعد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه وقد يحتج بقوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ومن يقول إن المصائب والأسقام ويثاب عليها غير تكفير الخطايا ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا أن كانت سببا لعمل صالح كالتوبة والاستغفار والصبر والرضى فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث اذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها أو قال لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل(112/450)
461 ... رواه ابو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم وعلى هذا فيجاب عن الأول إن عظم الجزاء مع عظم البلاء أي إذا صبر واحتسب قوله وإن الله اذا أحب قوما ابتلاهم صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله ولما كان الانبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصيب أحدا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم فإن قلت كيف يبتلي الله أحبابه قيل لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرا لهم كما صحت بذلك الأحاديث وفي أثر إلهي ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في حديث إذا سبقت للعبد من الله منزلة الحديث ولأن ذلك يدعو الى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع اليه ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه وأن لا تدع مع الله(112/451)
462 ... إلها آخر لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده وتطيع رسله بفعل المأمور وترك المحظور كنت ممن يعبد الله وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك فتسأله ما تنتفع به وتستعيذ به مما تستضر به كان هذا من أعظم نعم الله عليك وهذا كثيرا ما يحصل بالمصائب واذا كانت هذه النعم في المصائب فأولى الناس بها أحبابه فعليهم حينئذ أن يشكروا الله لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله قوله فمن رضي فله الرضى أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله جزاءا وفاقا كما قال تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه وهذا دليل على فضيلة الرضى وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقال لاتتهم الله في شيء قضاه لك فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته وأنه غير متهم في قضائه دعاه ذلك إلى الرضى قال ابن مسعود إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقال ابن عون ارض بقضاء الله من عسر ويسر فإن ذلك أقل لهمك وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضى ذكره ابن رجب قال وهذا كلام حسن(112/452)
463 ... قوله ومن سخط هو بكسر الخاء قال ابو السعادات السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به أي من سخط أقدار الله فله السخط أي من الله وكفى بذلك عقوبة قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على ايجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل واختار القاضي عدم الوجوب ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم قال شيخ الإسلام ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم قال وأما ما جاء من الأثر من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله فليلتمس إلها غير الله قال الهيثمي فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات فإن ثبت هذا دل على وجوبه قال شيخ الإسلام وأعلى من ذلك أي من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها انتهى واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر الله فإن قيل ما الفرق بين الرضى والصبر فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز والفضيل وأبو سليمان وابن المبارك وغيرهم إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر وقال الخواص الصبر دون الرضى الرضى أن يكون(112/453)
464 ... الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر قلت كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث وأسألك الرضى بعد القضاء لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة قاله ابن رجب باب ما جاء في الرياء أي من الوعيد ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطا في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد نبه المصنف على ذلك تحقيقا للتوحيد والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء وهو أن يري الناس أنه يعمل عملا على صفة وهو يضمر في قلبه صفة أخرى فلا اعتداد ولا ثواب إلا بما خلصت فيه النية لله تعالى ذكره القاضي أبو بكر بمعناه وقال الحافظ هو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها انتهى والفرق بينه وبين السمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس والسمعة العمل لأجل سماعهم فالرياء يتعلق بحاسة البصر والسمعة بحاسة السمع ويدخل فيه أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس قال وقول الله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد الآية(112/454)
465 ... يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل يا محمد للناس إنما أنا بشر مثلكم أي في البشرية ولكن الله من علي وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له كما قال يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي معبودكم الذي أدعوكم الى عبادته إله واحد لا شريك له فمن كان يرجو لقاء ربه أي من كان يخاف لقاء الله يوم القيامة قال شيخ الإسلام أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والسير وقالوا إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى وأطال في ذلك واحتج له وقال سعيد بن جبير فمن كان يرجو لقاء ربه قال من كان يخشى البعث في الآخرة رواه ابن أبي حاتم فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي كائنا ما كان قال ابن القيم أي كما أنه إله واحد لا إله سواه فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة انتهى وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صوابا خالصا فالصواب أن يكون على السنة وإليه الاشارة بقوله فليعمل عملا صالحا والخالص ان يخلص من الشرك الجلي والخفي واليه الاشارة بقوله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا روى عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن أبي حاتم والحاكم عن طاوس قال قال رجل يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا رواه الحاكم وصححه موصولا عن طاوس عن ابن عباس(112/455)
466 ... وفي الآية دليل على الشهادتين وأن الله تعالى فرض على نبينا أن يخبرنا بتوحيد الإلهية وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ذكره المصنف وفيها تسمية الرياء شركا وفيها أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا ففيه التصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة لا في الربوبية وفيها الرد على من قال اولئك يتشفعون بالأصنام ونحن نتشفع بصالح لأنه قال ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فليس بعد هذا بيان افتتح الآية بذكر براءة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق الى الله وسيلة أي براءته من الإلهية وختمها بقوله أحدا واعلم رحمك الله أن هذه الآية المعرفة التي تنفعه إلا من ميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الالهية تمييزا تاما وعرف ما عليه غالب الناس إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل اليه شرك المشركين وإما مصدق لهم تابع لهم وإما شاك لا يدري ما أنزل الله على رسوله ولا يميز بين دين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين دين النصارى ذكره المصنف وفيها أن أصل دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به هو الاخلاص كما في هذه الآية وقوله كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا الا الله إنني لكم منه نذير وبشير وذلك هو دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وذلك هو الحنيفية الإبراهيمية جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه قال عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه رواه مسلم(112/456)
467 ... ش قوله أنا أغنى الشركاء عن الشرك لما كان المرائي قاصدا بعمله الله تعالى وغيره كان قد جعل الله تعالى شريكا فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الاطلاق والشركاء بل جميع الخلق فقراء اليه بكل اعتبار فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء فقد تقع المفاضلة بين الشيئين وإن كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى آلله خير أما يشركون وقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا قوله من عمل عملا اشرك معي فيه غيري أي من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين تركته وشركه وفي رواية عند ابن ماجه وغيره فأنا منه بريء وهو للذي أشرك قال الطيبي الضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل والمراد من الشرك الشريك قال ابن رجب واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضا فلا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس وكذلك وصف الله الكفار بالرياء في قوله ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدفة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها فإن الاخلاص فيها عزيز وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن(112/457)
468 ... شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك منها الحديث الذي ذكره المصنف وحديث شداد بن أوس مرفوعا من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك وإن الله عز وجل يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن اشرك بي شيئا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني رواه أحمد وحديث الضحاك بن قيس مرفوعا إن الله عز وجل يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله عز وجل فإن الله لا يقبل من الأعمال الا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله والرحم فإنها للرحم وليس لله منه شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنه لوجوهكم وليس لله منه شيء رواه البزار وابن مردويه والبهيقي بسند قال المنذري لا بأس به وحديث أبي أمامة الباهلي أن رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل الا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه رواه أبو داود والنسائي باسناد جيد ثم قال فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية وفي صحيح مسلم عن عبدالله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الغزاة اذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم قلت هذا لا يدل على أنهم غزوا لأجلها فلا يدل على ثبوت الأجر لمن غزا يلتمس عرضا قال وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد الا الدنيا قلت ظاهر حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضا من عرض(112/458)
الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
469 ... لا أجر له فأعاد عليه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لا أجر له رواه أبو داود يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر ويحتمل أن يكون معنى يريد الجهاد أي يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد انما نوى عرض الدنيا قال ابن رجب وقال الامام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد اذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئا أخذه وكذا روي عن عبد الله ابن عمرو قال إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وإما أن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن لم يعط درهما لم يغز فلا خير في ذلك قلت هذا يدل على الفرق بين ما كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة بحيث تكون هي الباعث له على العمل أو من جملة ما يبعث عليه كالذي يلتمس الأجر والذكر فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة لله من أول مرة ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به سواء حصل له أو لم يحصل كالذي أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط فهذا لا يضره ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وعلى هذا ينزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب قال وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من(112/459)
470 ... السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري ورجحا ان عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل فمنهم من يقاتل للدنيا ومنهم من يقاتل نجدة ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله قال كلهم إذا كان اصل أمره ان تكون كلمة الله هي العليا وذكره ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو عمل مرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما مالا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وانفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج الى تجديد نية فأما اذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره وفي هذا المعنى جاء في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن رواه مسلم انتهى ملخصا إذا تبين هذا فقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء وجاء الوعيد بالعذاب عليه قال الله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون والآية بعدها وروى مسلم في صحيحه حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار المقاتل ليقال جريء والمتعلم ليقال عالم والمتصدق ليقال جواد فأما ما رواه البزار وابن مندة والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا من عمل رياء لا يكتب لاله ولا عليه ذكره السيوطي في الدر ولم أقف على إسناده فما أظنه يثبت والكتاب والسنة يدلان على خلافه بل هو موضوع(112/460)
471 ... قال وعن أبي سعيد مرفوعا ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال قالوا بلى قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل رواه أحمد ش هذا الحديث رواه أحمد كما قال المصنف ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والبيهقي وفيه قصة ولفظ ابن ماجه والبيهقي خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ألا أخبركم الحديث وفي سنده ضعف ومعناه صحيح وروى ابن خزيمة في صحيحه معناه عن محمود بن لبيدة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر قال يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الرجل اليه فذلك شرك السرائر قوله عن أبي سعيد هو الخدري تقدمت ترجمته قوله ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال إنما كان الرياء كذلك لخفائه وقوة الداعي إليه وعسر التخلص منه لما لا يزينه الشيطان والنفس الأمارة في قلب صاحبه قوله قالوا بلى فيه الحرص على العلم وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك ينبغي لك رده بل قابله بالقبول والتعلم قوله قال الشرك الخفي سمي الرياء شركا خفيا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله ويخفي في قبله أنه لغيره وإنما تزين باظهاره أنه لله بخلاف الشرك الجلي وفي حديث محمود بن لبيد الذي تقدم في باب الخوف من الشرك تسميته بالشرك الأصغر وعن شداد بن اوس قال كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن جرير في(112/461)
472 ... التهذيب والطبراني والحاكم وصححه فظاهره أنه من الأصغر مطلقا وهو ظاهر قول الجمهور وقال ابن القيم وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك وما لي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء فدل على أن كثيره أكبر وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص وهو إفراد الله تعالى بالعبادة باطنا وظاهرا كما قال تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقال تعالى قل الله أعبد مخلصا له ديني وقيل الإخلاص استواء أحوال العبد في الظاهر والباطن والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه أي لملاحظة الخلق والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره قوله فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل لله لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك لما يرى من نظر رجل فهذا هو الشرك الخفي وهو الرياء والحامل له على ذلك هو حب الرياسة والجاه عند الناس قال الطيبي وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة فانهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة الى الظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل فوجدت(112/462)
473 ... مخلصا من مشقة المجاهدة الى لذة القبول عند الخلق ولم يقتنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده فأحببت مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات وأعظم الشهوات وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعباداته وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافدة قد أثبت اسمه عند الله من المنافقين وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة انتهى كلامه وفي الحديث من الفوائد شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال والحذر من الرياء ومن الشرك الأكبر إذ كان صلى الله عليه وسلم يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم فغيرهم أولى بالخوف باب من الشرك إرادة الانسان بعمله الدنيا قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ بل المراد بهذا أن يعمل الانسان عملا صالحا يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لذلك بخلاف المرائي فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها والمرائي عمل لأجل المدح والجلالة في أعين الناس وكلاهما خاسر نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه(112/463)
474 ... قال وقوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية قال ابن عباس من كان يريد الحياة الدنيا أي ثوابها أي مآلها وزينتها نوف إليهم نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون ثم نسختها ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية رواه النحاس في ناسخه وقوله ثم نسختها أي قيدتها أو خصصتها فإن السلف كانوا يسمون التقيد والتخصيص نسخا وإلا فالآية محكمة وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الايمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا واختاره الفراء قال ابن القيم وهذا القول أرجح ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وقالت طائفة هذه الآية في حق الكفار بدليل قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار أي انهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها وحبط ما صنعوا فيها قال بعض المفسرين أي وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى اليهم ما أرادوا وباطل ما كانوا يعملون أي كان عمله في نفسه باطلا لأنه لم يعمل لوجه صحيح والعمل الباطل لا ثواب له انتهى فإن قيل الآية على القول الأول تقتضي تخليد المؤمن من المريد بعمله الدنيا في النار قيل إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها(112/464)
475 ... وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فإذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها بل أراد به الله والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل ونجاه هذا الإيمان من الخلود في النار وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة فالإيمان إيمانان إيمان يمنع دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله وحده يبتغى بها وجهه وثوابه وإيمان يمنع الخلود في النار فإن كان مع المرائي شيء منه وإلا كان من أهل الخلود فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد ذكره ابن القيم وقد سئل شيخ الاسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان الى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الانسان أو يتركه خالصا لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظه أهله وعياله أو إدامة النعم عليهم ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب وهذا النوع ذكره ابن عباس النوع الثاني وهو اكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهوأن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة النوع الثالث أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها أو يجاهد لأجل الغنم(112/465)
476 ... فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رياستهم أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لاجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل والنوع الأول أعقل من هؤلاء لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار النوع الرابع أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله او تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام الكلية اذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره وكان السلف يخافون منها قال بعضهم لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول إنما يتقبل الله من المتقين ثم قال بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما وقد قال بعضهم القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو(112/466)