محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال سألت وليد بن القاسم إلى أي شيء ينسب الصوفي فقال # كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة انقطعوا إلى الله عز وجل وقطنوا الكعبة فمن تشبه بهم فهم الصوفية قال عبد الغني فهؤلاء المعروفون بصوفة ولد الغوث بن مر بن أخي تميم بن مر وبالاسناد إلى الزبير بن بكار قال كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أد بن طابخة ثم كانت في ولده وكان يقال لهم صوفة وكان اذا حانت الإجازة قالت العرب أجز صوفة قال الزبير قال أبو عبيدة وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئا من غير أهله أو قام بشيء من أمر المناسك يقال لهم صوفة وصوفان قال الزبير حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال إنما سمي الغوث بن مرصوفة لأنه ما كان يعيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيط الكعبة ففعلت فقيل له صوفة ولولده من بعده قال الزبير وحدثني ابراهيم بن المنذري عن عبد العزيز بن عمران قال أخبرني عقال بن شبة قال قالت أم تميم بن مر وقد ولدت نسوة فقالت لله علي أن ولدت غلاما لأعبدنه للبيت فولدت الغوث بن مر فلما ربطته عند البيت أصابه الحر فمرت به وقد سقط واسترخى فقالت ما صار ابني إلا صوفة فسمي صوفة وكان الحج واجازة الناس من عرفة إلى منى ومن منى إلى مكة لصوفة # فلم تزل الإجازة في عقب صوفة حتى اخذتها عدوان فلم تزل في عدوان حتى اخذتها قريش(105/189)
نقد مسالك الصوفية # قال المصنف وقد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة وإنما ذهبوا إلى هذا لأنهم رأوا أهل الصفة على ما ذكرنا من صفة صوفة في الإنقطاع إلى الله عز وجل وملازمة الفقر فإن أهل الصفة كانوا فقراء يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أهل الصفة والحديث باسناد عن الحسن قال بنيت صفة لضعفاء المسلمين فجعل المسلمون يوصلون إليها ما استطاعوا من خير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول السلام عليكم يا أهل الصفة فيقولون وعليك السلام يا رسول الله فيقول كيف أصبحتم فيقولون بخير يا رسول الله وبإسناد عن نعيم بن المجمر عن أبيه عن أبي ذر قال كنت من أهل الصفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل فيبقى من بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤثرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعش فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناموا في المسجد # قال المصنف وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة وهي بقلة رعناء قصيرة فنسبوا اليها لاجتزائهم بنبات الصحراء وهذا أيضا غلط لأنه لو نسبوا اليها لقيل صوفاني وقال آخرون هو منسوب إلى صوفة القفا وهي الشعرات النابتة في مؤخره كأن الصوفي عطف به إلى الحق وصرفه عن الخلق وقال آخرون بل هو منسوب إلى الصوف وهذا يحتمل والصحيح الأول # وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه(105/190)
وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى والحديث بإسناد عن الطوسي يقول سمعت أبا بكر بن المثاقف يقول سألت الجنيد بن محمد عن التصوف فقال الخروج عن كل خلق ردىء والدخول في كل خلق سني وباسناد عن عبد الواحد بن بكر قال سمعت محمد بن خفيف يقول قال رويم كل الخلق قعدوا على الرسوم وقعدت هذه الطائفة على الحقائق وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق # قال المصنف وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طعمه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن # وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات فمنهم من أراده أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير(105/191)
الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع اليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري # ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة ثم ما زال الأمر ينمي والأشياخ يضعون لهم أوضاعا ويتكلمون بواقعاتهم ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة فهاموا به وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق ففسدت عقائدهم # فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم وإنما حملوه على مذاهبهم والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن وقد أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب قال قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري قال كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيرا فلما مات الحاكم أبو(105/192)
عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه وكان يضع للصوفية الأحاديث # قال المصنف وصنف لهن أبو نصر السراج كتابا سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد # وردد فيه قول قال بعض المكاشفين وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال قال أبو طاهر محمد بن العلاف قال دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال ليس على المخلوق أضر من الخالق فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك قال الخطيب وصنف أبو طالب المكي كتابا سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات # قال المصنف وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسادات الصحابة رضي الله عنهم فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحا القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية الفضيل وابراهيم بن أدهم ومعروفا الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد # فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره وصنف لهم عبد الكريم بن هوزان القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في(105/193)
الفناء والبقاء والقبض والبسط والوقت والحال والوجد والوجود والجمع والتفرقة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والتجلي والمحاضرة والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والشريعة والحقيقة إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب منه # وجاء محمد بن ظاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى # وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول كان ابن طاهر يذهب مذهب الاباحة قال وصنف كتابا في جواز النظر إلى المراد أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين قال رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها فقيل له تصلي عليها فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح قال شيخنا ابن ناصر وليس ابن طاهر بمن يحتج به وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الأحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطله وهو لا يعلم بطلانها وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه وقال أن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات وهذا من جنس كلام الباطنية وقال في كتابه المفصح بالأحوال إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق # قال المصنف وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنني والاسلام والآثار واقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلاما أرق من كلامهم وفي سير السلف نوع(105/194)
خشونة ثم أن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء $ فصل وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي $ واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن والحديث بإسناد إلى أبي يعقوب اسحق بن حية قال سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات فقال ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون # قال المصنف وقد روينا في أول كتابنا هذا عن ذي النون نحو هذا وروينا عن احمد بن حنبل أنه سمع كلام الحارث المحاسبي فقال لصاحب له لا أرى لك أن تجالسهم وعن سعيد بن عمرو البردعي قال شهدت أبا زرعة وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل اياك وهذه الكتب هذه الكتب كتب بدع وضلالات عليك بالاثر فانك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب قيل له في هذه الكتب عبرة قال من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمة صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق ثم قال ما أسرع الناس إلى البدع # أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري فأنكر عليه ذلك عبد الله بن عبد الحكم وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة قال السلمي(105/195)
وأخرج أبو سليمان الداراني من دمشق # وقالوا أنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه وشهد قوم على أحمد بن أبي الحواري أنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول حتى أنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول لي معراج كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم معراج فأخرجوه من بسطام وأقام بمكة سنتين ثم رجع إلى جرجان فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام قال السلمي وحكى رجل عن سهل بن عبد الله التستري أنه يقول إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها # قال السلمي وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات فهجروه أحمد بن حنبل فاختفى إلى أن مات # قال المصنف وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال حذروا من الحارث أشد التحذير الحارث أصل البلية يعني في حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأى جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة الأسد المرابط أنظر أي يوم يثب على الناس أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل على الكتاب والسنة # قال المصنف وقد كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل على الكتاب والسنة وإنما لبس الشيطان عليهم لقلة علمهم وبإسناد عن جعفر الخلدي يقول سمعت الجنيد يقول قال أبو سليمان الداراني قال ربما تقع في نفسي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة وبإسناد عن طيفور البسطامي يقول سمعت موسى بن عيسى يقول قال(105/196)
لي أبي قال أبو يزيد لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود # وبإسناد عن أبي موسى يقول سمعت أبا يزيد البسطامي قال من ترك قراءة القرآن والتقشف ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مبتدع وبإسناد عن عبد الحميد الحبلى يقول سمعت سريا يقول من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط وعن الجنيد أنه قال مذهبنا هذا مقيد بالأصول الكتاب والسنة وقال أيضا علمنا منوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وقال أيضا ما أخذنا التصوف عن القيل والقال لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات لأن التصوف من صفاء المعاملة مع الله سبحانه وتعالى وأصله التفرق عن الدنيا كما قال حارثة عرفت نفسي في الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري # وعن أبي بكر الشفاف من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن وقال الحسين النوري لبعض أصحابه من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم الشرع فلا تقربنه ومن رأيته يدعي حالة لا يدل عليها دليل ولا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه # وعن الجريري قال أمرنا هذا كله مجموع على فضل واحد هو أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائما وعن أبي جعفر قال من لم يزن أقواله وأفعاله وأحواله بالكتاب والسنة ولم يتهم خاطره فلا تعده في ديوان الرجال(105/197)
$ فصل قال المصنف وإذ قد ثبت هذا من أقوال شيوخهم وقعت من بعض $ أشياخهم غلطات لبعدهم عن العلم فان كان ذلك صحيحا عنهم توجه الرد عليهم إذ لا محاباة في الحق وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هذا القول وذلك المذهب من أي شخص صدر فأما المشبهون بالقوم وليسوا منهم فأغلاطهم كثيرة ونحن نذكر بعض ما بلغنا من أغلاط القوم والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط إلا تنزيه الشريعة والغيرة عليها من الدخل وما علينا من القائل والفاعل وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصدا لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط ولا اعتبار بقول جاهل يقول كيف يرد على فلان الزاهد المتبرك به لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة وله غلطات فلا تمنع منزلته بيان زلله # واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه كان كمن ينظر إلى ما جرى على يد المسيح صلوات الله عليه من الأمور الخارقة ولم ينظر إليه فادعى فيه الالهية ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام لم يعطه إلا ما يستحقه # وقد أخبرنا اسماعيل بن أحمد السمرقندي باسناد إلى يحيى بن سعيد قال سألت شعبة وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس عن الرجل لا يحفظ أو يتهم في الحديث فقالوا جميعا يبين أمره وقد كان الامام أحمد بن حنبل يمدح الرجل ويبالغ ثم يذكر غلطه في الشيء بعد الشيء وقال نعم الرجل فلان لولا أن خلة فيه وقال عن سري السقطي الشيخ المعروف بطيب المطعم ثم حكى له عنه أنه قال أن الله عز وجل لما خلق الحروف سجدت الباء فقال نفروا الناس عنه(105/198)
سياق ما يروى عن الجماعة منهم من سوء الاعتقاد ذكر تلبيس إبليس في السماع وغيره # عن أبي عبد الله الرملي قال تكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع فزعق أبو حمزة وقال لبيك لبيك فنسبوه إلى الزندقة وقالوا حلولي زنديق وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع هذا فرس الزنديق وباسناد إلى أبي بكر الفرغاني أنه قال كان أبو حمزة إذا سمع شيئا يقول لبيك لبيك فأطلقوا عليه أنه حلولي ثم قال أبو علي وإنما جعله داعيا من الحق أيقظه للذكر وعن أبي علي الروزباري قال أطلق على أبي حمزة أنه حلولي وذلك أنه كان إذا سمع صوتا مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور كان يصيح ويقول لبيك لبيك فرموه بالحلول # قال السراج وبلغني عن أبي حمزة أنه دخل دار الحارث المحاسبي فصاحت الشاه ماع فشهق أبو حمزة شهقة وقال لبيك يا سيدي فغضب الحارث المحاسبي وعمد إلى سكين وقال إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه أذبحك قال أبو حمزة إذا أنت لم تحسن تسمع هذا الذي أنا فيه فلم تأكل النخالة بالرماد # وقال السراج وأنكر جماعة من العلماء على أبي سعيد أحمد بن عيسى الخراط ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنفه وهو كتاب السر ومنه قوله عبد طائع ما أذن له فلزم التعظيم لله فقدس الله نفسه قال وأبو العباس أحمد بن عطاء نسب إلى الكفر والزندقة قال وكم من مرة قد أخذ الجنيد مع علمه وشهد عليه بالكفر والزندقة وكذلك أكثرهم وقال السراج ذكر عن أبي بكرة محمد بن موسى الفرغاني الواسطي أنه قال من ذكر افترى ومن صبر اجترى وإياك أن تلاحظ حبيبا أو كليما أو خليلا وأنت تجد إلى ملاحظة الحق(105/199)
سبيلا فقيل له أولا أصلي عليهم قال صلى عليهم بلا وقار ولا تجعل لها في قلبك مقدار # قال السراج وبلغني أن جماعة من الحلوليين زعموا أن الحق عز وجل اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية وأزال عنها معاني البشربة ومنهم من قال بالنظر إلى الشواهد المستحسنات ومنهم من قال حال في المستحسنات قال وبلغني عن جماعة من أهل الشام أنهم يدعون الرؤية بالقلوب في الدنيا كالرؤية بالعيان في الآخرة قال السراج وبلغني أن أبا الحسين النوري شهد عليه غلام الخليل أنه سمعه يقول أنا أعشق الله عز وجل وهو يعشقني فقال النوري سمعت الله يقول يحبهم ويحبونه وليس العشق بأكثر من المحبة قال القاضي أبو يعلى وقد ذهبت الحلولية إلا أن الله عز وجل يعشق # قال المصنف وهذا جهل من ثلاثة أوجه أحدهما من حيث الإسم فإن العشق عند أهل اللغة لا يكون إلا لما ينكح والثاني أن صفات الله عز وجل منقولة فهو يحب ولا يقال يعشق ويحب ولا يقال يعشق كما يقال يعلم ولا يقال يعرف والثالث من أين له أن الله تعالى يحبه فهذه دعوى بلا دليل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال إني في الجنة فهو في النار # وعن أبي عبد الرحمن السلمي حكى عن عمرو المكي أنه قال كنت أماشي الحسين بن منصور في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي(105/200)
فقال يمكنني أن أقول مثل هذا ففارقته وعن محمد بن يحيى الرازي قال سمعت عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول لو قدرت عليه لقتلته بيدي فقلت بأي شيء وجد عليه الشيخ فقال قرأت آية من كتاب الله عز وجل فقال يمكنني أن اقول أو أؤلف مثله وأتكلم به # وبإسناد عن أبي القاسم الرازي يقول قال أبو بكر بن ممشاد قال حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها لا بالليل ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان فوجه إلا بغداد فأحضر وعرض عليه فقال هذا خطي وأنا كتبته فقالوا كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية فقال ما ادعي الربوبية ولكن هذا عين الجمع عندنا هل الكاتب إلى الله تعالى واليد فيه آلة فقيل له هل معك أحد فقال نعم ابن عطاء وأبو محمد الجريري وأبو بكر الشبلي وأبو محمد الجريري يتستر والشبلي يتستر فان كان فإبن عطاء فأحضر الجريري وسئل فقال قائل هذا كافر يقتل من يقول هذا وسئل الشبلي فقال من يقول هذا يمنع وسئل ابن عطاء عن مقالة الحلاج فقال بمقالته وكان سبب قتله # وبإسناد عن ابن باكويه قال اسمعت عيسى بن بردل القزويني وقد سئل أبو عبد الله بن خفيف عن معنى هذه الأبيات # سبحان من أظهر ناسوته % سر سنا لاهوته الثاقب # ثم بدا في خلقه ظاهرا % في صورة الآكل والشارب # حتى لقد عاينه خلقه % كلحظة الحاجب بالحاجب # فقال الشيخ على قائله لعنة الله قال عيسى بن فورك هذا شعر الحسين(105/201)
ابن منصور قال إن كان هذا اعتقاده فهو كافر إلا أنه ربما يكون متقولا عليه وبإسناد عن علي بن المحسن القاضي عن أبي القاسم اسماعيل بن محمد بن زنجي عن أبيه أن أبنه السمري أدخلت على حامد الوزير فسألها عن الحلاج فقالت حملني أبي إليه فقال قد زوجتك من ابني سليمان وهو مقيم بنيسابور فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك واصعدي في آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد واجعلي فطرك عليه وعلى ملح جريش واستقبليني بوجهك واذكري لي ما أنكرتيه منه فاني أسمع وأرى قالت وكنت ليلة نائمة في السطح فأحسست به قد غشيني فانتبهت مذعورة لما كان منه فقال إنما جئتك لأوقظك للصلاة فلما نزلنا قالت ابنته اسجدي له فقلت أو يسجد أحد لغير الله فسمع كلامي فقال نعم إله في السماء وإله في الأرض # قال المصنف اتفق علماء العصر على إباحة دم الحلاج فأول من قال إنه حلال الدم أبو عمرو القاضي ووافقه العلماء وإنما سكت عنه أبو العباس سريج قال وقال لا أدري ما يقول والإجماع دليل معصوم من الخطأ وبإسناد عن أبي هريرة قال قال رسول اله صلى الله عليه وسلم ان الله أجاركم أن تجتمعوا على ضلالة كلكم وبأسناد عن أبي القاسم يوسف بن يعقوب النعماني قال سمعت والدي يقول سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه الأصبهاني يقول إن كان ما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم حقا فما يقول الحلاج باطل وكان شديدا عليه # قال المصنف وقد تعصب للحلاج جماعة من الصوفية جهلا منهم وقلة مبالاة بإجماع الفقهاء وبإسناد عن محمد بن الحسين النيسابوري قال سمعت ابراهيم بن محمد النصر ابادي كان يقول إن كان بعد النبيين والصديقين موحد(105/202)
فهو الحلاج قلت وعلى هذا أكثر قصاص زماننا وصوفية وقتنا جهلا من الكل بالشرع وبعدا عن معرفة النقل وقد جمعت في أخبار الحلاج كتابا بينت فيه حيله ومخاريقه وما قال العلماء فيه والله المعين على قمع الجهال # وبإسناد عن أبي نعيم الحافظ قال سمعت عمر البنا البغدادي بمكة يحكي أنه لما كانت محنة غلام الخليل ونسبة الصوفية إلى الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم فأخذ النوري في جماعة فأدخلوا على الخليفة فأمر بضرب أعناقهم فتقدم النوري مبتدرا إلى السياف ليضرب عنقه فقال له السياف ما دعاك إلى البدار قال آثرت حياة أصحابي على حياتي هذه اللحظة فتوقف السياف فرفع الأمر إلى الخليفة فرد أمرهم إلى قاضي القضاة اسماعيل بن اسحاق فأمر بتخليتهم وبإسناد إلى أبي العباس أحمد بن عطاء قال كان يسعى بالصوفيه ببغداد غلام الخليل إلى الخليفة فقال ههنا قوم زنادقة فأخذ أبو الحسين النوري وأبو حمزة الصوفية وأبو بكر الدقاق وجماعة من أقران هؤلاء واستتر الجنيد بن محمد بالفقه على مذهب أبي ثور فأدخلوا إلى الخليفة فأمر بضرب أعناقهم فأول من بدر أبو الحسين النوري فقال له السياف لم بادرت أنت من بين أصحابك ولم ترع قال أحببت أن أوثر أصحابي بالحياة مقدار هذه الساعة فرد الخليفة أمرهم إلى القاضي فأطلقوا # قال المصنف ومن أسباب هذه القصة قول النوري أنا أعشق الله والله يعشقني فشهد عليه بهذا ثم تقدم النوري إلى السياف ليقتل إعانة على نفسه فهو خطأ أيضا وبإسناد عن ابنباكويه قال سمعت أبا عمرو تلميذ الرقي قال سمعت الرقي يقول كان لنا بيت ضيافة فجاءنا فقير عليه خرقتان يكنى بأبي سليمان فقال الضيافة فقلت لابني إمض به إلى البيت فأقام عندنا تسعة أيام فأكل في كل ثلاثة أيام أكلة فسمته المقام فقال الضيافة ثلاثة أيام فقلت(105/203)
له لا تقطع عنا أخبارك فغاب عنا اثنتي عشرة سنة ثم قدم فقلت من أين فقال رأيت شيخا يقال له أبو شعيب المقفع مبتلي فأقمت عنده أخدمه سنة فوقع في نفسي أن أسأله أي شيء كان أصل بلائه فلما دنوت منه ابتدأني قبل أن أسأله فقال وما سؤالك عما لا يعنيك # فصبرت حتى تم لي ثلاث سنين فقال في الثالثة لا بد لك فقلت له ان رأيت فقال بينما أنا أصلي بالليل إذ لاح لي من المحراب نور فقلت أخسأ يا ملعون فإن ربي عز وجل غني عن أن يبرز للخلق ثلاث مرات قال ثم سمعت نداء من المحراب يا أبا شعيب فقلت لبيك فقال تحب أن أقبضك في وقتك أو نجازيك على ما مضى لك أو نبتليك ببلاء نرفعك به في عليين فاخترت البلاء فسقطت عيناي ويداي ورجلاي قال فمكثت أخدمه تمام اثنتي عشرة سنة فقال يوما من الأيام ادن مني فدنوت منه فسمعت أعضاءه يخاطب بعضها بعضا أبرز حتى برزت أعضاؤه كلها بين يديه وهو يسبح ويقدس ثم مات # قال المصنف وهذه الحكاية توهم أن الرجل رأى الله عز وجل فلما أنكر عوقب وقد ذكرنا أن قوما يقولون أن الله عز وجل يرى في الدنيا وقد حكى أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي في كتاب المقالات قال قد حكى قوم من المشبهة أنهم يجيزون رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا وأنهم لا ينكرون أن يكون بعض من تلقاهم في السكك وإن قوما يجيزون مع ذلك مصافحته وملازمته وملامسته ويدعون أنهم يزورونه ويزورهم وهم يسمون بالعراق أصحاب الباطن وأصحاب الوساوس وأصحاب الخطرات قال المصنف وهذا فوق القبيح نعوذ بالله من الخذلان(105/204)
$ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الطهارة $ # قال المصنف قد ذكرنا تلبيسه على العباد في الطهارة إلا أنه قد زاد في حق الصوفية على الحد فقوي وساوسهم في استعمال الماء الكثير حتى بلغني أن ابن عقيل دخل رباطا فتوضأ فضحكوا لقلة استعماله الماء وما علموا ان من أشبع الوضوء برطل من الماء كفاه وبلغنا عن أبي حامد الشيرازي أنه قال لفقير من أين تتوضأ فقال من النهر بي وسوسة في الطهارة قال كان عهدي بالصوفية يسخرون من الشيطان # والآن يسخر بهم الشيطان ومنهم من يمشي بالمداس على البواري وهذا لا بأس به إلا أنه ربما نظر المبتدىء إلى من يقتدي به فيظن ذلك شريعة وما كان خيار السلف على هذا والعجب ممن يبالغ في الاحتراز إلى هذا الحد متصفا بتنظيف ظاهره وباطنه محشو بالوسخ والكدر والله الموفق $ ذكر تلبيس إبليس عليهم في الصلاة $ # قال المصنف وقد ذكرنا تلبيسه على العباد في الصلاة وهو بذلك يلبس على الصوفية ويزيد وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن من سنتهم التي ينفردون بها وينتسبون إليها صلاة ركعتين بعد لبس المرقعة والتوبة واحتج عليه بحديث تمامة بن أثال أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره حين أسلم أن يغتسل # قال المصنف وما أقبح بالجاهل إذا تعاطى ما ليس من شغله فان ثمامة كان كافرا فاسلم وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل في مذهب جماعة من الفقهاء منهم أحمد بن حنبل وأما صلاة ركعتين فما أمر بها أحد من العلماء لمن أسلم وليس في حديث ثمامة ذكر صلاة فيقاس عليه وهل هذ إلا ابتداع في الواقع سموه سنة ثم من أقبح الأشياء قوله أن الصوفية ينفردون بسنن لأنها إن كانت منسوبة إلى الشرع فالمسلمون كلهم فيها سواء والفقهاء أعرف بها فما وجه انفراد الصوفية بها وإن كانت بآرائهم فانما انفردوا بها لأنهم اخترعوها(105/205)
$ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في المساكن $ # قال المصنف أما بناء الأربطة فان قوما من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على الخطأ من ستة أوجه أحدها أنهم ابتدعوا هذا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد # والثاني أنهم جعلوا للمساجد نظيرا يقلل جمعها # والثالث أنهم أفاتوا أنفسهم نقل الخطأ إلى المساجد # والرابع أنهم تشبهوا بالنصارى بإنفرادهم بالأديرة # والخامس أنهم تعذبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إلى النكاح # والسادس أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم وإن كان قصدهم غير صحيح فانهم قد بنوا دكاكين للكوبة ومناخا للبطالة وأعلاما لإظهار الزهد وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم ولا يتورعون من عطاء ماكس وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة ووقفوا عليها الأموال الخبيثة وقد لبس عليهم إبليس أن ما يصل إليكم رزقكم فأسقطوا عن أنفسكم كلفة الورع # فمهمتهم دوران المطبخ والطعام والماء البارد فأين جوع بشر وأين ورع سرى وأين جد الجنيد وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكة بالحديث أو زيارة أبناء الدنيا فإذا أفلح أحدهم أدخل رأسه في زرمانقته فغلبت عليه السوداء فيقول حدثني قلبي عن ربي ولقد بلغني أن رجلا قرأ القرآن في رباط فمنعوه وأن قوما قرأوا الحديث في رباط فقالوا لهم ليس هذا موضعه والله الموفق(105/206)
$ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الخروج عن الأموال والتجرد عنها $ # كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية لصدقهم في الزهد فيريهم عيب المال ويخوفهم من شره فيتجردون من الأموال ويجلسون على بساط الفقر وكانت مقاصدهم صالحة وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم فأما الآن فقد كفى إبليس هذه المؤنة فان أحدهم إذا كان له مال أنفقه تبذيرا وضياعا والحديث بإسناد عن محمد بن الحسين السليمي قال سمعت أبا نصر الطوسي قال سمعت جماعة من مشايخ الري يقولون ورث أبو عبد الله المقري من أبيه خمسين ألف دينار سوى الضياع والعقار فخرج عن ذلك كله وأنفقه على الفقراء # وقد روى مثل هذا عن جماعة كثيرة وهذا الفعل لا ألوم صاحبه إذا كان يرجع إلى كفاية قد أدخرها لنفسه أو إن كانت له صناعة يستغني بها عن الناس أو كان المال عن شبهة فتصدق به أما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إلى ما في أيدي الناس وأفقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الأخوان أو لصدقاتهمن أو أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه ولست أتعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم وإنما العجب من أقوام لهم عقل وعلم وكيف حثوا على هذا وأمروا به مع مصادمته للعقل والشرع وقد ذكر الحارث المحاسبي في هذا كلاما طويلا وشيده أبو حامد الغزالي ونصره والحارث عندي أعذر من أبي حامد لأن أبا حامد كان أفقه غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه # فمن كلام الحارث المحاسبي في هذا أنه قال أيها المفتون متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد أزريت بمحمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين وزعمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينصح الأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمعة خير لهم وزعمت أن الله لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمعه خير لهم وما ينفعك الاحتجاج بمال الصحابة وابن عوف في القيامة أن لو لم يؤت من الدنيا إلا قوتا قال ولقد(105/207)
بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف
قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك قال كعب سبحان الله وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيبا وأنفق طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا فمر بلحى بعير فأخذه بيده ثم إنطلق يطلب كعبا فقيل لكعب إن أبا ذر طلبك فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر فأقبل أبو ذر يقتص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر فقال له أبو ذر هيه يا ابن اليهودية تزعم أنه لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا ثم قال يا أبا ذر وأنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت وكذب من قال بقولك فلم يرد عليه حرفا حتى خرج # قال الحارث فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف فيمنع من السعي إلى الجنة مع فقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبوا وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكن عندهم شيء فرحوا وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله وقلة اليقين بضمانه وكفى به دائما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها ولذاتها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أسف على دنيا فاتته قرب من النار مسيرة سنة # وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله عز وجل ويحك هل تجد في دهرك من الحلال كما وجدت الصحابة وأين الحلال فتجمعه ويحك إني لك ناصح أرى لك أنك تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر فقد سئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر فقال تركه أبر منه وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما طلب(105/208)
الدنيا حلالا فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه والآخر جانبها ولم يطلبها ولم يبذلها فأيهما
أفضل فقال بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها # قال المصنف فهذا كله كلام الحارث المحاسبي ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة فانه أعطى المال فمنع الزكاة قال أبو حامد فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه اشتغالهم باصلاحه عن ذكر الله عز وجل فينبغي للمريد أن يخرج من ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله عز وجل قال المصنف وهذا كله بخلاف الشرع والعقل وسوء فهم للمراد بالمال نقد مسالك الصوفية في تجردهم # في رد هذا الكلام أما شرف المال فان الله عز وجل عظم قدره وأمر بحفظه إذ جعله قواما للآدمي الشريف فهو شريف فقال تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " ونهى عز وجل أن يسلم المال إلى غير رشيد فقال " فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال وقال لسعد لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس # وقال ما نفعني مال كمال أبي بكر والحديث بأسناد مرفوع عن عمرو بن العاص قال بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني فأتيته فقال أني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة فقلت يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام فقال يا عمرو نعم المال الصالح للرجل الصالح والحديث باسناد عن أنس بن مالك أن(105/209)
رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بكل خير وكان في آخر دعائه أن قال اللهم أكثر ماله وولده وبارك له وباسناد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن عبيد الله بن كعب بن مالك قال سمعت كعب بن مالك يحدث حديث توبته # قال فقلت يا رسول الله أن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال أمسك بعض مالك فهو خير لك # قال المصنف فهذه الأحاديث مخرجة في الصحاح وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة وأن حبسه ينافي التوكل ولا ينكر أنه يخاف من فتنة وأن خلقا كثيرا اجتنبوبه لخوف ذلك وأن جمعه من وجهة يعز وسلامة القلب من الافتنان به يبعد واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر ولهذا خيف فتنة # فأما كسب المال فان من اقتصر على كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد منه وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نظرنا في مقصوده فان قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته وادخر لحوادث زمانه وزمانهم وقصد التوسعة على الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب على قصده وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات وقد كان نيات خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم لجمعه فحرصوا عليه وسألوا زيادته وباسناد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه بأرض يقال لها ثرثر فأجرى فرسه حتى قام ثم رمى سوطه فقال أعطوه حيث بلغ السوط وكان سعد بن عبادة يدعوفيقول اللهم وسع علي # قال المصنف وأبلغ من هذا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال له بنوه " ونزداد كيل بعير " مال إلى هذا وأرسل ابنه بنيامين معهم وأن شعيبا(105/210)
طمع في زيادة ما يناله فقال " فان أتممت عشرا فمن عندك " وأن أيوب عليه السلام لما عوفي نثر عليه رجل جراد من ذهب فأخذ يحثو في ثوبه يستكثر منه فقيل له أما شبعت قال يا رب من يشبع من فضلك وهذا أمر مركوز في الطباع فاذا قصد به الخير كان خيرا محضا # وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل على الجهل بالعلم وقوله إن الله عز وجل نهى عباده عن جمع المال وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن جمع المال فهذا محال إنما النهي عن سوءالقصد بالجمع أو عن جمعه من غير حله # وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال من وضع الجهال وخفاء صحته عنه ألحقه بالقوم وقد روي بعض هذا وإن كان طريقه لا يثبت وبإسناد عن مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر أنه جاء يستأذن على عثمان فأذن له وبيده عصاه فقال عثمان يا كعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالا فما ترى فيه فقال إن كان يصل فيه حق الله تعالى فلا بأس فرفع أبوذر عصاه فضرب كعبا وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي ست أواقي أنشدك بالله يا عثمان أسمعت هذا ثلاث مرات قال نعم # قال المصنف وهذا الحديث لا يثبت وابن لهيعة مطعون فيه قال يحيى لا يحتج بحديثه والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين وعبد الرحمن توفي سنة اثنتي وثلاثين فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم يدل على أن حديثهم موضوع ثم كيف تقول الصحابة رضي الله عنهم إنا نخاف على عبد الرحمن أو ليس الإجماع منعقدا على إباحة جمع المال من حله فما وجه الخوف مع الإباحة أو يأذن الشرع في(105/211)
شيء ثم يعاقب عليه هذا قلة فهم وفقه ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده دليل على أنه لم يسير سير الصحابة فانه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير والبهار الحمل وكان مال الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف وخلف ابن مسعود رضي الله عنه تسعين ألفا وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم على أحد # وأما قوله أن عبد الرحمن يحبوا حبوا يوم القيامة فهذا دليل على أنه لا يعرف الحديث أو كان هذا مناما وليس هو في اليقظة أعوذ بالله من أن يحبو عبد الرحمن في القيامة أفترى من يسبق إذا حبا عبد الرحمن بن عوف وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر المغفور لهم ومن أصحاب الشورى ثم الحديث يرويه عمارة بن ذاذان وقال البخاري ربما اضطرب حديثه # وقال أحمد يروى عن أنس أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال الدارقطني ضعيف أخبرنا ابن الحصين مرفوعا إلى عمارة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها سمعت صوت في المدينة فقالت ما هذا فقالوا عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء قال وكانت سبعمائه بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا فبلغ ذلك عبد(105/212)
الرحمن بن عوف فقال إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأقتابها وحمالها في سبيل الله عز وجل # وقوله ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء والحديث الذي ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسف على دنيا فاتته الخ محال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله هل تجد في دهرك حلالا فيقال له وما الذي أصاب الحلال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الحلال بين والحرام بين أترى يريد بالحلال وجود حبة مذ خرجت من المعدن ما تقلبت في شبهة هذا يبعد وما طولبنا به # بل لو باع المسلم يهوديا كان الثمن حلالا بلا شك هذا مذهب الفقهاء وأعجب لسكوت أبي حامد بل لنصرته ما حكى وكيف يقول أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات ولو أدعى الإجماع على خلاف هذا لصح ولكن تصوفه غير فتواه وعن المرزوي قال سمعت رجلا يقول لأبي عبيد الله إني في كفاية فقال الزم السوق تصل به الرحم وتعود المرضى # وقوله ينبغي للمريد أن يخرج من ماله قد بينا أنه إن كان حراما أو فيه شبهة أو إن يقنع هو باليسير أو بالكسب جاز له أن يخرج منه وإلا فلا وجه لذلك وأما ثعلبة فما ضره المال إنما ضره البخل بالواجب # وأما الأنبياء فقد كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام زرع ومال ولشعيب ولغيره وكان سعيد بن المسيب رضي الله عنه يقول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه ويصل به رحمه فان مات تركه ميراثا لمن بعده وخلف ابن المسيب أربعمائة دينار وقد ذكرنا ما خلفت الصحابة وقد خلف سفيان الثوري رضي الله عنه مائتين وكان يقول المال في هذا الزمان(105/213)
سلاح وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء وإنما تجافاه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات وجمع الهمم فقنعوا باليسير ولو قال هذا القائل أن التقلل منه أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الاثم الصبر على الفقر والمرض # واعلم أن الفقر مرض فمن ابتلى به وصبر أثيب على صبره ولهذا يدخل الفقراء الجنة قبل الاغنياء بخمسمائة عام لمكان صبرهم على البلاء والمال نعمة والنعمة تحتاج إلى شكر والغني وإن تعب وخاطر كالمفتي والمجاهد والفقير كالمعتزل في زاوية وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب سنن الصوفية باب كراهية أن يخلف الفقير شيئا فذكر حديث الذي مات من أهل الصفة وخلف دينارين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيتان # قال المصنف وهذا احتجاج من لا يفهم الحال فان ذلك الفقير كان يزاحم الفقراء في أخذ الصدقة وحبس ما معه فلذلك قال كيتان ولو كان المكروه نفس ترك المال لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ولما كان أحد من الصحابة يخلف شيئا وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أبقيت لأهلك فقلت مثله فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن جرير الطبري وفي هذا الحديث دليل على بطلان ما يقوله جهلة المتصوفة أن ليس للإنسان إدخار شيء في يومه لغده وإن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله قال ابن جرير وكذلك قوله عليه الصلاة السلام اتخذوا الغنم فإنها بركة فيه دلالة على فساد قول من زعم من المتصوفة أنه لا يصح لعبد التوكل على ربه إلا بأن(105/214)
يصبح ولا شيء عنده من عين ولا عرض ويمسي كذلك ألا ترى كيف أدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه قوت سنة $ فصل وقد خرج أقوام من أموالهم الطيبة ثم عادوا يتعرضون للأوساخ $ ويطلبون وهذا لأن حاجة الإنسان لا تنقطع والعاقل يعد للمستقبل وهؤلاء مثلهم في إخراج المال عند بداية تزهدهم مثل من روي في طريق مكة فبدد المال الذي معه والحديث بإسناد عن جابر بن عبد الله قال قدم أبو حصين السلمي بذهب من معدنهم فقضى دينا كان عليه وفضل معه مثل بيضة الحمامة فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ضع هذه حيث أراك الله أو حيث رأيت قال فجاءه عن يمينه فأعرض عنه ثم جاءه عن يساره فأعرض عنه ثم جاءه من بين يديه فنكس رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فلما أكثر عليه أخذها من يديه فحذفه بها لو أصابته لعقرته ثم أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يعمد أحدكم إلى ماله فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس وإنما الصدقة عن ظهر غنى وأبدأ بمن تعول وقد رواه أبو داود في سننه من حديث محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فآخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأقصعته أو لعقرته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي رواية أخرى خذ عنا مالك لا حاجة لنا به # وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال(105/215)
دخل رجل المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ثم حث على الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به خذ ثوبك # قال المصنف ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال قال ابن شاذان دخل جماعة من الصوفية على الشبلي فأنفذ إلى بعض المياسير يسأله ما لا ينفقه عليهم فرد الرسول وقال يا أبا بكر أنت تعرف الحق فهلا طلبت منه فقال للرسول إرجع إليه وقل له الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك وأطلب الحق من الحق فبعث إليه بمائة دينار قال ابن عقيل ان كان أنفذ اليه المائة دينار للافتداء من هذا الكلام القبيح وأمثاله فقد أكف الشبلي الخبيث من الرزق وأطعم أضيافه منه $ فصل وقد كان لبعضهم بضاعة فأنفقها وقال ما أريد أن تكون ثقتي إلا $ بالله وهذا قلة فهم لأنهم يظنون أن التوكل قطع الأسباب وإخراج الأموال # أخبرنا القزاز قال اخبرنا الخطيب قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال أنبأنا جعفر الخلدي في كتابه قال سمعت الجنيد يقول دققت على أبي يعقوب الزيات بابه في جماعة من أصحابنا فقال ما كان لكم شغل في الله عز وجل يشغلكم عن المجيء إلي فقلت له إذا كان مجيئا اليك من شغلنا به فلم ننقطع عنه فسألته عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قال استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء # قال المصنف لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال ما قال هؤلاء هذا الكلام ولكن قل فهمهم وقد كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قال مثل هذا أحد منهم وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة فمن أين أطعم عيالي # وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل وكذلك ينكرون(105/216)
على من قال هذا الطعام يضرني وقد رووا في ذلك حكاية عن أبي طالب الرازي قال حضرت مع أصحابنا في موضع فقدموا اللبن وقال لي كل فقلت لا آكله فانه يضرني فلما كان بعد أربعين سنة صليت يوما خلف المقام ودعوت الله عز وجل وقلت اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين فسمعت هاتفا يهتف بي ويقول ولا يوم اللبن # قال المصنف وهذه الحكاية الله أعلم بصحتها واعلم أن من يقول هذا يضرني لا يريد أن يفعل ذلك الضرر بنفسه وإنما يريد أنه سبب الضرر كما قال الخليل صلوات الله وسلامه عليه " رب أنهن أضللن كثيرا من الناس " وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر وقوله ما نفعي مقابل لقول القائل ما ضرني ويصح عنه أنه قال ما زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أو أن قطعت أبهري # وقد ثبت أنه لا رتبة أولى من رتبة النبوة وقد نسب النفع إلى المال والضرر إلى الطعام فالتحاشي عن سلوك طريقه صلى الله عليه وسلم تعاط على الشريعة فلا يلتفت إلى هذيان من هذى في مثل هذا زهد الصوفية في المال # قال المصنف وقد بينا أنه كان أوائل الصوفية يخرجون من أموالهم زهدا فيها وذكرنا أنهم قصدوا بذلك الخير إلا أنهم غلطوا في هذا الفعل كما ذكرناه من مخالفتهم بذلك الشرع والعقل فأما متأخروهم فقد مالوا إلى الدنيا وجمع المال من أي وجه كان إيثارا للراحة وحبا للشهوات فمنهم من يقدر على(105/217)
الكسب ولا يعمل ويجلس في الرباط أو المسجد ويعتمد على صدقات الناس وقلبه معلق بطرق الباب ومعلوم أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوى ولا يبالون من بعث اليهم فربما بعث الظالم والماكس فلم يردوه وقد وضعوا في ذلك بينهم كلمات منها تسمية ذلك بالفتوح ومنها ان رزقنا لا بد ان يصل إلينا ومنها أنه من الله فلا يرد عليه ولا نشكر سواه وهذا كله خلاف الشريعة وجهل بها وعكس ما كان السلف الصالح عليه فان النبي صلى الله عليه وسلم قال الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد أستبرأ لدينه وعرضه وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أكل الشبهة # وكان الصالحون لا يقبلون عطاء ظالم ولا ممن في ماله شبهة وكثير من السلف لم يقبل صلة الإخوان عفافا وتنزها وعن أبي بكر المرزوي قال ذكرت لأبي عبد الله رجلا من المحدثين فقال رحمه الله أي رجل كان لولا خلة واحدة ثم سكت ثم قال ليس كل الخلال يكملها الرجل فقلت له أليس كان صاحب سنة فقال لعمري لقد كتبت عنه ولة ن خلة واحدة كان لا يبالي ممن أخذ # قال المصنف ولقد بلغنا أن بعض الصوفية دخل على بعض الأمراء الظلمة فوعظه فأعطاه شيئا فقبله فقال الأمير كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف ثم أين هؤلاء من الأنفة من الميل للدنيا فان النبي صلى الله عليه وسلم قال اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية هكذا فسره العلماء وهو الحقيقة وقد تأوله بعض القوم فقال العليا هي الآخذة قال ابن قتيبة ولا أرى هذا إلا تأويل قوم استطابوا السؤال $ فصل قال المصنف ولقد كان أوائل الصوفية ينظرون في حصول الأموال من $ أي وجه ويفتشون عنمطاعمهم وسئل احمد بن حنبل عن السرى السقطى فقال(105/218)
الشيخ المعروف بطيب المطعم وقال السري صحبت جماعة إلى الغزو فاكترينا دارا فنصبت فيها تنورا فتورعوا أن يأكلوا من خبز ذلك التنور فأما من يرى ما قد تجدد من صوفية زماننا من كونهم لا يبالون من أين أخذوا فانه يعجب ولقد دخلت بعض الأربطة فسألت عن شيخه فقيل لي قد مضى إلى الأمير فلان يهنئه بخلعه قد خلعت عليه وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت ويحكم ما كفاكم أن فتحتم الدكن حتى تطوفون على رءوسكم بالسلع يقعد أحدكم عن الكسب مع قدرته عليه معولا على الصدقات والصلات ثم لا يكفيه حتى يأخذ فمن كان ثم لا يكفيه حتى يدور على الظلمة فيستعطي منهم ويهنئهم بملبوس لا يحل وولاية لا عدل فيها والله انكم أضر على الإسلام من كل مضر $ فصل قال المصنف وقد صار جماعة من أشياخهم يجمعون المال من الشبهات $ ثم ينقسمون فمنهم من يدعي الزهد مع كثرة المال وحرصه على الجمع وهذه الدعوى مضادة للحال ومنهم من يظهر الفقر مع جمعه المال وأكثر هؤلاء يضيقون على الفقراء بأخذهم الزكاة ولا يجوز لهم ذلك وقد كان أبو الحسن البسطامي شيخ رباط بن المجيان يلبس الصوف صيفا وشتاء وتقصده الناس يتبركون به فمات فخلف أربعة آلاف دينار # قال المصنف وهذا فوق القبيح وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أهل الصفة مات فخلف دينارين فقال صلى الله عليه وسلم كيتان $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في لباسهم $ # قال المصنف لما سمع أوائل القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقع ثوبه وأنه قال لعائشة رضي الله عنها لا تخلعي ثوبا حتى ترقعيه وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في ثوبه رقاع وأن اويسا القرني كان يلتقط الرقاع من المزابل فيغسلها في(105/219)
الفرات ثم يخيطها فيلبسها اختاروا المرقعات وقد أبعدوا في القياس فان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يؤثرون البذاذة ويعرضون عن الدنيا زاهدا وكان أكثرهم يفعل هذا لأجل الفقر كما روينا عن مسلمة بن عبد الملك انه دخل على عمر بن عبد العزيز وعليه قميص وسخ فقال لامرأته فاطمة أغسلي قميص أمير المؤمنين فقالت والله ماله قميص غيره فأما إذا لم يكن هذا لفقر وقصد البذاذة فلما له من معنى الزهد في اللباس # قال المصنف فأما صوفية زماننا فانهم يعمدون إلى ثوبين أو ثلاثة كل واحد منها على لون فيجعلوها خرقا ويلفقونها فيجمع ذلك الثوب وصفين الشهرة والشهوة فان لبس مثل هذه المرقعات أشهى عند خلق كثير من الديباج وبها يشتهر صاحبها أنه من الزهاد افتراهم يصيرون بصورة الرقاع كالسلف كذا قد ظنوا وإن إبليس قد لبس عليهم وقال أنتم صوفية لأن الصوفية كانوا يلبسون المرقعات وأنتم كذلك أتراهم ما علموا أن التصوف معنى لا صورة وهؤلاء قد فاتهم التشبيه في الصورة والمعنى أما الصورة فان القدماء كانوا يرقعون ضرورة ولا يقصدون التحسن بالمرقع ولا يأخذون أثوابا جددا مختلفة الألوان فيقطعون من كل ثوب قطعة ويلفقونها على أحسن التوقيع ويخيطونها ويسمونها مرقعة وأما عمر رضي الله لما قدم بيت المقدس حين سأل القسيسون والرهبان عن أمير المسلمين فعرضوا عليهم أمراء العساكر مثل أبي عبيدة وخالد بن الوليد وغيرهما فقالوا ليس هذا المصور عندنا ألكم أمير أولا فقالوا لنا أمير غير هؤلاء فقالوا هو أمير هؤلاء قالوا نعم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا ارسلوا اليه ننظره فان كان هو سلمنا اليكم من غير قتال وإن لم يكن هو فلا فلو حاصرتمونا ما تقدرون علينا فارسل المسلمين إلى عمر رضي الله عنه واعلموه بذلك فقدم عليهم وعليه ثوب مرقع سبع عشرة رقعة بينها رقعة(105/220)
من اديم فلما رأوه الروحانية والقسوس على هذه الصفة سلموا بيت المقدس اليه من غير قتال فأين هذا مما يفعله جهال الصوفية في زماننا فنسأل الله العفو والعافية وأما المعنى فان أولئك كانوا أصحاب رياضة وزهد $ فصل قال المصنف ومن هؤلاء المذمومين من يلبس الصوف تحت الثياب $ ويلوح بكمه حتى يرى لباسه وهذا لص ليلي ومنهم من يلبس الثياب اللينة على جسده ثم يلبس الصوف فوقها وهذا لص نهاري مكشوف وجاء آخرون فأرادوا التشبه بالصوفية وصعب عليهم البذاذة وأحبوا التنعم ولم يروا الخروج من صورة التصوف لئلا يتعطل المعاش فلبسوا الفوط الرفيعة واعتموا بالرومي الرفيع إلا أنه بغير طراز فالقميص والعمامة على أحدهم بثمن خمسة أثواب من الحرير # وقد لبس إبليس عليهم أنكم صوفية بنفيس النفس وإنما أرادوا أن يجمعوا بين رسوم التصوف وتنعم أهل الدنيا ومن علاماتهم مصادفة الأمراء ومفارقة الفقراء كبرا وتعظيما وقد كان عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه يقول يا بني إسرائيل ما لكم تأتونني وعليكم ثياب الرهبان ولوبكم قلوب الذئاب الضواري إلبسوا لباس الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية # وأخبرنا محمد بن أبي القاسم قال أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا يحيى بن مطرف ثنا أبو ظفر ثنا جعفر بن سليمان عن مالك دينار قال ان من الناس ناسا إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم فكونوا من قراء الرحمن بارك الله فيكم # أخبرنا محمد نا حمد نا أبو نعيم ثنا الحسين بن محمد بن العباس الفقيه ثنا(105/221)
احمد بن محمد اللالي ثنا أبو حاتم ثنا هدبة ثنا حزم قال سمعت مالك بن دينار يقول انكم في زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير أنكم في زمان كثير تفاحشهم قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم فطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعكم في شباكهم # أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا أخبرنا حمد بن أحمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد ثنى مهنى الشامي ثنا ضمرة عن سعيد بن شبل قال نظر مالك بن دينار إلى شاب ملازم للمسجد فجلس اليه فقال له هل لك أن أكلم بعض العشارين يجرون عليك شيئا وتكون معهم قال ما شئت يا أبا يحيى قال فأخذ كفا من تراب فجعله على رأسه # أخبرنا المحمدان قالا نا حمد نا أحمد ثنا قارون بن عبد الكبير الخطابي ثنا هشام بن علي السيرافي ثنا قطن بن حماد بن واقد ثنا أبي ثنا مالك بن دينار قال كان فتى يتفرى فكان يأتيني فابتلى فولى الجسر فبينما هو يصلي إذ مرت سفينة فيها بط فنادى بعض أعوانه قرب لنأخذ لعامل بطة فأشار بيده سبحان الله أي بطتين قال فكان أبي إذا حدث بهذا الحديث بكى وأضحك الجلساء # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعيد بن أبي صادق أنا ابن باكويه قال سمعت محمد بن خفيف يقول قلت لرويم أوصني فقال هو بذل الروح وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية # أخبرنا بن ناصر نا أبو عبد الله الحميدي نا أبو بكر احمد بن محمد الأردستاني ثنا عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبي يقول بلغني ان رجلا قال للشبلي قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط فأنشأ يقول(105/222)
# أما الخيام فانها كخيامهم % وأرى نساء الحي غير نسائها # قال المصنف رحمه الله قلت واعلم أن هذه البهرجة في تشبيه هؤلاء بأولئك لا تخفي إلا على كل غبي في الغاية فأما أهل الفطنة فيعلمون أنه تنميس بارد والأمر في ذلك على نحو قول الشاعر # تشبهت حور الظباء بهم % ان سكنت فيك ولا مثل سكن # أصامت بناطق ونافر % بآنس وذو خلا بذي شجن # مشتبه أعرفه وإنما % مغالطا قلت لصحبي دار من لبس الفوط المرقعات # قال المصنف وإنما أكراه لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها انه ليس من لباس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة والثاني أنه يتضمن إدعاء الفقر وقد أمر الانسان ان يظهر نعمة الله عليه والثالث انه إظهار للزهد وقد أمرنا بستره والرابع انه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم # وقد أخبرنا ابن الحسين نا بن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثنى أبي ثنا أبو النصر ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الحرسي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم وقد أنبأ نا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر قال أخبرني أبي قال لما دخلت بغداد في رحلتي الثانية قصدت الشيخ أبا محمد عبد الله بن أحمد السكري لأقرأ عليه أحاديث وكان من المنكرين على هذه الطائفة فأخذت في القراءة فقال أيها الشيخ أنك لو كنت من هؤلاء الجهال الصوفية لعذرتك أنت رجل من أهل العلم تشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسعى في طلبه فقلت أيها الشيخ وأي شيخ أنكرت علي حتى أنظر فان كان له أصل في الشريعة لزمته وان لم يكن له أصل في الشريعة تركته فقال ما هذه الشوازك التي في مرقعتك(105/223)
فقلت أيها الشيخ هذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج وإنما وقع الانكار لأن هذه الشوازك ليست من جنس الثوب والديباج ليس من الجبة فاستدللنا بذلك على أن لهذا أصلا في الشرع يجوز مثله # قال المصنف قلت لقد أصاب السكري في إنكاره وقل فقه ابن طاهر في الرد عليه فان الجبة المكفوفة الجيب والكمين قد جرت العادة بلبسها كذلك فلا شهرة في لبسها فأما الشوازك فتجمع شهرة الصورة وشهرة دعوى الزهد وقد أخبرتك انهم يقطعون الثياب الصحاح ليجعلوها اشوازك لا عن ضرورة يقصدون الشهرة لحسن ذلك والشهرة بالزهد ولهذا وقعت الكراهية وقد كرهها جماعة من مشايخهم كما بينا # أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعد بن أبي صادق ثنا أبو عبد الله بن باكويه قال سمعت الحسين بن احمد الفارسي يقول سمعت الحسين ابن هند يقول سمعت جعفر الحذاء يقول لما فقد القوم الفوائد من القلوب اشتغلوا بالظواهر وتزيينها يعني بذلك أصحاب المصبغات والفوط # أخبرنا ابن حبيب نا ابن صادق ثنا بن باكويه أخبرنا أبو يعقوب الخراط قال سمعت الثوري يقول كانت المرقعات غطاء على الدر فصارت جيفا على مزابل قال ابن باكويه وأخبرني أبو الحسن الحنظلي قال نظر محمد بن محمد ابن علي الكتاني إلى أصحاب المرقعات فقال إخواني ان كان لباسكم موافقا لسرائركم لقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وان كانت مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أبو بكر بن خلف ثنا محمد بن الحسين السلمي قال سمعت نصر بن أبي نصر يقول قال أبو عبد الله محمد بن عبد الخالق الدينوري لبعض أصحابه لا يعجبنك ما ترى من هذه اللبسة الظاهرة عليهم فما زينوا الظواهر إلا بعد أن خربوا البواطن وقال ابن عقيل دخلت يوما الحمام فرأيت على بعض أوتاد السلخ جبة مشوزكة مرقعة بفوط فقلت للحمامي أرى سلخ الحية فمن داخل فذكر لي(105/224)
بعض من يتصفف للبلاء حوشا للأموال
كثرة ترقيع المرقعة # قال المصنف وفي الصوفية من يرقع المرقعة حتى تصير كثيفة خارجة عن الحد أخبرنا أبو منصور القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت نا القاضي أبو محمد الحسن بن رامين الأسد آبادى نا أبو محمد عبد الله بن محمد الشيرازي نا جعفر الخالدي ثنا بن خباب أبو الحسين صاحب ابن الكريني قال أوصى لي ابن الكريني بمرقعته فوزنت فردة كم من أكمامها فاذا فيه أحد عشر رطلا قال جعفر وكانت المرقعات تسمى في ذلك الوقت الكيل $ فصل وقد قرروا أن هذه المرقعة لا تلبس إلا من يد شيخ وجعلوا $ لها إسنادا متصلا كله كذب ومحال وقد ذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال باب السنة في لبس الخرقة من يد الشيخ فجعل هذا من السنة واحتج بحديث أم خالد ان النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثياب فيها خميصة سوداء فقال من ترون أكسو هذه فسكت القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني بأم خالد قالت فأتى بي فألبسنيها بيده وقال أبلى وأخلقي # قال المصنف وإنما ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونها صبية وكان أبوها خالد بن سعيد بن العاص وأمها همينة بنت خلف قد هاجروا إلى أرض الحبشة فولدت لهما هناك أم خالد وأسمها أمة ثم قدموا فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنها وكما اتفق فلا يصير هذا سنة وما كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلباس الناس ولا فعل هذا أحد من أصحابه ولا تابعيهم # ثم ليس من السنة عند الصوفية أن يلبس الصغير دون الكبير ولا أن تكون الخرقة سوداء بل مرقعة أو فوطة فهلا جعلوا السنة لبس الخرق السود كما(105/225)
جاء في حديث أم خالد وذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال باب السنة فيما شرط الشيخ على المريد في لبس المرقعة واحتج بحديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر قال المصنف فانظر إلى هذا الفقه الدقيق وأين إشتراط الشيخ على المريد من اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب الطاعة على البيعة الإسلامية اللازمة $ فصل وأما لبسهم المصبغات فانها ان كانت زرقاء فقد فاتهم فضيلة $ البياض وإن كانت فوطا فهو ثوب شهرة وشهرته أكثر من شهرة الأزرق وإن كانت مرقعة فهي أكثر شهرة وقد أمر الشرع بالثياب البيض ونهى عن لباس الشهرة فأما أمره بالثياب البيض فأخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي التميمي نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي ثنا علي بن عاصم نا عبد الله بن عثمان بن حثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البسوا من ثيابكم البيض فانها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم قال عبد الله وحدثني أبي ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ثني حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألبسوا الثياب البيض فانها أظهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم قال الترمذي هذان حديثان صحيحان وفي الباب عن ابن عمر قال وهذا الذي يستحبه أهل العلم وقال أحمد بن حنبل واسحاق أحب الثياب الينا أن نكفن فيها البياض وقد ذكر محمد بن طاهر في كتابه فقال باب السنة في لبسهم المصبغات واحتج بأن النبي صلوات الله عليه وسلامه لبس حلة حمراء وانه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء(105/226)
# قال المصنف قلت ولا ينكر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس هذا ولا ان لبسه غير جائز وقد روى انه كان يعجبه الحبرة وإنما المسنون الذي يأمر به ويداوم عليه وقد كانوا يلبسون الأسود والأحمر فأما الفوط والمرقع فإنه لبس شهرة النهي عن لباس الشهرة وكراهته # وأما النهي عن لباس الشهرة وكراهته فأخبر أبو منصور بن خيرون أنبأنا أبو بكر الخطيب نا ابن زرقويه ثنا جعفر بن محمد الخلدي ثنا محمد بن عبد الله أبو جعفر الحضرمي ثنا روح بن عبد المؤمن ثنا وكيع بن محرز الشامي ثنا عثمان بن جهم عن زر بن حبيش عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق قال أنبأنا المبارك بن عبد الجبار نا أبو الفرج الحسين بن علي الطناجيري وأنبأنا هبة الله بن محمد أنبأنا الحسين بن علي التميمي قالا أخبرنا أبو حفص بن شاهين ثنا خثيمة بن سليمان بن حيدرة ثنا محمد بن الهيثم ثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ثنا مجلد بن يزيد عن أبي نعيم عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الشهرتين فقيل يا رسول الله وما الشهرتان قال رقة الثياب وغلظها ولينها وخشونتها وطولها وقصرها ولكن سداد بين ذلك واقتصاد أخبرنا محمد بن ناصر نا محمد بن علي بن ميمون نا عبد الوهاب بن محمد الغندجاني نا أبو بكر بن عبدان محمد بن سهل ثنا محمد بن اسماعيل البخاري قال قال موسى بن حماد بن سلمة عن ليث عن مهاجر عن ابن عمر قال من لبس ثوبا مشهورا أذله الله يوم القيامة # قال المصنف وقد روى لنا مرفوعا قال أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثنى أبي ثنا حجاج ثنا شريك عن عثمان بن أبي راشد عن مهاجر الشامي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب المذلة يوم(105/227)
القيامة
# أخبرنا محمد بن ناصر نا المبارك بن عبد الجبار وعبد القادر بن محمد بن يوسف قالا أخبرنا أبو اسحاق البرمكي نا أبو بكر بن نجيب ثنا أبو جعفر بن ذريح ثنا هناد ثنا أبو معاوية عن ليث عن مهاجر بن أبي الحسن عن ابن عمر رضي الله عنه قال من لبس شهرة من الثياب ألبسه الله ثوب ذلة وعن ليث عن شهر بن أبي الدرداء رضي الله عنه قال من ركب مشهورا من الدواب أعرض الله عنه ما دام عليه وإن كان كريما # قال المصنف وقد روينا أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى على ولده ثوبا قبيحا دونا فقال لا تلبس هذا فان هذا ثوب شهرة أخبرنا اسماعيل بن أحمد نا اسماعيل بن مسعدة نا حمزة بن يوسف نا أبو أحمد بن عدي ثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الدوري ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال حدثنا محمد بن مزاحم ثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن بريدة عن أبيه بريدة قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وكنت فيمن صعد الثلمة فقاتلت حتى رأى مكاني وأتيت وعلي ثوب أحمر فما علمت أني ركبت في الإسلام ذنبا أعظم منه للشهرة وقال سفيان الثوري كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس اليه فيها أبصارهم والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستبذل وقال معمر عاتبت أيوب على طول قميصه فقال إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره لبس الصوف # قال المصنف ومن الصوفية من يلبس الصوف ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف وبما روى في فضيلة لبس الصوف فأما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف فقد كان يلبسه في بعض الأوقات لم يكن لبسه شهرة عند العرب وأما ما يروى في فضل(105/228)
لبسه فمن الموضوعات التي لا يثبت منها شيء ولا يخلو لابس الصوف من أحد أمرين أما أن يكون متعودا لبس الصوف وما يجانسه من غليظ الثياب فلا يكره ذلك له لأنه لا يشهر به واما أن يكون مترفا لم يتعوده فلا ينبغي له لبسه من وجهين أحدهما أنه يحمل بذلك على نفسه ما لا تطيق ولا يجوز له ذلك والثاني أنه يجمع بلبسه بين الشهرة وإظهار الزهد # وقد أخبرنا حمد بن منصور الهمداني نا أبو علي أحمد بن سعد بن علي العجلي نا أبو ثابت هجير بن منصور بن علي الصوفي إجازة ثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن الحسن بن اسماعيل الأبهري ثنا روز به ثنا محمد بن اسماعيل بن محمد الطائي ثنا بكر بن سهل الدمياطي ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ثنا داود ثنا عباد بن العوام عن عباد بن كثير عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبس الصوف ليعرفه الناس كان حقا على الله عز وجل أن يكسوه ثوبا من جرب حتى تتساقط عروقه أنبأنا زاهر بن طاهر قال أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم ثنا أبو اسحاق ابراهيم بن محمد بن يحيى ثنا العباس بن منصور ثنا سهل بن عمار ثنا نوح بن عبد الرحمن الصيرفي ثنا محمد بن عبيد الهمداني ثنى عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض لتعج إلى ربها من الذين يلبسون الصوف رياء # أخبرنا محمد بن ناصر نا جعفر بن أحمد نا الحسن بن علي التميمي ثنا أحمد أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا عبد الصمد ثنا خالد بن شوذب قال شهدت الحسن وأتاه فرقد فأخف الحسن بكسائه فمده إليه وقال يا فريقديا ابن أم فريقد ان البر ليس في هذا الكساء وإنما البر ما وقر في الصدر(105/229)
وصدقه العمل أنبأنا محمد بن عبد الباقي نا أبو محمد الجوهري نا أبو عمر بن حياة نا أحمد بن معروف ثنا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد قال حدثنا عمرو بن عاصم ثنا يزيد بن عوانه ثنى أبو شداد المجاشعي قال سمعت الحسن وذكر عنده الذين يلبسون الصوف فقال ما لهم تعاقدوا ثلاثا أكنوا الكبر في قلوبهم وأظهروا التواضع في لباسهم والله لأحدهم أشد عجبا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفة # أنبأنا ابن الحسين أنبأنا أبو علي التميمي نا أبو حفص بن شاهين ثنا محمد بن سعيد بن يحيى البزوري ثنا عبد الله بن أيوب المخرمي قال حدثنا عبد المجيد يعني ابن أبي رواد عن ابن طهمان يعني ابراهيم عن أبي مالك الكوفي عن الحسن أنه جاءه رجل ممن يلبس الصوف وعليه جبة صوف وعمامة صوف ورداء صوف فجلس فوضع بصره في الأرض فجعل لا يرفع رأسه وكأن الحسن خال فيه العجب فقال الحسن ها إن قوما جعلوا كبرهم في صدورهم شنعوا والله دينهم بهذا الصوف ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من زي المنافقين قالوا يا أبا سعيد وما زي المنافقين قال خشوع اللباس بغير خشوع القلب # قال ابن عقيل هذا كلام رجل قد عرف الناس ولم يعره اللباس ولقد رأيت الواحد من هؤلاء يلبس الجبة الصوف فاذا قال له القائل يا أبا فلان ظهر منه ومن أوباشه الإنكار فعلم أن الصوف قد عمل عند هؤلاء ما لا يعمله الديباح عند الأوباش # أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد نا حمد بن أحمد الحداد نا أبو نعيم الحافظ ثنا أبو حامد بن جبلة ثنا محمد بن اسحاق ثنا اسماعيل بن أبي الحارث ثنا هارون بن معروف عن ضمرة قال سمعت رجلا يقول قدم حماد بن أبي سليمان البصرة فجاءه فرقد السنجي وعليه ثوب صوف فقال له حماد ضع عنك نصرانيتك هذه فلقد رأيتنا ننتظر ابراهيم يعني النخعي فيخرج علينا وعليه معصفرة(105/230)
أخبرنا محمد بن القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا عبد الله بن محمد ثنا ابراهيم بن شريك الأسدي ثنا شهاب بن عباد ثنا حماد عن خالد الحذاء أن أبا قلابة قال إياكم وأصحاب الأكسية أخبرنا محمد ابن ناصر وعمر بن طفر قالا نا محمد بن الحسن الباقلاوي نا القاضي أبو العلاء الواسطي ثنا أبو نصر أحمد بن محمد السازكي نا أبو الخير أحمد بن حمد البزار ثنا محمد بن اسماعيل البخاري ثنا علي بن حجر ثنا صالح بن عمر الواسطي عن أبي خالد قال جاء عبد الكريم أبو أمية إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف فقال له أبو العالية إنما هذه ثياب الرهابن إن كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن نا احمد بن عبد الله الأصبهاني ثنا أبو محمد بن حبان ثنا احمد بن الحسين الحذاء ثنا احمد بن ابراهيم الدورقي ثنا العيص بن اسحاق قال سمعت الفضيل يقول تزينت لهم بالصوف فلم ترهم يرفعوك بك رأسا تزينت لهم بالقرآن فلم ترهم يرفعون بك رأسا تزينت لهم بشيء يعد شيء كل ذلك إنما هو لحب الدنيا أنبأ نا ابن الحصين # قال نا أبو علي بن المذهب قال أخبرنا أبو حفص بن شاهين قال ثنا اسماعيل بن علي قال ثنا الحسن بن علي بن شبيب قال ثنا احمد بن أبي الحواري قال قال أبو سليمان يلبس أحدهم عباءة بثلاثة دراهم ونصف وشهوته في قلبه بخمسة دراهم أما يستحي أن يجاوز شهوته لباسه ولو ستر زهده بثوبين أبيضين من أبصار الناس كان أسلم له قال احمد بن أبي الحواري قال لي سليمان بن أبي سليمان وكان يعدل بأبيه أي شيء أرادوا بلباس الصوف # قلت التواضع قال لا يتكبر أحدهم الا إذا لبس الصوف أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري نا عبد الله بن احمد السمرقندي ثنا أبو بكر الخطيب نا الحسن بن الحسين العالي نا أبو سعيد احمد بن محمد بن رميح ثنا روح بن عبد(105/231)
المجيب ثنا احمد بن عمر بن يونس قال أبصر الثوري رجلا صوفيا فقال له الثوري هذابدعة # أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا عبد المنعم بن عمر ثنا احمد بن محمد بن زياد قال سمعت أبا داود يقول قال سفيان الثوري لرجل عليه صوف لباسك هذا بدعة أنبأنا زاهر بن طاهر # أنبأنا أبو بكر احمد بن الحسين البيهقي نا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال أخبرني محمد بن عمر ثنا محمد بن المنذر قال سمعت احمد بن شداد يقول سمعت الحسن بن الربيع يقول سمعت عبد الله بن المبارك يقول لرجل رأى عليه صوفا مشهورا أكره هذا أكره هذا أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه نا عبد الواحد بن بكر ثنا علي بن أبي عثمان بن زهير ثنا عثمان بن أحمد ثنا الحسن بن عمرو قال سمعت بشر بن الحارس يقول دخل علي الموصلي على المعافي وعليه جبة صوف فقال له ما هذه الشهرة يا أبا الحسن فقال يا أبا مسعود أخرج أنا وأنت فانظر أينا أشهر # فقال له المعافي ليس شهرة البدن كشهرة اللباس أخبرنا اسماعيل بن أبي بكر المقري نا ظاهر بن احمد نا علي بن محمد بن بشران عثمان بن احمد الدقاق ثنا الحسن بن عمرو قال سمعت بشر بن الحارث يقول دخل بديل على أيوب السختياني وقد مد على فراشه سبنية حمراء تدفع التراب فقال بدليل ما هذا فقال أيوب هذا خير من الصوف الذي عليك أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق قال أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه ثنا علان بن احمد ثنا حبيب بن الحسن ثنا الفضل بن احمد ثنا محمد بن يسار # قال سمعت بشر بن الحارث وسئل عن لبس الصوف فشق عليه وتبين الكراهة في وجهه ثم قال لبس الخز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار قال أخبرنا أبي نا الحسين بن علي الطناجيري نا أحمد بن منصور البرسري ثنا محمد بن مخلد ثنا احمد بن منصور ثني(105/232)
يزيد السقا رفيق محمد بن أدريس الانباري قال رأيت فتى عليه مسوح قال فقلت له من لبس هذا من العلماء من فعل هذا من العلماء قال # قد رآني بشر بن الحارث فلم ينكر علي قال يزيد فذهبت إلى بشر فقلت له يا أبا نصر رأيت فلانا عليه جبة مسوح فأنكرت عليه فقال قد رآني أبو نصر فلم ينكر علي قال فقال لي بشر لم تستشرني يا أبا خالد لو قلت له لقال لي لبس فلان ولبس فلان # أخبرنا احمد بن منصور الهمداني نا أبو علي احمد بن سعد بن علي العجلي نا أبو ثابت هجير بن منصور بن علي الصوفي إجازة نا أبو محمد جعفر بن محمد بن الحسين بن اسماعيل الصوفي ثنا ابن روزبه ثنا عبد الله بن احمد بن نصر القنطري ثنا ابراهيم بن محمد الإمام ثنا هشام بن خالد قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول لرجل لبس الصوف إنك قد أظهرت آلة الزاهدين فماذا أورثك هذا الصوف فسكت الرجل فقال له يكون ظاهرك قطنيا وباطنك صوفيا # أخبرنا يحيى بن علي المدبر نا أبو بكر محمد بن علي الخياط نا الحسن بن الحسين بن حمكان سمعت أبا محمد الحسن بن عثمان بن عبد ربه البزار يقول سمعت أبا بكر بن الزيات البغدادي يقول سمعت ابن سيرويه يقول دخل أبو محمد بن أخي معروف الكرخي علي ابي الحسن ابن بشار وعليه جبة صوف فقال له أبو الحسن يا أبا محمد صوفت قلبك أو جسمك صوف قلبك والبس القوهي على القوهي # أخبرنا عبد الوهاب ابن المبارك الحافظ نا جعفر بن أحمد بن السواح نا عبد العزيز بن حسن الضراب قال حدثنا أبي ثنا أحمد بن مروان ثنا أبو بكر بن أبي(105/233)
الدنيا ثنا أحمد بن سعيد قال سمعت النضر بن شميل يقول قلت لبعض الصوفية تبيع جبتك الصوف فقال إذا باع الصياد شبكته بأي شيء يصطاد # قال أبو جعفر بن جرير الطبري ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء $ فصل قال المصنف وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة لا المرتفعة $ ولا الدون ويتخيرون أجودها للجمعة والعيدين ولقاء الإخوان ولم يكن غير الأجود عندهم قبيحا # وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة فما أنكر عليه ذكر التجمل بها وإنما أنكر عليه لكونها حريرا # قال المصنف رحمه الله وقد ذكرنا عن أبي العالية أنه قال كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي أنبأ نا الحسن بن علي الجوهري نا أبو عمر بن حياة نا أحمد بن معروف نا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا اسماعيل بن إبراهيم الأسدي عن ابن عون عن محمد قال كان المهاجرون والأنصار يلبسون لباسا مرتفعا وقد اشترى تميم الداري حلة بألف ولكنه كان يصلي بها قال ابن سعد وأخبرنا عفان ثنا حماد بن زيد ثنا أيوب عن محمد(105/234)
ابن سيرين أن تميما الداري اشترى حلة بألف درهم وكان يقوم فيها بالليل إلى صلاته قال وحدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت أن تميما الداري كانت له حلة قد ابتاعها بألف كان يلبسها الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر وأخبرنا الفضل بن دكين ثنا همام عن قتادة أن ابن سيرين أخبره أن تميما الداري اشترى رداء بالف فكان يصلي بأصحابه فيه # قال المصنف رحمه الله قلت وقد كان ابن مسعود من أجود الناس ثوبا وأطيبهم ريحا وكان الحسن البصري يلبس الثياب الجياد قال كلثوم بن جوشن خرج الحسن وعليه جبة يمنية ورداء يمني فنظر إليه فرقد فقال يا أستاذ لا ينبغي لمثلك أن يكون هكذا فقال الحسن يا ابن أم فرقد أما علمت أن أكثر أصحاب النار أصحاب الأكسية وكان مالك بن أنس يلبس الثياب العدنية الجياد # وكان ثوب أحمد بن حنبل يشتري بنحو الدينار وقد كانوا يؤثرون البذاذة إلى حد وربما لبسوا خلقان الثياب في بيوتهم فإذا خرجوا تجملوا ولبسوا مالا يشتهرون به من الدون ولا من الأعلى أخبرنا أحمد بن منصور الهمداني نا أبو علي أحمد بن سعد علي العجلي ثنا أبو ثابت هجير بن منصور بن علي الصوفي إجازة نا أبو محمد جعفر بن محمد بن الحسين الصوفي ثنا ابن روزبه ثنا أبو سليمان محمد بن الحسين بن علي بن ابراهيم الحراني ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ثنا محمد بن خلف ثنا عيسى بن حازم قال كان لباس إبراهيم بن أدهم كتانا قطنا فروة لم أر عليه ثياب صوف ولا ثياب شهرة # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت محمد بن ريان يقول رأى علي ذو النون خفا أحمر فقال انزع هذا يا بني فانه شهرة ما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لبس النبي صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين أخبرنا محمد بن ناصر نا محمد بن علي بن ميمون نا عبد الكريم بن محمد المحاملي نا علي بن عمر الدارقطني نا أبو الحسن أحمد بن محمد(105/235)
بن سالم نا أبو سعيد عبد الله بن شبيب المدني ثني الزبير
عن أبي عرنة الأنصاري عن فليح بن سليمان عن الربيع بن يونس قال قال أبو جعفر المنصور العري الفادح خير من الزي الفاضح اللباس الذي يظهر الزهد # قال المصنف واعلم أن اللباس الذي يزري بصاحبه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر وكأنه لسان شكوى من الله عز وجل ويوجب احتقار اللابس وكل ذلك مكروه ومنهي عنه # أخبرنا محمد بن ناصر نا علي بن الحصين بن أيوب نا أبو علي بن شاذان ثنا أبو بكر بن سليمان النجاد ثنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد القرشي ثنا عبد الله بن عمر القواريري ثنا هشام بن عبد الملك ثنا شعبة عن ابن اسحاق عن الأحوص عن أبيه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة فقال هل لك مال قلت نعم قال من أي المال قلت من كل المال قد آتاني الله عز وجل من الإبل والخيل والرقيق والغنم قال فإذا آتاك الله عز وجل مالا فلير عليك # أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا مسكين بن بكير ثني الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا في منزلي فرأى رجلا شعثا فقال أما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه ورأى رجلا عليه ثياب وسخة فقال أما كان يجد هذا ما يغسل به ثيابه # أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا نا أبو عمر محمد بن العباس بن حياة ثنا أبو بكر بن الأنباري ثني أبي ثنا أبو عكرمة الضبي ثنا مسعود بن بشر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال مضى علي بن أبي طالب إلى الربيع بن زياد يعوده فقال له يا أمير المؤمنين أشكو إليك عاصما أخي قال ما شأنه قال ترك الملاذ ولبس العباءة فغم أهله(105/236)
وأحزن ولده فقال علي عاصما فلما حضر بش في وجهه وقال أترى الله أحل لك الدنيا وهو يكره أخذك منها أنت والله أهون على الله من ذلك فوالله لابتذالك نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالك بالمقال فقال يا أمير المؤمنين إني أراك تؤثر لبس الخشن وأكل الشعير فتنفس الصعداءثم قال ويحك يا عاصم ان الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يتبع بالفقير فقره قال أبو بكر الأنباري المعنى لئلا يزيد ويغلو يقال تبيع به الدم إذا زاد وجاوز الحد تجريد اللباس # قال المصنف فإن قال قائل تجويد اللباس هوى للنفس وقد أمرنا بمعاهدتها وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق فالجواب انه ليس كل ما تهواه النفس يذم ولا كل التزين للناس يكره وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو كان على وجه الرياء في باب الدين فان الإنسان يجب أن يرى جميلا وذلك حظ النفس ولا يلام فيه ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشن إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج وليس في شيء من هذا ما يكره ولا يذم # أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي نا علي بن محمد بن العلاف نا عبد الملك بن محمد بن بشران نا أحمد بن ابراهيم الكندي نا محمد بن جعفر الخرائطي ثنا بنان بن سليمان ثنا عبد الرحمن بن هانيء عن العلاء بن كثير عن مكحول عن عائشة قالت كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته فقلت يا رسول الله وأنت تفعل هذا قال نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيء من نفسه فان الله جميل يحب الجمال(105/237)
# أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا عبد المحسن بن محمد بن علي ثنا مسعود بن ناصر بن أبي زيد نا أبو إسحاق بن محمد بن أحمد نا أبو القاسم عبد الله بن أحمد الفقيه نا الحسن بن سفيان ثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العرزمي عن أبيه عن أم كلثوم عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بركوة لنا فيها ماء فنظر إلى ظله فيها ثم سوى لحيته ورأسه ثم مضى فلما رجع قلت يا رسول الله تفعل هذا قال وأي شيء فعلت نظرت في ظل الماء فهيأت من لحيتي ورأسي إنه لا بأس أن يفعله الرجل المسلم إذا خرج إلى إخوانه أن يهيىء من نفسه # قال المصنف رحمه الله فإن قيل فما وجه ما رويتم عن سري السقطي أنه قال لو أحسست بإنسان يدخل علي فقلت كذا بلحيتي وأمر يده على لحيته كأنه يريد أن يسويها من أجل دخول الداخل عليه لخشيت أن يعذبني الله على ذلك بالنار فالجواب ان هذا محمول منه على انه كان يقصد بذلك الرياء في باب الدين من إظهار التخشع وغيره فأما إذا قصد تحسين صورته لئلا يرى منه ما لا يستحسن فان ذلك غير مذموم فمن اعتقده مذموما فما عرف الرياء ولا فهم المذموم # أخبرنا سعد الخير بن محمد الأنصاري نا علي بن عبد الله بن محمد النيسابوري نا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي نا محمد بن عيسى بن عمرويه ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثني يحيى بن حماد قال أخبرنا شعبة عن أبان بن تغلب عن فضيل الفقيمي عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس انفرد به مسلم ومعناه الكبر كبر من بطر الحق وغمط بمعنى ازدرى واحتقر(105/238)
$ فصل وقال المصنف رحمه الله وقد كان في الصوفية من يلبس الثياب $ المرتفعة أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر نا علي بن الحسن بن جحاف قال ابو عبد الله احمد بن عطاء كان أبو العباس بن عطاء يلبس المرتفع من البز كالديبقي ويسبح بسبح الؤلؤ ويؤثر ما طال من الثياب # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا في الشهرة كالمرقعات وإنما ينبغي أن تكون ثياب أهل الخير وسطا فانظر إلى الشيطان كيف يتلاعب بهؤلاء بين طرفي نقيض $ فصل قال المصنف رحمه الله وقد كان في الصوفية من إذا لبس ثوبا $ خرق بعضه وربما أفسد الثوب الرفيع القدر أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا الحسن بن غالب المقري قال سمعت عيسى بن علي الوزير يقول كان ابن مجاهد يوما عند أبي فقيل له الشبلي فقال يدخل فقال ابن مجاهد سأسكته الساعة بين يديك وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا فلما جلس قال له ابن مجاهد يا أبا بكر أين في العلم فساد ما ينتفع به فقال له الشبلي اين في العلم " فطفق مسحا بالسوق والأعناق " قال فسكت ابن مجاهد فقال له أبي أردت أن تسكته فأسكتك ثم قال له قد أجمع الناس إنك مقرىء الوقت فأين في القرآن إن الحبيب لا يعذب حبيبه قال فسكت ابن مجاهد فقال له أبي قل يا أبا بكر فقال قولته تعالى " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله "(105/239)
" وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم " فقال ابن مجاهد كأنني ما سمعتها قط # قال المصنف رحمه الله قلت هذه الحكاية أنا مرتاب بصحتها لأن الحسن بن غالب كان لا يوثق به أخبرنا القزاز نا أبو بكر الخطيب قال ادعى الحسن بن غالب أشياء تبين لنا فيها كذبه واختلاقه فان كانت صحيحة فقد أبانت عن قلة فهم الشبلي حين احتج بهذه الآية وقلة فهم ابن مجاهد حين سكت عن جوابه وذلك أن قوله فطفق مسحا بالسوق والأعناق لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل فساد # والمفسرون قد اختلفوا في معنى الآية فمنهم من قال مسح على أعناقها وسوقها وقال أنت في سبيل الله فهذا إصلاح ومنهم من قال عقرها وذبح الخيل وأكل لحمها جائز فما فعل شيئا فيه جناح فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فانه لا يجوز ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ولا يكون في شرعنا أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أنبأنا محمد بن أحمد بن أبي الصقر ثنا علي بن الحسن بن جحاف الدمشقي قال أبو عبد الله أحمد بن عطاء كان مذهب أبي علي الروزباري تخريف أكمامه وتفتيق قميصه قال فكان يخرق الثوب المثمن فيرتدي بنصفه ويأتزر بنصفه حتى أنه دخل الحمام يوما وعليه ثوب ولم يكن مع أصحابه ما يتأزرون به فقطعه على عددهم فاتزروا به وتقدم إليهم أن يدفعوا الخرق إذا خرجوا للحمامي # قال ابن عطاء قال لي أبو سعيد الكازروني كنت معه في هذا اليوم وكان الرداء الذي قطعه يقوم بنحو ثلاثين دينارا # قال المصنف رحمه الله ونظير هذا التفريط ما أنبأنا به زاهر بن طاهر قال(105/240)
أنبأنا أبو بكر البيهقي نا أبو عبد الله الحاكم قال سمعت عبد الله بن يوسف يقول سمعت أبا الحسن البوشنجي يقول كانت لي قبجة طلبت بمائة درهم فحظرني ليلة غريبان فقلت للوالدة عندك شيء لضيفي قالت لا إلا الخبز فذبحت القبجة وقدمتها إليهما # قال المصنف رحمه الله قد كان يمكنه أن يستقرض ثم يبيعها ويعطي فلقد فرط أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد قال أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب قال أنبأنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت جدي يقول دخل أبو الحسن الدراج البغدادي الري وكان يحتاج إلى لفاف لرجله فدفع اليه رجل منديلا ديبقيا فشقه نصفين وتلفف به فقيل له لو بعته وأشتريت منه لفافا وأنفقت الباقي فقال رحمه الله أنا لا أخون المذهب # قال المصنف وقد كان احمد الغزالي ببغداد فخرج إلى المحول فوقف على ناعورة تأن فرمي طيلسانه عليها فدارت فتقطع الطيلسان قال المصنف رحمه الله قلت فانظر إلى هذا الجهل والتفريط والبعد من العلم فإنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إضاعة المال ولو أن رجلا قطع دينارا صحيحا وأنفقه كان عند الفقهاء مفرطا فكيف بهذا التبذير المحرم ونظير هذا تمزيقهم الثياب المطروحة عند الوجد على ما سيأتي ذكره إن شاء الله ثم يدعون أن هذه الحالة لا خير في حالة تنافي الشرع أفتراهم عبيد نفوسهم أم أمروا أن يعملوا بآرائهم فان كانوا عرفوا أنهم يخالفون الشرع بفعلهم هذا ثم فعلوه أنه لعناد وإن كانوا لا يعرفوا فلعمري إنه لجهل شديد # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم احمد بن عبد ربه الحافظ قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله الرازي يقول لما تغير الحال على أبي عثمان وقت وفاته مزق ابنه أبو بكر قميصا كان عليه(105/241)
ففتح أبو عثمان عينه وقال يا بني خلاف السنة في الظاهر ورياء باطن في القلب المبالغة في تقصير الثياب # قال المصنف وفي الصوفية من يبالغ في تقصير ثوبه وذلك شهرة أيضا أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب ثنا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا محمد بن أبي عدي عن العلاء عن أبيه أنه سمع أبا سعيد سئلى عن الازار فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ازار المسلم إلى إنصاف الساقين لا جناح أو لا حرج عليه ما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من ذلك فهو النار أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله ثنا أبو حامد بن جبلة ثنا محمد بن إسحاق ثنا إبراهيم بن بن سعيد الجوهري قال كتب إلي عبد الرزاق عن معمر قال كان في قميص أيوب بعض التذبيل فقيل له فقال الشهرة اليوم في التشمير # وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هانيء قال دخلت يوما على أبي عبد الله احمد بن حنبل وعلي قميص أسفل من الركبة وفوق الساق فقال أي شيء هذا وأنكره وقال هذا بالمرة لا ينبغي من الصوفية من يجعل على رأسه خرقة مكان العمامة # قال المصنف وقد كان في الصوفية من يجعل على رأسه خرقة مكان العمامة وهذا أيضا شهرة لأنه على خلاف لباس أهل البلد وكل ما فيه شهرة فهو مكروه أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار نا أبي الحسين بن علي نا أحمد بن منصور البوسري ثنا محمد بن مخلد ثني محمد بن يوسف قال قال عباس بن عبد العظيم(105/242)
العنبري قال بشر بن الحارث إن ابن المبارك دخل المسجد يوم جمعة وعليه قلنسوة فنظر الناس ليس عليهم قلانس فأخذها فوضعها في كمه تخصيص ثياب للصلاة وثياب للخلاء # قال المصنف وقد كان في الصوفية من استكثر من الثياب وسوسة فيجعل للخلاء ثوبا وللصلاة ثوبا وقد روى هذا عن جماعة منهم أبو يزيد وهذا لا بأس به إلا أنه ينبغي خشية أو يتخذ سنة # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم احمد بن عبد الله ثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن عبد الوهاب ثنا محمد بن إسحاق النيسابوري ثنا محمد بن الصباح ثنا حاتم يعني ابن اسماعيل ثني جعفر عن أبيه أن علي بن الحسين قال يا بني لو اتخذت ثوبا للغائط رأيت الذباب يقع على الشيء ثم يقع على الثوب ثم أتيته فقال ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه الا ثوب فرفضه الثوب الواحد # قال المصنف وقد كان فيهم من لا يكون له سوى ثوب واحد زاهدا في الدنيا وهذا أحسن إلا أنه إذا أمكن إتخاذ ثوب للجمعة والعيد كان أصلح واحسن أخبرنا عبد الأول بن عيسى نا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر نا عبد الله بن أحمد بن حياة نا ابراهيم بن حريم بن حميد ثني ابن أبي شيبة ثنا محمد بن عمر عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن يحيى بن حبان عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة فقال ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعة سوى ثوب مهنته(105/243)
# أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا محمد الجوهري نا أبو عمر بن حياة نا احمد بن معروف الحساب نا الحارث بن أبي أسامة ثنا محمد بن سعد نا محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال محمد بن عمر وحدثني غير محمد بن عبد الرحمن أيضا ببعض ذلك قالوا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم برد يمينه وازار من نسج عمان فكان يلبسهما في يوم الجمعة ويوم العيد ثم يطويان $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في مطاعمهم ومشاربهم $ # قال المصنف رحمه الله قد بالغ إبليس في تلبيسه على قدماء الصوفية فأمرهم بتقليل المطعم وخشونته ومنعهم شرب الماء البارد فلما بلغ إلى المتأخرين استراح من التعب واشتغل بالتعجب من كثرة أكلهم ورفاهية عيشهم $ ذكر طرف مما فعله قدماؤهم $ # قال المصنف رحمه الله كان في القوم من يبقى الأيام لا يأكل إلا أن تضعف قوته وفيهم من يتناول كل يوم الشيء اليسير الذي لا يقيم البدن فروي لنا عن سهل بن عبد الله أنه كان في بدايته يشتري بدرهم دبسا وبدرهمين سمنا وبدرهم دقيق الأرز فيخلطه ويجعله ثلاثمائة وستين كرة فيفطر كل ليلة على واحدة وحكى عنه أبو حامد الطوسي قال كان سهل يقتات ورق النبق مدة وأكل دقاق التبين مدة ثلاث سنين واقتات بثلاث دراهم في ثلاث سنين أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعد بن أبي صادق نا أبو باكويه ثني أبو الفرج بن حمزة التكريتي ثني أبو عبد الله الحصري قال سمعت أبا جعفر(105/244)
الحداد يقول أشرف علي أبو تراب يوما وأنا على بكرة ماء ولي ستة عشر يوما ولم آكل شيئا ولم أشرب فيها ماء فقال ما جلوسك ههنا فقلت أنا بين العلم واليقين وأنا أنظر من يغلب فأكون معه فقال سيكون لك شأن أخبرنا أبو بكر ابن حبيب نا ابن أبي صادق ثنا ابن باكويه نا عبد العزيز بن الفضل ثنا علي بن عبد الله العمري ثنا محمد بن فليح ثني إبراهيم بن البنا البغدادي قال صحبت ذا النون من أخميم إلى الإسكندرية فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي وقلت هلم فقال لي ملحك مدقوق قلت نعم قال لست تفلح فنظرت إلى مزوده فإذا فيه قليل سويق شعير يستف منه # أخبرنا ابن ظفر نا ابن السراج نا عبد العزيز ابن علي الازجي نا ابن جهضم ثنا محمد بن عيسى بن هارون الدقاق ثنا أحمد بن أنس بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يقول الزبد بالعسل إسراف قال ابن جهضم وحدثنا محمد بن يوسف البصري قال سمعت أبا سعيد صاحب سهل يقول بلغ أبا عبد الله الزبيري وزكريا الساجي وابن ابي أوفى أن سهل بن عبد الله يقول انا حجة الله على الخلق فاجتمعوا عنده فأقبل عليه الزبيري فقال له بلغنا أنك قلت أنا حجة الله على الخلق فبماذا أنبي أنت أصديق أنت قال سهل لم أذهب حيث تظن ولكن إنما قلت هذا هذا لأخدي الحلال فتعالوا كلكم حتى نصحح الحلال قالوا فأنت قد صححته قال نعم قال وكيف قال سهل قسمت عقلي ومعرفتي وقوتي علي سبعة أجزاء فاتركه حتى يذهب منها ستة أجزاء ويبقى جزء واحد فاذا خفت أن يذهب ذلك الجزء ويتلف معه نفسي خفت أن أكون قد أعنت عليها وقتلتها دفعت إليها من البلغة ما يرد الستة الأجزاء(105/245)
# أخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه قال أخبرني أبو عبد الله ابن مفلح قال خبرني أبي أخبرني أبو عبد الله بن زيد قال لي منذ أربعين سنة ما أطعمت نفسي طعاما إلا في وقت ما أحل الله لها الميتة أخبرنا ابن ناصر نا أبو الفضل محمد بن علي بن احمد السهلكي ثنى أبو الحسن علي بن محمد القوهي ثنا عيسى بن آدم ابن أخي أبي يزيد قال جاء رجل إلى أبي يزيد قال أريد أن أجلس في مسجدك الذي أنت فيه قال لا تطيق ذلك فقال ان رأيت ان توسع لي في ذلك فأذن له فجلس يوما لا يطعم فصبر فلما كان في اليوم الثاني قال له يا أستاذ لا بد مما لا بد منه فقال يا غلام لا بد من الله قال يا أستاذ نريد القوت قال يا غلام القوت عندنا إطاعة الله فقال يا أستاذ أريد شيئا يقيم جسدي في طاعته عز وجل فقال يا غلام ان الأجسام لا تقوم إلا بالله عز وجل # أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول سمعت أبا عثمان الآدمي يقول سمعت ابراهيم الخواص يقول حدثني أخ لي كان يصحب أبا تراب نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر البطيخ وكان قد طوى ثلاثة أيام فقال له تمد يدك إلى قشر البطيخ أنت لا يصلح لك التصوف إلزم السوق أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا القاسم القيرواني يقول سمعت بعض أصحابنا يقول أقام أبو الحسن النصيبي بالحرم أياما مع أصحاب لهم سبعة لم يأكلوا فخرج بعض أصحابه ليتطهر فرأى قشر بطيخ فأخذه فأكله فرآه انسان فاتبعه بشيء وجاء برفق فوضعه بين يدي القوم فقال الشيخ من جنى منكم هذه الجناية فقال الرجل أنا وجدت قشر بطيخ فأكلته فقال كن مع جنايتك ومع هذا الرفق وخرج من الحرم ومعه أصحابه وتبعه الرجل فقال ألم أقل لك كن مع جنايتك فقال الرجل أنا تائب إلى الله(105/246)
تعالى مما جرى مني فقال الشيخ لا كلام بعد التوبة # أخبرنا عمر بن ظفر نا ابن السراج نا أبو القاسم الأزجي نا أبو الحسن بن جهضم ثنا ابراهيم بن محمد الشنوزي قال سمعت بنان بن محمد يقول كنت بمكة مجاورا فرأيت بها ابراهيم الخواص وأتى علي أيام لم يفتح علي بشيء وكان بمكة مزين يحب الفقراء وكان من أخلاقه إذا جاءه الفقير يحتجم اشترى له لحما فطبخه فأطعمه فقصدته وقلت أريد أن أحتجم فأرسل من يشتري لحما وأمر بأصلاحه وجلست بين يديه فجعلت نفسي تقول ترى كيف يكون فراغ القدر مع فراغ الحجامة ثم استيقظت وقلت يا نفس إنما جئت تحتجمين لتطمعي عاهدت الله تعالى ألا ذقت من طعامه شيئا فلما فرغ انصرفت فقال سبحان الله أنت تعرف الشرط فقلت ثم عقد فسكت وجئت إلى المسجد الحرام ولم يقدر لي شيء آكله فلما كان من الغد بقيت إلى آخر النهار ولم يتفق أيضا فلما قمت لصلاة العصر سقطت وغشي علي واجتمع حولي ناس وحسبوا أني مجنون فقام ابراهيم وفرق الناس وجلس عندي يحدثني ثم قال تأكل شيئا قلت قرب الليل فقال أحسنتم يا مبتدئون اثبتوا على هذا تفلحوا ثم قام فلما صلينا العشاء الآخرة إذا هو قد جاءني ومعه قصعة فيها عدس ورغيفان ودورق ماء فوضعه بين يدي وقال كل ذلك فأكلت الرغيفين والعدس فقال فيك فضل تأكل شيئا آخر قلت نعم فمضى وجاء بقصعة عدس ورغيفين فأكلتهما وقلت قد اكتفيت فاضطجعت فما قمت ليلتي ونمت إلى الصباح ما صليت ولا طفت # أنبأنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم ثنا ابي قال سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول سمعت منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول سمعت أبا علي الروزباري يقول اذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق وأمروه بالكسب أنبأنا عبد المنعم ثنا أبي قال سمعت ابن باكويه يقول سمعت أبا احمد الصغير يقول أمرني أبو عبد الله بن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر حبات زبيب لافطاره فأشفقت عليه ليلة فحملت اليه خمسة عشر حبة فنظر إلي(105/247)
وقال من أمرك بهذا وأكل عشر حبات وترك الباقي
# أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا علي بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت عبد الله بن خفيف يقول كنت في ابتدائي بقيت أربعين شهرا أفطر كل ليلة بكف باقلاء فمضيت يوما فاقتصدت فخرج من عرقي شبه ماء اللحم وغشي علي فتحير الفصاد وقال ما رأيت جسدا لأدم فيه إلا هذا الامتناع عن أكل اللحم # قال المصنف وقد كان فيهم قوم لا يأكلون اللحم حتى قال بعضهم أكل درهم من اللحم يقسي القلب أربعين صباحا وكان فيهم من يمتنع من الطيبات كلها ويحتج بما أخبرنا به علي بن عبد الواحد الدينوري نا أبو الحسن القزويني نا أبو حفص بن الزيات ثنا ابن ماجه ثنا أزهر بن جميل ثنا بزيغ عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرموا أنفسكم طيب الطعام فانما قوي الشيطان أن يجري في العروق بها وفيهم من كان يمتنع من شرب الماء الصافي وفيهم من يمتنع من شرب الماء البارد فيشرب الحار ومنهم من كان يجعل ماءه في دن مدفون في الأرض فيصير حارا ومنهم من يعاقب نفسه بترك الماء مدة وأخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أبو الفضل محمد بن علي السهلكي قال سمعت عبد الواحد بن بكر الورياني ثني محمد بن سعدان ثني عيسى بن موسى البسطامي قال سمعت أبي يقول قال سمعت عمي خادم أبي يزيد يقول ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة قال وأسهل ما لاقت نفسي مني أني سألتها أمرا من الأمور فأبت فعزمت أن لا أشرب الماء سنة فما شربت الماء سنة وحكى أبو حامد الغزالي عن أبي يزيد انه قال دعوت نفسي إلى الله عز وجل فجمحت فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك $ فصل قال المصنف وقد رتب أبو طالب المكي للقوم ترتيبات في المطاعم $(105/248)
فقال استحب للمريد ألا يزيد على رغيفين في يوم وليلة قال ومن الناس من كان يعمل في الأقوات فيقلها وكان بعضهم يزن قوته بكربة من كرب النخل وهي تجف كل يوم قليلا فينقص من قوته بمقدار ذلك قال ومنهم من كان يعمل في الأوقات فيأكل كل يوم ثم يتدرج إلى يومين وثلاثة قال والجوع ينقص دم الفؤاد فيبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته وفي رقته مفتاح المكاشفة # قال المصنف رحمه الله تعالى وقد صنف لهم أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي كتاباسماه رياضة النفوس قال فيه فينبغي للمبتدىء في هذا الأمر أن يصوم شهرين متتابعين توبة من الله ثم يفطر فيطعم اليسير ويأكل كسرة كسرة ويقطع الأدام والفواكه واللذة ومجالسة الإخوان والنظر في الكتب وهذه كلها أفراح للنفس فيمنع النفس لذتها حتى تملىء غما # قال المصنف وقد أخرج لهم بعض المتأخرين الأربعينية يبقى أحدهم أربعين يوما لا يأكل الخبز ولكنه يشرب الزيوتات ويأكل الفواكه الكثيرة اللذيذة فهذه نبذة من ذكر أفعالهم في مطاعمهم يدل مذكورها على مغفلها $ فصل في بيان تلبيس إبليس عليهم في هذه الأفعال وإيضاح الخطأ فيها $ # قال المصنف رحمه الله أما ما نقل عن سهل ففعل لا يجوز لأنه حمل على النفس ما لا تطيق ثم ان الله عز وجل أكرم الآدميين بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم فلا تصلح مزاحمة البهائم في أكل التبن وأي غذاء في التبن ومثل هذه الأشياء أشهر من أن تحتاج إلى رد وقد حكى أبو حامد عن سهل أنه كان يرى(105/249)
أن صلاة الجائع الذي قد أضعفه الجوع قاعدا أفضل من صلاته قائما إذا قواه الأكل # قال المصنف رحمه الله وهذا خطأ بل إذا تقوى على القيام كان أكله عبادة لأنه يعين على العبادة وإذا تجوع إلى أن يصلي قاعدا فقد تسبب إلى ترك الفرائض فلم يجز له ولو كان التناول ميتة ما جاز هذا فكيف وهو حلال ثم أي قربة في هذا الجوع المعطل أدوات العبادة # وأما قول الحداد وأنا أنظر أن يغلب العلم أم اليقين فانه جهل محض لأنه ليس بين العلم واليقين تضاد إنما اليقين أعلى مراتب العلم وأين من العلم واليقين ترك ما تحتاج إليه النفس من المطعم والمشرب وإنما أشار بالعلم إلى ما أمره الشرع وأشار باليقين إلى قوة الصبر وهذا تخليط قبيح وهؤلاء قوم شددوا فيما ابتدعوا وكانوا كقريش في تشددهم حتى سموا بالحمس فجحدوا الأصل وشددوا في الفرع وقول الآخر ملحك مدقوق لست تفلح من أقبح الأشياء وكيف يقال عمن استعمل ما أبيح له لست تفلح وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج # وقول الآخر الزبد بالعسل إسراف قول مرذول لأن الإسراف ممنوع منه شرعا وهذا مأذون فيه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل القثاء بالرطب وكان يحب الحلوى والعسل وأما ما روينا عن سهل أنه قال(105/250)
قسمت قوتي وعقلي سبعة أجزاء ففعل يذم به ولا يمدح عليه إذ لم يأمر الشرع بمثله وهو إلى التحريم أقرب لأنه ظلم للنفس وترك لحقها وكذلك قول الذي قال ما أكلت إلى وقت أن يباح لي أكل الميتة فإنه فعل برأيه المرذول وحمل على النفس مع وجود الحلال وقول أبي يزيد القوت عندنا الله كلام ركيك فإن البدن قد بني على الحاجة إلى الطعام حتى إن أهل النار في النار يحتاجون إلى الطعام وأما التقبيح على من أخذ قشر البطيخ بعد الجوع الطويل فلا وجه له والذي طوى ثلاثا لم يسلم من لوم الشرع وكذلك الذي عاهد أن لا يأكل حين احتجم حتى وقع في الضعف فإنه فعل ما لا يحل له وقول إبراهيم له أحسنتم يا مبتدئون خطأ أيضا فإنه كان ينبغي أن يلزمه بالفطر ولو كان في رمضان إذ من له أيام لم يأكل وقد احتجم وغشي عليه لا يجوز له أن يصوم # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت ثني الأزهري ثنا علي بن عمر ثنا أبو حامد الحضرمي ثنا عبد الرحمن بن يونس السواح ثنا بقية بن الوليد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصابه جهد في رمضان فلم يفطر فمات دخل النار # قال المصنف رحمه الله قلت كل رجاله ثقات وقد أخبرنا به عاليا محمد ابن عبد الباقي نا أبو يعلى محمد بن الحسين نا علي بن عمر السكري ثنا احمد بن محمد الأسدي ثنا عبد الرحمن بن يونس فذكره وقال من أصابه جهد في رمضان فلم يفطر دخل النار # قال المصنف رحمه الله وأما تقليل ابن خفيف ففعل قبيح لا يستحسن وما يورد هذا الأخبار عنهم إيرادا مستحسنا لها إلا جاهل بأصول الشرع فأما العالم المتمكن فإنه لا يهوله قول معظم كيف بفعل جاهل مبرسم وأما كونهم لا يأكلون اللحم فهذا مذهب البراهمة الذين لا يرون ذبح الحيوان والله عز وجل أعلم بمصالح الأبدان فأباح اللحم لتقويتها فأكل اللحم يقوي القوة وتركه(105/251)
يضعفها ويسيء الخلق وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحب الذارع من الشاة ودخليوما فقدم إليه طعام من طعام البيت فقال لم أر لكم برمة تفور وكان الحسن البصري يشتري كل يوم لحما وعلى هذا كان السلف الا أن يكون فيهم فقير فيبعد عهده باللحم لأجل الفقر وأما من منع نفسه الشهوات فان هذا على الأطلاق لا يصلح لأن الله عز وجل لما خلق بني آدم على الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة وجعل صحته موقوفة على تعادل الإخلاط الدم والبلغم والمرة الصفراء والمرة السوداء فتارة يزيد بعض الاخلاط فتميل الطبيعة إلى ما ينقصه مثل أن تزيد الصفراء فيميل الطبع إلى الحموضة أو ينقص البلغم فتميل النفس إلى المرطبات فقد ركب في الطبع الميل إلى ما تميل إليه النفس وتوافقه فاذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوبلت حكمة الباري سبحانه وتعالى يردها ثم يؤثر ذلك في البدن فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل # ومعلوم أن البدن مطية الآدمي ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ وإنما قلت علوم هؤلاء فتكلموا بآرائهم الفاسدة فان أسندوا فالى حديث ضعيف أو موضوع أو يكون فهمهم منه رديئا ولقد عجبت لأبي حامد الغزالي الفقيه كيف نزل مع القوم من رتبة الفقه إلى مذاهبهم حتى إنه قال لا ينبغي للمريد إذا تاقت نفسه الى الجماع أن يأكل ويجامع فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه # قال المصنف رحمه الله وهذا قبيح في الغاية فان الإدام شهوة فوق الطعام فينبغي أن لا يأكل إداما والماء شهوة أخرى أو ليس في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه بغسل واحد فهلا اقتصر على شهوة واحدة أو ليس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل القثاء بالرطب وهاتان شهوتان أو ما(105/252)
أكل عند أبي الهيتم بن التيهان خبزا وشواء وبسرا وشرب ماء باردا أو ما كان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم فيصلي أو ما تعلف الفرس الشعير والتبن والقت وتطعم الناقة الخبط والحمض وهل البدن الاناقة وإنما نهى بعض القدماء عن الجمع بين إدامين على الدوام لئلا يتخذ ذلك عادة فيحوج إلى كلفة وإنما تجتنب فضول الشهوات لئلا يكون سببا لكثرة الأكل وجلب النوم ولئلا تتعود فيقل الصبر عنها فيحتاج الانسان إلى تضييع العمر في كسبها وربما تناولها من غير وجهها وهذا طريق السلف في ترك فضول الشهوات والحديث الذي احتجوا به احرموا أنفسكم طيب الطعام حديث موضوع عملته يدا بزيغ الراوي وأما إذا أقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فانه ينحرف مزاجه لأن خبز الشعير يابس مجفف والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر وتقليل المطعم يوجب تنشيف المعدة وضيقها وقد حكى يوسف الهمداني عن شيخه عبد الله الحوفي أنه كان يأكل خبز البلوط بغير إدام وكان أصحابه يسألونه أن يأكل شيئا من الدهن والدسومات فلا يفعل # قال المصنف رحمه الله وهذا يورث القولنج الشديد واعلم أن المذموم من الأكل إنما هو فرط الشبع وأحسن الآداب في المطعم أدب الشارع صلى الله عليه وسلم أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو بكر بن حمكان ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا أبو المغيرة ثنا سليمان بن سليم الكناني ثنا يحيى بن جابر الطائي قال سمعت المقدام بن معدي كرب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فان كان لا بد فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه # قال المصنف رحمه الله قلت فقد أمر الشرع بما يقيم النفس حفظا لها وسعيا في مصلحتها ولو سمع أبقراط هذه القسمة في قوله ثلث وثلث(105/253)
وثث لدهش من هذه الحكمة لأن الطعام والشراب يربوان في المعدة فيتقارب ملئها فيبقى للنفس من الثلث قريب فهذا أعدل الأمور فان نقص منه قليلا لم يضر وإن زاد النقصان أضعف القوة وضيق المجاري على الطعام الصوفية والجوع # قال المصنف رحمه الله واعلم أن الصوفية إنما يأمرون بالتقلل شبانهم ومبتدئيهم ومن أضر الأشياء على الشاب الجوع فإن المشايخ يصبرون عليه والكهول أيضا فأما الشبان فلا صبر لهم على الجوع وسبب ذلك أن حرارة الشباب شديدة فلذلك يجود هضمه ويكثر تحلل بدنه فيحتاج إلى كثرة الطعام كما يحتاج السراج الجديد إلى كثرة الزيت فإذا صابر الشاب الجوع وتئبته في اول النشوء قمع نشوء نفسه فكان كمن يعرقب أصول الحيطان ثم تمتد يد المعدة لعدم الغذاء إلى أخذ الفضول المجتمعة في البدن فتغذيه بالاخلاط فيفسد الدهن والجسم وهذا أصل عظيم يحتاج إلى تأمل $ فصل قال المصنف رحمه الله وذكر العلماء التقلل الذي يضعف البدن $ أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا ابراهيم بن جعفر الساجي نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر نا أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال نا عبد الله بن ابراهيم بن يعقوب الجيلي قال سمعت أبا عبد الله احمد بن حنبل قال له عقبة بن مكرم هؤلاء الذين(105/254)
يأكلون قليلا ويقللون من مطعمهم فقال ما يعجبني سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول فعل قوم هذا فقطعهم عن الفرض قال الخلال وأخبرني أبو بكر احمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة ثنا اسحق بن داود بن صبيح قال قلت لعبد الرحمن بن مهدي يا أبا سعيد إن ببلدنا قوما من هؤلاء الصوفية فقال لا تقرب هؤلاء فانا قد رأينا من هؤلاء قوما أخرجهم الأمر إلى الجنون وبعضهم أخرجهم إلى الزندقة ثم قال خرج سفيان الثوري في سفر فشيعته وكان معه سفرة فيها فالوذج وكان فيها حمل قال الخلال وأخبرني المروزي قال سمعت أبا عبد الله احمد بن حنبل وقال له رجل اني منذ خمس عشرة سنة قد ولع بي إبليس وربما وجدت وسوسة أتفكر في الله عز وجل فقال لعلك كنت تذمن الصوم افطر وكل دسما وجالس القصاص # قال المصنف رحمه الله وفي هؤلاء القوم من يتناول المطاعم الرديئة ويهجر الدسم فيجتمع في معدته أخلاط فجة فتغذي المعدة منها مدة لأن المعدة لا بد لها من شيء تهضمه فاذا هضمت ما عندها من الطعام ولم تجد شيئا تناولت الاخلاط فهضمتها وجعلتها غذاء وذلك الغذاء الردىء يخرج إلى الوساوس والجنون وسوء الأخلاق # وهؤلاء المتقللون يتناولون مع التقلل أردأ المأكولات فتكثر أخلاطهم فتشتغل المعدة بهضم الاخلاط ويتفق لهم تعود التقلل بالتدريج فتضيق المعدة فيمكنهم الصبر على الطعام أياما ويعينهم على هذا قوة الشباب فيعتقدون الصبر عن الطعام كرامة وإنما السبب مع عرفتك وقد أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم قال حدثني أبي قال كانت امرأة قد طعنت في السن فسئلت عن حالها فقالت كنت في حال الشباب أجد من نفسي أحوالا أظنها قوة الحال فلما كبرت زالت عني فعلمت أن ذلك كان قوة الشباب فتوهمتها أحوالا قال سمعت أبا علي الدقاق يقول ما سمع أحد هذه الحكاية من الشيوخ إلا رق لهذه العجوز وقال أنها كانت منصفة(105/255)
# وقال المصنف فان قيل كيف تمنعون من التقلل وقد رويتم أن عمر رضي الله عنه كان يأكل كل يوم إحدى عشر لقمة وإن ابن الزبير كان يبقى أسبوعا لا يأكل وإن إبراهيم التميمي بقي شهرين قلنا قد يجري للانسان من هذا الفن في بعض الأوقات غير أنه لا يدوم عليه ولا يقصد الترقي اليه وقد كان في السلف من يجوع عوزا وفيهم من كان الصبر له عادة لا يضر بدنه وفي العرب من يبقى أياما لا يزيد على شرب اللبن ونحن لا نأمر بالشبع إنما ننهي عن جوع يضعف القوة ويؤذي البدن وإذا ضعف البدن قلت العبادة فان حملت البدن قوة الشباب جاء الشيب فأقذع بالراكب وقد أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ نا عبد القادر بن يوسف نا أبو إسحق البرمكي ثنا أبو يعقوب بن سعد النسائي ثنا جدي الحسن بن سفيان ثنا حرملة بن يحيى ثنا عبد الله بن وهب ثنا سفيان بن عيينة عن مالك بن أنس عن إسحق بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس رضي الله عنه قال كان يطرح لعمر بن الخطاب رضي الله عنه الصاع من التمر فيأكله حتى حشفه وقد روينا عن ابراهيم بن أدهم انه اشترى زبدا وعسلا وخبزا حوارى فقيل له هذا كله تأكله فقال اذا وجدنا أكلنا أكل الرجال واذا عدمنا صبرنا صبر الرجال ماء الشرب # قال المصنف رحمه الله وأما الشرب من الماء الصافي فقد تخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا فاستسقى وجدول قريب منه فقال ان عندكم ماء بات في شن وإلا كرعنا اخرجه البخاري وأخبرنا منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب نا أبو عمر بن مهدي ثنا الحسين بن اسماعيل المحاملي ثنا محمد بن(105/256)
عمرو بن أبي مدعور ثنا عبد العزيز بن محمد نا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقي له الماء العذب من بئر السقيا # قال المصنف وينبغي أن يعلم أن الماء الكدر يولد الحصا في الكلى والسدد في الكبد وأما الماء البارد فانه اذا كانت برودته معتدلة فانه يشد المعدة ويقوي الشهوة ويحسن اللون ويمنع عفن الدم وصعود البخارات إلى الدماغ ويحفظ الصحة واذا كان الماء حارا أفسد الهضم وأحدث الترهل وأذبل البدن وأدى إلى الاستسقاء والدق فان سخن بالشمس خيف منه البرص وقد كان بعض الزهاد يقول إذا أكلت الطيب وشربت الماء البارد متى تحب الموت وكذلك قال أبو حامد الغزالي اذا أكل الانسان ما يستلذه قسا قلبه وكره الموت واذا منع نفسه شهواتها وحرمها لذاتها اشتهت نفسه الإفلات من الدنيا بالموت # قال المصنف رحمه الله واعجبا كيف يصدر هذا الكلام من فقيه أترى لو تقلبت النفس في أي فن كان من التعذيب ما أحبت الموت ثم كيف يجوز لنا تعذيبها وقد قال عز وجل " ولا تقتلوا أنفسكم " ورضي منا بالإفطار في السفر رفقا بها وقال يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر أو ليست مطيتنا التي عليها وصولنا # وكيف لا نأوي لها وهي التي % بها قطعنا السهل والحزونا # وأما معاقبة أبي يزيد نفسه بترك الماء سنة فانها حالة مذمومة لا يراها مستحسنة إلا الجهال ووجه ذمها أن للنفس حقا ومنع الحق مستحقه ظلم ولا يحل للانسان أن يؤذي نفسه ولا أن يقعد في الشمس في الصيف بقدر ما يتأذى ولا في الثلج في الشتاء والماء يحفظ الرطوبات الأصلية في البدن وينفذ(105/257)
الأغذية وقوام النفس بالأغذية فاذا منعها أغذية الآدميين ومنعها الماء فقد أعان عليها وهذا من أفحش الخطأ وكذلك منعه إياها النوم قال ابن عقيل وليس للناس إقامة العقوبات ولا استيفاؤها من أنفسهم يدل عليه أن إقامة الإنسان الحد على نفسه لا يجزي فان فعله أعاده الإمام وهذه النفوس ودائع الله عز وجل حتى ان التصرف في الأموال لم يطلق لأربابها الا على وجوه مخصوصة # قال المصنف رحمه الله قلت وقد روينا في حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزود طعاما وشرابا وأن أبا بكر فرش له في ظل صخرة وحلب له لبنا في قدح ثم صب ماء على القدح حتى برد أسفله وكل ذلك من الرفق بالنفس وأما ما رتبه أبو طالب المكي فحمل على النفس بما يضعفها وإنما يمدح الجوع إذا كان بمقدار وذكر المكاشفة من الحديث الفارغ وأما ما صنفه الترمذي فكأن ابتداء شرع برأيه الفاسد وما وجه صيام شهرين متتابعين عند التوبة وما فائدة قطع الفواكه المباحة واذا لم ينظر في الكتب فبأي سيرة يقتدي وأما الأربعينية فحديث فارغ رتبوه على حديث لا أصل له من أخلص لله أربعين صباحا لم يجب الاخلاص أبدا فما وجه تقديره بأربعين صباحا ثم لو قدرنا ذلك فالإخلاص عمل القلب فما بال المطعم ثم ما الذي حسن منع الفاكهة ومنع الخبز وهل هذا كله إلا جهل وقد أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري قال حدثنا أبي قال حجج السوفية أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب لأن الناس اما أصحاب نقل وأثر وأما أرباب عقل وفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة والذي للناس غيب فلهم ظهور فهم أهل الوصال والناس أهل الاستدلال فينبغي لمريدهم أن يقطع العلائق وأولها الخروج من المال ثم الخروج من الجاه وأن لا ينام إلا غلبة وأن يقلل غذاءه بالتدريج # قال المصنف رحمه الله قلت من له أدنى فهم يعرف أن هذا الكلام تخليط فان من خرج عن النقل والعقل فليس بمعدود في الناس وليس أحد من(105/258)
الخلق إلا وهو مستدل وذكر الوصال حديث فارغ فنسأل الله عز وجل العصمة من تخليط المريدين والأشياخ والله الموفق $ ذكر أحاديث تبين خطأهم في أفعالهم $ # أخبرنا يحيى بن علي المدبر نا أبو بكر محمد بن علي الخياط ثنا الحسن بن الحسين بن حمكان ثنا عبدان بن يزيد العطار وأخبرنا محمد بن أبي منصور أنبأنا الحسن بن أحمد الفقيه ثنا محمد بن أحمد الحافظ ثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى البرورجردي ثنا عمير بن مرداس قالا حدثنا محمد بن بكير الحضرمي ثنا القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري عن عبيد الله بن عمر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال جاء عثمان بن مظعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله غلبني حديث النفس فلم أحب أن أحدث شيئا حتى أذكر لك ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تحدثك نفسك يا عثمان قال تحدثني نفسي بأن أختصي فقال مهلا يا عثمان فان خصي أمتي الصيام قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني أن أترهب في الجبال قال مهلا يا عثمان فإن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني بأن أسيح في الأرض قال مهلا يا عثمان فان سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني بأن أخرج من مالي كله قال مهلا يا عثمان فان صدقتك يوما بيوم وتكف نفسك وعيالك وترحم المسكين واليتيم وتطعمه أفضل من ذلك قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني بأن أطلق خولة امرأتي قال مهلا يا عثمان فان هجرة أمتي من هجر ما حرم الله عليه أو هاجر إلي في حياتي أو زار قبري بعد موتي أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني أن لا أغشاها قال مهلا يا عثمان فان الرجل المسلم إذا غشي أهله فان لم يكن من وقعته تلك ولد كان له وصيف(105/259)
في الجنة فان كان من وقعته تلك ولد فان مات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة وإن كان بعده كان له نورا يوم القيامة قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال مهلا يا عثمان فاني أحب اللحم وآكله إذا وجدته ولو سألت ربي أن يطعمني إياه كل يوم لأطعمني قال يا رسول الله فان نفسي تحدثني أن لا أمس طيبا قال مهلا يا عثمان فان جبريل أمرني بالطيب غبا ويوم الجمعة لا مترك له يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي قال المصنف رحمه الله هذا حديث عمير بن مرداس # أخبرنا محمد بن أبي طاهر الجوهري نا أبو عمر بن حياة نا أحمد بن معروف نا الحسن بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا الفضل بن دكين ثنا إسرائيل ثنا أبو إسحاق عن أبي بردة قال دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأينها سيئة الهيئة فقلن لها مالك فما في قريش رجل أغنى من بعلك قالت ما لنا منه شيء أما ليلة فقائم وأما نهاره فصائم فدخلن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له فلقيه فقال يا عثمان أمالك بي أسوة فقال بأبي وأمي أنت وما ذاك قال تصوم النهار وتقوم الليل قال إني لأفعل قال لا تفعل أن لعينك عليك حقا وإن لجسدك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فصل ونم وصم وافطر قال ابن سعد وأخبرنا عارم بن الفضل ثنا حماد بن زيد ثنا معاوية بن عباس الحرمي عن أبي قلابة أن عثمان بن مظعون اتخذ بيتا فقعد يتعبد فيه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخذ بعضادتي باب البيت الذي هو فيه وقال يا عثمان إن الله عز وجل لم يبعثني بالرهبانية مرتين أو ثلاثا وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة(105/260)
# أخبرنا محمد بن ناصر نا محمد بن علي بن ميمون نا عبد الوهاب بن محمد الغندجاني نا أبو بكر بن عبدان نا محمد بن سهل ثنا البخاري قال قال موسى ابن اسماعيل بن حماد بن زيد مسلم ثنا أبو معاوية بن قرة عن كهمس الهلالي قال أسلمت وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بإسلامي فمكثت حولا ثم أتيته وقد ضمرت ونحل جسمي فخفض في البصر ثم صعده قلت أما تعرفني قال ومن أنت قلت أنا كهمس الهلالي قال فما بلغ بك ما أرى قلت ما أفطرت بعدك نهارا ولا نمت ليلا قال ومن أمرك أن تعذب نفسك صم شهر الصبر ومن كل شهر يوما قلت زدني قال صم شهر الصبر ومن كل شهر يومين قلت زدني قال صم شهر الصبر ومن كل شهر ثلاثة أيام # أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ثنا أبو حازم عمر بن أحمد العبدوري نا أبو أحمد محمد بن الغطريف ثنا أبو بكر الذهبي ثنا حميد بن الربيع ثنا عبده بن حميد عن الأعمش عن جرير بن حازم عن أيوب عن أبي قلابة بلغ به صلى الله عليه وسلم أن ناسا من أصحابه أحتموا النساء واللحم اجتمعوا فذكرنا ترك النساء واللحم فأوعدوا فيه وعيدا شديدا وقال لو كنت تقدمت فيه لفعلت ثم قال إني لم أرسل بالرهبانية إن خير الدين الحنيفية السمحة # قال المصنف رحمه الله وقد روينا في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله عز وجل يحب أن يرى آثار نعمته على عبده في مأكله ومشربه وقال بكر بن عبد الله من أعطى خيرا فرؤي عليه سمي حبيب الله محدثا بنعمة الله عز وجل ومن أعطى خيرا فلم ير عليه سمي بغيض الله عز وجل معاديا لنعمة الله عز وجل(105/261)
$ فصل قال المصنف رحمه الله وهذا الذي نهينا عنه من التقلل الزائد في $ الحد قد انعكس في صوفية زماننا فصارت همتهم في المأكل كما كانت همة متقدميهم في الجوع لهم الغداء والعشاء والحلوى وكل ذلك أو أكثره حاصل من أموال وسخة وقد تركوا كسب الدنيا وأعرضوا عن التعبد وافترشوا فراش البطالة فلا همة لأكثرهم إلا الأكل واللعب فان أحسن محسن منهم قالوا طرح شكرا وإن إساء مسىء قالوا استغفر ويسمون ما يلزمه إياه واجبا وتسمية ما لم يسمه الشرع واجبا جناية عليه أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت نا محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الحافظ النيسابوري ثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ثنا أحمد بن سلمة ثنا محمد بن عبدوس السراج البغدادي قال قام أبو مرحوم القاضي بالبصرة يقص على الناس فأبكى فلما فرغ من قصصه قال من يطعمنا إرزة في الله فقام شاب من المجلس فقال أنا فقال إجلس يرحمك الله فقد عرفنا موضعك ثم قام الثانية ذلك الشاب فقال إجلس فقد عرفنا موضعك فقام الثالثة فقال أبو مرحوم لأصحابه قوموا بنا إليه فقاموا معه فإتوا منزله قال فأتينا بقدر من باقلاء فأكلنا بلا ملح ثم قال أبو مرحوم علي بخوان خماسي وخمس مكاكيك أرز وخمسة أمنان سمن وعشرة أمنان سكر وخمسة أمنان صنوبر وخمسة أمنان فستق فجىء بها كلها فقال أبو مرحوم لأصحابه يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مشرق لونها مبيضة شمسها أخرقوا فيها أنهارها قال فأتى بذلك السمن فأجرى فيها ثم أقبل أبو مرحوم على أصحابه فقال يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مشرق لونها مبيضة شمسه مجراة فيها أنهارها فقال يا إخواني إغرسوا فيها أشجارها قال فأتى بذلك الفستق والصنوبر فألقى فيها ثم أقبل أبو مرحوم على أصحابه فقال يا إخواني كيف أصبحت الدنيا قالوا مشرق لونها مبيض شمسها مجرى فيها أنهارها وقد غرست فيها أشجارها وقد تدلت لنا ثمارها قال يا إخواني ارموا الدنيا بحجارتها قال فأتى(105/262)
بذلك السكر فألقى فيها ثم أقبل أبو مرحوم على أصحابه فقال يا إخواني كيف
أصبحت الدنيا قالوا مشرق لونها مبيضة شمسها وقد أجريت فيها أنهارها وقد غرست فيها أشجارها وقد تدلت لنا ثمارها فقال يا إخواني ما لنا وللدنيا اضربوا فيها براحتها قال فجعل الرجل يضرب فيها براحته ويدفعه بالخمس قال أبو الفضل أحمد بن سلمة ذكرته لأبي حاتم الرازي فقال إمله علي فأمليته عليه فقال هذا شأن الصوفية # قال المصنف رحمه الله قلت وقد رأيت منهم من إذا حضر دعوة بالغ في الأكل ثم اختار من الطعام فربما ملأ كمية من غير إذن صاحب الدار وذلك حرام بالإجماع ولقد رأيت شيخا منهم قد أخذ شيئا من الطعام ليحمله معه فوثب صاحب الدار فأخذه منه $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في السماع والرقص والوجد $ # قال المصنف رحمه الله اعلم أن سماع الغناء يجمع شيئين أحدهما أنه يلهي القلب عن التفكر في عظمة الله سبحانه والقيام بخدمته والثاني أنه يميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح وليس تمام لذته إلا في المتجددات ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل فلذلك يحث على الزنا فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أن الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس ولهذا جاء في الحديث الغناء رقية الزنا وقد ذكر أبو جعفر الطبري أن الذي أتخذ الملاهي رجل من ولد قابيل يقال له ثوبال اتخذ في زمان مهلائيل بن قينان آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان فانهمك ولد قابيل في اللهو وتناهى خبرهم إلى من بالجبل من نسل شيث فنزل منهم قوم وفشت الفاحشة وشرب الخمور # قال المصنف رحمه الله وهذا لأن الالتذاذ بشيء يدعو إلى التذاذه بغيره خصوصا ما يناسبه ولما يئس إبليس أن يسمع من المتعبدين شيئا من الأصوات(105/263)
المحرمة كالعود نظر إلى المغنى الحاصل بالعود فدرجه في ضمن الغناء بغير العود وحسنه لهم وإنما مراده التدريج من شيء إلى شيء والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد فان النظر إلى الأمرد مباح ان أمن ثوران الشهوة فان لم يؤمن لم يجز وتقبيل الصبية التي لها من العمر ثلاث سنين جائزا إذ لا شهوة تقع هناك في الأغلب فان وجد شهوة حرم ذلك وكذلك الخلوة بذوات المحارم فان خيف من ذلك حرم فتأمل هذه القاعدة رأي الصوفية في الغناء # قال المصنف رحمه الله وقد تكلم الناس في الغناء فأطالوا فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه من غير كراهة ومنهم من كرهه مع الاباحة وفصل الخطاب أن نقول ينبغي أن ينظر في ماهية الشيء ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك والغناء اسم يطلق على أشياء منها غناء الحجيج في الطرقات فان أقواما من الأعاجم يقدمون للحج فينشدون في الطرقات أشعارا يصفون فيها الكعبة وزمزم والمقام وربما ضربوا مع إنشادهم بطبل فسماع تلك الأشعار مباح وليس إنشادهم إياها مما يطرب ويخرج عن الاعتدال وفي معنى هؤلاء الغزاة فإنهم ينشدون أشعارا يحرضون بها على الغزو وفي معنى هذا إنشاد المبارزين للقتال للاشعار تفاخرا عند النزال وفي معنى هذا أشعار الحداة في طريق مكة كقول قائلهم # بشرها دليلها وقالا % غدا ترين الطلح والجبالا # وهذا يحرك الابل والآدمي إلا أن ذلك التحريك لا يوجب الطرب المخرج عن حد الاعتدال وأصل الحداء ما أنبأنا به يحيى بن الحسن بن البنا نا أبو جعفر بن المسلمة نا المخلص نا أحمد بن سليمان الطوسي ثنا الزبير بن(105/264)
بكار ثني إبراهيم بن المنذر ثنا أبو البحتري وهب عن طلحة المكي عن بعض علمائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال ذات ليلة بطريق مكة إلى حاد مع قوم فسلم عليهم فقال ان حادينا نام فسمعنا حاديكم فملت اليكم فهل تدرون اني كان الحداء قالوا لا والله قال إن أباهم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجد إبله قد تفرقت فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح يا يداه يا يداه فسمعت الإبل ذلك فعطفت عليه فقال مضر لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الابل واجتمعت فاشتقت الحداء # قال المصنف رحمه الله وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة يحدو فتعنق الابل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير وفي حديث سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تسمعنا من هنياتك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدوا بالقول يقول # لاهم لولا أنت ما اهتدينا % ولا تصدقنا ولا صلينا # فالقين سكينة علينا % وثبت الاقدام إذ لاقينا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السائق قالوا عامر بن الأكوع فقال يرحمه الله # قال المصنف رحمه الله وقد روينا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال أما أستماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به # قال المصنف رحمه الله ومن إنشاد العرب قول أهل المدينة عند قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم(105/265)
# طلع البدر علينا % من ثنيات الوداع # وجب الشكر علينا % ما دعا لله داعى # ومن هذا الجنس كانوا ينشدون أشعارهم بالمدينة وربما ضربوا عليه بالدف عند إنشاده ومنه ما أخبرنا به ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثنا أبو المغيرة ثنا الأوزاعي ثني الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تضربان بدفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجي عليه بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد أخرجاه في الصحيحين # قال المصنف رحمه الله والظاهر من هاتين الجاريتين صغر السن لأن عائشة كانت صغيرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرب اليها الجواري فيلعبن معها وقد أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو إسحاق البرمكي أنبأنا عبد العزيز بن جعفر ثنا أبو بكر الخلال أخبرنا منصور بن الوليد بن جعفر بن محمد حدثهم قال قلت لأبي عبد الله احمد بن حنبل حديث الزهري عن عروة عن عائشة عن جوار يغنين أي شيء من هذا الغناء قال غناء الركب أتيناكم أتيناكم قال الخلال وحدثنا أحمد بن فرج الحمصي ثنا يحيى بن سعيد ثنا أبو عقيل عن نهبة عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندنا جارية يتيمة من الأنصار فزوجناها رجلا من الأنصار فكنت فيمن أهداها إلى زوجها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الأنصار اناس فيهم غزل فما قلت قالت دعونا بالبركة قال أفلا قلتم # أتيناكم أتيناكم % فحيونا نحييكم # ولولا الذهب الأحم % ر ما حلت بواديكم # ولولا الحبة السمرا % ء لم تسمن عذاريكم(105/266)
# أخبرنا أبو الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي ثنا أسود بن عامر نا أبو بكر عن أجلح عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها أهديتم الجارية إلى بيتها قالت نعم قال فهلا بعثتم معها من يغنيهم يقول # أتيناكم أتيناكم % فحيونا نحييكم فإن الأنصار قوم فيهم غزل # قال المصنف رحمه الله فقد بان بما ذكرنا ما كانوا يغنون به وليس مما يطرب ولا كانت دفوفهن على ما يعرف اليوم ومن ذلك أشعار ينشدها المتزهدون بتطريب وتلحين تزعج القلوب إلى ذكر الآخرة ويسمونها الزهديات كقول بعضهم # يا غاديا في غفلة ورائحا % إلى متى تستحسن القبائحا # وكم الى كم لا تخاف موقفا % يستنطق الله به الجوارحا # يا عجبا منك وأنت مبصر % كيف تجنبت الطريق الواضحا # فهذا مباح أيضا وإلى مثله أشار أحمد بن حنبل في الاباحة فيما أنبأنا به أبو عبد العزيز كاوس نا المظفر بن الحسن الهمداني نا أبو بكر بن لالي ثنا الفضل الكندي قال سمعت عبدوس يقول سمعت أبا حامد الخلفاني يقول لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها فقال مثل أي شيء قلت يقولون # إذا ما قال لي ربي % أما استحييت تعصيني # وتخفي الذنب من خلقي % وبالعصيان تأتيني فقال أعد علي فأعدت عليه فقام ودخل بيته ورد الباب فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يقول(105/267)
# إذا ما قال لي ربي % أما استحييت تعصيني # وتخفي الذنب من خلقي % وبالعصيان تأتيني ومن الاشعار أشعار تنشدها النواح يثيرون بها الأحزان والبكاء فينهي عنها لما في ضمنها # فأما الأشعار التي ينشدها المغنون المتهيئون للغناء ويصفون فيها المستحسنات والخمر وغير ذلك مما يحرك الطباع ويخرجها عن الاعتدال ويثير كامنها من حب اللهو وهو الغناء المعروف في هذا الزمان مثل قول الشاعر # ذهبي اللون تحسب من % وجنتيه النار تقتدح # خوفوني من فضيحته % ليته وافى وأفتضح # وقد أخرجوا لهذه الأغاني ألحانا مختلفة كلها تخرج سامعها عن حيز الاعتدال وتثير حب الهوى ولهم شيء يسمونه البسيط يزعج القلوب عن مهل ثم يأتون بالنشيد بعده فيعجعج القلوب وقد أضافوا إلى ذلك ضرب القضيب والإيقاع به على وفق الإنشاد والدف بالجلاجل والشبابة النائبة عن الزمر فهذا الغناء المعروف اليوم $ فصل قال المصنف رحمه الله وقبل أن نتكلم في إباحته أو تحريمه أو $ كراهته نقول ينبغي للعاقل أن ينصح نفسه وإخوانه ويحذر تلبيس إبليس في إجراء هذا الغناء مجرى الأقسام المتقدمة التي يطلق عليها اسم الغناء فلا يحمل الكل محملا واحدا فيقول قد أباحه فلان وكرهه فلان فنبدأ بالكلام في النصيحة للنفس والاخوان فنقول # معلوم أن طباع الآدميين تتقارب ولا تكاد تتفاوت فاذا ادعى الشاب السليم البدن الصحيح المزاج أن رؤية المستحسنات لا تزعجه ولا تؤثر عنده ولا تضره في دينه كذبناه لما نعلم من استواء الطباع فان ثبت صدقه عرفنا أن به مرضا خرج به عن حيز الاعتدال فان تعلل فقال إنما أنظر إلى هذه(105/268)
المستحسنات معتبرا فأتعجب من حسن الصنعة في دعج العينين ورقة الأنف ونقاء البياض قلنا له في أنواع المباحات ما يكفي في العبرة وههنا ميل طبعك يشغلك عن الفكرة ولا يدع لبلوغ شهوتك وجود فكرة فان ميل الطبع شاغل عن ذلك وكذا من قال ان هذا الغناء المطرب المزعج للطباع المحرك لها إلى العشق وحب الدنيا لا يؤثر عندي ولا يلفت قلبي إلى حب الدنيا الموصوفة فيه فانا نكذبه لموضع اشتراك الطباع ثم ان كان قلبه بالخوف من الله عز وجل غائبا عن الهوى لأحضر هذا المسموع الطبع وان كانت قد طالت غيبته في سفر الخوف وأقبح القبيح البهرجة ثم كيف تمر البهرجة على من يعلم السر وأخفى # ثم ان كان الأمر كما زعم هذا المتصوف فينبغي أن لا نبيحه إلا لمن هذه صفته والقوم قد أباحوه على الأطلاق للشاب المبتدىء والصبي الجاهل حتى قال أبو حامد الغزالي ان التشبيب بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء الصحيح أنه لا يحرم # قال المصنف رحمه الله فأما من قال اني لا اسمع الغناء للدنيا وإنما آخذ منه إشارات فهو يخطىء من وجهين أحدهما أن الطبع يسبق إلى مقصوده قبل أخذ الإشارات فيكون كمن قال اني أنظر إلى هذه المرأة المستحسنة لا تفكر في الصنعة والثاني انه يقل فيه وجود شيء يشار به إلى الخالق وقد جل الخالق تبارك وتعالى أن يقال في حقه أنه يعشق ويقع الهيمان به وإنما نصيبنا من معرفته الهيبة والتعظيم فقط وإذ قد أنتهت النصيحة فنذكر ما قيل في الغناء مذهب الامام أحمد # أما مذهب أحمد رحمه الله فانه كان الغناء في زمانه إنشاد قصائد الزهد إلا أنهم لما كانوا يلحنونها اختلفت الرواية عنه فروى عنه ابنه عبد الله انه قال الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني وروى عنه اسماعيل بن(105/269)
اسحاق الثقفي أنه سئل عن استماع القصائد فقال أكرهه هو بدعة ولا يجالسون وروى عنه أبو الحارث أنه قال التغيير بدعة فقيل له أنه يرقق القلب فقال هو بدعة وروى عنه يعقوب الهاشمي التغيير بدعة محدث وروى عنه يعقوب بن غياث أكره التغيير وأنه نهى عن استماعه # قال المصنف فهذه الروايات كلها دليل على كراهية الغناء قال أبو بكر الخلال كره أحمد القصائد لما قيل له انهم يتماجنون ثم روى عنه ما يدل على أنه لا بأس بها قال المرزوي سألت أبا عبيد الله عن القصائد فقال بدعة فقلت له انهم يهجرون فقال لا يبلغ بهم هذا كله # قال المصنف وقد روينا أن أحمد سمع قوالا عند ابنه صالح فم ينكر عليه فقال له صالح يا أبت أليس كنت تنكر هذا فقال إنما قيل لي انهم يستعملون المنكر فكرهته فأما هذا فأني لا أكرهه قال المصنف رحمه الله قلت وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء وإنما أشار إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات # وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ويدل على ما قلت أن أحمد بن حنبل سئل عن رجل مات وترك ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال لا تباع على أنها مغنية فقيل له أنها تساوي ثلاثين ألف درهم ولعلها إذا بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارا فقال لا تباع إلا على أنها ساذجة # قال المصنف وإنما قال هذا لأن الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهديات بل بالأشعار المطربة المثيرة للطبع إلى العشق وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما أجاز تفويت المال على اليتيم وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم عندي خمر لأيتام فقال أرقها فلو جاز استصلاحها لما أمره بتضييع أموال اليتامى وروى المرزوي عن أحمد بن حنبل أنه قال كسب المخنث خبيث يكسبه بالغناء وهذا لأن المخنث لا يغني بالقصائد الزهدية إنما يغنى بالغزل والنوح فبان من هذه الجملة أن الروايتين عن أحمد في الكراهة(105/270)
وعدمها تتعلق بالزهديات الملحنة فأما الغناء المعروف اليوم فمحظور عنده كيف ولو علم ما أحدث الناس من الزيادات مذهب الإمام مالك # قال المصنف وأما مذهب مالك بن أنس رحمه الله فأخبرنا محمد بن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو اسحاق البرمكي نا عبد العزيز بن جعفر ثنا أبو بكر الخلال وأخبرنا عاليا سعيد بن الحسن بن البنا نا أبو نصر محمد بن محمد الدبيثي نا أبو بكر محمد بن عمر الوراق نا محمد بن السري بن عثمان التمار قالا أخبرنا عبد الله بن أحمد عن أبيه عن اسحاق بن عيسى الطباع قال سألت مالك بن مالك بن أنس عن ما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله الفساق # أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري قال أنبأنا أبو الطيب الطبري قال أما مالك بن أنس فانه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له ردها بالعيب وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا ابراهيم بن سعد وحده فانه قد حكى زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا مذهب أبي حنيفة # وأما مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري عن أبي الطيب الطبري قال كان أبو حنيفة يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب قال وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة إبراهيم والشعبي وحماد وسفيان الثوري وغيرهم لا أختلاف بينهم في ذلك قال ولا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهة ذلك والمنع منه إلا ما روى عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا مذهب الشافعي # وأما مذهب الشافعي رحمة الله عليه قال حدثنا اسماعيل بن أحمد نا(105/271)
احمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الأصفهاني ثنا محمد بن عبد الرحمن ثنا احمد بن محمد بن الحارث ثنا محمد بن إبراهيم بن جياد ثنا الحسن بن عبد العزيز الحروي قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول خلفت بالعراق شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغيير يشغلون به الناس عن القرآن # قال المصنف رحمه الله وقد ذكر أبو منصور الأزهري المغيرة قوم يغيرون بذكر الله بدعاء وتضرع وقد سموا ما يطربون فيه من الشعر في ذكر الله عز وجل تغييرا كأنهم إذا شاهدوها بالألحان طربوا ورقصوا فسموا مغيرة لهذا المعنى وقال الزجاج سموا مغيرين لتزهيدهم الناس في الفاني من الدنيا وترغيبهم في الآخرة وحدثنا هبة الله بن احمد الحريري عن أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال قال الشافعي الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه شهادته قال وكان الشافعي يكره التعبير قال الطبري فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار وقال من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية # قال المصنف قلت وقد كان رؤساء أصحاب الشافعي رضي الله عنهم ينكرون السماع وأما قدماؤهم فلا يعرف بينهم خلال وأما أكابر المتأخرين فعلى الانكار منهم أبو الطيب الطبري وله في ذم الغناء والمنع كتاب مصنف حدثنا به عنه أبو القاسم الحريري ومنهم القاضي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الانماطي عنه قال لا يجوز الغناء ولا سماعه ولا(105/272)
الضرب بالقضيب قال ومن أضاف الى الشافعي هذا فقد كذب عليه وقد نص الشافعي في كتاب أدب القضاء على أن الرجل إذا دام على سماع الغناء ردت شهادته وبطلت عدالته # قال المصنف رحمه الله قلت فهذا قول علماء الشافعية وأهل التدين منهم وإنما رخص في ذلك من متأخريهم من قل علمه وغلبه هواه وقال الفقهاء من أصحابنا لا تقبل شهادة المغني والرقاص والله الموفق $ فصل في ذكر الأدلة على كراهية الغناء والنوح والمنع منهما $ # قال المصنف وقد استدل أصحابنا بالقرآن والسنة والمعنى فاما الإستدلال من القرآن فثلاث آيات الآية الأولى قوله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ويحيى بن علي قالا نا أبو محمد الصريفيني نا أبو بكر بن عبدان ثنا عبد الله بن منيع ثنا عبد الله بن عمر ثنا صفوان بن عيسى قال قال حميد الخياط أخبرنا عن عمار بن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء قال سألت ابن مسعود عن قول الله عز وجل " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " قال هو والله الغناء أخبرنا عبد الله بن علي المقري ومحمد بن ناصر الحافظ قالا نا طراد بن محمد نا ابي بشران نا ابن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثنا زهير بن حرب ثنا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " قال هو الغناء وأشباهه # أخبرنا عبد الله بن محمد الحاكم ويحيى بن علي المدبر قالا نا أبو الحسين بن النقور نا ابن حياة ثنا البغوي ثنا هدبة ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " قال(105/273)
الغناء أخبرنا ابن ناصر نا المبارك بن عبد الجبار نا أبو إسحاق البرمكي نا احمد بن جعفر بن مسلم نا احمد بن محمد الخالق ثنا أبو بكر المرزوي ثنا احمد بن حنبل ثنا عبده ثنا إسماعيل عن سعيد بن يسار قال سألت عكرمة عن لهو الحديث قال الغناء وكذلك قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم النخعي # الآية الثانية قوله عز وجل " وأنتم سامدون " أخبرنا عبد الله بن علي نا طراد بن محمد نا ابن بشران نا ابن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثنا عبيد الله بن عمر ثنا يحيى بن سعد عن سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس " وأنتم سامدون " قال هو الغناء بالحميرية سمد لنا غنى لنا وقال مجاهد هو الغناء يقول أهل اليمن سمد فلان إذا غنى # الآية الثانية قوله عز وجل " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك " أخبرنا موهوب بن احمد نا ثابت بن بندار نا عمر بن إبراهيم الزهري نا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ثنا الحسين بن الكميت ثنا محمد بن نعيم بن القاسم الجرمي عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " قال هو الغناء والمزامير # أما السنة أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر نا عبد الله ابن احمد ثنى ابي ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن(105/274)
موسى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول يا نافع أتسمع فأقول نعم فيمضي حتى قلت لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا # قال المصنف رحمه الله إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال فكيف بغناء أهل الزمان وزمورهم أخبرنا محمد بن ناصر نا المبارك ابن عبد الجبار نا الحسين بن محمد النصيبي ثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد ثنا أبو بكر بن الأنباري ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزار ثنا ابن ابي مريم ثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن عمر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء المغنيات وبيعهن وتعليمهن وقال ثمنهن حرام وقرأ " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين " # أخبرنا عبد الله بن علي المقري نا أبو منصور محمد بن محمد المقرى نا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران نا عمر بن احمد بن عبد الرحمن الجمحي ثنا منصور بن أبي الأسود عن أبي الملهب عن عبيد الله بن عمر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن التجارة فيهن وعن تعليمهن الغناء وقال ثمنهن حرام وقال في هذا أو نحوه أو وقال شبهه نزلت علي " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " وقال ما من رجل يرفع عقيرة صوته للغناء إلا بعث الله له شيطانين يرتد فانه أعنى هذا من ذا الجانب وهذا من ذا الجانب ولا يزالان يضربان بأرجلهما في صدره حتى يكون هو الذي يسكت وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله عز وجل حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " وروى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى(105/275)
الله عليه وسلم أنه قال إنما نهيت عن صوتين
أحمقين فاجرين صوت عند نغمة وصوت عند مصيبة # أخبرنا ظفر بن علي نا أبو علي الحسن بن احمد المقتدي نا أبو نعيم الحافظ نا حبيب بن الحسن بن علي بن الوليد ثنا محمد بن كليب ثنا خلف بن خليفة عن إبان المكتب عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي رباح عن بن عمر قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا ابنه إبراهيم يجود نفسه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ففاضت عيناه فقلت يا رسول الله أتبكي وتنهانا عن البكاء فقال لست أنهي عن البكاء إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة ضرب وجه وشق جيوب ورنة شيطان # أخبرنا عبد الله بن علي المقري نا جدي أبو منصور محمد بن احمد الخياط نا عبد الملك بن محمد بن بشران ثنا أبو علي احمد بن الفضل بن خزيمة ثنا محمد بن سويد الطحان ثنا عاصم بن علي ثنا عبد الرحمن بن ثابت عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن مالك بن نحام الثقة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعثت بهدم المزمار والطبل # أخبرنا ابن الحصين نا أبو طالب بن عيلان نا أبو بكر الشافعي ثنا عبد الله ابن محمد بن ناجية ثنا عباد بن يعوق ثنا موسى بن عمير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكسر المزامير أخبرنا أبو الفتح الكروجي نا أبو عامر الأزدي وأبو بكر العورجي قالا نا الجراحي ثنا المحبوبي ثنا الترمذي ثنا صالح بن عبد الله ثنا الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فذكر منها إذا اتخذت القيان والمعازف قال الترمذي وحدثنا علي بن حجر نا محمد بن يزيد عن المستلم بن سعيد عن رميح الجذامي عن أبي هريرة قال(105/276)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتخذ اتخذ الفىء دولا والأمانة مغنما والزكاة
مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع وقد روي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قيل يا رسول الله متى قال إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر # أنبأنا أبو الحسن سعد الخير بن محمد الأنصاري في كتاب السنن لابن ماجه قال نا أبو العباس أحمد بن محمد الأسدابادي نا أبو منصور المقومي نا أبو طلحة القاسم بن المنذر نا أبو الحسن بن ابراهيم القطان ثنا محمد بن يزيد بن ماجه ثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني ثنا عبد الرزاق أخبرني يحيى بن العلاء أنه سمع مكحولا يقول أنه سمع يزيد بن عبد الله يقول أنه سمع صفوان بن امية قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمرو بن قرة فقال يا رسول الله إن الله عز وجل قد كتب على الشفوة فما أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغناء في غير فاحشة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة عين كذبت يا عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ولو كنت تقدمت اليك لفعلت بك وفعلت قم عني وتب إلى الله عز وجل أما إنك لو قلت بعد التقدمة اليك ضربتك ضربا وجيعا وحلقت رأسك مثله ونفيتك من أهلك واحللت سلبك نهبة لفتيان المدينة فقام عمرو وبه من الشر والخزي مالا يعلمه إلا الله عز وجل فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء العصاة من مات منهم بغير توبة حشره الله عز وجل عريانا لا يستتر بهدبة(105/277)
كلما قام صرع
# وأما الآثار فقال ابن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان وقال تغنه فان لم يحسن قال له تمنه ومر ابن عمر رضي الله عنه بقوم محرمين وفيهم رجل يتغنى قال ألا لا سمع الله لكم ومر بجارية صغيرة تغني فقال لو ترك الشيطان أحد لترك هذه وسأل رجل القاسم بن محمد عن الغناء فقال أنهاك عنه وأكرهه لك قال أحرام هو قال أنظر يا ابن اخي إذا ميز الله الحق من الباطل ففي أيهما يجعل الغناء # وعن الشعبي قال لعن المغني والمغنى له أخبرنا عبد الله بن علي المقري ومحمد بن ناصر قالا نا طراد بن محمد نا أبو الحسين بن بشران نا أبو علي بن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثنى الحسين بن عبد الرحمن ثني عبد الله بن الوهاب قال أخبرني أبو حفص عمر بن عبيد الله الأرموي قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمان جل وعز فانه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب # ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه وقال فضيل بن عياض الغناء رقية الزنا وقال الضحاك الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب وقال يزيد بن الوليد يا بني أمية إياكم والغناء فانه يزيد الشهوة ويهدم المروءة وأنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فان كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فان الغناء داعية الزنا # قال المصنف رحمه الله قلت وكم قد فتنت الأصوات بالغناء من عابد وزاهد وقد ذكرنا جملة من أخبارهم في كتابنا المسمى بذم الهوى أخبرنا محمد بن ناصر نا ثابت بن بندار نا أبو الحسين محمد بن عبد الواحد بن رزمة أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي ثني محمد بن يحيى عن معن بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال كان(105/278)
سليمان بن عبد الملك في بادية له فسمر ليلة على ظهر سطح ثم تفرق عنه جلساؤه فدعا بوضوء فجاءت به جارية له فبينما
هي تصب عليه إذا استمدها بيده وأشار إليها فاذا هي ساهية مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر فأمرها فتنحت واستمع هو الصوت فاذا صوت رجل يغني فأنصت له حتى فهم ما يغني به من الشعر ثم دعا جارية من جواريه غيرها فتوضأ فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه فأفاضوا في التليين والتحليل والتسهيل فقال هل بقي أحد يسمع منه فقام رجل من القوم فقال يا أمير المؤمنين عندي رجلان من أهل أيلة حاذقان قال وأين منزلك من العسكر فأومى إلى الناحية التي كان الغناء منها فقال سليمان يبعث اليهما فوجد الرسول أحدهما فأقبل به حتى أدخله على سليمان فقال له ما إسمك قال سمير فسأله عن الغناء كيف هو فيه فقال حاذق محكم قال ومتى عهدك به قال في ليلتي هذه الماضية قال وفي أي نواحي العسكر كنت فذكر له الناحية التي سمع منها الصوت قال فما غنيت فذكر الشعر الذي سمعه سليمان فأقبل سليمان فقال هدر الجمل فضبعت الناقة وهب التيس فشكرت الشاة وهدل الحمام فزافت الحمامة وغنى الرجل فطربت المرأة ثم أمر به فخصى # وسأل عن الغناء أين أصله وأكثر ما يكون قالوا بالمدينة وهو في المخنثين وهم الحذاق به والأئمة فيه فكتب إلى عامله على المدينة وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أخصي من قبلك من المخنثين المغنين # قال المصنف رحمه الله وأما المعنى فقد بينا أن الغناء يخرج الإنسان عن الاعتدال ويغير العقل وبيان هذا أن الإنسان اذا طرب فعل ما يستقبحه في حال صمته من غيره من تحريك رأسه وتصفيق يديه ودق الأرض برجليه إلى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة والغناء يوجب ذلك بل يقارب فعله فعل الخمر في تغطية العقل فينبغي أن يقع المنع منه # أخبرنا عمر(105/279)
بن ظفر نا جعفر بن أحمد نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا ابن جهضم نا يحيى بن المؤمل ثنا أبو بكر السفاف ثنا أبو سعيد الخراز قال ذكر
عند محمد بن منصور أصحاب القصائد فقال هؤلاء الفرارون من الله عز وجل لو ناصحوا الله ورسوله وصدقوه لافادهم في سرائرهم ما يشغلهم عن كثرة التلاقي # أخبرنا محمد بن ناصر نا عبد الرحمن بن أبي الحسين بن يوسف نا محمد بن علي العبادي قال قال أبو عبد الله بن بطة العكبري سألني سائل عن استماع الغناء فنهيته عن ذلك وأعلمته أنه مما أنكرته العلماء واستحسنه السفهاء وإنما تفعله طائفة سموا بالصوفية وسماهم المحققون الجبرية أهل همم دنيئة وشرائع بدعية يظهرون الزهد وكل أسبابهم ظلمة يدعون الشوق والمحبة بإسقاط الخوف والرجاء يسمعونه من الأحداث والنساء ويطربون ويصعقون ويتغاشون ويتماوتون ويزعمون أن ذلك من شدة حبهم لربهم وشوقهم إليه تعالى الله عما يقوله الجاهلون علو كبيرا $ في ذكر الشبه التي تعلق بها من اجاز سماع الغناء $ # فمنها حديث عائشة رضي الله عنها أن الجاريتين كانتا تضربان عندها بدفين وفي بعض ألفاظه دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وقد سبق ذكر الحديث ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا عائشة ما كان معهم من اللهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو وقد سبق ومنها حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته قال ابن طاهر وجه الحجة أنه أثبت تحليل استماع الغناء إذ لا يجوز أن يقاس على محرم ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن(105/280)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أذن الله عز وجل لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ومنها حديث حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف # والجواب أما حديثا عائشة رضي الله عنها فقد سبق الكلام عليهما وبينا أنهم كانوا ينشدون الشعر وسمي بذلك غناء لنوع يثبت في الإنشاد وترجيع ومثل ذلك لا يخرج الطباع عن الاعتدال وكيف يحتج بذلك الواقع في الزمان السليم عند قلوب صافية على هذه الأصوات المطربة الواقعة في زمان كدر عند نفوس قد تملكها الهوى ما هذا إلا مغالطة للفهم أو ليس قد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد وإنما ينبغي للمفتي أن يزن الأحوال كما ينبغي للطبيب أن يزن الزمان والسن والبلد ثم يصف على مقدار ذلك وأين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث من غناء أمرد مستحسن بآلات مستطابة وصناعة تجذب اليها النفس وغزليات يذكر فيه الغزال والغزالة والخال والخلد والقد والاعتدال فهل يثبت هناك طبع هيهات بل ينزعج شوقا إلى المستلذ ولا يدعي أنه لا يجد ذلك إلا كاذب أو خارج عن حد الآدمية ومن أدعى أخذ الأشارة من ذلك إلى الخالق فقد استعمل في حقه ما لا يليق به على أن الطبع يسبقه إلى ما يجد من الهوى وقد أجاب أبو الطيب الطبري عن هذا الحديث بجواب آخر فأخبرنا أبو القاسم الحريري عنه أنه قال هذ الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قوله وإنما منعه من التغليط في الإنكار لحسن رفعته ولا سيما في يوم العيد وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها # قال المصنف رحمه الله وأما اللهو المذكور في الحديث الآخر فليس(105/281)
بصريح في الغناء فيجوز أن يكون إنشاد الشعر أو غيره وأما التشبيه بالاستماع إلى القينة فلا يمتنع أن يكون المشبه حراما فإن الإنسان لو قال وجدت للعسل لذة أكثر من لذة الخمر كان كلاما صحيحا وإنما وقع التشبيه بالاصغاء في الحالتين فيكون أحدهما حلالا أو حراما لا يمنع من التشبيه وقد قال عليه الصلاة والسلام أنكم لترون ربكم كما ترون القمر فشبه أيضا الرؤية بإيضاح الرؤية وإن كان وقع الفرق بأن القمر في جهة يحيط به نظر الناظر والحق منزه عن ذلك والفقهاء يقولون في ماء الوضوء لا ننشف الأعضاء منه لأنه أثر عبادة فلا يسن مسحه كدم الشهيد فقد جمعوا بينهما من جهة اتفاقهما في كونهما عبادة وان افترقا في الطهارة والنجاسة واستدلال ابن طاهر بأن القياس لا يكون إلا على مباح فقيه الصوفية لا علم الفقهاء وأما قوله يتغنى بالقرآن فقد فسره سفيان بن عيينة فقال معناه يستغني به وفسره الشافعي فقال معناه يتحزن به ويترنم وقال غيرهما يجعله مكان غناء الركبان إذا ساروا وأما الضرب بالدف فقد كان جماعة من التابعين يكسرون الدفوف وما كانت هكذا فكيف لو رأوا هذه وكان الحسن البصري يقول ليس الدف من سنة المرسلين في شيء # وقال أبو عبيد القاسم بن سلام من ذهب به إلى الصوفية فهو خطأ في التأويل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما معناه عندنا إعلان النكاح واضطراب الصوت والذكر في الناس # قال المصنف رحمه الله قلت ولو حمل على الدف حقيقة على أنه قد قال أحمد بن جنبل أرجوا أن لا يكون بالدف بأس في العرس ونحوه وأكره الطبل # أخبرنا عبد الله بن علي المقري نا نصر بن احمد بن النظر نا أبو محمد عبد الله بن عبيد الله المؤدب ثنا الحسين بن اسماعيل المحاملي ثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة ثنا عمر بن مرزوق ثنا زهير عن أبي اسحق عن عامر بن سعد الجبلي قال طلبت ثابت بن سعد وكان بدريا فوجدته في عرس له قال واذا جوار(105/282)
يغنين ويضربن بالدفوف فقلت ألا تنهي عن هذا قال لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لنا في هذا أخبرنا عبد الله بن علي نا جدي أبو منصور محمد بن أحمد الخياط نا عبد الملك بن بشران ثنا أبو علي أحمد بن الفضل بن خزيمة ثنا أحمد بن القاسم الطائي ثنا ابن سهم ثنا عيسى بن يونس عن خالد بن الياس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال يعني الدف # قال المصنف رحمه الله وكل ما احتجوا به لا يجوز أن يستدل به على جواز هذا الغناء المعروف المؤثر في الطباع وقد احتج لهن أقوام مفتونون بحب التصوف بما لا حجة فيه فمنهم أبو نعيم الأصفهاني فانه قال كان البراء بن مالك يميل إلى السماع ويستلذ بالترنم # قال المصنف رحمه الله وإنما ذكر أبو نعيم هذا عن البراء لأنه روى عنه أنه استلقى يوما فترنم فانظر الى هذا الاحتجاج البارد فان الإنسان لا يخلو من أن يترنم فأين الترنم من السماع للغناء المطرب # وقد استدل لهم محمد بن طاهر بأشياء لولا أن يعثر على مثلها جاهل فيغتر لم يصلح ذكرها لانها ليست بشيء فمنها أنه قال في كتابه باب الاقتراح على القوال والسنة فيه فجعل الاقتراح على القوال سنة واستدل بما روى عمرو بن الشريد عن أبيه قال استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر أمية فأخذ يقول هي هي حتى أنشدته مائة قافية وقال ابن طاهر باب الدليل على استماع الغزل قال العجاج سألت أبا هريرة رضي الله عنه طاف الخيالات فهاجا سقما فقال أبو هريرة رضي الله عنه كان ينشد مثل هذا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم # قال المصنف رحمه الله فانظر إلى احتجاج ابن طاهر ما اعجبه كيف يحتج على جواز الغناء بانشاد الشعر وما مثله إلا كمثل من قال يجوز أن يضرب(105/283)
بالكف على ظهر العود فجاز أن يضرب بأوتاره أو قال يجوز أن يعصر العنب ويشرب منه في يومه فجاز أن يشرب منه بعد أيام وقد نسي أن إنشاد الشعر لا يطرب كما يطرب الغناء وقد أنبأنا أبو زرعة بن محمد بن طاهر عن أبيه قال أخبرنا أبو محمد التميمي قال سألت الشريف أبا علي بن أبي موسى الهاشمي عن السماع فقال # ما أدري ما أقول فيه غير أني حضرت ذات يوم شيخنا أبا الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث وأبو الحسين ابن شمعون شيخ الوعاظ والزهاد وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحبه أبو بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة فقال أبو علي لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق من يفتي في حادثة بسنة ومعهم أبو عبد الله غلام وكان يقرأ القرآن بصوت حسن فقيل له قل شيئا فقال وهم يسمعون # خطت أناملها في بطن قرطاس % رسالة بعبير لا بأنفاس # أن زر فديتك قف لي غير محتشم % فان حبك لي قد شاع في الناس # فكان قولي لمن أدى رسالتها % قف لي لأمشي على العينين والرأس قال أبو علي فبعدما رأيت هذا لا يمكنني أن أفتي في هذه المسألة بحظر ولا أباحة # قال المصنف رحمه الله وهذه الحكاية ان صدق فيها محمد بن طاهر فان شيخنا ابن ناصر الحافظ كان يقول ليس محمد بن طاهر بثقة حملت هذه الأبيات على أنه أنشدها لا أنه غنى بها بقضيب ومخدة اذ لو كان كذلك لذكره ثم فيها كلام مجمل قوله لا يمكنني أن أقول فيها بحظر ولا أباحة لأنه ان كان ان كان مقلدا لهم فينبغي أن يفتي بالأباحة وان كان ينظر في الدليل فيلزمه مع حضورهم أن يفتي بالحظر ثم بتقدير صحتها أفلا يكون اتباع المذهب أولى من اتباع أرباب(105/284)
المذاهب وقد ذكرنا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين ما يكفي في هذا وشيدنا ذلك بالأدلة وقال ابن طاهر في كتابه باب إكرامهم للقوال وإفرادهم الموضع له واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بردة كانت عليه الى كعب بن زهير لما أنشده بانت سعاد وإنما ذكرت هذا ليعرف قد رفقه هذ الرجل واستباطه وإلا فالزمان أشرف من أن يضيع بمثل هذا التخليط وأنبأنا أبو زرعة عن أبيه محمد بن طاهر نا أبو سعيد اسماعيل بن محمد الحجاجي ثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد المقري ثنا أبي ثنا علي بن أحمد ثنا محمد بن العباس بن بلال قال سمعت سعيد بن محمد قال حدثني ابراهيم بن عبد الله وكان الناس يتبركون به قال حدثنا المزني قال مررنا مع الشافعي وابراهيم بن اسماعيلي على دار قوم وجارية تغنيهم # خليلي ما بال المطايا كأننا % نراها على الأعقاب بالقوم تنكص فقال الشافعي ميلوا بنا نسمع فلما فرغت قال الشافعي لابراهيم أيطربك هذا قال لا قال فما لك حس # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا محال على الشافعي رضي الله عنه وفي الرواية مجهولون وابن طاهر لا يوثق به وقد كان الشافعي أجل من هذا كله ويدل على صحة ما ذكرناه ما أخبرنا به أبو القاسم الحريري عن أبي الطيب الطبري قال أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فان أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز سواء كانت حرة أو مملوكة قال وقال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ثم غلظ القول فيه فقال وهو دياثة # قال المصنف رحمه الله وإنما جعل صاحبها سفيها فاسقا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا إلى الباطل كان سفيها فاسقا(105/285)
# قال المصنف رحمه الله قلت وقد أخبرنا محمد بن القاسم البغدادي عن أبي محمد التميمي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال اشترى سعد بن عبد الله الدمشقي جارية قوالة للفقراء وكانت تقول لهم القصائد # قال المصنف رحمه الله قلت وقد ذكر أبو طالب المكي في كتابه قال أدركنا مروان القاضي وله جوار يسمعن التلحين قد أعدهن للصوفية قال وكانت لعطاء جاريتان تلحنان وكان اخوانه يسمعون التلحين منهما # قال المصنف رحمه الله قلت أما سعد الدمشقي فرجل جاهل والحكاية عن عطاء محال وكذب وان صحت الحكاية عن مروان فهو فاسق والدليل على ما قلنا ما ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه وهؤلاء القوم جهلوا العلم فمالوا إلى الهوى وقد أنبأنا زاهر بن طاهر قال أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا أنبأنا الحاكم أبو عبد الله النيسابوري قال أكثر ما التقيت أنا وفارس بن عيسى الصوفي في دار أبي بكر الابريسمي للسماع من هزارة رحمها الله فانها كانت من مستورات القوالات # قال المصنف قلت وهذا أقبح شيء من مثل الحاكم كيف خفي عليه أنه لا يحل له أن يسمع من امرأة ليست بمحرم ثم يذكر هذا في كتاب تاريخ نيسابور وهو كتاب علم من غير تحاش عن ذكر مثله لقد كفاه هذا قد حافى عدالته # قال المصنف رحمه الله فان قيل ما تقول فيما أخبركم به اسماعيل بن احمد السمرقندي نا عمر بن عبد الله نا أبو الحسين بن بشران نا عثمان بن احمد نا حنبل بن اسحاق ثنا هرون بن معروف ثنا جرير عن مغيرة قال كان عون بن عبد الله يقص فاذا فرغ أمر جارية له تقص وتطرب قال المغيرة فأرسلت اليه أو أردت أن أرسل اليه إنك من أهل بيت صدق وأن الله عز وجل لم يبعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالحمق وان صنيعك هذا صنيع أحمق فالجواب أنا لا نظن بعون أنه أمر(105/286)
الجارية أن تقص على الرجال بل أحب أن يسمعها منفردا وهي ملكه فقال له مغيرة الفقيه هذا القول وكره أن تطرب الجارية له فما ظنك بمن يسمعن الرجال ويرقصهن ويطربهن وقد ذكر أبو طالب المكي أن عبد الله بن جعفر كان يسمع الغناء # قال المصنف رحمه الله وإنما كان يسمع إنشاد جواريه وقد أردف ابن طاهر الحكاية التي ذكرها عن الشافعي وقد ذكرناها آنفا بحكاية عن أحمد بن جنبل رواها من طريق عبد الرحمن السلمي قال حدثنا الحسين بن احمد قال سمعت أبا العباس الفرغاني يقول سمعت صالح بن احمد بن حنبل يقول كنت أحب السماع وكان أبي أحمد يكره ذلك فوعدت ليلة ابن الخبازة فمكث عندي إلى أن علمت أن أبي قد نام وأخذ يغني فسمعت حس أبي فوق السطح فصعدت فرأيت أبي فوق السطح يسمع وذيله تحت أبطه يتبخطر على السطح كأنه يرقص # قال المصنف رحمه الله هذه الحكاية قد بلفتنا من طرق ففي بعض الطرق عن صالح قال كنت أدعو ابن الخبازة القصائدي وكان يقول ويلحن وكان أبي في الزقاق يذهب ويجيء ويسمع اليه وكان بيننا وبينه باب وكان يقف من وراء الباب يستمع # وقد أخبرنا بها أبو منصور القزاز نا أبو بكر احمد بن علي بن ثابت نا احمد بن علي بن الحسين النوري ثنا يوسف بن عمر القواس قال سمعت أبا بكر بن مالك القطيعي يحكي أظنه عن عبد الله بن احمد قال كنت ادعو ابن الخبازة القصائدي وكان يقول ويلحن وكان أبي ينهاني عن التغني فكنت إذا كان(105/287)
ابن الخبازة عندي أكتمه عن أبي لئلا يسمع فكان ذات ليلة عندي وكان يغني فعرضت لأبي عندنا حاجة وكنا في زقاق فجاء فسمعه يغني فتسمع فوقع في سمعه شيء من قوله فخرجت لأنظر فإذا بأبي ذاهبا وجائيا فرددت الباب فدخلت فلما كان من الغد قال لي يا بني إذا كان هذا نعم الكلام أو معناه # قال المصنف رحمه الله وهذا ابن الخبازة كان ينشد القصائد الزهديات التي فيها ذكر الآخرة ولذلك استمع اليه احمد وقول من قال ينزعج فإن الإنسان قد يزعجه الطرب فيميل يمينا وشمالا وأما رواية ابن طاهر التي فيها فرأيته وذيله تحت أبطه يتبختر على السطح كأنه يرقص فإنما هو من تغيير الرواة وتغييرهم لا يظنونه المعنى تصحيحا لمذهبهم في الرقص وقد ذكرنا القدح في السلمي وفي ابن طاهر الراويين لهذه اللفظات وقد احتج لهم أبو طالب المكي على جواز السماع بمنامات وقسم السماع إلى أنواع وهو تقسيم صوفي لا أصل له وقد ذكرنا أن من أدعى أنه يسمع الغناء ولا يؤثر عنده تحريك النفس إلى لهوى فهو كاذب وقد أخبرنا أبو القاسم الحريري عن أبي طالب الطبري قال قال بعضهم انا لا نسمع الغناء بالطبع الذي يشترك فيه الخاص والعام قال وهذا تجاهل منه عظيم لأمرين # أحدهما أنه يلزمه على هذا أن يستبيح العود والطنبور وسائر الملاهي لأنه يسمعه بالطبع الذي لا يشاركه فيه أحد من الناس فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله وإن استباح فقد فسق # والثاني أن هذا المدعي لا يخلو من أن يدعي أنه فارق طبع البشر وصار بمنزلة الملائكة فإن قال هذا فقد تخرص على طبعه وعلم كل عاقل كذبه إذا رجع إلى نفسه ووجب أن لا يكون مجاهدا لنفسه ولا مخالفا لهواه ولا يكون له ثواب على ترك اللذات والشهوات وهذا لا يقوله عاقل وإن قال أنا على طبع البشر المجبول على الهوى والشهوة قلنا له فكيف تسمع الغناء المطرب بغير(105/288)
طبعك أو تطرب لسماعه لغير ما غرس في نفسك # اخبرنا ابن ناصر نا احمد بن علي بن خلف ثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول سئل أبو علي الرودباري عمن سمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني قدوصلت إلى درجة لا تؤثر في اختلاف الاحوال فقال نعم قد وصل لعمري ولكن إلى سقر # قال المصنف رحمه الله فإن قيل قد بلغنا عن جماعة أنهم سمعوا عن المنشد شيئا فأخذوه على مقصودهم فانتفعوا به قلنا لا ينكر أن يسمع الإنسان بيتا من الشعر أو حكمة فيأخذها إشارة فتزعجه بمعناها لا لأن الصوت مطرب كما سمع بعض المريدين صوت مغنية تقول # كل يوم تتلون % غير هذا بك أجمل فصاح ومات فهذا لم يقصد سماع المرأة ولم يلتفت إلى التلحين وإنما قتله المعنى ثم ليس سماع كلمة أو بيت لم يقصد سماعة كالاستعداد لسماع الأبيات المذكورة الكثيرة المطربة مع انضمام الضرب بالقضيب والتصفيق إلى غير ذلك ثم إن ذلك السامع لم يقصد السماع ولو سألنا هل يجوز لي أن أقصد سماع ذلك منعناه # قال المصنف رحمه الله وقد احتج لهم أبو حامد الطوسي بأشياء نزل فيها عن رتبته عن الفهم مجموعها أنه قال ما يدل على تحريم السماع نص ولا قياس وجواب هذا ما قد أسلفناه وقال لا وجه لتحريم سماع صوت طيب فاذا كان موزونا فلا يحرم أيضا وإذا لم يحرم الآحاد فلا يحرم المجموع فان أفراد المباحات إذا اجتمعت كان المجموع مباحا قال ولكن ينظر فيما يفهم من ذلك فان كان فيه شيء محظور حرم نثره ونظمه وحرم التصويت به # قال المصنف رحمه الله قلت وإني لأتعجب من مثل هذا الكلام فان الوتر بمفردة أو العود وحده من غير وتر لو ضرب لم يحرم ولم يطرب فاذا اجتمعا(105/289)
وضرب بهما على وجه مخصوص حرم وأزعج وكذلك ماء العنب جائز شربه وإذا حدثت فيه شدة مطربة حرم # وكذلك هذا المجموع يوجب طربا يخرج عن الاعتدال فيمنع منه ذلك وقال ابن عقيل الأصوات على ثلاثة أضرب محرم ومكروه ومباح فالمحرم الزمر والناي والسرنا والطنبور والمعزفة والرباب وما ماثلها نص الإمام أحمد بن حنبل على تحريم ذلك ويلحق به الجرافة والجنك لأن هذه تطرب فتخرج عن حد الاعتدال وتفعل في طباع الغالب من الناس ما يفعله المسكر وسواء استعمل على حزن يهيجه أو سرور لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوتين أحمقين صوت عند نغمة وصوت عند مصيبة والمكروه القضيب لكنه ليس بمطرب في نفسه وإنما يطرب بما يتبعه وهو تابع للقول والقول مكروه ومن أصحابنا من يحرم القضيب كما يحرم آلات اللهو فيكون فيه وجهان كالقول نفسه والمباح الدف وقد ذكرنا عن أحمد أنه قال أرجوا أن لا يكون بالدف بأس في العرس ونحوه وأكره الطبل وقد قال أبو حامد من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فالسماع في حقه مؤكد لعشقه # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا قبيح أن يقال عن الله عز وجل يعشق وقد بينا فيما تقدم خطأ هذا القول ثم أي توكيد لعشقه في قول المغنى # ذهبي اللون تحسب من % وجنتيه النار تقتدح # قال المصنف رحمه الله قلت وسمع ابن عقيل بعض الصوفية يقول أن(105/290)
مشايخ هذه الطائفة كلما وقفت طباعهم حداها الحادي إلى الله بالأناشيد فقال ابن عقيل لا كرامة لهذا القائل إنما تحدى القلوب بوعد الله في القرآن ووعيده وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى قال " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " وما قال وإذا أنشدت عليه القصائد طربت فأما تحريك الطباع بالألحان فقاطع عن الله والشعر يتضمن صفة المخلوق والمعشوق مما يتعدد عنه فتنه ومن سولت له نفسه التقاط العبر من محاسن البشر وحسن الصوت فمفتون # بل ينبغي النظر إلى المحال التي أحالنا عليها الإبل والخيل والرياح ونحو ذلك فانها منظورات لا تهيج طبعا بل تورث استعظاما للفاعل وإنما خدعكم الشيطان فصرتم عبيد شهواتكم ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة وأنتم زنادقة في زي عباد شرهين في زي زهاد مشبهة تعتقدون أن الله عز وجل يعشق ويهام فيه ويؤلف ويؤنس به وبئس التوهم لأن الله عز وجل خلق الذوات مشاكلة لأن أصولها مشاكلة فهي تتوانس وتتألم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية في الأشكال الحديثة فمن ههنا جاء التلاوم والميل وعشق بعضهم بعضا وعلى قدر التقارب في الصورة يتأكد الأنس # والواحد منا يأنس بالماء لأن فيه ماء وهو بالنبات آنس لقربه من الحيوانية بالقوة النمائية وهو بالحيوان آنس لمشاركته في أخص النوع به أو أقربه إليه فأين المشاركة للخالق والمخلوق حتى يحصل الميل إليه والعشق والشوق وما الذي بين الطين والماء وبين خالق السماء من المناسبة وإنما هؤلاء يصورون الباري سبحانه وتعالى صورة تثبت في القلوب وما ذاك الله عز وجل ذاك صنم شكله الطبع والشيطان وليس لله وصف تميل إليه الطباع ولا تشتاق إليه الأنفس وإنما مباينة الإلهية للمحدث أوجبت في الأنفس هيبة وحشمة فما يدعيه عشاق الصوفية لله في محبة الله إنما هو وهم اعترض وصورة شكلت في نفوس فحجبت عن(105/291)
عبادة القديم فتجدد بتلك الصورة أنس فاذا غابت بحكم ما يقتضيه العقل أقلقهم الشوق اليها فنالهم من الوجد وتحرك الطبع والهيمان ما ينال الهائم في العشق فنعوذ بالله من الهواجس الرديئة والعوارض الطبيعية التي يجب بحكم الشرع محوها عن القلوب كما يجب كسر الأصنام نقد مسالك الصوفية في السماع # قال المصنف رحمه الله وقد كان جماعة من قدماء الصوفية ينكرون على المبتدىء السماع لعلمهم بما يثير من قلبه أخبرنا عمر بن ظفر المقري نا جعفر بن أحمد نا عبد العزيز بن علي الأزجي ثنا بن جهضم ثني أبو عبد الله المقري ثنا عبد الله بن صالح قال قال لي جنيد إذا رأيت المريد يسمع السماع فاعلم أن فيه بقايا من اللعب # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعيد بن أبي صادق نا أبو عبد الله بن باكويه قال سمعت احمد بن محمد البردعي يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول لبعض أصحابه إذا رأيت المريد يسمع القصائد ويميل إلى الرفاهية فلا ترج خيره # قال المصنف رحمه الله هذا قول مشايخ القوم وإنما ترخص المتأخرون حب اللهو فتعدى شرهم من وجهين أحدهما سوء ظن العوام بقدمائهم لأنهم يظنون أن الكل كانوا هكذا والثاني أنهم جرأوا العوام على اللعب فليس للعامي حجة في لعبه إلا أن يقول فلان يفعل كذا ويفعل كذا $ فصل قال المصنف رحمه الله وقد نشب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه $ على قراءة القرآن ورقت قلوبهم عنده بما لا ترق عند القرآن وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن تمكن منه وغلبه طبع وهم يظنون غير هذا أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب نا عبد الكريم بن هوزان وأنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم ثنا أبي(105/292)
وقال سمعت أبا حاتم محمد بن احمد بن يحيى السجستاني قال سمعت أبا نصر السراج يقول # حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدراج قال قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد فلما دخلت الري سألت عن منزله وكل من أساله عنه يقول إيش تفعل بذلك الزنديق فضيقوا صدري حتى عزمت على الإنصراف فبت تلك الليلة في مسجد ثم قلت جئت إلى هذه البلدة فلا أقل من زيارته فلم أزل أسأل عنه حتى دفعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب بين يديه رجل على يديه مصحف وهو يقرأ فدنوت فسلمت فرد السلام وقال من أين قلت من بغداد قصدت زيارة الشيخ فقال تحسن أن تقول شيئا فقلت نعم وقلت # رأيتك تبني دائما في قطيعتي % ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وثوبه حتى رحمته من كثرة بكائه ثم قال لي يا بني تلوم أهل الري على قولهم يوسف بن الحسين زنديق ومن وقت الصلاة هوذا أقرأ القرآن لم تقطر من عيني قطرة وقد قامت علي القيامة بهذا البيت # وأنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن نا أبي قال سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول فأخرجت إلى مرو في حياة الاستاذ أبي سهيل الصعلوكي وكان له قبل خروجي أيام الجمع بالغدوات مجلس درس القرآن والختمات فوجدته عند خروجي قد رفع ذلك المجلس وعقد لابن الفرعاني في ذلك الوقت مجلس القوال يعني المغني فتداخلني من ذلك شيء فكنت أقول قد استبدل مجلس الختمات بمجلس القوال فقال لي يوما أي شيء تقول الناس فقلت يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القوال فقال من قال لأستاذه لم لم يفلح # قال المصنف رحمه الله هذه دعاة الصوفية يقولون الشيخ يسلم له حاله وما لنا أحد يسلم اليه حاله فإن الآدمي يرد عن مراداته بالشرع والعقل والبهائم بالسوط(105/293)
حكم الغناء عند الصوفية # وقد اعتقد قوم من الصوفية أن هذا الغناء الذي ذكرنا عن قوم تحريمه وعن آخر كراهته مستحب في حق قوم وأنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري قال حدثنا أبي قال سمعت أبا علي الدقاق يقول السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم مباح الزهاد لحصول مجاهداتهم مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا غلط من خمسة أوجه أحدها انا قد ذكرنا عن أبي حامد الغزالي أنه يباح سماعه لكل أحد وأبو حامد كان أعرف من هذا القائل # والثاني أن طباع النفوس لا تتغير وإنما المجاهدة تكف عملها فمن ادعى تغير الطباع ادعى المحال فاذا جاء ما يحرك الطباع واندفع الذي كان يكفها عنه عادت العادة # والثالث أن العلماء اختلفوا في تحريمه وإباحته وليس فيهم من نظر في السامع لعلمهم أن الطباع تتساوى فمن ادعى خروج طبعه عن طباع الآدميين ادعى المحال # والرابع أن الاجماع انعقد على انه ليس بمستحب وإنما غايته الإباحة فادعاء الاستحباب خروج عن الاجماع # والخامس انه يلزم من هذا أن يكون سماع العود مباحا أو مستحبا عند من لا يغير طبعه لأنه إنما حرم لأنه يؤثر في الطباع ويدعوها إلى الهوى فاذا أمن ذلك فينبغي أن يباح وقد ذكرنا هذا عن أبي الطيب الطبري $ فصل قال المصنف رحمه الله وقد ادعى قوم منهم أن هذا السماع قربة $ إلى الله عز وجل قال أبو طالب المكي حدثني بعض أشياخنا عن الجنيد انه قال تنزل(105/294)
الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواطن عند الأكل لأنهم لا يأكلون إلا عن فاقة وعند المذاكرة لأنهم يتجاوزون في مقامات الصديقين وأحوال النبيين وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقا # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا إن صح عن الجنيد وأحسنا به الظن كان محمولا على ما يسمعونه من القصائد الزهدية فانها توجب الرقة والبكاء فأما أن تنزل الرحمة عند وصف سعدى وليلى ويحمل ذلك على صفات الباري سبحانه وتعالى فلا يجوز اعتقاد هذا ولو صح أخذ الإشارة من ذلك كانت الإشارة مستغرقة في جنب غلبة الطباع ويدل على ما حملنا الأمر عليه انه لم يكن ينشد في زمان الجنيد مثل ما ينشد اليوم إلا أن بعض المتأخرين قد حمل كلام الجنيد على كل ما يقال فحدثني أبو جعفر أحمد بن أزهر بن عبد الوهاب السباك عن شيخنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ قال كان أبو الوفا الفيروزبادي شيخ رباط الزوزني صديقا لي فكان يقول لي والله إني لأدعو لك وأذكرك وقت وضع المخدة والقول قال فكان الشيخ عبد الوهاب يتعجب ويقول أترون هذا يعتقد أن ذلك وقت إجاية إن هذا لعظيم وقال ابن عقيل قد سمعنا منهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخدة مجاب وذلك أنهم يعتقدون أنه قربة يتقرب بها إلى الله تعالى قال وهذا كفر لأن من اعتقد الحرام أو المكروه قربة كان بهذا الاعتقاد كافرا قال والناس بين تحريمه وكراهيته # أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر احمد بن علي بن ثابت قال أخبرني علي بن أيوب قال أخبرنا محمد بن عمران بن موسى قال حدثنا محمد بن احمد الكاتب قال حدثنا الحسين بن فهم قال حدثني أبو همام قال حدثني ابراهيم بن أعين قال قال صالح المري أبطأ الصرعي نهضة صريع هوى يدعيه إلى الله قربة وأثبت الناس قدما يوم القيامة آخذهم بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم # أنبأنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري قال حدثنا أبي قال سمعت أبا عبد الرحمن(105/295)
السلمي يقول سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول
سمعت أبا بكر النهاوندي يقول سمعت عليا السائح يقول سمعت أبا الحارث الأولاسي يقول رأيت إبليس في المنام على بعض سطوح أولاس وأنا على سطح وعلى يمينه جماعة وعلى يساره جماعة وعليهم ثياب لطاف فقال لطائفة منهم قولوا وغنوا فاستغرقني طيبة حتى هممت أن أطرح نفسي من السطح ثم قال أرقصوا فرقصوا أطيب ما يكون ثم قال لي يا أبا الحارث ما أصبت منكم شيئا أدخل به عليكم إلا هذا $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الوجد $ # قال المصنف رحمه الله هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب وقد لبس عليهم إبليس في ذلك وبالغ # وقد أحتجوا بما أخبرنا به أبو الفتح محمد بن عبد الباقي قال أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني قال أخبرنا أبو الحسن سهل بن علي الخشاب قال أخبرنا أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي قال وقد قيل له انه لما نزلت " وأن جهنم لموعدهم أجمعين " صاح سلمان الفارسي صيحة ووقع على رأسه ثم خرج هاربا ثلاثة أيام واحتجوا بما أخبرنا به عبد الوهاب بن المبارك الحافظ قال أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الخياط قال أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف بن دوست قال أخبرنا الحسين بن صفوان قال حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي قال وأخبرنا علي بن الجعد قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال خرجنا مع عبد الله ينظر إلى حديدة في النار فنظر الربيع اليها فمال ليسقط ثم أن عبد الله مضى حتى أتينا على أنون على شاطىء الفرات فلما راه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية " إذا رأتهم من "(105/296)
" مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " إلى قوله " ثبورا كثيرا " فصعق الربيع واحتملناه إلى أهله ورابطه عبد الله حتى يصلي الظهر فلم يفق ثم رابطه إلى العصر فلم يفق ثم رابطه إلى المغرب فأفاق فرجع عبد الله إلى أهله قالوا وقد اشتهر عن خلق كثير من العباد أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن فمنهم من يموت ومنهم من يصعق ويغشى عليه ومنهم من يصيح وهذا كثير في كتب الزهد والجواب أما ما ذكره عن سلمان فمحال وكذب ثم ليس له إسناد والآية نزلت بمكة وسلمان إنما أسلم بالمدينة ولم ينقل عن أحد من الصحابة مثل هذا أصلا وأما حكاية الربيع بن خثيم فان راويها عيسى بن سليم وفيه معمر # أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ قال أخبرنا أبو بكر محمد المظفر الشامي قال أخبرنا أبو الحسن احمد بن محمد العتيقي قال أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن احمد الصيدلاني قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي قال قال احمد بن حنبل عيسى بن سليم عن أبي وائل لا أعرفه # قال العقيلي وحدثنا عبد الله بن احمد قال حدثني أبي قال حدثني بن آدم قال سمعت حمزة الزيات قال لسفيان انهم يروون عن الربيع بن خثيم أنه صعق قال ومن يروي هذا إنما كان يرويه ذاك القاص يعني عيسى بن سليم فلقيته فقلت عمن تروي أنت ذا منكرا عليه # قال المصنف رحمه الله قلت فهذا سفيان الثوري ينكر أن يكون الربيع ابن خثيم جرى له هذا لأن الرجل كان على السمت الأول وما كان في الصحابة من يجري له مثل هذا ولا التابعين ثم نقول على تقدير الصحة ان الإنسان قد يخشى عليه من الخوف فيسكنه الخوف ويسكته فيبقى كالميت(105/297)
وعلامة الصادق أنه لو كان على حائط لوقع لأنه غائب # فأما من يدعي الوجد ويتحفظ من أن تزل قدمه ثم يتعدى إلى تخريق الثياب وفعل المنكرات في الشرع فإنا نعلم قطعا أن الشيطان يلعب به # وأخبرنا أبو منصور القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري قال سمعت أحمد بن محمد بن زكريا يقول سمعت أحمد بن عطاء يقول كان للشبلي يوم الجمعة نظرة ومن بعدها صيحة فصاح يوما صيحة تشوش من حوله من الخلق وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب فحرد أبو عمران وأهل حلقته # قال المصنف رحمه الله واعلم وفقك الله أن قلوب الصحابة كانت أصفى القلوب وما كانوا يزيدون عند الوجد على البكاء والخشوع فجرى من بعض غرائبهم نحو ما أنكرناه فبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنكار عليه فأخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال أنبأنا أحمد بن علي بن خلف قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ وأنبأنا ابن الحصين قال أنبأنا أبو علي بن المذهب قال أخبرنا أبو حفص بن شاهين قال حدثنا عثمان بن أحمد بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الحميد الجعفي قال حدثنا عبد المتعال بن طالب قال حدثنا يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس قال وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فإذا رجل قد صعق فقال النبي صلى الله عليه وسلم من ذا الملبس علينا ديننا إن كان صادقا فقد شهر نفسه وإن كان كاذبا فمحقه الله قال ابن شاهين وحدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعت قال حدثنا عبد الله بن يوسف الجبيري قال حدثنا روح بن عطاء بن أبي ميمون عن أبيه عن أنس بن مالك قال ذكر عنده هؤلاء الذين يصعقون عند القراءة فقال أنس لقد رأيتنا ووعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(105/298)
ذات يوم حتى سمعنا للقوم حنينا حين أخذتم الموعظة وما سقط منهم أحد # قال المصنف رحمه الله وهذا حديث العرياض بن سارية وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب قال أبو بكر الآجري ولم يقل صرخنا ولا ضربنا صدورنا كما يفعل كثير من الجهال الذين يتلاعب بهم الشيطان أخبرنا عبد الله بن علي المقري قال أخبرنا أبو ياسر أحمد بن بندار بن ابراهيم قال أخبرنا محمد بن عمر بن بكير النجار قال أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال أخبرنا ابراهيم بن عبد الله البصري قال حدثنا أبو عمر حفص بن عبد الله الضرير قال أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي قال حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال قلت لأسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله عند قراءة القرآن قالت كانوا كما ذكرهم الله أو كما وصفهم عز وجل تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم فقلت لها إن ههنا رجالا إذا قرىء على أحدهم القرآن غشي عليه فقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم # أخبرنا محمد بن ناصر نا جعفر بن محمد السراج نا الحسن بن علي التميمي نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا الوليد بن شجاع ثنا اسحاق الحلبي ثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة قال سألت أسماء بنت أبي بكر هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف قالت لا ولكنهم كانوا يبكون # أخبرنا بن ناصر نا جعفر بن أحمد نا الحسن بن علي التميمي وأخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد نا حمد بن أحمد الحداد نا أبو نعيم الحافظ قالا أخبرنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد ثنا سريح بن يونس ثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن أبي حازم قال مر ابن عمر رضي الله عنه برجل ساقط من العراق فقال ما شأنه فقالوا إذا قرىء عليه القرآن يصيبه هذا قال انا لنخشى الله عز وجل وما نسقط(105/299)
# أخبرنا سعيد بن أحمد بن البنا نا أبو سعد محمد بن علي الرستمي نا أبو الحسين بن بشران ثنا اسماعيل بن محمد الصفار ثنا سعدان بن نصر ثنا سفيان ابن عيينه عن عبد الله بن أبي بردة عن ابن عباس أنه ذكر الخوارج وما يلقون عند تلاوة القرآن فقال انهم ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى وهم مضلون # أنبأنا ابن الحصين نا أبو علي بن المذهب نا أبو حفص بن شاهين ثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق نا ابراهيم بن فهد عن ابراهيم بن الحجاج الشامي ثنا شبيب بن مهران عن قتادة قال قيل لأنس بن مالك ان ناسا إذا قرىء عليهم القرآن يصعقون فقال ذاك فعل الخوارج # أخبرنا محمد بن ناصر نا عبد الرحمن بن أبي الحسين بن يوسف نا عمر بن علي بن الفتح نا أحمد بن محمد الكاتب ثنا عبد الله بن المغيرة ثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال بلغ عبد الله بن الزبير ان ابنه عامرا صحب قوما يتصعقون عند قراءة القرآن فقال له يا عامر لأعرفن ما صحبت الذين يصعقون عند القرآن لأوسعك جلدا # أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن احمد نا حمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الحافظ ثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن العباس ثنا الزبير بن بكارثني عبد الله بن مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال ثني أبي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال جئت إلى أبي فقال لي أين كنت فقلت وجدت أقواما ما رأيت خيرا منهم يذكرون الله عز وجل فيرعد أحدهم حتى يخشى عليه من خشية الله عز وجل فقعدت معهم قال لا تقعد معهم بعدها فرآني كأني لم(105/300)
يأخذ ذلك في فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ولا يصيبهم هذا أفتراهم أخشع الله من أبي بكر وعمر فرأيت أن ذلك كذلك فتركتهم # أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ نا محمد بن احمد في كتابه ثنا محمد بن أيوب ثنا حفص بن عمر النميري ثنا حماد بن زيد ثنا عمرو بن مالك قال بينا نحن عند أبي الجوزاء يحدثنا إذا خر رجل فاضطرب فوثب أبو الجوزاء يسعى قبله فقيل له يا أبا الجوزاء انه رجل به الموتة فقال إنما كنت أراه من هؤلاء القفازين ولو كان منهم لأمرت به فأخرج من المسجد إنما ذكرهم الله تعالى فقال تفيض أعينهم من الدمع أو قال تقشعر جلودهم # أخبرنا أبو محمد بن علي المقري نا احمد بن بندار بن ابراهيم نا محمد بن عمر بن بكير النجار نا احمد بن جعفر بن حمدان ثنا ابراهيم بن عبد الله البصري ثنا أبو عمر حفص بن عمر الضرير نا حماد بن زيدني عمر بن مالك البكري قال قرأ قارىء عند أبي الجوزاء قال فصاح رجل من أخريات القوم أو قال من القوم فقام اليه أبو الجوزاء فقيل له يا أبا الجوزاء انه رجل به شيء فقال طبيب انه من هؤلاء النفارين فلو كان منهم لوضعت رجلي على عنقه # وقال أبو عمر أخبرنا جرير بن حازم انه شهد محمد بن سيرين وقيل له أن ههنا رجالا إذا قرىء على أحدهم القرآن غشي عليه فقال محمد بن سيرين يقعد أحدهم على جدار ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فان وقع فهو صادق قال أبو عمرو وكان محمد بن سيرين يذهب إلى أن تصنع وليس بحق من قلوبهم # أخبرنا محمد بن عبد الباقي ثنا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا أبو محمد بن حبان ثنا محمد بن العباس ثنا زياد عن يحيى عن عمران بن عبد العزيز قال سمعت محمد بن سيرين وسئل عن من يستمع القرآن فيصعق فقال ميعاد(105/301)
ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فان سقطوا فهم كما يقولون # أخبرنا ابن ناصر نا أبو طاهر عبد الرحمن بن أبي الحسين بن يوسف نا محمد بن علي العشاري نا محمد بن عبد الله الدقاق نا الحسين بن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثنا محمد بن علي عن ابراهيم بن الأشعت قال سمعت أبا عصام الرمل عن رجل عن الحسن انه وعظ يوما فتنفس رجل في مجلسه فقال الحسن إن كان لله تعالى شهرت نفسك وإن كان لغير الله فقد هلكت # أخبرنا بن ناصر نا جعفر بن احمد نا الحسن بن علي نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي ثنا روح ثنا السري بن يحيى ثنا عبد الكريم بن رشيد قال كنت في حلقة الحسن فجعل رجل يبكي وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكي هذا الآن # أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو غالب عمر بن الحسين الباقلاني نا أبو العلاء الواسطي نا محمد بن الحسين الأزدي ثنا ابراهيم بن رحمون ثنا اسحق بن ابراهيم البغدادي قال سمعت أبا صفوان يقول قال الفضيل بن عياض لابنه وقد سقط يا بني إن كنت صادقا لقد فضحت نفسك وإن كنت كاذبا فقد أهلكت نفسك # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه ثنا محمد بن احمد النجار ثنا المرتعش قال رأيت أبا عثمان سعيد بن عثمان الواعظ وقد تواجد إنسان بين يديه فقال له يا بني إن كنت صادقا فقد أظهرت كل مالك وإن كنت كاذبا فقد أشركت بالله نقد مسالك الصوفية في الوجد # قال المصنف رحمه الله فان قال قائل إنما يفرض الكلام في الصادقين لا في أهل الرياء فما تقول فمن أدركه الوجد ولم يقدر على دفعه فالجواب إن أول الوجد إنزعاج في الباطن فان كف الإنسان نفسه كيلا يطلع على حاله يئس(105/302)
الشيطان منه فبعد عنه كما كان أيوب السختياني إذا تحدث فرق قلبه مسح أنفه وقال ما أشد الزكام # وان أهمل الإنسان ولم يبال بظهور وجده أو أحب اطلاع الناس على نفسه نفخ فيه الشيطان فانزعج على قدر نفخه كما أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله ثني أبي ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخراز عن ابن أخي زينب عن امرأة عبد الله قالت جاء عبد الله ذات يوم وعندي عجوز ترقيني من الحموة فأدخلتها تحت السرير قالت فدخل فجلس إلى جنبي فرأى في عنقي خيطا فقال ما هذا الخيط قلت خيط رقي لي فيه رقية فأخذه وقطعه ثم قال إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك # سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن في الرقي والتمائم والتولة شركا قالت فقلت له لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت قال إنما ذاك من عمل الشيطان كان ينخسها بيده فاذا رقيتها كف عنها إنما كان يكفيك أن تولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أذهب البأس رب الناس إشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما # قال المصنف رحمه الله التولة ضرب من السحر يحبب المرأة إلى زوجها أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن احمد نا الحسن بن عبد الملك بن يوسف نا أبو محمد الخلال ثنا أبو عمر بن حياة ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا هارون بن زيد عن أبي الزرقاء ثنا أبي قال ثنا سفيان عن عكرمة بن عمار عن شعيب بن أبي السني عن أبي عيسى أو عيسى قال ذهبت إلى عبد الله بن عمر فقال أبو السوار يا أبا عبد الرحمن ان قوما عندنا إذا قرىء عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية الله قال كذبت قال بلى ورب هذه البنية قال ويحك إن كنت صادقا فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم والله ما هكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم(105/303)
دفع الوجد # فإن قال قائل فنفرض أن الكلام فيمن اجتهد في دفع الوجد فلم يقدر عليه وغلبه الأمر فمن أين يدخل الشيطان فالجواب إنا لا ننكر ضعف بعض الطباع عن الدفع إلا أن علامة الصادق انه لا يقدر على أن يدفع ولا يدري ما يجري عليه فهو من جنس قوله عز وجل فخر موسى صعقا # وقد أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا حمد بن احمد نا احمد بن عبد الله ثنا ابراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحق الثقفي ثني حاتم بن الليث الجوهري ثنا خالد بن خداش قال قرىء على عبد الله بن وهب كتاب أهوال القيامة فخر مغشيا عليه فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد ذلك بأيام # قال المصنف رحمه الله قلت وقد مات خلق كثير من سماع الموعظة وغشي عليهم قلنا هذا التواجد الذي يتضمن حركات المتواجدين وقوة صياحهم وتخبطهم فظاهره انه متعمل والشيطان معين عليه # قال المصنف رحمه الله فان قيل فهل في حق المخلص نقص بهذه الحالة الطارئة عليه قيل نعم من جهتين أحدهما انه لو قوى العلم أمسك والثاني انه قد خولف به طريق الصحابة والتابعين ويكفي هذا نقصا # أخبرنا عبد الله بن علي المقري نا هبة الله بن عبد الرزاق السني وأخبرنا سعيد بن احمد بن البنا نا أبو سعد محمد بن علي ارستمي قالا نا أبو الحسين بن بشران نا أبو علي اسماعيل بن محمد الصفار ثنا سعدان بن نصر ثنا سفيان بن عيينة قال سمعت خلف بن حوشب يقول كان خوات يرعد عند الذكر فقال له ابراهيم إن كنت تملكه فلا أبالي أن لا أعتد بك وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك وفي رواية فقد خالفت من هو خير منك # قال المصنف رحمه الله قلت ابراهيم هو النخعي الفقيه وكان متمسكا(105/304)
بالسنة شديد الاتباع للأثر وقد كان خوات من الصالحين البعداء عن التصنع وهذا خطاب ابراهيم له فكيف بمن لا يخفي حاله في التصنع اذا طرب اهل التصوف صفقوا # فاذا طرب أهل التصوف لسماع الغناء صفقوا أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا سليمان المغربي يقول سمعت أبا علي بن الكاتب يقول كان ابن بنان يتواجد وكان أبو سعيد الخراز يصفق له # قال المصنف رحمه الله قلت والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن الاعتدال وتتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " فالمكاء الصفير والتصدية التصفيق # أخبرنا عبد الوهاب الحافظ نا أبو الفضل بن حيرون نا أبو علي بن شاذان نا احمد بن كامل ثنى محمد بن سعد ثنى أبي ثني عمى عن أبيه عن جده عن ابن عباس الامكاء يعني التصفير وتصدية يقول التصفيق # قال المصنف رحمه الله قلت وفيه أيضا تشبه بالنساء والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار إلى أفعال الكفار والنسوة اذا قوي طربهم رقصوا # فاذا قوي طربهم رقصوا وقد احتج بعضهم بقوله تعالى لأيوب " أركض برجلك "(105/305)
# قال المصنف رحمه الله قلت وهذا الاحتجاج بارد لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء قال ابن عقيل أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الإسلام جاز أن يجعل قوله تعالى لموسى " أضرب بعصاك الحجر " دلالة على ضرب الجماد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع # واحتج بعض ناصريهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي أنت مني وأنا منك فحجل وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي فحجل وقال لزيد أنت أخونا ومولانا فحجل ومنهم من احتج بأن الحبشة زفنت والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر اليهم فالجواب أما الحجل فهو نوع من المشي يفعل عند الفرح فأين هو من الرقص وكذلك زفن الحبشة نوع من المشي بتشبيب يفعل عند اللقاء بالحرب # واحتج لهم أبو عبد الرحمن السلمي على جواز الرقص بما أخبرنا به أبو نصر محمد بن منصور الهمداني نا اسماعيل بن احمد بن عبد الملك المؤذن نا أبو صالح احمد بن عبد الملك وأبو سعيد محمد بن عبد العزيز وأبو محمد عبد الحميد بن عبد الرحمن قالوا ثنا أبو عبد الرحمن السلمي ثنا أبو العباس احمد بن سعيد المعداني ثنا محمد بن سعيد المروزي ثنا عباس الرقيقي ثنا عبد الله بن عمر الوراق ثنا الحسن بن علي بن منصور ثنا أبو عتاب المصري عن ابراهيم بن محمد الشافعي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحداء يتغنى في دار العاص بن وائل بهذا # تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت % به زينب في نسوة عطرات # فلما رأت ركب النميري أعرضت % وهن من أن يلقينه حذرات قال فضرب برجله الأرض زمانا وقال هذا مما يلذ سماعه وكانوا يروون الشعر لسعيد بن المسيب(105/306)
# قال المصنف قلت هذا إسناده مقطوع مظلم لا يصح عن ابن المسيب ولا هذا شعره كان ابن المسيب أوقر من هذا وهذه الأبيات مشهورة لمحمد بن عبد الله بن نمير النميري الشاعر ولم يكن نمريا وإنما نسب إلى اسم جده وهو ثقفي وزينب التي يشبب بها هي ابنة يوسف أخت الحجاج وسأله عبد الملك بن مروان عن الركب ما كان فقال كانت أحمرة عجافا حملت عليها قطرانا من الطائف فضحك وأمر الحجاج أن لا يؤذيه # قال المصنف رحمه الله ثم لو قدرنا أن ابن المسيب ضرب برجله الأرض فليس في ذلك حجة على جواز الرقص فان الإنسان قد يضرب الأرض برجله أو يدقها بيده لشيء يسمعه ولا يسمى ذلك رقصا فما أقبح هذا التعلق وأين ضرب الأرض بالقدم مرة أو مرتين من رقصهم الذي يخرجون به عن سمت العقلاء ثم دعونا من الاحتجاج تعالوا نتقاضى إلى العقول أي معنى في الرقص إلا اللعب الذي يليق بالأطفال وما الذي فيه من تحريك القلوب الى الآخرة هذه والله مكبر باردة ولقد حدثني بعض المشايخ عن الغزالي أنه قال الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالتعب وقال أبو الوفاء بن عقيل قد نص القرآن علىالنهي عن الرقص فقال عز وجل لا تمش في الأرض مرحا وذم المختال فقال الله تعالى إنه لا يحب كل مختال فخور والرقض أشد المرح والبطر أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الاطراب والسكر # فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما في الاطراب وهل شيء يزري بالعقل والوقار ويخرج عن سمت الحلم والأدب أقبح من ذي لحية يرقص فكيف اذا كانت شيبة ترقص وتصفق على وقاع الألحان والقضبان خصوصا إذا كانت أصوات نسوان ومردان وهل يحسن بمن بين يديه الموت السؤال والحشر والصراط ثم هو إلى إحدى الدارين(105/307)
صائران يشمس بالرقص شمس البهائم ويصفق تصفيق النسوة والله لقد رأيت مشايخ في عصري ما بان لهم سن في تبسم فضلا عن ضحك مع إدمان مخالطتي لهم كالشيخ أبي القاسم بن زيدان وعبد الملك بن بشران وأبي طاهر بن العلاف والجنيد والدينوري حالات الطرب الشديدة لدى الصوفية # فاذا تمكن الطرب من الصوفية في رحال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه ولا يجوز على مذهبهم للمجذوب أن يقعد فاذا قام قام الباقون تبعا له فاذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له ولا يخفى على عاقل أن كشف الرأس مستقبح وفيه إسقاط مروءة وترك أدب وإنما يقع في المناسك تعبدا لله وذلا له $ فصل فاذا اشتد طربهم رموا ثيابهم على المغني فمنهم من يرمي بها $ صحاحا ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها وقد احتج لهم بعض الجهال فقال هؤلاء في غيبة فلان يلامون فان موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل رمى الألواح فكسرها ولم يدر ما صنع # والجواب أن نقول من يصحح عن موسى بأنه رماها رمي الكاسر والذي ذكر في القرآن إلقاءها فحسب فمن أين لنا أنها تكسرت ثم لو قيل تكسرت فمن أين لنا انه قصد كسرها ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة حتى لو كان بين يديه حينئذ بحر من نار لخاضه ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغني من غيره ويحذرون من بئر إن كانت عندهم ثم كيف يقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء ولقد رأيت شابا من الصوفية يمشي(105/308)
في الأسواق ويصيح والغلمان يمشون خلفه وهو يبربر ويخرج إلى الجمعة فيصيح صيحات وهو يصلي الجمعة فسئلت عن صلاته فقلت إن كان وقت صياحه غائبا فقد بطل وضوءه وإن كان حاضرا فهو متصنع وكان هذا الرجل جلدا لا يعمل شيئا بل يدار له بزنبيل في كل يوم فيجمع له ما يأكل هو وأصحابه فهذه حالة المتأكلين لا المتوكلين # ثم لو قدرنا أن القوم يصيحون عن غيبة فان تعرضهم لما يغطي على العقول من سماع ما يطرب منهي عنه كالتعرض لكل ما غلبه الأذى وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال خطأ وحرام وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أضاعة المال وعن شق الجيوب فقال له قائل فإنهم لا يعقلون ما يفعلون قال إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم اثموا بما يدخل عليهم من التخريق وغيره مما يفسد ولا يسقط عنهم خطاب الشرع لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذه المواضع التي تفضي إلى ذلك كما هم منهيون عن شرب المسكر فاذا سكروا وجرى منهم إفساد الأموال لم يسقط الخطاب لسكرهم كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا فيه فسكر طبع وإن كذبوا فنبيذ ومع الصحو فلا سلامة فيه مع الحالين وتجنب مواضع الريب واجب # واحتج لهم ابن طاهر في تريفهم الثياب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت نصبت حجلة لي فيها رقم فمدها النبي صلى الله عليه وسلم فشقها # قال المصنف رحمه الله فانظر إلى فقه هذا الرجل المسكين كيف يقيس حال من يمزق ثيابه فيفسدها وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال على مد ستر ليحط فانشق لا عن قصد أو كان عن قصد لأجل الصور التي كانت فيه # وهذا من التشديد في حق الشارع عن المنهيات كما أمر بكسر الدنان في الخمور فإن ادعى مخرق ثيابه أنه غائب قلنا الشيطان غيبك لأنك لو كنت مع الحق لحفظك فإن الحق لا يفسد(105/309)
# وقد أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحاف ثنا محمد بن علي بن حشيش ثنا عبد الله بن الصقر ثنا الصلت بن مسعود ثنا جعفر بن سليمان قال سمعت أبا عمران الجوني يقول وعظ موسى بن عمران عليه السلام يوما فشق رجل منهم قميصه فأوحى الله عز وجل لموسى قل لصاحب القميص لا يشق قميصه أيشرح لي عن قلبه نقد مسالك الصوفية في تقطيع الثياب خرقا # وقد تكلم مشايخ الصوفية في الخرق المرمية فقال محمد بن طاهر الدليل على أن الخرقة إذا طرحت صارت ملكا لمن طرحت بسببه حديث جرير جاء قوم مجتابي النمار فحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء رجل من الأنصار بصرة فتتابع الناس حتى رأيت كومتين من ثياب وطعام قال والدليل على أن الجماعة إذا قدموا عند تفريق الخرقة أسهم لهم حديث أبي موسى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغنيمة وسلب فأسهم لنا # قال المصنف رحمه الله لقد تلاعب هذا الرجل بالشريعة واستخرج بسوء فهمه ما يظنه يوافق مذهب المتأخرين من الصوفية فإذا ما عرفنا هذا في أوائلهم وبيان فساد استخراجه أن هذا الذي خرق الثوب ورمى به إن كان حاضرا فما جاز له تخريقه وإن كان غائبا فليس له تصرف جائز شرعا لا هبة ولا تمليكا وكذلك يزعمون بأن ثوبه كان كالشيء الذي يقع من الإنسان ولا يدري به فلا يجوز لأحد أن يتملكه وإن كان رماه في حال حضوره لا على أحد فلا وجه لتملكه ولو رماه على المغني لم يتملكه لأن التملك يكون إلا بعقد شرعي والرمي ليس بعقد ثم نقدر أنه ملك للمغني فما وجه تصرف الباقين فيه ثم إذا أنصرفوا فيه خرقوه خرقا وذلك لا يجوز لوجهين # أحدهما انه تصرف فيما لا يملكونه # والثاني أنه اضاعة للمال ثم ما وجه أسهام من لم يحضر فأما حديث أبي موسى فقال العلماء منهم الخطابي يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه عن رضى(105/310)
ممن شهد الواقعة أو من الخمس الذي هو حقه وعلى مذهب الصوفية تعطى هذه الخرقة لمن جاء وهذا مذهب خارج عن إجماع المسلمين وما أشبه ما وضع هؤلاء بأرائهم الفاسدة إلا بما وضعت الجاهلية من أحكام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قال ابن طاهر أجمع مشايخنا على أن الخرقة المخرقة وما انبعث من الخرق الصحاح الموافقة لها ان ذلك كله يكون بحكم الجمع يفعلون فيه ما يراه المشايخ # واحتجوا بقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الواقعة وخالفهم شيخنا أبو إسماعيل الانصاري فجعل الخرقة على ضربين ما كان مجروحا قسم على الجميع وما كان سليما دفع إلى القوال واحتج بحديث سلمة من قتل الرجل قالوا سلمة بن الأكوع قال له سلبه أجمع فاقتل إنما وجد من جهة القوال فالسلب له # قال المصنف رحمه الله أنظروا إخواني عصمنا الله وإياكم من تلبيس إبليس إلى تلاعب هؤلاء الجهلة بالشريعة وإجماع مشايخهم الذي لا يساوي أجماعهم بعرة فان مشايخ الفقهاء أجمعوا على أن الموهوب لمن وهب له سواء كان مخرقا أو سليما ولا يجوز لغيره التصرف فيه ثم إن سلب القتيل كل ما عليه فما بالهم جعلوه ما رمي به ثم ينبغي أن يكون الأمر على عكس ما قاله الأنصاري لأن المجروح من الثياب ما كان بسبب الوجد فينبغي أن يكون المجروح المغني دون الصحيح وكل أقوالهم في هذا محال وهذيان # وقد حكى لي أبو عبد الله التكريتي الصوفي عن أبي الفتوح الاسفرايني وكنت أنا قد رأيته وأنا صغير السن وقد حضر في جمع كثير في رباط وهناك المخاد والقضبان ودف بجلاجل فقام يرقص حتى وقعت عمامته فبقي مكشوف الرأس قال التكريتي إنه رقص يوما في خف له ثم ذكر أن الرقص في الخف خطأ عند القوم فانفرد وخلعه ثم نزع مطرفا كان عليه فوضعه بين أيديهم كفارة لتلك الجناية فاقتسموه خرقا # قال ابن طاهر والدليل على أن الذي يطرح الخرقة لا يجوز أن يشتريها(105/311)
من الجمع حديث عمر لا تعوذن في صدقتك قال المصنف أنظر إلي بعد هذا الرجل عن فهم معاني الأحاديث فان الخرقة المطروحة باقية على ملك صاحبها فلا يحتاج إلى أن يشتريها $ فصل وأما تقطيعهم الثياب المطروحة خرقا وتفريقها فقد بينا أنه إن كان $ صاحب الثوب رماه إلى المغني لم يملكه بنفس الرمي حتى يملكه إياه فإذا ملكه إياه فما وجه تصرف الغير فيه ولقد شهدت بعض فقهائهم يخرق الثياب ويقسمها ويقول هذه الخرق ينتفع بها وليس هذا بتفريط فقلت وهل التفريط إلا هذا ورأيت شيخا آخر منهم يقول خرقت خرقا في بلدنا فأصاب رجل منها خريقة فعملها كفنا فباعه بخمسة دنانير فقلت له إن الشرع لا يحيز هذه الرعونات لمثل هذه النوادر # وأعجب من هذين الرجلين أبو حامد الطوسي فانه قال يباح لهم تمزيق الثياب إذا خرقت قطعا مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات فإن الثوب يمزق حتى يخاط منه قميص ولا يكون ذلك تضييعا ولقد عجبت من هذا الرجل كيف سلبه حب مذهب التصوف عن أصول الفقه ومذهب الشافعي فنظر إلى أنتفاع خاص ثم ما معنى قوله مربعة فان المطاولة ينتفع بها أيضا ثم لو مزق الثوب قرامل لانتفع بها ولو كسر السيف نصفين لانتفع بالنصف غير أنالشرع يتلمح الفوائد العامة ويسمي ما نقص منه للانتفاع إتلافا ولهذ ينهي عن كسر الدرهم الصحيح لأنه يذهب منه قيمه بالإضافة إلى المكسور وليس العجب من تلبيس إبليس على الجهال منهم بل على الفقهاء الذين اختاروا بدع الصوفية على حكم أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين $ فصل ولقد أغربوا فيما ابتدعوا وأقام لهم الأعذار من إلى هواهم مال $ ولقد(105/312)
ذكر محمد بن طاهر في كتابه باب السنة في أخذ شيء من المستغفر واحتج بحديث كعب بن مالك في توبته يجزئك الثلث ثم قال باب الدليل على أن من وجبت عليه غرامة فلم يؤدها ألزموه أكثر منها واستدل بحديث معاوية بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الزكاة من منعها فانا آخذها وشطر ماله # قال المصنف رحمه الله قلت فانظر إلى تلاعب هؤلاء وجهل هذا المحتج لهم وتسمية ما يلزم بعضهم بما لا يلزمه غرامة وتسمية ذلك واجبا وليس لنا غرامة ولا وجوب إلا بالشرع ومتى اعتقد الإنسان ما ليس بواجب واجبا كفر ومن مذهبهم الرؤوس عند الاستغفار وهذه بدعة تسقط المروءة وتنافي الوقار ولولا ورود الشرع بكشفه في الإحرام ما كان له وجه وأما حديث كعب بن مالك فإنه قال إن من توبتي ان انخلع من مالي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئك الثلث لا على سبيل الالزام له وإنما تبرع بذلك فأخذه منه وأين إلزام الشرع تارك الزكاة فما يزيد عليها عقوبة من إلزامهم المريد غرامة لا تجب عليه فاذا امتنع ضاعفوها وليس إليهم الإلزام إنما ينفرد بالالزام الشرع وحده وهذا كله جهل وتلاعب بالشريعة فهؤلاء الخوارج عليها حقا $ ذكر تلبيس إبليس على كثير من الصوفية في صحبة الأحداث $ # قال المصنف اعلم أن أكثر الصوفية المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن واشتغلوا بالتعبد عن النكاح واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة وقصد الزهادة فأمالهم إبليس إليهم # واعلم أن الصوفية في صحبة الأحداث على سبعة أقسام القسم الأول أخبث القوم وهم ناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن احمد بن سليمان نا أبو علي الحسين بن محمد بن الفضل الكرماني نا سهل بن علي الخشاب نا أبو نصر عبد الله بن علي السراج قال بلغني أن جماعة(105/313)
من الحلولية زعموا أن الحق تعالى اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية ومنهم من قال هو حال في المستحسنات # وذكر أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن طائفة من الصوفية قالوا انهم يرون الله عز وجل في الدنيا وأجازوا أن يكون في صفة الآدمي ولم يأبوا كونه حالا في الصورة الحسنة حتى استشهدوه في رؤيتهم الغلام الأسود القسم الثاني قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ويقصدون الفسق القسم الثالث قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن وقد صنف أبو عبد الرحمن السلمي كتابا سماه سنن الصوفية فقال في أواخر الكتاب باب في جوامع رخصهم فذكر فيه الرقص والغناء والنظر إلى الوجه الحسن وذكر فيه ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال اطلبوا الخير عند حسان الوجوه وانه قال ثلاثة تجلو البصر النظر إلى الخضرة والنظر إلى الماء والنظر إلى الوجه الحسن # قال المصنف رحمه الله وهذان الحديثان لا أصل لهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الحديث الأول فأخبرنا به عبد الأول بن عيسى نا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر نا عبد الله بن احمد بن حمويه نا ابراهيم بن خزيم ثنا عبد بن حميد ثنا يزيد بن هرون ثنا محمد بن عبد الرحمن بن المخير عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اطلبوا الخير عند حسان الوجوه قال يحيى بن معين محمد بن عبد الرحمن ليس بشيء قال المصنف قلت وقد روى هذا الحديث من طرق قال العقيلي لا يثبت عن النبي عليه السلام في هذا شيء وأما الحديث الآخر فأنبأنا أبو منصور بن خيرون نا احمد بن علي بن ثابت بن احمد بن محمد بن يعقوب نا محمد بن نعيم الضبي نا أبو بكر محمد بن احمد بن هرون نا احمد بن عمر بن عبيد الريحاني قال سمعت أبا البختري وهب بن وهب يقول كنت(105/314)
أدخل على الرشيد وابنه القاسم بين يديه فكنت أدمن النظر اليه فقال أراك تدمن النظر إلى القاسم تريد أن تجعل انقطاعه اليك قلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس في وأما ادمان النظر اليه فان جعفرا الصادق ثنا عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث يزدن في قوة النظر النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن # قال المصنف رحمه الله هذا حديث موضوع ولا يختلف العلماء في أبي البختري أنه كذاب وضاع واحمد بن عمر بن عبيد أحد المجهولين ثم قد كان ينبغي لأبي عبد الرحمن السلمي إذ ذكر النظر إلى المستحسن أن يقيده بالنظر إلى وجه الزوجة أو المملوكة فأما اطلاقه ففيه سوء ظن وقال شيخنا محمد بن ناصر الحافظ كان ابن طاهر المقدسي قد صنف كتابا في جواز النظر إلى المراد # قال المصنف رحمه الله قلت والفقهاء يقولون من ثارت شهوته عند النظر إلى الأمرد حرم عليه أن ينظر إليه ومتى ادعى الإنسان أنه لا تثور شهوته عند النظر إلى الأمرد المستحسن فهو كاذب وإنما أبيح على الأطرق لئلا يقع الحرج في كثرة المخالطة بالمنع فاذا وقع الإلحاح في النظر دل على العمل بمقتضى ثوران الهوى قال سعيد بن المسيب إذا رأيتم الرجل يلح النظر الى غلام أمرد فاتهموه القسم الرابع قوم يقولون نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار فلا يضرنا النظر وهذا محال منهم فان الطباع تتساوى فمن ادعى تنزه نفسه عن أبناء جنسه في الطبع ادعى المحال وقد كشفنا هذا في أول كلامنا في السماع # أخبرتنا شهدة بن أحمد الأبري قالت بإسناد مرفوع إلى محمد بن جعفر الصوفي قال قال أبو حمزة الصوفي حدثني عبد الله بن الزبير الخفي قال كنت جالسا مع أبي النضر الغنوي وكان من المبرزين العابدين فنظر إلى غلام جميل(105/315)
فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال سألتك بالله السميع وعزة الرفيع وسلطانه المنيع الا وقفت على أروي من النظر اليك فوقف قليلا ثم ذهب ليمضي فقال له سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا وقفت فوقف ساعة فأقبل يصعد النظر اليه ويصوبه ثم ذهب ليمضي فقال سألتك بالواحد الأحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت فوقف ساعة فنظر اليه طويلا ثم ذهب ليمضي فقال سألتك باللطيف الخبير السميع البصير وبمن ليس له نظير إلا وقفت فوقف فأقبل ينظر اليه ثم اطرق رأسه إلى الأرض ومضى الغلام فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي فقال قد ذكرني هذا بنظري اليه وجها جل عن التشبيه وتقدس عن التمثيل وتعاظم عن التحديد والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي أعدائه وموالاتي لأوليائه حتى أصير إلى ما أردته من نظري الى وجهه الكريم وبهائه العظيم ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض ثم غشي عليه وحدثنا محمد بن عبد الله الفزاري قال سمعت خيرا النساج يقول كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون فجلس الينا غلام جميل من أهل المغرب فرأيت محاربا ينظر اليه نظرا أنكرته فقلت له بعد أن قام انك محرم في شهر حرام في بلد حرام في مشعر حرام وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا لا ينظره إلا المفتونون فقال لي تقول هذا يا شهواني القلب والطرف ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع في شرك إبليس ثلاث فقلت وما هي قال سر الإيمان وعفة الإسلام وأعظمها الحياء من الله تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني عنه ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا # قال المصنف رحمه الله قلت أنظروا إلى جهل الأحمق الأول ورمزه الى التشبيه وإن تلفظ بالتنزيه وإلى حماقة هذا الثاني الذي ظن أن المعصية هي الفاحشة فقط وما علم أن نفس النظر بشهوة يحرم ومحا عن نفسه أثر الطبع بدعواه التي تكذبها شهوة النظر # وقد حدثني بعض العلماء أن صبيا(105/316)
أمرد حكى له قال قال لي فلان
الصوفي وهو يحبني يا نبي الله فيك اقبال والتفات حيث جعل حاجتي اليك وحكى أن جماعة من الصوفية دخلوا على احمد الغزالي وعنده أمرد وهو خال به وبينهما ورد وهو ينظر إلى الورد تارة وإلى الأمرد تارة فلما جلسوا قال بعضهم لعلنا كدرنا فقال أي والله فتصايح الجماعة على سبيل التواجد # وحكى أبو الحسين بن يوسف انه كتب اليه في رقعة انك تحب غلامك التركي فقرأ الرقعة ثم استدعى الغلام فصعد اليه النظر فقبله بين عينيه وقال هذا جواب الرقعة # قال المصنف رحمه الله قلت اني لا أعجب من فعل هذا الرجل وإلقائه جلباب الحياء عن وجهه وإنما أعجب من البهائم الحاضرين كيف سكتوا عن الإنكار عليه ولكن الشريعة بردت في قلوب كثير من الناس # وأخبرنا أبو القاسم الحريري أنبأنا أبو الطيب الطبري قال بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع انها تضيف اليه النظر الى وجه الأمرد وربما زينته بالحلى والمصبغات من الثياب والحواشي وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم قال الله تعالى " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " وقال " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " وقال أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض فعدلوا عما أمرهم الله به من الإعتبار إلى ما نهاهم عنه وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناه بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية فاذا استوفت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص والاستمتاع بالنظر الى وجوه المرد ولو أنهم تقللوا من الطعام لم يحنوا الى سماع ونظر قال أبو الطيب وقد أخبر بعضهم في شعره عن أحوال المستمعين للغناء وما يجدونه حال السماع فقال(105/317)
# أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا % على طيب السماع الى الصباح # ودارت بيننا كأس الأغاني % فأسكرت النفوس بغير راح # فلم نر فيهم إلا نشاوى % سرورا والسرور هناك صاحي # إذا لبى أخو اللذات فيه % منادى اللهو حي على الفلاح # ولم نملك سوى المهجات شيئا % أرقناها لالحاظ ملاح # قال فاذا كان السماع تأثيره في قلوبهم ما ذكره هذا القائل فكيف يجدي السماع نفعا أو يفيد فائدة قال ابن عقيل قول من قال لا أخاف من رؤية الصور المستحسنة ليس بشيء فان الشريعة جاءت عامة الخطاب لا تميز الأشخاص وآيات القرآن تنكر هذه الدعاوى قال الله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " وقال أفلا ينظرون إلا الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت فلم يحل النظر إلا على صور لا ميل للنفس اليها ولاحظ فيها بل عبرة لا يمازجها شهوة ولا تعتريها لذة فأما صور الشهوات فانها تعبر عن العبرة بالشهوة وكل صورة ليست بعبرة لا ينبغي أن ينظر اليها لأنها قد تكون سببا للفتنة ولذلك ما بعث الله تعالى امرأة بالرسالة ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا # كل ذلك لأنها محل فتنة وشهوة وربما قطعت عما قصدته الشريعة بالنظر وكل من قال أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا بالدعوى كذبناه وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين القسم الخاص قوم صحبوا المردان ومنعوا أنفسهم من الفواحش يعتقدون ذلك مجاهدة وما يعلمون أن نفس صحبتهم والنظر اليهم بشهوة معصية وهذه من خلال الصوفية المذمومات وقد كان قدماؤهم على غير هذا وقيل كانوا على هذا بدليل وهو ما أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أنشدنا أبو علي الروزباري # أنزه في روض المحاسن مقلتى % وأمنع نفسي أن تنال محرما # وأحمل من ثقل الهوى مالو أنه % على الجبل الصلد الأصم تهدما(105/318)
# قال المصنف رحمه الله وسيأتي حديث يوسف بن الحسين وقوله عاهدت ربي أن لا أصحب حدثا مائة مرة ففسحنا على قوام القدود وغنج العيون # أخبرتنا شهدة الكاتبة باسناد عن أبي المختار الضبي قال حدثني أبي قال قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالا في أرض الله حدثني بأعجب ما رأيت من الصوفية قال صحبت رجلا منهم يقال له مهرجان وكان مجوسيا فأسلم وتصوف فرأيت معه غلاما جميلا لا يفارقه وكان إذا جاء الليل قام فصلى ثم ينام إلى جانبة ثم يقوم فزعا فيصلي ما قدر له ثم يعود فينام إلى جانبه حتى فعل ذلك مرارا فاذا اسفر الصبح أو كان يسفر أوتر ثم رفع يديه وقال اللهم إنك تعلم أن الليل قد مضى علي سليما لم أقترف فيه فاحشة ولا كتبت على الحفظة فيه معصية وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته لتصدعت أو كان بالأرض لتدكدكت ثم يقول يا ليل إشهد بما كان مني فيك فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام والتعرص للآثام ثم يقول سيدي أنت تجمع بيننا على تقى فلا تفرق بيننا يوم تجمع فيه الأحباب فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك كل ليلة وأسمع هذا القول منه فلما هممت بالإنصراف من عنده قلت إذا انقضى الليل كذا وكذا فقال وسمعتني قلت نعم قال فوالله يا أخي إني لأداري من قلبي ما لو داراه سلطان من رعيته لكان الله حقيقا بالمغفرة له فقلت وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله وقال أبو محمد بن جعفر بن عبد الله الصوفي قال أبو حمزة الصوفي رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلاما مدة طويلة فمات الفتى وطال حزن الغلام عليه حتى صار جلدا وعظما من الضنا والكمد فقلت له يوما لقد طال حزنك على صديقك حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدا فقال كيف أسلو عن رجل أجل الله عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدا وصانني عن نجاسة الفسوق في خلول صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار # قال المصنف رحمه الله هؤلاء قوم رآهم إبليس لا ينجذبون معه إلى(105/319)
الفواحش فحسن لهم بداياتها فتعجلوا لذة النظر والصحبة والمحادثة وعزموا على مقاومة النفس في ضدها عن الفاحشة فان صدقوا وتم لهم ذلك فقد اشتغل القلب الذي ينبغي أن يكون شغله بالله تعالى لا يغيره وصرف الزمان الذي ينبغي أن يخلو فيه القلب بما ينفع به في الآخرة بمجاهدة الطبع في كفه عن الفاحشة وهذا كله جهل وخروج عن آداب الشرع فأن الله عز وجل أمر بغض البصر لأنه طريق إلى القلب ليسلم القلب لله تعالى من شائب تخاف منه وما مثل هؤلاء إلا كمثل من أقبل إلى سباع في غيضة متشاغلة عنه لا تراه فأثارها وحاربها وقاومها فيا بعد سلامته من جراحه إن لم يهلك مجاهدة النفس # في هؤلاء من قويت مجاهدته مدة ثم ضعفت فدعته نفسه إلى الفاحشة فامتنع حينئذ من صحبة المرد # أخبرتنا شهدة الكاتبة عن عمر بن يوسف الباقلاني قال قال أبو حمزة قلت لمحمد بن العلاء الدمشقي وكان سيد الصوفية وقد رأيته يماشي غلاما وضيئا مدة ثم فارقه فقلت له لم هجرت ذلك الفتى الذي كنت أراه معك بعد ان كنت له مواصلا وإليه مائلا فقال والله لقد فارقته عن غير قلا ولا ملل قلت ولم فعلت ذلك قال رأيت قلبي يدعوني إلى أمر إذا خلوت به وقرب مني لو أتيته سقطت من عين الله عز وجل فهجرته لذلك تنزيها لله تعالى ولنفسي من مصارع الفتن التوبة وإطالة البكاء # ومنهم من تاب وأطال البكاء عن إطلاق نظره أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي بإسناد عن عبيد الله قال سمعت أخي أبا عبد الله محمد بن محمد يقول سمعت خيرا النساج يقول كنت مع أمية بن الصامت الصوفي إذ نظر إلى غلام فقرأ وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ثم قال(105/320)
وأين الفرار من سجن الله وقد حصنه بملائكة غلاظ شداد تبارك الله فما أعظم ما امتحنني به من نظري إلى هذا الغلام ما شبهت نظري اليه إلا بنار وقعت على قصب في يوم ريح فما أبقت ولا تركت ثم قال استغفر الله من بلاء جنته عيناي على قلبي لقد خفت ألا أنجوا من معرته ولا أتخلص من أثمه ولو وافيت القيامة بعمل سبعين صديقا ثم بكى حتى كاد يقضي نحبه فسمعته يقول في بكائه يا طرف لأشغلنك بالبكاء عن النظر إلى البلاء المرض من شدة المحبة # ومنهم من تلاعب به المرض من شدة الحبة أخبرتنا شهدة الكاتبة باسناد عن أبي حمزة الصوفي قال كان عبد الله بن موسى من رؤساء الصوفية ووجوههم فنظر إلى غلام حسن في بعض الأسواق فبلى به وكاد يذهب عقله عليه صبابة وحبا وكان يقف كل يوم في طريقه حتى يراه إذا أقبل وإذا أنصرف فطال به البلاء وأقعده عن الحركة الضنا وكان لا يقدر أن يمشي خطوة فأتيته يوما لأعوده فقلت يا أبا محمد ما قصتك وما هذا الأمر الذي بلغ بك ما أرى فقال أمور أمتحنني الله بها فلم أصبر على البلاء فيها ولم يكن لي بها طاقة ورب ذنب يستصغره الانسان هو عند الله أعظم من كبير وحقيق بمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام ثم بكى قلت ما يبكيك قال أخاف أن يطول في النار شقائي فأنصرفت عنه وأنا راحم له لما رأيت به من سوء الحال # قال أبو حمزة ونظر محمد بن عبد الله بن الأشعت الدمشقي وكان من خيار(105/321)
عباد الله إلى غلام جميل فغشي عليه فحمل إلى منزله واعتاده السقم حتى أقعد من رجليه وكان لا يقوم عليهما زمانا طويلا فكنا نأتيه نعوده ونسأله عن حاله وأمره وكان لا يخبرنا بقصته ولا سبب مرضه وكان الناس يتحدثون بحديث نظره فبلغ ذلك الغلام فأتاه عائدا فهش اليه وتحرك وضحك في وجهه واستبشر برؤيته فما زال يعوده حتى قام على رجليه وعاد إلى حالته فسأله الغلام يوما أن يسير معه إلى منزله فأبى أن يفعل ذلك فسألني أن أسأله أن يتحول اليه فسألته فأبى أن يفعل فقلت للشيخ وما الذي تكره من ذلك فقال لست بمعصوم من البلاء ولا آمن من الفتنة وأخاف أن يقع علي الشيطان محنة فتجري بيني وبينه معصية فأكون من الخاسرين قتل النفس خوف الوقوع في الفاحشة # وفيهم من همت نفسه إلى الفاحشة فقتل نفسه حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني قال كان ببلاد فارس صوفي كبير فابتلى بحدث فلم يملك نفسه ان دعته إلى فاحشة فراقب الله عز وجل ثم ندم على هذه الهمة وكان منزله على مكان عال ووراء منزله بحر من الماء فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى نفسه إلى الماء وتلى قوله تعالى " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم " فغرق في البحر # قال المصنف رحمه الله أنظر إلى إبليس كيف درج هذا المسكين من رؤية هذا الأمرد وإلى إدمان النظر اليه إلى أن مكن المحبة من قلبه إلى أن حرضه على الفاحشة فلما رأى أستعصامه حسن له بالجهل قتل نفسه فقتل نفسه ولعله هم بالفاحشة ولم يعزم والهمةمعفو عنها لقوله عليه السلام عني لأمتي عما حدثت به نفوسها ثم إنه ندم على همته والندم توبة فأراه إبليس أن من تمام الندم قتل نفسه كما فعل بنو إسرائيل فأولئك أمروا بذلك بقوله تعالى " فاقتلوا أنفسكم " ونحن نهينا عنه بقوله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فلقد أتى(105/322)
بكبيرة عظيمة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا $ فصل وفيهم من فرق بينه وبين حبيبه فقتل حبيبه بلغني عن بعض الصوفية $ أنه كان في رباط عندنا ببغداد ومعه صبي في البيت الذي هو فيه فشنعوا عليه وفرقوا بينهما فدخل الصوفي إلى الصبي ومعه سكين فقتله وجلس عنده يبكي فجاء أهل الرباط فرأوه فسألوه عن الحال فأقر بقتل الصبي فرفعوه إلى صاحب الشرطة فأقر فجاء والد الصبي يبكي فجلس الصوفي يبكي ويقول له بالله عليك الا ما أقدتني به فقال الآن قد عفوت عنك فقام الصوفي إلى قبر الصبي فجعل يبكي عليه ثم لم يزل يحج عن الصبي ويهدي له الثواب مقاربة الفتنة والوقوع فيها # ومن هؤلاء من قارب الفتنة فوقع فيها ولم تنفعه دعوى الصبر والمجاهدة والحديث باسناد عن إدريس بن إدريس قال حضرت بمصر قوما من الصوفية ولهم غلام أمرد يغنيهم قال فغلب على رجل منهم أمره فلم يدر ما يصنع فقال يا هذا قل لا إله إلا الله فقال الغلام لا إله إلا الله فقال أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله القسم السادس قوم لم يقصدوا صحبة المردان وإنما يتوب الصبي ويتزهد ويصحبهم على طريق الإرادة فلبس إبليس عليهم ويقول لا تمنعوه من الخير ثم يتكرر نظرهم إليه لا عن قصد فيثير في القلب الفتنة إلى أن ينال الشيطان منهم قدر ما يمكنه وربما وثقوا بدينهم فاستفزهم الشيطان فرماهم إلى أقصى المعاصي كما فعل ببرصيصا(105/323)
# قال المصنف رحمه الله وقد ذكرنا قصته في أول الكتاب وغلطهم من جهة تعرضهم بالفتن وصحبة من لا يؤمن الفتنة في صحبته # القسم السابع قوم علموا أن صحبة المردان والنظر إليهم لا يجوز غير أنهم لم يصبروا عن ذلك والحديث بإسناد عن الرازي يقول قال يوسف بن الحسين كل ما رأيتموني أفعله فأفعلوه إلا صحبة الأحداث فإنها أفتن الفتن ولقد عاهدت ربي أكثر من مائة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها علي حسن الحدود وقوام القدود وغنج العيون وما سألني الله معهم عن معصية وأنشد صريع الغواني في معنى ذلك شعرا # إن ورد الخدود والحدق النج % ل وما في الثغور من أقحوان # واعوجاج الأصداع في ظاهر الخد % وما في الصدور من رمان # تركتني بين الغواني صريعا % فلهذا أدعى صريع الغواني # قال المصنف رحمه الله قلت هذا الرجل قد فضح نفسه في شيء ستره الله عليه وأخبر أنه كلما رأى فتنة نقض التوبة فأين عزائم التصوف في حمل النفس على المشاق ثم ظن بجهله أن المعصية هي الفاحشة فقط ولو كان له علم لعلم أن صحبتهم والنظر اليهم معصية فانظر إلى الجهل كيف يصنع بأربابه # والحديث بإسناد عن محمد بن عمر أنه قال حكي لي عن أبي مسلم الخمشوعي أنه نظر إلى غلام جميل فأطال ثم قال سبحان الله ما أهجم طرفي عن مكروه نفسه وأدمنه على سخط سيده وإغراه بما قد نهى عنه وأبهجه بالأمر الذي قد حزر منه لقد نظرت إلى هذا نظرا لا أحسب إلا أنه سيفضحني عند جميع من عرفني في عرصات القيامة ولقد تركني نظري هذا وأنا أستحي من الله تعالى وإن غفر لي ثم صعق وبإسناد عن أبي بكر محمد بن عبد يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول رأيت غلاما جميلا ببغداد فنظرت إليه ثم أردت أن(105/324)
أردد النظر فقلت له تلبسون النعال الصرارة وتمشون في الطرقات فقال أحسنت الحشر بالعلم $ فائدة العلم وكل من فاته العلم تخبط فان حصل له وفاته العلم به $ كان أشد تخبيطا ومن استعمل أدب الشرع في قوله عز وجل " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " سلم في البداية بما صعب أمره في النهاية وقد ورد الشرع بالنهي عن مجالسة المردان وأوصى العلماء بذلك # والحديث بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجالسوا أبناء الملوك فإن النفوس تشتاق إليهم ما لا تشتاق إلى الجواري العواتق والحديث بإسناده عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تملأوا أعينكم من أولاد الملوك فإن لهم فتنة أشد من فتنة العذارى والحديث بإسناد عن الشعبي قال قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضأة فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم وراء ظهره وقال كانت خطيئة داود عليه السلام النطر وعن أبي هرير قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد وقال عمر بن الخطاب ما أتى على عالم من سبع ضار أخوف عليه من غلام أمرد وبإسناد عن الحسن بن ذكوان أنه قال لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى # وبإسناد عن محمد بن حمير عن النجيب السري قال كان يقال لا يبيت الرجل في بيت مع المرد(105/325)
# وبإسناد عن عبد العزيز بن أبي السائب عن أبيه قال لانا أخوف على عابد من غلام من سبعين عذراء وعن أبي علي الروزباري قال سمعت جنيدا يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل ومعه غلام حسن الوجه فقال له من هذا قال ابني فقال أحمد لا تجىء به معك مرة أخرى فلما قام قال له محمد بن عبد الرحمن الحافظ وفي رواية الخطيب فقيل له أيد الله الشيخ أنه رجل مستور وأبنه أفضل منه فقال أحمد الذي قصدنا إليه من هذا الباب ليس يمنع منه سترهما على هذا رأينا أشياخنا وبه أخبرونا عن أسلافهم # وباسناد عن أبي بكر المرزوي قال جاء حسن البزاز إلى أحمد بن حنبل ومعه غلام حسن الوجه فتحدث معه فلما أراد أن ينصرف قال له أبو عبد الله يا أبا علي لا تمش مع هذا الغلام في طريق فقال له إنه ابن أختي قال وإن كان لا يهلك الناس فيك # وبإسناد من شجاع بن مخلد أنه سمع بشر بن الحارث يقول أخذروا هؤلاء الأحداث وباسناد عن فتح الموصلي أنه قال صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الأبدال كلهم أوصوني عند فراقي لهم اتقي معاشرة الأحداث وبإسناد عن الحلبي أنه يقول نظر سلام الأسود إلى رجل ينظر إلى حدث فقال له يا هذا ابق على جاهك عند الله فإنك لا تزال ذا جاه ما دمت له معظما # وباسناد عن أبي منصور بن عبد القادر بن طاهر يقول من صحب الأحداث وقع في الأحداث وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال مظفر القرميسيني من صحب الأحداث على شرط السلامة والنصيحة اداه ذلك إلى البلاء فكيف بمن يصحبهم على غير وجه السلامة الاعراض عن المرد # وقد كان السلف يبالغون في الأعراض عن المرد وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجلس الشاب الحسن الوجه وراء ظهره والحديث باسناد عن عطاء بن(105/326)
مسلم قال كان سفيان لا يدع أمردا يجالسه وروى إبراهيم بن هانيء عن يحيى بن معين قال ما طمع أمرد بصحبتي ولاحمد بن حنبل قال في طريق # وباسناد عن أبي يعقوب قال كنا مع أبي نصر بن الحرث فوقفت عليه جارية ما رأينا أحسن منها فقالت يا شيخ أين مكان باب حرب فقال لها هذا الباب الذي يقال له باب حرب ثم جاء بعدها غلام ما رأينا أحسن منه فسأله فقال يا شيخ أين مكان باب حرب فأطرق الشيخ رأسه فرد عليه الغلام السؤال وغمض عينيه فقلنا للغلام تعال أيش تريد فقال باب حرب فقلنا له ها هو بين يديك فلما غاب قلن للشيخ يا أبا نصر جاءتك جارية فأجبتها وكلمتها وجاءك غلام فلم تكلمه فقال نعم يروى عن سفيان الثوري أنه قال مع الجارية شيطان ومع الغلام شيطانان فخشيت على نفسي من شيطانيه # وبإسناد عن عبد الله بن المبارك يقول دخل سفيان الثوري الحمام فدخل عليه غلام صبيح فقال اخرجوه اخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام عشرة شياطين وباسناد عن محمد بن احمد بن أبي القسم قال دخلنا على محمد بن الحسين صاحب يحيى بن معين وكان يقال انه ما رفع رأسه إلى السماء من منذ أربعين سنة وكان معنا غلام حدث في المجلس بين يديه فقال له قم من حذائي فأجلسه من خلفه وباسناد عن أبي إمامة قال وكنا عند شيخ يقرىء فبقي عنده غلام يقرأ عليه فردت الانصراف فأخذ بثوبي وقال أصبر حتى يفرغ هذا الغلام وكره أن يخلو مع هذا الغلام وباسناد عن أبي الروزباري قال قال لي أبو العباس أحمد المؤدب يا أبا علي من أين أخذ صوفية عصرنا هذا الانس بالاحداث فقلت له يا سيدي أنت بهم أعرف وقد تصحبهم السلامة لي كثير من الأمور فقال هيهات قد رأينا من كان أقوى إيمانا منهم إذا رأى الحدث قد أقبل فر كفرارة من الزحف وإنما ذلك حسب الأوقات التي تغلب الأحوال على أهلها فتأخذها عن تصرف الطباع ما أكثر الخطر ما أكثر الغلط صحبة الأحداث # وصحبة الأحداث أقوى حبائل إبليس التي يصيد بها الصوفية(105/327)
أخبرنا ابن
ناصر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا بكر الرازي يقول قال يوسف بن الحسين نظرت في آفات الخلق فعرفت من أين أتوا ورأيت آفة الصوفية في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد والرفاق والنسوان وباسناد عن ابن الفرج الرستمي الصوفي يقول رأيت إبليس في النوم فقلت له كيف رأيتنا أعرضنا عن الدنيا ولذاتها وأموالها فليس لك الينا طريق فقال كيف رأيت ما اشتملت به قلوبكم باستماع الغناء ومعاشرة الأحداث # وبإسناد عن ابن سعيد الخراز يقول رأيت إبليس في النوم يمرغني ناحية فقلت تعال فقال أيش أعمل بكم أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس قلت ما هو قال الدنيا فلما ولى التفت إلي فقال غير ان فيكم لطيفة قلت وما هي قال صحبة الأحداث قال أبو سعيد وقل من يتخلص منها من الصوفية عقوبة النظر إلى المردان # في عقوبة النظر إلى المردان عن أبي عبد الله بن الجلاء قال كنت أنظر إلى غلام نصراني حسن الوجه فمر بي أبو عبد الله البلخي فقال أيش وقوفك فقلت يا عم أما ترى هذه الصورة كيف تعذب بالنار فضرب بيده بين كتفي وقال لتجدن غبها ولو بعد حين قال فوجدت غبها بعد أربعين سنة أن أنسيت القرآن # وبإسناد عن أبي الأديان وقال كنت مع أستاذي وأبي بكر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فقال يا بني لتجدن غبة ولو بعد حين فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي فما أجد ذلك الغب فنمت ذات ليلة وأنا مفكر فيه فأصبحت وقد أنسيت القرآن كله وعن أبي بكر الكتاني قال رأيت بعض أصحابنا في المنام فقلت ما فعل الله بك قال عرض علي سيئاتي وقال فعلت كذا وكذا فقلت نعم # ثم قال وفعلت كذا وكذا فاستحييت أن أقره فقلت اني استحي أن أقر(105/328)
فقال اني غفرت لك بما أقررت فكيف بما استحييت فقلت له ما كان ذلك الذنب فقال مر بي غلام حسن الوجه فنظرت اليه وقد روى نحو هذه الحكاية عن أبي عبد الله الزراد انه رؤى في المنام فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي كل ذنب أقررت به في الدنيا إلا واحدا فاستحييت أن أقر به فوقفني في العرق حتى سقط لحم وجهي فقيل له ما الذنب فقال نظرت إلى شخص جميل # وقد بلغنا عن أبي يعقوب الطبري انه قال كان معي شاب حسن الوجه يخدمني فجاءني انسان من بغداد صوفي فكان كثير الإلتفات إلى ذلك الشاب فكنت أجد عليه لذلك فنمت ليلة من الليالي فرأيت رب العزة في المنام فقال يا أبا يعقوب لم لم تنهه وأشار إلى البغدادي عن النظر إلى الأحداث فوعزتي اني لا اشغل بالأحداث إلا من باعدته عن قربي قال أبو يعقوب فانتبهت وأنا أضطرب فحكيت الرؤيا للبغدادي فصاح صيحة ومات فغسلناه ودفناه واشتغل عليه قلبي فرأيته بعد شهر في النوم فقلت له ما فعل الله بك قال وبخني حتى خفت أن لا أنجوا ثم عفا عني # قلت إنما مددت النفس يسيرا في هذا الباب لأنه ما تعم به البلوى عند الأكثرين فمن أراد الزيادة فيه وفيما يتعلق باطلاق البصر وجميع أسباب الهوى فلينظر في كتابنا المسمى بذم الهوى ففيه غاية المراد من جميع ذلك $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز $ في الأموال # أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي بإسناد عن احمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول لو توكلنا على الله تعالى ما بنينا الحيطان ولا جعلنا لباب الدار غلقا مخافة اللصوص وباسناد عن ذي النون المصري انه قال سافرت سنين وما صح لي التوكل إلا وقتا واحدا ركبت البحر فكسر المركب فتعلقت بخشبة من خشب المركب فقالت لي نفسي ان حكم الله عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة فخليت الخشبة فطفت على الماء فوقعت على الساحل(105/329)
# أخبرنا محمد قال سألت أبا يعقوب الزيات عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطي التوكل حقه ثم قال استحييت أن أجيبك وعندي شيء وذكر أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال جاء رجل إلى عبد الله بن الجلاء فسأله عن مسألة في التوكل وعنده جماعته فلم يجبه ودخل البيت فأخرج اليهم صرة فيها أربعة دوانق فقال اشتروا بهذه شيئا ثم أجاب الرجل عن سؤاله فقيل له في ذلك فقال استحييت من الله تعالى أن أتكلم في التوكل وعندي أربعة دوانق وقال سهل بن عبد الله من طعن في الإكتساب فقد طعن على السنة ومن طعن على التوكل فقد طعن على الإيمان # قال المصنف قلت قلة العلم أوجبت هذا التخطيط ولو عرفوا ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد وذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال فقد قال تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " أي قواما لأبدانكم وقال صلى الله عليه وسلم نعم المال الصالح مع الرجل الصالح وقال صلى الله عليه وسلم إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس واعلم أن الذي أمر بالوكل أمر بأخذ الحذر فقال " خذوا حذركم " وقال " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " وقال أن أسر بعبادي ليلا وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين وشاور طبيبين واختفى في الغار وقال من يحرسني الليلة وأمر بغلق الباب # وفي الصحيحين من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اغلق بابك وقد أخبرنا أن التوكل لا ينافي الاحتراز # أخبرنا إسماعيل بن احمد السمرقندي نا عبد الله بن يحيى الموصلي(105/330)
ونصر بن أحمد قالا أخبرنا أبو الحسين بن بشران ثنا الحسين بن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثنى أبو جعفر الصيرفي ثنا يحيى بن سعيد ثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وترك ناقته بباب المسجد فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال أطلقتها وتوكلت على الله قال اعقلها وتوكل # أخبرنا أبن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا إبراهيم بن محمد بن جعفر نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ثنا أبو بكر الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني ثني عبد الرحمن بن محمد بن سلام ثنا الحسين بن زياد المروزي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول تفسير التوكل أن يرضى بما يفعل به وقال ابن عقيل يظن أقوام ان الاحتياط والاحتراز ينافي التوكل وإن التوكل هو إهمال العواقب وإطراح التحفظ وذلك عند العلماء هو العجز والتفريط الذي يقتضي من العقلاء التوبيخ والتهجين ولم يأمر الله بالتوكل الا بعد التحرز واستفراغ الوسع في التحفظ فقال تعالى " وشاورهم في الأمر " " فإذا عزمت فتوكل على الله " فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا في التوكل لما خص الله به نبيه حين قال له " وشاورهم في الأمر " وهل المشاورة الا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو ولم يقنع في الاحتياط بأن يكله إلى رأيهم واجتهادهم حتى نص عليه وجعله عملا في نفس الصلاة وهي أخص العبادات فقال " فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم " وبين علة ذلك بقوله تعالى " ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة " ومن علم أن الإحتياط هكذا لا يقال أن التوكل عليه ترك ما علم لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة قال عليه الصلاة والسلام اعقلها وتوكل ولو كان التوكل ترك(105/331)
التحرز لخص به خير الخلق صلى الله عليه وسلم في خير الأحوال وهي حالة الصلاة وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى وجوب حمل السلاح حينئذ بقوله " وليأخذوا أسلحتهم " فالتوكل لا يمنع من الإحتياط والاحتراز فإن موسى عليه السلام لما قيل له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك خرج ونبينا صلى الله عليه وسلم خرج من مكة لخوفه من المتآمرين عليه ووقاه أبو بكر رضي الله عنه بسد أثقاب الغار وأعطى القوم التحرز حقه ثم توكلوا وقال عز وجل في باب الإحتياط " لا تقصص رؤياك على إخوتك " وقال " لا تدخلوا من باب واحد " وقال " فامشوا في مناكبها " وهذا لأن الحركة للذب عن النفس إستعمال لنعمة الله تعالى وكما أن الله تعالى يريد إظهار نعمة المبدأة يريد إظهار وداعه فلا وجه لتعطيل ما أودع اعتمادا على ما جاد به لكن يجب استعمال ما عندك ثم أطلب ما عنده وقد جعل الله تعالى للطير والبهائم عدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب وخلق للآدمي عقلا يقوده إلى حمل والأسلحة ويهديه إلى التحصين بالأبنية والدروع ومن عطل نعمة الله بترك الاحتراز فقد عطل حكمته كمن يترك الأغذية والأدوية ثم يموت جوعا أو مرضا # ولا أبله ممن يدعي العقل والعلم ويستسلم للبلاء إنما ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة فمنعه عطاء في المعنى وكم زين للعجزة عجوزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة والخور حزما ومتى وضعت أسباب فاهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض فإذا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب ثم دعا وسأل فربما قيل له قد جعلنا لعافيتك سببا فإذا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا فربما(105/332)
لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب وما هذا إلى بمثابة من بين قراحة وماء الساقية رفسه بمسحاة فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعا ولا عقلا # قال المصنف رحمه الله فان قال قائل كيف أحترز مع القدر قيل له وكيف لا تحترز مع الأوامر من المقدر فالذي قدر هو الذي أمر وقد قال تعالى " وخذوا حذركم " أنبأنا إسماعيل بن احمد نا عاصم بن الحسين نا ابن بشران ثنا أبو صفوان نا أبو بكر القرشي ثني شريح بن يونس نا علي بن ثابت عن خطاب بن القاسم عن أبي عثمان قال كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر قال نعم قال فألق نفسك من الجبل وقل قدر علي فقال يا لعين الله يختبر العباد وليس للعباد أن يختبروا الله تعالى $ فصل وفي معنى ما ذكرنا من تلبيسه عليهم في ترك الأسباب انه قد $ لبس على خلق كثير منهم بأن التوكل ينافي الكسب أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم احمد بن عبد الله قال سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول سمعت محمد بن المنذر يقول سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان ومن طعن على الكسب فقد طعن على السنة # أخبرنا محمد بن ناصر نا احمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول سأل رجل أبا عبد الله بن سالم وأنا أسمع أنحن مستعبدون بالكسب أم بالتوكل فقال التوكل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم والكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سن الكسب لمن ضعف عن التوكل وسقط عن درجة الكمال التي هي حاله فمن أطاق التوكل فالكسب غير مباح له بحال إلا كسب معاونه لا كسب اعتماد عليه ومن ضعف عن حال التوكل التي هي(105/333)
حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيح له طلب المعاش في الكسب لئلا يسقط عن درجة سنته حين سقط عن درجة حاله # أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم نا أبي قال سمعت محمد بن الحسين قال سمعت أبا القاسم الرازي يقول سمعت يوسف بن الحسين قال إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب فليس يجيء منه شيء # قال المصنف رحمه الله قلت هذا كلام قوم ما فهموا معنى التوكل وظنوا أنه ترك الكسب وتعطيل الجوارح عن العمل وقد بينا أن التوكل فعل القلب فلا ينافي حركة الجوارح ولو كان كل كاسب ليس بمتوكل لكان الأنبياء غير متوكلين فقد كان آدم عليه السلام حراثا ونوح وزكريا نجارين وإدريس خياطا وابراهيم ولوط زراعين وصالح تاجرا وكان سليمان يعمل الخوص وداود يصنع الدرع ويأكل من ثمنه وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة صلوات الله عليهم أجمعين وقال نبينا صلى الله عليه وسلم كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط فلما أغناه الله عز وجل بما فرض له من الفيء لم يحتج إلى الكسب وقد كان أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة رضوان الله تعالى عليهم بزازين وكذلك محمد بن سيرين وميمون بن مهران بزازين وكان الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وعامر بن كريز خزازين وكذلك أبو حنيفة وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل وكان عثمان بن طلحة خياطا وما زال التابعون ومن بعدهم يكتسبون ويأمرون بالكسب # أخبرنا محمد بن أبي طاهر نا أبو محمد الجوهري نا ابن حياة نا أبو الحسن ابن معروف نا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا مسلم بن ابراهيم نا هشام الدستوائي قال حدثنا عطاء بن السائب قال لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا أين تريد فقال السوق قالا تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين قال فمن أين أطعم عيالي قال ابن سعد وأخبرنا احمد بن عبد(105/334)
الله بن يونس ثنا أبو بكر بن عياش عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال زيدوني فان لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمسمائة # قال المصنف رحمه الله قلت لو قال رجل للصوفية من أين أطعم عيالي لقالوا قد أشركت ولو سئلوا عمن يخرج إلى التجارة لقالوا ليس بمتوكل ولا موقن وكل هذا لجهلهم بمعنى التوكل واليقين ولو كان أحد يغلق عليه الباب ويتوكل لقرب أمر دعواهم لكنهم بين أمرين أما الغالب من الناس فمنهم من يسعى إلى الدنيا مستجديا ومنهم من يبعث غلامه فيدور بالزنبيل فيجمع له وإما الجلوس في الرباط في هيئة المساكين وقد علم أن الرباط لا يخلو من فتوح كما لا تخلو الدكان من أن يقصد للبيع والشراء # أخبرنا عبد الوهاب الحافظ نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو طالب العشاري نا محمد بن عبد الرحمن المخلص نا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري ثنا أبو بكر بن عبيد قال حدثت عن الهيثم بن خارجة ثنا سهل بن هشام عن إبراهيم بن أدهم قال كان سعيد بن المسيب يقول من لزم المسجد وترك الحرفة وقبل ما يأتيه فقد ألحف في السؤال # أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت جدي إسماعيل بن نجيدي يقول كان أبو تراب يقول لأصحابه من لبس منكم مرقعة فقد سأل ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل # قال المصنف رحمه الله قلت وقد كان السلف ينهون عن التعرض لهذه الأشياء ويأمرون بالكسب أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا محمد بن علي بن الفتح نا محمد بن عبد الرحمن المخلص نا عبيد الله ابن عبد الرحمن السكري نا أبو بكر بن عبيد القرشي نا عبيد بن الجعد نا المسعودي عن خوات التيمي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا معشر الفقراء أرفعوا رؤسكم فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالا على المسلمين(105/335)
أخبرنا ابن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وأبو الخير القزويني قالوا نا أبو عمر بن حياة نا محمد بن خلف ثنا أبو جعفر اليماني نا أبو الحسن المدايني عن محمد بن عاصم قال بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رأى غلاما فأعجبه سأل عنه هل له حرفة فإن قيل لا قال سقط من عيني # أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا عمر بن عبد الله النقال نا أبو الحسين بن بشران نا عثمان بن أحمد الدقاق نا حنبل ثنى أبو عبد الله نا معاذ بن هشام ثني أبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في تجر الشام منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد # أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا جعفر بن أحمد السراج نا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب نا أبي نا أحمد بن مروان المالكي نا أبو القاسم بن الختلي سألت أحمد بن حنبل وقلت ما تقول في رجل جلس في بيته أو في مسجده وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله رزقي تحت ظل رمحي وحديث الآخر في ذكر الطير تغدو خماصا فذكر أنها تغدو في طلب الرزق قال تعالى " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " وقال " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم ولنا القدوة بهم وقد ذكرنا فيما مضى عن احمد أن رجلا قال له أريد الحج على التوكل فقال له فأخرج في غير القافلة قال لا قال فعلى جراب الناس توكلت # أخبرنا ابن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا ابراهيم بن محمد بن جعفر الناجي نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر نا أبو بكر احمد بن محمد الخلال نا أبو بكر المروزي قال قلت لأبي عبد الله(105/336)
هؤلاء المتوكلة يقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل فقال هذا قول ردىء أليس قد قال الله تعالى " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " ثم قال إذا قال لا أعمل وجيء إليه بشيء قد عمل وأكتسب لأي شيء يقبله من غيره قال الخلال وأخبرنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عن قوم يقولون نتوكل على الله ولا نكتسب فقال ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب هذا قول انسان أحمق # قال الخلال وأخبرني محمد بن علي قال ثنا صالح انه سأل أباه يعني أحمد ابن حنبل عن التوكل فقال التوكل حسن ولكن ينبغي أن يكتسب ويعمل حتى يغني نفسه وعياله ولا يترك العمل قال وسئل أبي وأنا شاهد عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال هؤلاء مبتدعون # قال الخلال وأخبرنا المروزي انه قال لأبي عبد الله أن ابن عيينة كان يقول هم مبتدعة فقال أبو عبد الله هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا وقال الخلال وأخبرنا المروزي قال سألت أبا عبد الله عن رجل جلس في بيته وقال اجلس واصبر واقعد في البيت ولا أطلع على ذلك أحدا فقال لو خرج فاحترف كان أحب إلي فاذا جلس خفت أن يخرجه جلوسه الى غير هذا قلت الى أي شيء يخرجه قال يخرجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسل اليه قال الخلال وحدثنا أبو بكر المروزي قال سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل اني في كفاية قال إلزم السوق تصل به الرحم وتعود به على عيالك وقال لرجل آخر إعمل وتصدق بالفضل على قرابتك وقال احمد بن حنبل قد أمرتهم يعني أولاده أن يختلفوا إلى السوق وأن يتعرضوا للتجارة # قال الخلال وأخبرني محمد بن الحسين أن الفضل بن محمد بن زياد حدثهم قال سمعت أبا عبد الله يأمر بالسوق ويقول ما أحسن الاستغناء عن الناس وقال الخلال وأخبرني يعقوب بن يوسف المطوعي قال سمعت أبا بكر بن جناد يقول الجصاصي قال سمعت احمد بن حنبل يقول أحب الدراهم إلي درهم من تجارة وأكرهها عندي الذي(105/337)
من صلة الإخوان
# قال المصنف رحمه الله قلت وكان ابراهيم بن أدهم يحصد وسلمان الخواص يلقط وحذيفة المرعشي يضرب اللبن وقال ابن عقيل التسبب لا يقدح في التوكل لأن تعاطى رتبة ترقى على رتبة الأنبياء نقص في الدين ولما قيل لموسى عليه السلام إن الملأ يأتمرون بكليقتلوك خرج ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين وقال الله تعالى " فامشوا في مناكبها " وهذا لأن الحركة استعمال بنعمة الله وهي القوى فاستعمل ما عندك ثم أطلب ما عنده وقد يطلب الإنسان من ربه وينسى ما له عنده من الذخائر فاذا تأخر عنه ما يطلبه يسخط فترى بعضهم يملك عقارا وأثاثا فاذا ضاق به القوت واجتمع عليه دين فقيل له لو بعت عقارك قال كيف أفرط في عقاري وأسقط جاهي عند الناس وإنما يفعل هذه الحماقات العادات وإنما قعد أقوام عن الكسب استثقالا له فكانوا بين أمرين قبيحين إما تضييع العيال فتركوا الفرائض أو التزين باسم انه متوكل فيحن عليهم المكتسبون فضيقوا على عيالهم لأجلهم وأعطوهم وهذه الرذيلة لم تدخل قط إلا على دنيء النفس الرذيلة وإلا فالرجل كل الرجل من لم يضيع جوهرة الذي أودعه الله إيثارا للكسل أو لإسم يتزين به بين الجهال فان الله تعالى قد يحرم الانسان المال ويرزقه جوهرا يتسبب به إلى تحصيل الدنيا بقبول الناس عليه $ فصل وقد تشبث القاعدون عن التكسب بتعللات قبيحة منا أنهم قالوا لا $ بد من أن يصل الينا رزقنا وهذا في غاية القبح فان الإنسان لو ترك الطاعة وقال لا أقدر بطاعتي أن أغير ما قضى الله علي فان كنت من أهل الجنة فانا إلى الجنة أو(105/338)
من أهل النار فأنا من أهل النار قلنا له هذا يرد الأوامر كلها ولو صح لأحد ذلك لم يخرج آدم من الجنة لأنه كان يقول ما فعلت إلا ما قضى علي ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر ومنها أنهم يقولون أين الحلال حتى نطلب وهذا قول جاهل لأن الحلال لا ينقطع أبدا لقوله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين ومعلوم أن الحلال ما أذن الشرع في تناوله وإنما قولهم هذا احتجاج للكسل ومنها أنهم قالوا إذا كسبنا أعنا الظلمة والعصاة مثل ما أخبرنا به عمر بن ظفر نا جعفر بن احمد نا عبد العزيز بن علي نا ابن جهضم نا علي بن محمد السيرواني قال سمعت ابراهيم الخواص يقول طلبت الحلال في كل شيء حتى طلبته في صيد السمك فأخذت قصبة وجعلت فيها شعرا وجلست على الماء فألقيت الشص فخرجت سمكة فطرحتها على الأرض وألقيت الثانية فخرجت لي سمكة فأنا اطرحها ثالثة اذا من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي ولا رأيت أحدا وسمعت قائلا يقول أنت لم تصب رزقا في شيء إلا أن تعمد إلى من يذكرنا فتقتله قال فقطعت الشعر وكسرت القصبة وانصرفت # أنبأنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري ثنا أبي قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول سمعت أبا عثمان بن الآدمي قال سمعت ابراهيم الخواص يقول طلبت فقصدت الخ ما تقدم # قال المصنف رحمه الله قلت وهذه القصة ان صحت فان في الروايتين بعض من يتهم فان اللاطم إبليس وهو الذي هتف به لأن الله تعال أباح الصيد فلا يعاقب على ما أباحه وكيف يقال له تعمد الى من يذكرنا فتقتله وهو الذي أباح له قتله وكسب الحلال ممدوح ولو تركنا الصيد وذبح الأنعام لأنها تذكر الله تعالى لم يكن لنا ما يقيم قوى الأبدان لأنه لا يقيمها إلا اللحم فالتحري من أخذ السمك وذبح الحيوان مذهب البراهمة فانظر إلى الجهل ما يصنع وإلى إبليس كيف يفعل أخبرنا أبو منصور القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت نا عبد العزيز بن(105/339)
علي الأزجي ثنا علي بن عبد الله الهمداني ثنا محمد بن جعفر ثنا احمد بن عبد الله بن عبد الملك قال سمعت شيخا يكنى أبا تراب يقول قيل لفتح الموصلي أنت صياد بالشبكة ولم تصد شيئا إلا وتطعمه لعيالك فلم تصد وتبيع ذلك الناس فقال أخاف أن أصطاد مطيعا لله تعالى في جوف الماء فأطعمه عاصيا لله على وجه الأرض # قال المصنف رحمه الله قلت أن صحت هذه الحكاية عن فتح الموصلي فهو من التعلل البارد المخالف للشرع والعقل لأن الله تعال أباح الكسب وندب اليه فإذا قال قائل ربما خبزت خبزا فأكله عاص كان حديثا فارغا لأنه لا يجوز لنا إذا أن نبيع الخبز لليهود والنصارى $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك التداوي $ # قال المصنف رحمه الله لا يختلف العلماء أن التداوي مباح وإنما رأى بعضهم أن العزيمة تركه وقد ذكرنا كلام الناس في هذا وبينا بما اخترناه في كتابنا لقط المنافع في الطب والمقصود ههنا انا نقول إذا ثبت أن التداوي مباح بالإجماع مندوب اليه عند بعض العلماء فلا يلتفت إلى قول قوم قد رأوا أن التداوي خارج من التوكل لأن الإجماع على انه لا يخرج من التوكل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه تداوى وأمر بالتداوي ولم يخرج بذلك من التوكل ولا أخرج من أمره أن يتداوى من التوكل # وفي الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص إذا أشتكى المحرم عينه أن يضمدها بالصبر قال ابن جرير الطبري وفي هذا الحديث دليل على فساد ما يقوله ذوو الغباوة من أهل التصوف والعباد من أن التوكل لا يصح لأحد عالج علة به في جسده بدواء إذ ذاك عندهم طلب العافية من غير من بيده العافية والضر والنفع وفي إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم علاج عينه بالصبر لدفع المكروه أدل دليل على أن معنى التوكل غير ما قاله الذين ذكرنا قولهم وان ذلك غير مخرج فاعله من الرضا بقضاء الله كما أن من عرض له كلب الجوع لا يخرجه فزعه إلى الغذاء من(105/340)
التوكل والرضا بالقضاء لأن الله
تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء إلا الموت وجعل أسبابا لدفع الادواء كما جعل الأكل سببا لدفع الجوع وقد كان قادرا أن يحيى خلقه بغير هذا ولكنه خلقهم ذوي حاجة فلا يندفع عنهم أذى الجوع إلا بما جعل سببا لدفعه عنهم فكذا الداء العارض والله الهادي $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة $ # قال المصنف كان خيار السلف يؤثرون الوحدة والعزلة عن الناس اشتغالا بالعلم والتعبد إلا أن عزلة القوم لم تقطعهم عن جمعة ولا جماعة ولا عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا قيام بحق وإنما هي عزلة عن الشر وأهله مخالطة البطالين وقد لبس إبليس على جماعة من المتصوفة فمنهم من أعتزل في جبل كالرهبان يبيت وحده ويصبح وحده ففاتته الجمعة وصلاة الجماعة ومخالطة أهل العلم وعمومهم اعتزل في الأربطة ففاتهم السعي إلى المساجد وتوطنوا على فراش الراحة وتركوا الكسب # وقد قال أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء مقصودة الرياضة تفريغ القلب وليس ذلك إلا بخلوة في مكان مظلم وقال فان لم يكن مكان مظلم فيلف رأسه في جبته أو يتدثر بكساء أو أزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال حضرة الربوبية # قال المصنف رحمه الله قلت أنظر إلى هذه الترتيبات والعجب كيف تصدر من فقيه عالم ومن أين له أن الذي يسمعه نداء الحق وأن الذي يشاهده جلال الربوبية وما يؤمنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات الفاسدة وهذا الظاهر ممن يستعمل التقلل في المطعم فإنه يغلب عليه الماليخوليا # وقد يسلم الإنسان في مثل هذه الحالة من الوساوس إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء لأن في الدماغ ثلاث قوى قوة يكون بها التخيل وقوة يكون بها الفكرة وقوة يكون بها الذكر وموضع التخيل البطنان(105/341)
المقدمان من بطون الدماغ وموضع التفكر البطن الأوسط من بطون الدماغ وموضع الحفظ الموضع المؤخر فإن أطرق الإنسان وغمض عينيه جال الفكر والتخيل فيرى خيالات فيظنها ما ذكر من حضرة جلال الربوبية إلى غير ذلك نعوذ بالله من هذه الوساوس والخيالات الفاسدة # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا رزق الله بن عبد الوهاب نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا بكر البجلي يقول سمعت أبا عثمان بن الآدمي قال كان أبو عبيد التستري إذا كان أول يوم من شهر رمضان يدخل البيت ويقول لامرأته طيني باب البيت وألق إلي كل ليلة من الكوة رغيفا فإذا كان يوم العيد دخلت فوجدت ثلاثين رغيفا في الزاوية ولا أكل ولا شرب ولا يتهيأ لصلاة ويبقى على طهر واحد إلى آخر الشهر # قال المصنف رحمه الله هذه الحكاية عندي بعيدة عن الصحة من وجهين أحدها بقاء الآدمي شهرا لا يحدث بنوم ولا بول ولا غائط ولا ريح والثاني ترك المسلم صلاة الجمعة والجماعة وهي واجبة لا يحل تركها فإن صحت هذه الحكاية فما أبقى إبليس لهذا في التلبيس بقية قال أنبأنا زاهر بن طاهر نا احمد بن الحسين البيهقي ثنا الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وسمعت أبا الحسن البوشنجي الصوفي غير مرة يعاتب في ترك الجمعة والجماعة والتخلف عنها فيقول ان كانت البركة في الجماعة فإن السلامة في العزلة النهي عن الإنفراد # وقد جاء النهي عن الإنفراد الموجب للبعد عن العلم والجهاد للعدو أخبرنا ابن الحصين نا أبو علي بن المذهب نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن احمد قال حدثني أبي ثنا أبو المغيرة ثنا معان بن رفاعة ثني علي بن زيد عن القاسم عن أبي امامة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه وفيه شيء من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن(105/342)
أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال
يا نبي الله اني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى عن الدنيا قال فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم اني لن أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في التخشع ومطأطأة الرأس وإقامة الناموس $ # قال المصنف رحمه الله إذا سكن الخوف القلب أوجب خشوع الظاهر ولا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كانوا يجتهدون في ستر ما يظهر منهم من ذلك وكان محمد بن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل ولسنا نأمر العالم بالانبساط بين العوام فإن ذلك يؤذيهم فقد روي عن علي رضي الله عنه إذا ذكرتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك فتمجه القلوب ومثل هذا لا يسمى رياء لأن قلوب العوام تضيق عن التأويل للعالم اذا تفسح في المباح فينبغي أن يتلقاهم بالصمت والأدب وإنما المذموم تكلف التخشع والتباكي ومطأطأة الرأس ليرى الإنسان بعين الزهد والتهيؤ للمصافحة وتقبيل اليد وربما قيل له ادع لنا فيتهيأ للدعاء كأنه يستنزل الإجابة وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي أنه قيل له ادع لنا فكره ذلك واشتد عليه # وقد كان من الخائفين من حملة الخوف على شدة الذل والحياء فلم يرفع رأسه إلى السماء وليس هذا بفضيلة لأنه لا خشوع فوق خشوع رسول الله صلى الله عليه وسلم # وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء وفي هذا الحديث دليل على استحباب النظر إلى السماء لأجل الاعتبار بآياتها وقد قال الله تعالى أولم يروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وقال قل انظروا ماذا في السموات والأرض وفي هذا رد على المتصوفين فإن أحدهم يبقى سنين لا ينظر إلى السماء وقد ضم هؤلاء الى ابتداعهم(105/343)
الرمز إلى التشبيه ولو علموا أن اطراقهم كرفعهم في باب الحياء من الله
تعالى لم يفعلوا ذلك غير أن ما شغل إبليس إلا التلاعب بالجهلة فأما العلماء فهو بعيد عنهم شديد الخوف منهم لأنهم يعرفون جميع أمره ويحترزون من فنون مكره # أخبرنا محمد بن ناصر وعمر بن ظفر قالا أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاني نا القاضي أبو العلاء الواسطي نا أبو نصر احمد بن محمد نا أبو الخير احمد بن محمد البزاز ثنا البخاري ثنا إسحاق ثنا محمد بن المفضل ثنا الوليد بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد احد منهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ثنا جعفر بن احمد نا عبد العزيز الحسن بن إسماعيل الضراب نا أبي ثنا احمد بن مروان ثنا إبراهيم الحربي ثنا محمد بن الحارث عن المدايني عن محمد بن عبد الله القرشي عن أبيه قال نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق # أخبرنا عبد الوهاب نا المبارك بن عبد الجبار نا علي بن احمد الملطي ثنا احمد بن محمد بن يوسف ثنا ابن صفوان نا أبو بكر القرشي ثنى يعقوب بن إسماعيل قال قال عبد الله أخبرنا المعتمر عن كهمس بن الحسين أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه # أخبرنا محمد بن ناصر نا جعفر بن احمد نا الحسن بن علي التميمي نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن احمد ثنى أبي ثنا أسود بن عامر نا أبو بكر عن عاصم بن كليب الجرمي قال لقى أبي عبد الرحمن بن الأسود وهو يمشي وكان إذا مشى يمشي جنب الحائط متخشعا هكذا وأمال أبو بكر عنقه شيئا فقال أبي مالك إذا مشيت مشيت إلى جنب الحائط أما والله ان(105/344)
عمر إذا مشى لشديد الوطء على الأرض جهوري الصوت
# أخبرنا محمد بن أبي طاهر نا أبو محمد الجوهري نا ابن حياة نا أبو الحسن ابن معروف ثنا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد يرفعه إلى سليمان بن أبي خيثمة عن أبيه قال قالت الشفا بنت عبد الله ورأت فتيانا يقصرون في المشي ويتكلمون رويدا فقالت ما هذا قالوا نساك قالت كان والله عمر إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وهو الناسك حقا # قال المصنف رحمه الله قلت وقد كان السلف يسترون أحوالهم ويتصنعون بترك التصنع وقد ذكرنا عن أيوب السختياني أنه كان في ثوبه بعض الطول ليستر حاله وكان سفيان الثوري يقول لا أعتد بما ظهر من عملي وقال لصاحب له ورآه يصلي ما أجرأك تصلي والناس يرونك قال حدثنا محمد بن ناصر ثنا عبد القادر بن يوسف نا ابن المذهب نا القطيعي ثنا عبد الله بن احمد ثنا أبو عبد الله يعني السلمي ثنا بقية عن محمد بن زياد قال مر أبو أمامة برجل ساجد فقال يا لها من سجدة لو كانت في بيتك # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت نا الجوهري ثنا محمد بن العباس ثنا محمد بن القاسم الأنباري ثنا الحارث بن محمد ثنا يحيى بن أيوب ثنا شعيب بن حرب ثنا الحسين بن عمار قال رجل في مجلس الحسن بن عمارة آه قال فجعل يتبصره ويقول من هذا حتى ظننا أنه لو عرفه أمر به # أخبرنا اسماعيل بن احمد المقري نا احمد بن احمد الحداد ثناأبو نعيم الحافظ نا أبو عبد الله محمد بن جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ثنا أبو حاتم ثنا حرملة قال سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول # ودع الذين اذا أتوك تنسكوا % واذا خلوا فهم ذئاب خفاف # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا احمد بن علي بن ثابت نا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ نا جعفر بن محمد الواسطي نا الحسين بن عبد الله الابزاري قال سمعت ابراهيم بن سعيد يقول كنت واقفا على رأس المأمون فقال لي يا ابراهيم قلت لبيك قال عشرة من أعمال البر لا يصعد الى(105/345)
الله والله لا يقبل منها شيء قلت ما هي يا أمير المؤمنين فقال بكاء ابراهيم على المنبر
وخشوع عبد الرحمن بن اسحاق وتقشف ابن سماعة وصلاة خيعويه بالليل وصلاة عباس الضحى وصيام ابن السندي الاثنين والخميس وحديث أبي رجاء وقصص الحاجبي وصدقة حفصويه وكتاب الشامي ليعلى بن قريش $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك النكاح $ # قال المصنف النكاح مع خوف العنت واجب ومن غير خوف العنت سنة مؤكدة عند جمهور الفقهاء ومذهب أبي حنيفة واحمد ابن حنبل انه حينئذ أفضل من جميع النوافل لأنه سبب في وجود الولد قال عليه الصلاة والسلام تناكحوا تناسلوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني أخبرنا محمد بن أبي طاهر نا الجوهري نا أبو عمر بن حياة نا احمد بن معروف ثنا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا سليمان بن داود الطيالسي نا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال لقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له في ذلك لاختصينا # قال ابن سعد وأخبرنا ابن عفان نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبروهم فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام الليل على فراش وقال بعضهم أصوم ولا أفطر فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه ثم قال ما بال أقوم قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني # قال ابن سعد وأخبرنا سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن عطاء بن السايب عن سعيد بن عبيد قال قال ابن عباس رضي الله عنه إن خير هذه الأمة كان أكثرها نساء قال ابن سعد وأخبرنا احمد بن عبد الله بن قيس ثنا ميذل عن أبي(105/346)
رجاء الجزري عن عثمان بن خالد بن محمد بن مسلم قال قال شداد بن أوس زوجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله عزبا # وأخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثنى أبي ثنا عبد الرزاق نا محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي ذر قال دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له عكاف بن بشر التميمي الهلالي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عكاف هل لك من زوجة قال لا قال ولا جارية قال لا قال وأنت موسر بخير قال وأنا موسر قال أنت إذا من إخوان الشياطين لو كنت من النصارى لكنت من رهبانهم إن سنتنا النكاح شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم فما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من ترك النساء أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر نا عبد الله بن احمد بن حنبل ثني أبي ثني أيوب بن النجار عن طيب بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال والمتبتلين من الرجال الذين يقولون لا نتزوج والمتبتلات من النساء اللاتي يقلن ذلك أخبرنا محمد بن ناصر نا عبد القادر بن محمد قال نا أبو بكر الخياط نا أبو الفتح بن أبي الفوارس نا احمد بن جعفر الجيلي ثنا احمد بن محمد بن عبد الخالق ثنا أبو بكر المروزي قال سمعت أبا عبد الله احمد بن حنبل يقول ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع ثم قال لو كان بشر بن الحارث تزوج كان قد تم أمره كله لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا ولم يكن كذا وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عندهم شيء وكان يختار النكاح ويحث عليه وينهى عن التبتل فمن رغب عن فعل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق # ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له والنبي(105/347)
عليه الصلاة والسلام قال حبب إلي النساء قلت فإن ابراهيم بن آدم يحكى عنه بأنه قال لروعة صاحب عيال فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال وقعنا في بنيات الطريق أنظر عافاك الله ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال
لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه خبزا أفضل من كذا وكذا انى يلحق المتعبد المتعزب المتزوج نقد مسالك الصوفية في تركهم النكاح # وقد لبس إبليس على كثير من الصوفية فمنعهم من النكاح فقدماؤهم تركوا ذلك تشاغلا بالتعبد ورأوا النكاح شاغلا عن طاعة الله عز وجل وهؤلاء وإن كانت بهم حاجة إلى النكاح أو بهم نوع تشوق اليه فقد خاطروا بأبدانهم وأديانهم وان لم يكن بهم حاجة اليه فأتتهم الفضيلة # وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر قالوا نعم قال وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ثم قال أفتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير ومنهم من قال النكاح يوجب النفقة والكسب صعب وهذه حجة للترفه عن تعب الكسب # وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار أنفقته في الصدقة ودينار أنفقته على عيالك أفضلها الدينار الذي أنفقته على عيالك ومنهم من قال النكاح يوجب الميل إلى الدنيا فروينا عن أبي سليمان الداراني انه قال اذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا كله مخالف للشرع وكيف لا يطلب الحديث والملائكة تضع أجنحتها لطلب العلم وكيف لا يطلب المعاش وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن أموت من سعي على رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا في سبيل الله وكيف لا يتزوج وصاحب الشرع يقول تناكحوا(105/348)
تناسلوا فما أرى هذه الأوضاع الا على خلاف
الشرع فأما جماعة من متأخري الصوفية فانهم تركوا النكاح ليقال زاهد والعوام تعظم الصوفي اذا لم تكن له زوجة فيقولون ما عرف امرأة قط فهذه رهبانية تخالف شرعنا # قال أبو حامد ينبغي أن لا يشغل المريد نفسه بالتزويج فانه يشغله عن السلوك ويأنس بالزوجة ومن أنس بغير الله شغل عن الله تعالى # قال المصنف رحمه الله وإني لأعجب من كلامه أتراه ما علم أن من قصد عفاف نفسه ووجود ولد أو عفاف زوجته فانه لم يخرج عن جادة السلوك أو يرى الأنس الطبيعي بالزوجة ينافي أنس القلوب بطاعة الله تعالى والله تعالى قد من على الخلق بقوله وجعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة وفي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك وما كان بالذي ليدله على ما يقطع أنسه بالله تعالى أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ينبسط إلى نسائه ويسابق عائشة رضي اله عنها أكان خارجا عن الأنس بالله هذه كلها جهالات بالعلم محاذير ترك النكاح # واعلم انه اذا دام ترك النكاح على شبان الصوفية أخرجهم إلى ثلاثة أنواع النوع الأول المرض بحبس الماء فان المرء إذا طال احتقانه تصاعد إلى الدماغ منه منيه قال أبو بكر محمد بن زكريا الرازي أعرف قوما كانوا كثيري المنى فلما منعوا أنفسهم من الجماع لضرب من التفلسف بردت أبدانهم وعسرت(105/349)
حركاتهم ووقعت عليهم الكآبة بلا سبب وعرضت لهم أعراض الماليخوليا وقلت شهواتهم وهضمهم قال ورأيت رجلا ترك الجماع ففقد شهوة الطعام وصار أن أكل القليل لم يستمره وتقايأه فلما عاد إلى عادته من الجماع سكنت عنه هذه الأعراض سريعا # النوع الثاني الفرار إلى المتروك فان منهم خلقا كثيرا صابروا على ترك الجماع فاجتمع الماء فأقلقوا جعوا فلامسوا النساء ولابسوا من الدنيا أضعاف ما فروا منه فكانوا كمن أطال الجوع ثم أكل ما ترك في زمن الصبر النوع الثالث الإنحراف إلى صحبة الصبيان فان قوما منهم أيسوا أنفسهم من النكاح فأقلقهم ما اجتمع عندهم فصاروا يرتاحون إلى صحبة المرد $ فصل وقد لبس على قوم منهم تزوجوا وقالوا انا لا ننكح شهوة فان $ أرادوا أن الأغلب في طلب النكاح إرادة السنة جاز وان زعموا انه لا شهوة لهم في نفس النكاح فمحال ظاهر $ فصل وقد حمل الجهل أقواما فجبوا أنفسهم وزعموا انهم فعلوا ذلك حياء $ من الله تعالى وهذه غاية الحماقة لأن الله تعالى شرف الذكر على الأنثى بهذه الآلة وخلفها لتكون سببا للتناسل والذي يجب نفسه يقول بلسان الحال الصواب ضد هذا ثم قطعهم الآلة لا تزيل شهوة النكاح من النفس فما حصل لهم مقصودهم $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك طلب الأولاد $ # أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن احمد نا أبو نعيم احمد بن عبد الله ثنا إسحاق بن احمد ثنا ابراهيم بن يوسف ثنا احمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول الذي يريد الولد أحمق لا(105/350)
للدنيا ولا للآخرة ان أراد أن يأكل أو ينام أو يجامع نغص عليه وان أراد أن يتعبد شغله # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا غلط عظيم وبيانه انه لما كان مراد الله تعالى من إيجاد الدنيا إتصال دوامها إلى ان ينقضي أجلها وكان الآدمي غير ممتد البقاء فيها إلا إلى أمد يسير أخلف الله تعالى منه مثله فحثه على سببه في ذلك تارة من حيث الطبع بايقاد نار الشهوة وتارة من باب الشرع بقوله تعالى " وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم تناكحوا تناسلوا فاني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط وقد طلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأولاد فقال تعالى حكاية عنهم " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " " رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي " إلى غير ذلك من الآيات وتسبب الصالحون إلى وجودهم ورب جماع حدث منه ولد مثل الشافعي واحمد بن حنبل فكان خيرا من عبادة ألف سنة وقد جاءت الأخبار بإثابة المباضعة والإنفاق على الأولاد والعيال ومن يموت له ولد ومن يخلف ولدا بعده فمن أعرض عن طلب الأولاد والتزوج فقد خالف المسنون والأفضل وحرم أجرا جسيما ومن فعل ذلك فإنما يطلب الراحة أخبرنا عمر بن ظفر نا جعفر بن احمد بن السراج نا أبو القاسم الأزجي ثنا ابن جهضم ثنا الخلدي قال سمعت الجنيد يقول الأولاد عقوبة شهوة الحلال فما ظنكم بعقوبة شهوة الحرام # قال المصنف رحمه الله وهذا غلط فان تسمية المباح عقوبة لا يحسن لأنه لا يباح شيء ثم يكون ما تجدد منه عقوبة ولا يندب إلى شيء إلا وحاصله مثوبة(105/351)
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الأسفار والسياحة # قد لبس إبليس على خلق كثير منهم فأخرجهم إلى السياحة لا إلى مكان معروف ولا إلى طلب علم وأكثرهم يخرج على الوحدة ولا يستصحب زادا ويدعي بذلك الفعل التوكل فكم تفوته من فضيلة وفريضة وهو يرى أنه في ذلك على طاعة وأنه يقرب بذلك من الولاية وهو من العصاة المخالفين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم # وأما السياحة والخروج لا إلى مكان مقصود فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي في الأرض في غير أرب حاجة أخبرنا محمد بن ناصر نا المبارك بن عبد الجبار نا إبراهيم بن عمر البرمكي نا ابن حياة نا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري قال سمعت أبا محمد بن قتيبة يقول ثني محمد بن عبيد عن معاوية عن عمرو عن أبي إسحاق عن سفيان عن ابن جريج عن مسلم عن طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام قال ابن قتيبة الزمام في الأنف والخزام حلقة من شعر يجعل في أحد جانبي المنخرين وأراد صلى الله عليه وسلم ما كان عباد بني إسرائيل يفعلونه من خزم التراقي وزم الأنوف والتبتل وترك النكاح والسياحة مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض # وروى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله إئذن لي في السياحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله # قال المصنف رحمه الله وقد ذكرنا فيما تقدم من حديث ابن مظعون إنه قال يا رسول الله إن نفسي تحدثني بأن أسيح في الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم له مهلا يا عثمان فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هانىء عن احمد بن حنبل انه سئل عن الرجل(105/352)
يسيح يتعبد أحب اليك أو المقيم في الأمصار قال ما السياحة من الأسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين نقد مالك الصوفية في السياحة # وأما الخروج على الوحدة فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد نا احمد بن علي بن ثابت نا محمد بن الطيب الصباغ نا احمد بن سليمان النجاد ثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب ثنا علي بن عاصم ثنا عبد الرحمن بن يزيد ثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الراكب شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي ثنا أيوب بن النجار عن طيب بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم راكب الفلاة وحده المشي في الليل # وقد يمشون بالليل أيضا على الوحدة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا احمد بن جعفر ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي ثنا محمد بن عبيد ثنا عاصم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في الوحدة ما سار أحد وحده بليل أبدا قال عبد الله وحدثني أبي ثنا محمد بن أبي عدي ثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلو الخروج إذا هدأت الرجل فإن الله تعالى يبث في خلقه ما شاء # قال المصنف رحمه الله وفيهم من جعل دأبة السفر والسفر لا يراد لنفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم السفر قطعة من العذاب فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله فمن جعل دأبة السفر فقد جمع بين تضييع العمر(105/353)
وتعذيب النفس وكلاهما مقصود فاسد أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم ثنا أبي قال سمعت محمد بن أبي الطيب العكي يقول سمعت أبا الحسن المصري يقول سمعت أبا حمزة الخراساني يقول كنت قد بقيت محرما في عباء أسافر كل سنة الف فرسخ تطلع الشمس علي وتغرب كلما أحللت أحرمت $ ذكر تلبيسه عليهم في دخول الفلاة بغير زاد $ # قال المصنف رحمه الله قد لبس على خلق كثير منهم فأوهمهم أن التوكل ترك الزاد وقد بينا فساد هذا فيما تقدم إلا أنه قد شاع هذا في جهلة القوم وجاء حمقى القصاص يحكون ذلك عنهم على سبيل المدح لهم به فيتضمن ذلك تحريض الناس على مثل ذلك وبأفعال أولئك ومدح هؤلاء لهؤلاء فسدت الأحوال وخفيت على العوام طرق الصواب والاخبار عنهم بذلك كثيرة وأنا أذكر منها نبذة # أنبأنا محمد بن عبد الملك نا أبو بكر نا رضوان بن محمد الدينوري ثنا طاهر بن عبد الله ثنا الفضل بن الفضل الكندي ثنى أبو بكر محمد بن عبد الواحد بن جعفر الواسطي ثنا محمد بن السفاح عن علي بن سهل المصري قال أخبرني فتح الموصلي قال خرجت حاجا فلما توسطت البادية إذا أنا بغلام صغير فقلت يا عجبا بادية بيداء وأرض قفراء وغلام صغير فأسرعت فلحقته فسلمت عليه ثم قلت يا بني إنك غلام صغير لم تجر عليك الأحكام قال يا عم قد مات من كان أصغر سنا مني فقلت وسع خطاك فإن الطرق بعيد حتى تلحقالمنزل فقال يا عمر علي المشي وعلى الله البلاغ أما قرأت قوله تعالى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " فقلت له مالي لا أرى معك لا زادا ولا راحلة فقال يا عم زادي يقيني وراحلتي رجائي قلت سألتك عن الخبز(105/354)
والماء قال يا عم أخبرني لو أن أخا من إخوانك أو صديقا من أصدقائك دعاك إلى منزله أكنت تستحسن أن تحمل معك طعاما فتأكله في منزله فقلت أزودك فقال اليك عني يا بطال هو يطعمنا ويسقينا قال فتح فما رأيت صغيرا أشد توكلا منه ولا رأيت كبيرا أشد زهدا منه # قال المصنف رحمه الله بمثل هذه الحكاية تفسد الأمور ويظن أن هذا هو الصواب ويقول الكبير إذا كان الصغير فقد فعل هذا فأنا أحق بفعله منه وليس العجب من الصبي بل من الذي لقيه كيف لم يعرفه أن هذا الذي يفعله منكر وان الذي استدعاك أمرك بالتزود من ماله يتزود ولكن مضى على هذا كبار القوم فكيف الصغار أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر احمد بن علي الحافظ نا أبو نعيم الأصفهاني قال سمعت محمد بن الحسن بن علي اليعيظي يقول حضرت أبا عبد الله الجلاء وقيل له عن هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا زاد ولا عدة يزعمون أنهم متوكلون فيموتون في البراري فقال هذا فعل رجال الحق فإن ماتوا فالدية على القاتل أخبرنا ابن ناصر أنبأنا احمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت احمد بن علي يقول قال رجل لأبي عبد الله بن الجلاء ما تقول في الرجل يدخل البادية بلا زاد قال هذا من فعل رجال الله قال فإن مات قال الدية على القاتل # قال المصنف رحمه الله قلت هذه فتوى جاهل بحكم الشرع إذ لا خلاف بين فقهاء الإسلام انه لا يجوز دخول البادية بغير زاد وإن من فعل ذلك فمات بالجوع فانه عاص لله تعالى مستحق لدخول النار وكذلك إذا تعرض بما غالبه العطب فإن الله جعل النفوس وديعة عندنا فقال " ولا تقتلوا أنفسكم " وقد تكلمنا فيما تقدم في وجوب الإحتراز من المؤذي ولو لم يكن المسافر بغير زاد إلا أنه خالف أمر الله في قوله " وتزودوا " # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت أبا احمد الكبير يقول سمعت أبا عبد الله بن خفيف قال خرجت من شيراز في(105/355)
السفرة الثالثة فتهت في البادية وحدي وأصابني من الجوع والعطش ما
أسقط من أسناني ثمانية وانتثر شعري كله # قال المصنف رحمه الله قلت هذا قد حكى عن نفسه ما ظاهره طلب المدح على ما فعل والذم لا حق به أخبرنا أبو منصور القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت نا عبد الكريم بن هوازن قال سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت محمد بن عبد الله الواعظ # وأخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا أبو عبد الله بن باكويه واللفظ له ثنا أبو الفضل يوسف بن علي البلخي ثنا محمد بن عبد الله أبو حمزة الصوفي قال اني لا أستحي من الله أن أدخل البادية وأنا شعبان وقد اعتقدت التوكل لئلا يكون شبعي زادا تزودته # قال المصنف رحمه الله قلت وقد سبق الكلام على مثل هذا وإن هؤلاء القوم ظنوا أن التوكل ترك الأسباب ولو كان هكذا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزود لما خرج إلى الغار قد خرج من التوكل وكذلك موسى لما طلب الخضر تزود حوتا وأهل الكهف حين خرجوا فاستصحبوا دراهم واستخفوا ما معهم وإنما خفي على هؤلاء معنى التوكل لجهلهم وقد أعتذر لهم أبو حامد فقال لا يجوز دخول المفازة بغير زاد إلا بشرطين أحدهما أن يكون الإنسان قد راض نفسه حيث يمكنه الصبر على الطعام أسبوعا ونحوه والثاني أن يمكنه التقوت بالحشيش ولا تخلوا البادية من أن يلقاه آدمي بعد أسبوع أو ينتهي إلى حلة أو حشيش يرجى به وقته # قال المصنف رحمه الله قلت أقبح ما في هذا القول انه صدر من فقيه فإنه قد لا يلقى أحدا وقد يضل وقد يمرض فلا يصلح له الحشيش وقد يلقى من لا يطعمه ويتعرض بمن لا يضيقه وتفوته الجماعة قطعا وقد يكون ولا يلبه أحد ثم قد ذكرنا ما جاء في الوحدة ثم ما المخرج إلى هذه المحن إن كان يعتمد فيها على عادة أو لقاء شخص والاجتزاء بحشيش وأي فضيلة في هذه الحال حتى(105/356)
يخاطر فيها بالنفس وأين أمر الإنسان أن يتقوت بحشيش ومن فعل هذا من السلف وكأن هؤلاء القوم يجزمون على الله سبحانه هل يرزقهم في البادية ومن طلب الطعام في البرية فقد طلب ما لم تجر به العادة ألا ترى أن قوم موسى عليه السلام لما سألوا من بقلها وقثائها وفولها وعدسها وبصلها أوحى الله إلى موسى ان اهبطوا مصرا وذلك لأن الذي طلبوه في الأمصار فهؤلاء القوم على غاية الخطأ في مخالفة الشرع والعقل والعمل بموافقات النفس # أخبرنا محمد بن ناصر نا المبارك بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الازجي نا إبراهيم بن محمد بن جعفر الساجي نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ثنا أبو بكر احمد بن محمد الخلال نا الحسن بن احمد الكرماني ثنا أبو بكر ثنا شبابة ثنا ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيحجون فيأتون إلى مكة فيسألون الناس فأنزل الله عز وجل " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " أخبرنا أبو المعمر الأنصاري نا يحيى بن عبد الوهاب بن منده نا أبو طاهر محمد بن احمد بن عبد الرحيم نا محمد بن حسان ثنا أبو بكر أحمد بن هارون المردنجي ثنا عبد الله بن الأزهر ثنا أسباط ثنا محمد بن موسى الجرجاني قال سألت محمد بن كثير الصنعاني عن الزهاد الذين لا يتزودون ولا ينتعلون ولا ولا يلبسون الخفاف فقال سألتني عن أولاد الشياطين ولم تسألني عن الزهاد فقلت له فأي شيء الزهد قال التمسك بالسنة والتشبيه فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم # أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا ابراهيم بن محمد الساجي نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر نا أبو بكر أحمد بن محمد الخلال نا احمد بن الحسين بن حسان أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الرجل يريد المفازة بغير زاد فأنكره إنكارا شديدا وقال أف أف لالا ومد بها صوته إلا بزاد ورفقاء وقافلة قال الخلال وقال أبو بكر(105/357)
المروزي
وجاء رجل إلى أبي عبد الله فقال رجل يريد سفرا ايما أحب اليك يحمل معه زادا أو يتوكل فقال له أبو عبد الله يحمل معه زادا ويتوكل حتى لا يتشرف للناس قال الحلال وأخبرني إبراهيم بن الخليل أن احمد بن نصر حدثهم أن رجلا سأل أبا عبد الله أيخرج الرجل إلى مكة متوكلا لا يحمل معه شيئا قال لا يعجبني فمن أين يأكل قال فيتوكل فيعطيه الناس قال فإذا لم يعطوه اليس يتشرف لهم حتى يعطوه لا يعجبني هذا لم يبلغني أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين فعل هذا قال الخلال # وأخبرنا محمد بن علي السمسار أن محمد بن موسى بن مسبس حدثهم أن أبا عبد الله سأله رجل فقال أحج بلا زاد فقال لا اعمل واحترف وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم زود أصحابه فقال فهؤلاء الذين يعرفون ويحجون بلا زادهم على الخطأ قال نعم هم على الخطأ # قال الخلال وأخبرني محمد بن احمد بن جامع الرازي قال سمعت الحسين الرازي قال شهدت احمد بن حنبل وجاءه رجل من أهل خراسان فقال له يا أبا عبد الله معي درهم أحج بهذا الدرهم فقال له احمد اذهب إلى باب الكرخ فاشتر بهذا الدرهم حبا وأحمل على رأسك حتى يصير عندك ثلثمائة درهم فحج قال يا أبا عبد الله أما ترى مكاسب الناس قال احمد لا تنظر إلى هذا فإنه من رغب في هذا يريد أن يفسد على الناس معايشهم قال يا أبا عبد الله أنا متوكل قال فتدخل البادية وحدك أو مع الناس قال لا مع الناس قال كذبت إذن لست بمتوكل فادخل وحدك وإلا فأنت متوكل على جراب الناس سياق ما جرى للصوفية في أسفارهم وسياحاتهم من الأفعال المخالفة للشرع # أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا محمد بن عبد الباقي نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد بن(105/358)
محمد بن مقسم ثني أبو بدر الخياط الصوفي قال سمعت أبا حمزة يقول سافرت سفرة على التوكل فبينما أنا أسير ذات ليلة والنوم في عيني إذ وقعت في بئر فرأيتني قد حصلت فيها فلم أقدر على الخروج لبعد مرتقاها فجلست فيها فبينما أنا جالس إذ وقف على رأس البئر رجلان فقال أحدهما لصاحبه نجوز ونترك هذه البئر في طريق المسلمين السابلة والمارة فقال الآخر فما نصنع قال فبدرت نفسي أن أناديهما فنوديت تتوكل علينا وتشكو بلاءنا إلى سوانا فسكت فمضيا ثم رجعا ومعهما شيء فجعلاه على رأسها غطوها به فقالت لي نفسي أمنت طمها ولكن حصلت فيها مسجونا # فمكثت يومي وليلتي فلما كان الغد ناداني شيء يهتف بي ولا أراه تمسك بي شديدا فمددت يدي فوقعت على شيء خشن فتمسكت به فعلاها وطرحني فوق الأرض فاذا هو سبع فلما رأيته لحق نفسي من ذلك ما يلحق من مثله فهتف بي هاتف وهو يقول يا أبا حمزة استنقذناك من البلاء بالبلاء وكفيناك ما تخاف بما تخاف أخبرنا محمد بن ناصر محمد بن أبي نصر الحميدي نا أبو بكر محمد ابن أحمد الأردستاني ثنا ابو عبد الرحمن السلمي قال سمعت محمد بن حسن المحرمي سمعت ابن المالكي يقول قال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق وقعت في بئر فنازعتني نفسي ان أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما أتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر تعال نسد رأس هذا البئر في هذا الطريق فأتوا بقصب وبارية فهمهمت فقلت إلى من هو أقرب إليك منهما وسكت حتى طموا رأس البئر فإذا بشيء قد جاء فكشف عن رأس البئر ودلي رجليه وكان يقول في همهمة له تعلق بي فتعلقت به فأخرجني فنظرت فإذا هو سبع فهتف بي هاتف وهو يقول يا أبا حمزة أليس ذا حسن نجيناك من التلف بالتلف # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت نا أبو القاسم رضوان بن محمد بن الحسن الدينوري قال سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله النيسابوري(105/359)
يقول سمعت أبا عبد الله محمد بن نعيم يحكي عن أبي حمزة الصوفي الدمشقي أنه لما خرج من البئر أنشد يقول # نهائي حيائي منك أن أكشف الهوى % فأغنيتني بالقرب منك عن الكشف # ترأيت لي بالغيب حتى كأنني % تبشرني بالغيب إنك في الكف # أراك وبي من هيبتي لك وحشة % وتؤنسني بالعطف منك باللطف # وتحيىء محبا أنت في الحب حتفه % وذا عجب كون الحياة مع الحتف # قال المصنف رحمه الله قلت اختلفوا في أبي حمزة هذا الواقع في البئر فقال أبو عبد الرحمن السلمي هو أبو حمزة هذا الواقع في البئر فقال أبو عبد الرحمن السلمي هو أبو حمزة الخراساني وكان من أقران الجنيد وقد ذكرنا في رواية أخرى أنه دمشقي # وقال أبو نعيم الحافظ هو أبو حمزة البغدادي واسمه محمد بن إبراهيم وذكره الخطيب في تاريخه وذكر له هذه الحكاية وأيهم كان فهو مخطىء في فعله مخالف للشرع بسكوته معين بصمته على نفسه وقد كان يجب عليه أن يصيح ويمنع من طم البئر كما يجب عليه أن يدفع عن نفسه من يقصد قتله وقوله لا أستغيث كقول القائل لا آكل الطعام ولا أشرب الماء وهذا جهل من فاعله ومخالفة الحكمة في وضع الدنيا فإن الله تعالى وضع الأشياء على حكمة فوضع للآدمي يدا يدافع بها ولسانا ينطق به وعقلا يهديه إلى دفع المضار واجتلاب المصالح وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميين فمن أعرض عن استعمال ما خلق له وأرشد إليه فقد رفض أمر الشرع وعطل حكمة الصانع فإن قال جاهل فكيف أحترز مع أمر القدر قلنا وكيف لا يحترز مع أمر المقدر وقد قال الله تعالى " خذوا حذركم " وقد اختفى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وقال لسراقة(105/360)
اخف عنا واستأجر دليلا إلى المدينة ولم يقل اخرج على التوكل وما زال ببدنه مع الأسباب وبقلبه مع المسبب # وقد أحكمنا هذا الأصل فيما تقدم وقول أبي حمزة فنوديت من باطني هذا من حديث النفس الجاهلة التي قد استقر عندها بالجهل أن التوكل ترك التمسك بالاسباب لأن الشرع لا يطلب من الإنسان ما نهاه عنه وهلا نافره باطنه في مديده وتعليقه بذلك المتدلي اليه وتمسكه به فإن ذلك أيضا نقض لما ادعاه من ترك الأسباب الذي يسميه التوكل لأنه أي فرق بين قوله أنا في البئر وبين تمسكه بما تدلى عليه لا بل هذا آكد لأن الفعل آكد من القول فهلا سكت حتى يحمل بلا سبب فإن قال هذا بعثه الله لي قلنا والذي جاز على البئر من بعثه واللسان المستغيث من خلقه فإنه لو استغاث كان مستعملا للأسباب التي خلقها الله تعالى لينتفع بها للدفع عنه فلم يستعملها وإنما بسكوته عطل الأسباب التي خلقها الله تعالى له ودفع الحكمة فصح لومه على ترك السبب وأما تخليصه بالأسد فإن صح هذا فقد يتفق مثله ثم لا ينكر أن الله تعالى يلطف بعبده وإنما ينكر فعله المخالف للشرع # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ثنا عبد العزيز ابن أبي الحسن قال سمعت علي بن عبد الله بن جهضم المكي يقول ثنا الخلدي قال قال الجنيد قال لي محمد السمين كنت في طريق الكوفة بقرب الصحراء التي بين قباء والصخرة التي تفريقنا منها والطريق منقطع فرأيت علي الطريق جملا قد سقط ومات وعليه سبعة أو ثمانية من السباع تتناهش لحمه يحمل بعضها على بعض فلما أن رأيتهم كأن نفسي اضطربت وكانوا على قارعة الطريق فقالت لي نفسي تميل يمينا أو شمالا فأبيت عليها الا أن آخذ على قارعة الطريق فحملتها على أن مشيت حتى وقفت عليهم بالقرب منهم كأحدهم ثم رجعت إلى نفسي لأنظر كيف فإذا هي الروع معي قائم فأبيت أن أبرح وهذه صفتي فقعدت بينهم ثم نظرت بعد قعودي فإذا الروع معي فأبيت أن(105/361)
أبرح وهذه صفتي فوضعت جنبي فنمت مضطجعا فتغاشاني النوم فنمت وأنا على تلك الهيئة والسباع في المكان الذي كانوا عليه فمضى بي وقت وأنا نائم فاستيقظت فإذا السباع قد تفرقت ولم يبق منها شيء واذا الذي كنت أجده قد زال فقمت وأنا على تلك الهيئة فانصرفت # قال المصنف رحمه الله قلت فهذا الرجل قد خالف الشرع في تعرضه للسباع ولا يحل لأحد أن يتعرض لسبع أو لحية بل يجب عليه أن يفر مما يؤذيه أو يهلكه # وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وقع الطاعون وأنتم بأرض فلا تقدموا عليه وقال صلى الله عليه وسلم فر من المجذوم فرارك من الأسد ومر عليه الصلاة والسلام بحائط مائل فأسرع وهذا الرجل قد أراد من طبعه أن لا ينزعج وهذا شيء ما سلم منه موسى عليه السلام فإنه لما رأى الحية خاف وولى مدبرا فان صح ما ذكره وهو بعيد الصحة لأن طباع الآدمين تتساوى فمن قال لا أخاف السبع بطبعي كذبناه كما لو قال أنا لا أشتهي النظر إلى المستحسن وكأنه قهر نفسه حتى نام بينهم استسلاما للهلاك لظنه أن هذا هو التوكل وهذا خطأ لأنه لو كان هذا هو التوكل ما نهى عن مقاربة ما يخاف(105/362)
شره ولعل السباع اشتغلت عنه وشبعت من الجمل والسبع إذا شبع لا يفترس ولقد كان أبو تراب النخشبي من كبار القوم فلقيته السباع البرية فنهشته فمات ثم لا ينكر أن يكون الله تعالى لطف به ونجاه بحسن ظنه فيه غير أنا نبين خطأ فعله للعامي الذي إذا سمع هذه الحكاية ظن أنها عزيمة عظيمة ويقين قوي وربما فضل حالته على حالة موسى عليه السلام إذ هرب من الحية وعلى حالة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ مر بجدار مائل فهرول وعلى لبسه صلى الله عليه وسلم الدرع في غزواته كلها وقت الحرب حتى قال عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق ليس لنبي أن يلبس لامة حربة ثم ينزعها من غير قتال وعلى حالة أبي بكر رضي الله عنه إذ سد خروق الغار اتقاء ذي الحيات وهيهات أن تعلو مرتبة هذا المخالف للشرع على مرتبة النبيين والصديقين بما يخايل له ظنه الفاسد من أن هذا الفعل هو التوكل # وقد أخبرنا عنه أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب نا إسماعيل بن احمد الجبري ثنا محمد بن الحسين السلمي قال سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني قال سمعت مؤملا المغابي يقول كنت أصحب محمد بن السمين فسافرت معه ما بين تكريت والموصل فبينا نحن في برية نسير إذ زأر السبع من قريب منا فجزعت وتغيرت وظهر ذلك على وجهي وهممت أن أبادر فأفر فضبطني وقال يا مؤمل التوكل ههنا ليس في المسجد الجامع # قال المصنف رحمه الله قلت لا أشك في أن التوكل يظهر أثره في المتوكل عند الشدائد ولكن ليس من شروطه الاستسلام للسبع فإنه لا يجوز # أخبرنا عمر بن ظفر نا ابن السراج نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا ابن جهضم ثنا إبراهيم بن احمد بن علي العطار قال له الخواص حدثني بعض المشايخ أنه قيل لعلي الرازي ما لنا لا نراك مع أبي طالب الجرجاني قال خرجنا في سياحة فنمنا في موضع فيه سباع فلما نظر إلي رآني لم أنم طردني وقال لا تصحبني بعد هذا اليوم(105/363)
# قال المصنف رحمه الله لقد تعدى هذا الرجل إذ أراد من صاحبه أن يغير ما طبع عليه وليس ذلك في قدرته ولا في وسعه ولا يطالبه بمثله الشرع وما قدر على هذه الحالة موسى عليه السلام حين هرب من الحية فهذا كله مبناه على الجهل # أخبرنا ابن ظفر نا ابن السراج نا الأزجي ثنا بن جهضم قال سمعت الخلدي يقول سمعت إبراهيم الخواص يقول سمعت حسنا أخا سنان يقول كنت أسلك طريق مكة فتدخل في رجلي الشوكة فيمنعني ما أعتقده من التوكل أن أخرجها من رجلي فأدلك رجلي على الأرض وامشي # أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن احمد أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني نا سهل بن على الحساب نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت احمد بن علي الوجدي يقول حج الدينوري اثنتي عشرة حجة حافيا مكشوف الرأس وكان إذا دخل في رجله شوك يمسح رجله في الأرض ويمشي ولا يتطاطىء إلى الأرض من صحة توكله # قال المصنف رحمه الله قلت انظروا إلى ما يصنع الجهل بأهله وليس من طاعة الله تعالى أن يقطع الإنسان تلك البادية حافيا لأنه يؤذي نفسه غاية الأذى ولا مكشوف الرأس وأي قربة تحصل بهذا ولولا وجوب كشف الرأس في مدة الإحرام لم يكن لكشفه معنى فمن ذا الذي أمره ألا يخرج الشوك من رجله وأي طاعة تقع بهذا ولو أن رجله أنتفخت بما يبقى فيها من الشوك وهلك كان قد أعان على نفسه وهل ذلك الرجل بالأرض إلا دفع بعض شر الشوك فهلا دفع الباقي بالإخراج # وأين التوكل من هذه الأفعال المخالفة للعقل والشرع لأنهما يقضيان بجلب المنافع للنفس ودفع المضار عنها ولذلك أجاز الشرع لمن أدركه ضرر في إحرامه أن يخرق حرمة الإحرام ويلبس ويغطي رأسه ويفدي ولقد سمعت أبا عبيد يقول اني لأتبين عقل الرجل بأن يدع الشمس ويمشي في الظل # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب ثنا عبد العزيز بن أبي الحسن(105/364)
القرميسيني قال سمعت علي بن عبد الله بن جهضم قال سمعت أبا بكر الرقي يقول حدثني أبو بكر الدقاق قال خرجت في وسط السنة إلى مكة وأنا حدث السن في وسطي نصف جل وعلى كتفي نصف جل فرمدت عيني في الطريق وكنت أمسح دموعي بالجل فأقرح الجل الموضع فكان يخرج الدم مع الدموع فمن شدة الإرادة وقوة سروري بحالي لم أفرق بين الدموع والدم وذهبت عيني في تلك الحجة وكانت الشمس اذا أثرت في بدني قبلت يدي ووضعتها على عيني سرورا مني بالبلاء # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا احمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الحافظ قال سمعت أبا الفضل احمد بن أبي عمران يقول سمعت محمد بن داود الرقي يقول سمعت أبا بكر الدقاق يقول كان سبب ذهاب بصري أني خرجت في وسط السنة أريد مكة وفي وسطي نصف جل وعلى وسطي نصف جل فرمدت إحدى عيني فمسحت الدموع بالجل فقرح المكان وكانت الدموع والدم تسيلان من عيني # أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنا أبو محمد التميمي أنا عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا بكر الرازي يقول قلت لأبي بكر الدقاق وكان بفرد عين ما سبب ذهاب عينك قال كنت أدخل البادية على التوكل فجعلت على نفسي أن لا آكل لأهل المنازل شيئا تورعا فسالت إحدى عيني على خدي من الجوع # قال المصنف رحمه الله إذا سمع مبتدىء حالة هذا الرجل ظن ان هذه مجاهدات وقد جمعت هذه السفرة التي أفتخر فيها فنونا من المعاصي والمخالفات منها خروجه في تنصيف السنة على الوحدة ومشيه بلا زاد ولا راحلة ولباسه الجل ومسح عينيه به وظنه أن ذلك يقربه إلى الله تعالى وإنما يتقرب إلى الله تعالى بما أمره به وشرعه لا بما نهى وكف عنه فلو أن إنسانا قال أريد أن أضرب نفسي بعصا لأنها عصت أتقرب بذلك إلى الله كان عاصيا وسرور هذا الرجل بهذا خطأ قبيح لأنه إنما يفرح بالبلاء اذا كان بغير تسبب منه لنفسه فلو أن إنسانا(105/365)
كسر رجل نفسه ثم فرح بهذه المصيبة كان نهاية في الحماقة ثم تركه السؤال وقت الإضطرار وحمله على النفس في شدة المجاعه حتى سالت عينه ثم يسمي هذا تورعا حماقات زهاد أكبرها الجهل والبعد عن العلم # وقد أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا سليمان بن احمد ثنا محمد بن العباس بن أيوب الأصفهاني ثنا عبد الرحمن بن يوسف الرقي ثنا مطرف بن مازن عن سفيان الثوري قال من جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار # قال المصنف رحمه الله فانظر إلى كلام الفقهاء ما أحسنه ووجهه ان الله تعالى قد جعل للجائع مكنة التسبب فاذا عدم الأسباب الظاهرة فله قدرة السؤال التي هي كسب مثله في تلك الحال فاذا تركه فقد فرط في حق نفسه التي هي وديعة عنده فاستحق العقاب # وقد روي لنا في ذهاب عين هذا الرجل ما هو أظرف مما ذكرنا فأخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد ثنا حمد بن احمد الحداد ثنا أبو نعيم قال سمعت أبا احمد القلانسي يقول قال أبو علي الروزباري يحكى عن أبي بكر الدقاق قال استضفت حيا من العرب فرأيت جارية حسناء فنظرت إليها فقلعت عيني التي نظرت بها اليها وقلت مثلك من نظر لله # قال المصنف رحمه الله قلت فانظروا إلى جهل هذا المسكين بالشريعة والبعد عنها لأنه ان كان نظر اليها عن غير تعمد فلا إثم عليه وأن تعمد فقد أتى صغيرة قد كان يكفيه منها الندم فضم اليها كبيرة وهي قلع عينه ولم يتب عنها لأنه اعتقد قلعها قربة إلى الله سبحانه ومن اعتقد المحظور قربة فقد انتهى خطؤه الى الغاية ولعله سمع تلك الحكاية عن بعض بني إسرائيل انه نظر إلى امرأة فقلع عينه وتلك مع بعد صحتها ربما جازت في شريعتهم فأما شريعتنا فقد حرمت هذا وكأن هؤلاء القوم ابتكروا شريعة سموها بالتصوف وتركوا شريعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من تلبيس إبليس وقد روي عن بعض عابدات الصوفية مثل هذا(105/366)
# أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال أخبرني أبو الحسن علي بن احمد البصري غلام شعوانة قال أخبرتني شعوانة انه كان في جيرانها امرأة صالحة فخرجت ذات يوم إلى السوق فرآها بعض الناس فافتتن بها وتبعها الى باب دارها فقالت له المرأة أي شيء تريد مني قال فتنت بك فقالت ما الذي استحسنت مني قالعيناك فدخلت إلى دارها فقلعت عينيها وخرجت إلى خلف الباب ورمت بها اليه وقالت له خذهما فلا بارك الله فيك # قال المصنف رحمه الله فانظروا اخواني كيف يتلاعب إبليس بالجهلة فان ذلك الرجل أتى صغيرة بالنظر وأتت هي بكبيرة ثم ظنت أنها فعلت طاعة وكان ينبغي أنها لا تكلم رجلا أجنبيا وقد وجد من القوم ضد هذا كما يروى عن ذي النون المصري وغيره انه قال لقيت امرأة في البرية فقلت لها وقالت لي وهذا لا يحل له وقد أنكرت عليه امرأة متيقظة فأخبرنا عبد الملك بن عبد الله الطروحي نا محمد بن علي بن عمر نا أبو الفضل محمد بن محمد العامي نا أبو سعيد محمد بن احمد بن يوسف ثني سكر ثني محمد بن يعقوب العرجي قال سمعت ذي النون يقول رأيت امرأة بنحو أرض البجة فناديتها فقالت وما للرجال أن يكلموا النساء لولا نقص عقلك لرميتك بشيء # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد نا احمد بن علي بن ثابت ثنا عبد العزيز الأزجي ثنا علي بن عبد الله الهمداني ثني علي بن اسماعيل الطلاثني محمد بن الهيثم قال قال لي أبو جعفر الحداد دخلت البادية بعض السنين على التوكل فبقيت سبعة عشر يوما لا آكل فيها شيئا وضعفت عن المشي فبقيت أياما أخر لم أذق فيها شيئا فسقطت على وجهي وغشي علي وغلب علي من القمل شيء ما رأيت مثله ولا سمعت به فبينا أنا كذلك إذ مر بي ركب فرأوني على تلك الحالة فنزل أحدهم عن راحلته فحلق رأسي ولحيتي وشق ثوبي وتركني في الرمضاء(105/367)
وسار فمر بي ركب آخر فحملوني الى حيهم وأنا مغلوب فطرحوني ناحية فجاءتني امرأة فجلست على رأسي وصبت اللبن في حلقي ففتحت عيني قليلا وقلت لهم أقرب المواضع منكم أين قالوا جبل الشراة فحملوني إلى الشراة # قال المصنف رحمه الله قلت لو يحكى أن رجلا من المجانين أنحل من السلسة فأخذ سكينا وجعل يشرح لحم نفسه ويقول أنا ما رأيت مثل هذا الجنون لصدق على هذا وإلا فانظروا الى حال هذا المسكين وبما فعل بنفسه ثم يعتقد أن هذا قربة نسأل الله العافية # أخبرنا احمد بن ناصر نا احمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا بكر الداري يقول سمعت أبا الحسين الريحاني يقول سمعت ابراهيم الخواص يقول رأيت شيخا من أهل المعرفة عرج بعد سبعة عشر يوما على سبب في البرية فنهاه شيخ كان معه فأبى أن يقبل فسقط ولم يرتفع عن حدود الأسباب قلت هذا قد أراد أن يصبر عن القوت أكثر من هذا وليس الصبر الى هذا الحد وان أطيق بفضيلة # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا رزق الله بن عبد الوهاب نا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين قال سمعت جدي اسماعيل بن نجيد يقول دخل ابراهيم الهروي مع شبة البرية فقال يا شبه اطرح ما معك من العلائق قال فطرحتها كلها وأبقيت دينارا فخطا خطوات ثم قال اطرح كل ما معك لا تشغل سري قال فأخرجت الدينار ودفعته اليه فطرحه ثم خطا خطوات وقال تطرح ما معك قلت ليس معي شيء قال بعد سري مشتغل ثم ذكرت أن معي دستجة شسوع فقلت ليس معي إلا هذه قال فأخذها فطرحها ثم قال امشي فمشينا فما احتجت إلى شبع في البادية إلا وجدته مطروحا بين يدي فقال لي كذا من عامل الله بالصدق # قال المصنف رحمه الله قلت كل هذه الأفعال خطأ ورمي المال حرام(105/368)
والعجب ممن يرمي ما يملكه ويأخذ مالا يدري من أين هو وهل يحل له أخذه أم لا # أخبرنا أبو بكر بن حبيب أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت نصر بن أبي نصر العطار يقول سمعت علي بن محمد المصري قال سمعت أبا سعيد الخراز يقول دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعد فسررت بوصولي ثم فكرت في نفسي أني شكيت وأني توكلت على غيره فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن حملت اليها فحفرت لنفسي في الرمل حفرة وواريت جسدي فيها إلى صدري فسمعت صوتا في نصف الليل عاليا يا أهل المرحلة إن لله وليا حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى المرحلة # قال المصنف رحمه الله قلت لقد تنطع هذا الرجل على طبعه فأراد منه ما لم يوضع عليه لأن طبع ابن آدم أن يهش إلى ما يحب ولا لوم على العطشان إذا هش إلى الماء ولا على الجائع إذا هش إلى الطعام فكذلك كل من هش إلى محبوب له وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فلاحت له المدينة أسرع السير حبا للوطن ولما خرج من مكة تلفت اليها شوقا وكان بلال يقول لعن الله عتبة وشيبة إذا أخرجونا من مكة ويقول # ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة % بواد وحولي إذخر وجليل فنعوذ بالله من الإقبال على العمل بغير مقتضى العلم والعقل ثم حبسه نفسه عن صلاة الجماعة قبيح وأي شيء في هذا من التقرب إلى الله سبحانه إنما هو محض جهل # أنبأنا ابن ناصر نا جعفر بن احمد السراج نا عبد العزيز بن علي بن احمد(105/369)
ثنا أبو الحسن علي بن جهضم ثنا بكر بن محمد قال كنت عند أبي الخير النيسابوري فبسطني بمحادثته لي بذكر باديته إلى أن سألته عن سبب قطع يده فقال يد جنت فقطعت ثم اجتمعت به مع جماعة فسألوه عن ذلك فقال سافرت حتى بلغت اسندرية فأقمت بها اثنتي عشرة سنة وكنت قد بنيت بها كوخا فكنت أجىء اليه من ليل إلى ليل وأفطر على ما ينفضه المرابطون وإذا حم الكلام على قمامة السفر وآكل من البردي في الشتاء فنوديت في سري يا أبا الخير تزعم أنك لا تشارك الخلق في أقواتهم وتشير إلى التوكل وأنت في وسط القوم جالس فقلت إلهي وسيدي وعزتك لا مددت يدي إلى شيء مما تنبته الأرض حتى تكون الموصل إلى رزقي من حيث لا أكون فيه فأقمت اثنى عشر يوما أصلي الفرض وأتنفل ثم عجزت عن النافلة فأقمت اثنى عشر يوما أصلي الفرض والسنة ثم عجزت عن السنة فأقمت اثني عشر يوما أصلي الفرض لا غير ثم عجزت عن القيام فأقمت اثني عشر يوما أصلي جالسا لا غير ثم عجزت عن الجلوس فرأيت أن طرحت نفسي ذهب فرضي فلجأت إلى الله بسري وقلت إلهي وسيدي افترضت علي فرضا تسألني عنه وقسمت لي رزقا وضمنته لي فتفضل علي برزقي ولا تؤاخذني بما عقدته معك فوعزتك لاجتهدن ان لا حللت عقدا عقدته معك فإذا بين يدي قرصان بينهما شيء فكنت أجده على الدوام من الليل إلى الليل ثم طولبت بالمسير إلى الثغر فسرت حتى دخلت الفرما فوجدت في الجامع قاصا يذكر قصة زكريا والمنشار وان الله تعالى أوحى اليه حين نشر فقال إن صعدت إلى منك انه لأمحونك من ديوان النبوة فصبر حتى قطع شطرين فقلت لقد كان زكريا صبارا إلهي وسيدي لئن ابتليتني لاصبرن وسرت حتى دخلت أنطاكية فرآني بعض إخواني وعلم أني أريد الثغر فدفع إلي سيفا وترسا وحربة فدخلت الثغر وكنت حينئذ أحتشم من الله تعالى أن أتوارى وراء السور خيفة من العدو # فجعلت مقامي في غابة أكون فيها بالنهار وأخرج بالليل إلى شاطىء البحر فأغرز الحربة على الساحل وأسند الترس اليها(105/370)
محرابا وأتقلد سيفي وأصلي إلى الغداة فإذا صليت الصبح غدوت إلى الغابة فكنت فيها نهاري اجمع فبدوت في
بعض الأيام فعثرت بشجرة فاستحسنت ثمرها ونسيت عقدي مع الله وقسمي به إني لا أمد يدي إلى شيء مما تنبت الأرض فمددت يدي فأخذت بعض الثمرة فبينا أنا أمضغها ذكرت العقد فرميت بها من في وجلست ويدي على رأسي فدار بي فرسان وقالوا لي قم فأخرجوني إلى الساحل فإذا أمير وحوله خيل ورجالة وبين يدية جماعة سودان كانوا يقطعون الخيل في طلب من هرب منهم فوجدوني أسود معي سيف وترس وحربة فلما قدمت إلى الأمير قال أيش أنت قلت عبد من عبيد الله فقال للسودان تعرفونه قالوا لا قال بل هو رئيسكم وإنما تفدونه بأنفسكم لأقطعن أيديكم وأرجلكم فقدموهم ولم يزل يقدم رجلا رجلا ويقطع يده ورجله حتى أنتهى إلي فقال تقدم مد يدك فمددتها فقطعت ثم قال مد رجلك فمددتها ورفعت رأسي إلى السماء وقلت إلهي وسيدي يدي جنت ورجلي أيش عملت فإذا بفارس قد وقف على الحلقة ورمى بنفسه إلى الأرض وصاح ايش تعملون تريدون أن تنطبق الخضراء على الغبراء هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير فرمى الأمير نفسه وأخذ يدي المقطوعة من الأرض وقبلها وتعلق بي يقبل صدري ويبكي ويقول سألتك بالله أن تجعلني في حل فقلت قد جعلتك في حل من أول ما قطعتها هذه يد قد جنت فقطعت # قال المصنف رحمه الله فانظروا رحمكم الله إلى عدم العلم كيف صنع بهذا الرجل وقد كان من أهل الخير ولو كان عنده علم لعلم أن ما فعله حرام عليه وليس لإبليس عون على العباد والزهاد أكثر من الجهل أخبرنا أبو بكر ابن حبيب نا أبو سعيد بن أبي صادق نا أبي باكويه قال سمعت الحسين بن احمد الفارسي قال سمعت محمد بن داود الدينوري يقول سمعت ابن حديق يقول دخلنا المصيصة مع حاتم الأصم فعقد أنه لا يأكل فيها شيئا إلا حتى يفتح فمه ويوضع في فيه وإلا ما يأكل فقال لأصحابه تفرقوا وجلس فأقام تسعة أيام لا يأكل فيها شيئا فلما كان في اليوم العاشر جاء(105/371)
اليه إنسان فوضع بين يديه شيئا يؤكل فقال كل فلم يجبه فقال له ثلاثا فلم يجبه فقال هذا مجنون فأصلح لقمة وأشار بها إلى فمه فلم يفتح فمه ولم يتكلم فأخرج مفتاحا كان معه فقال كل وفتح فمه بالمفتاح ودس اللقمة في فمه فأكل ثم قال له إن أحببت أن ينفعك الله
به فأطعم أولئك وأشار إلى أصحابه # أنبأنا محمد بن أبي طاهر نا علي بن المحسن التنوخي عن أبيه ثني محمد بن هلال بن عبد الله ثني القاضي أحمد بن سيار قال حدثني رجل من الصوفية قال صحبت شيخا من الصوفية أنا وجماعة في سفر فجرى حديث التوكل والأرزاق وضعف اليقين فيها وقوته فقال الشيخ وحلف على إيمانا عظيمة لا ذقت مأكولا أو يبعث لي بجام فالوذج حالا لا آكله إلا بعد أن يحلف علي قال وكنا نمشي في الصحراء فقالت له الجماعة الا إنك غير جاهد ومشى ومشينا فانتهينا إلى قرية وقد مضى يوم وليلتان لم يطعم فيها شيء ففارقته الجماعة غيري فطرح نفسه في مسجد القرية مستسلما للموت ضعفا فأقمت عليه فلما كان في ليلة اليوم الرابع وقد انتصف الليل وكاد الشيخ يتلف إذا بباب المسجد قد فتح وإذا بجارية سوداء معها طبق مغطى فلما رأتنا قالت أنتم غرباء أو من أهل القرية فقلت غرباء فكشفت الطبق وإذا بحمام فالوذج يفور لحرارته فقدمت لنا الطبق وقالت كلوا فقلت له كل فقال لا أفعل فرفعت الجارية يدها فصفعته صفعة عظيمة وقالت والله لئن لم تأكل لأصفعنك هكذا إلى أن تأكل فقال كل معي فأكلنا حتى فرغ الجام وهمت الجارية بالأنصراف فقلت للجارية ما خبرك وخبر هذا الجام فقالت أنا جارية لرئيس هذه القرية وهو رجل حاد طلب منا منذ ساعة فالوذج فقمنا نصلحه له فطال الأمر عليه فاستعجلنا فقلنا نعم فعاد فاستعجل فقلنا نعم فحلف بالطلاق لا أكله هو ولا أحد ممن هو داره ولا أحد من أهل القرية ولا يأكله إلا رجل غريب فخرجنا نطلب في المساجد رجلا غريبا فلم نجد إلى أن انتهينا إليكم ولو لم يأكل هذا الشيخ لقتلته ضربا إلى أن يأكل(105/372)
لئلا تطلق سيدتي من زوجها قال فقال الشيخ كيف تراه إذا أراد أن يرزق # قال المصنف رحمه الله ربما سمع هذا جاهل فاعتقده كرامة وما فعله الرجل من أقبح القبيح فانه يجرب على الله ويتألى عليه ويحمل على نفسه من الجوع ما لا يجوز له وهذا لا يجوز له ولا ينكر أن يكون لطف به إلا أنه فعل ضد الصواب وربما كان إنفاذ ذلك رديئا لأنه يعتقد أنه قد أكرم وإن ذلك
منزلة وكذلك حكاية حاتم التي قبلها فانها إن صحت دلت على جهل بالعلم وفعل لما لا يجوز لأنه ظن أن التوكل إنما هو ترك التسبب فلو عمل بمقتضى واقعته لم يمضغ الطعام ولم يبلعه فانه تسبب وهل هذا إلا من تلاعب إبليس بالجهال لقلة علمهم بالشرع ثم أي قربة في هذا الفعل البارد وما أظن غالبه إلا من الماليخوليا أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أحمد بن علي بن المحسن قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري قال قال لي جعفر الخلدي وقفت بعرفة ستا وخمسين وقفة منها إحدى وعشرون على المذهب فقلت لأبي إسحق وأي شيء أراد بقوله على المذهب فقال يصعد إلى قنطرة الناشرية فينفض كمية حتى يعلم أنه ليس معه زاد ولا ماء ويلبى ويسير # قال المصنف رحمه الله وهذا مخالف للشرع فإن الله تعالى يقول " وتزودوا " ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزود ولا يمكن أن يقال إن هذا الآدمي لا يحتاج إلى شيء في مدة أشهر فان احتاج ولم يتزود فعطب اثم وإن سأل الناس أو تعرض لهم لم يف ذلك بدعوى التوكل وإن أدعى أنه يكرم ويرزق بلا سبب فنظره إلى أنه مستحق لذلك محنة ولو تبع أمر الشرع وحمل الزاد كان أصلح له على كل حال # وأنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر قال أخبرني أبي عن بعض الصوفية أنه قدم عليه من مكة جماعة من المتصوفة فقال لهم من صحبتم فقالوا حاج اليمن فقال أوه التصوف قد صار إلى هذا أو التوكل قد ذهب انتم ما جئتم على الطريقة والتصوف وإنما جئتم من مائدة اليمن إلى مائدة الحرم ثم قال وحق الأحباب والفتيان(105/373)
لقد كنا اربعة نفر مصطحبين في هذا الطريق نخرج إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على التجريد ونتعاهد بيننا أن لا نلتفت إلى مخلوق ولا نستند إلى معلوم فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومكثنا ثلاثة أيام لم يفتح لنا بشيء فخرجنا حتى بلغنا الجحفة ونزلنا وبحذائنا نفر من الأعراب فبعثوا إلينا بسويق فأخذ بعضنا ينظر إلى بعض ويقول لو كنا من أهل هذا الشأن لم يفتح لنا بشيء حتى ندخل الحرم فشربناه على الماء وكان طعامنا حتى دخلنا مكة(105/374)
# قلت إسمعوا إخواني إلي توكل هؤلاء كيف منعهم من التزود المأمور به فأحوجهم إلى أخذ صدقات الناس ثم ظنهم أن ما فعلوه مرتبة جهل بمعرفة المراتب ومن عجب ما بلغني عنهم في اسفارهم ما اخبرنا به محمد بن ابي القاسم البغدادي نا أبو محمد التميمي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال بلغني أن أبا شعيب المقفع وكان قد حج سبعين حجة راجلا أحرم في كل حجة بعمرة وحجة من عند صخرة بيت المقدس ودخل بادية تبوك على التوكل فلما كان في حجته الأخيرة رأى كلبا في البادية يلهث عطشا فقال من يشتري حجة بشربة ماء قال فدفع إليه إنسان شربة ماء فسقى الكلب ثم قال هذا خير لي من حجي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كل ذات كبد حراء أجر اخبرنا عبد الأول بن عيسى نا ابن ابي الكوفاني ثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن موري الحبوساني نا أبو نصر عبد الله بن علي الطوسي المعروف بابن السراج قال سمعت الوجهي يقول سمعت أبا علي الروزباري يقول كان في البادية جماعة ومعنا أبو الحسين العطوفي فربما كانت تلحقنا القافلة ويظلم علينا الطريق وكان أبو الحسين يصعد تلا فيصبح صياح الذئب حتى تسمع كلاب الحي فينبحون فيمر على بيوتهم ويحمل إلينا من عندهم معونة قلت وإنما ذكرت مثل هذه الأشياء ليتنزه العاقل في مبلغ علم هؤلاء وفهمهم للتوكل وغيره ويرى مخالفتهم لأوامر الشرع وليت شعري كيف يصنع من يخرج منهم ولا شيء معه بالوضوء والصلاة وإن تخرق ثوبه ولا إبرة معه فكيف يفعل وقد كان بعض مشايخهم يأمر المسافر بأخذ العدة قبل السفر # فأخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب نا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري قال سمعنا أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا العباس البغدادي يقول سمعت الفرغاني يقول كان إبراهيم الخواص مجردا في التوكل يدقق فيه وكان لا تفارقه إبرة وخيوط وركوة ومقراض فقيل له يا أبا إسحاق لم تجمع هذا وأنت من كل شيء فقال مثل هذا لا ينقض التوكل لأن الله تعالى(105/375)
فرض علينا فرائض والفقير لا يكون عليه إلا ثوب واحد فربما يتخرق ثوبه وإن لم يكن معه إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلواته وإن لم يكن معه
ركوة تفسد عليه طهارته وإذا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه في صلاته $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية إذا اقدموا من السفر $ # قال المصنف رحمه الله من مذهب القوم أن المسافر إذا قدم فدخل الرباط وفيه جماعة لم يسلم عليهم حتى يدخل الميضة فإذا توضأ جاء وصلى ركعتين ثم سلم على الشيخ ثم سلم على الجماعة وهذا ما أبتدعه متأخرهم على خلاف الشريعة لأن فقهاء الإسلام أجمعوا على أن من دخل على قوم سن له أن يسلم عليهم سواء كان على طهارة او لم يكن إلا أن يكونوا أخذوا هذا من مذهب الأطفال فإنه إذا قيل للطفل لم لا تسلم علينا قال ما غسلت وجهي بعد أو لعل الأطفال علموه من هؤلاء المبتدعين # أخبرنا ابن الحصين نا ابو علي بن المذهب نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير أخرجاه في الصحيحين ومن مذهب القوم تغميز القادم من السفر مساء أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد عن أبيه # قال باب السنة في تغميزهم القادم من السفر أول ليلة لتعبه واحتج بحديث عمر رضي الله عنه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وغلام له حبشي يغمز ظهره فقلت ما شأنك يا رسول الله قال إن الناقة قدر اقتحمتني # قال المصنف رحمه الله أنظروا إخواني إلى فقه هذا المحتج فانه كان ينبغي أن يقول باب السنة في تغميز من رمت به ناقته وتكون السنة تغميز الظهر لا القدم ومن أين له انه كان في سفر وانه غمز أول ليلة ثم يجعل تغميز النبي صلى الله عليه وسلم كما اتفق لأجل ألم ظهره سنة لقد كان ترك استخراج هذا الفقه الدقيق أحسن من ذكره ومن مذهبهم عمل دعوة للقادم(105/376)
قال ابن طاهر باب اتخاذهم
العتيرة للقادم واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر سفرا فنذرت جارية من قريش إن الله تعالى رده أن تضرب في بيت عائشة رضي الله عنها بدف فلما رجع فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت نذرت فأضربي # قال المصنف رحمه الله قد بينا أن الدف مباح ولما نذرت هذه المرأة مباحا أمرها أن تفي فكيف يحتج بهذا على الغناء والرقص عند قدوم المسافر $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية اذا مات لهم ميت $ # له في ذلك تلبيسان الأول أنهم يقولون لا يبكي على هالك ومن بكى على هالك خرج عن طريق أهل المعارف قال ابن عقيل # وهذه دعوى تزيد على الشرع فهي حديث خرافة وتخرج عن العادات والطباع فهي انحراف عن المزاج المعتدل فينبغي أن يطالب لها بالعلاج بالأدوية المعدلة للمزاج فان الله تعالى أخبر عن نبي كريم فقال " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " وقال " يا أسفي على يوسف " وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موت ولده وقال إن العين لتدمع وقال واكرباه وقالت فاطمة رضي الله عنها وأكرب أبتاه فلم ينكر وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه متمما يندب أخاه ويقول # وكنا كندماني جزيمة حقبة % من الدهر حتى قيل لن يتصدعا # فقال عمر رضي الله عنه ليتني كنت أقول الشعر فأندب أخي زيدا فقال متمم لو مات أخي كما مات أخوك ما رثيته وكان مالك مات على الكفر وزيد قتل شهيدا فقال عمر ما عزائي أحد في أخي كمثل تعزيتك ثم لا تزال الإبل الغليظة الأكباد تحن إلى مآلفها من الأعطان والأشخاص وترغو للفصلان وحمام الطير ترجع وكل مأخوذ من البلاء فلا بد أن يتضرع ومن لم تحركه المسار(105/377)
والمطربات وتزعجه المخزيات فهو إلى الجماد به أقرب وقد أبان النبي عليه الصلاة السلام عن العيب في الخروج عن سمت الطبع فقال للذي قال لم أقبل أحدا من ولدي وكان له عشرة من الولد فقال أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك وجعل يلتفت إلى مكة لما خرج فالمطالب لما يخرج عن الشرائع وينبو عن الطباع جاهل يطالب بجهل وقد قنع الشرع منا أن لا نلطم خذا ولا نشق جيبا فأما دمعة سائلة وقلب حزين فلا عيب في ذلك التلبيس الثاني انهم يعملون عند موت الميت دعوة ويسمونها عرسا ويغنون فيها ويرقصون ويلعبون ويقولون نفرح للميت إذ وصل إلى ربه والتلبيس في هذا عليهم من ثلاثة أوجه أحدها ان المسنون أن يتخذ لأهل الميت طعاما لاشتغالهم بالمصيبة عن اعداد الطعام لأنفسهم وليس من السنة أن يتخذه أهل الميت ويطعمونه إلى غيرهم والأصل في أتخاذ الطعام لأجل الميت ما أخبرنا به أبو الفتح الكروخي نا أبو عامر الأزدي وأبو بكر العورجي قال أخبرنا الجراحي ثنا المحبوبي ثنا الترمذي ثنا احمد بن منيع وعلي بن حجر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعي جعفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فانه قد جاءهم ما يشغلهم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح والثاني أنهم يفرحون للميت ويقولون وصل إلى ربه ولا وجه للفرح لأنا لا نتيقن انه غفر له وما يؤمنا أن نفرح له وهو في المعذبين وقد قال عمر بن زر لما مات ابنه لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك أخبرنا عبد الأول نا ابن المظفر نا ابن عين ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو اليماني نا شعيب عن الزهري ثني خارجة بن زيد الأنصاري عن أم العلاء قالت لما مات عثمان بن مظعون دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم(105/378)
فقلت رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم وما يدريك أن الله أكرمه والثالث انهم يرقصون ويلعبون في تلك الدعوة فيخرجون بهذا عن الطباع السليمة التي يؤثر عندها الفراق ثم ان كان ميتهم قد غفر له فما الرقص واللعب بشكرهم وإن كان معذبا فأين أثر الحزن $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك التشاغل بالعلم $ # قال المصنف رحمه الله اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم لأن العلم نور فاذا أطفا مصابيحهم خبطهم في الظلم كيف شاء وقد دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب # أحدها انه منع جمهورهم من العلم أصلا وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكلف فحسن عندهم الراحة فلبسوا المراقع وجلسوا على بساط البطالة # أخبرنا اسماعيل بن احمد السمرقندي نا حمد بن احمد الحداد نا أبو نعيم الأصفهاني ثنا أبو حامد بن حيان ثنا أبو الحسن البغدادي ثنا ابن صاعد قال سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول أسس التصوف على الكسل وبيان ما قاله الشافعي ان مقصود النفس اما الولايات وأما استجلاب الدنيا بالعلوم يطول ويتعب البدن وهل يحصل المقصود أو لا يحصل والصوفية قد تعجلوا الولايات فانهم يرون بعين الزهد واستجلاب الدنيا فانها اليهم سريعة # أخبرنا عبد الحق نا المبارك بن عبد الجبار نا أبو الفرج الطناجيري ثنا أبو حفص بن شاهين قال(105/379)
ومن الصوفية من ذم العلماء وراى ان الاشتغال بالعلم بطالة وقالوا ان علومنا بلا واسطة وإنما رأوا بعد الطريق في طلب العلم فقصروا الثياب ورقعوا الجباب وحملوا الركاء وأظهروا الزهد # والثاني انه قنع قوم منهم باليسير منه ففاتهم الفضل الكثير في كثرته فاقتنعوا بأطراف الاحاديث وأوهمهم ان علو الإسناد والجلوس للحديث كله رياسة ودنيا وان للنفس في ذلك لذة وكشف هذا التلبيس انه ما من مقام عال الا وله فضيلة وفيه مخاطرة فان الإمارة والقضاء والفتوى كله مخاطرة وللنفس فيه لذة ولكن فضيلة عظيمة كالشوك في جوار الورد فينبغي أن تطلب الفضائل ويتقي ما في ضمنها من الآفات # فأما ما في الطبع من حب الرياسة فانه إنما وضع لتجتلب هذه الفضيلة كما وضع حب النكاح ليحصل الولد وبالعلم يتقوم قصد العلم كما قال يزيد بن هرون طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله ومعناه انه دلنا على الإخلاص ومن طالب نفسه بقطع ما في طبعه لم يمكنه والثالث انه أوهم قوما منهم ان المقصود العمل وما فهموا أن التشاغل بالعلم من أوفى الأعمال ثم ان العالم وان قصر سير عمله فانه على الجادة والعابد بغير علم على غير الطريق والرابع أنه أرى خلقا كثيرا منهم أن العالم ما اكتسب من البواطن حتى ان أحدهم يتخايل له وسوسة فيقول حدثني قلبي عن ربي وكان الشبلي يقول # اذا طالبوني بعلم الورق % برزت عليهم بعلم الخرق # وقد سموا علم الشريعة علم الظاهر وسموا هواجس النفوس العلم الباطن واحتجوا له بما أخبرنا به عبد الحق بن عبد الخالق نا الحسين بن علي الطناجيري نا أبو حفص بن شاهين ثنا علي بن محمد بن جعفر بن احمد بن عنبسة العسكري ثني دارم بن قبيصة بن بهشل الصنعاني قال سمعت يحيى بن الحسين بن زيد بن علي قال سمعت يحيى بن عبد الله بن حسين عن يحيى بن(105/380)
زيد بن علي عن أبيه عن جده عن الحسن بن علي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال علم الباطن سر من سر الله عز وجل وحكم من أحكام الله تعالى يقذفه الله عز وجل في قلوب من يشاء من أوليائه # قال المصنف رحمه الله قلت وهذا حديث لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون # أنبأنا محمد بن ناصر نا أبو الفضل محمد بن علي السهلكي نا أبو علي عبد الله بن ابراهيم النيسابوري ثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم ثنا أبو الفتح أحمد بن الحسن ثنا علي بن جعفر عن أبي موسى قال كان في ناحية أبي يزيد رجل فقيه عالم تلك الناحية فقصد أبا يزيد وقال له قد حكى لي عنك عجايب فقال أبو يزيد وما لم تسمع من عجايبي أكثر فقال له علمك هذا يا أبا يزيد عن من ومن ومن من فقال أبو يزيد علمي من عطاء الله تعالى ومن حيث قال صلى الله عليه وسلم من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم ومن حيث قال صلى الله عليه وسلم العلم علمان علم ظاهر وهو حجة الله تعالى على خلقه وعلم باطن وهو العلم النافع وعلمك يا شيخ نقل من لسان عن لسان التعليم وعلمي من الله إلهام من عنده فقال له الشيخ علمي عن الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه عز وجل فقال له أبو يزيد يا شيخ كان للنبي صلى الله عليه وسلم علم عن الله لم يطلع عليه جبريل ولا ميكائيل قال نعم ولكن أريد أن يصح لي علمك الذي تقول هو من عند الله قال نعم أبينه لك قدر ما يستقر في قلبك معرفته ثم قال يا شيخ علمت أن الله تعالى كلم موسى تكليما وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ورآه كفاحا وان حلم الأنبياء وحي قال نعم قال أما علمت ان كلام الصديقين والأولياء بالهام منه وفوائده من من قلوبهم حتى أنطقهم بالحكمة ونفع بهم الأمة ومما يؤكد ما قلت ما ألهم الله تعالى أم موسى أن تلقي موسى في التابوت فألقته وألهم الخضر في السفينة والغلام والحائط(105/381)
قوله موسى " وما فعلته عن أمرى " وكما قال أبو بكر لعائشة رضي الله عنهما إن
ابنة خارجة حاملة ببنت وألهم عمر رضي الله عنه فنادى يا سارية الجبل أنبأنا ابن ناصر أنبأنا أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول سمعت يوسف بن الحسين يقول سمعت إبراهيم سبتية يقول حضرت مجلس أبي يزيد والناس يقولون فلان لقي فلانا وأخذ من علمه وكتب منه الكثير وفلان لقي فلانا فقال أبو يزيد مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت # قال المصنف رحمه الله هذا الفقه في الحكاية الأولى من قلة العلم إذ لو كان عالما لعلم أن الإلهام للشيء لا ينافي العلم ولا يتسع به عنه ولا ينكر أن الله عز وجل يلهم الإنسان الشيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الأمم محدثين وان يكن في أمتي فعمر والمراد بالتحديث إلهام الخير إلا أن الملهم لو ألهم ما يخالف العلم لم يجز له أن يعمل عليه وأما الخضر فقد قيل أنه نبي ولا ينكر للانبياء الإطلاع بالوحي علىالعواقب وليس الإلهام من العلم في شيء إنما هو ثمرة لعلم والتقوى فيوفق صاحبهما للخير ويلهم الرشد فأما أن يترك العلم ويقول أنه يعتمد على الإلهام والخواطر فليس هذا بشيء إذ لولا العلم النقلي ما عرفنا ما يقع في النفس أمن الإلهام للخير أو الوسوسة من الشيطان # واعلم أن العلم الإلهامي الملقى في القلوب لا يكفي عن العلم المنقول كما أن العلوم العقلية لا تكفي عن العلوم الشرعية فإن العقلية كالأغذية والشرعية كالأدوية ولا ينوب هذا عن هذا وأما قوله أخذوا علمهم ميتا عن ميت(105/382)
أصلح ما ينسب إليه هذا القائل أنه ما يدري ما في ضمن هذا القول وإلا فهذا طعن على الشريعة أنبأنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو حفص بن شاهين قال من الصوفية من رأى الإشتغال بالعلم بطالة وقالوا نحن علومنا بلا واسطة قال وما كان المتقدمون في التصوف إلا رؤسا في القرآن والفقه والحديث والتفسير ولكن هؤلاء أحبوا البطالة # وقال أبو حامد الطوسي اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الالهيه دون التعليمية ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والاقبال على الله تعالى بكنه الهمة وذلك بأن يقطع الإنسان همه عن الأهل والمال والولد والعلم ويخلو نفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة قرآن ولا بالتأمل في نفسه ولا يكتب حديثا ولا غيره ولا يزال يقول الله الله الله إلى أن ينتهي إلى حال يترك تحريك اللسان ثم يمحي عن القلب صورة اللفظ # قال المصنف رحمه الله قلت عزيز علي أن يصدر هذا الكلام من فقيه فإنه لا يخفى قبحه إنه على الحقيقة طي لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن وطلب العلم وعلى هذا المذهب فقد رأيت الفضلاء من علماء الأمصار فإنهم ما سلكوا هذه الطريق وإنما تشاغلوا بالعلم أولا وعلى ما قد رتب أبو حامد تخلو النفس بوساوسها وخيالاتها ولا يكون عندها من العلم ما يطرد ذلك فيلعب بها إبليس أي ملعب فيريها الوسوسة محادثة ومناجاة ولا ننكر أنه إذا طهر القلب انصبت عليه أنوار الهدى فينظر بنور الله إلا أنه ينبغي أن يكون تطهيره بمقتضى العلم لا بما ينافيه فإن الجوع الشديد والسهر وتضييع الزمان في التخيلات أمور ينهي الشرع عنها فلا يستفاد من صاحب الشرع شيء ينسب إلى ما نهى عنه كما لا تستباح الرخص في سفر قد نهى عنه ثم لا تنافي بين العلم والرياضة بل العلم يعلم كيفية الرياضة ويعين على تصحيحها وإنما(105/383)
تلاعب الشيطان بأقوام أبعدوا العلم وأقبلوا على الرياضة بما ينهي عنه العلم والعلم بعيد عنهم فتارة يفعلون الفعل المنهي عنه وتارة يؤثرون ما غيره أولى منه وإنما كان يفتي في هذه الحوادث العلم وقد عزلوه فنعوذ بالله من الخذلان أنبأنا ابن ناصر عن أبي علي بن البنا قال كان عندنا بسوق السلاح رجل كان يقول القرآن حجاب والرسول حجاب ليس الا عبد رب فافتتن جماعة به فأهملوا العبادات واختفى مخافة القتل # أنبأنا محمد بن عبد الملك نا احمد بن علي بن ثابت نا أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن محمد الجبائي ثنا احمد بن سليمان النجاد ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ثنا هشام بن يونس ثنا المحاربي عن بكر بن حنش عن ضرار بن عمرو قال إن قوما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه وخالفوا السنة فهلكوا فوالله الذي لا إله غيره ما عمل عامل قط على جهل إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح نقد مسالك الصوفية في تركهم الإشتغال بالعلم # وقد فرق كثير من الصوفية بين الشريعة والحقيقة وهذا جهل من قائله لأن الشريعة كلها حقائق فإن كانوا يريدون بذلك الرخصة والعزيمة فكلاهما شريعة وقد أنكر عليهم جماعة من قدمائهم في إعراضهم عن ظواهر الشرع وعن أبي الحسن غلام شعوانه بالبصرة يقول سمعت أبا الحسن بن سالم يقول جاء رجل إلى سهل بن عبد الله وبيده محبرة وكتاب فقال لسهل جئت أن أكتب شيئا ينفعني الله به فقال اكتب ان استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة والكتاب فأفعل قال يا أبا محمد أفدني فائدة فقال الدنيا كلها جهل إلا ما كان علما والعلم كله حجة إلا ما كان عملا والعمل كله موقوف إلا ما كان منه على الكتب والسنة وتقوم السنة علىالتقوى وعن سهل بن عبد(105/384)
الله أنه قال احفظوا السواد على البياض فما أحد ترك الظاهر الا تزندق وعن سهل بن عبد الله انه قال ما من طريق إلى الله أفضل من العلم فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلام أربعين صباحا وعن أبي بكر الدقاق قال سمعت أبا سعيد الخراز يقول كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل # وعن أبي بكر الدقاق انه قال كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة فهتف بي هاتف من تحت شجرة كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر # قال المصنف رحمه الله وقد نبه الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء فقال من قال ان الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وقال ابن عقيل جعلت الصوفية الشريعة إسما وقالوا المراد منها الحقيقة قال وهذا قبيح لأن الشريعة وضعها الحق لمصالح الخلق وتعبداتهم فما الحقيقة بعد هذا سوى شيء واقع في النفس من القاء الشياطين وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع $ ذكر تلبيس إبليس على جماعة من القوم في دفنهم كتب العلم وإلقائها في $ الماء # قال المصنف رحمه الله قد كان جماعة منهم تشاغلوا بكتابة العلم ثم لبس عليهم إبليس وقال ما المقصود إلا العمل ودفنوا كتبهم # فقد روى أن أحمد بن أبي الحواري رمى كتبه في البحر وقال نعم الدليل كنت والاشتغال بالدليل بعد الوصول محال ولقد طلب احمد بن أبي الحواري الحديث ثلاثين سنة فلما بلغ منه الغاية حمل كتبه إلى البحر فغرقها وقال يا علم لم أفعل بك هذا تهاونا ولا استخفافا بحقك ولكني كنت أطلبك لأهتدي بك إلى ربي فلما أهتديت بك أستغنيت عنك # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت أبا الحسن غلام شعوانة بالبصرة يقول سمعت أبا الحسن بن سالم عن(105/385)
أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال احمد بن محمد بن إسماعيل أبو الحسين بن الخلال كان حسن الفهم له صبر على الحديث وانه كان يتصوف ويرمي بالحديث مدة ثم يرجع ويكتب ولقد أخبرت انه رمى بجملة من سماعاته القديمة في دجلة فأول ما سمع على أبي العباس الأصم وطبقته وكتب الكثير # أنبأنا زاهر بن طاهر نا احمد بن الحسين البيهقي قال سمعت أبا عمرو بن أبي جعفر يقول سمعت أبا طاهر الجنايدي يقول لقد كان موسى بن هرون يقرأ علينا فإذا فرغ من الجزء رمى بأصله في دجلة ويقول لقد أديته # أخبرنا محمد بن ناصر نا احمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا نصر الطوسي يقول سمعت جماعة من مشايخ الري يقولون ورث أبو عبد الله المقري عن أبيه خمسين ألف دينار سوى الضياع والعقار فخرج عن جميع ذلك وأنفقها على الفقراء قال فسألت أبا عبد الله عن ذلك فقال أحرمت وأنا غلام حدث وخرجت إلى مكة على الوحدة حين لم يبق لي شيء أرجع أليه وكان اجتهادي أن أزهد في الكتب وما جمعت من العلم والحديث أشد علي من الخروج إلى مكة والتقطع في الأسفار والخروج عن ملكي أخبرنا أبو منصور القزاز نا احمد بن علي بن ثابت نا إسماعيل الحيري ثنا محمد بن الحسين السلمي قال سمعت أبا العباس بن الحسين البغدادي يقول سمعت الشبلي يقول أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه وغرق في هذه الدجلة سبعين قمطرا مكتوبا بخطه وحفظ وقرأ بكذا وكذا رواية يعني بذلك نفسه # قال المصنف رحمه الله قد سبق القول بأن العلم نور وان إبليس يحسن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظلمة كظلمة الجهل ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب فربما استدلوا بذلك على مكايده حسن له دفن الكتب وإتلافها وهذا فعل قبيح محظور وجهل بالمقصود بالكتب وبيان هذا أن أصل العلوم القرآن والسنة فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب أمر بكتابة(105/386)
المصحف وكتابة الحديث فأما القرآن فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية دعى بالكاتب فأثبتها وكانوا يكتبونها فيء العسب والحجارة وعظام الكتف ثم جمع القرآن بعده في المصحف أبو بكر صوتا عليه ثم نسخ من ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وبقية الصحابة وكل ذلك لحفظ القرآن لئلا يشذ منه شيء وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الناس في بداية الإسلام على القرآن وقال لا تكتبوا عني سوى القرآن فلما كثرت الأحاديث ورأى قلة ضبطهم أذن لهم في الكتابة فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه انه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الحفظ فقال ابسط دراءك فبسط رداءه وحدثه النبي عليه الصلاة والسلام وقال ضمه اليك فقال أبو هريرة فلم أنس بعد ذلك شيئا بما حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه قال استعن على حفظك بيمينك يعني بالكتابة وروى عنه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو انه قال قيدوا العلم فقلت يا رسول الله وما تقييده قال الكتابة وروى عنه أيضا رافع بن خديج قال قلنا يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها قال اكتبوا ولا حرج # قال المصنف رحمه الله واعلم أن الصحابة ضبطت ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحركاته وأفعاله واجتمعت الشريعة من رواية هذا ورواية هذا # وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغو عني وقال نضر الله أمرا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها وتأدية الحديث كما يسمع لا يكاد يحصل إلا من الكتابة لأن الحفظ خوان وقد كان احمد بن حنبل رضي الله عنه يحدث بالحديث فيقال له إمله علينا فيقول لا بل من الكتاب # وقد قال علي بن المديني أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من الكتاب فاذا كانت الصحابة قد روت السنة وتلقتها التابعون وسافر المحدثون وقطعوا شرق الأرض وغربها لتحصيل كلمة من ههنا وكلمة من هنا وصححوا ما صح وزيفوا ما لم يصح وجرحوا الرواة وعدلوا وهذبوا السنن وصنفوا(105/387)
ثم من
يغسل ذلك فيضيع التعب ولا يعرف حكم الله في حادثة فما عوندت الشريعة بمثل هذا # فهل لشريعة من الشرائع قبلنا إسناد إلى نبيهم وإنما هذه خصيصة لهذه الأمة وقد روينا عن الإمام أحمد بن حنبل مع كونه طاف الشرق والغرب في طلب الحديث انه قال لابنه ما كتبت عن فلان فذكر له أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخرج يوم العيد من طريق ويرجع من أخرى فقال الأمام احمد بن حنبل إنا لله سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبلغني وهذا قوله مع اكثاره وجمعه فكيف بمن لم يكتب واذا كتب غسل أفترى اذا غسلت الكتب ودفنت على ما يعتمد في الفتاوى والحوادث على فلان الزاهد أو فلان الصوفي أو على الخواطر فيما يقع لها نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى $ فصل قال المصنف رحمه الله ولا تخلو هذه الكتب التي دفنوها أن يكون $ فيها حق أو باطل أو قد اختلط الحق بالباطل فان كان فيها باطل فلا لوم على من دفنها وان كان قد اختلط الحق بالباطل ولم يمكن تمييزه كان عذرا في إتلافها فان أقواما كتبوا عن ثقات وعن كذابين واختلط الأمر عليهم فدفنوا كتبهم # وعلى هذا يحمل ما يروى عن دفن الكتب عن سفيان الثوري وان كان فيها الحق والشرع فلا يحل إتلافها بوجه لكونها ضابطة العلم وأموالا وليسأل من يقصد إتلافها عن مقصوده فإن قال تشغلني عن العبادة قيل له جوابك من ثلاثة أوجه أحدها أنك لو فهمت لعلمت أن التشاغل بالعلم أو في العبادات والثاني أن اليقظة التي وقعت لك لا تدوم فكأني بك وقد ندمت على ما فعلت بعد الفوات واعلم أن القلوب لا تبقى على صفائها بل تصدأ فتحتاج إلى جلاء وجلاءها النظر في كتب العلم # وقد كان يوسف بن أسباط دفن كتبه ثم لم يصبر على التحديث فحدث من حفظه فخلط والثالث أننا نقدر تمام يقظتك ودوامها والغنى عن هذه الكتب(105/388)
فهلا وهبتها لمبتدىء من الطلاب ممن لم يصل إلى مقامك أو وقفتها على المنتفعين بها أو بعتها وتصدقت بثمنها أما أتلافها فلا يحل بحال # وقد روى المرزوي عن احمد بن حنبل انه سئل عن رجل أوصى أن تدفن كتبه فقال ما يعجبني أن يدفن العلم وأنبأنا محمد بن عبد الملك ويحيى بن علي قال أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت نا عبيد الله بن عبد العزيز البرداعي نا محمد بن عبد الله السحير ثنا أبو بكر محمد بن احمد بن النحاس قال سمعت المروزي يقول سمعت احمد بن حنبل يقول لا أعرف لدفن الكتب معنى $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في إنكارهم من تشاغل بالعلم $ # قال المصنف رحمه الله لما انقسم هؤلاء بين متكاسل عن طلب العلم وبين ظان أن العلم هو ما يقع في النفوس من ثمرات التعبد وسموا ذلك العلم العلم الباطن نهوا عن التشاغل بالعلم الظاهر # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر احمد بن علي نا علي بن أبي علي البصري ثنا أبو اسحاق ابراهيم بن احمد بن محمد الطبري قال سمعت جعفر الخلدي يقول لو تركني الصوفية لجئتكم باسناد الدنيا لقد مضيت الى عباس الدوري وأنا حدث فكتبت عنه مجلسا واحدا وخرجت من عنده فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فقال إيش هذا معك فأريته إياه فقال ويحك تدع علم الخرق وتأخذ علم الورق ثم خرق الأوراق فدخل كلامه في قلبي فلم أعد إلى عباس # قال المصنف رحمه الله وبلغني عن أبي سعيد الكندي قال كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفية بحيث لا يعلمون فسقطت الدواة يوما من كمي فقال لي بعض الصوفية أستر عورتك # أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو القاسم هبة الله بن عبد الله الواسطي نا أبو بكر الخطيب نا أبو الفتح بن ابي الفوارس نا الحسين بن احمد الصفار قال كان بيدي محبرة فقال لي الشبلي غيب سوادك عني يكفيني سواد قلبي(105/389)
# أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت عبد الله العزال المذكر قال سمعت علي بن مهدي يقول وقفت ببغداد على حلقة الشبلي فنظر إلي ومعي محبرة فأنشأ يقول # تسربلت للحرب ثوب الغرق % وجبت البلاد لوجد القلق # ففيك هتكت قناع الغوى % وعنك نطقت لدى من نطق # اذا خاطبوني بعلم الورق % برزت عليهم بعلم الخرق # قال المصنف رحمه الله قلت من أكبر المعاندة لله عز وجل الصد عن سبيل الله وأوضح سبيل الله العلم لأنه دليل على الله وبيان لأحكام الله وشرعه وإيضاح لما يحبه ويكرهه فالمنع منه معاداة لله ولشرعه ولكن الناهين عن ذلك ما تفطنوا لما فعلوا # أخبرنا ابن حبيب قال نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول اشتغلوا بتعلم العلم ولا يغرنكم كلام الصوفية فاني كنت أخبىء محبرتي في جيب مرقعتي والكاغد في حزة سراويلي وكنت أذهب خفية إلى أهل العلم فاذا علموا بي خاصموني وقالوا لا تفلح ثم احتاجوا إلي بعد ذلك وقد كان الإمام احمد بن حنبل يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول هذه سرج الإسلام وكان هو يحمل المحبرة على كبر سنه فقال له رجل الى متى با أبا عبد الله فقال المحبرة إلى المقبرة وقال في قوله عليه الصلاة والسلام لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة فقال احمد ان لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم وقال أيضا ان لم يكن أصحاب الحديث الابدال فمن يكون وقيل له أن رجلا قال في أصحاب الحديث انهم كانوا قوم سوء فقال احمد هو زنديق وقد قال(105/390)
الإمام الشافعي رحمه الله اذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يوسف بن أسباط بطلبة الحديث يدفع الله البلاء عن أهل الأرض # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب ثنا عبد العزيز بن علي ثنا ابن جهضم ثنا محمد بن جعفر ثنا احمد بن محمد بن مسروق قال رأيت كأن القيامة قد قامت والخلق مجتمعون اذا نادى مناد الصلاة جامعة فاصطف الناس صفوفا فأتاني ملك فتأملته فاذا بين عينيه مكتوب جبريل أمين الله فقلت أين النبي صلى الله عليه وسلم فقال مشغول بنصب الموائد لاخوانه الصوفية فقلت وأنا من الصوفية فقيل نعم ولكن شغلك كثرة الحديث # قال المصنف رحمه الله معاذ الله أن ينكر جبريل التشاغل بالعلم وفي إسناد هذه الحكاية ابن جهضم وكان كذابا ولعلها عمله وأما ابن مسروق فأخبرني القزاز نا أبو بكر الخطيب حدثني علي بن محمد بن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف قال سمعت الدارقطني يقول أبو العباس بن مسروق ليس بالقوي يأتي بالمعضلات $ ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في كلامهم في العلم $ # قال المصنف رحمه الله اعلم أن هؤلاء القوم لما تركوا العلم وانفردوا بالرياضيات على مقتضى آرائهم لم يصبروا عن الكلام في العلوم فتكلموا بواقعاتهم فوقعت الأغاليط القبيحة منهم فتارة يتكلمون في تفسير القرآن وتارة في الحديث وتارة في الفقه وغير ذلك ويسوقون العلوم إلى مقتضى علمهم الذي انفردوا به والله سبحانه لا يخلي الزمان من أقوام قوام بشرعه يردون على المتخرصين ويبينون غلط الغالطين(105/391)
$ ذكر نبذة من كلامهم في القرآن $ # أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر احمد بن علي بن ثابت نا ابو القاسم عبد الواحد بن عثمان البجلي قال سمعت جعفر بن محمد الخلدي قال حضرت شيخنا الجنيد وقد سأله كيسان عن قوله عز وجل " سنقرئك فلا تنسى " فقال الجنيد لا تنسى العمل به وسأله عن قوله تعالى " ودرسوا ما فيه " فقال له الجنيد تركوا العملبه فقال لا يفضض الله فاك قلت أما قوله لا تنس العمل به فتفسير لا وجه له والغلط فيه ظاهر لأنه فسره على أنه نهي وليس كذلك إنما هو خبلا لا نهي وتقديره فما تنس إذ لو كان نهيا كان مجزوما فتفسيره على خلاف إجماع العلماء وكذلك قوله " ودرسوا ما فيه " إنما هو من الدرس الذي هو التلاوة من قوله عز وجل " وبما كنتم تدرسون " لا من دروس الشيء الذي هو اهلاكه أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا حمد بن احمد ثنا أبو نعيم الحافظ قال سمعت احمد بن محمد بن مقسم يقول حضرت أبا بكر الشبلي وسئل عن قوله عز وجل " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " فقال لمن كان لله قلبه وأخبرنا عمر بن ظفر نا جعفر بن احمد نا عبد العزيز بن علي نا ابن الجهم جهضم ثنا محمد بن جرير قال سمعت أبا العباس بن عطاء وقد سئل عن قوله " فنجيناك من الغم " قال نجيناك من الغم بقومك وفتناك بنا عن من سونا # قال المصنف رحمه الله وهذه جرأة عظيمة على كتاب الله عز وجل ونسبة الكليم إلى الأفتتان بمحبة الله سبحانه وجعل محبته تفتن غاية في القباحة أخبرنا أبو منصور القزاز نا احمد بن علي الحافظ نا أبو حازم عمر بن إبراهيم(105/392)
العبدري قال سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الرازي يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول في قوله عز وجل وأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم فقال الروح النظر إلى وجه الله عز وجل والريحان الاستماع لكلامه وجنة نعيم هو أن لا يحجب فيها عن الله عز وجل قلت هذا كلام بالواقع على خلاف أقوال المفسرين وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير القرآن من كلامهم الذي أكثره هذيان لا يحل نحو مجلدين سماها حقائق التفسير فقال في فاتحة الكتاب عنهم انهم قالوا إنما سميت فاتحة الكتاب لأنها أوائل ما فاتحناك به من خطابنا فإن تأدبت بذلك وإلا حرمت لطائف ما بعد # قال المصنف رحمه الله وهذا قبيح لأنه لا يختلف المفسرون أن الفاتحة ليست من أول ما نزل وقال في قول الإنسان آمين أى قاصدون نحوك # قال المصنف رحمه الله وهذا قبيح لأنه ليس من أم لأنه لو كان كذلك لكانت الميم مشددة وقال في قوله " وان يأتوكم أسارى " قال قال أبو عثمان غرقى في الذنوب وقال الواسطي غرقى في رؤية أفعالهم وقال الجنيد أسارى في أسباب الدنيا تفدوهم إلى قطع العلائق قلت وإنما الآية على وجه الإنكار ومعناها إذا أسرتموهم فديتموهم وإذا حاربتموهم قلبتموهم وهؤلاء قد فسروها على ما يوجب المدح وقال محمد بن علي " يحب التوابين " من توبتهم وقال النووي " يقبض ويبسط " أي يقبضك باياه ويبسطك لاياه وقال في قوله " ومن دخله كان آمنا " أي من هواجس نفسه ووساوس الشيطان وهذا غاية في القبح لأن لفظ الآية لفظ الحبر ومعناه(105/393)
الأمر وتقديرها من دخل الحرم فأمنوه وهؤلاء قد فسروها على الخبر ثم لا يصح لهم لأنه كم من داخل إلى الحرم ما أمن من الهواجس ولا الوساوس وذكر في قوله " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " قال أبو تراب هي الدعاوي الفاسدة " والجار ذي القربى " قال سهل هو القلب " والجار الجنب " النفس " وابن السبيل " الجوارح وقال في قوله " وهم بها " قال أبو بكر الوراق الهمان لها ويوسف ما هم بها قلت هذا خلاف لصريح القرآن وقوله " ما هذا بشرا " قال محمد بن علي ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة وقال الزنجاني الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم وقال في قوله ولله المكر جميعا قال الحسين لا مكر أبين فيه من مكر الحق بعباده حيث أوهمهم ان لهم سبيلا اليه بحال أو للحدث اقتران مع القدم # قال المصنف رحمه الله ومن تأمل معنى هذا علم أنه كفر محض لأنه يشير إلى أنه كالهزء واللعب ولكن الحسين هذا هو الحلاج وهذا يليق بذلك وقال في قوله لعمرك أي بعمارتك سرك بمشاهدتنا قلت وجميع الكتاب من هذا الجنس ولقد هممت أن أثبت منه ها هنا كثيرا فرأيت أن الزمان يضيع في كتابة شيء بين الكفر والخطأ والهذيان وهو من جنس ما حكينا عن الباطنية فمن أراد أن يعرف جنس ما في الكتاب فهذا أنموذجه ومن أراد الزيادة فلينظر(105/394)
في ذلك الكتاب وذكر أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال للصوفية استنباط منها قوله " ادعو الى الله على بصيرة " قال الواسطي معناه لا أرى نفسي وقال الشبلي لو اطلعت على الكل مما سوانا لوليت منهم فرارا إلينا قلت هذا لا يحل لأن الله تعالى إنما أراد أهل الكهف وهذا السراج يسمي هذه الأقوال في كتابه مستنبطات وقد ذكر أبو حامد الطوسي في كتاب ذم المال في قوله عز وجل " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " قال إنما عنى الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعبد الآلهة والأصنام وإنما عنى بعبادته حبه والاغترار به # قال المصنف رحمه الله وهذا شيء لم يقله أحد من المفسرين وقد قال شعيب وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ومعلوم أن ميل الأنبياء إلى الشرك أمر ممتنع لأجل العصمة لا أنه مستحيل ثم قد ذكر مع نفسه من يتصور في حقه الإشراك والكفر فجاز أن يدخل نفسه معهم فقال واجنبني وبني ومعلوم أن العرب أولاده وقد عبد أكثرهم الأصنام # أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق نا المبارك بن عبد الجبار نا الحسين بن علي الطناجيري نا أبو حفص بن شاهين قال وقد تكلمت طائفة من الصوفية في نفس القرآن بما لا يجوز فقالت في قوله إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب فقال هم لآيات لي فأضافوا إلى الله تعالى ما جعله لأولي الألباب وهذا تبديل للقرآن وقالوا ولسليمان الريح قالوا ولي سليمان # وأخبرنا ابن ناصر نا أحمد بن علي بن خلف ثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال قال أبو حمزة الخراساني قد يقطع بأقوام في الجنة فيقال كلو واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية فشغلهم عنه بالأكل والشرب ولا مكر فوق هذا ولا حسرة أعظم منه(105/395)
# قال المصنف رحمه الله أنظروا وفقكم الله إلى هذه الحماقة وتسمية المغنم به مكرا وإضافة المكر بهذا إلى الله سبحانه وتعالى وعلى مقتضى قول هذا أن الأنبياء لا يأكلون ولا يشربون بل يكونون مشغولين بالله عز وجل فما أجرأ هذا القائل على مثل هذه الألفاظ القباح وهل يجوز أن يوصف الله عز وجل بالمكر على ما نعقله من معنى المكر وإنما معنى مكره وخداعه أنه مجازي الماكرين والخادعين وإني لأتعجب من هؤلاء وقد كانوا يتورعون من اللقمة والكلمة كيف انبسطوا في تفسير القرآن إلى ما هذا حده # وقد أخبرنا علي بن عبيد الله وأحمد بن الحسن وعبد الرحمن بن محمد قالوا حدثنا عبد الصمد بن المأمون نا علي بن عمر الحربي ثنا احمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ثنا بشر بن الوليد ثنا سهيل أخو حزم ثنا أبو عمران الجوني عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا أبو بكر بن حمدان ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي وكيع عن الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار # قال المصنف رحمه الله وقد رويت لنا حكاية عن بعضهم فيما يتعلق بالمكر إني لأقشعر من ذكرها لكني أنبه بذكرها على قبح ما يتخايله هؤلاء الجهلة أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا أبو عبد الله ابن باكويه قال أخبرنا أبو عبد الله بن خفيف قال سمعت رويما يقول اجتمع ليلة بالشام جماعة من المشايخ فقالوا ما شهدنا مثل هذه الليلة وطيبها فتعالوا نتذاكر مسألة لئلا تذهب ليلتنا فقالوا نتكلم في المحبة فانها عمدة القوم فتكلم كل واحد من حيث هو # وكان في القوم عمرو بن عثمان المكي فوقع عليه البول ولم يكن من عادته(105/396)
فقام وخرج إلى صحن الدار فإذا ليلة مقمرة فوجد قطعة رق مكتوب فأخذه وحمله اليهم وقال يا قوم اسكنوا فان هذا جوابكم أنظروا ما في هذه الرسالة فاذا فيها مكتوب مكار مكار وكلكم تدعون حبه وأحرم البعض وافترقوا فما جمعهم إلا الموسم # قال المصنف رحمه الله قلت هذه بعيدة الصحة وابن خفيف لا يوثق به وإن صحت فإن شيطانا ألقى ذلك الرق وإن كانوا قد ظنوا أنها رسالة من الله بظنونهم الفاسدة وقد بينا أن معنى المكر منه المجازاة على المكر فأما أن يقال عنه مكار ففوق الجهل وفوق الحماقة # وقد أخبرنا ابن ظفر نا ابن السراج نا الأزجي ثنا ابن جهضم ثنا الخلدي قال سمعت رويما يقول إن الله غيب أشياء في أشياء مكره في علمه وغيب خداعه في لطفه وغيب عقوباته في باب كراماته قلت وهذا تخليط من ذلك الجنس وجرأة # أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال سمعت محمد بن ابراهيم يقول سمعت خالي يقول قال الحسن بن علويه خرج أبو يزيد لزيارة أخ له فلما وصل إلى نهر جيحون التقى له حافتا النهر فقال سيدي ايش هذا المكر الخفي وعزتك ما عبدتك لهذا ثم رجع ولم يعبر قال السهلكي وسمعت محمد بن احمد المذكر يذكر أن أبا يزيد قال من عرف الله عز وجل صار للجنة بوابا وصارت الجنة عليه وبالا # قلت وهذه جرأة عظيمة في إضافة المكر إلى الله عز وجل وجعل الجنة التي هي نهاية المطالب وبالا وإذا كانت وبالا للعارفين فكيف تكون لغيرهم وكل هذا منبعه من قلة العلم وسوء الفهم أخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه ثنا أبو الفرج الورياني ثنا احمد بن الحسن بن محمد ثني محمد بن جعفر الوراق ثنا احمد بن العباس المهلبي قال سمعت طيفور وهو أبو يزيد يقول العارفون في زيارة الله تعالى في الآخرة على طبقتين طبقة تزوره متى شاءت وانى شاءت وطبقة تزوره مرة واحدة ثم لا تزوره بعدها أبدا فقيل له كيف ذلك(105/397)
قال إذا رآه العارفون أول مرة جعل لهم سوقا ما فيه شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء فمن دخل منهم السوق لم يرجع إلى زيارة الله أبدا قال وقال أبو يزيد في الدنيا يخدعك بالسوق وفي الآخرة يخدعك بالسوق فأنت أبدا عبد السوق # قال المصنف رحمه الله تسمية ثواب الجنة خديعة وسببا للانقطاع عن الله عز وجل قبيح وإنما يجعل لهم السوق ثوابا لا خديعة فإذا أذن لهم في أخذ ما في السوق ثم عوقبوا بمنع الزيارة فقد صارت المثوبة عقوبة ومن أين له أن من أختار شيئا من ذلك السوق لم يعد إلى زيارة الله تبارك وتعالى ولا يراه أبدا نعوذ بالله من هذا التخليط والتحكم في العلم والأخبار عن هذه المغيبات التي لا يعلمها إلا نبي فمن اين له علمها وكيف يكون كما قال أبو هريرة راوي الحديث لسعيد بن المسيب جمعني الله وأياك في سوق الجنة أفتراه طلب ترك العقوبة بالبعد عن الله عز وجل لكن بعد هؤلاء عن العلم واقتناعهم بواقعاتهم الفاسدة أوجب هذا التخليط وليعلم أن الخواطر والواقعات إنما هي ثمرات علمه فمن كان عالما كانت خواطره صحيحة لأنها ثمرات علمه ومن كان جاهلا فثمرات الجهل كلها حظه ورأيت بخط ابن عقيل جاز أبو يزيد على مقابر اليهود فقال ما هؤلاء حتى تعذبهم كف عظام جرت عليهم القضايا أعف عنهم # قال المصنف رحمه الله وهذا قلة علم وهو أن قوله كف عظام احتقار للآدمي فإن المؤمن إذا مات كان كف عظام وقوله جرت عليهم القضايا فكذلك جرى على فرعون وقوله أعف عنهم جهل بالشريعة لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافرا فلوا قبلت شفاعته في كافر لقبل سؤال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في أبيه ومحمد صلى الله عليه وسلم في أمه فنعوذ بالله من قلة العلم # أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى نا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني ثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن قورى الحوبياني نا أبو نصر عبد الله بن علي الطوسي المعروف بالسراج قال كان ابن(105/398)
سالم يقول عبر أبو يزيد على مقبرة
اليهود فقال معذورين ومر بقبر المسلمين فقال مغرورين قال المصنف رحمه الله وفسره السراج فقال كأنه لما نظر إلى ما سبق لهم من الشقاوة من غير فعل كان موجودا في الأزل وان الله عز وجل جعل نصيبهم السخط فذلك عذر # قال المصنف رحمه الله وتفسير السراج قبيح لأنه يوجب أن لا يعاقب فرعون ولا غيره # ومن كلامهم في الحديث وغيره أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر الخطيب نا الأزهري نا احمد بن إبراهيم بن الحسن ثنا عبد الله بن احمد بن جنبل قال جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي فجعل أبي يقول فلان ضعيف وفلان ثقة فقال أبو تراب يا شيخ لا تغتب العلماء فالتفت أبي إليه وقال له ويحك هذه نصيحة ليست هذه غيبة # أنبأنا يحيى بن علي المدبر نا أحمد بن علي بن ثابت نا رضوان بن محمد بن الحسن الدينوري قال سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله النيسابوري يقول سمعت أبا الحسن علي بن محمد البخاري يقول سمعت محمد بن الفضل العباسي يقول كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل فقال اظهر أحوال العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة فقال له يوسف بن الحسين استحييت اليك يا أبا محمد كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة أو مائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض فبكى عبد الرحمن وقال يا أبا يعقوب لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب لم أصنفه قلت عفا الله عن أبي حاتم فانه لو كان فقيها لرد عليه كما رد الإمام أحمد على أبي تراب ولولا الجرح والتعديل من أين كان يعرف الصحيح من الباطل # ثم كون القوم في الجنة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم وتسمية ذلك غيبة حديث سوء ثم من لا يدري الجرح والتعديل كيف هو يزكي كلامه وينبغي ليوسف أن يشتغل بالعجائب التي تحكي عن مثل هذا(105/399)
# أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابو باكويه قال سمعت عبد الله بن يزيد الاردبيلي يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول من عرف الله أمسك عن رفع حوائجه إليه لما علم أنه العالم بأحواله قلت هذا سد لباب السؤال والدعاء وهو جهل بالعلم # أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون نا أحمد بن الحسن الشاهد قال قرىء على محمد بن الحسن الاهوازي وأنا أسمع أبا بكر الديف الصوفي وقال سمعت الشبلي وقد سأله شاب يا أبا بكر لم تقول الله ولا تقول لا إله إلا الله فقال الشبلي استحي أن أوجه إثباتا بعد نفي فقال الشاب أريد حجة أقوى من هذه فقال أخشى أنى أؤخذ في كلمة الوجود ولا أصل إلى كلمة الاقرار # قال المصنف رحمه الله أنظروا إلى هذا العلم الدقيق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقول لا إله إلا الله ويحث عليها وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول في دبر كل صلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكان يقول إذا قام لصلاة الليل لا إله إلا أنت وذكر الثواب العظيم لمن يقول لا إله إلا الله فأنظروا إلى هذا التعاطي على الشريعة واختيار ما لم يختره رسول الله صلى الله عليه وسلم # أخبرنا محمد بن عبد الباقي ثنا أبو علي الحسن بن محمد بن الفضل نا سهل بن علي الحساب نا عبد الله بن علي السراج قال بلغني أن أبا الحسن النوري شهدوا عليه أنه سمع أذان المؤذن فقال طعنه سم الموت وسمع نباح كلب فقال لبيك وسعديك فقيل له في ذلك فقال ان المؤذن أغار عليه أن يذكر الله وهو غافل ويأخذ عليه الأجرة ولولاها ما أذن فلذلك قلت طعنة سم الموت والكلب يذكر الله عز وجل بلا رياء فإنه قد قال " وان من شيء إلا يسبح بحمده " # قال المصنف رحمه الله انظروا اخواني عصمنا الله وإياكم من الزلل إلى هذا الفقه الدقيق والاستنباط الطريف(105/400)
# أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه ثنا أبو يعقوب الخراط نا النوري أنه رأى رجلا قابضا على لحية نفسه قال فقلت له نح يدك عن لحية الله فرفع ذلك إلى الخليفة فطلبت وأخذت فلما دخلت عليه قال بلغني أنه نبح كلب فقلت لبيك ونادى المؤذن فقلت طعنه قال نعم قال الله عز وجل " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " فقلت لبيك لأنه ذكر الله فأما المؤذن فانه يذكر الله وهو متلوث بالمعاصي غافل عن الله تعالى قال وقولك للرجل نح يدك عن لحية الله قلت نعم أليس العبد لله ولحيته لله وكل ما في الدنيا والآخرة له قلت عدم العلم أوقع هؤلاء في هذا التخبيط وما الذي أحوجه إلى أن يوهم أن صفة الملك صفة الذات # أخبرنا ابن حبيب قال ابن ابي صادق نا ابن باكويه قال سمعت احمد بن محمد بن عبد العزيز قال سمعت الشبلي يقول وقد سئل عن المعرفة فقال ويحك ما عرف الله من قال الله والله لو عرفوه ما قالوه قال ابن باكويه وسمعت أبا القاسم أحمد بن يوسف البراداني يقول سمعت الشبلي يقول يوما لرجل يسأله ما اسمك قال آدم قال ويلك أتدري ما صنع آدم باع ربه بلقمة ثم كان يقول سبحان من عذرني بالسوداء قال ابن باكويه وسمعت بكران بن احمد الجيلي يقول كان للشبلي جليس فأعلمه أنه يريد التوبة فقال بع مالك واقض دينك وطلق امرأتك ففعل فقال أيتم أولادك بأن تؤيسهم من التعلق بك فقال قد فعلت فجاء بكسر قد جمعها فقال اطرحها بين يدي الفقراء وكل معهم # أنبأنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم نا أبي قال سمعت بعض الفقراء يقول سمعت أبا الحسن الحرفاني يقول لا إله إلا الله من داخل القلب محمد رسول الله من القرط # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق ثنا ابن باكويه قال أخبرنا احمد بن محمد الحلفاي قال رأى الشبلي في الحمام غلاما شابا بلا مئزر فقال له يا غلام ألا تغطي عورتك فقال له اسكت يا بطال ان كنت على(105/401)
الحق فلا تشهد إلا الحق وإن كنت على الباطل فلا تشهد إلا الباطل لأن الحق مشتغل بالحق والباطل مشتغل بالباطل # أنبأنا أبو بكر محمد بن أبي طاهر نا علي بن المحسن التنوخي عن أبيه ثني أبو القاسم عبد الرحيم بن جعفر السيرافي الفقيه قال حضرت بشيراز عند قاضيها أبي سعيد بشر بن الحسن الداودي وقد ارتفع اليه صوفي وصوفية قال وأمر الصوفية هناك مفرط جدا حتى يقال أن عددهم الوف فاستعدت الصوفية على زوجها إلى القاضي فلما حضرا قالت له أيها القاضي ان هذا زوجي ويريد أن يطلقني وليس له ذلك فان رأيت أن تمنعه قال فأخذ القاضي أبو سعيد يتعجب وحنق على مذاهب الصوفية ثم قال لها وكيف ليس له ذلك قالتلأنه تزوج بي ومعناه قائم بي والآن هو يذكر ان معناه قد انقضى مني وأنا معناي قائم فيه ما أنقضى فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي معناي منه كما انقضى معناه مني فقال لي أبو سعيد كيف ترى هذا الفقه ثم أصلح بينهما وخرجا من غير طلاق # وقد ذكر أبو حامد الطوسي في كتاب الأحياء ان بعضهم قال للربوبية سر لو أظهر بطلت النبوة وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام # قلت فاظهروا إخواني إلى هذا التخليط القبيح والادعاء على الشريعة أن ظاهرها يخالف باطنها قال أبو حامد ضاع لبعض الصوفية ولد صغير فقيل له لو سألت الله أن يرده عليك فقال اعتراضي عليه فيما يقضي أشد على من ذهاب ولدي # قلت طال تعجبي من أبي حامد كيف يحكي هذه الأشياء في معرض الإستحسان والرضى عن قائلها وهو يدري أن الدعاء والسؤال ليس باعتراض(105/402)
وقال احمد الغزالي دخل يهودي إلى أبي سعيد بن أبي الخير الصوفي فقال له أريد أن أسلم على يديك فقال لا ترد فاجتمع الناس وقالوا يا شيخ تمنعه من الإسلام فقال له تريد بلا بد قال نعم قال له برئت من نفسك ومالك قال نعم قال هذا الإسلام عندي احملوه الآن إلى الشيخ أبي حامد يعلم لالا المنافقين يعني لا إله إلا الله قلت وهذا الكلام أظهر عيبا من أن يعاب فانه في غاية القبح ومما يقارب هذه الحكاية في دفع من أراد الإسلام # ما أخبرنا به أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت أخبرني محمد بن احمد بن يعقوب نا محمد بن نعيم الضبي قال سمعت أبا علي الحسين بن محمد بن احمد الماسر خسي يحكي عن جده وغيره من أهل بيته قال كان الحسن والحسين ابنا عيسى بن ماسر خس اخوين يركبان فيتحير الناس من حسنهما وزيهما فاتفقا على ان يسلما فقصدا حفص بن عبد الرحمن ليسلما على يده فقال لهما حفص أنتما من أجل النصارى وعبد الله بن المبارك خارج في هذه السنة الحج وإذا اسلمتما على يده كان ذلك أعظم عند المسلمين فانه شيخ أهل المشرق والمغرب فانصرفا فمرض الحسين ومات على نصرانيته قبل قدوم ابن المبارك فلما قدم أسلم الحسن قلت وهذه المحنة إنما جلبها الجهل فليعرف قدر العلم لأنه لو كان عنده حظ من علم لقال أسلما الآن ولا يجوز تأخير ذلك لحظة وأعجب من هذا أبو سعيد الذي قال لليهودي ما قال لأنه يريد الإسلام # وذكر أبو نصر السراج في كتاب اللمع لمع المتصوفة قال كان سهل بن عبد الله اذا مرض أحد من أصحابه يقول له إذا أردت أن تشتكي فقل أوه فهو اسم من أسماء الله تعالى يستريح اليه المؤمن ولا تقل افرج فانه اسم من أسماء الشيطان فهذه نبذة من كلام القوم وفقههم نبهت على علمهم وسوء فهمهم وكثرة خطئهم وقد سمعت أبا عبد الله حسين بن علي المقري يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن عطاء الهروي يقول سمعت عبد الرحمن بن محمد بن المظفر يقول سمعت أبا عبد الرحمن بن الحسين يقول سمعت(105/403)
عبد الله بن الحسين السلامي يقول سمعت علي بن محمد المصري يقول سمعت أيوب بن سليمان يقول سمعت محمد بن محمد بن ادريس الشافعي يقول سمعت أبي يقول
صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منه إلا هذين الحرفين الوقت سيف وأفضل العصمة أن لا تقدر $ ذكر تلبيس إبليس في الشطح والدعاوى $ # قال المصنف رحمه الله اعلم أن السلم يورث الخوف واحتقار النفس وطول الصمت وإذا اعتبرت علماء السلف رأيت الخوف غالبا عليهم والدعاوى بعيدة عنهم كما قال أبو بكر ليتني كنت شعره في صدر مؤمن وقال عمر عند موته الويل لعمر ان لم يغفر له وقال ابن مسعود ليتني إذا مت لا أبعث وقالت عائشة رضي الله عنها ليتني كنت نسيا منسيا وقال سفيان الثوري لحماد بن سلمة عند الموت ترجو أن يغفر لمثلي # قال المصنف رحمه الله وإنما صدر مثل هذا عن هؤلاء السادة لقوة علمهم بالله وقوة العلم به تورث الخوف والخشية قال الله عز وجل " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وقال صلى الله عليه وسلم أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية ولما بعد عن العلم أقوام من الصوفية لاحظوا أعمالهم واتفق لبعضهم من اللطف ما يشبه الكرامات فانبسطوا بالدعاوى # أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ نا أبو الفضل محمد بن علي السهلكي قال سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الشيرازي يقول ثنا أبو بكر عمر بن يمن ثنا أبو عمر الرهاوي ثنا احمد بن محمد الجزري قال سمعت أبا موسى الدئيلي يقول سمعت أبا يزيد البسطامي يقول وددت ان قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم فسأله رجل ولم ذاك يا أبا يزيد فقال اني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق # أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعد بن أبي صادق ثنا ابن باكويه ناابراهيم بن محمد نى حسن بن علوية نى طيفور بن عيسى نى أبو موسى الشبلي(105/404)
قال سمعت أبا يزيد يقول إذا كان يوم القيامة وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فاسأله أن يدخلني النار فقيل له لم قال حتى تعلم الخلائق أن بره ولطفه في النار مع أوليائه # قال المصنف رحمه الله هذا الكلام من أقبح الأقوال لانه يتضمن تحقير ما عظم الله عز وجل أمره من النار فانه عز وجل بالغ في وصفها فقال واتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة وقال " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " الى غير ذلك من الآيات وقد أخبرنا عبد الأول نا ابن المظفر نا ابن أعين ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا اسماعيل ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم قالوا له الصحابة والله ان كانت لكافية يا رسول الله قال فانها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها أخرجاه في الصحيحين وفي افراد مسلم من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها # أخبرنا محمد بن ناصر نا جعفر بن احمد نا أبو علي التميمي نا أبو بكر بن مالة ثنا عبد الله بن احمد ثني أبي بهز بن أسد ثنا جعفر بن سليمان ثنا علي بن زيد عن مطرف عن كعب قال قال عمر بن الخطاب يا كعب خوفنا فقال يا أمير المؤمنين اعمل عمل رجل لو وافيت القيامة بعمل سبعين نبيا لازدرأت عملك مما ترى فأطرق عمر رضي الله عنه مليا ثم افاق قال زدنا يا كعب قلت يا أمير المؤمنين لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها # فأطرق عمر مليا ثم أفاق فقال زدنا يا كعب قلت يا أمير المؤمنين ان جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مصطفى إلا خر جاثيا(105/405)
على ركبتيه ويقول رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم غير نفسي أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن احمد نا حمد بن احمد الحداد ثنا أبو نعيم الحافظ ثنا أبي ثنا أحمد بن محمد بن الحسن البغدادي ثنا ابراهيم بن عبد الله الجنيد ثنا عبد الله بن محمد بن عائشة ثنا سالم الخواص عن فرات بن السائب عن زاذان قال سمعت كعب الأحبار يقول إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ونزلت الملائكة وصارت صفوف فيقول يا جبرائيل أئتني بجهنم فيأتي بها جبريل فتقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى على ركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهب العقول فيفزع كل أمرىء الى عمله حتى أن ابراهيم الخليل يقول بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي وان عيسى ليقول بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني قلت وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا جبرائيل ما لي أرى ميكائيل لا يضحك فقال ما ضحك ميكائيل مذ خلقت النار وما جفت لي عين مذ خلقت جهنم مخافة أن أعصى الله فيجعلني فيها وبكى عبد الله بن رواحة يوما فقالت امرأته ما لك تبكي قال أنبئت أني وارد ولم أنبأ أني صادر # قال المصنف رحمه الله فاذا كانت هذه حالة الملائكة والأنبياء والصحابة وهم المطهرون من الأدناس وهذا انزعاجهم لأجل النار فكيف هانت عند هذا المدعى ثم انه يقطع لنفسه بما لا يدري به من الولاية والنجاة وهل قطع بالنجاة إلا لقوم مخصوصين من الصحابة وقد قال من قال اني في الجنة فهو في النار وهذا محمد بن واسع يقول عند موته يا أخوتاه أتدرون أين يذهب بي يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار أو يعفو عني قلت وهذا ان صح عن هذا المدعى فهذا غاية من تلبيس إبليس(105/406)
# وقد كان ابن عقيل يقول قد حكى عن أبي يزيد انه قال وما النار والله لئن رأيتها لأطفأنها بطرف مرقعتي أو نحو هذا قال ومن قال هذا كائن من كان فهو زنديق يجب قتله فان الأهوان للشيء ثمرة الجحد لأن من يؤمن بالجن يقشعر في الظلمة ومن لا يؤمن لا ينزعج وربما قال يا جن خذوني ومثل هذا القائل ينبغي أن يقرب الى وجهه شمعة فاذا انزعج قيل له هذه جذوة من نار # أنبأنا محمد بن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول ثنا أبو إسحاق ابراهيم بن محمد قال سمعت الحسن بن علوية يقول سمعت طيفور الصغير يقول سمعت عمي خادم أبي يزيد يقول سمعت أبا يزيد يقول سبحاني سبحاني ما أعظم شأني ثم قال حسبي من نفسي حسبي قلت هذا إن صح عنه فربما يكون الراوي لم يفهم لأنه يحتمل أن يكون قد ذكر تمجيد الحق نفسه فقال فيه سبحاني حكاية عن الله لا عن نفسه وقد تأوله له الجنيد بشيء إن لم يرجع إلى ما قلته فليس بشيء فأنبأنا ابن ناصر نا السهلكي نا محمد بن القاسم الفارسي سمعت الحسن بن علي المذكر سمعت جعفر الخلدي يقول قيل للجنيد إن أبا يزيد يقول سبحاني سبحاني أنا ربي الأعلى فقال الجنيد إن الرجل مستهلك في شهود الجلال فنطق بما استهلكه أذهله الحق عن رؤيته إياه فلم يشهد إلا الحق فنعته قلت وهذا من الخرافات # أنبأنا عبد الأول نا احمد بن أبي نصر الكوفاني نا الحسن بن محمد بن فوزي نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت احمد بن سالم البصري بالبصرة يقول في مجلسه يوما فرعون لم يقل ما قال أبو يزيد لأن فرعون قال " انا ربكم الأعلى " والرب يسمى به المخلوق يقال رب الدار وقال أبو يزيد سبحاني سبحاني لا يجوز إلا الله فقلت قد صح عنك هذا عن أبي يزيد فقال قد قال ذلك فقلت يحتمل أن يكون لهذا الكلام مقدمات يحكى بأن الله يقول سبحاني(105/407)
لأنا لو سمعنا رجلا يقول لا إله إلا أنا علمنا أنه يقرأ وقد سألت جماعة من أهل بسطام من بيت أبي يزيد عن هذا فقالوا لا نعرف هذا
أنبأنا ابن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول سمعت عامر بن أحمد قال سمعت الكتاني يقول حدثني أبو موسى الدئيلي قال سمعت أبا يزيد يقول كنت أطوف حول البيت أطلبه فلما وصلت إليه رأيت البيت يطوف حولي.
قال الشيرازي وحدثنا ابراهيم بن محمد قال سمعت الحسن بن علوية يقول سمعت طيفور الصغير يقول سمعت أبا يزيد يقول حججت أول حجة فرأيت البيت وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحب البيت.
قال الشيرازي وسمعت محمد بن داودية يقول سمعت عبد الله بن سهل يقول سمعت أبا موسى الدئيلي يقول سمعت أبا يزيد وسئل عن اللوح المحفوظ قال أنا اللوح المحفوظ.
قال الشيرازي وسمعت المظفر بن عيسى المراغي يقول سمعت سيرين يقول سمعت أبا موسى الدئيلي يقول لأبي يزيد بلغني أن ثلاثة قلوبهم على قلب جبريل قال أنا أولئك الثلاثة فقلت كيف قال قلبي واحد وهمي واحد وروحي واحد قلت وبلغني أن واحدا قلبه على قلب إسرافيل قال وأنا ذلك الواحد ومثلي مثل بحر مصطلم لا أول له ولا آخر.
قال السهلكي وقرأ رجل عند أبي يزيد " إن بطش ربك لشديد " فقال أبو يزيد وحياته أن بطشي أشد من بطشه وقيل لأبي يزيد بلغنا أنك من السبعة قال أنا كل السبعة وقيل له: إن الخلق كلها تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال والله إن لوائي أعظم من لواء محمد لوائي من نور تحته الجن والإنس كلهم مع النبيين وقال أبو يزيد سبحاني سبحاني ما أعظم سلطاني ليس مثلي في السماء يوجد ولا مثلي صفة في الأرض تعرف أنا هو وهو أنا وهو هو.(105/408)
أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا حمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا أحمد بن أبي عمران ثنا منصور بن عبد الله قال سمعت أبي يقول قيل لأبي يزيد إنك من الأبدال السبعة الذي هم أوتاد الأرض فقال أنا كل السبعة.
أنبأنا ابن ناصر نا أبو الفضل السهلكي قال سمعت أبا الحسين محمد بن القاسم الفارسي قال سمعت أبا نصر بن محمد بن إسماعيل البخاري يقول سمعت أبا الحسين علي بن محمد الجرجاني يقول سمعت الحسن بن علي بن سلام يقول دخل أبو يزيد مدينة فتبعه منها خلق كثير فالتفت اليهم فقال إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني فقالوا جن أبو يزيد فتركوه.
قال الفارسي وسمعت أبا بكر احمد بن محمد النيسابوري قال سمعت أبا بكر احمد بن إسرائيل قال سمعت خالي علي بن الحسين يقول سمعت الحسن بن علي بن حياة يقول سمعت عمي وهو أبو عمران موسى بن عيسى بن أخي أبي يزيد قال سمعت أبي يقول قال أبو زيد رفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك قلت يا عزيزي وأنا أحب أن يروني فقال يا أبا يزيد إني أريد أريكهم فقلت يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك قربني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك وأرفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا اكون أنا هناك ففعل بي ذلك وأقامني وزيني ورفعني ثم قال أخرج إلى خلقي فخطوت من عنده خطوة إلى الخلق خارجا فلما كان من الخطوة الثانية غشي علي فنادى ردوا حبيبي فإنه لا يصبر عني ساعة
أنبأنا ابن ناصر نا السهلكي قال سمعت محمد بن إبراهيم الواعظ يقول سمعت محمد بن محمد الفقيه يقول سمعت أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت أبا موسى يقول حكي عن أبي يزيد أنه قال أراد موسى عليه الصلاة والسلام أن يرى الله تعالى وأنا ما أردت أن أرى الله تعالى هو أراد أن يراني(105/409)
أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق الحيري ثنا أبو عبد الله بن باكويه ثنا أبو الطيب بن الفرغاني قال سمعت الجنيد بن محمد يقول دخل علي أمس رجل من أهل بسطام فذكر أنه سمع أبا يزيد البسطامي يقول اللهم ان كان فيسابق علمك أنك تعذب أحدا من خلقك بالنار فعظم خلقي حتى لا تسع معي غيري
قال المصنف رحمه الله أما ما تقدم من دعاويه فما يخفى قبحها وأما هذا القول فخطأ من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال إن كان في سابق علمك وقد علمنا قطعا أنه لا بد من تعذيب خلق بالنار وقد سمى الله عز وجل منهم خلقا كفرعون وأبي لهب فكيف يجوز أن يقال بعد القطع اليقين إن كان والثاني قوله تعظم خلقي فلو قال لا دفع عن المؤمنين ولكنه قال حتى لا تسع غيري فاشفق على الكفار أيضا وهذا تعاط على رحمة الله عز وجل والثالث أن يكون جاهلا بقدر هذه النار أو واثقا من نفسه بالصبر وكلا الأمرين معدوم عنده قلت ثم قال والله ولقد تكلمت أمس مع الخضر في هذه المسألة وكانت الملائكة يستحسنون قولي والله عز وجل يسمع كلامي فلم يعب علي ولو عاب علي لأخرسني قلت لولا أن هذا الرجل قد نسب إلى التغير لكان ينبغي أن يرد عليه وأين الخضر ومن أين له أن الملائكة تستحسن قوله وكم من قول معيب لم يعاجل صاحبه بالعقوبة وقد بلغني عن ميمون عبده قال بلغني عن سمنون المحب انه كان يسمي نفسه الكذاب بسبب أبياته التي قال فيها
وليس لي في سواك حظ ...... فكيفما ما شئت فامتحني
فابتلي بحبس البول فلم يقر له قرار فكان بعد ذلك يطوف على المكاتب وبيده قارورة يقطر منها بوله ويقول للصبيان ادعوا لعمكم الكذاب
قال المصنف رحمه الله إنه ليقشعر جلدي من هذه أتراه على ما يتقاوى وإنما هذه ثمرة الجهل بالله سبحانه وتعالى ولو عرفه لم يسأله إلا العافية وقد قال من عرف الله كل لسانه(105/410)
أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت محمد بن داود الجوزجاني يقول سمعت أبا العباس بن عطاء يقول كنت أرد هذه الكرامات حتى حدثني الثقة عن أبي الحسين النوري وسألته فقال كذا كان قال كنا في سميرية في دجلة فقالوا لأبي الحسين أخرج لنا من دجلة سمكة فيها ثلاثة أرطال وثلاث أواقي فحرك شفتيه فإذا سمكة فيها ثلاثة أرطال وثلاث أواقي ظهرت من الماء حتى وقعت في السميرية فقيل لأبي الحسين سألناك بالله إلا أخبرتنا بماذا دعوت فقال قلت وعزتك لئن لم تخرج من الماء حوتا فيها ثلاث أرطال وثلاث أواقي لأغرقن نفسي في دجلة
أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت قال أخبرني عبد الصمد بن محمد الخطيب ثنا الحسن بن الحسين الهمداني قال سمعت جعفرا الخلدي سمعت الجنيد يقول سمعت النوري يقول كنت بالرقة فجاءني المريدون الذين كانوا بها وقالوا نخرج ونصطاد السمك فقالوا لي يا أبا الحسين هات من عبادتك واجتهادك وما أنت عليه من الإجتهاد سمكة يكون فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص فقلت لمولاي إن لم تخرج إلى الساعة سمكة فيها ما قد ذكروا لأرمين بنفسي في الفرات فأخرجت سمكة فوزنتها فإذا فيها ثلاثة أرطال لا زيادة ولا نقصان قال الجنيد فقلت له يا أبا الحسين لو لم تخرج كنت ترمي بنفسك قال نعم
أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا ابن باكويه نا أبو يعقوب الخراط قال قال لي أبو الحسين النوري كان في نفسي من هذه الكرامات شيء وأخذت من الصبيان قصبة وقمت بين زورقين وقلت وعزتك لئن لم تخرج لي سكمة فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص لا آكل شيئا قال فبلغ ذلك الجنيد فقال كان حكمه أن تخرج له أفعى تلدغه
أخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه قال سمعت الحسين بن احمد الفارسي يقول سمعت الرقي يقول سمعت علي بن محمد بن أبان قال سمعت أبا سعيد الخراز يقول أكبر ذنبي إليه معرفتي إياه(105/411)
قال المصنف رحمه الله هذا ان حمل على معنى اني لما عرفته لم أعمل بمقتضى معرفته فعظم ذنبي كما يعظم جرم من علم وعصا وإلا فهو قبيح
# أخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه ثني أحمد الحلفاي قال سمعت الشبلي يقول أحبك الخلق لنعمائك وأنا أحبك لبلائك # أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني نا سهل بن علي الخشاب وأخبرنا أبو الوقت نا احمد بن أبي نصر نا الحسن بن محمد بن فوري قالا نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد الهمداني يقول دخلت على الشبلي فلما قمت لأخرج كان يقول لي ولمن معى الى أن خرجنا من الدار مروا أنا معكم حيث ما كنتم وأنتم في رعايتي وكلاءتي نا محمد بن ناصر نا أبو عبد الله الحميدي نا أبو بكر محمد بن أحمد الاردستاني نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت منصور بن عبد الله يقول دخل قوم على الشبلي في مرض موته الذي مات فيه فقالوا كيف تجدك يا أبا بكر فأنشأ يقول # ان سطان حبه % قال لا أقبل الرشا # فسلوه فديته % ما لقتلي تحرشا # قال ابن عقيل وقد حكي عن الشبلي أنه قال أن الله سبحانه وتعالى قال " ولسوف يعطيك ربك فترضى " والله لا رضي محمد صلى الله عليه وسلم وفي النار من أمته أحد ثم قال أن محمدا يشفع في أمته وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد قال ابن عقيل والدعوى الأولى على النبي صلى الله عليه وسلم كاذبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى بعذاب الفجار كيف وقد لعن في الخمر عشرة فدعوى أنه لا يرضى بتعذيب الله عز وجل للفجار دعوى باطلة وإقدام على جهل بحكم الشرع ودعواه بأنه من أهل الشفاعة في الكل وأنه يزيد على محمد صلى الله عليه وسلم كفر لأن الإنسان متى قطع لنفسه بأنه من أهل لجنة كان من أهل النار فكيف وهو يشيد(105/412)
لنفسه بأنه على مقام يزيد على مقام النبوة بل يزيد على المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى قال ابن عقيل والذي يمكنني في حق أهل البدع لساني وقلبي ولو اتسعت قدرتي في السيف لرويت الثرى من دماء خلق # أخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت أخبرنا جعفر بن احمد ثنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف سمعت أبا الحسين بن سمعون سمعت أبا عبد الله العلقي صاحب أبا العباس بن عطاء سمعت أبا العباس بن عطاء يقول قرأت القرآن فلما رأيت الله عز وجل ذكر عبدا فأثنى عليه حتى أبتلاه فسألت الله تعالى أن يبتليني فما مضت الأيام والليالي حتى خرج من داري نيف وعشرون ميتا ما رجع منهم أحد قال وذهب ماله وذهب عقله وذهب ولده وأهله فمكث بحكم الغلبة سبع سنين أو نحوها وكان أول شيء قاله بعد صحوه من غلبته # حقا أقول لقد كلفتني شططا % حملي هواك وصبري ان ذا عجب # قلت قلة علم هذا الرجل أثمر أن سأل البلاء وفي سؤال البلاء معنى التقاوى وذاك منأقبح القبيح والشطط الجور ولا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى وأحسن ما حمل عليه حاله أن يكون قال هذا البيت في زمان التغيير أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا أحمد بن علي بن خلف نا محمد بن الحسين السلمي سمعت أبا الحسن علي بن ابراهيم الحصري يقول دعوني وبلائي ألستم أولاد آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأمره بأمره فخالفه إذا كان أول الدن دردى كيف يكون آخره قال وقال الحصري كنت زمانا إذا قرأت القرآن لا أستعيذ من الشيطان وأقول الشيطان حتى يحضر كلام الحق # قال المصنف رحمه الله قلت أما القول الأول بأنه يتسلط على الأنبياء جرأة قبيحة وسوء أدب وأما الثاني فمخالف لما أمر الله عز وجل به فإنه قال " فإذا قرأت القرآن فأستعذ بالله " أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر نا عباد ابن(105/413)
ابراهيم النسفي ثنا محمد بن الحسين السلمي قال وجدت في كتاب أبي بخطة سمعت أبا العباس احمد بن محمد الدينوري يقول قد نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها سموا الطبع زيادة وسوء الأدب إخلاصا والخروج عن الحق شطحا والتلذذ بالمذموم طيبة وسوء الخلق صولة والبخل جلادة واتباع الهوى ابتلاء والرجوع إلى الدنيا وصولا والسؤال عملا وبذأ اللسان ملامة وما هذا طريق القوم # وقال ابن عقيل عبرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة أوقات وقالوا في المردان شب وفي المعشوقة أخت وفي المحبة مريدة وفي الرقص والطرب وجد وفي مناخ اللعهود والبطالة رباط وهذا التغيير للاسماء لا يباح $ بيان جملة مروية على الصوفية من الأفعال المنكرة $ # قلت قد سبق ذكر أفعال كثيرة لهم كلها منكرة وإنما نذكر ههنا من أمهات الأفعال وعجائبها أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني نا أبو الحسن سهل بن علي الخشاب نا أبو نصر عبد الله بن علي السراج قال ذكر عن أبي الكريتي وكان أستاذ الجنيد انه أصابته جنابة وكان عليه مرقعة تخينة فجاء إلى شاطىء الدجلة والبرد شديد فحرنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ولم يزل يغوص حتى خرج وقال عقدت أن لا أنزعها عن بدني حتى تجف علي فلم تجف عليه شهرا # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت ثنا عبد العزيز ابن علي ثنا علي بن عبد الله الهمداني ثنا الخلدي ثني جنيد قال سمعت أبا جعفر ابن الكريتي يقول أصبت ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وتقصيرا وحدثتني نفسي لو تركت حتى تصبح ويسخن لك الماء أو تدخل حماما والا اعبأ على نفسك فقلت واعجبا أنا أعامل الله(105/414)
تعالى في طول عمري يجب له على حق لا أجد المسارعة إليه وأجد الوقوف والتباطؤ والتأخر آليت لا أغتسل إلا في نهر وآليت لا أغتسلت الا في نهر وآليت لا أغتسلت الا في مرقعتي هذه وآليت لا أعصرنها وآليت لا جففنها في شمس أو كما قال قلت قد سبق في ذكر المرقعات وصف هذه المرقعة لابن التكريتي وأنه وزن أحد كميها فكان فيه أحد عشر رطلا وإنما ذكر هذا للناس ليبين أني فعلت الحسن الجميل وحكوه عنه ليبين فضله وذلك جهل محض لأن هذا الرجل عصى الله سبحانه وتعالى بما فعل وإنما يعجب هذا الفعل العوام الحمقى لا العلماء ولا يجوز لأحد أن يعاقب نفسه فقد جمع هذا المسكين لنفسه فنونا من التعذيب إلقاؤها في الماء البارد وكونه في مرقعة لا يمكنه الحركة فيها كما يريد ولعله قد بقي من مغابنه ما لم يصل إليه الماء لكثافة هذه المرقعة وبقاءها عليه مبتلة شهرا وذلك يمنعه لذة النوم وكل هذا الفعل خطأ واثم وربما كان ذلك سببا لمرضه أو قتله # أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قال أخبرنا حمد بن أحمد بن عبد الله الأصبهاني قال كانت أم علي زوجة أحمد بن حضرويه قد أحلت زوجها احمد من صداقها على أن يزور بها أبا يزيد البسطامي فحملها اليه فدخلت عليه وقعدت بين يديه مسفرة عن وجهها فلما قال لها أحمد رأيت منك عجبا أسفرت عن وجهك بين يدي أبي يزيد قالت لأني لما نظرت اليه فقدت حظوظ نفسي وكلما نظرت اليك رجعت إلى حظوظ نفسي فلما أراد أحمد الخروح من عند أبي يزيد قال له أوصني قال تعلم الفتوة من زوجتك أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا بن باكويه سمعت أبا بكر الفازي وفاز قرية بطرسوس سمعت أبا بكر السباك سمعت يوسف بن الحسين يقول كان بين أحمد بن أبي الحواري وبين أبي سليمان عقد أن لا يخالفه في شيء يؤمره به فجاءه يوما وهو يتكلم في المجلس فقال ان التنور قد سجرناه فما تأمرنا فما أجابه فأعاد مرة أو مرتين فقال له الثالثة أذهب واقعد فيه ففعل ذلك(105/415)
فقال أبو سليمان ألحقوه فإن بيني وبينه عقدا أن لا يخالفني في شيء
آمره به فقام وقاموا معه فجاؤا إلى التنور فوجدوه قاعدا في وسطه فأخذ بيده وأقامه فما أصابه خدش # قال المصنف رحمه الله هذه الحكاية بعيدة الصحة ولو صحت كان دخوله النار معصية وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليها رجلا من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال لهم أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا حطبا فجمعوا ثم دعا بنار فأضرمها ثم قال عزمت عليكم لتدخلنها قال فهم القوم أن يدخلوها فقال لهم شاب إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا النبي صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوا فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا احمد بن علي بن ثابت نا أبو نعيم الحافظ أخبرني الحسن بن جعفر بن علي أخبرني عبد الله بن إبراهيم الجزري قال قال أبو الخير الدئيلي كنت جالسا عند خير النساج فأتته امرأة وقالت له اعطيني المنديل الذي دفعته اليك قال نعم فدفعه اليها قالت كم الأجرة قال درهمان قالت ما معي الساعة شيء وأنا قد ترددت اليك مرارا فلم أراك وأنا آتيك به غدا إن شاء الله تعالى فقال لها خير ان أتيتني بهما ولم تجديني فارمى بهما في دجلة فإني إذا جئت أخذتهما فقالت المرأة كيف تأخذ من دجلة فقال لها خير هذا التفتيش فضول منك أفعلي ما أمرتك به قالت إن شاء الله فمرت المرأة قال أبو الحسين فجئت من الغد وكان خير غائبا وإذا المرأة قد جاءت ومعها خرقة فيها درهما فلم تجده فرمت بالخرقة في دجلة وإذا بسرطان قد تعلقت بالخرقة وغاصت وبعد ساعة جاء خير وفتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ وإذا(105/416)
بسرطان قد خرجت من الماء تسعى نحوه والخرقة على ظهرها فلما قربت من الشيخ أخذها فقلت له رأيت كذا وكذا فقال أحب أن لا تبوح به في حياتي فأجبته إلى ذلك # قال المصنف رحمه الله صحة مثل هذا تبعد ولو صح لم يخرج هذا
الفعل من مخالفة الشرع لأن الشرع قد أمر بحفظ المال وهذا إضاعة وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولا تلتفت إلى قول من يزعم ان هذا كرامة لأن الله عز وجل لا يكرم مخالفا لشرعه # أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت نا أبو نعيم الحافظ سمعت أبا الفرج الورياني سمعت علي بن عبد الرحيم يقول دخلت على النوري ذات يوم فرأيت رجليه منتفختين فسألته عن أمره فقال طالبتني نفسي بأكل الثمر فجعلت أدافعها فتأبى علي فخرجت فاشتريت فلما ان أكلت قلت لها قومي فصلي فأبت علي فقلت لله علي ان قعدت إلى الأرض أربعين يوما إلا في التشهد فما قعدت قلت من سمع هذا من الجهال يقول ما أحسن هذه المجاهدة ولا يدري أن هذا الفعل لا يحل لأنه حمل على النفس ما لا يجوز ومنعها حقها من الراحة وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء قال كان بعض الشيوخ في بداية إرادته يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتسمح نفسه بالقيام عن طوع قال وعالج بعضهم حب المال بأنه باع جميع ماله ورماه في البحر إذا خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود ورياء البذل قال وكان بعضهم يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ليعود نفسه الحلم قال وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الموج ليصير شجاعا # قال المصنف رحمه الله أعجب من جميع هؤلاء عندي أبو حامد كيف حكى هذه الأشياء ولم ينكرها وكيف ينكرها وقد أتى بها في معرض التعليم وقال قبل أن يورد هذه الحكايات ينبغي للشيخ أن ينظر إلى حالة المبتدىء فان رأى معه مالا فاضلا عن قدر حاجته أخذه وصرفه في الخير وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه وان رأى الكبرياء قد غلب عليه أمره أن يخرج(105/417)
إلى السوق للكد ويكلفه السؤال والمواظبة على ذلك وان رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان وان رأى شره الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم وان رآه عزبا ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء ويمنعه اللحم رأسا
# قلت وأني لأتعجب من أبي حامد كيف يأمر بهذه الأشياء التي تخالف الشريعة وكيف يحل القيام على الرأس طول الليل فينعكس الدم إلى وجهه ويورثه ذلك مرضا شديدا وكيف يحل رمي المال في البحر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وهل يحل سب مسلم بلا سبب وهل يجوز للمسلم ان يستأجر على ذلك وكيف يجوز ركوب البحر زمان اضطرابه وذلك زمان قد سقط فيه الخطاب بأداء الحج وكيف يحل السؤال لمن يقدر أن يكتسب فما أرخص ما باع أبو حامد الغزالي الفقه بالتصوف # أنبأنا ابن ناصر نا أبو الفضل السهلكي نا أبو علي عبد الله بن ابراهيم النيسابوري ثنا أبو الحسن علي بن جهضم ثنا أبو صالح الدامغاني عن الحسن بن علي الدامغاني قال كانرجل من أهل بسطام لا ينقطع عن جلس أبي يزيد لا يفارقه فقال له ذات يوم يا أستاذ أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل وقد تركت الشهوات ولست أجد في قلبي من هذا الذي نذكره شيئا البتة فقال له أبو يزيد لو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ثلاثمائة سنة وأنت على ما آراك لا تجد من هذا العلم زرة قال ولم يا أستاذ قال لأنك محجوب بنفسك فقال له أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب قال نعم ولكنك لم تقبل قال بلى أقبل واعمل ما تقول قال أبو يزيد أذهب الساعة إلى الحجام وأحلق رأسك ولحيتك وأنزع عنك هذا اللباس وابرز بعباءة وعلق في عنقك مخلاة واملأها جوزا وأجمع حولك صبيانا وقل بأعلا صوتك يا صبيان من يصفعني صفعة أعطيته جوزة وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه فقال يا أبا يزيد سبحان الله تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل(105/418)
هذا فقال أبو يزيد قولك سبحان الله شرك قال وكيف قال لأنك عظمت نفسك فسبحتها فقال يا أبا يزيد هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله ولكن دلني على غيره حتى أفعله فقال أبو يزيد ابتدر هذا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك ما يصلح لك قال لا أطيق هذا قال انك لا تقبل # قال المصنف رحمه الله قلت ليس في شرعنا بحمد الله من هذا شيء بل فيه تحريم ذلك والمنع منه وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام ليس للمؤمن(105/419)
أن يذل نفسه ولقد فاتت الجمعة حذيفة فرأى الناس راجعين فاستتر لئلا يرى بعين النقص في قصة الصلاة وهل طالب الشرع أحدا بمحو أثر النفس وقد قال صلى الله عليه وسلم من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله كل هذا للابقاء على جاه النفس ولو أمر بهلول الصبيان أن يصفعوه لكان قبيحا فنعوذ بالله من هذه العقول الناقصة التي تطالب المبتدىء بما لا يرضاه الشرع فينفر # وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الأحياء عن يحيى بن معاذ أنه قال قلت لأبي يزيد هل سألت الله تعالى المعرفة يقال عزت عليه أن يعرفها سواه فقلت هذا إقرار بالجهل فإن كان يشير إلى معرفة الله تعالى في الجملة وأنه موجود وموصوف بصفات وهذا لا يسمع أحدا من المسلمين جهله وان تخايل له أن معرفته هي اطلاع على حقيقة ذاته وكنهها فهذا جهل به # وحكى أبو حامد أن أبا تراب النخشبي قال لمريد له لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة قلت وهذا فوق الجنون بدرجات # وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني انه قال نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي فدخلت الحمام وعينت على ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي # قال أبو حامد فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا صلاح قلوبهم ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام قلت سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الأحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال وأي حالة أقبح وأشد من حال من خالف الشرع ويرى المصلحة في النهي عنه وكيف يجوز أن يطلب(105/420)
طلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة ومضمون ذلك الشريعة ما تفي بالسياسة # وكيف يحل للمسلم أن يعرف نفسه لأن يقال عنه سارق وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض ولو أن رجلا وقف مع امرأته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول عنه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك ثم كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه ثم في نص مذهب احمد والشافعي أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده ثم من أرباب الأحوال حتى يعملوا بواقعاتهم كلا والله إن لنا شريعة لو رام أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب # أخبرنا أبو بكر بن حبيب نا أبو سعد بن أبي صادق نا بن باكويه قال سمعت محمد بن احمد النجاري يقول كان على بن بابويه من الصوفية فاشترى يوما من الأيام قطعة لحم فأحب أن يحمله إلى البيت فاستحيا من أهل السوق فعلق اللحم في عنقه وحمله الى بيته # قلت واعجبا من قوم طالبوا أنفسهم بمحو أثر الطبع وذلك أمر لا يمكن ولا هو مراد الشرع وقد ركز في الطباع إن الإنسان لا يحب أن يرى إلا متجملا في ثيابه وأنه يستحيي من العري وكشف الرأس والشرع لا ينكر عليه هذا وما فعله هذا الرجل من الإهانة لنفسه بين الناس أمر قبيح في الشرع والعقل فهو إسقاط مروءة لا رياضة كما لو حمل نعليه على رأسه # وقد جاء في الحديث الأكل في السوق دناءة فإن الله قد أكرم الآدمي وجعل لكثير من الناس من يخدمه فليس من الدين إذلال الرجل نفسه بين الناس وقد تسمى قوم من الصوفية بالملامتية فاقتحموا الذنوب فقالوا مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من آفات الجاه والمرائين وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بأمرأة فاحبلها فقيل له لم تعزل فقال(105/421)
بلغني أن العزل مكروه
فقيل له وما بلغك أن الزنا حرام وهؤلاء الجهلة قد أسقطوا جاههم عند الله سبحانه ونسوا أن المسلمين شهداء الله في الأرض # اخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا بن باكويه قال سمعت أبا أحمد الصغير سمعت أبا عبد الله بن خفيف سمعت أبا الحسن المديني يقول خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية وكان في احدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا فبينا أنا أمشي على شاطىء النهر رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتهما وقلت هذه لفقير ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبيطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن النوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء فلما رأيته علمت أن الثياب له فنزلت اليه فنظر إلي وقال يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي قد أماتني موتات وقال لي مالك منا الا الذكر الذي لسائر الناس وأخذ يبكي ويقول ترى ما يفعل بي فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل فأقمنا عنده إلى العصر ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويغلقون الأبواب ويصعدون السطوح فسألناهم فقالوا السباع تدخل القرية بالليل وكان حوالي القرية أجمة عظيمة وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين فلما سمع النوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع ويصيح ويقول أين أنت يا سبع فما شككنا أن الأسد قد أفترسه أو قد هلك في أصول القصب فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه فسألته أي شيء كان ذلك الحال قال لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا فقلت لأطرحنك إلى ما تفزعين منه # قلت لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين وكيف يجوز للانسان ان يلقي نفسه في ماء وطين وهل هذا إلا فعل المجانين وأين الهيبة والتعظيم من قوله ترى ما يفعل بي وما وجه هذا(105/422)
الانبساط وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة
ثم ما الذي يريده غير الذكر ولقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه إلى سبع أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها ولقد سمع هذا الرجل بعض أصحابه يقول مثل هذا القول فأجابه بأجود جواب أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب نا علي بن أبي صادق نا ابن باكويه نا يعقوب الحواط نا أبو أحمد المغازي قال رأيت النوري وقد جعل نفسه إلى أسفل ورجليه إلى فوق وهو يقول من الخلق أوحشتني ومن النفس والمال والدنيا افقرتني ويقول ما معك إلا علم وذكر قال فقلت له إن رضيت وإلا فانطح برأسك بالحائط أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا الحسن بن محمد بن الفضل الكراماني نا سهل بن علي الخشاب نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت أبا عمرو بن علوان يقول حمل أبو الحسين النوري ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له وجلس على قنطرة وجعل يرمي واحدا واحدا منها إلى الماء ويقول جثتي تريدي أن تخدعيني منك بمثل هذا قال السراج فقال بعض الناس لو نفقها في سبيل الله كان خيرا له فقلت إن كانت تلك الدنانير تشغله عن الله طرفة عين كان الواجب أن يرميها في الماء دفعة واحدة حتى يكون أسرع لخلاصه من فتنتها كما قال الله عز وجل " فطفق مسحا بالسوق والأعناق " قلت لقد أبان هؤلاء القوم عن جهل بالشرع وعدم عقل وقد بينا فيما تقدم أن الشرع أمر بحفظ المال وأن لا يسلم إلا إلى رشيد وجعله قواما للآدمي والعقل يشهد بأنه إنما خلق للمصالح فاذا رمى به الإنسان فقد أفسد ما هو سبب صلاحه وجهل حكمه الواضع واعتذار السراج له أقبح من فعله لأنه أن كان خاف فتنته فينبغي أن يرميه إلى فقير ويتخلص ومن جهل هؤلاء حملهم تفسير القرآن على رأيهم الفاسد لأنه يحتج بمسح السوق والأعناق ويظن بذلك جواز الفساد والفساد لا يجوز في شريعة وإنما مسح بيده(105/423)
عليها وقال أنت في سبيل الله وقد سبق بيان هذا وقال أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال أبو جعفر الدراج خرج أستاذي يوما يتطهر فأخذت كتفه
ففتشته فوجدت فيه شيئا من الفضة مقدار أربعة دراهم وكان ليلا وبات لم يأكل شيئا فلما رجع قلت له في كتفك كذا وكذا درهما ونحن جياع فقال أخذته رده ثم قال لي بعد ذلك خذه وأشتر به شيئا فقلت له بحق معبودك ما أمر هذه القطع فقال لم يرزقني الله من الدنيا شيئا غيرها فأردت أن أوصي أن تدفن معي فاذا كان يوم القيامة رددتها إلى الله وأقول هذا الذي أعطيتني من الدنيا أخبرنا ابن حبيب نا ابن أبي صادق نا ابن باكويه ثنا عبد الواحد بن بكر قال سمعت أبا بكر الجوال سمعت أبا عبد الله الحصري يقول مكث أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الفقراء ويصوم ويخرج بين العشائين فيتصدق من الأبواب ما يفطر عليه # قال المصنف رحمه الله قلت لو علم هذا الرجل أن المسألة لا تجوز لمن يقدر على الإكتساب لم يفعل ولو قدرنا جوازها فأين أنفة النفس من ذل الطلب أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي التميمي نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد بن جنبل ثني أبي ثنا إسماعيل ثنا معمر عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وما على وجهه مزعة لحم قال أحمد وحدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ الرجل حبلا فيحتطب ثم يجيء فيضعه في السوق فيبيعه ثم يستغني به فنفقه على نفسه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه # قلت أنفرد به البخاري واتفقا على الذي قبله وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي والمرة القوة وأصلها من شدة فتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى(105/424)
المرة في الحديث شدة أمر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكل والتعب قال الشافعي رضي الله عنه لا تحل الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب
# أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز نا أبو بكر بن ثابت أنبأنا أبو سعد الماليني قال سمعت أبا بكر محمد بن عبد الواحد الهاشمي سمعت أبا الحسن يونس بن أبي بكر الشبلي يقول قام أبي ليلة فترك فرد رجل على السطح والأخرى على الدار فسمعته يقول لئن أطرفت لأرمين بك إلى الدار فما زال على تلك الحال حتى أصبح فلما أصبح قال لي يا بني ما سمعت الليلة ذاكرا الله عز وجل إلا ديكا يساوي دانقين # قال المصنف رحمه الله هذا الرجل قد جمع بين شيئين لا يجوزان أحدهما مخاطرته بنفسه فلو غلبه النوم فوقع كان معينا على نفسه ولا شك انه لو رمى بنفسه كان قد اتى معصية عظيمة فتعرضه للوقوع معصية والثاني انه منع عينه حظها من النوم وقد قال صلى الله عليه وسلم ان لجسدك عليك حقا وان لزوجتك عليك حقا وان لعينك عليك حقا وقال إذا نعس أحدكم فليرقد ومر بحبل قد مدته زينب فاذا فترت أمسكت به فأمر بحله وقال ليصل أحدكم نشاطه فاذا كسل أو فتر فليقعد وقد تقدمت هذه الأحاديث في كتابنا هذا # أخبرنا محمد بن ناصر نا أبو عبد الله الحميدي نا أبو بكر الأردستاني ثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا العباس البغدادي يقول كنا نصحب أبا الحسن بن أبي بكر الشبلي ونحن أحداث فأضافنا ليلة فقلنا بشرط أن لا تدخل علينا أباك فقال لا يدخل فدخلنا داره فلما أكلنا اذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة ثمان شموع فجاء وقعد وسطنا فاحتشمنا منه فقال يا سادة عدوني فيما بينكم طشت شموع ثم قال أين غلامي أبو العباس فتقدم اليه فقال غنني الصوت الذي كنت تغني ولما بلغ الحيرة حادى جملى حارا # فقلت احطط بها رحلي % ولا نحفل بمن سارا فغنيته فتغير وألقى الشموع من يده وخرج أخبرنا ابن ناصر ثنا هبة الله(105/425)
ابن عبد الله الواسطي نا أبو بكر احمد بن علي الحافظ نا محمد بن احمد بن أبي الفوارس نا الحسين بن احمد بن عبد الرحمن الصفار قال خرج الشبلي يوم عيد وقد حلق اشفار عينيه وحاجبيه وتعصب بعصابة وهو يقول # للناس فطر وعيد % اني فريد وحيد # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد نا احمد بن علي بن ثابت نا التنوخي ثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أبي صابر الدلال قال وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه فوقف عليه في الحلقة غلام جميل لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجها منه يعرف بابن مسلم فقال له تنح فلم يبرح فقال له الثانية تنح يا شيطان عنا فلم يبرح فقال له الثالثة تنح وإلا والله خرقت كل ما عليك وكانت عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كثيرة فانصرف الفتى فقال الشبلي # طرحوا اللحم للبزا % ة على ذروتي عدن # ثم لاموا البزاة إذ % خلعوا منهم الرسن # لو أرادوا صلاحنا % ستروا وجهك الحسن # قال ابن عقيل من قال هذا فقد أخطأ طريق الشرع لأنه يقول ما خلق الله عز وجل هذا الإنسان إلا للافتتان به وليس كذلك وإنما خلقه للاعتبار والإمتحان فان الشمس خلقت لتضىء لا لتعبد وبإسناد عن أحمد بن محمد النهاوندي يقول مات للشبلي ابن ولد كان أسمه عليا فجزت أمه شعرها عليه وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلقها جميعها فقيل له يا أستاذ ما حملك على هذا فقال جزت هذه شعرها على مفقود ألا أحلق أنا لحيتي على موجود وبإسناد عن عبد الله بن علي السراج قال ربما كان الشبلي يلبس ثيابا مثمنة ثم ينزعها ويضعها فوق النار قال وذكر عنه أنه أخذ قطعة عنبر فوضعها على النار يبخر بها ذنب الحمار وقال بعضهم دخلت عليه فرأيت بين يديه اللوز والسكر يحرقه(105/426)
بالنار قال السراج إنما أحرقه بالنار لأنه كان يشغله عن ذكر الله قلت اعتذار السراج عنه أعجب من فعله قال السراج وحكى عنه أنه باع عقارا ففرق ثمنه وكان له عيال فلم يدفع اليهم شيئا وسمع قارئا يقرأ أخسئوا فيها فقال ليتني كنت واحدا منهم قلت وهذا الرجل ظن ان الذي يكلمهم هو الله تعالى والله لا يكلمهم ثم لو كلمهم كلام إهانة فأي شيء هذا حتى يطلب قال السراج # وقال الشبلي يوما في مجلسه إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفؤها قلت وهذا من جنس ما ذكرناه عن أبي يزيد وكلاها من إناء واحد وبإسناد عن أبي علي الدقاق يقول بلغني أن الشبلي اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم # قال المصنف رحمه الله وهذا فعل قبيح لا يحل لمسلم أن يؤذي نفسه وهو سبب للعمى ولا تجوز إدامة السهر لأن فيه إسقاط حق النفس والظاهر أن دوام السهر والتقلل من الطعام أخرجه إلى هذه الأحوال والأفعال # وبإسناد عن أبي عبد الله الرازي قال كساني رجل صوفا فرأيت على رأس الشبلي قلنوسة تليق بذلك الصوف فتمنيتها في نفسي فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي فتبعته وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إلي فلما دخل داره فقال أنزع الصوف فنزعته فلفه وطرح القلنوسة عليه ودعى بنار فأحرقهما قلت # وقد حكى أبو حامد الغزالي أن الشبلي أخذ خمسين دينارا فرماها في دجلة وقال ما أعزك أحد إلا أذله الله وأنا أتعجب من أبي حامد أكثر من تعجبي من الشبلي لأنه ذكر ذلك على وجه المدح لا على وجه الإنكار فأين أثر الفقه وبإسناد عن حسين بن عبد الله القزويني قال حدثني من كان جالسا أنه قال تعذر علي قوتي يوما ولحقني ضرورة فرأيت قطعة ذهب مطرحة في الطريق فأردت أخذها فقلت لقطة فتركتها ثم ذكرت الحديث الذي يروي لو أن الدنيا كانت دما عبيطا لكان قوت المسلم منها حلالا فأخذتها وتركتها في(105/427)
فمي ومشيت غير بعيد فإذا أنا بحلقة فيها صبيان وأحدهم يتكلم عليهم فقال له واحد متى يجد العبد حقيقة الصدق فقال إذا رمى القطعة من الشدق فأخرجتها من فمي ورميتها # قال المصنف رحمه الله لا تختلف الفقهاء ان رميه إياها لا يجوز والعجب انه رماها بقول صبي لا يدري ما قال وقد حكى أبو حامد الغزالي أن شقيقا البلخي جاء إلى أبو القاسم الزاهد وفي طرف كسائه شيء مصرور فقال له أي شيء معك قال لوزات دفعها إلي أخ لي وقال أحب أن تفطر عليها فقال يا شقيق وأنت تحدث نفسك أن تبقى إلى الليل لا كلمتك أبدا فاغلق الباب في وجهي ودخل # قال المصنف رحمه الله أنظروا إلى هذا الفقه الدقيق كيف هجر مسلما على فعل جائز بل مندوب لأن الإنسان مأمور أن يستعد لنفسه بما يفطر عليه واستعداد الشيء قبل مجىء وقته حزم ولذلك قال الله عز وجل " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " وقد أدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه قوت سنة وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله وأدخر الباقي ولم ينكر عليه فالجهل بالعلم أفسد هؤلاء الزهاد وبإسناد أحمد بن إسحاق العماني قال رأيت بالهند شيخا وكان يعرف بالصابر قد أتى عليه مائة سنة قد غمض إحدى عينيه فقلت له يا صابر ما بلغ من صبرك قال إني هويت النظر إلى زينة الدنيا فلم أحب أن أشتفي منها فغمضت عيني منذ ثمانين سنة فلم أفتحها وقد حكى لنا عن آخر انه فقأ احد عينيه وقال النظر إلى الدنيا بعينين إسراف قلت كان قصده أن ينظر إلى الدنيا بفرد عين ونحن نسأل الله سلامة العقول وقد حكى يوسف بن أيوب الهمداني عن شيخه عبد الله الجوني انه كان يقول هذه الدولة ما أخرجتها من المحراب بل من موضع الخلاء وقال كنت أخدم في الخلاء فبينما أنا يوما أكنسه وأنظفه قالت لي نفسي إذهبت عمرك في هذا فقلت انت تأنفين من خدمة عباد الله فوسعت رأس البئر ورميت نفسي فيها وجعلت أدخل النجاسة في فمي(105/428)
فجاؤا وأخرجوني وغسلوني قلت أنظروا إلى هذا المسكين كيف اعتقد جمع الأصحاب خلفه دولة واعتقد أن تلك الدولة انما حصلت بالقاء نفسه في النجاسة وإدخالها في فيه وقد نال بذلك فضيلة أثيب عليها بكثرة الأصحاب وهذا الذي فعله معصية توجب العقوبة وفي الجملة لما فقد هؤلاء العلم كثر تخبيطهم # وبإسناد عن محمد بن علي الكتاني يقول دخل الحسين بن منصور مكة في ابتداء أمره فجهدنا حتى أخذنا مرقعته قال السوسي أخذنا منها قملة فوزناها فإذا فيها نصف دانق من كثرة رياضته وشدة مجاهدته قلت أنظروا إلى هذا الجاهل بالنظافة التي حث عليها الشرع وأباح حلق الشعر المحظور على المحرم لأجل تأذيه من القمل وجبر الحظر بالفدية وأجهل من هذا من أعتقد هذا رياضته # وبإسناد عن أبي الله بن ملقح يقول كان عندنا فقير صوفي في الجامع فجاع مرة جوعا شديدا فقال يا رب إما أن تطعمني إما أن ترميني بشرف المسجد فجاء غراب فجلس على الشرف فوقعت عليه من تحت رجله آجرة فجرى دمه وكان يمسح الدم ويقول أيش تبالي بقتل العالم قلت قتل الله هذا ولا أحياه في مقابلته هذا الاستنباط هلا قام إلى الكسب أو إلى الكدية وبإسناد عن غلام خليل قال رأيت فقيرا يعدو ويلتفت ويقول أشهدكم على الله هوذا يقتلني وسقط ميتا رأي بعض رجال الصوفية في الملانفية # وفي الصوفية قوم يسمون الملانفية اقتحموا الذنوب وقالوا مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من الجاه وهؤلاء قد أسقطوا جاههم عند الله لمخالفة الشرع قال وفي القوم طائفة يظهرون من أنفسهم أقبح ما هم فيه ويكتمون أحسن ما هم عليه وفعلهم هذا منأقبح الأشياء ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وقال في حق ما عز هلا سترته بثوبك يا هذا واجتاز على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وهو يتكلم مع صفية زوجته فقال له أنها صفية وقد علم الناس التجافي عن ما يوجب(105/429)
سوء الظن فان المؤمنين شهداء الله في الأرض وخرج حذيفة إلى الجمعة ففاتته فرأى الناس وهم راجعون فاستتر لئلا يسوء ظن الناس به وقد قدمنا هذه وقال أبو بكر الصديق لرجل قال له إني لمست امرأة وقبلتها فقال تب إلى الله ولا تحدث أحدا بذلك وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إني أتيت من أجنبية ما دون الزنا يا رسول الله قال ألم تصل معنا قال بلى يا رسول الله قال ألم تعلم أن الصلاتين تكفر ما بينهما وقال رجل لبعض الصحابة إني فعلت كذا وكذا من الذنوب فقال لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك فهؤلاء قد خالفوا الشريعة وأرادوا قطع ما جبلت عليه النفوس من اندس في الصوفية من أهل الاباحة # وقد اندس في الصوفية أهل الإباحة فتشبهوا بهم حفظا لدمائهم وهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام # القسم الأول كفار فمنهم قوم لا يقرون بالله سبحانه وتعالى ومنهم من يقر به ولكن يجحد النبوة ويرى أن ما جاء به الأنبياء محال وهؤلاء لما أرادوا أمراح أنفسهم في شهواتها لم يجدوا شيئا يحقنون به دماءهم ويستترون به وينالون فيه أغراض النفوس كمذهب التصوف فدخلوا فيه ظاهرا وهم في الباطن كفرة وليس لهؤلاء إلا السيف لعنهم الله # والقسم الثاني قوم يقرون بالإسلام إلا أنهم ينقسمون قسمين القسم الأول يقلدون في أفعالهم لشيوخهم من غير اتباع دليل ولا شبهة فهم يفعلون ما يأمرونهم به وما رأوهم عليه # القسم الثالث قوم عرضت لهم شبهات فعملوا بمقتضاها والأصل الذي نشأت منه شبهاتهم أنهم لما هموا بالنظر في مذاهب الناس لبس عليهم إبليس فأراهم أن الشبهة تعارض الحجج وأن التمييز يعسر وأن المقصود أجل من أن ينال بالعلم وإنما الظفر به رزق يساق إلى العبد لا بالطلب فسد عليهم باب النجاة الذي هو طلب العلم فصاروا يبغضون اسم العلم كما يبغض الرافضي(105/430)
اسم أبي بكر وعمر ويقولون العلم حجاب والعلماء محجوبون عن المقصود بالعلم فان انكر عليم عالم قالوا لأتباعهم هذا موافق لنا في الباطن وإنما يظهر ضد ما نحن فيه للعوام الضعاف العقول فان جد في خلافهم قالوا هذا أبله مقيد بقيود الشريعة محجوب عن المقصود ثم عملوا على شبهات وقعت لهم ولو فطنوا لعلموا أن عملهم بمقتضى شبهاتهم علم فقد بطل إنكارهم العلم وأنا أذكر شبهاتهم وأكشفها إن شاء الله تعالى وهي ست شبهات # الشبهة الأولى انهم قالوا إذا كانت الأمور مقدرة في القدم وأن أقواما خصوا بالسعادة وأقواما بالشقاوة والسعيد لا يشقى والشقي لا يسعد والأعمال لا تراد لذاتها بل لاجتلاب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال فلا وجه لاتعاب النفس في عمل ولا نكفها عن ملذوذ لأن المكتوب في القدر واقع لا محالة # والجواب عن هذه الشبهة أن يقال لهم هذا رد لجميع الشرائع وابطال لجميع أحكام الكتب وتبكيت للأنبياء كلهم فيما جاءوا به لأنه إذا قال في القرآن ان أقيموا الصلاة قال القائل لماذا ان كنت سعيدا فمصيري إلى السعادة وان كنت شقيا فمصيري إلى الشقاوة فما تنفعني إقامة الصلاة وكذلك اذا قال ولا تقربوا الزنا يقول القائل لماذا أمنع نفسي ملذوذها والسعادة والشقاوة مقضيتان قد فرغ منهما وكان لفرعون أن يقول لموسى حين قال له " هل لك الى أن تزكى " مثل هذا الكلام ثم يترقى الى الخالق فيقول ما فائدة ارسالك الرسل وسيجري ما قدرته وما يفضي الى رد الكتب وتجهيل الرسل محال باطل ولهذا كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه حين قالوا ألا نتكل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له واعلم ان للآدمي كسبا هو اختياره فعليه يقع الثواب والعقاب فاذا خالف تبين لنا ان الله عز وجل قضى في السابق بأن يخالفه وإنما يعاقبه على خلافه لا على قضائه ولهذا يقتل القائل ولا يعتذر له بالقدر وإنما ردهم الرسول عن ملاحظة القدر الى العمل لأن الأمر والنهي حال ظاهر(105/431)
والمقدر مكن ذلك أمر باطن وليس لنا أن نترك ما عرفناه من تكليف مالا نعلمه من المقضى وقول فكل ميسر لما خلق له إشارة إلى أسباب القدر فانه من قضى له بالعلم يسر له طلبه وحبه وفهمه ومن حكم له بالجهل نزع حب العلم من قلبه وكذلك من قضى له بولد يسر له النكاح ومن لم يقض له بولد لم ييسر له # الشبهة الثانية أنهم قالوا إن الله عز وجل مستغن عن أعمالنا غير متأثر بها معصية كانت أو طاعة فلا ينبغي أن نتعب أنفسنا في غير فائدة # وجواب هذه الشبهة أن تجيب أولا بالجواب الأول ونقول هذا رد على الشرع فيما أمر به فكأنا قلنا للرسول وللمرسل لا فائدة فيما أمرتنا به ثم نتكلم عن الشبهة فنقول من يتوهم أن الله جل وعلا ينتفع بطاعة أو يتضرر بمعصية أو ينال بذلك غرضا فما عرف الله جل جلاله لأنه مقدس عن الاعراض والاغراض ومن انتفاع أو ضرر وإنما نفع الأعمال تعود على أنفسنا كما قال عز وجل ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإنما يأمر الطبيب المريض بالحمية لمصلحة المريض لا لمصلحة الطبيب وكما أن للبدن مصالح من الأغذية ومضار فللنفس مصالح من العلم والجهل والاعتقاد والعمل فالشرع كالطبيب فهو أعرف بما يأمر به من المصالح هذا مذهب من علل وأكثر العلماء قالوا أفعاله لا تعلل وجواب آخر وهو انه إذا كان غنيا عن أعمالنا كان غنيا عن معرفتنا له وقد أوجب علينا معرفته فكذلك أوجب طاعته فينبغي أن تنظر إلى أمره لا إلى الغرض بأمره # الشبهة الثالثة قالوا قد ثبت سعة رحمة الله سبحانه وتعالى وهي لا تعجز عنا فلا وجه لحرمان نفوسنا مرادها # فالجواب كالجواب الأول لأن هذا القول يتضمن إطراح ما جاء به الرسل من الوعيد وتهوين ما شددت في التحذير منه في ذلك وبالغت في ذكر(105/432)
عقابه ومما يكشف التلبيس في هذا أن الله عز وجل كما وصف نفسه بالرحمة وصفها بشديد العقاب ونحن نرى الأولياء والأنبياء يبتلون بالأمراض والجوع ويأخذون بالزلل وكيف وقد خافه من قطع له بالنجاة فالخليل يقول يوم القيامة نفسي نفسي والكليم يقول نفسي نفسي وهذا عمر رضي الله عنه يقول الويل لعمر ان لم يغفر له واعلم ان من رجا الرحمة تعرض لأسبابها فمن أسبابها التوبة من الزلل كما أن من رجا أن يحصد زرع وقد قال الله عز وجل " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله " يعني أن الرجاء بهؤلاء يليق وأما المصرون على الذنوب وهو يرجون الرحمة فرجاؤهم بعيد وقد قال عليه الصلاة والسلام الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني وقد قال معروف الكرخي رجاؤك لرحمة لمن لا تطيعه خذلان وحمق واعلم أنه ليس في الأفعال التي تصدر من الحق سبحانه وتعالى ما يوجب أن يؤمن عقابه إنما في أفعاله ما يمنع اليأس من رحمته وكما لا يحسن اليأس لما يظهر من لطفه في خلقه لا يحسن الطمع لما يبدو من أخذانه وانتقامه فان من قطع أشرف عضو بربع دينار لا يؤمن أن يكون عقابه غدا هكذا # الشبهة الرابعة ان قوما منهم وقع لهم أن المراد رياضة النفوس لتخلص من أكدارها المردية فلما راضوها مدة ورأوا تعذر الصفاء قالوا ما لنا نتعب أنفسنا في أمر لا يحصل لبشر فتركوا العمل # وكشف هذا التلبيس انهم ظنوا أن المراد قمع ما في البواطن من الصفات البشرية مثل قمع الشهوة والغضب وغير ذلك وليس هذا مراد الشرع ولا يتصور إزالة ما في الطبع بالرياضة وإنما خلقت الشهوات لفائدة إذ لولا شهوة الطعام هلك الإنسان ولولا شهوة النكاح انقطع النسل # ولولا الغضب لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يؤذيه وكذلك حب المال مركوز في الطباع لأنه يوصل إلى الشهوات وإنما المراد من الرياضة كف النفس(105/433)
عما يؤذي من جميع ذلك وردها إلى الإعتدال فيه وقد مدح الله عز وجل من نهي النفس عن الهوى وإنما تنتهي عما تطلبه ولو كان طلبه قد زال عن طبعها ما احتاج الإنسان إلى نهبها وقد قال الله عز وجل " والكاظمين الغيظ " وما قال والفاقدين الغيظ والكظم رد الغيظ يقال كظم البعير على جرته اذا ردها في حلقه فمدح من رد النفس عن العمل بمقتضى هيجان الغيظ فمن أدعى أن الرياضة تغير الطباع ادعى المحال وإنما المقصود بالرياضة كسر شرة شهوة النفس والغضب لا إزالة أصلها والمرتاض كالطبيب العاقل عند حضور الطعام يتناول ما يصلحه ويكف عما يؤذيه وعادم الرياضة كالصبي الجاهل يأكل ما يشتهي ولا يبالي بما جنى # الشبهة الخامسة ان قوما منهم داموا على الرياضة مدة فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا لا نبالي الآن ما عملنا وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام ولو تجوهروا لسقطت عنهم قالوا وحاصل النبوة تجمع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام ولسنا من العوام فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة وهؤلاء قد رأوا ان من أثر جوهرهم ارتفاع الحمية عنهم حتى انهم قالوا أن رتبة الكمال لا تحصل إلا لمن رأى أهله مع النبي فلم يقشعر جلده فان اقشعر جلده فهو ملتفت الى حظ نفسه ولم يكمل بعد إذ لو كمل لماتت نفسه فسموا الغيرة نفسا وسموا ذهاب الحمية الذي هو وصف المخانيث كمال الإيمان # وقد ذكر ابن جرير في تاريخه إلى الريوندية كانوا يستجلون الحرمات فيدعو الرجل منهم الجماعة الى بيته فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته # وكشف هذه الشبهة انه ما دامت الأشباح قائمة فلا سبيل الى ترك الرسوم الظاهرة من التعبد فان هذه الرسوم وضعت لمصالح الناس وقد يغلب صفاء القلب على كدر الطبع إلا أن الكدر يرسب مع الدوام على الخير ويركد فأقل شيء يحركه كالمدرة تقع في الماء الذي تحته حمأة وما مثل هذا الطبع إلا كالماء(105/434)
يجري بسفينة النفس والعقل مداد ولو أن المداد مد عشرين فرسخا ثم أهمل عادت السفينة تنحدر ومن أدعى تغير طبعه كذب ومن قال اني لا أنظر إلى المستحسنات بشهوة لم يصدق كيف وهؤلاء لو فاتتهم لقمة أو شتمهم شاتم تغيروا فأين تأثير العقل والهوى يقودهم وقد رأينا أقواما منهم يصافحون النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم لا يصافح المرأة وبلغنا عن جماعة منهم أنهم يؤاخون النساء ويخلون بهن ثم يدعون السلامة وقد رأوا أنهم يسلمون من الفاحشة وهيهات فأين السلامة من إثم الخلوة المحرمة والنظر الممنوع منه وأين الخلاص من جولان الفكر الردىء وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو خلا عظمان نخران لهم أحدهما بالأخر يشير إلى الشيخ والعجوز وبإسناد عن ابن شاهين قال ومن الصوفية قوما أباحوا الفروج بادعاء الاخوة فيقول أحدهم للمرأة تؤاخيني على ترك الإعتراض فيما بيننا قلت وقد روى لنا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب رياضة النفوس قال روي لنا أن سهل بن علي المروزي كان يقول لامرأة أخيه وهي معه في الدار استتري مني زمانا ثم قال لها كوني كيف شئت قال الترمذي وكان ذلك منه حين وجد شهوته قلت أما موت الشهوة هذا لا يتصور مع حياة الآدمي وإنما يضعف والإنسان قد يضعف عن الجماع ولكنه يشتهي اللمس والنظر ثم يقدر أن جميع ذلك أرتفع عنه أليس نهى الشرع عن النظر والنظر باق وهو عام وقد اخبرنا ابن ناصر باسناد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قيل لأبي نصر النصراباذي أن بعض الناس يجالس النسوان ويقول أنا معصوم في رؤيتهن فقال ما دامت الأشباح قائمة فان الأمر والنهي باق والتحليل والتحريم مخاطب به ولن يجترىء على الشبهات إلا من يتعرض للمحرمات وقد قال أبو علي الروزباري وسئل عمن يقول وصلت إلى درجة لا تؤثر في اختلاف الأحوال فقال قد وصل ولكن إلى سقر وبإسناد عن الجريري يقول سمعت أبا القاسم الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة فقال(105/435)
الرجل أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل فقال الجنيد أن هذا قول قوم تكلموا باسقاط الأعمال وهذه عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا وأن العارفين بالله أخذوا الاعمال عن الله واليه رجعوا فيها ولو بقيت
ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها لأنه أوكد في معرفتي به وأقوى في حالي # وباسناد عن أبي محمد المرتعش يقول سمعت أبا الحسين النوري يقول من رأيته يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد علم شرعي فلا تقربنه ومن رأيته يدعي حالة باطنة لايدل عليها ويشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه # الشبهة السادسة أن أقواما بالغوا في الرياضة فرأوا ما يشبه نوع كرامات أو منامات صالحة أو فتح عليهم كلمات لطيفة أثمرها الفكر والخلوة فاعتقدوا انهم قد وصلوا إلى المقصود وقد وصلنا فما يضرنا شيء ومن وصل إلى الكعبة أنقطع عن السير فتركوا الأعمال إلا أنهم يزينون ظواهرهم بالمرقعة والسجادة والرقص والوجد ويتكلمون بعبارات الصوفية في المعرفة والوجد والشوق وجوابهم هو جواب الذين قبلهم # قال ابن عقيل أعلم أن الناس شردوا على الله عز وجل وبعدوا عن وضع الشرع إلى أوضاعهم المخترعة فمنهم من عبد سواه تعظيما له عن العبادة وجعلوا تلك وسائل على زعمهم ومنهم من وحد إلا أنه أسقط العبادات وقال هذه أشياء نصبت للعوام لعدم المعارف وهذا نوع شرك لأن الله عز وجل لما عرف أن معرفته ذات قعر بعيد وجو عال وبعيد أن يتقي من لم يعرف خوف النار لأن الخلق قد عرفوا قدر لذعها وقال لأهل المعرفة " ويحذركم الله نفسه " وعلم أن المتعبدات أكثرها تقتضي الإنس بالأمثال ووضع الجهات والأمكنة والأبنية والحجارة للانساك والإستقبال فابان عن حقائق الإيمان به فقال وليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله وقال " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " فعلم أن المعول على(105/436)
المقاصد ولا يكفي مجرد المعارف من غير امتثال كما تعول عليه الملحدة الباطنية وشطاح الصوفية
# وباسناد عن أبي القاسم بن علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال أخبرني جماعة من أهل العم أن بشراز رجل يعرف بابن خفيف البغدادي شيخ الصوفية هناك يجتمعون إليه ويتكلم عن الخطرات والوساوس ويحضر حلقة ألوف من الناس وأنه فاره فهم حاذق فاستغوى الضعفاء من الناس إلى هذا المذهب قال فمات رجل منهم من أصحابه وخلف زوجة صوفية فاجتمع النساء الصوفيات وهن خلق كثير ولم يختلط بمأتمهن غيرهن فلما فرغوا من دفنه دخل ابن خفيف وخواص أصحابه وهم عدد كثير إلى الدار وأخذ يعزي المرأة بكلام الصوفية إلى أن قالت قد تعزيت فقال لها ههنا غير فقالت لا غير قال فما معنى إلزام النفوس آفات الغموم وتعذيبها بعذاب الهموم ولأي معنى نترك الامتزاج لتلتقي الأنوار وتصفوالأرواح ويقع الاخلافات وتنز البركات قال فقلن النساء إذا شئت قال فاختلط جماعة الرجال بجماعة النساء طول ليلتهم فلما كان سحر خرجوا قال المحسن قوله ههنا غير أي ههنا غير موافق المذهب فقالت لا غير أي ليس مخالف وقوله نترك الامتزاج كناية عن الممازجة في الوطء وقوله لتلتقي الأنوار عندهم أن في كل جسم نورا الهيا وقوله اخلافات أي يكون لكن خلف ممن مات أو غاب من أزواجكن قال المحسن وهذا عندي عظيم ولولا أن جماعة يخبروني يبعدون عن الكذب ما حكيته لعظمه عندي واستبعاد مثله أن يجري في دار الإسلام قال وبلغني أن هذا ومثله شاع حتى بلغ عضد الدولة فقبض على جماعة منهم وضربهم بالسياط وشرد جموعهم فكفوا ذم ابن عقيل للصوفية وحكايته افعالهم نقد مسالك الصوفية في تأويلاتهم #(105/437)
ولما قل علم الصوفية بالشرع فصدر منهم من الأفعال والأقوال ما لا يحل مثل ما قد ذكرنا ثم تشبه بهم من ليس منهم وتسمى باسمهم وصدر عنهم مثل ما قد حكينا وكان الصالح منهم نادرا ذمهم خلق من العلماء وعابوهم حتى عابهم مشائخهم # وباسناد عن عبد الملك بن زياد النصيبي قال كنا عند مالك فذكرت له صوفيين في بلادنا فقلت له يلبسون فواخر ثياب اليمن ويفعلون كذا قال ويحك ومسلمين هم قال فضحك حتى استلقى قال فقال لي بعض جلسائه يا هذا ما رأينا أعظم فتنة على هذا الشيخ منك ما رأيناه ضاحكا قط #
وباسناد عن يونس بن عبد الأعلى قال سمعت الشافعي يقول لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق وعنه أيضا أنه قال ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله اليه أبدا وأنشد الشافعي # ودعوا الذين إذا أتوك تنسكوا % وإذا خلوا كانوا ذئاب حقاف وبإسناد عن حاتم قال حدثنا أحمد بن أبي الحواري # قال قال أبو سليمان ما رأيت صوفيا فيه خير إلا واحدا عبد الله بن مرزوق قال وأنا أرق لهم # وبإسناد عن يونس بن عبد الأعلى يقول ما رأيت صوفيا عاقلا إلا إدريس الخولاني قال السلمي هو مصري من قدماء مشايخهم قبل ذي النون # وبإسناد عن يونس بن عبد الأعلى يقول صحبت الصوفية ثلاثين سنة ما رأيت فيهم عاقلا إلا مسلم الخواص وبإسناد عن احمد بن أبي الحواري يقول حدثنا وكيع قال سمعت سفيان يقول سمعت عاصما يقول ما زلنا نعرف الصوفية بالحماق إلا أنهم يستترون بالحديث وبإسناد عن سفيان عن عاصم يقول قال لي وكيع لم تركت حديث هشام قلت صحبت قوما من الصوفية وكنت بهم معجبا فقالوا ان لم تمح حديث هشام قاطعناك فأطعتم قال إن فيهم حمقا # وبإسناد عن يحيى بن يحيى قال الخوارج أحب إلي من الصوفية وبإسناد(105/438)
عن يحيى بن معاذ يقول اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس العلماء الغافلين والفقراء المداهنين والمتصوفة الجاهلين وقد ذكرنا في أول ردنا على الصوفية من هذا الكتاب ان الفقهاء بمصر أنركوا على ذي النون ما كان يتكلم به وببسطام عن أبي يزيد وأخرجوه وأخرجوا أبا سليمان الداراني # وهرب من أيديهم احمد بن أبي الحواري وسهل التستري وذلك لأن السلف كانوا ينفرون من أدنى بدعة ويهجرون عليها تمسكا بالسنة ولقد حدثني أبو الفتح بن السامري قال جلس الفقهاء في بعض الأربطة للعزاء بفقيه مات فأقبل الشيخ أبو الخطاب الكلوذاني الفقيه متوكئا على يدي حتى وقف بباب الرباط وقال يعز علي لو رآني بعض أصحابنا ومشايخنا القدماء وأنا أدخل هذا الرباط قلت على هذا كان أشياخنا # فأما في زماننا هذا فقد أصطلح الذئب والغنم قال ابن عقيل نقلته من خطه وأنا أذم الصوفية لوجوه يوجب الشرع ذم فعلها منها أنهم اتخذوا مناخ البطالة وهي الأربطة فانقطعوا إليها عن الجماعات في المساجد فلا هي مساجد ولا بيوت ولا خانات وصمدوا فيها للبطالة عن أعمال المعاش وبدنوا أنفسهم بدن البهائم للأكل والشرب والرقص والغناء وعولوا على الترقيع المعتمد به التحسين تلميعا والمشاوذ بألوان مخصوصة أوقع في نفوس العوام والنسوة من تلميع السقلاطون بألوان الحرير # واستمالوا النسوة والمردان بتصنع الصور واللباس فما دخلوا بيتا فيه نسوة فخرجوا إلا عن فساد قلوب النسوة على أزواجهن ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبي الأموال كالعداد والأجناد وأرباب المكوس ويستصحبون المردان في السماعات يجلبونهم في الجموع مع ضوء الشموع ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة إلباسهن الخرقة ويستحلون بل يوجبون أقتسام ثياب من طرب فسقط ثوبه ويسمون الطرب وجدا والدعوة وقتا واقتسام ثياب الناس حكما ولا يخرجون عن بيت دعوا إليه إلا عن إلزام دعوة أخرى يقولون أنها وجبت واعتقاد ذلك كفر وفعله فسوق(105/439)
ويعتقدون أن
الغناء بالقضبان قربة وقد سمعنا عنهم أن الدعاء عند حدو الحادي وعند حضور المخذة مجاب اعتقادا منهم أنه قربة وهذا كفر أيضا لأن من اعتقد المكروه والحرام قربة كان بهذا الإعتقاد كافرا والناس بين تحريمه وكراهيته ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم فان عولوا إلى مرتبة شيخه قيل الشيخ لا يعترض عليه فحد من حل رسن ذلك الشيخ وانحطاطه في سلك الأقوال المتضمنة للكفر والضلال المسمى شطحا وفي الأفعال المعلومة كونها في الشريعة فسقا فان قبل أمردا قيل رحمة وإن خلا بأجنبية قيل بنته وقد لبست الخرقة وإن قسم ثوبا على غير أربابه من غير رضا مالكه قيل حكم الخرقة # وليس لنا شيخ نسلم إليه حاله إذ ليس لنا شيخ غير داخل في التكليف وأن المجانين والصبيان يضرب على أيديهم وكذلك البهائم والضرب بدل من الخطاب ولو كان لنا شيخ يسلم إليه حاله لكان ذلك الشيخ أبا بكر الصديق رضي الله عنه # وقد قال إن اعوججت فقوموني ولم يقل فسلموا إلي ثم أنظر إلى الرسول صلوات الله عليه كيف اعترضوا عليه فهذا عمر يقول ما بالنا نقصر وقد أمنا وآخر يقول تنهانا عن الوصال وتواصل وآخر يقول أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ ثم إن والله تعالى تقول له الملائكة " أتجعل فيها " ويقول موسى " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وإنما هذه الكلمة جعلها الصوفية ترفيها لقلوب المتقدمين وسلطنة سلكوها على الأتباع والمريدين كما قال تعالى " فاستخف قومه فأطاعوه " ولعل هذه الكلمة من القائلين منهم بأن العبد إذا عرف لم يضره ما فعل وهذه نهاية الزندقة لأن الفقهاء أجمعوا على أنه لا حالة ينتهي إليها العارف إلا ويضيق عليه التكليف كأحوال الأنبياء يضايقون في الصغائر فالله الله في الإصغاء إلى هؤلاء الفرغ الخالين من الإثبات وإنما هم(105/440)
زنادقة جمعوا بين مدارع العمال مرقعات وصوف وبين أعمال الخلعاء الملحدة أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة فجاؤا بوضع أهل الخلاعة # فأول ما وضعوا أسماء وقالوا حقيقة وشريعة وهذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع وإن سمعوا أحدا يروي حديثا قالوا مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت فمن قال حدثني أبي عن جدي قلت حدثني قلبي عن ربي فهلكوا وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغماز وأنفقت عليهم لأجلها الأموال # لأن الفقهاء كالأطباء في ثمن الدواء صعبة والنفقة على هؤلاء كالنفقة على المغنيات وبغضهم الفقراء أكبر الزندقة لأن الفقهاء يخطرونهم بفتاويهم عن ضلالهم وفسقهم والحق يثقل كما تثقل الزكاة وما أخف البذل على المغنيات وإعطاء الشعراء على المدائح وكذلك بغضهم لأصحاب الحديث وقد أبدلوا إزالة العقل بالخمر بشيء سموه الحشيش والمعجون والغناء المحرم سموه السماع والوجد والتعرض بالوجد المزيل للعقل حرام كفى الله الشريعة شر هذه الطائفة الجامعة بين دهمثة في اللبس وطيبة في العيش وخداع بألفاظ معسولة ليس تحتها سوى إهمال التكليف وهجران الشرع ولذلك خفوا على القلوب ولا دلالة على أنهم أرباب باطل أوضح من محبة طباع الدنيا لهم كمحبتهم أرباب اللهو والمغنيات # قال ابن عقيل فان قال قائل هم أهل نظافة ومحاريب وحسن سمت وأخلاق قال فقلت لهم لو لم يضعوا طريقة يجتذبون بها قلوب أمثالكم لم يدم لهم عيش والذي وصفتهم به رهبانية النصرانية ولو رأيت نظافة أهل التطفيل على المواتد ومخانيث بغداد ودماثة المغنيات لعلمت أن طريقهم طريقة الفكاهة والخداع وهل يخدع الناس إلا بطريقة أو لسان فاذا لم يكن للقوم قدم في العلم(105/441)
ولا طريقة فبم ذا يجتذبون به قلوب أرباب الأموال # واعلم أن حمل التكليف صعب ولا أسهل على أهل الخلاعة من مفارقة الجماعة ولا أصعب عليهم من حجر ومنع صدر من أوامر الشرع ونواهيه وما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين فهؤلاء يفسدون عقائد الناس بتوهيمات شبهات العقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان يحبون البطالات وسماع الأصوات وما كان السلف كذلك بل كانوا في باب العقائد عبيد تسليم وفي الباب الآخر أرباب جد قال ونصيحتي إلى إخواني أن لا يقرع أفكار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعاش أولى من بطالة الصوفية والوقوف على الظواهر أحسن من توغل المنتحلة وقد خبرت طريقة الفريقين فغاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح # قال ابن عقيل والمتكلمون عندي خير من الصوفية لأن المتكلمين قد يزيلون الشك والصوفية يوهمون التشبيه فأكثر كلامهم يشير إلى إسقاط السفارة والنبوات فاذا قالوا عن أصحاب الحديث قالوا أخذوا علمهم ميتا عن ميت فقد طعنوا في النبوات وعولوا على الواقع ومتى أزرى على طريق سقط الأخذ به ومن قال حدثني قلبي عن ربي فقد صرح انه غني عن الرسول ومن صرح بذلك فقد كفر فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة ومن رأيناه يزري على النقل علمنا أنه قد عطل أمر الشرع وما يؤمن هذا القائل حدثني قلبي عن ربي أن يكون ذلك من إلقاء الشياطين فقد قال الله عز وجل " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " وهذا هو الظاهر لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقي في قلبه الذي لم يثبت حراسته من الوساوس وهؤلاء يسمون ما يقربهم خاطرا قال والخوارج على الشريعة كثير إلا أن الله عز وجل يؤيدها بالنقلة الحفاظ الذابين عن الشريعة حفظها لأصلها(105/442)
وبالفقهاء لمعانيها وهم سلاطين العلماء لا يتركون لكذاب رأسا ترتفع # قال ابن عقيل والناس يقولون إذا أحب الله خراب بيت تاجر عاشر الصوفية قال وأنا أقول وخراب دينه لأن الصوفية قد أجازوا لبس النساء الخرقة من الرجال الأجانب فاذا حضروا السماع والطرب فربما جرى في خلال ذلك مغازلات واستخلاء بعض الأشخاص ببعض فصارت الدعوة عرسا للشخصين فلا يخرج إلا وقد تعلق قلب شخص بشخص ومال طبع إلى طبع وتتغير المرأة على زوجها فإن طابت نفس الزوج سمي بالديوث وإن حبسها طلبت الفرقة إلى من تلبس منه المرقعة والاختلاط بمن لا يضيق الخنق ولا يحجر على الطباع ويقال تبات فلانة وألبسها الشيخ الخرقة وقد صارت من بناته ولم يقنعوا هذا لعب وخطأ حتى قالوا هذا من مقامات الرجال وجرت على هذه السنون وبرد حكم الكتاب والسنة في القلوب هذا كله من كلام ابن عقيل رضي الله عنه فلقد كان ناقد مجيدا متلمحا فقيها أنشدنا أبو علي عبيد الله الزغواني قال أنشدنا أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي وأبو منصور محمد بن محمد بن عبد العزيز العكبري قالا أنشدنا أبو بكر العنبري لنفسه في الصوفية # تأملت اختبر المدعين % بين الموالي وبين العبيد # فألفيت أكثرهم كالسراب % يروقك منظره من بعيد # فناديت يا قوم من تعبدون % فكل أشار بقدر الوجود # فبعض أشار إلى نفسه % واقسم ما فوقها من مزيد # وبعض إلى خرقة رقعت % وبعض إلى ركوة من جلود # آخر يعبد أهواءه % وما عابد للهوى بالرشيد # ومجتهد وقته ريه % فان فات بات بليل عنيد # وذو كلف باستماع السما % ع البسط وبين النشيد(105/443)
# يئن إذا أومضت رنة % ويزرأ منها بثوب جديد # يخرق خلقانه عامدا % ليعتاض منها بثوب جديد # ويرمي بهيكله في السعير % لقلع الثريد وبلع العصيد # فيا للرجال ألا تعجبون % لشيطان إخواننا ذا المزيد # يخبطهم بفنون الجنون % وما للمجانين غير القيود # وأقسم ما عرفوا ذا الجلال % وما عرفوه بغير الجحود # ولولا الوفاء لأهل الوفاء % سلقتهم بلسان حديد # فمالي يطالبني بالوصا % ل من ليس يعلم ما في الصدود # اضن بودي ويسخو به % وقد كنت اسخوا به للودود # ولكن إذا لم أجد صاحبا % يسر صديقي ويشجو الحسود # عطفت بودي مني إليه % فغاب نحوسي وآب السعود # فما بال قومي على جهلهم % بعز الفريد وأنس الوحيد # إذا أبصروني بكوا رحمة % ونيران أحقادهم في وقود # لأني بعدت عن المدعين % ولو صدقوا كنت غير البعيد # أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ نا أبا الحسين بن عبد الجبار الصيرفي نا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري قال أنشدنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر التجيبي قال أنشدنا الحسن بن علي بن سيار # رأيت قوما عليهم سمة % الخير بحمل الركآء مبتهلة # اعتزلوا الناس في جوامعهم % سألت عنهم فقيل متكلة # صوفية للقضاء صابرة % ساكنة تحت حكمه بزله # فقلت إذ ذاك هؤلاء هم ال % ناس ومن دون هؤلاء رزله # فلم أزل خادما لهم زمنا % حتى تبينت أنهم سفله(105/444)
# أن أكلوا كان أكلهم سرفا % أو لبسوا كان شهرة مثله # سل شيخهم والكبير محتبرا % عن فرضه لا تخاله عقله # واسأله عن وصف شادن غنج % مدلل لا تراه قد جهله # علمهم بينهم إذا جلسوا % كعلم راعي الرعاع والرذلة # الوقت والحال والحقيقة وال % برهان والعكس عندهم مثله # فدلبسوا الصوف كي يروا صلحا % وهم أشرار الذباب والحفلة # وجانبوا الكسب والمعاش لكي % يستأصلوا الناس شرها أكله # وليس من عفة ولادعة % لكن تعجيل راحة العطلة # فقل لمن مال باختداعهم % اليهم تب فإنهم بطله # واستغفر الله من كلامهم % ولا تعاود لعشرة الجهلة # قال الصوري وأنشدني بعض شيوخنا # أهل التصوف قد مضوا % صار التصوف مخرقة # صار التصوف صيحة % وتواجدا ومطبقة # كذبتك نفسك ليس ذا % سنن الطريق الملحقة # حتى تكون بعين من % منه العيون المحدقة # تجري عليك صروفه % وهموم سرك مطرقة # أنشدنا محمد بن ناصر قال أنشدنا أبو زكريا التبريزي لأبي العلاء المعري # زعموا بأنهم صفوا لملكيهم % كذبوك ما صافوا ولكن صافوا # شجر الخلاف قلوبهم ويح لها % غرضي خلاف الحق لا الصفصاف
# أنشدنا ابن ناصر أبو بكر قال أنشدنا أبو اسحاق الشيرازي الفقيه لبعضهم # أرى جيل التصوف شر جيل % فقل لهم وأهون بالحلول # أقال الله حين عشقتموه % كلوا أكل البهائم وأرقصوا لي(105/445)
$ الباب الحادي عشر في ذكر تلبيس إبليس على المتدينين بما يشبه $ الكرامات # قد بينا فيما تقدم أن إبليس انما يتمكن من الإنسان على قدر قلة العلم فكلما قل علم الإنسان كثر تمكن إبليس منه وكلما كثر العلم قل تمكنه منه ومن العباد من يرى ضوءا أو نورا في السماء فان كان رمضان قال رأيت ليلة القدر وإن كان في غيره قال قد فتحت لي أبواب السماء وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة وربما كان اتفاقا وربما كان اختبارا وربما كان من خدع ابليس والعاقل لا يساكن شيئا من هذا ولو كان كرامة وقد ذكرنا في باب الزهاد عن مالك بن دينار وحبيب العجمي أنهما قالا إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز ولقد استعوى بعض ضعفاء الزهاد بأن أراه ما يشبه الكرامة حتى أدعى النبوة فروي عن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال ثنا محمد بن المبارك ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان قال كان الحارث الكذاب من أهل دمشق وكان مولى لأبي الجلاس وكان له أب بالغوطة تعرض له إبليس وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرأيت عليه زهادة وكان إذا أخذ في التحميد لم يصغ السامعون إلى كلام أحسن من كلامه قال فكتب إلى أبيه يا أبتاه أعجل علي فإني قد رأيت أشياء أتخوف منها أن تكون من الشياطين قال فزاده أبوه غيا وكتب إليه يا بني أقبل على ما أمرت به إن الله يقول هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم(105/446)
ولست بأفاك ولا أثيم فأمض لما أمرت به وكان يجيء إلى أهل المساجد رجلا رجلا فيذكر له أمره ويأخذ عليهم العهود والمواثيق ان هو رأى يرضى قبل والا كتم عليه وكان يريهم الأعاجيب كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول أخرجوا حتى أريكم الملائكة فيخرجهم إلى دير المران فيريهم رجالا على خيل فتبعه بشر كثير وفشى الأمر وكثر أصحابه حتى وصل خبره إلى القاسم بن مخيمرة فقال له إني نبي فقال له القاسم كذبت يا عدو الله فقال له أبو إدريس بئس ما صنعت إذا لم تلن له حتى تأخذه الآن يفر وقام من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره فبعث عبد الملك في طلبه فلم يقدر عليه وخرج عبد الملك حتى نزل العنيبرة فاتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس واختفى وكان أصحابه يخرجون يلتمسون الرجال يدخلونهم عليه وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فأدخل على الحارث فأخذ في التحميد وأخبره بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل فقال إن كلامك لحسن ولكن لي في هذا نظر قال فانظر فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه فقال إن كلامك لحسن وقد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا هو الدين المستقيم فأمر أن لا يحجب عنه متى أراد الدخول فأقبل البصري يتردد اليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى صار من أخبر الناس به ثم قال له أئذن لي فقال إلى أين قال إلى البصرة فأكون أول داع لك بها قال فأذن له فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصنيبرة فلما دنا من سرادقه صاح النصيحة النصيحة فقال أهل العسكر وما نصيحتك قال نصيحة لأمير المؤمنين فأمر الخليفة عبد الملك أن يأذنوا له بالدخول عليه فدخل وعنده أصحابه قال فصاح النصيحة قال وما نصيحتك قال أخلني لا يكن عندك أحد فأخرج من في البيت وقال له ادنني قال ادن فدنا وعبد الملك على السرير قال ما عندك قال الحارث فلما ذكر الحارث طرح عبد الملك نفسه(105/447)
من أعلى السرير إلى الأرض ثم قال أين هو قال يا أمير المؤمنين ببيت المقدس قد عرفت مداخله ومخارجه
وقص عليه قصته وكيف صنع به فقال أنت صاحبه وأنت أمير بيت المقدس وأميرنا ههنا فمرني بما شئت قال يا أمير المؤمنين ابعث معي قوما لا يفهمون الكلام فأمر أربعين رجلا من فرغانة فقال انطلقوا مع هذا فما أمركم به من شيء فأطيعوه قال وكتب إلى صاحب بيت المقدس أن فلانا هو الأمير عليك حتى يخرج فأطعمه فيما أمرك به فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب فقال مرني بما شئت فقال أجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس وأدفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس وزواياه فإذا قلت أسرجوا أسرجوا جميعا فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياها بالشمع وتقدم البصري إلى منزل الحارث فأتى الباب فقال للحاجب أستأذن لي على نبي الله قال في هذه الساعة ما يؤذن عليه حتى يصبح قال أعلمه إني ما رجعت إلا شوقا اليه قبل أن أصل فدخل عليه وأعلمه بكلامه فأمره بفتح الباب قال ثم صاح البصري أسرجوا الشموع فأسرجت حتى كانت كأنها النهار ثم قال من مر بكم فأضبطوه كائنا من كان دخل هو إلى الموضع الذي يعرفه فطلبه فلم يجده فقال أصحاب الحارث هيهات تريدون تقتلون نبي الله قد رفع إلى السماء قال فطلبه في شق قد هيأه سربا فأدخل البصري يده في ذلك السرب فاذا هو بثوبه فاجتره فأخرجه إلى خارج ثم قال للفرغانيين اربطوه فربطوه فبينما هم يسيرون به على البريد اذ قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله فقال رجل من الفرغانيين أولئك العجم هذا كرامتنا فهات كرامتك أنت وساروا به حتى أتوا به عبد الملك فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فلما صار إلى ضلع من أضلاعه فانكفأت الحربة عنه فجعل الناس يصيحون ويقولون الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى اليه وأقبل يتجسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذها فقتله قال الوليد(105/448)
بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية دخل على عبد الملك بن مروان فقال لو حضرتك ما أمرتك بقتله قال ولم قال إنما كان به المذهب فلو جوعته ذهب عنه وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء قال لما حمل الحارث على البريد وجعلت في عنقه جامعة من حديد وجمعت يده إلى عنقه فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية قل ان ضللت فإنما أضل على نفسي وان اهتديت فيما
يوحي إلي ربي فتقلقلت الجامعة ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض فوثب الحرس الذين كانوا معه فأعادوها عليه ثم ساروا به فلما أشرفوا على عقبة أخرى قرأ آية فسقطت من رقبته ويده على الأرض فأعادوها عليه فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه الله ويعلموه أن هذا من الشيطان فأبى أن يقبل منهم فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت فتكلم الناس وقالوا ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل ثم أتاه حرسه برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه ثم هزه وأنفذه وسمعت من قال قال عبد الملك للذي ضربه بالحربة لما أنثنت أذكرت الله حين طعنته قال نسيت قال فأذكر الله ثم اطعنه ذكر الله ثم طعنه فأنفذها المفترين بما يشبه الكرامات # وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات فقد روينا بإسناد عن حسن عن أبي عمران قال قال لي فرقد يا أبا عمران قد أصبحت اليوم وأنا مهتم بضريبتي وهي ستة دراهم وقد أهل الهلال وليست عندي فدعوت فبينما أنا أمشي على شط الفرات اذا أنا بستة دراهم فأخذتها فوزنتها فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص فقال تصدق بها فإنها ليست لك قلت أبو عمران هو ابراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة فانظروا إلى كلام الفقهاء وبعد الإغترار عنهم وكيف أخبره أنها لقطة ولم يلتفت إلى ما يشبه الكرامة وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار وكأنه انما أمره بالتصدق بها لئلا يظن أنه قد أكرم بأخذها وأنفاقها # وبإسناد عن ابراهيم الخراساني أنه قال احتجت يوما إلى(105/449)
الوضوء فاذا أنا بكوز من جوهر وسواك من فضة رأسه ألين من الخز فاستكت بالسواك وتوضأت بالماء وتركتهما وأنصرفت قلت في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته فأن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال
السواك الفضة لا يجوز ولكن قل علمه فاستعمله # وان ظن أنه كرامة والله تعالى لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعا إلا أن أظهر له ذلك على سبيل الإمتحان وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال حدثني أبي قال كان السرمقاني المقرى يقرأ علي بن العلاف وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة وقد نزل إلى دجلة وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابه وجعل يأكله فشق ذلك عليه وأتى إلى رئيس الرؤساء فأخبره بحاله فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأتي إليه السرمقاني أن يعمل لبابه مفتاحا من غير أن يعلمه ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزا سميدا ومعها دجاجة وحلوى سكرا ففعل الغلام ذلك وكان يحمله على الدوام فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحا في القبلة ورأى الباب مغلقا فتعجب وقال في نفسه هذا من الجنة ويجب كتمانه وأن لا أتحدث به فإن من شرط الكرامة كتمانها وأنشدني # من أطلعوه على سر فباح به % لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا # فلما استوت حالته وأخصب جسمه سأله ابن العلاف عن سبب ذلك وهو عارف به وقصد المزاح معه فأخذ يوري ولا يصرح ويكني ولا يفصح ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده في المسجد كرامه إذ لا طريق لمخلوق عليه فقال له ابن العلاف يجب أن تدعو لابن المسلمة فإنه هو الذي فعل ذلك فنغص عيشه بأخباره وبانت عليه شواهد الإنكسار تحذير العقلاء بما يشبه الكلامات # ولما علم العقلاء شدة تلبيس إبليس حذروا من أشياء ظاهرها الكرامة وخافوا أن تكون من تلبيسه روينا بإسناد عن أبي الطيب يقول سمعت زهرون يقول كلمني الطير وذاك أني كنت في(105/450)
البادية فتهت فرأيت طائرا أبيض فقال لي يا زهرون أنت تائه فقلت يا شيطان غر غيري فقال لي أنت
تائه فقلت يا شيطان غر غيري فوثب في الثالثة وصار على كتفي وقال ما أنا بشيطان أنت تائه أرسلت اليك ثم غاب عني # وبإسناد عن محمد بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن يحيى بن عمرو قال حدثتني زلفي قالت قلت لرابعة العدوية يا عمة لم لا تأذنين للناس يدخلون عليك قالت وما أرجوا من الناس إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل قال القرشي وزادني غير أبي حاتم أنها قالت يبلغني أنهم يقولون إني أجد الدراهم تحت مصلاي ويطبخ لي القدر بغير نار ولو رأيت مثل هذا فزعت منه قالت فقلت لها إن الناس يكثرون فيك القول يقولون إن رابعة تصيب في منزلها الطعام والشراب فهل تجدين شيئا فيه قالت يا ابنة أخي لو وجدت في منزلي شيئا ما مسسته ولا وضعت يدي عليه قال القرشي وحدثني محمد بن إدريس قال قال محمد بن عمرو # وحدثتني زلفى عن رابعة إنها أصبحت يوما صائمة في يوم بارد قالت فنازعتني نفسي إلى شيء من الطعام السخن أفطر عليه وكان عندي شحم فقلت لو كان عندي بصل أو كراث عالجته فإذا عصفور قد جاء فسقط على المثقب في منقاره بصلة فلما رأيته أضربت عما أردت وخفت أن يكون من الشيطان وبالإسناد عن محمد بن يزيد قال كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة فإذا أخبر بها أشتد بكاؤه وقال قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان وبالإسناد عن أبي عثمان النيسابوري يقول خرجنا جماعة مع أستاذنا أبي حفص النيسابوري إلى خارج نيسابور فجلسنا فتكلم الشيخ علينا فطابت أنفسنا ثم بصرنا فإذا بأيل قد نزل من الجبل حتى برك بين يدي الشيخ فأبكاه ذلك بكاء شديدا فلما سكن سألناه فقلت يا أستاذ تكلمت علينا فطابت قلوبنا فلما جاء هذا الوحش وبرك بين يديك أزعجك وأبكاك فقال نعم رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم فوقع في قلبي لو أن شاة ذبحتها ودعوتكم عليها فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش فبرك بين يدي(105/451)
فخيل لي أني
مثل فرعون الذي سأل ربه أن يجري له النيل فأجراه قلت فما يؤمنني أن يكون الله تعالى يعطيني كل حظ لي في الدنيا وأبقى في الآخرة فقيرا لا شيء لي فهذا الذي أزعجني الحكايات الموضوعة في الكرامات # وقد لبس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا بزعمهم أمر القوم والحق لا يحتاج إلى تشييد بباطل فكشف الله تعالى أمرهم بعلماء النقل أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا الحسن بن أحمد الفقيه قال نا محمد بن محمد الحافظ قال نا عبيد الله بن محمد الفقية قال أحمد بن عبد الله بن الحسن الآدمي قال حدثني أبي قال قال سهل بن عبد الله قال عمرو بن واصل كذا في الرواية والصواب قال عمرو بن واصل قال سهل بن عبد الله صحبت رجلا من الأولياء في طريق مكة فنالته فاقة ثلاثة أيام فعدل إلى مسجد في أصل جبل وإذا فيه بئر عليه بكرة وحبل ودلو ومطهرة وعند البئر شجرة رمان ليس فيها حمل فأقام في المسجد إلى المغرب فلما دخل الوقت إذا بأربعين رجلا عليهم المسوح وفي أرجلهم نعال الخوص قد دخلوا المسجد فسلموا وأذن أحدهم وأقام الصلاة وتقدم فصلى بهم فلما فرغ من صلاته تقدم إلى الشجرة فإذا فيها أربعون رمانة غضة طريفة فأخذ كل واحد منهم رمانة وأنصرف قال وبت على فاقتي فلما كان في الوقت الذي أخذوا فيه الرمان أقبلوا أجمعين فلما صلوا وأخذوا الرمان قلت يا قوم أنا أخوكم في الإسلام وبي فاقة شديدة فلا كلمتموني ولا واسيتموني فقال رئيسهم إنا لا نكلم محجوبا بما معه فأمض واطرح ما معك وراء هذا الجبل في الوادي وأرجع إلينا حتى تنال ما ننال قال فرقيت الجبل فلم تسمح نفسي برمي ما معي فدفنته ورجعت فقال لي رميت ما معك قلت نعم قال فرأيت شيئا قلت لا قال ما رميت شيئا إذن فارجع فأرم به في الوادي فرجعت ففعلت فإذا قد غشيني مثل الدرع نور الولاية فرجعت فإذا في الشجرة رمانه فأكلتها واستقللت بها من الجوع والعطش ولم ألبث دون المضي إلى مكة(105/452)
فإذا أنا بالأربعين بين زمزم والمقام فأقبلوا إلي
بأجمعهم يسألوني عن حالي ويسلمون علي فقلت قد غنيت عنكم وعن كلامكم آخرا كما أغناكم الله عن كلامي أولا فما في لغير الله موضع # قال المصنف رحمه الله عمرو بن واصل ضعفه ابن أبي حاتم والآدمي وأبوه مجهولان ويدلعلى أنها حكاية موضوعة قولهم أطرح ما معك لأن الأولياء لا يخالفون الشرع والشرع قد نهى عن إضاعة المال وقوله غشيني نور الولاية فهذه حكاية مصنوعة وحديث فارغ ومثل هذه الحكاية لا يغتر بها من شم رائحة العلم إنما يغتر بها الجهال الذين لا بصيرة لهم # أخبرنا محمد بن ناصر قال نا السهلكي قال سمعت محمد بن علي الواعظ قال وفيما أفادني بعض الصوفية حاكيا عن الجنيد قال قال أبو موسى الديبلي دخلت على أبي يزيد فإذا بين يديه ماء واقف يضطرب فقال لي تعالى ثم قال إن رجلا سألني عن الحياء فتكلمت عليه بشيء من علم الحياء فدار دورانا حتى صار كذا كما ترى وذاب قال الجنيد وقال احمد بن حضرويه بقي معه قطعة كقطعة جوهر فاتخذت منه فصا فكلما تكلمت بكلام القوم أو سمعت من كلام القوم يذوب ذلك الفص حتى لم يبق منه شيء قلت وهذه من النحالة القبيحة التي وضعوها الجهال ولولا أن الجهالة يروونها مسندة فيظنونها شيئا لكان الأضراب عن ذكرها أولى # أنبأنا أبو بكر بن حبيب قال نا ابن أبي صادق قال ثنا ابن باكويه قال ثنا أبو حنيفة البغدادي قال ثنا عبد العزيز البغدادي قال كنت أنظر في حكايات الصوفية فصعدت يوما السطح فسمعت قائلا يقول وهو يتولى الصالحين فالتفت فلم أر شيئا فطرحت نفسي من السطح فوقفت في الهواء # قال المصنف رحمه الله هذا كذب محال لا يشك فيه عاقل فلو قدرنا صحته فان طرح نفسه من السطح حرام وظنه أن الله يتولى من فعل المنهى عنه فقد قال تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكيف يكون صالحا وهو(105/453)
يخالف ربه وعلى تقدير ذلك فمن أخبره أنه منهم وقد تقدم قول عيسى صلوات الله عليه للشيطان لما قال له ألق نفسك قال إن الله يختبر عباده وليس للعبد أن يختبر ربه مسالك الصوفية في الشطح والدعاوى مخاريق الحلاج وابن الشباس # وقد اندس في الصوفية أقوام وتشبهوا بهم وشطحوا في الكرامات وادعائها وأظهروا للعوام مخاريق صادوا بها قلوبهم وقد روينا عن الحلاج أنه كان يدفن شيئا من الخبز والشواء والحلوى في موضع من البرية ويطلع بعض أصحابه على ذلك فاذا أصبح قال لأصحابه إن رأيتم أن نخرج على وجه السياحة فيقوم ويمشي والناس معه فاذا جاءوا إلى ذلك المكان قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك نشتهي الآن كذا وكذا فيتركهم الحلاج وينزوي عنهم إلى ذلك المكان فيصلي ركعتين ويأتيهم بذلك وكان يمد يده إلى الهواء ويطرح الذهب في أيدي الناس ويمخرق وقد قال له بعض الحاضرين يوما هذه الدراهم معروفة ولكن اؤمن بك إذا أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك وما زال يمخرق إلى وقت صلبه # حدثنا أبو منصور القزاز قال نا أبو بكر بن ثابت نا عبد الله بن احمد ابن عمار الصيرفي ثنا أبو عمرو بن حيوة قال لما أخرج حسين الحلاج للقتل مضيت في جملة الناس فلم أزل أزاحم حتى رأيته فقال لأصحابه لا يهولنكم هذا فإني عائد اليكم بعد ثلاثين يوما وكان اعتقاد الحلاج اعتقادا قبيحا وقد بينا في أول هذا الكتاب شيئا من اعتقاده وتخليطه وبينا أنه قتل بفتوى فقهاء عصره وقد كان من المتأخرين من يطلي بدهن الطلق ويقعد في التنور ويظهر أن هذا كرامة # قال ابن عقيل وكان ابن الشباس وأبوه قبله لهم طيور سوابق وأصدقاء في جميع البلاد فينزل بهم قوم فيرفع طائرا في الحال إلى قريتهم يخبر بخبر من له هناك بنزولهم ويستعمله من أحوالهم وما تجدد هناك بعدهم قبل أن يجتمع عليهم(105/454)
ويستعلم حالهم فيكتب ذلك اليه الجواب ثم يجتمع بهم فيخبرهم بتلك الحوادث ويحدثهم بأحوالهم حديث من هو معهم ومعاشرهم في بلادهم ثم يحدثهم بما تجدد بعدهم وفي يومه ذلك فيقول الساعة تجدد كذا وكذا فيدهشون ويرجعون إلى رستاقهم فيجدون الأمر على ما قال ويتكرر هذا منه فيصير عندهم كالقطعي على أنه يعلم الغيب قال وما كان يفعله أنه يأخذ طير عصفور ويشد في رجله تلفكا ويجعل في التلفك بطاقة صغيرة ويشد في رجل حمامة تلفكا ويشد في طرف التلفك كتابا أكبر من ذلك ويجعله بين يديه ويجعل العصفور بيد ويأخذ غلاما له في السطح والحمامة بيد آخر فيه ما في تلك البطاقة الصغيرة ويطلق الطائر العصفور فينظر الناس الكتاب وهو طائر في الهواء فيروح الحمام إلى تلك القرية فيأخذه صديقه الذي هناك ثم يخبره بجميع أمور القرية وأصحابها فلما يتكامل مجلسه بالناس يشير وينادي يا بارش كأنه يخاطب شيطانا اسمه بارش ويقول خذ هذا الكتاب إلى قرية فلان فقد جرت بينهم خصومة فاجتهد في إصلاح ذات بينهم ويرفع صوته بذلك فيسرح غلامه المترصد العصفور الذي في يده فيرفع الكتاب نحو السماء بحضرة الجماعة يرونه عيانا من غير أن يرون التلفك فاذا أرتفع الكتاب جذبه الغلام المقيد بالعصفور وقطع التلفك حتى لا يرى ويرسل العصفور إلى تلك القرية ليصلح الأمر وكذلك يفعل بالحمامة ثم يقول لغلامه هات الكتاب فيلقيه الغلام الذي في السطح الذي قد جاءه خبر ما في القرية التي هؤلاء منها ثم يكتب كتابا إلى دهقان تلك القرية فيشد به بلفكا ويجعله في رجل عصفور كما قدمنا ويطلقه حتى يعلوا سطح المكان فيأخذه ذلك الغلام فيشدة في رجل طير حمام فيروح الى تلك القرية بذلك الكتاب فيصلح بين الناس الذين قد أتاه خبرهم بالمشاجرة فتخرج الجماعة الذين من تلك القرية فيجدون كتاب الشيخ قد وصل لهم وقد أجتمع دهاقين القرية وأصلحوا بينهم فيجيء ذلك فيخبرهم فلا يشكون في ذلك أنه يعلم الغيب ويتحقق هذا في قلوب(105/455)
العوام # قال ابن عقيل وإنما أوردت مثل هذا ليعلم أنه قد ارتفع القوم الى التلاعب بالدين فأي بقاء للشريعة مع هذا الحال قلت وابن الشباس هذا
كان يكنى أبا عبد الله والشباس هو أبوه كان يكنى ابا الحسن واسم الشباس علي بن الحسين بن محمد البغدادي توفي بالبصرة سنة أربع وأربعين وأربع مائة وكان الشباس وأبوه وعمه مستقرين بالبصرة # وكانت مذاهبهم تخفى على الناس إلا أن ألاغلب أنهم كانوا من الباطنية وقد ذكرت في التاريخ عن ابن الشباس ان بعض أصحابه اكتشفت له نار بخيانته وزخارفه وكانت تخفى على الناس إلى أن كشفها بعض أصحابه من الباطنية للناس فلما كشفها للناس وبينها فكان مما حدث به عنه انه قال حضرنا يوما عنده فأخرج جديا مشويا فأمرنا بأكله وأن نكسر عظمه ولا تهشمها فلما فرغنا أمر بردها إلى التنور وترك على التنور طبقا ثم رفعه بعد ساعة فوجدنا جديا حيا يرعى حشيشا ولم نر للنار أثرا ولا للرماد ولا للعظام خبرا قال فتلطفت حتى عرفت ذلك وذلك أن التنور يفضي إلى سرداب وبينهما طبق نحاس بلولب فاذا أراد إزالة النار عنه فركه فينزل عليه فيسده وينفتح السرداب وإذ أراد أن يظهر النار أعاد الطبق إلى فم السرداب فترى للناس # قال المصنف رحمه الله وقد رأينا في زماننا من يشير إلى الملائكة ويقول هؤلاء ضيف مكرمون يوهم أن الملائكة قد حضرت ويقول لهم تقدموا الى وأخذ رجل في زماننا ابريقا جديدا فترك فيه عسلا فتشرب في الخزف طعم العسل واستصحب الإبريق في سفره فكان إذا غرف به الماء من النهر وسقى أصحابه وجدوا طعم العسل وما في هؤلاء من يعرف الله ولا يخاف في الله لومة لائم نعوذ بالله من الخذلان(105/456)
$ الباب الثاني عشر في ذكر تلبيس إبليس على العوام قد بينا $ أن إبليس إنما يقوى تلبيسه على قدر قوة الجهل وقد أفتن فيما فتن به العوام وحضر ما فتنهم ولبس عليهم فيه لا يمكن ذكره لكثرته وإنما نذكر من الأمهات ما يستدل به على جنسه والله الموفق فمن ذلك أنه يأتي إلى العامي فيحمله على التفكر في ذات الله عز وجل وصفاته فيتشكك # وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسألون حتى تقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال أبو هريرة فوالله اني لجالس يوما إذ قال لي رجل من أهل العراق هذا الله خلقنا فمن خلق الله قال أبو هريرة فجعلت أصبعي في أذني ثم صحت صدق رسول الله الله الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد # وباسناد عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقكفيقول من خلق السموات والأرض فيقول الله فيقول من خلق الله فاذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فليقفل آمنت بالله ورسوله # قال المصنف رحمه الله وانما وقعت هذه المحنة لغلبة الحس وهو أنه ما رأى شيئا إلا مفعولا وليقل لهذا العامي ألست تعلم أنه خلق الزمان لا في(105/457)
الزمان والمكان لا في المكان فاذا كانت هذه الأرض وما فيها لا في مكان ولا تحتها شيء وحسك ينفر من هذا لأنه ما ألف شيئا إلا في مكان فلا يطلب بالحس من لا يعرف بالحس وشاور عقلك فانه سليم المشاورة وتارة يلبس إبليس على العوام عند سماع صفات الله عز وجل فيحملونها على مقتضى الحس فيعتقدون التشبيه وتارة يلبس عليهم من جهة العصبية للمذاهب فترى العامي يلاعن ويقاتل في أمر لا يعرف حقيقته # فمنهم من يخص بعصبيته أبا بكر رضي الله عنه ومنهم من يخص عليا وكم قد جرى في هذا من الحروب وقد جرى في هذا بين أهل الكوخ وأهل باب البصرة على مر السنين من القتل وإحراق المحال ما يطول ذكره وترى كثيرا ممن يخاصم في هذا يلبس الحرير ويشرب الخمر ويقتل النفس وأبو بكر وعلي بريئان منهم وقد يحس العامي في نفسه نوع فهم فيسول له إبليس مخاصمة ربه فمنهم من يقول لربه كيف قضى وعاقب ومنهم من يقول لم ضيق رزق المتقي وأوسع على العاصي ومنهم طائفة تشكر على النعم فاذا جاء البلاء أعترض وكفر ومنهم من يقول أي حكمة في هدم هذه الأجساد يعذبها بالفناء بعد بنائها ومنهم من يستبعد البحث ومن هؤلاء من يحتل عليه مقصوده أو يبتلى ببلاء فيكفر ويقول أنا ما أريد أصلي وربما غلب فاجر نصراني مؤمنا فقتله أو ضربه فيقول العوام قد غلب الصليب ولماذا نصلي إذا كان الأمر كذلك وكل هذه الآفات تمكن بها منهم إبليس لبعدهم عن العلم والعلماء فلو أنهم استفهموا أهل العلم لأخبروهم ان الله عز وجل حكيم ومالك فلا يبقى مع هذا اعتراض تلبيسه عليهم في التفكير في ذات الله تعالى من حيث هي # ومن العوام من يرضى عن عقل نفسه فلا يبالي بمخالفة العلماء فمتى خالفت فتواهم غرضه أخذ يرد عليهم ويقدح فيهم وقد كان ابن عقيل يقول قد عشت هذه السنين فلو أدخلت يدي في صنعة صانع لقال أفسدتها علي فلو قلت أنا رجل عالم لقال بارك الله لك في علمك ليس هذا من(105/458)
شغلك هذا وشغله أمر حسي لو تعاطيته فهمته والذي أنا فيه من الأمور أمر عقلي فإذا أفتيته لم يقبل مخالفتهم العلماء وتقديمهم المتزهدين على العلماء # ومن تلبيسه عليهم تقديمهم المتزهدين على العلماء فلو رأوا جبة صوف على أجهل الناس عظموه خصوصا إذا طأطأ رأسه وتخشع لهم ويقولون أين هذا من فلان العالم ذاك طالب الدنيا وهذا زاهد لا يأكل عنبة ولا رطبة ولا يتزوج قط جهلا منهم بفضل العلم على الزاهد ويثارا للمتزهدين على شريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومن نعمة الله سبحانه وتعالى على هؤلاء أنهم لم يدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو رأوه يكثر التزويح ويصطفى السبايا ويأكل لحم الدجاج ويحب الحلوى والعسل لم يعظم في صدورهم تلبيسه عليهم في قدحهم العلماء # من تلبيسه عليهم قدحهم في العلماء بتناول المباحات وذلك من أقبح الجهل وأكثر ميلهم إلى الغرباء فهم يؤثرون الغريب على أهل بلدهم ممن قد خبروا أمره وعرفوا عقيدته فيميلون إلى الغريب ولعله من الباطنية وإنما ينبغي تسليم النفوس إلى من خبرت معرفته قال الله عز وجل فان آنستم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ومن الله سبحانه في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إلى الخلق بأنهم يعرفون حاله فقال عز وجل لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " وقال " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم(105/459)
تعظيم المتزهدين # وقد يخرج بالعوام تعظيم المتزهدين إلى قبول دعاويهم وان خرقوا الشريعة وخرجوا عن حدودها فترى المتنمس يقول للعامي أنت فعلت بالأمس كذا وسيجري عليك كذا فيصدقه ويقول هذا يتكلم على الخاطر ولا يعلم أن إدعاء الغيب كفر ثم يرون من هؤلاء المتنمسين أمورا لا تحل كمؤاخاة النساء والخلوة بهن ولا ينكرن ذلك تسليما لهم أحوالهم اطلاق النفس في المعاصي # ومن تلبيسه على العوام اطلاقهم أنفسهم في المعاصي فاذا وبخوا تكلموا كلام الزنادقة # فمنهم من يقول لا أترك نقدا لنسيئة ولو فهموا لعلموا أن هذا ليس بنقد لأنه محرم وإنما يخير بين النقد والنسيئة المباحين فمثلهم كمثل محموم جاهل يأكل العسل فاذا عوتب قال الشهوة نقد والعافية نسيئة ثم لو عملوا حقيقة الإيمان لعلموا أن تلك النسيئة وعد صادق لا يخلف ولو عملوا عمل التجار الذين يخاطرون بكثير من المال لما يرجونه من الربح الليل لعلموا أن ما تركوه قليل وما يرجونه كثير ولو أنهم ميزوا بين ما آثروا وما أفاتوا أنفسهم لرأوا تعجيل ما تعجلوا إذ فاتهم الربح الدائم وأوقعهم في العذاب الذي هو الخسران المبين الذي لا يتلافى ومنهم من يقول الرب كريم والعفو واسع والرجاء من الدين فيسمون تمنيهم واغترارهم رجاء وهذا الذي أهلك عامة المذنبين قال أبو عمرو بن العلاء بلغني أن الفرزدق جلس إلى قوم يتذكرون رحمة الله فكان أوسعهم في الرجاء صدرا فقال له لم تقذف المحصنات فقال أحقروني لو أذنبت إلى ولدي ما أذنبته إلى ربي عز وجل أتراهما كانا يطيبان نفسا أن يقذفاني في تنور مملؤا جمرا قالوا لا إنما كانا يرحمانك قال فأني أوثق برحمة ربي منهما قلت وهذا هو الجهل المحض لأن رحمة الله عز وجل ليست برقة طبع ولو كانت كذلك لما ذبح عصفورا ولا أميت طفل ولا أدخل أحد إلى جهنم(105/460)
# وبإسناد عن عباد قال الأصمعي كنت مع أبي نواس بمكة فاذا أنا بغلام أمرد يستلم الحجر الأسود فقال لي أبو نواس والله لا أبرح حتى أقبله عند الحجر الأسود فقلت ويلك أتق الله عز وجل فإنك ببلد حرام وعند بيته الحرام فقال ما منه بد ثم دنا من الحجر فجاء الغلام يستلمه فبادر أبو نواس فوضع خده على خد الغلام فقبله وأنا أنظر فقلت ويلك أفي حرم الله عز وجل فقال دع ذا عنك فإن ربي رحيم ثم أنشد يقول # وعاشقان التف خداهما % عند استلام الحجر الأسود # فاشتفيا من غير أن يأثما % كأنما كانا على موعد # قلت أنظروا إلى هذه الجرأة التي نظر فيها إلى الرحمة ونسي شدة العقاب بانتهاك تلك الحرمة وقد ذكرنا في أول الكتاب هذا أن رجلا زنى بامرأة في الكعبة فمسخا حجرين # ولقد دخلوا على أبي نواس في مرض موته فقالوا له تب إلى الله عز وجل فقال أياي تخوفون حدثني حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي شفاعة وإني أختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أفترى لا أكون أنا منهم # قال المصنف رحمه الله وخطأ هذا الرجل من وجهين أحدهما أنه نظر إلى جانب الرحمة الله ولم ينظر إلى جانب العقاب والثاني أنه نسي أن الرحمة إنما تكون لتائب كما قال عز وجل وإني لغفار لمن تاب " وقال " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون وهذا التلبيس هو الذي هلك عامة العوام وقد كشفناه في ذكر أهل الإباحة(105/461)
$ فصل ومن العوام من يقول هؤلاء العلماء يحافظون على الحدود فلان $ يفعل كذا وفلان يفعل كذا فأمري أنا قريب وكشف هذا التلبيس أن الجاهل والعالم في باب التكليف سواء فغلبه الهوى للعالم لا يكون عذرا للجاهل وبعضهم يقول ما قدر ذنبي حتى أعاقب ومن أنا حتى أواخد وذنبي لا يضرة وطاعتي لا تنفعه وعفوه أعظم من جرمي كما قال قائلهم # من أنا عند الله حتى إذا % أذنبت لا يغفر لي ذنبي # وهذه حماقة عظيمة كأنهم أعتقدوا أنه لا يؤاخذ إلا ضدا أو ندا ثم ما علموا أنه بالمخالفة قد صاروا في مقام معاند وسمع ابن عقيل رحمه الله رجلا يقول من أنا حتى يعاقبني الله فقال له أنت الذي لو أمات الله جميع الخلائق وبقيت أنت لكان قوله تعالى يا أيها الناس خطابا لك ومنهم من يقول سأتوب واصلح وكم من ساكن الأمل من أبله فأختطفه الموت قبله وليس من الحزم تعجيل الخطأ وانتظار الصواب وربما لم تتهيأ التوبة وربما لم تصح وربما لم تقبل ثم لو قبلت بقي الحياء من الجنابة أبدا فمرارة خاطر المعصية حتى تذهب أسهل من معاناة التوبة حتى تقبل ومنهم من يتوب ثم ينقض فيلج عليه إبليس بالمكائد لعلمه بضعف عزمه وبإسناد عن الحسن أنه قال إذا نظر إليك الشيطان ورآك على غير طاعة الله تعالى فنعاك وإذا رآك مداوما على طاعة الله ملك ورفضك وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك الغرور بالنسب # ومن تلبيسه عليهم أن يكون لأحدهم نسب معروف فيغتر بنسبه فيقول أنا من اولاد أبو بكر وهذا يقول أنا من اولاد علي وهذا يقول أنا شريف من أولاد الحسن أو الحسين أو يقول أنا قريب النسب من فلان العالم(105/462)
أو من فلان الزاهد وهؤلاء يبنون أمرهم على أمرين أحدهما أن يقولون من أحب إنسانا أحب أولاده وأهله والثاني أن هؤلاء لهم شفاعة وأحق من شفعوا فيه أهلهم وأولادهم وكلا الأمرين غلط أما المحبة فليس محبة الله عز وجل كمحبة الآدمين وإنما يحب من أطاعه فإن أهل الكتاب من أولاد يعقوب ولم ينتفعوا بآبائهم ولو كانت محبة الأب يسرى لسرى إلى البعض أيضا وأما الشفاعة فقد قال الله تعالى ولا يشفعون إلا لمن أرتضى ولما أراد نوح حمل ابنه في السفينة قيل له إنه ليس من أهلك ولم يشفع إبراهيم في أبيه ولا نبينا في أمة وقد قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها لا أغني عنك من الله شيئا ومن ظن أنه ينجو بنجاة أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه أعتمادهم على خلة خير ولا يبالي بما فعل بعدها # ومن تلبيسه عليهم أن يعتمد أحدهم على خلة خير ولا يبالي بما فعل بعدها فمنهم من يقول أنا من أهل السنة وأهل السنة على خير ثم لا يتحاشى عن المعاصي وكشف هذا التلبيس أن يقال له إن الاعتقاد فرض والكف عن المعاصي فرض آخر فلا يكفي أحدهما عن صاحبه وكذلك تقول الروافض نحن يدفع عنا موالاة أهل البيت وكذبوا فإنه إنما يدفع التقوى ومنهم من يقول أنا ألازم الجماعة وأفعل الخير وهذا يدفع عني وجوابه كجواب الأل تلبيسه على العيارين في أخذ أموال الناس # ومن هذا الفن تلبيسه على العيارين في أخذ أموال الناس فانهم يسمون بالفتيان ويقولون الفتى لا يزني ولا يكذب ويحفظ الحرم ولا يهتك ستر امرأة ومع هذا لا يتحاشون من أخذ أموال الناس وينسون تقلى الأكباد على الأموال ويسمون طريقتهم الفتوة(105/463)
# وربما حلف أحدهم بحق الفتوة فلم يأكل ولم يشرب ويجعلون إلباس السراويل للداخل في مذهبهم كإلباس الصوفية للمريد المرقعة وربما يسمع أحد هؤلاء عن أبنته أو أخته كلمة وزر لا تصح ولا بما كانت من محرض فقتلها ويدعون أن هذه فتوة وربما أفتخر أحدهم بالصبر على الضرب # وباسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه كان يقول كنت كثيرا أسمع والدي أحمد بن حبنل يقول رحم الله أبا الهيثم فقلت من أبو الهيثم فقال أبو الهيثم الحداد لما مددت يدي إلى العقاب وأخرجت للسياط إذا أنا بانسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي تعرفني قلت لا قال أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار مكتوب في ديوان أمير المؤمنين إني ضربت ثمانية عشرة ألف سوط بالتفاريق وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا فأصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين قلت أبو الهيثم هذا يقال له خالد الحداد وكان يضرب المثل بصبره # وقال له المتوكل ما بلغ من جلدك قال املأ لي جرابي عقارب ثم أدخل يدي فيه وأنه ليؤلمني ما يؤلمك وأجد لآخر سوط من الألم ما اجد لأول سوط ولو وضعت في فمي خرقة وأنا أضرب لاحترقت من حرارة ما يخرج من جوفي ولكنني وطنت نفسي على الصبر فقال له الفتح ويحك مع هذا اللسان والعقل ما يدعوك إلى ما أنت عليه من الباطل فقال أحب الرياسة فقال المتوكل نحن خليديه وقال الفتح أنا خليدي وقال رجل لخالد يا خالد ما أنتم لحوم ودماء فيؤلمكم الضرب فقال بلى يؤلمنا ولكن معنا عزيمة صبر ليست لكم وقال داود بن علي لما قدم بخالد اشتهيت أن أراه فمضيت إليه فوجدته جالسا غير متمكن لذهاب لحم إليتيه من الضرب وإذا حوله فتيان فجعلوا يقولون ضرب فلان وفعل بفلان كذا فقال لهم لا تتحدثون عن غيركم افعلوا أنتم حتى يتحدث عنكم غيركم # قال المصنف رحمه الله فانظروا الى الشيطان كيف يتلاعب بهؤلاء فيصبرون على شدة الألم ليحصل لهم الذكر ولو صبروا على يسير التقوى لحصل(105/464)
لهم الأجر والعجب أنهم يظنون لحالهم مرتبة وفضيلة مع ارتكاب العظائم الاعتماد على النافلة وإضاعة الفريضة # ومن العوام من يعتمد على نافلة ويضيع فرائض مثل أن يحضر المسجد قبل الأذان ويتنفل فإذا صلى مأموما سابق الإمام ومنهم من لا يحضر في أوقات الفرائض ويزاحم ليلة الرغائب ومنهم من يتعبد ويبكي وهو مصر على الفواحش لا يتركها فإن قيل له قال سيئة وحسنة والله غفور رحيم وجمهورهم يتعبد برأيه فيفسد أكثر ما يصلح ورأيت رجلا منهم قد حفظ القرآن وتزهد ثم حب نفسه وهذا من أفحش الفواحش حضور مجالس الذكر # وقد لبس إبليس على خلق كثير من العوام يحضرون مجالس الذكر ويبكون ويكتفون بذلك ظنا منهم أن المقصود إنما هو العمل وإذا لم يعمل بما يسمع كان زيادة في الحجة عليه وأني لأعرف خلقا يحضرون المجلس منذ سنين ويبكون ويخشعون ولا يتغير أحدهم عما قد اعتاده من المعاملة في الربا والغش في البيع والجهل بأركان الصلاة والغيبة للمسلمين والعقوق للوالدين وهؤلاء قد لبس عليهم إبليس فأراهم أن حضور المجلس والبكاء يدفع عنه ما يلابس من الذنوب # وأرى بعضهم أن مجالسة العلماء والصالحين يدفع عنكم وشغل آخرين بالتسويف بالتوبة فطال عليهم مطالهم وأقام قوما منهم للتفرج فيما يسمعونه وأهملوا العمل به أصحاب الأموال # وقد لبس إبليس على أصحاب الأمول من أربعة أوجه أحدها من جهة كسبها فلا يبالون كيف حصلت وقد فشا الربا في أكثر معاملاتهم وأنسوه(105/465)
حتى أن جمهور معاملاتهم خارجة عن الإجماع وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء من أين أخذ المال من حلال أو حرام والثاني من جهة البخل بها فمنهم من لا يخرج الزكاة أصلا إنكالا على العفو ومنهم من يخرج بعضا ثم يغلبه البخل فينظر أن المخرج يدفع عنه ومنهم من يحتال لإسقاطها مثل أن يهب المال قبل الحول ثم يسترده ومنهم من يحتال بإعطاء الفقير ثوبا يقومه عليه بعشرة دنانير وهو يساوي دينارين ويظن ذلك الجهل أنه قد تخلص # ومنهم من يخرج الردىء مكان الجيد ومنهم من يعطي الزكاة لمن يستخدمه طول السنة فهي على الحقيقة أجره ومنهم من يخرج الزكاة كما ينبغي فيقول له إبليس ما بقي عليك فيمنعه أن يتنفل بصدقة حبا للمال فيقوته أجر المتصدقين ويكون المال رزق غيره # وبإسناد عن الضحاك عن ابن عباس قال أول ما ضرب الدرهم أخذه إبليس فقبله ووضعه على عينه وسرته وقال بك أطغى وبك اكفر رضيت من ابن آدم بحبه الدينار من ان يعبدني وعن الأعمش عن شقيق عن عبدالله قال إن الشيطان يرد الإنسان بكل ريدة فإذا أعياه اضطجع في ماله فيمنعه أن ينفق منه شيئا والثالث من حيث التكثير بالأموال فإن الغني يرى نفسه خيرا من الفقير وهذا جهل لأن الفضل بفضائل النفس اللازمة لها لا تجمع حجارة خارجة عنها كما قال الشاعر # غنى النفس لمن يعقل % خير من غنى المال # وفضل النفس في الأنفس % وليس الفضل في الحال # والرابع في إنفاقها فمنهم من ينفقها على وجه التبذير والإسراف تارة في البنيان الزائد على مقدار الحاجة وتزويق الحيطان وزخرفة البيوت وعمل الصور وتارة في اللباس الخارج بصاحبه إلى الكبر والخيلاء وتارة في المطاعم(105/466)
الخارجة إلى السرف وهذه الأفعال لا يسلم صاحبها من فعل محرم أو مكروه وهو مسؤول عن جميع ذلك # وباسناد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبن آدم لا تزول قدماك يوم القيامة بين يدي الله عز وجل حتى تسأل عن أربع عمرك فيما أفنيته وجسدك فيما أبليته ومالك من أين أكتسبته وأين أنفقته ومنهم من ينفق في بناء المساجد والقناطر إلا أنه يقصد الرياء والسمعة وبقاء الذكر فيكتب اسمه على ما بنى ولو كان عمله لله عز وجل لأكتفى بعلمه سبحانه وتعالى ولو كلف أن يبني حائطا من غير أن يكتب اسمه عليه لم يفعل ومن هذا الجنس إخراجهم الشمع في رمضان في الأنوار طلبا للسمعة ومساجدهم طوال السنة مظلمة لأن اخراجهم قليلا من دهن كل ليلة لا يؤثر في المدح ما يؤثر في إخراج شمعة في رمضان ولقد كان أغناء الفقراء بثمن الشمع أولى ولربما خرجت الأضواء الكثيرة السرف الممنوع منه غير ان الرياء يعمل عمله وقد كان احمد بن حنبل يخرج إلى المسجد وفي يده سراج فيضعه ويصلي # ومنهم من إذا تصدق أعطى الفقير والناس يرونه فيجمع بين قصده مدحهم وبين إذلال الفقير # وفيهم من يجعل منه الدنانير الخفاف فيكون في الدينار قيراطان ونحو ذلك وربما كانت رديئة فيتصدق بها بين الجمع مكشوفة ليقال قد أعطى فلان فلانا دينارا وبالعكس من هذا كان جماعة الصالحين المتقدمين يجعلون في القرطاس الصغير دينارا ثقيلا يزيد وزنه على دينار ونصف ويسلمونه إلى الفقير في سر فاذا رأى قرطاسا صغيرا ظنه قطعة فاذا لمسه وجد تدوير دينار ففرح فإذا فتحه ظنه قليل الوزن فاذا رآه ثقيلا ظنه يقارب الدينار فاذا وزنه فرآه زائدا على الدينار اشتد فرحة فالثواب يتضاعف للمعطى عند كل مرتبة ومنهم من يتصدق على الأجانب ويترك بر الأقارب وهم أولى وبإسناد عن سليمان بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصدقة على المسلمين صدقة والصدقة على ذوي الرحم(105/467)
اثنتان صدقة وصلة ومنهم من يعلم فضيلة التصدق على القرابة إلا أن يكون بينهما عداوة دنيوية فيمتنع من مواساته مع علمه بفقره ولو واساه كان له أجر الصدقة والقرابة ومجاهدة الهوى وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أفضل الصدقة على ذي الرحم كاشح # قال المصنف رحمه الله وإنما قبلت هذه الصدقة وفضلت لمخالفة الهوى فان من تصدق على ذي قرابة بحبه فقد اتفق على هواه ومنهم من يتصدق ويضيق على أهله في النفقة وقد روى عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى وأبدأ بمن تعول وبإسناد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا فقال رجل عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك قال عندي دينار أخر قال تصدق به على ولدك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال أنت أبصر به ومنهم من ينفق في الحج ويلبس عليه إبليس بأن الحج قربة وإنما مراده الرياء والفرجة ومدح الناس قال رجل لبشر الحافي اعددت ألفي درهم للحج فقال احججت قال نعم قال اقض دين مدين قال ما تميل نفسي إلا إلى الحج قال مرادك أن تركب وتجيء ويقال فلان حاجي ومنهم من يفق على الأوقات والرقص ويرمي الثياب على المغني ويلبس عليه إبليس بأنك تجمع الفقراء وتطعمهم وقد بينا أن ذلك أن مما يوجب فساد القلوب ومنهم من إذا جهز أبنته صاغ لها دست الفضة ويرى الأمر في ذلك قربة وربما كانت له ختمة فتقدم مجامر الفضة ويحضر هناك قوم من العلماء فلا هو يستعظم ما فعل ولا هم ينكرون اتباعا للعادة ومنهم من يجوز في وصيته ويحرم الوارث ويرى أنه ماله يتصرف فيه كيف شاء وينسى أنه بالمرض(105/468)
قد تعلقت حقوق الوارثين به وبإسناد عن أبي امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من خاف عند الوصية قذف في الوباء والوباء واد في جهنم وعن الأعمش عن خيثمة قال قال رسول الله إن الشيطان يقول ما غلبني عليه ابن آدم فلن يغلبني على ثلاث آمره بأخذ المال من غير حقه وآمره بانفاقه في غير حقه ومنعه من حقه تلبيسه على الفقراء # وقد لبس إبليس على الفقراء فمنهم من يظهر الفقر وهو غني فان أضاف الى هذا السؤال والأخذ من الناس فانما يستكثر من نار جهنم اخبرنا ابن الحصين بإسناده عن محمد بن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر وإن لم يقبل هذا الرجل من الناس شيئا وكان مقصوده باظهار الفقر أن يقال رجل زاهد فقد رآى وإن كتم نعمة الله عنده ليظهر عليه الفقر لئلا ينفق ففي ضمن بخله الشكوى من الله # وقد ذكرنا فيما تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا بادى الهيئة فقال هل لك من مال قال نعم قال فلتر نعمة الله عليك وإن كان فقيرا محقا فالمحتسب له كتمان الفقر وإظهار التجمل فقد كان في السلف من يحمل مفتاحا يوهم أن له دارا ولا يبيت إلا في المساجد $ فصل ومن تلبيس إبليس على الفقراء أنه يرى نفسه خيرا من الغني إذ $ قد زهد فيما رغب ذلك الغني فيه وهذا غلط وان الخيرية ليست بالوجود والعدم وإنما هي بأمر وراء ذلك(105/469)
تلبيس إبليس على جمهور العوام # وقد لبس إبليس على جمهور العوام بالجريان مع العادات وذلك من أكثر أسباب هلاكهم فمن ذلك أنهم يقلدون الآباء والإسلام في اعتقادهم على ما نشئوا عليه من العادةفترى الرجل منهم يعيش خمسين سنة على ما كان عليه أبوه ولا ينظر أكان على صواب أم على خطأ ومن هذا تقليد اليهود والنصارى والجاهلية أسلافهم وكذلك المسلمون يجرون في صلاتهم وعباداتهم مع العادة فترى لرجل يعيش سنين يصلي على صورة ما رأى الناس يصلون ولعله لا يقيم الفاتحة ولا يدري ما الواجبات ولا يسهل عليه أن يعرف ذلك هوانا بالدين ولو أنه أراد تجارة لسأل قبل سفره عما ينفق في ذلك البلد ثم ترى أحدهم يركع قبل الإمام ويسجد قبل الإمام ولا يعلم أنه إذا ركع قبله فقد خالفه في ركن فإذا رفع قبله فقد خالفه في ركنين فبطلت صلاته وقد رأيت جماعة يسلمون عند تسليم الإمام وقد بقي عليهم من التشهد الواجب شيء وذاك أمر لا يحمله الإمام فتكون صلاته باطلة وربما يترك أحدهم فريضة وزاد في نافلة # وربما أهمل غسل بعض العضو كالعقب وربما كان في يده خاتم قد حصر الأصبع فلا يديره وقت الوضوء ولا يصل الماء إلى ما تحته فلا يصح وضوؤه وأما بيعهم وشراؤهم فأكثر عقودهم فاسدة ولا يتعرفون حكم الشرع فيها ولا يخف على أحدهم أن يقلد فقيها في رخصته استقلالا منهم للدخول تحت حكم الشريعة وقل أن يبيعوا شيئا إلا وفيه غش ويغطيه عيب والجلاء يغطي عيوب الذهب الردىء حتى أن المرأة تضع الغزل في الانداء وتنديه ليثقل وزنه # ومن جريانهم مع العادة أن أحدهم يتوانى في صلاته المفروضة في رمضان ويفطر على الحرام ويغتاب الناس وربما لو ضرب بالخشب لم يفطر في العادة لأن في العادة استبشاع الفطر ومنهم من يدخل في الربا بالاستئجار فيقول معي عشرون دينارا لا أملك غيرها فان أنفقتها ذهبت وأنا أستأجر بها دارا وآكل أجرة الدار ظنا منه إن هذا الأمر قريب # ومنهم من يرهن الدار على شيء ويؤدي(105/470)
ويقول هذا موضع ضرورة وربما
كانت له دار أخرى وفي بيته آلات لو باعها لاستغنى عن الرهن والاستئجار ولكنه يخاف على جاهه أن يقال قد باع داره أو أنه يستعمل الخزف مكان الصفر ومما جروا فيه على العادات اعتمادهم على قول الكاهن والمنجم والعراف وقد شاع ذلك بين الناس واستمرت به عادات الأكابر فقل أن ترى أحدا منهم يسافر أو يفصل ثوبا أو يحتجم إلا سأل المنجم وعمل بقوله ولا تخلو دورهم من تقويم وكم من دار لهم ليس فيها مصحف وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سأل عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فينقرها في أذن وليه نقر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة # وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برىء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ومن جريانهم مع العادات كثرة الإيمان الحانثة التي أكثرها ظهاروهم لا يعلمون فأكثر قولهم في الإيمان حرام علي ان بعت ومن عاداتهم لبس الحرير والتختم بالذهب وربما تورع أحدهم عن لبس الحرير ثم لبسه في وقت كالخطيب يوم الجمعة ومن عاداتهم إهمال إنكار المنكر حتى أن الرجل يرى أخاه أو قريبه يشرب الخمر ويلبس الحرير فلا ينكر عليه ولا يتغير بل يخالطه مخالطة حبيب ومن عاداتهم أن يبني الرجل على باب داره مصطبة يضيق بها طريق المارة وقد يجتمع على باب داره ماء مطر ويكثر فيجب عليه إزالته وقد أثم بكونه سببا لأذى المسلمين ومن عاداتهم دخول الحمام بلا مئزر وفيهم من إذا دخل بمئزر رمى به على فخذه فيرى جوانب اليتيه ويسلم نفسه إلى المدلك فيرى بعض عورته ويمسها بيده لأن العورة من السرة إلى الركبة ثم(105/471)
ينظر هؤلاء إلى عورات الناس ولا يكاد يغض ولا ينكر ومن عاداتهم ترك
ترك القيام بحق الزوجة وربما اضطروها إلى أن تسقط مهرها ويظن الزوج أنه قد تخلص بما قد اسقطته عنه وقد يميل الرجل إلى إحدى زوجتيه دون الأخرى فيجوز في القسم متهاونا بذلك ظنا أن الأمر فيه قريب فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت له امرأتان يميل إلى أحديهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر احدى شقيه ساقطا أو مائلا ومن عاداتهم اثبات الفلس عند الحاكم ويعتقد الذي قد حكم له بالفلس أنه قد سقطت عنه بذلك الحقوق وقد يؤسر ولا يؤدي حقا ومنهم من لا يقوم من دكانه بحجة الفلس إلا وقد جمع مالا من أموال المعاملين فأضربه ينفقه في مدة استتاره وعنده أن الأمر في ذلك قريب ومما جروا فيه على العادات أن الرجل يستأجر ليعمل طول النهار فيضيع كثيرا من الزمان إما بالتثبط في العمل أو بالبطالة أو بإصلاح آلات العمل مثل أن يحد النجار الفأس والشقاق المنشار ومثل هذا خيانة إلا أن يكون ذلك يسيرا قد جرت العادة بمثله # وقد يفوت أكثرهم الصلاة ويقول أنا في إجارة رجل ولا يدري أو أوقات الصلاة لا تدخل في عقد الإجارة وقلة نصحهم في أعمالهم كثيرة ومما جروا فيه على العادة دفن الميت في التابوت وهذا فعل مكروه وأما الكفن فلا يتباهى فيه بالمغالاة ينبغي أن يكون وسطا ويدفنون معه حملة من الثياب وهذا حرام لأنه إضاعة للمال ويقيمون النوح على الميت وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ومن عاداتهم اللطم وتمزيق الثياب وخصوصا النساء وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعى بدعوى الجاهلية وربما رأوا المصاب قد شق ثوبه فلم ينكروا عليه لا بل ربما أنكروا ترك شق الثوب وقالوا ما أثرت عنده المصيبة ومن عاداتهم(105/472)
يلبسون بعد الميت الدون من الثياب ويبقون على ذلك شهرا أو ستة وربما لم يناموا هذه المدة في سطح ومن عاداتهم زيارة المقابر في ليلة النصف من شعبان وإيقاد الدار عندها وأخذ تراب القبر المعظم قال ابن عقيل لما التكاليف على الجهال والضغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال وهم كفار عندي بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليفها وخطاب الموتى بالألواح وكتب الرقاع فيها يا مولاي أفعل بي كذا وكذا وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال اليها وإلقاء الخرق على الشجر أقتداء بمن عبد اللات والعزى ولا تجد في هؤلاء من يحقق مسألة في زكاة فيسأل عن حكم يلزمه والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكهف ولم يتمسح بآجرة مسجد المأمونية يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته أبو بكر الصديق أو محمد وعلي ولم يكن معها نياحة ولم يعقد على أبيه أزجا بالجص والآجر ولم يشق ثوبه إلى ذيله ولم يرق ماء الورد على القبر ويدفن معه ثيابه تلبيس إبليس على النساء # وأما تلبيس إبليس على النساء فكثير جدا وقد أفردت كتابا للنساء ذكرت فيه ما يتعلق بهن من جميع العبادات وغيرها وأنا أذكر ههنا كلمات من تلبيس إبليس عليهن فمن ذلك أن المرأة تطهر من الحيض بعد الزوال فتغتسل بعد العصر فتصلي العصر وحدها وقد وجبت عليها الظهر وهي لا تعلم وفيهن من يؤخر الغسل يومين وتحتج بغسل ثابها وفسلها ودخول الحمام وقد تؤخر غسل الجنابة في الليل إلى أن تطلع الشمس فإذا دخلت الحمام لم تتزر بمئزر وتقول ما دخل إلي إلا القيمة وربما قالت أنا وأختي وأمي وجاريتي وهن نساء مثلي فممن أستتر وهذا كله حرام فإن تخير الغسل بغير عذر لا يجوز ولا يحل للمرأة أن تنظر من المرأة ما بين سرتها وركبتها ولو كانت ابنتها وأمها إلا أن تكون البنت صغيرة فإذا بلغت سبع(105/473)
سنين استترت واستتر منها وقد تصلي المرأة قاعدة وهي تقدر على القيام فالصلاة حينئذ باطلة وقد تحتج بنجاسة في ثوبها من بول
طفلها وهي تقدر على غسله ولو أرادت الخروج إلى الطريق لتهيأت واستعارت وإنما هان عندها أمر الصلاة وقد لا تعرف من واجبات الصلاة شيئا ولا تسأل وقد ينكشف من الحرة ما يبطل صلاتها وتستهين به وقد تستهين المرأة بإسقاط الحبل ولا تدري أنها إذا أسقطت ما قد نفخ فيه الروح فقد قتلت مسلما وقد تستهين بالكفارة الواجبة عليها عند ذلك الفعل فانه يجب عليها أن تتوب وتؤدي دينه إلى ورثته وهي غرة عبد أو أمة قيمتها نصف عشر دية أبيه أو عشر ديه الأم ولا ترث الأم من ذلك شيئا ثم تعتق رقبة فان لم تجد صامت شهرين متتابعين وقد تسيىء الزوجة عشرتها مع الزوج وربما كلمته بالمكروه وتقول هذا أبو أولادي وما بيننا هذا وتخرج بغير إذنه وتقول ما خرجت في معصية ولا تعلم أن خروجها بغير إذنه معصية ثم نفس خروجها لا يؤمن منه فتنة وفيهن من تلازم القبور وتحد لا على الزوج وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله ورسوله أن تحد على ميت إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ومنهم من يدعوها زوجها إلى فراشه فتأبي وتظن هذا الخلاف ليس بمعصية وهي منهية عنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبتفباتت وهو عليها ساخط لعنتها الملائكة حتى تصبح أخرجاه في الصحيحين وقد تفرط المرأة في مال زوجها ولا يحل لها أن تخرج من بيته شيئا إلا أن يأذن لها أو تعلم رضاه وقد تعطي من ينجم لها بالحصى ويسحر ومن تعمل لها نخسة محبة وعقد لسان وكل هذا حرام وقد تستجير ثقب آذان الأطفال وهو حرا فان أفلحت وحضرت مجلس الواعظ فربما لبست خرقة من يد الشيخ الصوفي وتصافحه فصارت من بنات المنبر فخرجت إلى عجائب وينبغي أن تكف عنان العلم اقتصارا على(105/474)
هذه النبذة فأن هذا الأمر يطول ولو بسطنا لنبذ المذكورة في هذا الكتاب أو شيدنا ردنا على من رددنا عليه بالأحاديث والآثار لاجتمعت مجلدات وإنما ذكرنا اليسير ليدل على الكثير وقد اقتنعنا في ذكر فاحش القبيح من أفعال الغالطين بنفس حكايته دون تعاطي رده لأن الأمر فيه ظاهر والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل بمنة وكرمه
الباب الثالث عشر في ذكر تلبيس إبليس على جميع الناس بطول الأمل
قال المصنف رحمه الله كم قد خطر على قلب يهودي ونصراني حب الإسلام فلا يزال إبليس يثبطه ويقول لا تعجل وتمهل في النظر فيسوفه حتى يموت على كفره وكذلك يسوف العاصي بالتوبة فيجعل له غرضه من الشهوات ويمنيه الإنابة كما قال الشاعر
لا تعجل الذنب لما تشتهي % وتأمل التوبة ما قابل وكم من عازم على الجد سوفه وكم ساع إلى فضيلة ثبطه فلربما عزم الفقيه على إعاده درسه فقال استرح ساعة أو انتبه العابد في الليل يصلي فقال له عليك وقت ولا يزال يحبب الكسل ويسوف العمل ويسند الأمر إلى طول الأمل فينبغي للحازم أن يعمل على الحزم والحزم تدارك الوقت وترك التسوف والإعراض عن الأمل فإن المخوف لا يؤمن والفوات لا يبعث وسبب كل تقصير في خير أو ميل أن شر طول الأمل فان الإنسان لا يزال يحدث نفسه بالنزوع عن الشر والاقبال على الخير إلا أنا يعد نفسه بذلك ولا ريب أنه من الأمل أن يمشي بالنهار سار سيرا فاترا ومن أمل أن يصبح عمل في الليل عملا ضعيفا ومن صور الموت عاجلا جد وقد قال صلى الله عليه وسلم صل صلاة مودع(105/475)
رضي الله عنه وقال بعض السلف أنذركم سوف فإنها أكبر جنود إبليس ومثل العامل على الحزم والساكن لطول الأمل كمل قوم في سفر فدخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهبا للرحيل وقال المفرط سأتأهب فربما أقمنا شهرا فضرب بون الرحيل في الحال فاغتبط المحترز واغتبط الآسف المفرط فهذا مثل الناس في الدنيا مهم المستعد المستيقظ فإذا جاء ملك الموت لم يندم ومنهم المغرور المسوف يتجرع مرير الندم وقت الرحلة فإذا كان في الطبع حب التواني وطول الأمل ثم جاء إبليس يحث على العمل بمقتضى ما في الطبع صعبت المجاهدة إلا أنه من أنتبه لنفسه علم أنه في صف حرب وأن عدوه لا يفتر عنه فإن افتر في الظاهر بطن له مكيدة وأقام له كمينا ونحن نسأل الله عز وجل السلامة من كيد العدو وفتن الشيطان وشر النفوس والدنيا انه قريب مجيب جعلنا الله من أولئك المؤمنين تم والحمد لله أولا وآخرا(105/476)
تنبيه الساهي
إلى ما في الخرافة من الدواهي
تأليف
أحمد بن علي بن أحمد برّعود
تقديم
علامة اليمن ومفتي الشافعية
الوالد القاضي محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الوالد القاضي محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله
الحمد لله رب العالمين وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله
وصحبه وجنده.
وبعد: فهذا كتاب (تنبيه اللاهي إلى ما في الخرافة من الدواهي) الذي دبجه يراع ولدي الفاضل العلامة(1) النشط: أحمد بن علي بن أحمد برعود حفظه الله، ونفع بعلومه، وزاد في رجال العلم العاملين من أمثاله، وهو لعمري من أفضل الكتب الني أخرجت للناس في هذه الأيام، ينتفع به المبتدي، كما لا يستغني عنه المنتهي، ولا سيما وهو سلس في كلامه، حسن في أسلوبه، ولقد قام بواجبه خير قيام في تبيين الحقائق وفي مكافحة الخرافات والترهات، فلله دره وجزاه الله خير الجزاء ونفع بعلومه، فدونك أيها القارئ هذا الكتاب الذي سيقدم لك نفسه وتعرف حقيقة ما قلته وما وصفته.
والله ولي الهداية والتوفيق وسبحان الله وبحمده. وسبحان الله العظيم
وحرر تاريخه
ربيع الثاني 1423 هـ الموافق يونيو 2002م
محمد بن إسماعيل العمراني
مقدمة
__________
(1) جزى الله الوالد خير الجزاء على حسن ظنه بي، فإن ما ذكره إنما هي مرتبته ومرتبة أمثاله من جهابذة العلم.(106/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( [سورة آل عمران]. ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( [سورة النساء].
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( [سورة الأحزاب].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد كرم الله بني آدم ورزقهم عقولا يفكرون ويتفكرون بها، وأنار وهدى العقول بالشرع الحنيف ليحفظها من الزيغ والضلال والانحراف، فإذا هي مالت عنه أو تركته فسدت وضلت، وبذلك يكون التشريع من أعظم النعم على بني آدم، فمن رزقه الله علما في الشريعة فقد آتاه نعمة عظيمة يبصر من خلالها الحق من الباطل والهدى من الضلال، ويعيش في ظلها آمنا سعيدا.
وفي ظل نعمة التشريع والعمل به والانقياد له والتحاكم إليه، عاش خير القرون الصحابة والتابعون وتابع التابعين فكانوا كما وصفهم الني صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(1).
__________
(1) متفق عليه.(106/2)
وفي ظل وجودهم اضمحلت قوى الشر وغاب ظهورها في ظل قوة الدين وشوكته، ولم تكن قادرة على مواجهة القوة والشوكة للدين وأهله، فأخذت أسلوبا خبيثا في هدم عقيدة الأمة وأخلاقها وقيمها، واختارت لنفسها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فكان المعول الذي استخدمته لهدم الدين، والذي من خلاله نشرت فسادها وتضليلها بتقسيم الدين إلى علم الشريعة وعلم الحقيقة، فجعلوا علم الحقيقة لأنفسهم باعتبارهم خاصة الله زورا وبهتانا، وعلم الشريعة لعامة الناس.
ومن خلال علم الحقيقة نشروا فسادهم وضلالهم وقدموه للناس بأنه دين.
وإني في هذا المؤلف الذي أسميته (تنبيه الساهي إلى ما في الخرافة من الدواهي) أبين بعض فسادهم وضلالهم وانحرافهم وكيف كانوا يضحكون على عقول بعض الناس ويجرونهم إلى الشرك والإثم والعدوان، وفد حرصت في نقل الخرافات التي يعدونها كرامات من الكتب المشهورة والمتداولة بأيديهم وأكثرها مطبوعة (1) وتباع ويتبجح بها، وهذا من الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة في ذلك الموضوع؛ لكي يستفيق الغافل من غفلته، ويرجع المخدوع إلى رشده، ويعرف المروجون للخرافة إلى أين يتجهون ويوجهون.
- والسبب الرئيسي أولا هو بيان الحق وكشف الباطل:
__________
(1) ومعذرة أخي القارئ أن بعض الكتب مليئة بالغة العامية ويكثر فيها الأخطاء الإملائية وقد نقلتها كما هي في الكتب المشار إليها.(106/3)
فإن الله أخذ العهد على حملة العلم الشرعي أن يصدعوا بالحق دون مداهنة وخوف، وأن يكون همهم رضا الله لا رضا المخلوقين، وحذرهم من كتمانه، وتوعدهم بالعذاب عليه، قال الله جل جلاله:)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ 159 إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( [سورة البقرة] وقال جلا جلاله إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 174 أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ( [سورة البقرة]
قال ابن كثير في تفسيره: ((هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدي النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا: ) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( [سورة البقرة].(106/4)
فالأمة اليوم بحاجة إلى من يأخذ بيدها، ويخرجها من مستنقعات العفانة والجهالة وسوء الأخلاق وانحراف الأفكار، إلى الوقوف على الجادة، والسير على منهج النبوة، ومسالك السلف الصالح- وهم أهل القرون المفضلة- الصحابة والتابعون وتابع التابعين؛ فهي ليست بحاجة اليوم إلى من يفتح أبواب الخرافة واللهو واللعب والمخالفات، من أجل أن يكون له يد فيها، أو كلمة تسمع، أو أمر يطاع فيه- ويكفي ذلك إسخاطا لله عز وجل- فكيف وحال الأمة اليوم يرثى له، وهي غارقة في لهوها ولعبها وانحرافها، وهي في حالة لا تحسد عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه هي دوافعي في كتابة هذا المؤلف، ولعل القارئ بعد قراءته للكتاب يعذرني إذا بدرت مني كلمة شديدة، ليس لشيء إلا غيرة على دين الله، ليس تحاملا ولا بغضا ولا كراهة لأناس بمختلف طبقاتهم. وقد جعلت الكتاب مؤلفا من عدة أبواب وجعلت لكل باب فصولا ولبعض الفصول مباحث، وجعلت لبعض الأبواب ردودا مستقلة، واكتفيت في بعضها بالتعليق في الهوامش، وجعلت خاتمة الأبواب بابا لأقوال بعض المنكرين على الخرافيين.
فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يجعل ما كتبته خالصا لوجهه وحجابا لي من النار، ويجعله تثبيتا للموفق للحق، وتبصيرا للجاهل، وتذكيرا للغافل، وحجة على المعاند والمكابر.
وإني أتقدم بالشكر الجزيل بعد شكر الله تعالى إلى كل من أعانني على إخراج هذا المؤلف، وأسأل الله أن يكتب لي ولهم الأجر والثواب والثبات على الصراط المستقيم إلى أن نلقاه وهو راض عنا، وأن يغفر لي ولهم ولوالدي ووالديهم ولمن له حق علينا.
وصلى الله على محمد النبي الخاتم وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
أحمد بن علي بن أحمد برعود
حضرموت- اليمن
إمام وخطيب جامع الفرقان بمدينة الشحر
يوم الأربعاء: 13 رمضان 1422هـ
الموافق: 28/11/2001م
الباب الأول
الخرافة
الفصل الأول: معنى الخرافة.
الفصل الثاني: نشأة الخرافة.(106/5)
الفصل الثالث: كيف ينشر الخرافيون خرافاتهم؟
الفصل الرابع: أسباب انتشار الخرافة.
الفصل الخامس: لماذا يتمسك الخرافيون بالخرافات؟
الفصل السادس: مفاسد الخرافة والخرافيين.
الفصل الأول
معنى الخرافة
قال ابن منظور في لسان العرب (1):
والخرافة: الحديث المستملح من الكذب، قالوا: حديث خرافة، ذكر ابن الكلبي في قولهم: حديث خرافة أن خرافة من بني عدوة أو من جهينة، اختطفته الجن ثم رجع إلى قومه، فكان يحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه، فجرى على ألسن الناس، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وخرافة حق).
وفي حديث عائشة رضي الله عنه قال لها: (حدثيني قالت: ما أحدثك حديث خرافة) والراء فيه مخففة ولا تدخله الألف واللام لأنه معرفة، إلا أن يريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل، أجروه على كل ما يكذبونه من الأحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه).
وفي المعجم الوسيط(2):
الخرافة: ما يجنى من الفواكه في الخريف والحديث المستملح المكذوب.
وقال الفيومي في المصباح المنير(3):
خرف الرجل خرفا من باب تعب فسد عقله لكبره فهو (خرف).
وقال الفيروزي آبادي في القاموس المحيط(4):
الحرفي كسكري: الجلبان لحب، فعرب (خرباء) وكثمامة: رجل من غذرة استهوته الجن فكان يحدث بما رأى فكذبوه وقالوا: (حديث خرافة) أو هي حديث مستملح كذب.
ومن خلال المعنى للخرافة نخلص إلى حقيقتها:
وهي أن الخرافات مجموعة من الكذب المثير للنفوس يستعذبه السامع لغرابته فيوقع
في القلوب الفارغة عن الإيمان والضعيفة أثرا.
والخرافات لا تختلف عن الخزعبلات قال في اللسان(5): خزعبل: الخزعبل والخزعبيل: الباطل، وفي (الصحاح): الأباطيل، قال الجرمي: الحزعبيلة ما أضحكت به القوم.
__________
(1) 9/65) في باب (ف).
(2) ص: 229) طبعة دار الأمواج: بيروت- لبنان.
(3) ص: 1/167) طبعة المكتبة العلمية.
(5) 11/205).(106/6)
فالخرافات والخزعبلات يجتمعان في كونهما من الباطل؛ فهما يضادان الحق.
فالخرافيون ينسجون الكذب نسيجاً محكماً، ويرسخونه بالأحاديث المكذوبة والتأويلات فيدهشون به عقول الجهلة بالشرع وبأصول الدين، ويبذلون شيئاً من الأموال ويدفعون السفهاء لنشرها في أوساط الناس، ويعادون من ينكرها ويصفونه بالجهل أو الوهابية أو الإرشادية أو بالمذهب الجديد أو غير ذلك.
الفصل الثاني
نشأة الخرافة
الخرافة منهج إبليسي شيطاني، يقوم على الكذب والاحتيال والأقاويل الشيطانية التي لا تتفق مع فطرة الإنسان، وترد نقلاً وعقلاً، فإمام الخرافة والخرافيين هو إبليس لعنه الله، ولإبليس شَرَكان(1) يصيد بهما بني آدم، فيخرجهم من الهدى إلى الضلال، ومن استقامة الفطرة إلى الانحراف والانحلال وإتباع الأهواء.
شرَكاء إبليس لصيد بني آدم:
الشَّرَك الأول: الجنس وملحقاته:
بهذا الشَّرَك يستطيع إبليس أن يبعد ابن آدم عن نداء الفطرة وعن السلوك المستقيم الموجه بالغرائز السليمة المتوازنة فيما بينها، حسب الفطرة التي فطرها الله عليها، فتنحرف فيه غرائز وتتضخم أخرى على حساب بقية الغرائز التي تضمر بسبب هذا التضخم.
وقد أرسل الله سبحانه الرسل بالتعاليم الاعتقادية والفكرية والعملية التي تحفظ للإنسان سيره المستقيم، وتعبد الغرائز إلى توازنها الفطري، وتحقق عبادة الله في الأرض، والإسلام الذي هو الرسالة التي جاء بها كل الرسل: ) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ(. [آل عمران: 19]
__________
(1) قال في اللسان (10/450): والشرك حبائل الصائد وكذلك ما ينصب للطير، واحدته شركة وجمعها شرك وهي قليلة نادرة، وشرك الصائد حبالته يرتبك فيه الصيد وفي الحديث (أعوذ بك من شر الشيطان وشركه) رواه الترمذي، أي ما يدعو ويوسوس به من الإشراك بالله تعالى ويروي بفتح الشين والراء أي حبائله ومصائده.(106/7)
الشرك الثاني: الإشراق(1):
إن أفلت الإنسان من الشرك الأول وسار على الصراط المستقيم، فسيجد أيضا إبليس أمامه ينتظره على هذا الطريق: ) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الأعراف ]فسيجده وقد نصب له الشرك الثاني: الإشراق.
ويستغل إبليس الغرور والجهل في الإنسان ليوقعه في هذا الشرك باسم الإسلام وباسم الولاية وباسم مقام الإحسان والقرب والمعرفة... و... إلخ.
طرق الوصول إلى الإشراق:
وللوصول إلى الإشراق يوجد طريقان:
الطريق الأول: طريق شجرة الخلد وملك لا يبلى:
وهي أنواع: فعند بعض الشعوب القديمة وفي الهند خاصة كانت شجرة الحشيش، وفي الشرق الأوسط كانت شجرة الخشخاش (الأفيون)، وفي المكسيك كانت فطر المكسيك، وفي البيرو (أمريكا الجنوبية) كانت شجرة الكوكا، وفي ماليزيا كانت شجرة الكافا... إلى غير ذلك (2) .
وقد كانت شجرة الخلد هذه وفي قمتها الحشيش والخشخاش حكرا على الكهان،
كما تدخل قصور الملوك في أحيان كثيرة.
وكانت سرا مقدسا يتعاطاها الكهان ضمن طقوس تعبدية سرية؛ كي يقعوا في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، وينطقون العلوم اللدنية الهذيانية وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.
وبهذه الإشراقات الباطلة، والحكمة المتوهمة، كانوا يخرجون من الإسلام بابا بعد باب، وتدخل عليهم الوثنية من كل باب.
الطريق الثاني: طريق الرياضة والمجاهدة الصوفية:
يستدرجهم إبليس إليها باسم الإحسان وباسم السير إلى الله والعروج إليه وباسم المعرفة حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.
__________
(1) يقصد بالإشراق: هو قذف الأنوار الربانية على قلب الولي فينطق بالعلوم اللدنية، فيخبر بالأخبار الإلهية (حدثني قلبي عن ربي) وهذا هو مكر الشيطان بهم.
(2) كل ما ذكر من الأشجار مسكر.(106/8)
وطريق الرياضة هذه هي طريق خداعة، تخدع الإنسان أكثر من طريق شجرة الهلوسة (شجرة الخلد)، لذلك كان اعتماد إبليس عليها أكثر من اعتماده على الشجر، وكان اسمها الكهانة والمعرفة، وعندما حاربها الإسلام حولوا اسمها إلى الصوفية (1) .
وبذلك يتضح لك- أخي القارئ- أن المنهج الخرافي الإبليسي تتبناه الطرق الصوفية بكل أشكالها وأصنافها، فالمذهب الصوفي مذهب دخيل على الإسلام، يرتبط بالمذاهب الباطنية ارتباطا وثيقا بل هو جزء منها، بل أصل التصوف التشيع(فإن أول من أسس التصوف هم الشيعة؛ حيث يرجع التصوف إلى رجلين، ا لأول: عبدك، والثاني: أبو هاشم الشيعي، كما جاء في التنبيه والرد لأبي حسين الملطي الشافعي رحمه الله نقلا عن الإمام قتيتي ابن أكرم شيخ الإمام أبي داود والإمام النسائي، وقد عاصر الإمام أحمد، وجابر بن حيان شيعي مؤسس) (2) .
علاقة الصوفية بالإمامية:
ومما يدل على أن أصل التصوف هو التشيع ما ذكره السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في كتابه: نسيم حاجر في تأييد قولي عن مذهب المهاجر (3): إن العلويين الحضرميين ومن لفهم إلى هذا الحين، إن لم يكونوا على مذهب الإمامية فإنهم على أخيه، إذ طالما سمعنا ممن لا يحصر عدا ولا يضبط كثرة منهم من يقول: إنها لما رويت عنهم الخلافة الظاهرة، عوضوا بالخلافة الباطنة، فصارت إلى علي ثم إلى ابنه، ثم إلى زين العابدين، ثم إلى الباقر ثم إلى الصادق، وهكذا في الأفضل ثم الأفضل من ذرياتهم، إلا ترى أنهم يقولون بقطبانية هؤلاء وما القطبانية إلا الإمامة نفسها. اهـ
__________
(1) نقلا من كتاب: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ(بتصرف) تأليف: محمد عبد الرؤوف القاسم،ط/ المكتبة الإسلامية، الطبعة الثانية(ص:377).
(2) استمع إلى أشرطة(الخرافيون) للشيخ سفر الحوالي.
(3) ص:8).(106/9)
وذكر في الكتاب ما اتفقوا عليه من قطبانية الفقيه المقدم وما يزعم له بعضهم من الخلافة الظاهرة، وتأمل ما جاء في الحكاية (337) من الجوهر الشفاف وما علق به عليها مؤلفه، فإنها صريحة في أن الشيخ السقاف ليس حنبلي ولا شافعي ولا مالكي ولا حنفي وأن تلك هي صفة القطب، يولي من يشاء ويعزل من أراد، لا راد لحكمه ولا معقب
لأمره.
فجد السادة آل أبي علوي إمامي رافضي ويرجع إلى أصول إمامية كما ذكر مفتي حضرموت ابن عبيد الله، وبمجيئه إلى حضرموت نشر الرافضة، وإنما أخذ مذهب الإمام الشافعي تقية، وهذا من أصول الرافضة، وذلك من أجل سحب الزعامة والمشيخة من آل أبى فضل (بافضل) كما ذكر صلاح البكري في تاريخ حضرموت.
ووجد منهم من يلعن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كما أن كثيرا من البدع المنتشرة في حضرموت يرجع أصلها إلى أصول شيعية.
ففي باب العقائد: كتعظيم القبور وتقديسها، والاستغاثة بأصحابها، وقصدها لقضاء الحوائج، والقول بوحدة الوجود.
وفي باب العبادات: كالصلوات والأذكار المبتدعة، وما يرتبط بالجنائز من حمل وسير وخاصة جنائز العلوين، والسكينة والوقار والخشوع عند قبور ما يسمونهم الأولياء، وفعل الموالد الذي يرجع أصلها إلى أول من عملها العبيديون الذين سموا زورا بالفاطميين وقد ذكر ذلك ابن المأمون وابن الطوير والمقريزي أحمد بن علي بن عبد القادر صاحب الخطط المقريزية، حيث ذكر ذلك في كتابه الشهير عن المتقدمين مقرا له ومعتمدا عليه، وذكر ذلك أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي صاحب كتاب: صبح الأعشى.(106/10)
ومن المعاصرين محمد بخيت المطيعي في رسالته:أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام، وعلي محفوظ في كتابه: الإبداع في مضار الابتداع، والأستاذ علي فكري في كتابة: المحاضرات الفكرية، والدكتوران حسن إبراهيم حسن وطه أحمد شرف في كتابهما: المعز لدين الله. صرح هؤلاء المتأخرون أن أول من أحدث الموالد هي الدولة العبيدية، ومن هي الدولة العبيدية؟
إنها منسوبة إلى عبيد بن ميمون القداح، قال ابن كثير: وكان يهوديا فدخل المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي... إلى أن قال: يظهر الرفض وينطوي على الكفر. وقال عن دولته وأحفاده: وكانوا من أغنى الخلفاء وأصبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وأجبنهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد (1) .
الصوفية يلتقون مع الشيوعية:
بينهما تشابه عجيب، وهاهو أحد أئمة الأشاعرة وهو فخر الدين الرازي المتوفي سنة
(606 هـ) في كتابه (أساس التقرير) حيث ذكر في الباب الثامن في أحوال الصوفية وذكر فرقهم، الفرقة السادسة: الإباحية، وهم قوم يحفظون طامات لا أصل لها وتلبيسات في الحقيقة، وهم يدعون محبة الله تعالى، وليس لهم نصيب من شيء من الحقائق، بل يخالفون الشريعة ويقولون إن الحديد رفع عنه التكليف، وهم الأشر من الطوائف، وهم على الحقيقة على دين مزدك.
ودين مزدك هو أصل الشيوعية، يقول محمود عبد الرؤوف القاسم (2) :(هناك تشابه عجيب بين الصوفية والشيوعية، ومن وجوه هذا التشابه:
__________
(1) البداية والنهاية(12/267).كذلك( الموالد البدعية نشأتها وأهدافها) محاضرة للشيخ: أحمد بن حسن المعلم.
(2) في كتابه: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ(871).(106/11)
أولا: الصوفية والشيوعية تلتقيان بعقيدة وحدة الوجود، والخلاف بينهما لفظي، فالصوفية يقولون: لا موجود إلا الله، وكل الموجودات هي الله (1) ، والشيوعية يقولون: لا موجود إلا المادة، وكل الموجودات هي المادة.
ثانيا: الصوفية والشيوعية تلتقيان في الكذب الذي لا يعرف الحدود، فالصوفية يكذبون على الله ومخلوقاته (من العرش إلى الفرش) من دون خوف ولا حياء.
والشيوعيون شعارهم: اكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة.
ثالثا: تلتقيان في الكيد للدين والمكر به، فمثلا يقول المتصوفة: (إن الصوفية نزلت وحيا من الله على رسوله، وهي مقام الإحسان، وكان محمد صلى الله عليه وسلم صوفيا، أخذ عنه الطريقة أبو بكر وعمر وعلي وغيرهم) وغيرها من المخادعات.
ويقول الشيوعيون: إن الإسلام دين الاشتراكية، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم اشتراكيا وكذلك خديجة وعمر وعلي وأبو ذر كانوا اشتراكيين، وغيرها من المخادعات.
__________
(1) وفي نفس المصدر(ص:183): يقول عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس-ولد بمدينة تريم في حضرموت، تنقل ثم استقر في مصر ومات فيها(سنة:1192هـ -في مقدمة كتابه لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود9باسم الله بداية ونهاية، والحمد لله رواية ودراية وأصلي وأسلم على الأول والآخر والظاهر والباطن وعلى آله وأصحابه الراتعين في بساتين الظاهر،أما بعد: فهذه لطائف تتعلق بمسألة الوحدة القائل بها أهل المعارف) قال مؤلف المصدر: (نعلم أن الأول والآخر والظاهر والباطن هي من صفات الله تعالى، لكنه هنا جعلها صفات للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو ما يسمونه: ( الحقيقة المحمدية) إذ يعتبرون أن محمدا هو الجلي الأعظم للذات الإلهية: أي أن أعظم ظهور لله سبحانه وتعالى هو في شخص محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال قوله9بمسألة الوحدة القائل بها أهل المعارف) حيث يبين لنا ماذا يعنون بمصطلح(العارف) كما بين أن أهل المعارف يدينون بوحدة الوجود وهو تصريح يشكر عليه)أهـ.(106/12)
رابعا: تلتقيان بتأليه البشر وعبادتهم وتقديسهم في حياتهم وبعد موتهم، فالمتصوفة يؤلهون سدنة الصوفية وكهانها (الشيوخ) (1) بشكل عام وشيخ طريقتهم بشكل خاص؛ والشيوعيون يألهون سدنة الشيوعية وكهانها (لينين، ماركس، ماوننسي تونغ، غورغي ديمتروف، وغيرهم) بشكل عام، وحاكم بلدهم بشكل خاص (أو قائد حزبهم).
خامسا: تلتقيان في سجن الفرد المنتمي إليهما في زنزانة فكرية ولا تسمحان له بالتطلع خارجها.
سادسا: تتشابهان في الغاية: فالصوفية تعد مريدها أن يكون هو الله المتصرف في الكون (2) ، والشيوعية تعد مريدها أن يكون سيد مصيره، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
سابعا: الصوفية تدعي أنها الطريق المؤدية إلى السعادة الأبدية، التي لا تزيد عن كونها تلبيسا وخدعة، والشيوعية تدعي أنها تؤدي إلى نعيم الإنسان، والذي لا يزيد عن كونه تلبيسا وخدعة.
ثامنا:كلتاهما تنبذان الآخرة (مر معنا قولهم: اخلع نعليك: الدنيا والآخرة).
تاسعا: كلتاهما تستعملان في خداعهما ومراوغتهما أسلوب إماتة الاحتمالات الحية، وتحريك الاحتمالات الميتة وتسليط الأضواء عليها حتى تبدو وكأنها حية!
تشابه بين الضلالتين يثير الانتباه وتلاقي يبعث على التساؤل. اهـ.
وكما يظهر من بعض مقالاتهم البذية أنهم جبرية كما جاء في ديوان عمر بن عبد الله بامخرمة (3) :
وهم يقولون ذي يبغون فإنه صواب
ڑڑنهاية أن قال قائلهم إذا أنكر وعاب
ٹڑ
ڑعمر يحب المغاني والسقل
(4) ڑڑيقول فإنه تعرضنا وما قال صاب
ٹڑ
ڑوهو بلا لوم تاب الله عليه إن تاب
ڑڑوهو يحكم السوابق والقضاء
الفصل الثالث
كيف ينشر الخرافيون خرافاتهم؟
__________
(1) سيأتي أمثلة على ذلك إن شاء الله
(2) وسيأتي أمثلة على ذلك إن شاء الله.
(3) من ديوان عمر بن عبد الله بامخرمة مخطوطة مكتبة الأحقاف بتريم( مجاميع: أ وب، رقم:2254).
(4) السقل أي: المردان. والقحاب أي: الزواني.(106/13)
إن الخرافيين لهم وسائل عديدة في استمالة الناس إليهم، والتسلط على قلوبهم، ومن خلالها ينشرون فسادهم وضلالهم، ومن هذه الوسائل:
الوسيلة الأولى:الاستعانة بشياطين الجن:
قد عرفنا آنفا أن الخرافة مذهب ومنهج إبليسي يقوم عليه الكهان والعرافون في الجاهلية، ثم تبناه بعد الإسلام أصحاب الطرق الصوفية، فهم يستخدمون السحر في نيل أغراضهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر الغزالي (ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم) تأخذ أفرادا من شعير حزام وتقول عليه أربع مرات (ها طاش ما طاش هطاشه، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وترميه من حيث لا يشعرون وتنظر ما يصنع الله) (1) .
وجاء في شمس المعارف (2) :(والعزيمة والدعوة هي السورة الشريفة بتمامها وكذا البخور، واعلم أيها الواصل أنها من الأسرار المختصة، وأنها من كتب الأنبياء والأولياء وأسرارهم وهي هذه، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم قل أوحي إلي، اللهم إني أسالك يا منزل الوحي من فوق سموات ) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا 27 لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا( [سورة الجن] اللهم إني أسالك بحق المساجد لله، وبحق عبادك الصالحين، يا خدام هذه الدعوة الروحانيين، أقسمت عليكم بهذه الدعوة والأسماء والسورة بحق(رقوش، كلهوش، بططهوش، كمصهلوش، بهوش، قانوش، أقسمت عليك يا روقيائيل الملك الموكل بملك الشمس).
ونص آخر (فصل) (3) : تكتب هذه الأسماء في وسادة للمتباغضين من الزوجين،
__________
(1) سر العالمين(2/65- 66).
(2) ص:122-123-124).
(3) شمس المعارف الكبير(ص:213).(106/14)
وهي أسماء أم موسى يوم الجمعة عند جلوس الإمام على المنبر، أو شرع في الآذان الأول، بالزعفران وماء الورد والطيب والقرنفل مفروكا في ماء ورد، ثم اطو الكتاب وتصمغه بالغالية، وتجعل الكتابة في جوف الوسادة التي ينامان عليها فإنهما يتحابان، وهذا ما تكتب: (طسوم، عيسوم، علوم، كلوم، حيوم، قيوم، ديوم).
إن هذا و السحر نفسه، والذي لا يصدق يستطيع أن يلقي نظرة على كتب السحر (1) الوسيلة الثانية: الكشف والإلهام (2) :
تزعم الصوفية أن الكشف والإلهام يوصلان إلى معرفة الحقائق، قال ابن خلدون (3) :
(ثم حدث أيضا عند المتأخرين من الصوفية، الكلام في الكشف وفيما وراء الحس وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم، وظهر منهم أيضا القول بالقطب والأبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والتقيا وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذهبهم حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليا ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة )... إلى آخر كلامه رحمه الله.
__________
(1) للمزيد انظر: الصوفية من كتاب الكشف عن حقيقة الصوفية(ص:859).
(2) يقول الجرجاني في التعريفات(ص:148): الكشف في اللغة رفع الحجاب، وفي الإصلاح، هو الإطلاع على ما رواه الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا أو شهودا..) وفي(ص:34) الإلهام: ما يلقي في الروع بطريق الفيض، وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم، وهو يدعو إلى العمل من غبر استدلال بالآية ولا نظر في حجة، وهو ليس بحجة عند العلماء إلا الصوفيين. انظر: الكشف المبين عن حقيقة القبوريين للشيخ/ أحمد بن حسن المعلم(ص:29-35).
(3) انظر: مقدمة ابن خلدون(ص:256).(106/15)
لقد بلغ بهم الكشف إلى ما لم يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل: جاء في كتاب كنوز السعادة الأبدية (1) : (قالوا: إن الشيخ عبد القادر الجيلاني رأى شخصا يطوف بالكعبة على رجل واحدة، فقال: من هذا الطائف على رجل في هذه الساعة ؟ فقالت له: أمة من بغداد جئت أطوف بالبيت وتركت بنتي نائمة على الرجل الأخرى، فتعجب من كونها من بغداد ولم يعلم بها، فقال لها: أنا أتصفح اللوح المحفوظ كل يوم كذا كذا مرة وما رأيتك فيه! فقالت له: اللوح المحفوظ لك ولأمثالك وأما أنا فقبلك في أم الكتاب)
وفي (ص:227 ): (وقالوا: إن سيدنا أبا بكر العيدروس العدني لما تعسرت به أمه
قي الولادة قال أبوه سيدنا عبد الله بن أبي بكر العيدروس: هذا ولدي ما با يخرج حتى يقرأ اللوح المحفوظ باقي معه أسطر بايتمها وبايخرج).
وفي (ص:302): (مرة كنا نحن والحبيب عيدروس بن عمر الحبشي في طريق نبي الله هود، وكان الذين يسيرون قبلنا يشلون رجزا ويقولون (إني محنية وشم عيني) قال: فاستحييت من قولهم هذا الكلام والحبيب عيدروس يسمع، وبعد قلت للحبيب: كيف الإشارة في هذا الكلام ؟ فقال الحبيب: الملمح فيه بعيد جم، فقلت له: با تدري به ولو هو بعيدا فقال: هذا نداء من الحضرة الأحدية تقول (إني محنية) (2) يعني ما يدخلني إلا من انحنى وخضع وتواضع ولم يبق واقفا مع هواه وغرضه ونفسه (وشم عيني) شم بمعنى انظر وعيون الحق أنبياؤه وأولياؤه وأحفياؤه والواسطة بينه وبين خلقه) اهـ.
فانظر إلى هذا الكلام في الغيبيات، كيف حولها الكشف والإلهام إلى كرامة، وانظر إلى سفاهة الألفاظ كيف حولها الكشف والإلهام إلى نداءات إلهية، تنزل عن طريق الواسطة بين الله وخلقه.
__________
(1) ص:207).
(2) ظاهرة أي أني مصبوغة اليد بالحناء.(106/16)
وفي كتاب مواهب القدوس في مناقب العيدروس (1) :(ومنها كونه من أهل الكشف والعيان وإخباره في آخر من أهل الكشف والعيان إلى مطالعة الحقائق المنقوشة في اللوح المحفوظ إلى غير ذلك مما لا يحيل العقل والشرع يؤيده)1 هـ
فهم لا يستحون أن يكذبوا حتى على الشرع، فأي الشرع الذي يقولون إنه يقر ويخبر
بأن من البشر من يعلم ما في اللوح المحفوظ؟!
الوسيلة الثالثة: الاحتيال على ضعاف العقول:
فإنهم يكذبون على الناس ببعض الحيل الخفية ليثبتوا لهم منزلتهم وولايتهم وقدرتهم على خرق العادة، وقد اكتشف العلماء كذبهم وبينوا ذلك كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في مناظرته للسحرة البطائحية الأحمدية (الرفاعية): وقال: (يعني شيخ البطائحية) ورفع صوته: نحن لنا أحوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وإنهم يستحقون تسليم الحال إليها لأجلها، قال شيخ الإسلام: فقلت- ورفعت صوتي وغضبت-: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها:
__________
(1) ص:9).(106/17)
أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله ولكن بعد أن تغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع وقشر التاريخ وحجر الطلق، فضج الناس بذلك فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت، فقلت: فقم، وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا. حتى تغتسل بالماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم، فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبا أو قال: حزمة حطب، فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد أدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل) اهـ (1).
الوسيلة الرابعة: الدجل المشوق:
وذلك من خلال حكاية القصص الخيالية التي تجمع الغرائب التي تثير الإعجاب عند الناس، وكذلك من خلال نشر الأحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم والرؤى الشيطانية (أي الأحلام).
ففي كنوز السعادة الأبدية (2) :
(قال الحبيب بكر العطاس: صلينا نحن والحبيب محمد المشهور في مسجد باعلوي فقال لي: هيا يا أبا بكر بانتنسم بانزور السماء مثل ما تقول بانروح النخل، قال: فطلعنا من سحاب إلى سحاب ورجعنا وصلينا المغرب في باعلوي).
__________
(1) مجموع الفتاوى (11/465-466).
(2) ص:388).(106/18)
فانظر أخي القارئ: أن الله جعل اختراق السماء آية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن باختياره صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذه خاصية للملائكة وأن العروج من الأرض إلى السماء يستغرق ألف سنة مما نعد، قال الله جل جلاله:) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( [سورة السجدة] وهؤلاء يتنسمون، أي يروحون على أنفسهم في السماء، فلا شك أن هذه من الكذب المشوق ليسترهبهم الناس ويقدسونهم.
وانظر إلى هذه القصة العجيبة التي تجعل اللص وليا، وهي من الطرق التي يتوصلون(106/19)
بها إلى أخذ أموال الناس بالدجل، جاء في كتاب صلة الأهل بتدوين ما تفرق من مناقب بنى فضل (1) ذكر صاحب الجوهر عن أحمد بن المعلم بن أبي فضل قال: (كان الشيخ إبراهيم بن يحيى بافضل رضي الله عنه في جماعة من فقرائه مقيمين على التوكل في رباطه المعروف بتريم، فبينما هم ذات يوم جلوس إذ جاءهم ثور ووقف على باب الرباط، فلما رآه الشيخ، قال للفقراء: خذوه وانحروه، فتناظروا فيما بينهم وقالوا: كيف نذبح ثورا أتى من البلد؟ نخشى أن يعلم صاحبه فنفتضح، فرآهم الشيخ متأخرين عن الثور، فقال لهم ثانيا: قوموا وانحروا هذا الثور، فلم يمكنهم مخالفته (2) ، فقاموا إلى الثور ونحروه ،فبينما هم يجزرونه إذ جاء صاحب الثور يقفو أثره، فرآهم يجزرونه فأنكر عليهم وشتمهم وشتم شيخهم ونسبهم إلى اللصوصية، فسمعه الشيخ فخرج إليه وقال له: لم تنكر على الفقراء؛ وقد نذرت أنت بهذا الثور لهم وقلت في نفسك إن ولدت بقرتي الفلانية ثورا فهو نذر علي لله تعالى للفقراء، فجاءت بهذا الثور فلما تزين بين عينيك فأردت أن تمنعه عنهم، وقلت: ما عندي أحد يعلم نذري، ولم يعلم الغيب إلا الله وقد أعلمنا الله تعالى، فجاء إلى الفقراء ما هو لهم؟! فلما سمع صاحب الثور كلام الشيخ استغفر الله عما صدر عنه واعترف بما قال الشيخ واعتذر إليه رضي الله عنه ) اهـ.
__________
(1) طبع في (1420هـ) الطبعة الأولى(ص:80).
(2) لأنهم يغرسون في نفوسهم الطاعة المطلقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع(7520) فتنبه رحمك الله.(106/20)
فانظر أخي إلى ما قاله: (أعلمنا الله) وإلى قول الله تعالى:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ([الجن:26-27]والرسول إما أن يكون ملائكيا أو يكون بشريا، ولا رسول بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما معتقد الرافضة أن جبريل يأتي أئمتهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أما كذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كثير، ومن ذلك ما ذكره في جامع كرامات الأولياء (1) عن أحمد بن إدريس قال: (ثم إن سيدي أحمد بن إدريس قدس سره النفيس: خصه الله تعالى بالمواهب المحمدية والعلوم اللدنية والاجتماعات الصورية الكمالية بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأخذ والتلقي منه، حتى لقنه صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذلية (2) فهو تلميذه وجليسه ومريده الخاص، فإنه صلى الله عليه وسلم أعطاه أورادا جليلة، وطريقة تسليكية خاصة، وقال له: من انتمى إليك فلا أكله إلى ولاية غيري ولا إلى كفالته بل أنا وليه وكفيله).
__________
(1) 1/ 571-572).
(2) ومن ذلك المدخل يرون الأحاديث الضعيفة والمكذوبة ويستندون في ذلك على الرؤى والمنامات ويعتبرون ذلك تشريعا.(106/21)
وقال سيدي أحمد رضي الله عنه: (اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعا صوريا ومعه الخضر عليه السلام فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية، فلقنيها بحضرته ثم قال صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام: يا خضرا لقنه ما كان جامعا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار... إلى أن قال: ثم لقنها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، فصرت ألقن المريدين كما لقنني به رسول الله، ومرة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفسي عدد ما وسعه علم الله خزنتها لك يا أحمد ما سبقك إليها أحد (1) علمها أصحابك يسبقون بها) اهـ .
وبمثل هذا الكذب والافتراء يشرعون للناس أذكارا وصلوات وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان ويجعلون ما أتوا به عن الرؤى الصورية لا المنامية أفضل مما أتى به الصحابة رضوان الله عليهم.
الوسيلة الخامسة: استخدام وجاهتهم: [أو بما يسمى السلطة الروحية التي يتوارثونها أبا عن جد]
فإنه معروف في طقوس الصوفية التنصيب للسيادة، ويتمتع بذلك من ينتسبون إلى
أكل البيت، فيتصدر المجالس وكلمته الفصل، ومنه تحصل البركة والكرامة، ويصرفون وجوه الناس إليهم من خلال انتقال الأسرار الربانية، وأنه يفتح لهم بعد موت آبائهم، ومن ذلك ما جاء في المشرع الروي في مناقب آل باعلوي (2) في ترجمة علوي بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن الفقيه المقدم من كراماته وحكى أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفة بعد موت والده فقال: (ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء: كن فيكون، وأعرف ما سيكون) فقال الشيخ عبد الله: (نرجو فيك أكثر من هذا )اهـ.
__________
(1) ولذلك تجدهم يحضون على ذلك الذكر ويواضبون عليه رجاء ما وعدهم أحمد بن إدريس بما تلقاه شفاهة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) ص:211).(106/22)
انظر إلى هذا الكفر الصريح؛ حيث جعل من نفسه إلها، فإن الله يقول: ) ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( [سورة البقرة] ويقول:) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( [سورة يس]ويقول سبحانه وتعالى: ) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( [سورة لقمان] ومن أجل ترويج بضاعتهم وتعلق الناس بهم يرون ما من أحد من آل البيت إلا وله توبة قبل موته.
وهذا معناه مهما رأينا منهم من معاصي وكفر ورده فينبغي أن نحسن الظن بهم، هذا إذا سلموا أنها معاصي و إلا فإن معاصيهم- كما سيأتي في موضعه مبينا- فضائل ومنح وهذا مثال على ما ذكرنا.
جاء لي كتاب كنوز السعادة الأبدية (1): وقد ذكروا أن الحبيب أحمد بن محسن الهدار كان إذا رأى امرأة في الطريق قبصها في ثديها، والحكمة من ذلك أنه يخرج شهوة الزنا منها، فقال بعض السادة لزوجته: إن خليتي عمي أحمد يقبص ثديك فعلت بك وفعلت، فلما كانت في بعض الأيام أقبلت تلك المرأة تسير وزوجها يمشي في تلك الطريق فإذا الحبيب أحمد واصل إليها فأسرعت المشي وخبت خوفا من الحبيب أحمد ومن زوجها فخب الحبيب أحمد وراءها وقال لها: مالك عذر من قبصة عمك أحمد وإن خبيتي؟ فلحقها وقبصها في ثديها وزوجها ينظر، وقال لها: با تأتي بسبعة أولاد كلهم يركبون الخيل على رغم أنف زوجك) اهـ. وسيأتي التعليق في موضعه.
الوسيلة السادسة : استخدام من يسمونهم الدراويش:
وهؤلاء هم جهال استرهبوهم بسحرهم وحيلهم فصدقوهم فيما زعموا وصاروا يخدمونهم وينتقلون للناس ما كان من أمر السحر والكهانة والعرافة بأنه كرامة وقد يصل الأمر إلى ترك الفرائض من غير إنكار.
__________
(1) ص: 237-238).(106/23)
جاء في كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية(1): (جاء الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى إلى قوس وفيها الحبيب أحمد بن عبد الله بافقيه وأولاده شيخ ومحمد وكلهم رجال، فحضرت صلاة قدموا فيها الحبيب عبد الله بن عمر إماما وكان الحبيب علوي بن هاشم جالسا في ناحية لم يصل معهم، فقال الحبيب محمد في نفسه: كيف هذه الولاية وفيها خرق الشريعة؟ وكيف تكون ولاية بلا صلاة؟ فكاشفه والده الحبيب أحمد وقال له: يا محمد، فقال: مرحبا فقال له: ارفع رأسك، فرفع رأسه فإذا تسع صور على صورة الحبيب علوي يصلين في الهواء، فقال: هل تضر صورة واحدة جالسة لا تصلي وتسع يصلين؟)1هـ.
فانظر هداني الله وإياك إلى سحرهم ودجلهم، لقد وسعهم ما لم يسع المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
الفصل الرابع
أسباب انتشار الخرافة
لقد علمنا أن الخرافة منهج إبليسي يدعمه إبليس عليه لعنة الله والقوى الشيطانية المتمردة على الله، ولم يكن له أن يوجد لولا تهيؤ الأسباب له، ومن هذه الأسباب:-
السبب الأول: الجهل بالدين، وبما هو منه وما ليس منه:
__________
(1) ص:55).(106/24)
لم يكن للخرافة مكان يوم كان للدين الإسلامي مكانته في قلوب أبنائه ومعتقديه، فلما ابتعدت الأمة عن شريعة ربها وسارت في تيار الفرق الباطنية والمذاهب الغربية الهدامة وقل علماؤها وكثر جهالها ونسي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة ممن شهد لهم النبي بالخيرية- وجدت الصوفية القبورية وأصحاب الطرق مرتعا يرتعون فيه ببدعهم وخرافاتهم ونشروا بين أوساط الجهال أنه دين يوصل إلى مرضاة الله وإلى الجنة، فتعاهده الناس جيلا بعد جيل حتى استحكم في النفوس وتعلقت به القلوب وألفت فيه الكتب ووضعت فيه المناهج، وجمعت له الأدلة الملفقة من أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصص من وحي الشيطان الرجيم وتأويلات فاسدة لكتاب الله، مثل استدلالهم على تجويز رقصهم في طريقتهم بقوله تعالى: ) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ( [آل عمران:191].
وكذبهم على أبي بكر الصديق أنه تواجد بعد نزول هذه الآية، فقد جاء في كتاب تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر(1): (وكفى حضرموت من الشرف العظيم والمجد الفخيم والفخر الذي لا يبلى، بل ينمو ويزيد أن الإمام شيخ الإسلام مجتهد زمانه الشيخ أبا الحسن البكري الصديقي ذكر في تفسيره عند قوله تعالى:) وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ( [سورة مريم]: يستثني من ذلك أهل حضرموت؛ لأنهم أهل ضنك في المعيشة) اهـ.
__________
(1) تأليف عبد القادر بن شيخ العيدروسي ط / دار المكتبة العلمية الطبعة الأولى (ص: 72).(106/25)
أي ضنك عاشه أهل حضرموت؟ فمهما كان ضنكهم لا يساوي شيئا إذا قورن بضنك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبشروا بهذه البشارة، ومعرفة دخول النار والنجاة منها وكذلك الشهادة بالجنة للمعينين لابد أن يكون بخبر عن الله أو عن رسول الله، ثم ما وراء ذلك من فتح باب الزندقة لأهل حضرموت ليأمنوا مكر الله وما ذكرته يعتبر غيضا من فيض.
السبب الثاني: عدم التمييز بين الكرامات والخرافات:
إن أهل السنة والجماعة يثبتون الكرامة لأهل الإيمان ويصدقون بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): (ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) اهـ.
ومثال ذلك ما حدث لعمر وهو يخطب: يا سارية الجبل، على اعتبار صحتها وما حدث للصحابيين كما في الصحيح من افتراق النور بينهما حتى وصل كل واحد إلى بيته، وكقصة أصحاب الكهف وأصحاب الصخرة كما رواها البخاري عن ابن عمر وقصة جريج الراهب كما، في البخاري عن أبي هريرة (2).
الكرامة: لغة: قال الجوهري (الكرم ضد اللؤم).
وقال: (والكرامة أيضا طبق يوضع على رأس الحب ويقال: حمل إليه الكرامة وهو مثل النزل)(3) وقال ابن منظور: (الكريم من صفات الله وأسمائه وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه) (4).
__________
(1) مجموع الفتاوى (ص:3/156).
(2) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/278).
(3) الصحاح (2019- 2021).
(4) لسان العرب (174).(106/26)
والكرامة اصطلاحا: هي أمر خارق للعادة يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه، قال البغدادي: (اعلم أن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات) (1)وقال ابن أبي العز شارح العقيدة الطحاوية: (فالمعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرامة في عرف أئمة العلم المتقدمين، ولكن كثيرا من المتأخرين يفرقون بينها، فيجعلون المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعها الأمر الخارق للعادة) (2).
وقال السفاريني: (الكرامة وهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة، يظهر على يد ظاهر الصلاح، علم بها ذلك العبد الصالح أم لم يعلم )(3). فالكرامة لا تعارض التشريع ولا تهدمه، فمن اعتقد انه يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو زندق خارج عن الإسلام كما قرر أهل العلم، يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية (4): (ثم الخارق: إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينا وشرعا، أما الواجب أو مستحب وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سببا للعذاب أو البغض كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها (بلعام بن باعورا) لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أو علم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح، فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة و إلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها. قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبا للاستقامة، لا طالبا للكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة) اهـ.
__________
(1) أصول الدين (174).
(2) شرح الطحاوية المكتب الإسلامي (ص:494).
(3) لوامع الأنوار البهية (2/392).
(4) شرح الطحاوية (ص:495).(106/27)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (1): (فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه).
ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فأولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارا بذلك وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون كلم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
وقال: (فأولياء الله المتقون هم المفتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين وخيار أولياء الله كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ...) (2) ثم ذكر بعد ذلك بعض المعجزات للرسول صلى الله عليه وسلم وجملة من الكرامات (3) .
__________
(1) في مجموع الفتاوى (ص:11/225).
(2) مجموع الفتاوى(11/ 274-275).
(3) انظر: 11/275-282) من المصدر السابق.(106/28)
ثم قال: (ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو كمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة) وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال.
ثم ذكر الأسود العنسي الذي ادعى النبوة وكان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور الغيبية، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور، وأمثال هؤلاء كثيرون، ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى ونحو ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجن إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج.
ولهذا رأى بعض هؤلاء الملائكة تكتب الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج يعني حجا شرعيا، وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها:(106/29)
أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال الله تعالى:) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( [سورة الأعراف].
فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات
أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية، ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب: كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها مهمته ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها.(106/30)
وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته بسرعة أو تمر به أنوار أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله، وأيضا- كرامات الأولياء- لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك: مثل دعاء الميت والغائب،.أو بالفسوق والعصيان وأكل المحرمات: كالحيات والزنانير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لاسيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية (1) ويجد عنده مواجيد فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى:) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ( [سورة الزخرف] (2) ا هـ.
__________
(1) المكاء: الصفير: التصفيق، قال ابن عباس رضي الله عنه: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، ذكر ابن كثير في تفسيره.
(2) انظر مجموع الفتاوى(11/ 282- 302).(106/31)
وتصديق ما قاله شيخ لإسلام في الغناء والرقص مع النساء الأجانب، ما جاء في تاريخ النور السافر (1) :(وفي ليلة الإثنين رابع عشرة المحرم سنة أربع عشرة توفي الشيخ عبد لرحمن بن عمر أبو هرمز الشبامي بهينن بلاد من أرض حضرموت وهرمز بضم الميم وسكون الراء وآخره زاي، وهو شيخ الفقيه الصوفي عمر بن عبد لله أبي مخرمة، وكان كبير الشأن، وله أحوال غريبة وكرامات خارقة رحمه الله تعالى آمين.
وحكي أنه- نفع الله به- كان عندما يرد عليه الحال يطلب النساء الحسان من ذوات الجمال فيغنين بين يديه ويرقصن، فكان هذا دأبه في أكثر الأوقات، وكان الفقيه عمر أبو مخرمة على طريقة الفقهاء (2) ، فسمع بذلك فقصد الإنكار على الشيخ، ومنعه من ذلك، فسافر من بلده إليه بهذه النية فلما وصل إلى أثناء الطريق بدا له أن يرجع فرجع إلى بلده، ثم سمع عنه أيضا أمثال هذه الأشياء التي ظاهرها مخالفة الشرع (3) ، فما أمكنه الصبر على ذلك فسار إليه ثانيا ودخل عليه فلما وقع بصره على الشيخ كاشفه وقال له عمر: عاد وقتك ما جاء فرجع -كذلك إلى بلده وامتثل ولم يحصل منه إنكار على الشيخ لما سبق له من الفتح على يديه، ثم سار إليه ثالثا، فلما دخل عليه أمر الشيخ- نفع الله به- بعض النساء الحسان ممن كانت ترقص عنده أن تعتنقه، فما هو إلا أن فعل به ذلك خر مغشيا عليه، فلما أفاق تلميذ الشيخ، وحكمه ني ذلك الوقت، وفتح الله عليه ببركة الشيخ وصار من كبار العارفين المربين، وقيل: إن الفقيه لما طلب التحكيم من الشيخ قال له: صل ركعتين إلى المشرق فامتثل، فلما أحرم رأى الكعبة تجاه وجهه) اهـ.
فهذا هو مفهوم الكرامة عند الصوفية: خروج عن الشرع ومجاهرة بالمعاصي.
__________
(1) ص:59).
(2) تنبه لهذه الكلمة.
(3) فتنبه لهذا، وذلك في التفريق بين علم الشريعة وعلم الحقيقة هكذا يزعمون.(106/32)
وننقل إليك أخي القارئ ما ذكره الدكتور/ أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي الأستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في تحقيق شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي في المجلد الخامس (كرامات أولياء الله) في المذاهب في الكرامة، والأشخاص التي تظهر على أيديهم الخوارق، والفرق بين المعجزة والكرامة وضوابط الكرامة، ونذكر ذلك مختصرا:
أولا: المذاهب في الكرامة:
في إثبات الكرامة وجواز وقوعها ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: جواز وقوعها على أيدي الصالحين، ولكنها لا تصل إلى الخوارق التي أظهرها الله عز وجل على أيدي أنبيائه ورسله؛ لإثبات نبوتهم. وهذا ما قرره ابن تيمية رحمه الله (1)
المذهب الثاني: جواز وقوعها بدون حد: فما جاز وقوعه لنبي جاز وقوعه لولي. بل الخارق للعادة يقع من النبي والولي والساحر ولا فرق إلا دعوى النبوة من النبي والصلاح من الولي. وهذا مذهب الأشاعرة.
المذهب الثالث: المنع من وقوع خرق العادة لغير الأنبياء. وهذا قول المعتزلة وابن
حزم ويذكر عن أبي إسحاق الإسفراييني من الأشاعرة.
قال البغدادي: (وأنكرت القدرية كرامات الأولياء؛ لأنهم لم يجدوا في أهل بدعتهم
ذا كرامة).
وقال ابن تيمية: (فقالت طائفة: لا تخرق العادة إلا لنبي، وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة كأبي محمد بن حزم وغيره، بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الإسفراييني وأبي محمد بن أبي زيد).
ثم قال: (ولكن كأن في الحكاية عنهما غلطا، وإنما أرادوا الفرق بين الجنسين).
والقول الراجح هو ما يشهد له الدليل من الكتاب والسنة ويؤكده الواقع والحوادث
التي ينقلها الثقات وهو ما ذهب إليه سلف الأمة من جواز وقوعها بما دون خوارق الأنبياء.
ثانيا: الفرق بين المعجزة والكرامة:
__________
(1) انظر النبوات(40-50-116) والفتاوى(3/ 156).(106/33)
قال البغدادي: اعلم أن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات غير أن الفرق بينهما من وجهين:
الوجه الأول: تسمية ما يدل على صدق الأنبياء (معجزة) وتسمية ما يظهر الأولياء: (كرامة) للتمييز بينهما.
والوجه الثاني: أن صاحب المعجزة لا يكتم معجزته بل يظهرها ويتحدى بها خصومه، ويقول: إن لم تصدقوني فعارضوني بمثلها، وصاحب الكرامة يجتهد في كتمانها ولا يدعيها، فإن أطلع الله عليها بعض عباده كان ذلك تنبيها لمن أطلعه الله تعالى عليها على حسن منزلة صاحب الكرامة عنده أو على صدق دعواه فيما يدعيه من الحال.
وفرق ثالث: هو أن صاحب المعجزة مأمون التبديل معصوم عن الكفر بعد ظهور المعجزة عليه، وصاحب الكرامة لا يؤمن تبدل حاله، فإن بلعم بن باعوراء أوتي من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء (1) .
وقال الجويني: (وصار بعض أصحابنا إلى أن ما وقع معجزة لنبي لا يجوز وقوعه كرامة لولي فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر وتنقلب العصا ثعبانا ويحي الموتى كرامة لولي إلى غير ذلك من آيات الأنبياء.
وهذه الطريقة غير سديدة أيضا، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العوائد في معارض الكرامات... وقال بعد ذلك: فإن قيل: فما الفرق بين الكرامة والمعجزة؟ قلنا: لا يفترقان في جواز العقل إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة) (2) .
ثالثا: الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق:
إثبات كرامات الأولياء لا يعني أن كل من ظهر على يديه فعل غريب أو خارق في الظاهر أن ذلك من أولياء الله عز وجل. ولذلك لابد من ملاحظة عدة أمور فيمن تظهر على يديه هذه الخوارق لمعرفة مدى إمكان اعتبار هذا الفعل كرامة من عدمها، ولهذا نستطيع تصنيف أصحاب الخوارق إلى عدة أقسام، وذلك على النحو التالي:
__________
(1) أصول الدين(174-175).
(2) الإرشاد(267-269).(106/34)
أولا: أناس صالحين ملتزمين بالشريعة الإسلامية ظاهرا وباطنا قد آمنوا بالله عز وجل وبما أمرهم أن يؤمنوا به وعملوا بما أمروا أن يعملوه، ويعبدون الله عز وجل وهم يخشون أن لا يتقبل منهم، وقد اتخذوا من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة يسيرون على نهجها، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد ا لأمة ولا يزكون أنفسهم- فهؤلاء هم أهل كرامة الله عز وجل وأهل توفيقه وليس فوق هداية العبد لطاعة الله عز وجل منزلة يتطلع إليها الإنسان المسلم.
ثانيا: وقسم فاسق استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، إما عن طريق السحر أو ما شابه ذلك من الوسائل المحرمة، فهؤلاء قد اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله عز وجل وباعوا دينهم بما تقدمه لهم الشياطين من خوارق وبما تعينهم عليه من أعمال، وهذا الصنف قد يظهر على حقيقته أمام الناس وبهمل الواجبات الشرعية ويرتكب المحذورات المحرمة وهذا كاف في بيان حاله وأنه ليس أهلا للكرامة ولا للولاية؛ لمخالفة سلوكه لسلوك أولياء الله عز وجل وصفاته لصفاتهم وهم الذين قد وصفهم القرآن الكريم بأنهم: ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( [سورة فصلت] فكل عبد لا يظهر الإيمان على جوارحه وسلوكه ولا يتقي الله عز وجل في أعماله وأقواله فليس وليا لله عز وجل.
ثالثا: وقسم كافرين، استعملوا وسائل متعددة كالقسم السابق، إلا أن هؤلاء يعملون ما يعملون لإفساد عقائد المسلمين فيظهرون لهم في مظهر الزهاد والصالحين ويظهرون لهم من السحر والشعوذة ما يخدعونهم به، ثم يبثون فيهم عقائد الشرك والضلال تحت ستار (الولاية) والناس ينخدعون بما يرونه يظهر على أيديهم من الأعمال الغريبة والمخاريق العجيبة ويصدقونهم لما استقر في أذهانهم من أن هذه الأعمال التي يظهرونها إنما تظهر على أيدي أولياء، والمطلع على مؤلفات الطوائف المتصوفة يرى عجبا (1).
__________
(1) أقول: وموضوع كتابنا هذا يجمع ما ذكر الشيخ حمدان.(106/35)
رابعا: وقسم عباد جهلة أغواهم الشيطان من حيث لا يشعرون، وبعض العباد الجهلة الذين ليس لديهم من العلم شيء لا يفرقون بين ما هو كرامة وما هو من خداع الشيطان، فإذا رأوا في اليقظة بعض الأمور الغريبة أو سمعوا صوتا أو نحو ذلك ظنوا ملكا يخاطبهم أو يكشف لهم أمورا غيبية، بل قد يتمثل لهم إبليس في صورة دابة- كلبا أو حمارا أو نحو ذلك- فيحملهم إلى أماكن غريبة أو يذهب بهم إلى الحج فيظنون ذلك من تكريم الله عز وجل.
وكل ذلك مكر من الشيطان بعباد الكرامات، والذين ليس لديهم من العلم الشرعي ما يفرقون به بين الحق والباطل.
وإليك نماذج من خداع الشيطان مما يظن أنه كرامة (1):
قال ابن الحاج رحمه الله (2): (حكي عن بعض المريدين أنه كان يحضر مجلس شيخه ثم انقطع، فسأل الشيخ عنه فقالوا له: هو في عافية، فأرسل خلفه فحضر، فسأله ما الموجب لانقطاعك ؟! فقال: يا سيدي، كنت أجيء لكي أصل والآن قد وصلت فلا حاجة تدعو إلى الحضور، فسأله عن كيفية وصولة! فأخبره: أنه في كل ليلة يصلي ورده في الجنة.
فقال له: يا بني والله ما دخلتها أبدا، فلعلك أن تتفضل علي فتأخذني معك لعلي أن أدخلها كما دخلتها أنت، قال: نعم، فبات الشيخ عند المريد فلما أن كان بعد العشاء جاء طائر فنزل عند الباب فقال المريد للشيخ: هذا الطائر الذي يحملني في كل ليلة على ظهره إلى الجنة، فركب الشيخ والمريد على ظهر الطائر فطار بهما في ساعة ثم نزل بهما في موضع كثير الشجر فقام المريد ليصلي وقعد الشيخ، فقال له المريد: يا سيدي، أما تقوم الليلة ؟! فقال الشيخ: يا بني، الجنة هذه وليس في الجنة صلاة، فبقي المريد يصلي والشيخ قاعد، فلما طلع الفجر جاء الطائر ونزل فقال المريد للشيخ: قم بنا نرجع إلى موضعنا.
__________
(1) ذكر المؤلف خمسة نماذج وأكتفى بذكر واحد.
(2) رجل فاضل.(106/36)
فقال له الشيخ: أجلس ما رأيت أحدا يدخل الجنة ويخرج منها، فجعل الطائر يضرب بأجنحته ويصيح حتى أراهم أن الأرض تتحرك بهم، فبقي المريد يقول للشيخ: قم بنا لئلا يجري علينا منه شيء، فقال له الشيخ: هذا يضحك عليك يريد أن يخرجك من الجنة، فاستفتح الشيخ يقرأ القرآن فذهب الطائر وبقيا كذلك إلى أن تبين الضوء وإذا هم على مزبلة والعذرة والنجاسات حولهما فصفع الشيخ المريد وقال له: هذه هي الجنة التي أوصلك الشيطان إليها، قم فاحضر مع إخوانك. أو كما جرى) (1).
رابعا: ضوابط ا لكرامة:
ليس كل ما يظهر على أيدي الصالحين أو غيرهم يكون كرامة من الله عز وجل، بل قد تكون غواية من الشيطان أو إضلالا من بعض الجن. ولذلك فلابد من بيان بعض الشروط التي يجب أن تتحقق في صاحب الكرامة وفي الكرامة نفسها للتمييز بين الكرامة وكيد الشياطين. ومن أهم تلك الشروط ما يأتي:
أولا: أن يكون صاحبها مؤمنا تقيا:
وهو الوصف الذي ذكره الله عز وجل في كتابه بقوله تعالى: ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( [سورة يونس].
قال ابن تيمية رضي الله عنه: (وليس لله ولي إلا من اتبعه باطنا وظاهرا فصدقه فيما أخبر به من العيوب والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات، فمن لم يكن مصدقا فيما أخبر به ملتزما طاعته فيما أوجب وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليا ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقربة إلى سخطه وعذابه) (2).
ثانيا: ألا يدعي صاحبها الولاية:
__________
(1) المدخل لابن الحاج (3/215-216).
(2) الفتاوى (10/ 431).(106/37)
إذ أن الولاية كما تقدم هي درجة تتعلق بفعل الرب عز وجل وفعل العبد، فإن الله عز وجل يرفع المؤمن التقي المؤدي لفرائضه والمجتنب لنواهيه المتقرب إليه بنوافل العبادات إلى درجة الولاية، والإنسان لا يعلم ذلك عن الله عز وجل هل قبل الله عز وجل من العبد عمله فرفعه به أم لم يقبله منه، فدعوى الولاية هي دعوى علم الغيب أولا: ثم أنها تزكية للنفس ثانيا وقد قال عز وجل: ) فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( [سورة النجم].
وقال القرطبي (1): (فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه).
وذكر السفاريني عن بعض المحققين أن للولي أربعة شروط ملخصها ما يلي:
الأول: أن يكون عارفا بأصول الدين حتى يفرق بين الخلق والخالق وبين النبي والمتنبي.
الثاني: أن يكون عالما بأحكام الشريعة نقلا وفهما.
الثالث: أن يتخلق بالأخلاق المحمودة التي دل عليها الشرع والعقل من الورع عن المحرمات بل والمكروهات وامتثال المأمورات وإخلاص العمل وحسن المتابعة والإقتداء. الرابع: أن يلازمه الخوف أبدأ واحتقار النفس سرمدا وأن ينظر إلى الخلق بعين الرحمة والنصيحة وأن يبذل جهده في مراقبة محاسن الشريعة ومطالعة عيوب النفس وآفانها والخوف بملاحظة السابقة والخاتمة.(2)
ثالثا: أن تكون سببا في شيء من الواجبات:
الكرامة يحصل عليها الولي بسبب طاعته لله عز وجل بإيمانه وتقواه ويلزم من ذلك ألا تخالف ما كان سببا في حصولها، ومثال ذلك: الذي يحمله الجني إلى عرفة ليلة عرفة فيحج مع الناس ثم يعيده إلى بلده من غير إحرام ولا ميقات، فذلك ليس كرامة ولكنه خداع من الجني الكافر.
رابعا: ألا تخالف أمرا من أمور الدين:
فلو رأى في المنام أو في اليقظة أن شخصا في صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام أو حرمت عليك الحلال أو أسقطت عنك التكاليف أو نحو ذلك لم يصدقه.
__________
(1) تفسير القرطبي: (5/ 160).
(2) لوامع الأنوار البهية (2/397).(106/38)
فإن ذلك من الشيطان إذ أن شريعة الله عز وجل باقية إلى يوم القيامة من غير نسخ، فما
رأى الإنسان يقظة أو مناما يخالف ذلك فينبغي أن يعرف أنه من الشيطان، قال الشاطبي رحمه الله: (إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد إليها كل ما في الظاهر، والدليل على ذلك أشياء:
منها: ما تقدم في المسألة من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة.
والثاني: إن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها وصارت محكوما عليها لفسدت الأمور بغيرها، وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
الثالث: إن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك، بل هي عمل من أعمال الشياطين كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع وقد وجد رقة، فإذا المحراب انشق وخرج منه نور عظيم ثم بدا له وجه كالقمر وقال: (تملأ من وجهي يا أبا ميسرة فأنا ربك الأعلى) فبصق فيه وقال له: اذهب يا لعين عليك لعنة الله.
وكما يحكي عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ثم نودي من سحابة: (يا فلان، أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات) فقال له: اذهب يا لعين فاضمحلت السحابة، وقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟! قال بقوله: (قد أحللت لك المحرمات).
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية) (1).
وبهذا يتبين مدى حرص الشيطان على إغواء الإنسان مما يجعل المسلم يحذر منه ويعتصم بالله عز وجل ويفرق بين أصحاب الكرامات وأصحاب الضلالات (2)
__________
(1) الموافقات: (3/275).
(2) انتهى كلام الدكتور حمدان الغامدي مختصرا.(106/39)
السبب الثالث: قبول الأخبار وعدم تمحيصها وعرضها على الكتاب والسنة وأهل الاختصاص:
لقد حفظ الله هذا الدين بأمرين:
الأول: حفظه في الصدور، فقد قيض له صدورا تحفظه بخلاف الأمم السابقة يمنعونه من التحريف والتعطيل قال الله تعالى: ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( [سورة الحجر].
الثاني: الإسناد في اعتماد الأحاديث والآثار والأخبار: لقد كان الصحابة رضي الله عنه يتثبتون في نقل الأخبار وقبولها ولاسيما إذا شكوا في صدق الناقل لها، فظهر بناء على هذا موضوع الإسناد وقيمته من قبول الأخبار أو ردها، فقد جاء في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) وبناء على أن الخبر لا يقبل إلا بعد معرفة سنده فقد ظهر علم الجرح والتعديل والكلام على الرواة ومعرفة المتصل أو المنقطع من الأسانيد ومعرفة العلل الخفية وظهر الكلام في بعض الرواة لكن على قلة لقلة الرواة المجروحين في أول الأمر.
والإسناد خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وليست لغيرها من الأمم السابقة وهو سنة بالغة مؤكدة، فعلى المسلم أن يعتمد عليه في نقل الحديث والأخبار قال ابن المبارك (الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).(106/40)
وقال الثوري: (الإسناد سلاح المؤمن) (1) والسند [لغة]: المعتمد، وسمي كذلك؛ لأن الحديث يستند إليه ويعتمد عليه، واصطلاحا: سلسلة الرجال الموصلة للمتن، فقد كان السلف يحرصون على علو السند، قال أحمد بن حنبل: (طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف)؛ لأن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون عن عمر ويسمعون منه، ولذلك استحبت الرحلة في طلب الحديث، ولقد رحل غير واحد من الصحابة في طلب علو الإسناد منهم أبو أيوب وجابر رضي الله عنهما، كل ذلك حرصا منهم على أخذ العلم من أهله وحفظ الدين.
ولذلك لم يكن للمتلاعبين والغشاشين الوضاعين للأحاديث والأخبار مجال متروك ليعبثوا بدين الأمة في ظل الرجال الذين هيأهم الله لهذه الوظيفة، ولكن الخرافيين ينشرون سمومهم في البيئات الجاهلة الغافلة ويضحكون على عامة الناس ومن ليس له دراية بالإسناد وعلم الرجال ويلبسون على الناس بواسطة الأحاديث المكذوبة والقصص الملفقة وغير ذلك كما سبق ذكره، وأذكر لك أخي القارئ قصة حدثت معي: بينما كنت أمشي في أحد طرق مدينة الشحر حفظها الله من كل سوء وطهرها من أهل الزيغ والبدع والهوى، لقيني رجل من المتعصبين للصوفية القبورية ومعه كتاب محقق فقال في دهشة واستغراب تام: انظر ما في الكتاب وكان معلما على بعض الصفحات، انظر إلى هذا يقول في حديث رسول الله: مكذوب ويقول في الثاني: ضعيف وفي الآخر: مجهول، وكأن الأمر في نظره عظيم وكبيرة من الكبائر).
وفي مرة كنت برفقة الشيخ الفاضل/ عبد الله بن فيصل الأهدل في إحدى البلاد فالتقينا بمرجعيتها، فذكر حديثا فقال له الشيخ عبد الله: هذا الحديث موضوع، فقال: كيف موضوع ؟! فالرجل استغرب كلمة موضوع فبينها له الشيخ حفظه الله.
__________
(1) انظر تيسير مصطلح الحديث للدكتور محمود الطحان (ص:180).(106/41)
والشاهد من ذكر القصتين أن أمثال هؤلاء الذين على صلة مع عامة الناس ويجهل مثل ذلك سيقبل أي حديث ثم يحدث به ويعتقد صحة ما جاء فيه وينشره للناس على أنه دين.
السبب الرابع: ضعف النفوس عن العمل الجاد ومغالبة الشهوات والركون إلى الأماني الكاذبة:
فإن الإنسان تتجاذبه تيارات داخلية وخارجية، فمن داخله النفس الأمارة بالسوء والهوى والشهوات، ومن خارجه الشيطان الجني، والإنسي، فهو يتصارع مع هذه التيارات ولن يغلبها إلا بالإيمان والعمل الصالح، ومحصل الإيمان والعمل الصالح هو القبول والانقياد لكل ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمتابعة المطلقة لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما لم يكن في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم دينا لا يكون دينا في حياة المسلم، وما لم يكن دينا لخير القرون لا يكون دينا لغيرها من القرون وبذلك المسلك ينجو الإنسان من مكر نفسه الأمارة بالسوء والشيطان، فلما ركن الناس إلى الشهوات والأماني الكاذبة إلا من رحم الله كان للخرافة وقع في نفوسهم ومسلك مقنع لاستيلاء الشيطان على قلوبهم وإغوائهم والأماني الكاذبة والتعلقات الفاسدة للوصول إلى العلا، وحسبوا أن الإيمان عبارة عن أمان وتحل كما قال الحسن البصري رحمه الله: [ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوما قالوا: إنا نحسن الظن بالله؛ كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل) والله جل جلاله يقول: ) لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا 123 وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ(106/42)
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( [سورة النساء].
فكانت النفوس الضعيفة مرتعا خصبا للخرافة ومنبرا لنشرها؛ لأن هذه النفوس تجد الطريق سهلا من خلال الخرافة وقبولها لتحقيق شهواتها ولذاتها فتستحسنه وتتداعى عليه.
السبب الخامس: دعم القوي الشيطانية للخرافة وترويجها لمنهجها الفاسد:
وأعني بالقوى الشيطانية اليهود والنصارى والشيوعيون والاشتراكيون ومن لف لفهم أو من يسمون بالعلمانيين، فإن جميع قوى الشر تسند بعضها بعضا كما أننا إذا تتبعنا الفرق الباطنية من حيث مؤسسيها نجد أنهم يرجعون إلى أصول يهودية أو نصرانية أو شيوعية كما سبق ذكره عن الدولة العبيدية، فهي منسوبة إلى عبيد بن ميمون القداح، كان يهوديا فدخل المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي، والصوفية أصل شيعي رافضي وهم على صلة بالعبيديين الزنادقة، يقول الشيخ مصطفى عبد الرزاق(1) أحد شيوخ الأزهر السابقين وهو يتكلم عن مولد البدوي في مصر يقول: إنه رجع إلى مخطوطة مغربية ينكر صاحبها أن أحمد البدوي كان صوفيا ويثبت أنه كان علويا شيعيا يهدف إلى إرجاع الملك العبيدي الفاطمي الشيعي الغالي، وأن علي البدوي والد أحمد كان أحمد العلويين الشيعة الإسماعيلية وأنه نزح من المغرب إلى مكة وكان أحمد البدوي وقتها يتجاوز السبع سنوات، وكان ذلك عام (603هـ) حيث عقد الشيعة مؤتمرا في مكة بحثوا فيه كيف يعملون على جعل الدولة الإسلامية علوية أي شيعية باطنية، من مجلة السياسة.
__________
(1) من محاضرة للشيخ/ أحمد بن حسن المعلم حفظه الله (المولد النبوي نشأته وتاريخه).(106/43)
وأبو مدين الذي صدر التصوف إلى هذه البلاد هو أحد رموز تلك المؤامرة، يقول الشيخ محمد فهمي عبد اللطيف صاحب كتاب (السيد البدوي ودولة الدراويش ني مصر)(1): (فلما ذهبت ريح تلك الدول وانتهى أمر الفاطميين في مصر وكلب على ملك المسلمين الأعاجم وأوزاع من الأمم الأخرى- عاد العلويون وأنصارهم يعتمدون على التصوف في تربية العصبيات وإثارة النفوس لطلب المجد الذاهب والحرص على أن تكون خلافة المسلمين علوية قرشية، فكان أبو مدين الغوث في المغرب يبث هذه التعاليم تحت ستار التصوف ويربي عليها المريدين فيرسلهم بها إلى الآفاق والأمصار، ولعلكم تذكرون أن الذي أدخل التصوف إلى حضرموت هو عبد الله الصالح المغربي خليفة عبد الرحمن المقعد رسول ابن مدين الذي مات في الطريق وهذا أمر متفق عليه بين مؤرخي حضرمرت فاحفظوا هذه الحقيقة) اهـ.
ولذلك تجد الأنظمة العلمانية التي تدعمها اليهودية العلمانية وتنظر لها النصرانية تنسجم مع التيار الصوفي ولا يحصل بينها وبينه صراع وخلاف وبراء وإنما ولاء؛ لأنها تتفق معه في الهدف وهو فصل الدين عن الحياة، فالصرفية القبورية ليس لها هم إلا ممارسة طقوسها وبدعها وخرافاتها ولا دخل لها في الحكم وما ينبغي أن يكون عليه الحاكم أو المحكومون، فلذلك تجد قادة الأنظمة العلمانية لا يتحرجون من حضور احتفالات وطقوس الفرق الصوفية ويباركونها ويشجعونها بالمال وبالإعلام والحماية والأمن.
السبب السادس: غياب دولة الإسلام:
لما غابت دولة الإسلام التي تقيم شرع الله في الناس وتقودهم به وتحارب الفساد والمفسدين كان للخرافيين وجود بين المسلمين وانتشار في أوساطهم؛ ولنشر فسادهم، حيث إنهم لم يجدوا من يقيم حد الله فيهم ويجلب العلماء الربانيين من كل مكان لفضحهم وكشف انحرافهم.
كل ما ذكر من الأسباب ساعد على نشر الخرافة في المجتمعات الإسلامية التي نسأل الله أن يقلع جذورها ويطمس رموزها من كل البلاد الإسلامية.
__________
(1) ص: 27-28).(106/44)
الفصل الخامس
لماذا يتمسك الخرافيون بالخرافات؟
لقد علمنا أن الخرافات من تلبيس الشيطان وأنها تضاد المنهج الشرعي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما من عاقل يعرضها على الكتاب والسنة إلا ويكتشف المضادة والمحادة لشرع الله.
والخرافيون لا تخفي عليهم هذه الحقيقة طالما أنهم يقرؤون القرآن والسنة، علما بأن العقول السليمة لا تقبل الخرافات ولا تسلم لها فضلا أن تعمل بها أو تنشرها.
ولكن لماذا الخرافيون يتمسكون بالخرافات ويوالون ويعادون عليها، فمن صدقهم فيما يزعمون فهو المهتدي الذي سار على طريقة السلف رمن خالفهم و أنكر عليهم وبين للناس فساد ما زعموا فهو ضال غير محب للأولياء، بل معاد لهم، فأمره خطير وعاقبته خسرا؟
هو يعملون ذلك ليس تعبدا لله وابتغاء مرضاة الله، ولكن لمصالح لهم لا تتحقق إلا في ظل وجود البدع والخرافات، ومن هذه المصالح:
أولا: الزعامة والوجاهة:
كثير من الخرافيين يستمدون زعامتهم ووجاهتهم من الخرافات والبدع، فلذلك تجدهم يحرصون عليها ويحرصون على تعليمها ونشرها ويختلقون القصص والأحاديث لها، بل ينفقون عليها لتكون ثابتة راسخة في عقول الناس، كما أنهم يثبتون في عقول الناس أنهم خاصة الله وأهل طاعته.
ثانيا: المهابة لهم والرهبة منهم:
فالخرافيون عندهم نزعة تسلطية قهرية يتوصلون إليها من خلال تخويف الناس منهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا، وأنهم لديهم القدرة على الضر والنفع، جاء في كتاب صلة الأهل(1) قال: (أن زوجة سيدي محمد الشويمي صاحب سيدي مدين رحمه الله تعالى مات عنها وهي بكر، وقال لها: لا تتزوجي بعدي أحدا فأقتله، فاستفتت العلماء في ذلك فقالوا لها: هذه خصيصة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فتزوجي وتركلي على الله تعالى.
__________
(1) ص:47).
(2) هذا هو الشرع ارتضاه الله لعباده، وانظر إلى شرعهم شرع الشيطان.(106/45)
فعقدوا لها على شخص، فجاء تلك الليلة وطعنه بحربة فمات من ليلته وبقت المرأة بكرا إلى أن ماتت وهي عجوز، وكذلك أخبرني زيتون خادم الشيخ بهاء الدين المجذوب أن زوجته لما جذب انتظرت إفاقته لسبع سنين فلم يفق فاستفتت العلماء فأفتوها بأنها تتزوج، فجاء تلك الليلة حين دخل بها زوجها وطعنهما فماتا جميعا، وضرب القاضي فعمي وتكسح إلى أن مات) اهـ.
وقال أيضا (1): (وسمعت سيدي العارف بالله المجلل الأسرار والأنوار أحمد بن محسن الهدار وهو في داره بعينات وقت وصوله من جهة جاوة وكان مصافيا لوالدي رحمه الله من أخص أهل وداده، قال: وقعت للشيخ عوض واقعة كلما ذكرها لي خجل منها، وذلك أنه لما كان بجاوة آذاه بعض الإفرنج وتوعده وتهدده فخاف خوفا شديدا ولم يقر له قرار، لكن الإفرنجي صاحب شوكة فبات ليالي يتوسل إلى الله بأهل بدر الكرام ويتلو أسماءهم ويستنجد بهم فلما كان آخر الليل سمع همهمة الخيل وقعقعة السلاح تحت الدار فأشرف فإذا هي خيول مسرجة وعليها رجال متقلدون سيوفهم فدنا منه أحدهم وقال له: هانحن جئنا فماذا تريد، قال: فلان آذاني وصار يتوعدني بكذا وكذا وأنا خائف من شره، فقال: هذا أمره سهل، وهل ثم شيء غير هذا؟ قال: لا، قال!: واستدعيت أهل بدر كلهم لهذا الأمر! فخجلت من عتابه غاية الخجل، ولم أدر ما أقول، فلما طلع الفجر سمعت الناعية تنعي ذلك الكافر في بيته وأصبح ميتا، قال سيدي أحمد بن محسن: فقلت للشيخ عوض: وهل عرفت الذي يخاطبك من بينهم؟ قال: لا، قلت: هو المصطفى عليه الصلاة والسلام سيد السادة البدريين، فعظم ذلك عليه وصار يستغفر الله) اهـ.
وأمثال هذه القصص الشيطانية كثير، والغرض من نشرها بين أوساط الناس وذكرها في المجالس حتى تكون لهم المهابة والرهبة، فلا تمد إليهم الألسن بالتكذيب والأيدي بالمنع وتنفيذ حكم الله فيهم فيما يبثونه من خرافات ويعتقدونه من عقائد.
ثالثا: استمرار التبعية المطلقة لهم:
__________
(1) ص:308).(106/46)
(ليبقى المجتمع يدين لهم بالطاعة)
إن التبعية المطلقة والطاعة المطلقة لا تكون إلا لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما عداهما فإن طاعته مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله، قال الله جل جلاله:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً([سورة النساء].
وقال تعالى:) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ([سورة آل عمران]. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما الطاعة في المعروف)(1) وقال صلى الله عليه وسلم:(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (2) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله ؟قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي رواية البخاري: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلوا كما رأيتموني أصلي) والنصوص في الطاعة المطلقة لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، وهي المانعة للطاعة المطلقة لغير الله ورسو له صلى الله عليه وسلم.
والخرافيون يجعلون أنفسهم بمنزلة الكتاب والسنة، بل يتجاوزون الكتاب والسنة ويجعلون لأنفسهم خصوصية التشريع والمخالفة لصريح القرآن والسنة، ومعلوم أن الناس في التشريع سواء كما أنهم في التكليف سواء إلا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أو ما خص به الرجال دون النساء أو العكس.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) انظر ترتيب أحاديث الجامع الصغير وزيادته.(106/47)
يقول عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف مفتي حضرموت في كتابه (صرب الركام في
تحقيق الأحكام): (نقل عن ابن حجر من فتاويه قوله:(لا ينبغي ضرب الدفوف والطيران في المساجد؛ لأنها لم تبن لذلك ولا يحرم إلا إن أضر بالمسجد أو حصره أو شوش على نحو مصلي أو نائم) اهـ.
من فتاوي ابن حجر الهيتمي، قال ابن عبيد الله: وأرى أنه خضع في هذا القول مقاربة لمتصرفة زمانه وإلا فديوان ابن المقري من فاتحته إلى خاتمته مصرح بحرمة ذلك وأحرى بالمساجد أن تصان عنه، وللعلامة ابن القيم كلام نفيس في ذلك في كتابه إغاثة اللهفان، قال الغزالي: (من زعم أن له مع الله حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم الخمر وجب قتله، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر) أهـ.
وفي تلك الصفحة أيضا عدم الاحتجاج بالإلهام وأنه لا يمكن لأحد دعوى مقام الخضر، وفيها على الإمام اليافعي رد جميل.
وفي الأنوار (1): (لو قال أن الله يلهمني ما أحتاج إليه من أمر الدين فلا أحتاج للعلم والعلماء فمبتاع كذاب يلعب به الشيطان) أهـ.
حتى قال: (وإنما أطلت بما لا تكثر مناسبته للموضوع لتلبيس المحتالين على العوام بأنه يجوز للأولياء مالا يجوز لغيرهم، ويوهمون أنهم من الأولياء والحال أن بينهم وبينها كما بين العين والنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون).
رابعا: الارتزاق وجمع المال:
كثير من الخرافيين جعلوا من الخرافة والشعوذة والسحر مصدرا للارتزاق وجمع المال:
__________
(1) ص:357).(106/48)
يقول ابن الشهاب ني ديوانه (1) وهو يرد على ترهات الخرافيين مما جاء في كتاب العقود العسجدية (2):(وكان صلى الله عليه وسلم يخبر عن أحوال البرزخ بأخبار كثيرة حتى إنه ليرى بالميت من أمر الله تعالى والناس يدفنونة وكذلك بعض الأولياء الكملة العارفون الصديقون يخبرونه عما يشاهدونه من أمر القدرة)أهـ. فكان الشيخ القطب الكبير سيدي عبد الرحمن السقاف يقول لبعض جلسائه: أرخوا رجلي فإنها كانت في الجنة. وكذلك سيدي وشيخي أبو بكر العطاس رضي الله عنه يقول: وكان سيدي القطب الغوث الفقيه المقدم محمد بن علي يطوف بالجنة ويقول لم أر فلانا في الجنة وما يدخل فقيري النار وأما الجنة فهو من أهلها يعني في اللوح المحفوظ) وفي كنوز السعادة الأبدية (3): (وكان الشيخ عمر المحضار يكبس رجل والده الشيخ عبد الرحمن السقاف فرأى فيها أثر صفرة: فقال له ما هذا؟ فقال: إن أباك كان هذه الساعة يطوف في الجنة وأن هذه الصفرة من زعفرانها) أهـ.
قال ابن شهاب في رده:
هذا يرى المختار في نومه
ڑڑوذاك يستخبره بالعيان
ٹڑ
ڑكأنه من بعض أتباعهم
ڑڑيحضر في كل مكان وآن
ٹڑ
ڑومنهم المخبر عن برزخ الموتى
ڑڑشقي أو سعيد فلان
ٹڑ
ڑوقد أراني الله شيخا له
ڑڑجماعة رجلاه مصفرتان
ٹڑ
ڑفقلت: ماذا نابه؟ قيل: من
ڑڑوطء حشيش الجنة الزعفران
ٹڑ
ڑأف قوم همهم كيدهم
ڑڑوجمعهم للمال من حيث كان
ٹڑ
ڑبالمال تلقاهم سكارى كما
ڑڑسكر من يشرب خمر الدنان
__________
(1) ص:237).
(2) ص: 238).
(3) ص:393).(106/49)
ولا يخفى عليك- أخي القارئ- ما يجمعه سدنة التوابيت والأضرحة من نذور الجهلة من ذهب أو أوراق نقدية وأطعمة وماشية وأوقاف التي يعود ريعها إليهم ونفعها إلى زعماء الدجل والخرافة، فلذلك تجدهم يحرصون على إقامة الزيارات، وهي في الواقع أعياد(1) كما يجتمع في الزيارات لهم من المصالح التي ذكرتها ما لا يجتمع في غيرها من البدع والله المستعان.
الفصل السادس
مفاسد الخرافة والخرافيين
إن الخرافة تشكل خطرا عظيما على الإسلام أشد من خطر اليهود والنصارى والملحدين فهي تتزيا بلباس الإسلام وتظهر نفسها بأنها حاملة لواء الدين وأن كل ما جاءت به هو المرضي عند رب العالمين وعلى طريقة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، ومن خالفها فهو من الهالكين، المعادي لأولياء الله الصالحين.
فقد جمعت الخرافة في منهجها كفر الكافرين ونفاق المنافقين وشرك المشركين، فهي هجين من الكفر والشرك والنفاق من صنع إبليس اللعين، ونسيج نسجه أعداء الدين من يهود ونصارى وملحدين وباطنيين، كما بينا ذلك في نشأتها وهو لا يخفى على كل ذي عقل ودين.
فإذا كان هذا هو حال الخرافة، فماذا ينتظر منها في واقع المسلمين إلا الفساد العظيم الذي تهتز منه السموات والأرض وكما يقال: (وكل وعاء ينضح بما فيه) فمفاسدها على الأمة الإسلامية في عقائدها وعباداتها وأخلاقها وقيمها ومعاملاتها كثيرة، نذكر بعضا منها:
المفسدة الأولى: أنها معول هدم لعقيدة التوحيد:
__________
(1) وقد بينت ذلك في كتابي الأضواء البهية على بعض العادات الحضرمية فليراجع (ص:107).(106/50)
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم خلال ثلاث وعشرين سنة على أسس ثابتة متينة تدين لله الواحد الأحد بالوحدانية ولنبيه بالرسالة وتذعن لربوبية الله ولا تشرك معه أحدا في ربوبيته وألوهيته ولا تنازع في المتابعة لنبيه أحدا. ولقد فارق النبي صلى الله عليه وسلم جيل الصحابة بعد أن أتم الدين وبلغ رسالته وترك المجتمع المسلم. مجتمعا نقيا صافيا خاليا من الشرك وعبادة الطاغوت، فلا يعبدون إلا الله ولا يتوجهون إلا إليه، يسلمون ويستسلمون لظاهر الكتاب والسنة، وهكذا سار الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من التابعين وتابع التابعين حتى ظهر الدفين المستكين(وهم الكهان والعرافرن) بلباس جديد وبوجه جديد باسم التصوف، وأسسوا لهم طرقا شيطانية بثوا سمومهم من خلالها فأفسدوا عقائد المسلمين وأخلاقهم، فكانوا معول الهدم لعقيدة التوحيد، حيث مارسوا هذا الهدم من خلال:
أولا: التعلق بالقبور وعدم الاقتصار على الزيارة المشروعة التي تتمثل في السلام على أهل القبور والدعاء لهم والاتعاظ والتذكر.
حيث ابتدأ التعلق بالبناء على قبور الصلحاء وذوي الوجاهات ثم انتهى إلى تعظيمها وعبادتها وقصدها بالنذر والذبح والطلب، وجعل لها من السكينة والوقار ما لم يكن للمسجد.
ثانيا: الخوف والرهبة ممن يسمونهم بأعيانهم أولياء- والله أعلم بحالهم- أعظم من الخوف من الله، بل بلغ ببعضهم الخوف ألا يحلف بالولي كاذبا بينما يحلف بالله كاذبا، وكل ذلك من أثر ما يبثه أصحاب الخرافة في أوساط الناس من مقدرة الولي على الانتقام حيا كان أو ميتا كما ذكرت لك من قبل مثالين في مبحث (لماذا يتمسك الخرافيون بالخرافات )؟(106/51)
ثالثا: اعتقاد الضر والنفع والإحياء والإماتة منهم أحياء وأمواتا وإجابتهم المضطر إذا دعاهم وأغاثهم لمن استغاثهم، وسيأتي بيان ذلك في مبحث خاص، وأكتفي بذكر مثالين على ذلك: ما جاء في تاريخ النور السافر (1) في ذكر كرامات أبي بكر بن عبد الله العيدروس قال: (ومنها: أنه لما رجع من الحج دخل زيلع وكان الحاكم بها يومئذ محمد ابن عتيق، فاتفق أنه ماتت أم ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفا بها فكاد عقله يذهب لموتها، فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدة الجزع ليعزيه ويأمره بالصبر والرضا بالقضاء، وهي مسجاة بين يدي الحاكم بثوب فعزاه وصبره، فلم يفد فيه ذلك وأكب على قدم سيدي الشيخ يقبلها، وقال: يا سيدي، إن لم يحي الله هذه مت أنا أيضا، ولم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيدي وجهها وناداها باسمها فأجابته: لبيك، ورد الله روحها، وخرج الحاضرون ولم يخرج سيدي الشيخ حتى أكلت مع سيدها الهريسة وعاشت مدة طويلة) أهـ.
__________
(1) ص:79).(106/52)
والمثال الثاني: جاء في المشرع الروي في مناقب آل باعلوي (1) في ذكر كرامات محمد ابن علي باعلوي- الفقيه المقدم- (أن خادمه باخريصة سافر سفرا طويلا فبلغ أهله أنه قد مات فتعبوا وأتوا إلى الأستاذ الأعظم فأطرق ساعة، وقال: لم يمت باخريصة، فقيل له: قد جاء الخبر بموته، فقال: إني اطلعت على الجنة فلم أجده فيها ولم يدخل فقيري النار، ثم جاء الخبر بحياته وقدم هو بعد مدة وحكي أنه قيل له وهو في تلك الواردات: كل نفس ذائقة الموت، فقال: ليس لي نفس، فقيل له: كل من عليها فان، فقال: ما أنا عليها، فقيل له: كل شيء هالك إلا وجهه، فقال: أنا من نور وجهه، وسمع أعرابيا: هل محمد ابن علي هو الله؟ فقال: أنا الله وخر مغشيا عليه وقال: مالي حاجة إلى محمد ومحمداه، وقال جماعة من العارفين بالله تعالى: ثلاثة لا تزال خيل ساحتهم مسرجة ملجمة لمن دعاهم واستغاث بهم: السيد علوي وابنه علي والشيخ عمر المحضار.
ونظمهم الإمام المحدث علي بن علوي، فورد في قوله:
إذا خفت أمرا أو توقعت شدة
ڑڑفنوه بهم أن يدركوك ويحضروا
ٹڑ
ڑفتوه بعلوي الفتى وابنه علي
ڑڑكذا عمر فيما يحل ويعسر
ٹڑ
ڑفغارتهم تنجيك من كل شدة
ڑڑوعسر وضيق أو بصدرك يكبر
الله المستعان! ماذا أبقوا لله الواحد الأحد الفرد الصمد؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
المفسدة الثانية: تقليل شأن الكتاب والسنة وعدم الأخذ بظاهر الشرع:
وذلك من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: جعلوا للشريعة ظاهرا وباطنا، فالظاهر لعامة الناس والباطن للخواص، حتى جعلوا العلم: علم الشريعة وعلم الحقيقة، ففد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستقامة: (أن بعضهم إذا سمع المؤذن ينهره ويقول: اسكت يا كلب، فإذا قيل له: كيف تقول ذلك؟ فيقول: هؤلاء أهل الظاهر، يؤذن في الظاهر وهو في الباطن لا يعلم حقيقة التوحيد الذي يقوله).
__________
(1) تأليف أبي بكر الشلي(2/9) الطبعة الأولى ط/ العمارية بمصر.(106/53)
وقال في مجموع الفتاوى(1) وقد سبق ذكره: (ومن ادعى من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أن له طريقا إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى) ا هـ.
وقال رحمه الله (2): (ومن هؤلاء من يحتج بقوله تعالى: ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( [الحجر:99] ويقول: معناه اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم... إلى أن قال: وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين...
ثم قال: أما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في عموم أحواله أو في بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقا وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين، أن قصة الخضر حجة لهم.
الأمر الثاني: اعتبار الرؤى والمنامات تشريعا:
معلوم أن اعتبار الرؤى والمنامات تشريعا وحقا والجزم بذلك في حق غير الأنبياء والمرسلين منهج فاسد وباطل لا يؤخذ به عند أهل العلم في النظر والاستدلال، وأكتفي بما جاء في كتاب منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة(3) في الرد على الخرافيين وشبهاتهم حيث قال:
المقام الثاني عشر: المكاشف الحق من يزن مكاشفاته بالكتاب والسنة:
__________
(1) 11/225).
(2) 11/417-422)
(3) تأليف عثمان بن علي حسن (2/677-688).(106/54)
كل من كان- في هذه الأمة- من أهل المكاشفات والمحادثات فهو دون عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ثبت بالأحاديث الصحاح أنه محدث هذه الأمة(1) فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فقد كان عمر يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وينشد لذلك الرجال والنساء والأعراب، فإذا أخبروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يلتفت بعد ذلك إلى محادثاته ومخاطباته، بل يقول: لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره، ولم يؤثر عنه أنه كان يقول: حدثني قلبي عن ربي، بل المشهور عنه أنه كان أكثر الناس مشاورة لأصحابه يراجعهم ويراجعونه، ويحتج عليهم بالكتاب والسنة، ويحتجون عليه، ويرجعون جميعا إليهما، ويردون ما اختلفوا فيه إليهما (2).
وقد كان أبر بكر الصديق رضي الله عنه يبين لعمر أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيان الصديق وإرشاده، كما جرى مثل ذلك يوم الحديبية، حتى قال عمر: (فعملت لذلك أعمالا).
وكذلك يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عمر أولا ثم رجع إلى تقرير أبي بكر(3) وكذلك في قتال مانعي الزكاة أنكره ثم رجع إلى الحق الذي كان عليه الصديق (4).
__________
(1) صحيح اليخاري (5/332) (فتح الباري) كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، حديث رقم: (2731- 2732).
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 206) ومدارج الساكين (1/496) وقطر الوالي (ص:250).
(3) انظر صحيح البخاري (8/145) (فتح الباري: كتاب المغازي- باب مرض النبي ووفاته- حديث رقم (4454) وانظر: فتح الباري (8/145-146).
(4) انظر: صحيح البخاري (12/275) (فتح الباري: كتاب استتابة المرتدين، باب قتل من أبي قبول الفرائض حديث رقم (6924-6925).(106/55)
ولهذا كان الصديق أفضل، فإن الصديق لا يتلقى من قلبه، بل من مشكاة النبوة وهي معصومة، أما المخاطب المحدث فيتلقى تارة عن قلبه وتارة عن النبوة، فما تلقاه عن النبوة فهو معصوم فيه يجب متابعته عليه، وما ألهم به في قلبه فإن وافق ما جاءت به النبوة فهو حق، وإن خالف ذلك فهو باطل(1).
وعليه، فحق على كل ولي- وإن بلغ في الولاية إلى أعلى مقام، وأرفع مكان- أن يكون مقتديا بالكتاب والسنة، تابعا لهما، وازنا أفعاله وأقواله وجميع أحواله بميزان هذه الشريعة المطهرة، واقفا على الحد الذي رسم فيها، غير زائغ عنها في شيء من أموره(2).
أمثلة من أقوال المحققين وأحوالهم:
المثال الأول: قال أبو سليمان الداراني(3): (إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت قوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة)(4).
المثال الثاني: وقال أبو عمرو بن نجيد: (كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهر باطل)(5).
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (24/377).
(2) أنظر: قطر الوالي(ص:250).
(3) هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، من أهل داريا إلى جنب دمشق، كان عابدا زاهدا، ورد بغداد وأقام بها مدة، ثم عاد إلى دمشق فأقام بها حتى توفي سنة (215هـ) وقيل: (205هـ) انظر شذرات الذهب (2/13) حوادث سنة: (205هـ) وتاريخ بغداد (10/248-250) ترجمة رقم: (5367) وطبقات الصوفية للسلمي (ص:75) وما بعدها.
(4) طبقات السلمي (ص:78) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/210/)، قطر الوالي (ص:251)، مشتهى الخارف (ص: 90).
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية(11/ 210) وقطر الوالي (ص:252).(106/56)
المثال الثالث: وقال سهل التستري(1): (يا معشر المريدين، لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق)(2) يعني: القرآن والحديث.
المثال الرابع: وقال أبو القاسم الجنيد: (من لم يحفظ القرآن ولم يكتب السنة لا يقتدي به في هذا العلم؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة، والطرق كلها مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام)(3).
المثال الخامس: وقال أبو بكر الزقاق (4)- وهو من أقران الجنيد: (كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة ما بين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر)(5).
__________
(1) هو أبو محمد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التستري، أحد أئمة القوم وعلمائهم المتكلمين في علوم الرياضيات والإخلاص وعيوب الأفعال، من كلامه: (أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة الرسول، واكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق) توفي سنة: (283هـ) انظر: شذرات الذهب (2/182-184) حوادث سنة: (283هـ) وطبقات الصوفية للسلمي (ص:206) وما بعدها.
(2) درء تعارض العقل والنقل (5/249).
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/210) وأضواء البيان (4/162) وقطر الولي (ص:252).
(4) هو: احمد بن نصر، يعرف بالزقاق الكبير تمييزا له عن تلميذه محمد بن عبد الله أبي بكر الزقاق الصغير، والزقاق نسبة إلى بيع الزق وعمله، توفي سنة: (290هـ) وقيل: (291هـ) انظر: طبقات الأولياء لابن الملقن ص: (91-92) ترجمة رقم: (21) وحسن المحاضرة للسيوطي: (1/512).
(5) حسن المحاضرة (1/512) ومشتهى الخارف (ص:266).(106/57)
المثال السادس: وحكى القاضي عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي(1) أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعر ويتضرع وقد وجد رقة، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر، وقال: تأمل من وجهي يا أبا ميسرة، فأنا ربك الأعلى، فبصق في وجهه، وقال: يا لعين، عليك لعنة الله.(2)
المثال السابع: وعطش الشيخ عبد القادر الجيلاني عطشا شديدا فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت مطرا شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من قبل السحابة: أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات، فقال: اذهب يالعين فاضمحلت السحابة، ثم قيل له: بم عرفت أنه إبليس فقال: بقوله: قد أحللت لك المحرمات (3) .
المقام الثالث عشر: رؤية صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما:
__________
(1) هو: أحمد بن بزار ويكنى بأبي جعفر، من الفقهاء العباد المتبتلين روى: عن أحمد بن أبي سليمان، وعن فرات بن محمد، وحدث عنه: أحمد الدراوردي، والحسن بن سعيد الخراط، وكان مجانبا لأهل الأهواء توفي سنة: (337هـ) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك. للقاضي عياض (3/358) وما بعدها تحقيق: د/ أحمد بكير محمود. دار مكتبة الحياة (1378هـ- 1967م) بيروت (بدون رقم طبعة).
(2) انظر ترتيب المدارك وتقريب المسالك. للقاضي عياض(3/359) والموافقات للشاطبي(2/275).
(3) انظر: شذرات الذهب(4/200) والموافقات (2/ 275 -276) ومشتهي الخارف(ص: 65).(106/58)
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) (1) وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) (2) وفي رواية عن أبي قتادة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني فقد رأى الحق) (3) وزاد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (فإن الشيطان لا يتكونني) (4) .
وقد اختلف الناس في هذه الأحاديث ونحوها في أمرين:
الأمر الأول: هل كل من ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تكون رؤياه حقا؟
الأمر الثاني: في المراد بقوله في الحديث: (فسيراني في اليقظة).
أما الأمر الأول: وهو رؤيته صلى الله عليه وسلم مناما: ففيه مذهبان:
المذهب الأول: (وهو الصحيح) أن رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم لا تكون حقا إلا إذا وافقت صفته التي كان عليها في الدنيا، فمن رآه عليها فقد رأى الحق، وإلا فهي أضغاث أحلام، ومن تلاعب الشيطان بابن آدم (5) ، ولا يرد على هذا المذهب قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الشيطان لا يتمثل بي ).
__________
(1) صحيح البخاري(12/ 383) (فتح الباري) كتاب التعبير، باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حديث رقم: (6993).
(2) المرجع السابق حديث رقم: (6994).
(3) المرجع السابق الحديث رقم: (6995).
(4) المرجع السابق حديث رقم: (6997).
(5) انظر: فتح الباري(12/ 386) والفروق لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المعروف بالقرافي(4/244-245) دار المعرفة- دار إحياء الكتب العربية(1347هـ) مصر( بدون رقم الطبعة).(106/59)
لأن الشيطان يتمثل في صورة أخرى يخيل للرائي أنها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان الرائي جاهلا بصفته التي كان عليها صلى الله عليه وسلم ولهذا قال البخاري رحمه الله، عقب حديث أبي هريرة المتقدم: (قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته) (1) .
وروي الحافظ ابن حجر بسند صحيح عن ابن سيرين أنه كان إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها. قال: لم تره (2) . وأخرج الحاكم في مستدركه من طريق عاصم بن كليب أن أباه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام،فقال لابن عباس: قد رأيته صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحسن بن علي، فشبهته به، فقال ابن عباس: إنه كان يشبهه (3) ، فهذا هو المعيار الحق الذي تعتبر به كل رؤيا يزعم صاحبها أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
المذهب الثاني: أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام حق بكل حال، سواء رآه الرائي على صفته التي كان عليها، أو على غيرها، إذ اختلاف الصفات قد يكون من باب البشارة أو النذارة: كأن يراه وقد ملا داره، دلالة على امتلائها بالخير أو نحو ذلك.
وقد استندوا في ذلك إلى قوله في الحديث:(فإن الشيطان لا يتمثل بي)(4) وقد مر الجواب على هذا الاستدلال عند ذكر المذهب الأول.
__________
(1) صحيح البخاري(12/ 283) ( فتح الباري( كتاب التعبير- باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يلي الحديث رقم: (6993).
(2) فتح الباري(12/ 384).
(3) المستدرك(4/393) كتاب تعبير الرؤيا، وقال الحاكم: ( هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة) ووافقه الذهبي.
(4) انظر: فتح الباري(12/ 384-387-388) وشرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني(5/293) (وبهامشة زاد المعاد لابن القيم )- دار المعرفة الطبعة الثانية(1393هـ-1973م ) بيروت.(106/60)
وأما الأمر الثاني: ففي المراد بالرؤيا اليقظية الواردة في الأحاديث: وقد اختلفوا فيها على مذهبين:
المذهب الأول: وهو الصحيح، أنه لا تصح رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته، واختلفوا في توجيه الأحاديث على أقوال:
القول الأول: أن النائم سيرى تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها وخروجها على الحق، قاله ابن بطال. (1)
القول الثاني: أن الحديث خرج مخرج التشبيه، ودليله رواية مسلم:(لكأنما رآني في اليقظة) (2) .
القول الثالث: أنه يراه في المرآة التي كانت له صلى الله عليه وسلم إن أمكنه ذلك، وهو قول لابن أبي جمرة، وقال الحافظ ابن حجر: (وهذا من أبعد المحامل)(3) .
القول الرابع: أنه بشرى لمن آمن في حياته صلى الله عليه وسلم ولم يره لكونه غائبا عنه، أن يراه في اليقظة قبل موته، قاله ابن التين والقزاز والمازري (4) .
القول الخامس: أنه سيراه في الآخرة، وتعقبه ابن بطال وابن العربي بأن رؤيته صلى الله عليه وسلم في الآخرة تكون لجميع المؤمنين: من رآه في النوم ومن لم يره، فلا مزية لمن رآه على غيره.
وأجاب القاضي عياض باحتمال أن تكون رؤياه في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف بها، موجبة لتكرمة في الآخرة لمن رآه فيراه رؤية خاصة من القرب منه والشفاعة له بعلو الدرجة ونحو ذلك. (5) .
__________
(1) انظر فتح الباري(12/ 385) ومشتهى الخارف(ص: 54).
(2) صحيح مسلم(4/1775) كتاب الرؤيا- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في النام فقد رآني) يلي الحديث رقم: (2266) وانظر: فتح الباري(12/ 385) وشرح المواهب (5/ 289).
(3) انظر فتح الباري:( 12/385).
(4) انظر فتح الباري:(12/385).
(5) انظر: مشتهى الخارف(ص: 54) وفتح الباري: (12/ 385).(106/61)
القول السادس: ذكر الشيخ محمد الخضر الشنقيطي وجها آخر ورجحه وحسنه، وذكر أن الدمياني سبقه إليه وهو: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهو بشارة له بالموت مسلما (1) .
أما المذهب الثاني في المراد بالرؤيا اليقظية:
فهو أن الرائي للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام سيراه في اليقظة حقيقة ويخاطبه، وذكروا أن جماعة من الصالحين رأوه في المنام ثم رأوه بعد ذلك قي اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك(2)، وهذا المذهب باطل من وجوه:
الأول: لم يستند هذا المذهب إلى دليل من الشرع سوى الاحتمال في هذه الأحاديث، ولهذا لم يذكر السيوطي- وهو من المنتصرين لهذا المذهب- في رسالته: (تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك)(3)، سوى الاحتمال في تلك الأحاديث، فلم يرو في ذلك حديثا صحيحا ولا ضعيفا ولا مرفوعا ولا موقوفا ولا مرسلا، ولا غير ذلك، مع سعة اطلاعه وطول باعه في الحديث، وشدة انتصاره لهذا المذهب، ولم يذكر عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه وقعت له هذه الرؤية اليقظية، وقال صاحب المواهب اللدنية(4): (وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا- يعني السخاوي- لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم، وقد اشتد حزن فاطمة عليه رضي الله عنها حتى ماتت كمدا بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاور لقبره الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرت عنه).
__________
(1) انظر: مشتهى الخارف(ص: 54).
(2) انظر: فتح الباري: (12/385) ومشتهى الخارف (ص:54) وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية (5/295- 296-269)
(3) وهي ضمن الحاوي للفتاوى للسيوطي (2/255-269)دار الكتب العلمية الطبعة الثانية (1395هـ1975م) بيروت، وانظر: مشتهى الخارف (ص:53)
(4) 5/ 295) ( بشرح الزرقاني).(106/62)
قال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي:(وهذا ييئس من أن يكون في رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته يقظة حديث) (1) .
الثاني: يلزم على هذا المذهب أن كل من رآه صلى الله عليه وسلم في المنام أن يراه في اليقظة، وهذا باطل بديهة، وذلك لكثرة الرائين له في المنام من غير أن يدعي واحد منهم أنه رآه في اليقظة، ولا خطر ذلك على قلبه، وخبر الصادق لا يتخلف!! (2) .
الثالث: مخالفة هذا المذهب لقضايا العقول، وذلك بأن يراه رائيان في زمان واحد، في مكانين مختلفين، وعلى فرض تتابع الرؤى يلزم عليه أن يكون خارجا من قبره يمضي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبونه، فيخلو القبر من جسده الشريف، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب، ولهذا قال القرطبي: (وهذا قول يدرك فساده بأوئل العقول) (3) . الرابع: يلزم على هذا المذهب، أن كل من رآه صلى الله عليه وسلم يكون صحابيا، فتدوم الصحبة في الناس إلى يوم القيامة وهذا معلوم بطلانه(4) .
الخامس: أن هذه الدار دار فناء، والنبي صلى الله عليه وسلم في دار البقاء فلا تمكن رؤيته إلا لمن اتحد معه في الدار، وذلك لا يحصل إلا بالموت الحقيقي(5) .
__________
(1) مشتهى الخارف(ص: 53).
(2) انظر: فتح الباري:(12/385) ومشتهى الخارف(ص: 55).
(3) انظر فتح الباردي: (12/ 384).
(4) انظر: فتح الباري: (12/385).
(5) انظر: مشتهى الخارف(ص: 57).(106/63)
السادس: أما ما يروى عن بعض المشايخ من أنهم رأوه يقظة فقد يكون من باب آخر، فيظن السامع أنه أراد الرؤية اليقظية، كما حكي عن أبي العباس المرسي(1) أنه قال:(لو حجب عني النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين)(2) ومراده حجاب الغفلة والنسيان، وانقطاع المراقبة والاستحضار لهديه صلى الله عليه وسلم في الأعمال والأقوال(3)، وعلى نحو من هذا يمكن حمل كلام من ثبتت ولايته من المشايخ.
وأيضا قد تقع الرؤية لبعض المشايخ في غيبة حس، وإغماض طرف، لورود حال لا تكاد تضبطها العبارة، فيظنها رؤية يقظية وهي منامية(4).
فالمقصود في هذا المقام بيان أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جائزة إذا وقعت على نفس الصفة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فإن خالفتها فهي أضغاث أحلام سببها تلاعب الشياطين ببني آدم.
أما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته فغير جائزة ولا ممكنة، ولا دليل يدل عليها من الشرع أو العقل، بل الشرع والعقل يمنعان من وقوعها، وعلى هذا فمدعيها إما كذاب ضال أو جاهل مغفل.
المقام الرابع عشر: حكم العمل بالرؤيا:
__________
(1) هو أحمد بن محمد الأندلسي المرسي، نزيل الإسكندرية صحب الشادلي، وصحبه الشيخ ياقوت- ولد سنة: (616هـ) انظر: طبقات الأولياء لابن الملقن(ص:418-420) ترجمة رقم (118) وحسن المحاضرة للسيوطي(1/ 523).
(2) انظر: حسن المحاضرة (1/523). وتنوير الحلك (2/260) (ضمن الحاوي للفتاوي).
(3) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (5/298) ومشتهى الخارف (ص:58).
(4) انظر: مشتهى الخارف (ص:56-60).(106/64)
أخرج مسلم وغيره (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة (2) بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه). فالرؤيا في هذا الحديث جنس تدخل تحته ثلاثة أنواع، والتمييز بينها مشكل، ومع ذلك فالغالب أن تكون الرؤيا على خلاف الظاهر، فتحتاج إلى تعبير، حتى عند الأنبياء، (3) لكن تعبير الأنبياء صادق قاطع؛ لأنهم معصومون ومؤيدون بالوحي.
فالرؤيا كالكشف والإلهام، منها: الرحماني والنفساني والشيطاني، فلا عصمة فيها مع هذا الاحتمال، فهؤلاء المدعون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعض الملائكة أو غيرهم، من أين لهم أن رؤياهم صادقة؟ بل أكثرهم يأتي بأشياء تخالف ما عليه الشريعة، ويزعم أنه تلقاها من الرؤيا، وما علم أن ذلك من الشيطان، ولهذا يقول علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما، من معارفه وغيرهم، فيشير له إلى رجل آخر: هذا فلان النبي، وهذا الملك الفلاني، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به، فيوقع اللبس على الرائي بذلك (4) .
وإذا كان الأمر كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي المخالفين للشرع، فيظن الرائي أنهما من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون كذلك (5) .
وعليه فلا عصمة فيما يراه النائم، بل لابد من عرضه على الشرع، فإن وافقه فالحكم
__________
(1) صحيح مسلم(4/ 1773)كتاب الرؤيا حديث رقم: (2263)وسنن الترمذي(7/ 54) كتاب الرؤيا- باب أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- حديث رقم: (2271) قال أبو عيسى: ( وهذا حديث حسن صحيح).
(2) رواية الترمذي: فالرؤيا الصالحة.
(3) انظر: التنكيل للمعلمي(2/ 242).
(4) انظر: الاعتصام(1/ 263).
(5) انظر: الاعتصام(1/ 263).(106/65)
بما استقر؛ لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى في المنامات، وإن خالف ردها مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان وأنها كاذبة وأضغاث أحلام (1) .
لكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه
الشرع ؟!
الجواب: فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) (2) .
فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعا له إلى فعل مطلوب أو ترك محظور، قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله:( اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة) (3) .
وعلى ذلك، فمن يرى في النوم قائلا يقول: إن فلانا سرق فاقطعه، أو عالما فاسأله واعمل بما يقول لك، وما أشبه ذلك- لم يصح له العمل بهذه الرؤيا حتى يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملا بغير الشريعة (4) .
ومن طرائف ما يحكى في هذا الباب، أن شريكا بن عبد الله القاضي دخل على المهدي، فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع، قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي، وأنت معرض عني، فقصصت رؤياي على من عبرها، فقال لي: يظهر لك طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا أن معبرك يوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين فاستحى المهدي، وقال: اخرج عني، ثم صرفه وأبعده (5) .
__________
(1) انظر: مدارج السالكين(1/51).
(2) صحيح البخاري(12/ 375) ( فتح الباري) كتاب التعبير- باب المبشرات- حديث رقم: (6990).
(3) انظر: التنكيل(2/ 243).
(4) انظر: الاعتصام(1/ 261).
(5) انظر: الاعتصام(1/ 261-262).(106/66)
اعتراض (1) : قد يقول قائل: ثبت في الحديث الصحيح أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة(2)، وعليه فلا ينبغي إهمالها.
الجواب من وجوه:
الأول: إذا كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست تعدل كمال الوحي، بل هي جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، وإنما في بعض الوجوه وقد صرفت الرؤيا إلى البشارة والنذارة، وهذا كاف إن شاء الله،
الثاني: من شرط الرؤيا أن تكون صالحة، ومن الرجل الصالح، وحصول هذه الشروط مما ينظر فيه (3) ، فقد تتوفر وقد تتخلف، فكيف يأمن الإنسان أن تكون رؤياه صالحة، أو هو من الصالحين، هذا لا يعرف إلا بموافقة الشرع، فتبين أن التعويل على الشرع.
الثالث: الرؤيا تنقسم- كما تقدم- إلى الحلم وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وإلى الرؤيا الصادقة وهي من الله، فمتى تتعين الصادقة والصالحة حتى يحكم بها، ويترك غيرها؟! وكيف يترك المتيقن- هو الشرع- ويعمل بهذه الظنون والاحتمالات؟!
الرابع:يلزم من هذا العمل بالرؤيا تجديد وحي بعده صلى الله عليه وسلم وهو باطل بالجماع .
فالمقصود في هذا المقام بيان أن ما يراه النائم يتردد بين احتمالات ثلاثة- تقدم ذكرها- وأنه لم تضمن لنا العصمة فيها، وعليه، فلا يجوز الحكم بمقتضاها على أمر من الأمور، إذ إنها ليست دليلا من أدلة الشرع، ولا مصدرا من مصادر المعرفة، بل لابد من عرضها على الشرع لنعرف كونها صادقة أم لا، والحكم يكون كما استقر عليه الشرع، وتقتصر فائدة الرؤيا الصالحة على البشارة والنذارة كما دلت عليه النصوص).
__________
(1) انظر: الاعتصام (1/ 261).
(2) رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) صحيح مسلم(4/ 1774) كتاب الرؤيا رقم: (2264).
(3) انظر: فتح الباري: (12/ 362).(106/67)
فلعل ما ذكره المؤلف جزاه الله خيرا مما أثر عن بعض السلف وشرح العلماء المعتبرين للأحاديث التي يتخذها المخرفون طريقا وسلما لنشر خرافاتهم وخزعبلاتهم بيانا واضحا لمنهج السلف أهل السنة والجماعة نحو الرؤى والمنامات في النظر والاستدلال.
الأمر الثالث: التأويلات الفاسدة:
من المعلوم عن أهل البدع والضلال أن منهجهم يقوم على التأويلات الفاسدة، فتبني طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ولا يدل عليها زعموا أنها هي مراد النصوص وهم إنما أرادوا بذلك إبطال الشريعة جملة وتفصيلا، فزعموا أن للنصوص بواطن هي المقصودة وأن الظواهر غير مرادة، فقالوا: كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز ترمز إلى بواطن) (1) ومن الأمثلة على تأويل الباطنية أن الصيام هو الإمساك عن كشف السر، وتأويل الرافضة لقوله تعالى:) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً( [البقرة:67] قالوا: البقرة عائشة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وتأويل غلاة الصوفية في رفع التكاليف عنهم؛ لقول الله تعالى:) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين( [الحجر:199] قال الإمام الأشعري رحمه الله عنهم في مقالات الإسلاميين (2) : (وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى درجة تزول فيها عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم) أهـ.
__________
(1) للمزيد انظر: كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله.
(2) ص: 289).(106/68)
وقال ابن تيمية رحمه الله: (ومن هؤلاء من يحتج بقوله تعالى:) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين([ الحجر:99] ويقول: معناه: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض وارتكاب المحارم (1) .
المفسدة الثالثة: التجرؤ على فعل الفواحش:
وسوء الفعال والمقال وجعله من باب الكرامة واتصال الأنوار: لقد ضيع الخرافيون معايير الصلاح والفساد والإيمان والزندقة، فأباحوا لأنفسهم ما لم يبحه الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من المحرمات وتلاعبوا بشرع الله وفتحوا باب الزندقة على مصراعيه.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله عنهم: ( ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل وقالوا: من بلغ الغاية من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحقت المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك واستباحوا بهذا نساء غيرهم وقالوا بأننا نرى الله ونكلمه، وكل ما قذف في قلوبنا فهو حق) (2) .
وصور ابن الجوزي رحمه الله حال هؤلاء فقال: (إن قوما منهم داموا على الرياضة مدة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا سقطت عنهم، قالوا: وحاصل النبوة ترجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام، فندخل في حجر التكليف، لأنا تجوهرنا وعرفنا الحكمة) (3).
__________
(1) مجموع الفتاوى: (11/ 417).
(2) انظر: إتحاف السادة للزبيدي: (8/ 278).
(3) تلبيس ابليس.(106/69)
وأطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصف حال هؤلاء فقال: (ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن زعما منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرما في الشريعة وكذلك يستحل ذلك مع المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى) (1) .
ونسوق إليك بعض الأمثلة على ما ذكرناه:
أولا: ما ذكر في الطبقات الكبرى (2) ، قال الشعراني في ذكر مشايخه الذين أدركهم: (وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله عنه، كان رضي الله عنه من الملاتية (3) ، قال: مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضوا بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة فقالوا: نصلي الجمعة، فقال: مالي عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال: نصلي اليوم لأجلكم) أهـ فلم يصل لله وامتثالا لأمر الله.
قال: (ومنهم سيدي الشريف المجذوب رضي الله عنه ورحمه، وكان رضي الله عنه يأكل في رمضان ويقول: أنا معتوق، أعتقني ربي) وذكر من أحواله أنه كان يقرأ سورا غير السور التي في القرآن الكريم على كرسي المساجد يوم الجمعة وغيرها).
وذكر الشعراني في الطبقات (4) أيضا: من كرامات علي وحيش أنه إذا رأى شيخ بلد أو أحدا من الكبار ينزله من على الحمارة، ويقول: أمسك رأسها حتى أفعل فيها[الفاحشة] فإن أبى شيخ البلد تسمرت في الأرض وإن سمح له حصل له خير عظيم يفعل ذلك والناس يمرون.
__________
(1) مجموع الفتاوى: (11/ 405).
(2) 2/144- 150).
(3) ومقصودهم ليظهور بين الناس بالمظاهر التي لا تتفق مع الشرع كإتيان البهائم وشرب الخمر والسرقة ليستروا عن الناس ولايتهم- زعموا- انظر: نواقض الإيمان الأعتقادية للدكتور الوهيبي(2/ 77).
(4) 2/ 135).(106/70)
وذكر من كرامات إبراهيم العريان أنه كان إذا دخل على بلد سمى أهلها بأسمائهم صغارا وكبارا، وكان يطلع على المنبر ويخطب عريانا فيقول: (دمياط بادليسق بين القصرين جامع طولون الحمد لله رب العالمين) فيحصل للناس بسط عظيم (أي ضحك) (1) وقال المنادي يخطب عريانا ويذكر الوقائع التي تحدث في الأسبوع المستقبل فلا يخطئ في واحدة).
وقال: (إن شخصا كان مكاريا يحمل النساء من بنات الخطأ (الزنا) وكان الناس يسبونه ويصفونه بالتعريس وكان من أولياء الله تعالى، لا يركب امرأة من بنات الخطأ وتعود إلى الزنا أبدا).
__________
(1) انظر إلى هذه السخافة: أيكون التعري دينا لله سماها عورة؛ لقبح منظرها، وحرم النظر إليها، وهؤلاء يجعلونه كرامة ودينا في مكان شريف وهو المنبر، ثم إن خطبته عارية من كل عناصر الخطبة إلا االخاتمة، فهل كان سيد الأولياء وأعظم الناس كرامة يفعل أو يقول أو يقر شيئا من ذلك أو أحدا من أصحابه؟ حاشاه وألف حاشاه وحاشا أصحابه، بل التعري كان من عباده المشركين، حيث كانوا يطوفون بالبيت عرايا الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكان يفعل ذلك كل العرب سوى قريش؛ متبعين لأبائهم متوهمين أنه يستند إلى شرع ، فأنكر الله عليهم فقال: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا آبائنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون) ( الأعراف:28).
ثم أنزل الله: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين) ( الأعراف:31) قال ابن كثير رحمه الله: ( هذه الآية رد عليه السلامى المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، والزينة واللباس وهو ما يواري السواة) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: ( بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان).(106/71)
وقال ابن عبيد الله في صوب الركام (1) : (ولا شك في حرمة ما يفعله أخدام السقاف عندنا في الأعراس وغيرها من الجثي على الركب أمام السادات وذلك أنهم بينما يمشون بدفوفهم وشباباتهم أمام الناس إذا وقفوا وقف الناس بوقوفهم ثم انعطفوا وخروا جثيا على الركب وأخذوا يزحفون عليها حتى إذا وصلوا إلى أقدام الأشراف وهم كالبنيان نهضوا في سيرهم وهكذا دواليك حتى يبلغوا المكان الذي يريدون، ولا شك أن هذا من الغلو والخروج عن الأدب الشرعي بدرجة فظيعة يزيد عن سجود الأنبياء بين يدي مشايخهم). ولئن خص بعض المحسنين حرمة ذلك السجود بما استجمع شروط سجود الصلاة فقد أبعد النجعة في الغلط فلا يلقي لقوله بال.
وحسبك أخي القارئ هذه الأمثلة وقد سبق أن ذكرنا مثلها وسيأتي إن شاء الله ذكر الكثير من ذلك في المباحث القادمة.
المفسدة الرابعة: الزهد في الاستقامة والاقتصار على بعض العبادات المؤقته وفيها دخن:
لقد ساهمت الخرافات في تعطيل مفهوم الاستقامة وفتحت المجال للفساق والعصاة ليمارسوا فسادهم وفسقهم مقابل أن يقوموا ببعض الشعائر التعبدية أو البدعية وذلك من خلال:
أولا: رواية الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشرها كقصة عبد الله بن سلطان، وهي في رسالة مطبوعة منشورة، وهي أصل بدعة الاستغفار في شهر رجب كما يفعل ذلك في بعض مساجد حضرموت وبيوتها.
والحديث المفترى فيه إغراء بالفساق وأهل الفجور.
__________
(1) 1/ 286).(106/72)
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مجلة المنار (1) : (أذكر منها الآن شيئا واحدا أطلعني عليه من عهد قريب بعض الأخوة المنتبهين، وهو دعاء طبعه عبد اللطيف القباح المقيم في مصر ووزعه مجانا ليعم نشره وسماه دعاء سيدي عبد الله بن سلطان، صدره واضعه بحديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ملخصه أن رجلا من الصحابة اسمه محمد بن سلطان (2) كان يفعل القبيح ويشرب الخمور ويداوم على الفسوق والفجور، وكان لا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، إلا أنه كان يقرأ استغفارا في أول شهر رجب، فلما حضرته الوفاة نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ أمر الله بحضور وفاته وتجهيزه ففعل، ووجد الملائكة والحور العين قد اجتمعوا صفوفا لا يحصى عددهم إلا الله يحضرون جنازته، ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على سبب ذلك من زوجته وأنه الاستغفار الذي ذكر آنفا أمر عليا بكتابته وقال: من قرأ هذا الاستغفار أو جعله في داره أو متاعه أو حمله معه في سفره جعل الله له ثمانين ألف ملك وثمانين صديق وثمانين ألف شهيد وثمانين كذا وكذا، ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليس عليه حساب ولا عقاب، وبنى له ألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ثمانون ألف حجرة في كل حجرة ثمانون ألف سرير على كل سرير حورية من الحور العين وشجرة تظللها، وفيها ثمانون ألف ورقة كل ورقة مثل الدنيا، ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة فإن الله تعالى يعطيه ثواب أهل مكة والمدينة وبيت المقدس، وإن مات أمر الله سبعين ألف ملك يشيعون جنازته، وإذا قام من قبره يوم القيامة يضيء وجهه مثل القمر فيقول الخلائق: هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، فيقول جبريل: لا ورب الكعبة، لا نبي ولا ملك، بل هو عبد من بني آدم أكرمه الله بقراءة هذا
__________
(1) 1/ 789).
(2) بين أهل صناعة الحديث أنه لا يعرف أحد من الصحابة بهذا الاسم.(106/73)
الاستغفار، ثم يأتي الجنة يدخلها بغير حساب ولا عقاب، ثم يذكر له فوائد دنيوية، ونختم الكلام بقوله: ومن شك في ذلك كفر، يعني من شك في هذا الحديث الموضوع لهدم الدين وإبطاله بالمرة وإباحة جميع المحرمات فهو كافر، وبعبارة أخرى من شك في الكفر الحقيقي وهو ما ذكرنا من فوائد الاستغفار فهو كافر في عرفه واصطلاحه (نعوذ بالله) وأمثال هذا الحديث كثير مما يضحك بها على عقول السفهاء ويهدم بها أهل الخرافة الأخلاق والقيم والاستقامة في الدين.
ثانيا: ما يذكر وينشر من فضائل مزعومة؛ ليتعلق الناس بأصحاب القبور وما يزعمون أنهم أولياء ويزهدون الناس في أداء بعض الفرائض والسنن المؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب صلة الأهل (1) في ذكر مناقب الشيخ فضل ابن عبد الله بافضل صاحب الخور بالشحر قال: (ورأيت في تاريخ السيد الأجل عبد الله باحسن الشحري، قال: روي عن بعض الأكابر العارفين، قال: من زار قبر الشيخ فضل سبع جمع متوالية كتبت له حجة مبرورة، وقال: هذا الشيخ ما قصده أحد بنية قضاء حاجة، رجع بحاجته) أهـ.
المفسدة الخامسة: انتشار الكهانة والعرافة في المجتمع المسلم:
إن من طواغيت الجاهلية الكفان والعرافيين، وقد أفل نجمهم بمجيء الإسلام وقيام دولة الإسلام بالمدينة، وقد عرفنا كيف كانت عودتهم بصورة ظاهرها الرحمة وباطنها الشر المستطير، حيث وجدت من الكرامات والكشف مدخلا، فتمركز أرباب الشعوذة والدجل في الشعاب وبطون الأودية والخلوات، والناس يغدون إليهم من كل مكان، ولم يبالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم(2)) ويقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (من أتى عرافا فسأله لم تقبل منه صلاة أربعين ليلة).
__________
(1) ص:117-118).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند(9502) وإسناده صحيح.(106/74)
وغيرها من ا لأحاديث الزاجرة عن إتيان السحرة والمشعوذين ولو بمجرد الفضول.
المفسدة السادسة: كونها مرتعا خصبا للمذاهب الهدامة:
فقد استطاع أصحاب المناهج الهدامة كالفرق الباطنية والأنظمة المنحرفة كالديمقراطية والعلمانية من خلا لها أن يفسدوا المجتمع المسلم.
فلقد كانت الخرافة مرتعا خصبا للمناهج الهدامة، فما كان لها أن تظهر وتوجد ويكون لها شان إذا ظل المسلمون يتمسكون بالمنهج الحق وبالثوابت من دينهم ولكن البعد عنه والجهل به- مع الأسباب السالفة الذكر- كان له الأثر البالغ في شيوعها.
فالنظام العلماني مثلا لم يتمكن في أوربا إلا بعد فساد عقائدها والتنحي عن شريعة الكتب السماوية بالتحريف والتبديل وتصديق الرؤى والمنامات وجعلها تشريعا يدينون له بها، فلما نجحت في ذلك وأبعدتهم عن الفطرة وعن دين الفطرة حصل التصادم والتعارض فنشأت المعارك حتى تمكنت من فصل الدين عن الحياة وأصبح الدين طقوسا لا منهجا ولا شريعة يساس الناس بهما.
وهكذا فعلوا في بلاد المسلمين، فكانوا الدعامة للخرافة والخرافيين (1) .
الباب الثاني
انحرافات الخرافيين
الفصل الأول: العقائد.
الفصل الثاني: انحراف الخرافيين في العبادات.
الفصل الثالث: انحراف الخرافيين في السلوك والأخلاق.
الباب الثاني
انحرافات الخرافيين
لقد سبق أن بينا في المباحث السابقة صورة واضحة عن الخرافة والخرافيين وأصل منهجهم وما أحدثوه من فساد في عقائد الأمة وأخلاقها وقيمها.
__________
(1) للمزيد عن هذا الموضوع اقرأ كتاب: العلمانية للدكتور سفر الحوالي حفظه الله، أسباب ظهور العلمانية في أوربا وفي العالم الإسلامي.(106/75)
ولكي تكون الصورة أوضح مما ذكر آنفا ومقنعة تماما، ولكي لا ينخدع أحد بما يظهره الخرافيون من تنسك وغيرة على الدين، فإليك بعضا من انحرافاتهم في العقائد والعبادات والسلوك والأخلاق، وهي عبارة عن مخالفات صريحة للشرع الحنيف الذي جاء به سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي مخالفات لصريح الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، بل العقول السليمة تنكرها وتنفر منها؛ لأن إنكارها ومعرفة فسادها لا يحتاج إلى غزارة علم. فهل يعقل أن ما اختص الله به نفسه يكون لأوليائه كعلم الغيب والتحليل والتحريم والإحياء والإماتة؟
وهل يعقل أن فعل الفاحشة من زنا أو لواط أو مقدماتها يكون له ظاهر وباطن أو يكون قربة وكرامة؟!
وهل يعقل أن ترك الفرائض كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك يكون من خصوصيات الأولياء، وهي لم يخمن بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين وسيد الأولياء والصالحين؟! وهل يعقل...
أمور كثيرة يستحي القلم أن يسطرها، ولولا أن البيان يقتضي ذلك ما ذكرتها ولا سطرتها، وكما قال قائلهم (1) :
ولكم لهم في السر غامض حيلة
ڑڑإبليس لم يطمع لها بمماثل
ٹڑ
ڑولهم مع الجنس اللطيف لطائف
ڑڑأبت المروءة شرحها للناقل
وإليك أخي القارئ نماذج من خرافاتهم يشيب الولدان من فظاعتها وجرأة القوم عليها، وقد سطرتها أقلامهم وتبجحوا بها ونشروها فخرا واعتزازا، وهي في الحقيقة زندقة وفسادا.
وهذه الانحرافات مقسمة على ثلاثة أبواب مشتملة على عدة فصول:
الفصل الأول
العقائد
المبعث الأول: ادعاء الربويية والألوهية وادعاء علم الغيب:
__________
(1) ديوان ابن شهاب( ص: 159) من قصيدة يصف فيها حال دجاجة المتصوفة في زمانه.(106/76)
قال النبهاني في جامع كرامات الأولياء (1) : (إبراهيم النستيتي المجذوب الصاحي، قال المناوي. من كراماته ما أخبر به صاحبنا الشيخ علي الحمصاني المعروف بحشيش، أنه كان له ابنة أخ أو أخت ولها ولد وقعدت به تلاعبه بسطح الجامع وهو صحيح سالم، فقال لها: أتحبينه؟ قالت: مالك وذاك؟ فقال: ودعيه، فإنه بعد غد وقت العصر يموت، فكان كذلك) أهـ.
وقال في ذكر كرامات علوي ابن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم: (أن علي بن عبد الله باغريب مرض وهو ابن ثلاثة أشهر مرضا شديدا فجاءت به أمه إلى السيد علوي وهي مشفقة عليه من الموت، فقال لها: من عمره مائة سنة لا يموت ابن ثلاثة أشهر، ودعا له بالعافية فعوفي وعاش مائة سنة) (2) أهـ.
وفي ذكر كرامات أحمد بن عبد الرحمن المشهور بشهاب الدين: (أنه كان له اطلاع على أهل القبور، وما هم عليه من عذاب وسرور وله في ذلك حكايات وخوارق وعادات، ومنها: أنه قيل له: إن بعضهم يقول في قبر الإمام أحمد بن عيسى إنه ليس بقبره حقيقة، فزاره في بعض زياراته وهو متوجه لبعض حاجاته، فحصل له عند القبر هيبة وذهول ثم أفاق وهو يقول: اجتمعت بروحانية الإمام أحمد بن عيسى وسألته عن قبره: هل هو حقيقة؟ فقال: نعم، فقلت: إني أريد كذا، فقال: تقضي من غير كلفة، ثم ذهب إلى قرية (بور) وقصد جامعها فقضيت الحاجة في جلسته تلك) (3) أهـ.
وقال: (وروي عن الشيخ إبراهيم البطائحي قال: كان الشيخ يقف على حلب ونحن معه ويقول: والله إني لأعرف أهل اليمين من أهل الشمال فيها ولو شئت أن أسميهم سميتهم، ولكن لم نؤمر بذلك ولانكشف الحق في الخلق) (4) .
__________
(1) ص: 1:414).
(2) كرامات الأولياء(2/ 308).
(3) 1-545).
(4) 1/ 214).(106/77)
وقال: (محمد بن عبد الله بن علوي ابن الأستاذ الأعظم، أحد أئمة العارفين، ومن كراماته أنه كان جالسا عند بعض أصحابه فقام مسرعا وعاد وثوبه يقطر ماء، فسأله عن قيامه فقال: انحرف مركب بعض أصحابي فاستغاث بي فحشوت الخرق بثوبي حتى أصلحوا ما انخرق فيه وعاد على ما كان عليه) (1) .
وقال: (أبو عبد الله محمد بن موسى ابن الإمام أحمد بن موسى بن عجيل كان فقيها عالما صالحا صاحب كرامات ومكاشفات، من ذلك أنه كان له صاحب من ذوي الأقدار توفيت له زوجة وكان يحبها حبا شديدا، فأسف عليها أسفا كثيرا، فقصد الفقيه محمد بن موسى وشكا له حاله، وقال: مرادي أني أراها وأعلم ما صارت إليه، فاعتذر منه الفقيه فلم يقبل منه، وقال: ما أرجع إلا بقضاء حاجتي، وكان له محل عند الفقيه، فامتهله ثلاثة أيام، ثم طلبه ذات يوم وقال له: ادخل هذا البيت إلى امرأتك فدخل فوجدها على هيئة حسنة وعليها لباس حسن، وسألها كيف حالها، فأخبرته أنها على خير فسره ذلك ثم خرج إلى الفقيه مسرورا طيب النفس، وقد سكن ما كان يجده من الأسف) (2) .
__________
(1) في (1/ 236) ( فهو له سمع نافذ يسمع البعيد كما يسمع القريب وهذا مما اختص الله به).
(2) في: (1/ 238).(106/78)
وقال عن محمد الشربيني: وقال ولده الشيخ أحمد: (كان الشيخ يقول لعصاه: كوني صورة إنسان من الشجعان، فتصور في الحال ويرسلها في حوائجه ثم تعود عصا، قال: وكان كثيرا ما يقول لجماعة يموت شخص من عباد الله في ثامن صفر سنة (27 هـ) فكل من أخذ من غسله شيئا ووضعه عنده في قنينة ومس منه الأبرص أو الأجذم أو الأعمى أو المريض شفي من مرضه أو عماه، فما عرفوا أنه يعني نفسه إلا يوم مات، فلم يقع من ماء غسله على الأرض نقطة وقد صبوا عليه نحو أربعين قلة، فكان يقال أن رجال الغيب كانت تغترف ماء غسله) (1) .
وقال في ذكر كرامات أحمد بن إدريس صاحب الطريقة الإدريسية: (ومن كراماته:
أنه غاب عن بلده مرة؛ ليذكر إخوانه في الله ومعه جملة من أصحابه، فمات ولده فأخبروه بذلك، فأرسل إليهم أن لا تدفنوه حتى أحضر، فحضر بعد ثلاثة أيام فقال له: من قال لك تموت؟ قم بإذن الله تعالى. فقام حيا فلم يشر له في صحبة وأمره بصحبة سيدي أبي القاسم الوزير الغازي) (2) .
__________
(1) في: (1/ 297)، فقد علم يوم وفاته وهذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قال الله حكاية عن نبيه:) وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ( [سورة الأعراف:188].
(2) في: (1/568)، والله عز وجل كلم والد جابر بن عبد الله كفاحا( أي مواجهة) فقال له: سلني أعطك، قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني القول: ) أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ( [يس:31] رواه ابن مردوية، وانظر تفسير ابن كثير عند قوله تعالى:) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتًا ( [آل عمران:169].(106/79)
وقال في ذكر كرامات عبد الله بن علوي ابن الأستاذ الأعظم: (أن رجلا أنشد أبياتا تتعلق بالبعث والحساب فتواجد صاحب الترجمة وخر مغشيا عليه، فلما أفاق قال للرجل. أعد الأبيات، فقال الرجل: بشرط تضمن لي الجف؟ فقال: ليس ذلك لي ولكن اطلب ما شئت من المال، فقال الرجل: ما أريد إلا الجنة وإن حصل لنا شيء ما كرهنا، فدعا له بالجنة فحسنت جالة الرجل وانتقل إلى رحمة الله، وشيعه السيد عبد الله المذكور وحضر دفنه وجلس عند قبره ساعة فتغير وجهه ثم ضحك واستبشر، فسئل عن ذلك فقال: إن الرجل لما سأله الملكان عن ربه قال: شيخي عبد الله باعلوي، فتعبت لذلك فسألاه أيضا فأجاب بذلك، فقالا: مرحبا بك وشيخك عبد الله باعلوي) (1) .
قال بعضهم: هكذا ينبغي أن يكون الشيخ يحفظ مريده حتى بعد موته. أهـ.
وقال في ذكر كرامات عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن صاحب المشهد بشبيكة مكة المشرفة: ( أنه كان يتكلم على الخواطر فيخبر صاحبها قبل أن يبديها، ويخبر أحبابه بما سيقع لهم وعليهم في المستقبل ويخبر عن الأشياء التي وقعت في بلدان بعيدة فيكون الخبر كما قاله).
__________
(1) في: (2/244) إنها دعوة صريحة إلى الكفر والشرك، يقول الله تعالى: ) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ( [آل عمران:80].(106/80)
ومنها: ما حكاه جماعة أن قاضي المسلمين وإمام المحسنين الشهير بالقاضي حسين المالكي مرض مرضا شديدا في صغره حتى أشرف على الهلاك، وكانت والدته تعتقد الشيخ اعتقادا شديدا، فحملت ولدها إلى حضرته وطلبت منه أن يدعو لولدها بالعافية، وكان العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحمن بن عمر العمودي حاضرا عند الشيخ، فالتفت إليه وقال له: يا عبد الرحمن، احمل عنه الحملة، فإن في حياة هذا الرجل نفعا عظيما عميما فقال الشيخ عبد الرحمن: سمعا وطاعة، فابتدأ المرض بالشيخ عبد الرحمن ومات بعد أيام وتوفي القاضي حسين من مرضه وذلك سنة (967 هـ) (1) أهـ.
وقال: دنكنر المجذوب المصري المستغرق كان يحلق لحيته، ومن كراماته: (أنه كان يركب جريدة فيطوف من المشرف إلى المغرب في لحظة واحدة، ويخبر كل إنسان بما يفعله في قعر بيته، قاله المناوي) (2) أهـ.
وجاء في كتاب شرح العينية (3) : (وكان ولده علوي في سن تمييزه وحال طفولته يعرف الشقي من السعيد، له الكشف الخارق ونور الفراسة الصادق).
قال: (وكان مجتمع بالخضر وإلياس عليهما السلام وكان يكاشف بالمغيبات والخواطر، ويطوف بالبيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة وهو بتريم) (4) .
وقال: (كان يتكلم على الخواطر، ويخبر بما سيقع ويخبر عن الوقائع في البلدان البعيدة فتجيء كلها كما أخبر، ودعا الله تعالى أن يرى والدته بعد موتها فرأها يقظة عيانا) (5) أهـ.
__________
(1) في: (2/259).
(2) في: (2/70).
(3) نظم عبد الله بن علوي تأليف أحمد بن زين الحبشي(ط/1957) ( ص:160).
(4) في (ص:233-235).
(5) ص: 244).(106/81)
وجاء في كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية (1) قال: (وجلس بعض سلفنا العلويين يقرأ القرآن في الحزب ببعض المساجد وبحضرته ولده، والولد معه شيء من علم النحو، وكان أبوه يلحن في القراءة وكلما غلط رد عليه الولد، فقال له والده: محنتنا يا ولدي بإعرابك هذا، أنا كل يوم أقرأ القرآن هكذا، فقال له الولد: هذا قرآن لا يجوز اللحن فيه، فقال لولده: اقرب إلى عندي، فلما قرب قال له انظر إلى السماء مخروقة، فنظر إلى العرش ورأى اللوح المحفوظ والقرآن مكتوب فيه حرفا حرفا وكل حرف مكسو بالنور، وقال لولده: إن أباك يقرأ من اللوح المحفوظ الذي أنزل منه، ما أقرأ من المصحف، فسكت الولد) أهـ.
وفي (ص:180): (إن الحبيب علوي بن الفقيه مر على صبيين يلعبان في طريق فقال له الخادم: تفرس فيهما، فقال له: هذا مكتوب على جبينه سعيد وهذا مكتوب على جبينه شقي، فلما كبرا صار أمرهما كما ذكر الحبيب، السعيد عمل بعمل أهل السعادة، والآخر عمل بعمل أهل الشقاوة). أهـ.
وفي (ص:207 ): (قول المرأة: اللوح المحفوظ لك ولأمثالك أما أنا ففي أم الكتاب).
وفي (ص:227): (قول عبد الله بن أبي بكر العيدروس: هذا ولدي ما بايخرج- أي
من بطن أمه حتى يقرأ اللوح المحفوظ، باقي معه أسطر بايتمها وبايخرج) وقد سبق ذكرهما.
__________
(1) ط/ الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع سنغافورة- جدة-(ص:392-393).(106/82)
وفي (ص:306-307): (قالوا إن الحبيب عبد الله بن علوي بن الفقيه المقدم رآه بعضهم في الموقف وأنه قيل له: أدخل الجنة فقال: أريد النار، فلما أقبل على النار صاحت منه، فقال لها: أخرجي كل محب لي، فصارت ترمي بهم إليه، وأعظم منها واقعة أبي خريصة مع الفقيه المقدم قالوا: إن أهل أبي خريصة صاحوا على أبي خريصة لما بلغهم أنه قد مات في سفره، فأطرق الفقيه المقدم ساعة وقال لهم: ما مات، فقالوا: جاء الكتاب بوفاته، فقال لهم: إني درت على منازل الجنة وما وجدته فيها ومريدي لا يدخل النار، فوصل إليهم بنفسه بعد أيام) أهـ.
وفي كتاب تذكير الناس (1) قال مؤلفه: ( وسئل الشيخ أحمد الرملي عن مسألة وهو راكب على بغلته، فأطرق وطأطأ رأسه إلى الأرض، والتفت يمنة ويسرة، ثم رفع رأسه وأجاب السائل، فسأله ذلك السائل عما صنع، فقال له: إنك لما سألتني لم يكن لي علم بها، فتصفحت كتب المشرق والمغرب فلم أظفر بها، ثم نظرت في اللوح المحفوظ فلم أجدها، ثم أخبرني قلبي عن ربي أو قال: نزل بها ملك) أهـ.
__________
(1) ص: 25) ط/ حسان.(106/83)
وجاء في تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر (1): ( وذكر الشيخ الكبير الأكبر في فتوحاته وفي فصوصه أن الشيخ القطب الكبير أبا السعود بن الشبل صاحب سيدي الشيخ القطب الأكبر محي الدين عبد القاهر الجيلاني أنه قال: أعطيت التصرف منذ كذا وكذا سنة فتركته، نظر فإنه يشير إلى مقام الخلافة وهي البرزخية الكبرى، وصاحبها واسطة بين الحق والخلق (2)، والمقام الذي آثره الشيخ أبو السعود مقام الفردية وهي أخص وأشرف من المقام الأول؛ لتحقق صاحبها بالعبودية المخضة، ومقام الخلافة لابد فيه من رائحة الربوبية إلا من عصمه الله تعالى، فإنه حصل وجاز إلى المقام الختام وهو رؤية الأحد الموصوف بالجلال والإكرام فافهم.
وفي )ص:280-281): ( أن علوي بن الشيخ القطب الفقيه بن علي أراد أن يترك التزوج إيثارا للانقطاع في العبادة، فهتف به هاتف من ظهره: نحن في ظهرك ذرية صالحة تزوج وأخرجنا وإلا خرجنا من ظهرك، فتزوج بعد ذلك وولد له أولادا تناسلوا بذرية طيبة مباركة صالحة).
وكان الشيخ علوي هذا من آيات الله الكبرى، وهو من أمثال الشيخ ومن مناقبه: ( أنه كان يعرف الشقي من السعيد ويحيى ويميت بإذن الله).
__________
(1) ص: 159).
(2) لم يجعل الله بينه وبين خلقه وسائط في أرزاقهم وحوائجهم، فإنها عقيدة المشبهة ولكن جعل الله رسله وأنبياءه لتبليغ وحيه وشرعه، ولذلك قال الله تعالى: ) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ( [البقرة: 186] للمزيد انظر: رسالة ابن تيمية رحمه الله الواسطة بين الحق والخلق.(106/84)
(وأن الشيخ أبا بكر العيدروس قدس الله روحه، قال لابن أخيه وهو جدي عبد الله ابن شيخ بن الشيخ عبد الله العيدروس:تمن، فقال: ما أريد إلا البركة والدعاء لي بذرية صالحة فقال له: يا عبد الله، سيولد لك من الأولاد الذكور فلان وفلان وفلان وسماهم: أبو بكر وشيخ وحسين)(1) .
أخي القارئ:
ما سردته لك من أمثلة من كتب القوم التي تبين ادعاءهم علم الغيب، وقدرتهم على الإحياء والإماتة، وبعض ما كان خاصا لله عز وجل- إنما ذلك غيض من فيض وأمسكت القلم عن أكثرها خشية الإطالة والسآمة، فانظر كيف صنع بهم الشيطان:
زين لهم الباطل فرأوه حسنا، فإن النصوص الصريحة من الكتاب والسنة أن علم الغيب مما اختص الله به، ولا يطلع على الغيب إلا من ارتضى من رسله، سواء أكانوا بشرا أو ملائكة.
قال الله جل جلاله:) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ( [ الأنعام:59].
وقال في سورة النمل:) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ([النمل:65].
وقال:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ( [ الجن:26-27].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان (2) عند تفسير قوله تعالى:
__________
(1) فإنه بلغ من العلم بما كان قبل ما في الأرحام.. ( فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا).
(2) 2/195-199).(106/85)
) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ( [الأنعام:59]: (يبين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله:) إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ([سورة لقمان] فقد أخرج البخاري وأحمد وغيرهما عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة، والمفاتح الخزائن جمع مفتح بفتح الميم بمعنى: المخزن، وقيل: هي المفاتيح جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح وتدل له قراءة ابن السميقع: مفاتيح بياء بعد التاء جمع مفتاح، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله وهو كذلك؛ لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وعن عائشة رضي الله عنه، قالت: (من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: ) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ([النمل:65]) أخرجه مسلم (1) .
والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله تعالى:) قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى( [الأنعام: 150].
ولذا لما رميت عائشة رضي الله عنه بالإفك، لم يعلم أهي بريئة أم لا؟ حتى أخبره الله تعالى بقوله:) أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ( [ النور:26].
__________
(1) فتمعن أخي فيما ذكرته عائشة فيما ذكره من دعاوى الخرافيين في الكرامات.(106/86)
وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه، قالوا له:) إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ( [ سورة هود].
ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة، ولذا ) وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ( [سورة هود] يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة، حتى قال:) لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ( [سورة هود] ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له:) إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ( [هود: 81] الآيات. ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف. وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له: )أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ( [سورة النمل].
ونوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم حتى قال:) رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ( [هود:45] ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله:) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ( [سورة هود] وقد قال تعالى عن نوح في سورة الأنعام:) قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ( [الأنعام: 55] والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم:) أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31 قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا([سورة البقرة].(106/87)
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل، والملائكة لا يعلمون من الغيب الا ما علمهم الله تعالى، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء، كما أشار له بقوله: ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ( [آل عمران:179] وقوله:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ( [ الجن:26]
تنبيه:
لما جاء القرآن العظيم، بأن الغيب لا يعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين، وبعضا منها يكون كفرا.
ولذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) (1) ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة والكهانة والعرافة والطرق والزجر والنجوم (2) وكل ذلك يدخل في الكهانة؛ لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الإطلاع على علم الغيب.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: (ليسوا بشيء) (3) .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: (فمن قال إنه ينزل الغيث غدا، وجزم به فهو كافر أخبر عنه بإمارة ادعاها أم لا، وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل به الماء عادة، وإنه سبب الماء عادة، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق علمه لم يكفر إلا أنه يستحب له إلا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته؛ لأنه متى شاء مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء، قال الله تعالى: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب) متفق عليه، على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) لمعرفة ذلك انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
(3) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة.(106/88)
قال ابن العربي: (وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، لأن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق.
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن المجملة، أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا، إلى أن قال:(ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما استأثر تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد كقوله: ) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه( [النمل: ه 6] وقوله هنا:) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ( [الأنعام:59] ونحو ذلك) انتهى كلامه رحمه الله.
ونقول لهؤلاء الذين يدعون معرفة الغيب: كيف يمكن أن تعلموا الغيب والني لِلَّهِ
لا يعلم الغيب؟ هل أنتم أشرف أم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن قالوا: نحن أشرف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كفروا بهذا القول، فإن قالوا: هو أشرف فنقول: لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه وقد قال الله عز وجل عن نفسه:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( [ سورة الجن] وهذه آية ثانية تدل على كفر من ادعى علم الغيب (1) .
ونقول كذلك لمن يصدق ما ادعاه الخرافيون من علم الغيب واطلاع عليه: هل هؤلاء أشرف من رسول الله أم اختصوا بالوحي بعد رسول الله أم أن جبريل عليه اللسلام يتواصل مع أئمتهم كما هو معتقد الرافضة ؟
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ العثيمين رحمه الله(ط/ دار الثريا للنشر (ج:6/ 157).(106/89)
قال القرطبي (1) في تفسير قوله تعالى:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا( [سورة الجن] فيه مسألتان:
الأولى: وقال ابن جبير: ) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ( [الجن:27] هو جبريل وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى- أي: اصطفى للنبوة- فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه؛ ليكون دالا على نبوته.
الثانية: قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح الله سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم.
نقل الطبري (2) في تفسير قوله تعالى:) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ( [النمل: ه 6] بسنده إلى عائشة قولها: من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول:) لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ( [النمل: 65].
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (3) : وبهذه الآية- أي
آية سورة النمل- احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها: ومن زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية).
ونقل السيوطي في تفسيره (4) في تفسير قوله تعالى:) لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ( [النمل:65] قول عائشة فقال: أخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت:...فذكر الأثر.
__________
(1) في ( الجامع لأحكام القرآن) (19/29).
(2) في تفسيره(10/ 6).
(3) في تفسيره المحرر الوجيز(4/268).
(4) الدرر المنثور(5/ 213).(106/90)
وقال السيوطي (1) أيضا في تفسير قوله تعالى:) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا 26 إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا( [سورة الجن]: (وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس في قوله:) فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا( [سورة الجن] قال: أعلم الله الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه فيما أوحي إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره).
وقال الحافظ ابن حجر (2) : وفي الآية- أي قوله تعالى:) فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا( رد على المنجمين وعلى كل من يدعي أنه يطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك، لأنه مكذب للقرآن وهم أبعد شيء عن الارتضاء مع سلب صفة الرسلية عنهم.
وقال أيضا في نفس الصفحة: وقد جزم أبو إسحاق بأن كرامات الأولياء لا تضاهي ما هو معجزة للأنبياء، وقال أبو بكر بن فورك: الأنبياء مأمورون بإظهارها- أي المعجزة- والولي يجب عليه إخفاؤها- أي الكرامة- والنبي يدعي ذلك كما يقطع به بخلاف الولي فإنه لا يأمن الاستدراج.
قال الألوسي (3) في تفسير آية النمل: بعدما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب؛ تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث.
وقال أيضا:
__________
(1) في تفسيره(6/ 438).
(2) في فتح الباري(13/ 377).
(3) في روح المعاني(19/ 223).(106/91)
(وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب، بل هو لو سلم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة، فلا ينبغي أن يقال فيهم إنهم عالمون بالغيب وقائله: إما كافر أو مسلم آثم، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى والتأهل له قد يكون فطريا وقد يكون كسبيا وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تحصى.
ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة، بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة).
قال ابن عاشور (1) في تفسير آية الجن: والإتيان بالموصول والصلة في قوله: ) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ([الجن:27] لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الحبر أي يطلع الله بعضا؛ لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ماله تعلق بالرسالة وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة أو أمور الدنيا.
المبحث الثاني: أنهم أعلى مقاما من الأنبياء عامة والنبي صلى الله عليه وسلم خاصة:
__________
(1) في تفسيره التحرير والتنوير(29/ 248).(106/92)
جاء في كتاب تنوير القلوب(1) قوله: ونقل عن الإمام العلامة أحمد ابن محمد الشريف الحموي في كتابه نفحات القرب والاتصال: بإثبات التصوف لأولياء الله تعالى والكرامات بعد الانتقال ما خلاصته: (إن الأولياء يظهرون في صور متعددة بسبب غلبة روحانيتهم على جسمانيتهم، وعن الإمام العلامة الشريف الجرجاني قدس الله سره في أواخر (شرح المواقف) قبيل ذكر الفرق الإسلامية صحة ظهور صور الأولياء للمريدين وأخذهم الفيوض منها حتى بعد الموت) أ هـ (2).
وجاء في كتاب صلة الأهل (3) ما ذكره الشعراني بقوله: (وقد بلغنا أن زوجة سيدي محمد الشويمي صاحب سيدي مدين رحمه الله مات عنها وهي بكر، وقال لها: لا تتزوجي بعدي أحدا فأقتله، فاستفتت العلماء في ذلك، فقالوا لها: هذه خصيصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجي وتوكلي على الله تعالى، فعقدوا لها على شخص، فجاء تلك الليلة وطعنه بحربة فمات من ليلته وبقيت المرأة بكرا إلى أن ماتت وهي عجوز (4) .
وكذلك أخبرني الشيخ زيتون خادم سيدي الشيخ بهاء الدين المجذوب أن زوجته لما جذب، انتظرت إفاقته سبع سنين قلم يفق فاستفتت العلماء فأفتوها بأنها تتزوج، فجاء تلك الليلة حين دخل بها زوجها وطعنهما فماتا جميعا وضرب القاضي فعمي وتكسح إلى أن مات (5) .
__________
(1) ص: 518- 519).
(2) في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) صحيح الجامع: ( 2790) هذا مقام الأنبياء بعد موتهم وانظر إلى مقام هؤلاء بعد موتهم.
(3) ص: 47- 48).
(4) تضمنت هذه القصة ثلاثة أمور: أحدها المنع من تزوج نساء الأولياء، والثاني عودة الولي إلى الدنيا، والثالث قتل النفس بغير حق. خص النبي صلى الله عليه وسلم فقط من دون غيره بالأمر الأول فهم زادوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) فهم فوق الشرع الحنيف، والله عز وجل خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريع فهم فوق ذلك.(106/93)
وجاء في تاريخ الشعراء الحضرميين (1) للسقاف أثناء ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن علي بن حسان الكندي(من مواليد الريدة الشرقية- المشقاص) وله ديوان شعر وقفنا على قصيدة امتدح فيها الفقيه المقدم [منها]:
فسيدنا هذا الفقيه وجاهنا
ڑڑأبو علوي الشيخ زاكي العناصر
ٹڑ
ڑهو ابن علي ذو المعالي محمد
ڑڑأبو علوي ذو العلا والمفاخر
ٹڑ
ڑبه سارت الركبان في كل جانب
ڑڑإلى وكره كم وارد ثم صادر
ٹڑ
ڑحوى الحسن والحسنى حوى اليمن
ڑڑوأمن لنا ننجو به في المحاشر
ٹڑ
ڑمليك له التصريف في الكون كله
ڑڑله كم كرامات وكم من سعائد (2)
وجاء في طبقات الخواص (3) : كتب الشيخ أحمد بن علوان مرة من بلدة كتاب إلى أبي الغيث بن جميل يقول فيه:
جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا
ڑڑحتى انتهيت مراتب الإبداع
ٹڑ
ڑلا باسم ليلى أستعين على السرى
ڑڑكلا ولا لبني تقل شراعي
فأجابه الشيخ أبو الغيث بكتاب يقول فيه: (من الفقير إلى الله تعالى أبي الغيث بن جمل غذى نعمة الله في محل الحضرة: أما بعد.. فإني أخبرك وأتى:
تجلى لي الاسم القديم باسمه
ڑڑفاشتقت الأسماء من أسمائي (4)
ٹڑ
ڑوحباني الملك المهيمن وارتضى
ڑڑفالأرض أرضي والسماء سمائي
وقال أبو بكر بن سالم مولى عينات في قصيدته الموجودة في مجموع مولد الديبعي (5) :
إذا أفلت شموس الكل
ڑڑأنا شمسها ضاحيها
ٹڑ
ڑأنا عرشها والكرسي
ڑڑوأنا للسماء بانيها
وهذه أيضا تنسب لعبد القادر الجيلاني من مولد الديبعي (6) :
__________
(1) ص: 75).
(2) انظر إلى هذا الغلو حتى وصفه بأنه له التصرف في الكون كله. وهذا لم يكن لرسول ولا نبي ولا صديق، وإنما التصريف في الكون لله وحده جل جلاله.
(3) ص:409- 410).
(4) وفي تحفة الزمن في تاريخ اليمن لحسين بن عبد الرحمن الأهدل بدل تجلى لي الاسم، حلا في الملك العزيز باسمه. فانظره( ص: 282) بتحقيق عبد اله الحبشي، أيضا انظر تاريخ الجندي( ص: 333) بتحقيق الأكوع.
(5) ص: 87).
(6) ص: 85).(106/94)
كل قطب يكوف بالبيت سبعا
ڑڑوأنا البيت طائف بخيامي
ٹڑ
ڑكل قطب وكل فرد وشيخ
ڑڑتحت حكمي يصغي لطيب كلامي
ٹڑ
ڑيا فقيري إن كنت معناك معنـ
ڑڑباتصالي ورفعتي ومقامي
ٹڑ
ڑأنا علم العلوم والدرس شغلي
ڑڑأنا شيخ القراء وكل إمام
ٹڑ
ڑأنا سر الأسرار من سر سري
ڑڑكعبتي راحتي وبسطي ومقامي
ٹڑ
ڑوفقيري إذا دعاني بشرق
ڑڑأو بغرب أو نازح بحر طامي
ٹڑ
ڑقالت الأولياء جميع بعزم
ڑڑأنت قطب على جميع الأنام
ٹڑ
ڑأنا في سجدتي أرى العرش حقا
ڑڑوجميع الأملاك فيه قيام
ٹڑ
ڑسائر الدنيا كلها تحت حكمي
ڑڑوهي في قبضتي كفرخ الحمام
وجاء في تاريخ النور السافر (1) :(وذكر العلامة بحرق في كتابه (موهب القدوس في مناقب ابن العيدروس) وقال: إني قلت مرة له: إن أحوال سيدي الشيخ أبي بكر أشكلت علينا، فقال: دعها تحت حجابها مستورة بسحابها، فلوا أشرقت شمسه لأحرقت الوجود كله (2)، أما ترانا نقف على أبوابه، ونكتفي بتقبيل أعتابه، قال: وهكذا كان رحمه الله يقبل العتبة وينصرف).
وفي (ص:32) قال: (كان بعض الأولياء يقول في حقه (أي عبد الله بن أحمد مخرمة):
إنه من الأربعة الأوتاد الذين يحفظ الله بهم البلاد والعباد، يغيث بهم الحاضر والباد، وكان رحمه الله يقول: عمري سبعون سنة. فكان كذلك.
وجاء في كتاب كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية (3) في قصيدة مدح
فيها الفقيه المقدم:
أنت عين الزمان في كل عصر
ڑڑلك بالإرث كان كاف الخطاب
__________
(1) ص: 28).
(2) إن هذا الأمر لم يقل في نبي مرسل، ولكنه الغلو فماذا أبقى لله؟ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ربه في صحيح مسلم وقال: ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
(3) ص: 37).(106/95)
صاحب الوراثة تخاطبه الحضرة الأحدية بكاف الخطاب، مثل خطاب الحبيب صلى الله عليه وسلم فمثل ما قال له: إنا فتحنا لك خاطب الوارث، ومثل ما قال له: ألم نشرح لك صدرك خاطبه مثله، حضرة العارف وسيعه جم؛ لأنه يشهد الله في كل ذرة من ذرات الوجود، ويتسع فيها نشهده في الحضرة الأحدية ويستمد من الحضرة المحمدية وينزل عليه مدد جديد وهلم جرا، والعارف وسيع، لأنه ينظر بعينه جميع الوجود ويسمع بإذنه جميع
الموجودات)(1) .
وفي (ص:42) قال: (قال الشيخ عبد العزيز الدباغ في قول أبي يزيد: خضت بحرا وقفت الأنبياء بساحله: إن بعضهم جعلوا له تأويلات وليس كما قالوا بل الكلام على بابه، فقيل له:كيف ذلك؟ فقال: إن الوارث للمقام المحمدي تخلع عليه خلعة الوراثة وليس هذا الكلام من قول أبي يزيد، بل هو من قول الخلعة) (2) .
__________
(1) فإذا كان كذلك فهو الله، تعالى الله عما يقولون الظالمون علوا كبيرا.
(2) فهو يتكلم بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحولت ذاته إلى ذات رسول الله فانظر إلى هذا الضلال والبهتان.(106/96)
وفي (ص:228) قال: (قال معروف الكرخي: لو شفعني ربي في جميع الناس ما هو كبير أمر بل في شيء سهل وهو لغمة طين؛ لأن آدم خلق من طين وعياله خلقوا منه) (1) . وجاء في جامع كرامات الأولياء للنبهاني: (وقال المناوي: من كراماته- أي: محمد ابن علي بن محمد الحاتمي محيي الدين ابن عربي- أنه قال تلميذه الصدر القونوي الرومي: كان شيخنا ابن عربي متمكنا من الاجتماع بروح من شاء من الأنبياء والأولياء الماضين على ثلاثة أنحاء، إن شاء استنزل روحانيته في هذا العالم، وأدركه متجسدا في صورة مثالية شبيهة بصورته الحسنة العنصرية التي كانت له في حياته الدنيا، وإن شاء أحضره في نومه، وإن شاء انسلخ من هيكله واجتمع به.
وقال الشعراني في كتاب (الأجوبة المرضية): (وذكر الشيخ محيي الدين في باب الحج
من الفتوحات المكية: أن الكعبة كلمته، وكذلك الحجر الأسود، وأنها طافت به ثم تلمذت له وطلبت منه ترقيتها إلى مقامات في طريق القوم، فرقاها لها وناشدها أشعارا وناشدته. فراجعه)
وفي (ص: 220) في ذكر كرامات محمد بن عمر أبي بكر بن قوام، قال: (وقال: وعزة المعبود لقد أعطيت حالا لو قلت لبغداد كوني مكان مراكش أو عكسه لكان ذلك) وف ي(ص: 1/ 261) في ذطر كرامات محمد بن حسن المعلم باعلوي قال: (واشتهر أن الشيطان تعرض بالأذى، فأمسكه واستخدمه في أموره حتى أنه غرس نخلا وجعله يسوق الماء إليه، وكان له إطلاع على أهل البرزخ، ويجتمع بجماعة منهم).
__________
(1) الله جعل شفاعة النبي للخلائق أمرا عظيما وجائزة كبيرة، يقول تعالى: ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)[الإسراء:79] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: ( فإنها منزلة لا تكون إلا لعبد أرجو أن أكون).(106/97)
وفي (ص: 1/ 589- 590) في ذكر كرامات إسماعيل بن محمد الحضرمي أبي العباس قال:(ومن ذلك ما يحكى أنه قصد مدينة زبيد في بعض الأيام، فقاربت الشمس الغروب وهو بعيد من المدينة، فخشي أن تغلق الأبواب دونه، فأشار إلى الشمس أن تقف فوقفت حتى بلغ مقصده. ومن كراماته ما حكاه الإمام اليافعي رحمه الله قال: أخبرني بعض أهل العلم عن الإمام محب الدين الطبري أنه قال: كنت مع الفقيه إسماعيل الحضرمي في مقبرة مدينة زبيد فقال: يا محب الدين تؤمن بكلام الموتى؟ فقلت: نعم، إن صاحب هذا القبر يقول لي: أنا من حشو الجنة).
ومن ذلك ما يحكى أنه مر في بعض الأيام بمقبرة زبيد، فبكى بها بكاء عظيما ثم ضحك بعد ذلك، فسأله بعض من كان عنده عن ذلك: فقال: كشف لي عن حال هؤلاء فرأيتهم يعذبون، فشفعت فيهم، فقالت صاحبة هذا القبر: وأنا معهم يا فقيه، فقلت من أنت؟ فقالت. فلانة المغنية، فضحكت وقلت: وأنت معهم، ثم سأل عن ذلك القبر فقيل له قبر تلك المغنية المذكورة.
وقال المناوي: وحكى وقوف الشمس له السبكي على وجه آخر فقال: مما حكى من كراماته واستفاض أنه قال لخادمه وهو في سفر: قل للشمس تقف حتى نصل إلى المنزل، وكان في مكان بعيد وقد قرب غروبها فقال لها الخادم: قال لك الفقيه إسماعيل: قفي، فوقفت حتى بلغ مكانه، ثم قال للخادم: أما تطلق ذلك المحورس؟ فأمرها الخادم بالغروب فغربت وأظلم الليل في الحال.
وفي (2/60) قال:(عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله اليمني الفقيه المفسر الصوفي من كراماته أنه كان لا يمس شيئا من الدنيا مع كثرة عياله، وينفق من الغيب، فيقبض من التراب ويخرج بكفه قدر مطلوبه عددا ووزنا، وأعطى ابنه مرة قطعة حلوى من سقف البيت وكان يكلم الموتى ويكلمونه.(106/98)
وفي (2/ 84) قال: (ومن كراماته- أي: زين العابدين بن عبد الرؤوف المناوي- أن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يخاطبه من قبره، وكان في بعض الأحيان يخرج يده من القبر ويضع له في يده شيئا، قال: وما زرته يوما إلا رأيت عند قبته نهرين، على أحدهما حمامة بيضاء وعلى الآخر حمامة خضراء، وكان يرى جده الشرف يحيى المناوى وهو جالس في قبره وعليه ثياب سود، وهو يكلمه ويباسطه ويدعو له).
وجاء في كتاب صلة الأهل (1) قال: (وعن الفقيه أحمد بن محمد بن أبي فضل، قال: قال أبو اليمن الطبري المكي رضي الله عنه إذا أتى أحد من الخواص إلى قبر الفقيه فضل ابن محمد بن أبي فضل ليزوره أخرج الفقيه يده من قبره وصافح من يأتيه).
أخي القارئ:
إن ما جمعته لك هو غيض من فيض، لنتعرف على حال هؤلاء وكيف وصل بهم الغرور الإبليسي إلى التطاول على مقام النبوة فلم يهابوه ولم يعظموه فاجترأوا عليه، فجعلوا لأنفسهم مقاما يضاهي مقام النبوة ويفوقها وجعلوا لهم من التخصيص ما خص به الأنبياء.
بمجرد ما يقرأ الإنسان قصصهم هذه أو يسمعها يعرف حقيقتهم، ولكن من أجل أن تزداد أخي القارئ طمأنينة أقدم لك كلام العلماء فيمن ادعى لنفسه مقاما فوق مقام الأنبياء أو مساويا لهم أو استخف بما جاءوا به والله الموفق والهادي إلى الصواب.
قال الإمام الطحاوي الحنفي (المتوفى:321 هـ) في كتابه [بيان السنة] المسمى بالعقيدة الطحاوية: (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء).
قال القاضي علي بن علي بن أبي العز الحنفي (المتوفى:792 هـ) في شرحه على كلام الإمام الطحاوي السابق: (يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة
__________
(1) ص: 90).(106/99)
وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم) ثم قال: (وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير طريقهم ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء.
ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم فإنه كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لما تختم وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين وأن الأنبياء مستفيدون منها). ثم قال: (فمن كفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة الذهب وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول ).
فال الألوسي في مختصر التحفة (1) في الرد على الشيعة بقولهم إن الأئمة أعلى مقاما من الأنبياء إلا النبي صلى الله عليه وسلم: (وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة، فقد روي الكليني عن هشام الأصول عن زيد بن علي أن الأنبياء أفضل من الأئمة وأن من قال غير ذلك فهو ضال).
قال العلامة محمد السفاريني الحنبلي في (لوامع الأنوار البهية) (2) : (وعلم مما ذكر ولاسيما من قوله (بالجزم) رد زعم من زعم أن الولي قد يبلغ درجة النبي كما يحكى عن الكرامية، بل زعم بعض الصوفية أن الولاية أفضل من النبوة، قالوا: لأنها تنبح عن القرب والكرامة).
__________
(1) ص: 100).
(2) 2/ 301).(106/100)
قال الإمام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي[826-926 هـ] في كتابه (أسنى المطالب شرح روض الطالب) للإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني (1) في الكلام عما تحصل به الردة: (أو كذب نبيا) في ثبوته أو غيرها (أو جحد آية من المصحف مجمعا عليها) أي على ثبوتها (أو زاد فيه كلمة معتقدا أنها سنة أو استخف بني) بسب أو غيره (أو سنة) كأن قيل له قلم أظفارك فإنه سنة فقال: لا أفعل وإن كان سنة.
وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي أيضا في كتابه (لوامع الأنوار البهية) (2) :
الولاية موهبة من الله تعالى غير مكتسبة ولا يصل الولي ما دام عاقلا بالغا إلى مرتبة سقوط التكليف عنه بالأوامر والنواهي، ومن زعم ذلك فهو إلحاد وزندقة، وأن زعمه من زعمه من بعض الكرامية ومن نحا نحوهم من أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى.
قال الإمام تقي الدين أبو بكر بن عمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي[752- 829هـ] في كتابه كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار المسمى (متن أبي شجاع) (3) :
فصل في الردة: في ذكر ما تحصل به الردة: (وكذا لو ادعى أنه أوحي إليه وإن لم يدع النبوة أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها وأنه يعانق الحور العين فهو كافر بالإجماع ومثل هذا وأشباهه كما يقوله زنادقة المتصوفة قاتلهم الله ما أجهلهم وأكفرهم وأبله منهم من اعتقدهم، ولو سب نبيا من الأنبياء أو اسخف به فإنه يكفر بالإجماع).
قال القاضي عياض في الشفا (4) : (... وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم
يدع النبوة، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم).
قال ابن حزم في مراتب الإجماع (5) : (اتفقوا أن دين الإسلام هو الذي لا دين لله في الأرض سواه وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله وأنه لا ينسخه دين بعده أبدا وأن من خافه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبدا).
__________
(1) 4/ 116).
(2) ص: 396).
(3) 2/ 272).
(4) 2/ 1070).
(5) ص: 167).(106/101)
قال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج (1) : (من نفى الرسل بأن قال لم يرسلهم الله أو نفى نبوة نبي أو ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو صدق مدعيها أو قال النبوة مكتسبة أو تنال رتبتها بصفاء القلوب أو أوحي إليه ولم يدع النبوة... فقد كفر)(2).
قال القاضي عياض في الشفا: (من استخف بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم... فهو كافر بالإجماع) (3) .
وقال ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق: (ويكفر بعيبه نبيا بشيء) (4) .
وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج: (من كذب رسولا أو نبيا أو سبه أو استخف به أو باسمه... فقد كفر) (5) .
وقال أحمد الدردير المالكي في الشرح الصغير على أقرب المسالك: (من سب نبيا مجمعا على نبوته أو عرض بسب نبي بأن قال عند ذكره: أما أنا فلست بزان أو سارق فقد كفر. وكذا إن ألحق بني نقصا ببدنه كعرج وشلل أو وفور علمه إذ كل نبي أعلم أهل زمانه) (6).
المبحث الثالث: القدرة على الضر والنفع وإجابة المضطر:
جاء في جامع كرامات الأولياء (7) في ذكر كرامات (محمد بن أبي كير الحكمي اليمني): (أنه جاء إلى موضع كثير الشجر، فقال لشجرة: اعوجي، فاعوفي شجر ذلك المكان كله وصار يعمل منه كله الحرث للناس).
__________
(1) 4/ 135).
(2) وانظر أيضا نهاية المحتاج للرملي(7/ 395).
(3) 2/ 1069).
(4) 5/ 130).
(5) 4/ 134) وانظر نهاية المحتاج للرملي( 7/ 395).
(6) 6/ 149).
(7) 1/ 196- 197).(106/102)
ومنها: ما حكاه الفقيه حسين الأهدل في تاريخه، أنه لما ترثي الشيخ علي الأهدل وصل الشيخ أبو الغيث بن جميل للعزاء به وهم بالإقامة في موضع شيخه الشيخ علي المذكور، وكان الشيخ علي قد قال أنه سيفعل ذلك، وأوصى أنه لا يقر على ذلك، فلما كان اليوم الثالث. قال الشيخ محمد الحكمي للشيخ أبي الغيث: لا تبت الليلة هنا أنت ولا أحد من فقرائك، فإن من بات منكم مات فانصرف الشيخ أبو الغيث وكافة أصحابه، وتأخر منهم واحد مستبعدا كلام الشيخ محمد الحكمي وأمسى هنالك فما أصبح إلا ميتا، فقال الشيخ محمد: هكذا يفعل أبو الغيث ماله سكنى بتهامة ما دمت حيا، فلم يكد يستقر الشيخ أبو الغيث بتهامة حتى مات الشيخ محمد الحكمي، وأقام في الجبال نحو ست عشرة سنة.
ويروي أنه كان كلما هم بالنزول يرميه الحكمي بأحواله، فلما مات الحكمي كان يفك من رجليه شيئا كالقيد ويقول: هذا من أثر ما كان يرمينا به الشيخ محمد الحكمي.
وفي (1/222) في ذكر كرامات محمد بن عبد الله ابن الأستاذ الأعظم الشهير بالنقيطي ومن كراماته: (أن جماعة الصبرات حصل منهم أذى لبني علوي بعد موته، فرآه بعض أصحابه في المنام يقول: أنا النقيطي، وكان يعرف به في حياته وكبر في أربعة مواضع فلما أصبحوا وجدوا أربعة من مشايخ الصبرات كل واحد مقتول في محل من مواضع التكبيرات. قاله في المشرع الروي) (1) .
وفي (1/ 253) في ذكر كرامات أبى عبد الله محمد بن عمر الدبر: (أنه كشف له مرة الشيخ أبو بكر ابن علي الأهدل رمى يوما بالقوس إلى بعض الظلمة وهو في قبره وذكر الفقيه محمد أنه سمع طنين السهم بإذنه) (2) .
__________
(1) بمثل هذه الخرافات والترهات يزرعون في قلوب الناس الخزف والرعب منهم أحياء وأمواتا وأن لهم القدرة على الضر والنفع.
(2) فلا داعي للأمة أن اعد العدة للمجرمين أينما كانوا وإنما يكفيها مثل هؤلاء فما عليها إلا أن تلجأ إلى قبورهم فبمثل ذلك يغرسون التعلق بالقبور.(106/103)
وفي(1/ 258) في ذكر كرامات محمد بن عبد الله ابن محمد مولى الدويلة: (أن ابنته سقطت من ظهر جمل على مكان كثير الحجارة وكان هو بالشحر فرآه بعض أصحابه كأنه أمسك شيئا، فسأله عن ذلك فقال: بنتي علوية طاحت فأمسكتها بيدي، فكان سقوطها في ذلك الوقت ولم يصبها شيء وقالت ابنته: لما سقطت غبت عن حسي ورأيت والدي حملني ووضعني على الأرض).
وفي (1/ 272): قي ذكر كرامات محمد بن أحمد الفرغل الصعيدي قال: (وخطف التمساح بنت مخيمر النقيب، فجاء وهو يبكي إلى الشيخ فقال له: اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه وناد بأعلى صوتك: يا تمساح، تعال كلم الفرغل، فخرج التمساح من البحر وطلع كالمركب وهو ماشي والخلق بين يديه جارية يمينا وشمالا إلى أن وقف على باب الدار، فأمر الشيخ الحداد بقلع جميع أسنانه وأمره بلفظها من بطنه، فلفظ البنت حية مدهوشة، وأخذ على التمساح العهد أن لا يعود يخطف أحدا من بلده ما دام يعيش، ورجع التمساح ودموعه تسيل حتى نزل البحر).
وكان رضي الله عنه يقول:كثيرا كنت أمشي بين يدي الله تحت العرش وقال لي كذا وقلت له كذا، فكذبه شخص من القضاة، فدعا عليه بالخرس حتى مات) (1) .
وفي (1/ 291) في ذكر كرامات محمد بن عنان شيخ الشعراني: (أن شخصا كان زمنا في جامع إسكندرية وكان كل من تشوش منه يقول: يا قمل اذهب إلى فلان، فتمتلئ ثياب ذلك الشخص قملا حتى يكاد يهلك فبلغ سيدي محمد رضي الله عنه ذلك وهو في زيارة كوم الأفراخ فقال: اجمعوني به، فجمعوه به فقال له: أنت ما عرفت من طريق الله إلا القمل، ثم أخذه بيده ورماه في الهواء، فغاب عن أعين الناس من ذلك اليوم فلم يعرف أحد أين رماه الشيخ).
__________
(1) فياله من كذب سخيف وإرهاب عجيب حتى لا يتجرأ عليهم أحد بالإنكار.(106/104)
وفي(1/ 297) في ذكر كرامات محمد الشربيني قال: (وكان إذا أراد أن يعدي في البحر يقول له المعدي: هات كرة، فيقول الشيخ: عدنا لله يا فقير فيعديه، فأبى عليه يوما وقال له: زمقتنا بحمارتك، فقال الشيخ: ها الله وطأطأ الإبريق فأخذ ماء البحر كله فيه ووقف المركب على الأرض، فاستغفر المعدي وتاب، فصب الإبريق في البحر ورجع الماء كما كان.
وكان إذا احتاج لضيفه أو لبينه عسلا أو لبنا أو شيرجا أو غير ذلك فيقول للنقيب:
خذ هذا الإبريق واملأه من ماء البحر، فيملؤه عسلا أو لبنا أو غير ذلك وفق ما يحتاج إليه وكان بعض خطباء مكة المشرفة ينكر على الشيخ، فكان الخطيب ذات يوم يخطب على المنبر فأحدث، أو تذكر له قد احتلم ولم يغتسل، وكان الشيخ حاضرا فمد الشيخ إليه يده، فوجد كم الشيخ مثل الزقاق، فدخله فوجد مطهرة وماء فتطهر وخرج من كم الشيخ، فزال إنكار الخطيب).
وفي (1/431) في ذكر كرامات أبو بكر بن علي بن عمر بن الأهدل اليمني وهو شيخ الشيخ أبو الغيث: (أن جماعة من جيرانهم في القرية كانوا يؤذون أولاد الشيخ وأولاد أخيه فيشكون إليه، فيقول: اصبروا فإنهم يفنون عن قريب ولم يبق منهم إلا من يخدمكم، فكان كذلك، وكان يخبر بأمور لم يتخلف منها شيء.
ومنها: أن ولده خرج بعد موته إلى قبره يشكو له الملك الأفضل قال الراوي: فركب سهما من قوس عن قبره ثم رمى بها جهة الأفضل حتى سمع الحاضرون طنين السهم فحين انفصل عن القوس من القبر جاء الخبر بعد ذلك بموت الملك الأفضل، وهذه الكرامات ذكرها الزبيدي في طبقات الخواص).
وفي (1/ 525) في ذكر كرامات أحمد بن الأستاذ الأعظم باعلوي: (أن جماعة من أصحابه استغاثوا به وتوسلوا إلى الله به، فنالوا مطلوبهم وظفروا بمرغوبهم).(106/105)
وحكي أن بعض فقرائه حبسه الوالي فاستغاث به فأمر الوالي بفكه من الحبس فقال له الحباس: (لا أفكك إلا أن تعطيني عادتي، فقال له: وإذا فكت نفسي لا تعترضني بشيء، قال: نعم، فتوسل بشيخه المذكور فانفك القيد وذهب إلى سبيله).
ومنها أن الكمال بن الهمام زار قبره فقرأ عنده سورة هود حتى وصل إلى قوله:
) فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ( [ سورة هود] فأحاله من القبر بصوت عال: يا كمال ليس فينا شقي، فأوصى بأن يدفن هناك) (1) وهذه مذكورة في كرامات أحمد بن محمد بن عطاء السكندري الشاذلي.
وفي(2/360) في ذكر كرامات علي بن محمد باعلوي الشهير بصاحب الحوطة قال: ( وله محل بالقرب من مدينة تريم يعرف بالحوطة، وكان يتعبد فيه، وغرس فيه نخلا فصار روضة مهمورة وبالفضل مغمورلاة وصارت مشهورة ومن أساء الأدب فيها باء بعظيم النكال ووقع في أهوية الوبال وكل دابة أضرت بزرعه ماتت في الحال، وقيل: إن بدويا أخذ شيئا من ورق سدرة فقيل له: إنه يضرك فقال: إنما أريده لشعر رأسي، فلما استعمله سقط شعره كله).
وحكي أن محمد بن أحمد بن جبارة أخذ شيئا من قصب زرعه ظلما، فلما أراد أن يحمله خادمه لم يقدر أن يقلعه من الأرض فنادى جماعته يساعدونه فلم يقدروا فجاءهم صاحب الترجمة وهم في تلك الحالة، فاعتذروا واستغفروا وندموا، فقال لهم: خذوه الآن حلالا طيبا.
ومنها أنه دخل عليه تلميذه محمد بن حسن قبل أن يتزوج فقال له: تزوج فإني أرى في صلبك ابنا أمه من غير آل باعلوي، فتزوج مانية بنت الشيخ عبد الله بن محمد بن حكم باقشير فولدت له ولده عبد الله.
__________
(1) فإن المقبرة التي قبر فبها السكندري الشاذلي ليس فيها شقي وهذا إخبار عن أمر غبي فماذا يفهم الجاهل من ذلك؟ فإنه فتح باب إلى ترك الطاعات والوصية بالدفن في المقبرة المذكورة.(106/106)
وفي (2/ 434) في ذكر كرامات أبي الغيث الشحري اليمني، قال: (إنه كان تجار اليمن وغيرهم يستغيثون به في شدائد البحر ومضايق البر، فيجدون بركة الاستغاثة به، وينذرون له أشياء يرسلون بها إليه إذا تم غرضهم.
وفي(1/ 418) في ذكر كرامات عمر المحضار: (أن أملاكه كلها لا يدع أحدا يحرسها، ومن أخذ منها شيئا عوقب في الحال حتى أن زرعه إذا أكلت منه دابة لغيره بلا إذنه ماتت في الحال.
وحكي أن غرابا أكل من نخلة فطرد ثم عاد فمات لوقته. وشكا إليه بعض عماله كل الظباء لزرعه، وأن بعض جيرانه يسخر به لذلك، فأمره أن ينادي الظباء إذا دخلت زرعه بأن يذهبن إلى زرع ذلك الذي سخر ففعل، فخرجت كلها من زرعه إلى زرع ذلك الشخص إلا ظبيا واحدا فجاء إليه وذبحه.
وجاء في كتاب (صلة الأهل) (1) قال: (وقعت فتنة بين والي تريم وبعض القبائل، بعد وفاة الفقيه فضل بن محمد رضي الله عنه ولعبد الله ولد الفقية فضل المذكور زرع بتريم وللزرع خادم يحرسه فكان ذلك الخادم يهتف كل ليلة بالفقيه فضل يستغيث به خوفا على زرع ولده من المفاتنين لوالي تريم فبينما ذلك الخادم قائم ذات ليلة إذ رأى الفقيه يطوف بذلك الزرع ومعه بعض غلمانه، ثم أتى إليه الفقيه وقال: كم تهتف بنا فإنا لا نغفل نم وأطب نومك، ثم أتى بعد ذلك سارق إلى ذلك الزرع وأخذ شيئا من سنبله، وذهب به إلى منزله وجهشه بالنار، فلما أراد أن يأكله ذاقه في فمه شديد المرارة ولم ينذق له ولا لغيره.. انتهى من الجوهر الشفاف) (2) .
__________
(1) ص:90).
(2) فهذا يقرر: (أ) أن الأموات يخرجون من قبورهم ويخاطبون الأحياء وخاصة الأولياء. (ب) أنهم يغيثون من استغاث بهم. (ج) أنهم لا تأخذهم- أي: الأولياء- غفلة.(106/107)
وفي (ص:157-158) قال: (إن سيدي الوالد العالم العلامة الشهير أحمد بن سيدنا الفقيه عبد الله المذكور قل: من كانت له حاجة وأراد قضاها كائنة ما كانت، فليصل ركعتين في مسجد ابن عمران ثم يزور قبر سيدي الفقيه عبد الله بنية قضاء حاجته فإنها تقضى بقدرة الله تعالى وقد جرب وتم بإذن الله تعالى فاعتقده، وقال سيدي العم يس سرق علي كتاب المنهاج في الفقه، وبقي سنة وشهرين وآيست منه فلا زمت قبر الفقيه في رجوعه- أي: الكتاب- فرجع بعد طول هذه المدة، وجدناه على منبر الجامع الشريف بالشحر ببركته رضي الله عنه).
قال لي بعض السادة الأشراف: لازمت قبر الفقيه عبد الله- أي: عبد الله بلحاج بافضل- في حصول شيء فحصل من غير تعب ببركته نفع الله به انتهى. قلت- أي: مؤلف صلة الأهل-: وللعلامة النحرير الشيخ عبد الرحمن باكثير هذه الأبيات في كيفية زيارة الشيخ بلحاج بغية قضاء الحاجة شعرا:
والشيخ عبد الله بافضل الذي
ڑڑبكماله يتمثل المتمثل
ٹڑ
ڑفاقصده من باب الشمال ومر من
ڑڑالثاني وذلك بعدما تتنقل
ٹڑ
ڑبتحية في صدر باعمران
ڑڑواعمل بالشروط لكي بها تتوصل
ٹڑ
ڑفمن اقتفى تلك الشروط طالبا
ڑڑتحصيل أمر كيف لا يتحصل
ٹڑ
ڑكل الكروب بفضله مكشوفة
ڑڑلمؤمليه وكل وعر يسهل (1)
__________
(1) فما ذكره المؤلف تقرير لأمور:
الأول: أنهم يقدرون على الضر والنفع وإجابة المضطر.
الثاني: سؤال أهل القبور الحوائج والعكوف عند مقابر الأولياء.
الثالث: الله يقضي الحوائج بالسؤال: ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني).[ البقرة: 186] ومن أفضل الأوقات ثلث الليل الأخير، وهؤلاء يقضون الحوائج بصلاة ركعتين في مسجد ابن عمران وزيارة قبر المذكور بلحاج.
الرابع: إن زيارة قبورهم طقوسا من سار عليها حصل على مطلوبه.
الخامس: القدرة على كشف كل الكروب مثل الله والله يقول: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).[ النمل:62].(106/108)
وفي (ص:268) في ذكر كرامات عبد الله بن فضل بن عبد الله بن عبد الرحمن بافضل
قال: (ومن كراماته ما تناقله الثقات أن رجلا كريبا، قدم إلى تريم في عصره وله معرفة بعلم الحرف والاسم، فسكن بيتا في القارة، التي يقال لها قارة باجرش، بينما هو يسير يوما، إذ مر تحت بيت صاحب الترجمة بالخليف فرأى بنتا للشيخ حول البيت، فوقعت في قلبه، ورام أن يتزوجها، فقيل له: لا سبيل إلى ذلك ولا يرضى الشيخ، ولو بذلت له ما بذلت، فأصلح ثوبا وكتب فيه شيئا من الأسماء، وأوصله إليها بواسطة امرأة، فلما لبسته البنت أخذها اضطراب وخوف شديد، وكادت أن تطير مما عراها، فلما رأى ذلك أبرها نزع عنها الثوب، ورماه من كوة في ذلك البيت، فطار الثوب حتى لحق بصاحبه ومحل تلك الكوة معروف إلى الآن، فحار ذلك الرجل في أمره وقال: ما هذا التصريف؟ أردنا الشخص فعاد إلينا الثوب، فأرسل إلى الشيخ يستأذنه في الزيارة، فأمر خادمه أن يقطع له سواكا من أراكة له ويروح إليه، ويقول له الشيخ يعذرك الزيارة، وهذا السواك هدية لك منه، فتفضل بقبوله، فأخذه منه قائلا: هدية المؤمن سواك، ووضعه في فمه ليستاك به، فاستحال حية تنهش حنكه، فاستغاث بالخدام فقال له: اخرج معي إلى الشيخ ليخلصك مما أنت فيه، فخرجا معا والحية بحالها، فلما وصلا حول بيت صاحب الترجمة، مد الرجل يده، إلى الشيخ معتذرا مستغفرا مما جرى منه، فقال له: بشرط أن تسافر من البلد من وقتك هذا فأعطاه العهد على ذلك، وأمر خادمه أن يتبعه إلى خارج البلد، فلما جاوز العمران، أخذ الخادم السواك فصار على حالته حين قطع) (1) .
__________
(1) هذه الحكاية التي جمعت بين السحر والخرافة والكهانة كذلك هي أساليب الخوف والرعب والإرهاب الذي يبثه هؤلاء في قلوب العامة؛ لكي يكونوا طوعا لهم، وتأصيل الاعتقاد فيهم بالقدرة على الضر والنفع وأنهم لا يعجزهم شيئا.. فتنبه.(106/109)
وجاء في كتاب تذكير الناس (1) قال: (وحكى سيدي الحبيب علي الحبشي لسيدي أحمد رضي الله عنه أن رجلا من أولياء الله كان يتهم بالفطر في رمضان فأراد بعض الناس أن يختبره فجاء إليه حين هل هلال رمضان، وطلب منه أن يكون عنده حتى ينقضي شهر رمضان فأجابه إلى ذلك واشترط عليه الشيخ أن يكون معه في خلوته وحدهما فصاما أول يوم في رمضان ورمي مدفع الإفطار في البلد فأفطرا ثم صاما اليوم الثاني ورمي مدفع الإفطار فأفطرا وهكذا حتى مرت عليهم ثلاثون يوما يصومان كل يوم ثم دخل شوال ورميت مدافع العيد فقال للشيخ: الآن انقضى رمضان وأريد الخروج فأذن له وخرج من عنده فكان إذا مر بأحد بدأه بالتهنئة بالعيد فقيل له: أتستهزئ بت أم بك جنون؟ كيف تهنينا بالعيد؟ ونحن بأول ليلة من رمضان، قال: وكيف وأنا صمت رمضان كله؟ ويرجع باللوم على نفسه وصدق بولاية ذلك الشيخ.
وحكى سيدي رضي الله عنه أنه دخل بعض الأولياء السياحين إلى تريم مع غروب الشمس فحبس الشمس عن الغروب ليصلي العصر فأشرفت عليه امرأة من بيتها وكاشفته وقالت له: فك الشمس علينا لنفطر (2) .
__________
(1) ص: 254- 255).
(2) هذه هي أساليبهم في الإرهاب وقذف الرعب في قلوب الناس ولا يبالون بما يظهرون من مخالفات شرعية لنصرة مذهبهم الخرافي، في الأولى صوم الرجل شهرا بالسحر وتركه يهنئ الناس ولم يبال بما يؤول إليه أمر الرجل من الفطر والسخرية، وفي الثانية حبس الشمس عن المسلمين من أجل أن يصلي وهو أخرها اختيارا ورسول الله في الخندق صلى المغرب مع أصحابه كما في الصحيحين وكذلك صلى الصبح عندما قفل من الغزوة بعد طلوع الشمس. فلم يسع هؤلاء ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أم ماذا؟ إلا أن يقال أنهم
أعلى مقاما ويتميزون بعلم الحقيقة.(106/110)
وجاء في كنوز السعادة الأبدية (1) قال:(كان الأولون يمتحنون المريدين مثل قضية الشيخ عمر بامخرمة مع شيخه عبد الرحمن الأخضر لما أراد أن يتحكم له قال: با أشرط عليك ثلاث خصال، فقال: ما هي؟ فقال له: الأولى اطلع إلى فوق جبل عمران وكان هذا الجبل من أطول الجبال واطمر- أي: اقفز- من فوقه فقال: مرحبا، فطلع إليه أول النهار ولم يبلغ رأسه إلا في العشية وطمر فتلقاه شيخه ووصل إلى الأرض سالما. فقال له: طمرت وأنت مفتح عينيك أو مغتض؟ فقال له: بل مغمض، فقال له: ارجع واطمر وأنت مفتح فقال: مرحبا. وطمر مرة ثانية وهو مفتح ووصل سالما إلى الأرض ثم قال له: والخصلة الثانية إذا قام الناس إلى الصلاة واستقبلوا القبلة فاستقبل أنت المشرف، فقال في نفسه: وهذه أعظم بلية في الدين وفي الصلاة، قال الشيخ عمر: إني لما توجهت إلى المشرق لأصلي شاهدت عين الكعبة وصليت إليها، ثم قال له: والخصلة الثالثة اطلع إلى عدن فإذا خرج السيد أبو بكر عبد الله العيدروس في موكبه فقل له: يا أبا بكر بن عبد الله إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، فلما وصل إلى عدن وجد الأزقة مفروشة للعدني وفرسه، فلما خرج احتفت به الخلائق من كل جانب، فقال الشيخ عمر: كيف البصر إن تكلمت في هذا الجمع بما أمرت بايتقربون إلى الله بذبحي وإن سكت خالفت أمر شيخي؟ فجلس في محل بعيد وقال في نفسه: يا أبا بكر بن عبد الله إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا فكشف عليه الحبيب أبو بكر وهو بعيد منه في موكبه وأجابه بقوله: خرقنا الأرض وبلغنا الجبال طولا، وأشار بأصبعه إليه فتلقاها شيخه الأخضر من بلده هينن فخرقت يده، وقال للشيخ عمر: وأنت لك الحرقة، فقال له: قل في الدنيا فقال: في الدنيا، ثم قال سيدي: شوفوا كيف هذا الاختبار من الشيخ الأخضر والمحبة الصادقة من الشيخ عمر)(2)
__________
(1) ص:169- 171).
(2) هذه المحبة عندهم طاعة المريد لشيخه ولو كان بمخالفة الشرع وإلقاء النفس إلى التهلكة.(106/111)
.
وفي (ص:357) قال: (وأضاف رجل بعض الصوفية هو ومريديه فلما قدم لهم الأكل قال الشيخ لمريديه: قفوا عن أكل هذا الطعام وكله هو كله ثم خرجت منه شعلة نار وقال لهم: إن الطعام نار وأنا لا تضرني وقدرت على إخراجها وأنتم لا تقدرون على ذلك).
أخي القارئ:
ما سردته لك في هذا الفصل من أمثلة من كتب القوم التي تبين قدرتهم المطلقة على الضر والنفع وإجابة المضطر؛ لكي تطلع بنفسك على كلامهم ثم تعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنظر هل كان كبار الأولياء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي ذلك ويجعل ذلك كرامة له أو أنه وحي الشيطان وتلبيسه عليهم وإليك بعض مقالات أهل العلم في ذلك:
قال الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان: (إنه لا ينبغي أن يكون الرجاء إلا بالله جل جلاله إذ كان المنفرد بالملك والدين ولا يملك أحد من دونه نفعا ولا ضرا فمن رجا ممن لا يملك مالا يملك فهو من الجاهلين، و إذا علق رجاءه به جل ثناؤه فينبغي أن يسأله ما يحتاج إليه صغيرا وكبيرا؛ لأن الكل بيده لا قاضي للحاجات غيره وسؤاله إنما يكون بالدعاء) (1) .
وقال الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: (كل من اتخذ الله شريكاً فإنه لا بد أن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه إما طلباً لنفعه أو هرباً من ضرره)(2) . وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ([يونس: 18] بعد أن ذكر اختلافات العلماء:
ورابعها: أنهم وضعوا هذه ا لأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا
__________
(1) 1/520) والحليمي:هو أبو عبد الله الحسيني بن الحسن البخاري الشافعي ولد سنة( 338 ) هـ وهو صاحب كتاب المنهاج في شعب الإيمان توفي سنة (403)هـ .. انظر : سير أعلام النبلاء (17 /231) وطبقات السبكي (4/33.
(2) 5/98).(106/112)
أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله) ثم قال بعد ذلك: (واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله:) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ( (1) .
وقال أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث (2) : (لكن نبين من هذا القسم مما وقع فيه جماعة من جهال العوام النابذين لشريعة الإسلام التاركين لأئمة الدين والفقهاء وهو ما يفعله طوائف المنتمين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن واعتقادهم في مشايخ ضالين مضلين يأكلون في نهار رمضان من غير عذر ويتركون الصلاة ويخامرون النجاسات غير مكرثين لذلك فهم داخلون تحت قوله سبحانه وتعالى: ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ( [الشورى:21]، وبهذه الطرق وأفعالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواقع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن اشتهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحمى خارج باب توما والعمود).
__________
(1) مفاتيح الغيب(17/ 60).
(2) ص: 40).(106/113)
قال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه: (فانظروا رحمكم أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق- فاقطعوها، فهي ذات أنواط) (1) أهـ.
وقال الألوسي في روح المعاني (2) في تفسير قوله تعالى:) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ( [الأعراف:188]: (وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج: المراد من الغيب الموت، ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة).
وقال السيوطي في تفسير آية سورة الأعراف (3) : وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله:) وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ([الأعراف:188] قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون.
وقال ابن الجرزي في (زاد الميسر) (4) في تفسير آية الأعراف السابقة: وفي المراد بالنفع والضر قولان: أحدهما: أنه عام في جميع ما ينفع ويضر قاله الجمهور. ثانيهما: أن النفع الهدى والضر الضلالة قاله ابن جريج.
وقال القرطبي في تفسيره (5) : قوله تعالى:) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا( [الأعراف:188] أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا فكيف أملك علم الساعة؟
قال الشوكاني في الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد (6) :
__________
(1) ذكر الطرطوشي ذلك في كتابه الحوادث والبدع(ص: 38) وأبو شامة: هو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي المشهور بأبي شامة شافعي المذهب ولد سنة( 665هـ ) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي(4/ 1460) وطبقات السبكي(8/ 165) انظر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة خالد بن عبد اللطيف بن محمد نور(ص: 150).
(2) 1/ 127).
(3) 3/ 276).
(4) 3/ 299).
(5) 4/ 320).
(6) ص:28).(106/114)
فصل: وإذا علمت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرناه من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم فصاروا يدعونهم تارة مع الله وتارة استقلالا ويصرفون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي الله في الصلاة والدعاء، وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري ما هو الشرك وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر.
وقال في(ص:33): فانظر كيف جعل الرقي والتمائم والتولة شركا وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء وفي المحبة والبغضاء، فكيف بمن نادى غير الله وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل؟
وقال في (ص:55): في بيان كفر من قال مطرنا بالنوء: وأين ذلك ممن يصرح في دعائه عندما يمسه الضر يقول: يا لله ويا فلان وعلى الله وعلى فلان؟ فإن هذا يعبد ربين.
وقال في(ص:119): وقال أبو الوفاء ابن عقيل (1) في الفنون: لما صعبت التكاليف على الجهال والضغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل كذا أو كذا أو إلقاء الخرق على الشجرة اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
__________
(1) أبو الوفاء: هو علي بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي(ولد سنة:431هـ).(106/115)
وقال أيضا في (ص: 125): في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسما- وهو حنفي- قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من كثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا، باطل إجماعا لوجوه... إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر.
قال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن (1) : مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها ولا علامة عليها إلا ما أخبر به الصادق المجتبي لاطلاع الغيب من أمارات الساعة الأربع سواها لا أمارة عليها، فكل من قال: (إنه ينزل الغيث غدا فهو كافر أخبر عنه بأمارات ادعاها أو بقول مطلق، ومن قال: (إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، وأما من ادعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصلة فيما يكون قبل أن يكون فلا ريبة في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا يؤدب ويسجن ولا يكفر، أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله سبحانه وتعالى في قوله:) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ( [يس:139] لحسابهم له وإخبارهم عنه وصدقهم فيه توقف علماؤنا عن الحكم بتكفيرهم، وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة في تعليق العلم بالغيب المستأنف ولا يدرون قدر الفرق بين هذا وغيره فتشوش عقائدهم في الدين وتتزلزل قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا).
المبحث الرابع: القدرة على الإحياء والإماتة ورد القضاء والقدر:
__________
(1) 2/738).(106/116)
جاء في جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1) في ذكر كرامات محمد الشربيني قال: قال الشعراني لما ضعف ولده أحمد وأشرف على الموت وحضر عزرائيل لقبض روحه قال له الشيخ: ارجع إلى ربك راجعه فإن الأمر نسخ، فرجع عزرائيل وشفي أحمد من تلك الضعفة وعاش بعدها ثلاثين عاما (2) .
وفي (1/ 431) في ذكر كرامات أبي بكر بن علي بن عمر بن الأهدل اليمني قال: ومنها: (أن هرة كانت تأتيه فيطعمها، وكان اسمها لؤلؤة، فضربها خادمه ذات ليلة فماتت، فرمى بها ولم يعلم الشيخ بذلك فقال له: أين لؤلؤة؟ فقال: ما أدري، فناداها الشيخ: يا لؤلؤة، فجاءت إليه تجري).
وفي (1/ 438) في ذكر كرامات أبي بكر بن عبد الله العيدروس قال: (ومنها: أنه لما رجع من الحرمين دخل زيلع وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق واتفق أن أم ولد له ماتت وكان مشغوفا بها، فدخل عليه الشيخ ليعزيه ويصبره فلم يفد فيه شيء ورآه في غاية التعب وأكب على قدم الشيخ ليقبلها ويبكي، فكشف الشيخ عن وجهها ونادى باسمها فأجابته، ورد الله عليها روحها وأكلت الهريسة).
__________
(1) 1/ 296).
(2) فهذه الكرامة في زعمهم تعطي لهم القدرة على: أ- مخاطبة الملائكة كفاحا. ب- العلم بما يمحو الله ويثبت قبل الملائكة. ج- القدرة على رد القضاء والقدر.(106/117)
وفي (1/ 491) في ذكر كرامات أحمد بن الرفاعي قال: (وروينا عن الشيخ صالح عبد الأحد بن سليمان المقاليسي قال: حضرت مجلس الشيخ إبراهيم الغاروثي فجعل يذكر فضائل المشايخ ويقول: الشيخ فلان وإذا ذكر سيدي أحمد يقول: شيخنا سيدي أحمد، فاعترضه بعض الفقهاء فقال له: كيف تقول للشيخ منصور الشيخ فلان وتقول شيخنا سيدي أحمد وكلهم صالحون؟ فقال: وكيف لا أقول ذلك لرجل أحيا الله على يده ميتا فقال: كيف؟ قال: حدثني والدي الشيخ عمر أنه جاء مع جماعة إلى الغاروث فلما حضروا الطعام وغنى الحادي عصرية الجمعة، وصلوا المغرب وأكلوا الطعام، وصلوا العشاء الآخرة ودخلوا الرباط الذي ينام فيه الفقراء والقراء وقد نام القراء وفي الرباط طفل لبعض مشايخ القوم نائم تحت الكساء فلما استقروا غنوا كعادتهم بالسحر ثم رقصوا وداسوا الطفل ورقصوا عليه ليلتهم حتى ترضرض وبقي وجهه كالرغيف لا يعرف من ظهره، حتى خرجوا لصلاة الفجر جاء الخادم ليرفع الفراش، فنفض الكساء فوقع الطفل ميتا مرضوضا، فأتى والدي وحكى له، فضاق صدره وأتى سيدي أحمد وعرفه وقال: أي عمر، قم قدامي لننظره، فأتيا الطفل تحت الكساء وقد أضحى النهار، فوقف سيدي أحمد وبسط خرقة وصلى ركعتين ثم مد يده ودعا بدعوات ثم نادى الطفل: يا فلان اقعد صل، قال والدي: فو الله ما فرغ من نداءه حتى رفع الطفل رأسه من تحت الكساء وقال: لبيك، فقال: أي ولدي قد علت الشمس قم، ثم أمد يده المباركة عليه فقام كان لم يكن به ألم، ثم قال لوالدي: أي عمر تحياتي عليك وبحياة الشيخ منصور عليك لا تتكلم بهذا واكتمه، فقال: سمعا وطاعة، ورجع أحمد إلى أم عبيدة ثم قال للحاضرين: أي سادة كيف لا أقول سيدي لمن أعطي هذه الكرامة؟ وهذه الكرامة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. ذكره السراج).(106/118)
وفي (1/ 495) في ذكر كرامات أحمد الرفاعي قال: (قال الشيخ الجليل أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الرفاعي ابن أخته رضي الله عنه: كنت يوما جالسا بحيث أرى الشيخ وأسمع كلامه وكان جالسا وحده فنزل عليه رجل من الهواء وجلس بين يديه فقال له الشيخ: مرحبا بوفد المشرف، فقال له: إن لي عشرين يوما ما أكلت ولا شربت، وإني أريد أن تطعمني شهوتي فقال له. وما شهوتك؟ قال: فنظر إلي وإذا خمس وزات طائرات، فقال: أريد إحدى هؤلاء مشوية ورغيفين من بروكوزا من ماء بارد، فقال له الشيخ: لك ذلك، ثم نظر إلى تلك الوزات وقال: عجل بشهوة الرجل، قال: فما تم كلامه حتى نزلت إحداهن بين يديه مشوية، ثم مد الشيخ يده إلى حجرين كانا إلى جانبه فوضعهما بين يديه، فإذا هما رغيفان ساخنان من أحسن الخبز منظرا ثم مد يده إلى الهواء وإذا بيده كوز أحمر فيه ماء، قال: فأكل وشرب ثم ذهب في الهواء من حيث أتى، فقام الشيخ رضي الله عنه وأخذ تلك العظام ووضعها في يده اليسرى وأمر بيده اليمنى عليها وقال: أيتها العظام المتفرقة والأوصال المتقطعة اذهبي وطيري بأمر الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فذهبت وزة سوية كما كانت وطارت في الجو حتى غابت عن منظري.
وفي (1/ 534) في ذكر كرامات أحمد بن حسين بن رسلان صاحب الزبد قال: (واتفق من أمره أن كاشف الرملة ضرب شخصا من جماعته يقال له الشيخ محمد المشمر، فاستغاث بالشيخ فقال له الكاشف: إن كان بشيخك برهان يظهره في هذه النخلة، وكانت نخلة قائمة على ساقها أمامه، ففي الحال وقعت إلى الأرض فترجل الكاشف وأتى إليه ووقع على قدميه).(106/119)
وفي (2/ 254-255) في ذكر كرامات عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن العيدروس قال: (فمما وقع له من إحياء الموتى أن زوجته الشريفة عائشة بنت عمر المحضار مرضت مرضا شديدا، وحركوها فإذا هي ميتة، فأتى إليها وناداها باسمها ثلاثة أصوات فأجابته في الثالثة وعوفيت من المرض) (1) .
وجاء في كنوز السعادة الأبدية (2) في ذكر كرامات أبو بكر العطاس قال: (ومرة سار الحبيب أبو بكر إلى بور فجاء إلى عنده عوض بن زين مخدم أبو الشيخ حسين فقال له: أين بغيت يا عوض ما معك إلا أربعون يوما ستوصلك إلى أين، فتأخر عن السفر وأرخ كلام الحبيب فلما تمت الأربعون توفي، وقال لي الأخ سالم بن أبي بكر: لما مرض والدي مرض الموت، قال: يا سالم مرضي هذا بايكون فيه الخروج من الدنيا باتلقون إيش تعال بانتحاكي، قال الأخ سالم: فأعطاني الله في تلك الساعة الرضى والتسليم وقلت له: بانلقي كذا وكذا وبانفعل كذا ولا خطر ببالي شيء في تلك الساعة ولم أحس به إلا بعد وفاته) (3) .
__________
(1) إن الإحياء والإماتة من حق الله، قال تعالى في مناظرة النمرود مع إبراهيم عليه السلام: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت) [ البقرة: 258] وجعله الله معجزة لعيسى عليه السلام، وهؤلاء يجعلون خصائص الرب من خصائصهم وكراماتهم، ومقام الأنبياء هو مقامهم.
(2) ص: 58).
(3) وهذه وإن كانت هي من علم الغيب؛ لأن الآجال علمها عند الله وعند الملك الموكل بقبض الأرواح الذي أعلمه الله بها وليس بها لأحد من البشر فهي من خصائص المحيي والمميت ولأن معتقدهم أن لأوليائهم القدرة على الإحياء والإماتة كذلك القدرة على معرفة الآجال.(106/120)
وفي(ص:134-135) قال: (قال الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه: صح دواما في البراري والسكك والديار لا تجد من يدركك وستر الولي عن الناس غيرة من الله وإلا لعبدوه إذا كان يحصي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص كما قال الله في حق عيسى).
وجاء في (ص:233) من كتاب تاريخ ( ثغر عدن) في ترجمة محمد يعقوب المعروف بابن أبي حربه في ذكر كراماته قال: (وكان بينه وبين الشيخ الصالح العالم إبراهيم البحاني صحبة وأخوة فمرض الشيخ إبراهيم وإيس من حياته وحضر جمع من أصحابه ليشهدوا موته، فقيل للفقيه محمد: لو استمهلت له عشر سنين فأرخوها من الساعة فما مات إلا بعد تمامها وحصل له أولاد في تلك العشر فكانوا يسمون أولاد العشر) (1) .
__________
(1) المرجع المذكور فيه كثير من الخرافات والخزعبلات والتي ما ذكرنا في بيان قدرتهم إلى استمهال الأجل الذي قد قضي ومن المعلوم أن العبد يكتب له أجلان كما قال تعالى: ) ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ (. [الأنعام: 2]. كما رجح ذلك الأمير الصنعاني وغيره، ولكن هذا الأمر يعلمه الملائكة المختصون لقبض الأرواح. ومن العجب أن يقدم لهذا الكتاب من يدعي في كتبه تقرير منهج السلف ألا وهو علي حسن عبد الحميد الحلبي ويمدحه وبحث على قراءته ليس لشيء إلا مرض الشهرة الذي يعمي صاحبه من رؤية الحق ونقده وتبيين فساده.(106/121)
وذكر في نفس الصفحة قال: وكان بينه: (أي بين محمد بن أبي حربه) وبين الفقيه العلامة محمد بن عبد الرحمن بن أبي الخل صحبة وللخلي فيه حسن ظن فمات أبو حربه قبله، وحصلت شوكة في رجل ولد الخفي وأعيت أهل الصناعة، وتعطل مشيه، فوصل به والده إلى قبر الفقيه أبو حربه وقال: يافقيه محمد هذا الولد طريح على قبرك، وقد جعلتك لي مرهما وتركه على القبر وعدل إلى المسجد ينتظر ما يكون فمكث ساعة وإذا بولده مقبل إليه يمشي سويا والشوكة في يده، فسأله كيف كان الأمر، فقال: ما شعرت إلا والشوكة تخرج من قدمي، فقال: الحمد لله، وأخذ الفقيه ترابا من القبر وصب عليه ماء وشرب منه تبركا.
وجاء في كتاب تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر في ذكر كرامات أبو بكر ابن عبد الله العيدروس قال: (منها أنه لما رجع من الحج دخل زبلع وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق، فاتفق أنه ماتت أم ولد للحاكم المذكور وكان مشغوفا بها فكاد عقله يذهب لموتها فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدة الجزع ليعزيه ويأمره بالصلاة والرضا بالقضاء وهى مسجاة بين يدي الحاكم بثوب فعزاه وصبره فلم يفد فيه ذلك وأكب على قدم سيدي الشيخ يقبلها وقال: يا سيدي إن لم يحيي الله هذه أمتني أنا أيضا، ولم تبق لي عقيدة في أحد، فكشف سيدي وجهها وناداها باسمها فأجابت: لبيك، ورد الله روحها وخرج الحاضرون ولم يخرج سيدي الشيخ حتى أكلت مع سيدها الهريسة وعاشت مدة طويلة) (1) .
وفي (ص: 281) في ذكر كرامات علوي بن محمد بن علي قال: (وكان الشيخ علوي
__________
(1) قد سبق ذكر هذه القصة والتعليق عليها وأضيف على ما سبق ألا يغتر القارئ أو السامع بما يذكره الخرافيون بمثل (بإذن الله) أو غير ذلك؛ ليضفوا على ما يقولون الصبغة الشرعية، فاعلم أن ذلك ممتنع في حق البشر؛ لأنه من خصائص الله لأحد وإن جعله معجزة لبعض أنبيائه، فكون الواحد لديه قدرة على الإحياء ولو بالدعاء هذا ممتنع، فافهم وفقك الله..(106/122)
هذا من آيات الله الكبرى، وهو من أمثال الشيخ ومن مناقبه أنه كان يعرف الشقي من السعيد، يحصي ويميت بإذن الله تعالى ويقول للشيء كن فيكودن بإذن الله. إلى غير ذلك من الكرامات العظيمة والخوارق العجيبة التي لا يشاركه فيها غيره).
المبحث الخامس: لهم حق التعليل والتحريم والطاعة فيها:
جاء في جامع كرامات الأولياء (1) في ذكر كرامات محمد السقا قال: (روينا أن الشيخ محمد السقا تكلم فيه بعض أعداء الأولياء عند الملك الزاهر، فأرسل له مع خادمه ظرفين ملانين خمرا هدية على سبيل الاستهزاء والتعزير، فقال الشيخ: أهلا وسهلا حلوا الوكاء يا فقراء، فقال الرسول: يا سيدي تفتحش الزاوية؟ فقال: حلوا لا بأس، فحلوا فلم يخرج شيء، فقال: الرفس فرفسوها، فخرج من أحدهما عسل ومن الآخر سمن من أحسن ما يكون، فأغمي على الرسول ثم أرسل الشيخ صحبته بعض ذلك إلى الملك الزاهر تبركا فتاب، وأناب).
قال: ومن ظريف ما جرى له أنه كان يعتريه ألم ويوصف له الخمر فاحتاج مرة إلى العادة فشاور أصحابه في ذلك بسبب التوبة، فقال: يشربه مطبوخا ففعل ذلك ليلا، فما أحس إلا وهو قد أمسك يده وعاقبه وقال: لا تعد فأنا لا أغفل عنك وهذا الألم ما بقي له عودة وغاب عنه فقال: ربما يكون خيالا ثم قال: فربما يكون الشيخ بائتا في القلعة فأرسل من نادي من سور القلعة: أين الشيخ محمد؟ فقالوا: في زاويته فازداد إيمانا.
__________
(1) 1/211- 212).(106/123)
فكان السبب في إساءة أدبه أن بعض خواصه وكان اسمه إياس كان يلازم الشيخ وينقطع عن الخدمة فلما غضب عليه الزاهر يوما بسبب ذلك واحتجاجه بخدمة الشيخ أرسل الخمر صحبته نكاية. فأوصله مستحيا خجلا فخبره الشيخ بما فعل ثم بعد ذلك نزل إلى خدمة الشيخ، فكاشفه بكل ما جرى وجدد له التوبة) (1) .
__________
(1) إن هذه القصة أبرزت كرامة الشيخ كما زعم ولم تبرز قضية خطيرة وهي الاستهزاء بالمعاصي والاستخفاف بها وكأن الأمر لا بأس به في التعامل مع من يجعلون الخمر عسلا وسمنا.(106/124)
وفي (1/ 249-250) في ذكر كرمات محمد بهاء الدين نقشبند البخاري شيخ الطريفة النقشبندية الأعظم وأحد كبار أئمة الصوفية. قال: (ودعا بعض أصحابه في بخارى، فلما أذن المغرب قال للمولى نجم الدين دادرك: أتمتتل كل ما آمرك به؟ قال: نعم، قال: فإن أمرتك بالسرقة تفعلها؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأن حقوق الله تكفرها التوبة، وهذه من حقوق العباد، فقال: إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا، ففزع المولى نجم الدين فزعا شديدا وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأظهر التوبة والندم وعزم على أن لا يعصي له أمر، فرحمه الحاضرون وشفعوا له عنده وسألوه العفو عنه فعفا عنه (1) ثم خرج سيدنا الشيخ قدس الله سره وفي خدمته المولى نجم الدين ونفر من أصحابه وساروا إلى محلة باب سمرقند فأشار الشيخ إلى بيت وقال: اخرقوا جداره وادخلوا تجدوا في الموضع الفلاني منه كيسا مملوءا أمنعة فأتوا به ففعلوا، ثم ساروا إلى زاوية هنالك وجلسوا، فبعد ساعة سمعوا نبح الكلاب، فأرسل المولى نجم الدين وبعض أصحابه إلى ذلك البيت فوجدوا السراق قد خرقوا جدارا آخر ودخلوا فلم يجدوا شيئا، فقالوا لبعضهم: جاء قبلنا سراق وأخذوا ما فيه فتعجب أصحاب الشيخ قدس الله سره من ذلك الأمر، وكان صاحب البيت في بستان له، فأرسل الشيخ صباحا إليه الأمتعة مع مريد وأمره أن يخبره أن الفقراء مروا على بيتك فاطلعوا على هذه القضية فخلصوا الثياب من السارقين، ثم نظر إلى المولى نجم الدين وقال له: لو امتثلت الأمر ابتداء لوجدت حكما جمة (2)
__________
(1) فعدوا العمل بظاهر الشرع معصية تستوجب التوبة والندم والغم وأقر ذلك الحاضرون برحمتهم له وطلبهم عفو الشيخ له وأقر الشيخ فعفا عنه، وهذه هي مداخلهم في هدم الشريعة، وإقامة الحقيقة فانظر إلى نهاية القصة.
(2) إن هذه القصة تقرر أمورا خطيرة منها:
الأول: أنه يسعهم الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى وهذا ناقض من نواقض الإسلام وسيأتي تفصيله.
الثاني: تقديم طاعة الشيخ على طاعة الله وإن كان في ظاهرها المعصية.
الثالث: ما من أمر يأمرون به وهو في ظاهره المعصية إلا وفي باطنه الخير والمنفعة.
الرابع: عنايتهم بالخرافة ويسمونها كرامة ونسيان الأمر الشرعي وهو عدم تمكين السراق من السرقة والإنكار عليهم.(106/125)
.
وجاء في كتاب صلة الأهل (1) قصة الثور في ذكر كرامات إبرهيم بن يحيى بافضل (وقد سبق ذكرها) حيث أمرهم أن يذبحوا ثوراً ليس ملكاً لهم).
الفصل الثاني
انحرافات الخرافيين في العبادات
لقد زين إبليس للخرافيين أعمالهم وصدهم عن السبيل القويم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (2) ، فلم يسعهم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بل اخترعوا لأنفسهم عبادات وطقوسا ما أنزل الله بها من سلطان وجعلوها دينا يتقربون بها إلى الله عز وجل ويعظمونها تعظيما يجعل مرتبتها في حكم الفرض أو أرفع، وإن قفت إلى حكم المستحب، ولم يقتصر أمرهم عند هذا الحد- وكفى به قاصمة للدين- بل جعلوا المحرم شرعا كرامة للولي يزعمهم، فأجازوا تحت باب الكرامة ما لم يجزه الشرع في باب الأحكام الشرعية وجعلوا من المنامات تشريعا ومن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم منهجا فيتلقون منه التشريع بعد موته صلى الله عليه وسلم فكان من مذهبهم تجدد التشريع واستمراره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا من أصحابه ولكن من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما، حتى أوصل إبليس لعنه الله بعضهم إلى رفع التكاليف الشرعية عن نفسه فله أن يفعل ما يريد فليس عنده شيء واجب أو حرام بل لا يسأل عما يفعل، والإنكار عليه من أعظم الذنوب التي لا تغتفر إلا بتوبة أو استغفار وجعلوا المنكر عليهم جاهلا عدوا للأولياء حتى جعلوا من سحرهم لبعض الناس الذين ليس له رسوخ من العلم والشرع، أن يقولوا للخطأ صوابا وللصواب خطأ ويستسلموا لمقالهم وأفعالهم التي تخالف الشرع وينكرها الإنسان البسيط بفطرته فضلا عن العالم المتمكن في العلم الملم بأمور الشريعة، وقد سبق أن سقنا أمثلة على ذلك وفي فصول هذا الباب سترى عجبا من هؤلاء القوم، كيف سمحوا لأنفسهم أن يكونوا في هذا المقام الذي لا يحسدون عليه، بل
__________
(1) ص: 80).
(2) هذا إذا أحسنا بكثير منهم الظن وإلا فمنهم المعاند عن قصد وهوى.(106/126)
يحزن عليهم ويرثى لحالهم؟ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة وصدق الله إذ يقول:) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 174 أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ 175ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد( [سورة البقرة ].
وإليك أخي القارئ فصول هذا الباب لترى بعينك تصديق ما قلته وتكتشف أني شفيق عليهم فيما ذكرته لك من شأنهم ولم كن غليظا:
المبحث الأول: جواز التعبد بأمور تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم بالنص الصريح:
جاء في جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1) في ذكر كرامات عبد الله بن محمد بن يوسف اليمني الضجاعي قال: (ومنها: ما روي عن الفقيه الكبير أحمد بن موسى بن عجيل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: إن أردت أن يفتح الله عليك بالعمل فخذ من تراب قبر الضرير شيئا وابتلعه على الريق، ففعل الفقيه ذلك فظهرت عليه بركته وذلك أيام بدايته (2)
__________
(1) 1/ 195).
(2) ومخالفة الكرامة المدعية لهدي الرسول من وجوه:
الأول: إن سبيل الفتح هو التقوى، قال تعالى:) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [ الأنفال:29] وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
ونور الله لا يهدي لعاصي
وقال وكيع وهو(شيخ الشافعي): استعينوا على الحفظ بترك المعاصي.
الثاني: إن ذلك الفعل من تعظيم القبور، وقد سد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذريعة لتعظيم القبور، فنهى عن البناء والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها عيدا ومساجد، ولو كان الفتح يكون ببلع التراب لكان تراب قبره صلى الله عليه وسلم أولى ولكان الصحابة ومن بعدهم أحرص على ذلك.
فإذا الحامل لهم هو الدوة إلى تعظيم القبور والعكوف عندها لتحصل البركة لا العكوف بين يدي أهل العلم وإلتزام الشرع الشريف.(106/127)
.
وفي (1/254) في ذكر كرامات أبي عبد الله محمد بن اسحاق الحضرمي: قال: الإمام الشرجي: أخبرني بعض الثقات الأخيار قال: دخلت مسجد الشيخ محمد بن إسحاق فرأيت أصحابه يرفعون أصواتهم بالذكر رفعا شديدا فقلت في نفسي كالمنكر عليهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) (1) .
فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: علمت أن الشيخ محمد ابن إسحاق استمر مدرس الحديث، قال: فلما استيقظت فهمت من ذلك أنه رد على إنكاري عليهم وأن رفع أصواتهم كان بنظر من الشيخ وأنه أعرف بمقصود الحديث (2)
__________
(1) الحديث رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى.
(2) يا للعجب! تفسر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من السلف الصالح، فهذا ابن مسعود ينكر على الذين اجتمعوا في المسجد ومعهم حصى يسبحون ويكبرون ويهللون بها جماعيا فقال لهم: ( ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خير، قال: وكم مريد للخير لن يصيبه) رواه الدارمي وصححه الألباني. فهذا هو فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للأحاديث ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلتزمون ذكرا جماعيا يتواطأون عليه، حتى بعض الأحاديث التي لها مدخل لهواة الذكر الجماعي سدها العلماء الأفذاذ كالإمام الشافعي رحمه الله ومنها حديث ابن عباس: ( ما كنا نعلم انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير) رواه مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله حمل الشافعية هذا الحديث وقتا يسيرا لأجل تعليم صفة الذكر لا أنهم داوموا على الجهر به، والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم، وقال الإمام مالك: أن ذلك محدث( انظر الفتح2/ 325) . وبذلك يكون إنكار الرجل في محله وما رآه من الشيطان.(106/128)
.
وفي (1/ 280) في ذكر كرامات أبي عبد الله محمد بن سعيد بن معن القريضي قال: (كان له عدة مصنفات أشهرها كتاب المستصفي- جمعه من كتب السنن واجتهد فيه وهو من الكتب المباركة المتداولة في اليمن عند العلماء- ويروى أن الفقيه محمد بن سعيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ودعا له بالتثبيت، وكان الشريف أبو الحديد يقول: ثبت بطريق صحيح عن الشيخ ربيع صاحب الرباط الذي بمكة المشرفة، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له:(من قرأ كتاب المستصفي الذي صنفه محمد بن سعيد كاملا دخل الجثة) قاله الشرجي. (1)
__________
(1) انظر كيف يسوقون بضاعتهم بمثل هذه الرؤى ويعتبرون ذلك حقا يترتب عليه التعبد بقراءة متاب المستصفي ولم يقل عالم معتبر أن من قرأ البخاري- وهو أصح كتاب بعد كتاب الله- دخل الجنة، وهذا لا يعرف إلا بالدليل الشرعي من الوحيين لا من الرؤى والمنامات هذا إذا خلا المستصفي عن المخالفات والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(106/129)
وفي(ص:1/285) قال: محمد الصوفي كان من كابر العارفين وأعيان الصوفية المحققين، كان يخبر أنه يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة أي وقت أراد، وهو صادق؛لأنه صلى الله عليه وسلم سائر في كل مكان وجدت فيه شريعته وما منع الناس من رؤيته إلا غلظ حجابهم. قاله الشعراني) (1) .
وفي (1/ 305- 306) في ذكر كرامات محمد بن علي بن علوي قال النبهاني هو:
(ابن الأستاذ الأعظم الشهير بمولى الدويلة أحد أئمة العلماء الأولياء من ساداتنا آل باعلوي، وكان إذا طرقه الحال يضطرب جسده ويلين، حتى إن بعضهم وضع أصبعه في جسده فانخسف محل اصبعه).
وورد عليه حال مكث به سبعة أيام حتى تقيأ دما أسود، قال ولده العارف بالله الشيخ عبد الرحمن السقاف: لو لم يتقيأ لقتله ذلك الحال (2) .
__________
(1) معتقد أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره يصلي، وأن صلاة وسلام أمته بلغه، فقد هيأ الله ملكا يبلغه إياه وهو خلاف معتقد أهل الزيغ والضلال الذين يعتقدون حضور النبي في مجالسهم ورؤيتهم له يقظة واجتماعهم به متى ما أرادوا وغير ذلك من الأقوال السخيفة التي لو كان حيا بين أظهرهم لما كان ذلك، فكيف والله أمر الصحابة في بداية الأمر أن يقدموا بين يدي نجوى النبي صلى الله عليه وسلم صدقة: ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) وهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم رهن إشارته وتحت خدمته فسبحان الله كيف والله أمر الغرور والشيطان هؤلاء ، حتى يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم كخادم من خدامهم يدعونه متى أرادوا؟! والله المستعان.
(2) ما يذكر هؤلاء من أمر الحال فإنما هو عمل شيطاني من تلبيس الشيطان، فلم يكن ذلك من شأن من هم أكثر الناس ذكرا لله وأقوى صلة بالله، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتواجد؟ وهل كان الصحابة رضي الله عنه يتواجدون؟!(106/130)
وتواجد يوما بحضرة عمه الشيخ عبد الله بن علوي حتى غشي عليه، ثم أقيمت الصلاة فصلى معهم، فلما فرغوا قال العارف بالله علي بن سالم لعمه عبد الله: صلى ابن أخيك بلا وضوء؛ لأنه زال عقله (1) ، فأخبره عمه بقول الفقيه علي بن سالم فقال: وعزة الحق أني توضأت وشربت من الكوثر، ونفض لحيته فتقاطر منها الماء ثم قال: يا فقيه نزل علينا شيء لو نزل على الجبال لدكت (2) .
وفي (1412) في ذكر كرامات إبراهيم العريان قال: (كان رضي الله عنه إذا دخل على بلد سلم على أهلها كبارا وصغارا بأسمائهم كأنه تربى بينهم، وكان يطلع على المنبر ويخطب عريانا، فيقول: للسلطان دمياط باب اللوق بين القصرين وجامع طولون والحمد لله رب العالمين، فيحصل للناس بسط عظيم.
__________
(1) وهذا يدل على أن التواجد نوع من الجنون فهو يذهب العقل وزوال العقل نافض للوضوء.
(2) هكذا يعللون فساد أعمالهم بما لم يكن دينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقل لي بربك: هل قال مثل ذلك صديق الأمة أبو بكر رضي الله عنه أو عمر أو عثمان أو علي أو أحد المبشرين بالجنة أو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم صفوة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فلا غرابة أن يقولوا مثل هذه الأقوال ليستروا النقص الذي عندهم ومن ذلك القبيل الرجل الذي بال في نفسه وهو نائم وأراد ليستر ذلك بالكرامة وزعم أنه اغتسل في نهر الجنة وصدق في ذلك وكشف عن ثوبه المبلل بالبول.
كما أنهم يجعلون أنفسهم فوق مرتبة الفقهاء العالمين بالشرع، وأنهم يخصون بشيء من الوحي فهم يتفقون مع الرافضة في استمرار نزول جبريل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أئمتهم وهذا علي بن أبي طالب يسأل: هل خصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال رضي الله عنه: لا إلا رجلا آتاه الله فهما في القرآن.(106/131)
وفي (2/ 104) في ذكر كرامات سليم المسوقي الدمشقي الحنفي قال: (فقبلت يده مرارا واستجزته فأجازني بكل ما عنده من الأسرار والعلوم من جهة الطريقة والشريعة (1) وكل ما أخذه من مشايخه من معقول ومنقول، وكل ما استفاده من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة (2) من أسرار وأنوار وكرر لي الإجازة بذلك عدة مرات.
وفي (2/ 121) في ذكر كرامات شقران بن عبد الله المغربي أحد أئمة الصوفية قال: (حكي أن ذا النون لما بلغه خبر شقران في المغرب أتاه من مصر وسأل عنه فقيل له: دخل الساعة الخلوة ولا يخرج من بيته إلا من الجمعة إلى الجمعة ولا يكلم أحدا إلا بعد أربعين يوما، فجلس عند بابه أربعين يوما، فلما خرج قال له: ما الذي أقدمك بلادنا قال ذو النون: فقلت له: خرجت في طلبك، فوضع في يدي رقعة قدر الدينار مكتوبا فيها. يا دائم الثبات، يا مخرج النبات، يا سامع الأصوات، يا مجيب الدعوات، قال ذو النون: والله كانت غبطتي في سفري فما سألت الله تعالى حاجة إلا قضيت (3) .
وفي(2/150) في ذكر كرامات عبد الرحمن بن محمد السقاف مولى الدويلة، قال:
(أنه شوهد في مشاعر الحج سنين عديدة، وسأله بعض خواصه: هل ججت؟ فقال: أما
في الظاهر فلا).
ومنها: (أنه رئي في أماكن متعددة في آن واحد، وأنه كثيرا ما يرى قميصه فارغا ليس
__________
(1) فهم يفرقون بين الشريعة والطريقة فالشريعة لعامة الناس والطريقة لخواصهم كما يزعمون فلهم أن يشرعوا لأنفسهم ما أرادوا.
(2) فهم يتلقون من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ويلتقون به فهم مستغنون عما في الصحيحين البخاري ومسلم والسنن والمسانيد، وهذا لعمري باب من أبواب الزندقة.
(3) فانظر! فقد ترك الجماعة في المسجد تعبدا بالخلوة، ولقد كانت خلوة النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في المسجد.(106/132)
فيه أحد ثم يعود إليه بعد ساعة وأنه لم يخطر ببال أحد شيء إلا كاشفه) (1) .
وفي(2/ 163) في ذكر كراماته قال: ( أنه كان يخبر بقوله عن نفسه أنه لم يبق بيني وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاب وأنه لم يعط الطريقة النقشبندية لأحد إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) .
وجاء في كتاب تذكير الناس (3) قال: (وذكر رضي الله عنه عن شيخه الحبيب أبي بكر بن عبد الله العطاس أنه قال: كان السيد أحمد بن علي بحر القديمي يجتمع بالنيب صلى الله عليه وسلم يقظة فقال: يا رسول الله، أريد أن أسع منك حديثا بلا واسطة، فقال له صلى الله عليه وسلم: أحدثك بثلاثة أحاديث:
الأول: ما زال ريح قهوة البن في فم الإنسان تستغفر له الملائكة.(4)
__________
(1) فقوله( أما في الظاهر فلا) يفهم منه أنه لم يحج حج المسلمين بأخذ الزاد والراحلة والمرور على الميقات وإنما يحجون وهم في بلدانهم في أماكن متعددة فهذا فعل السحرة والكهنة، فاقرا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أولها إلى آخرها وهم أعظم الناس كرامة لا تجد مثل ذلك بل تجد الإنكار عليه.
(2) كل ذلك ليقرروا أن ما يفعل في الطرق الصوفيه إنما هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر الذي تركه لأصحابه وللأمة جميعا، والذي أمر الله باتباعه؛ لأن مذهبهم الأخذ من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة من غير واسطة وأن الرؤى والذوق والوجد من مصادر التشريع التي ينبغي العمل بمقتضاها، ومن أنكرها فهو يبغض الأولياء وينكر الكرامات.
(3) ص:118- 119).
(4) وهذا القول المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل شرب القهوة عبادة ويستحب الإكثار من شربها، وأقل ما يقال في شربها أنها مباحة، ولكن حبة للقهوة ومجالسها جعله يقول مثل ذلك القول. ويضمون إلى قولهم بدعا أخرى منها الدعاء وقراءة الفاتحة.(106/133)
الثاني: من اتخذ سبحة ليذكر الله بها كتب من الذاكرين الله كثيرا إن ذكر أو لم يذكر.
الثالث: من وقف بين يدي ولي لله حي أو ميت فكأنما عبد الله في زوايا الأرض حتى تقطع إربا إربا) (1)
__________
(1) ففي ذكر المسائل الثلاث يقررون الآتي:
التعبد بشرب القهوة وقد سبق التعليق عليه.
ب- التعبد بحمل المسبحة ذكر الله بها أو لم يذكر. ولذلك كان من شعار الصوفية حمل المسبحة، ولينتشر هذا الشعار اخترعوا له أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أصل لها كحديث( نعم المذكر السبحة، وإن فضل ما يسجد عليه الأرض وما أنتبه الأرض) قال الألباني رحمه اله في سلسلة الأحاديث الضعيفة والمكذوبة في الحديث رقم(83): موضوع( أي مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ثم قال: ( إن الحديث من حيث معناه باطل عندي لأمور:
الأول: أن السبحة بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثت بعده صلى الله عليه وسلم: قال في الحاشية: إن لفظ السبحة مولدة لا تعرفها العرب) فكيف يعقل أن يحض عليه الصلاة والسلام أصحابه على أمر لا يعرفونه؟ والدليل على ما ذكرت ما روى ابن وضاح القرطبي في (البدع والنهي عنها، ص:12) عن الصلت صحيح.
الثاني: أنه مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن عمرو: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه رواه أبو داود والترمذي وحسنه... وقال الشيخ بكر أبو زيد في كتاب لا جديد في أحكام الصلاة ص57، فهذه اللفظة ((بيمينه)) من شيخ أبي داود محمد بن قدامة مخالفاً لجميع أقرانه وفيهم من هو مخالف لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال لبعض النسوة: (عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، لا تفعلن فتنسين التوحيد (وفي رواية الرحمة) واعقدن بالأنامل فإنهنّ مسؤولات ومستنطقات وهو حديث حسن أخرجه أبو داود وغيره) انتهى مختصراً. وأقل أحوال السبحة جواز التسبيح بهما كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار هذا إذ كانت للعدّ أما التعبد بها فهو بدعة والأفضل العدّ باليد وتركها أولى وخاصة أنها صارت شعاراً للمتظاهرين بالتدين من الفسقة والمجرمين.
ج- التهعبد بالوقوف بين يدي الأولياء كما زعموا سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وفي ذلك تعظيم لرموزهم والتذلل بين أيديهم حتى يكون كالميت بين الأحياء يسمع ويطيع ولو كان معصية لله، هذا إذا كانوا أحياء أما إذا كانوا أمواتاً فيكون بتعظيم قبورهم وشد الرحال إليها وسؤالها والرهبة والخشوع عندها، والوالي عندهم من ظهرت عليه كرامات خارقة ولو خالفت الكتاب والسنة كما تراه مما ذكر، والإمام الشافعي رحمه الله يقول: (إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فأعرضوا أمره على الكتاب والسنة).
وذكر الإمام النووي في شرح الأربعين أن الولي هو المؤمن، قال الله تعالى ) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ (. [البقرة: 257] ومراتب الولاية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب كما ذكر ابن تيمية رحمه الله في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وهي: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق للخيرات بإذن الله لقوله تعالى: ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ (. [فاطر: 32]
وولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى.
فهل يفقهون ما ذكرناه أم يكون الساحر والكاهن والدجال المشعوذ المخالف للشرع ولياً؟(106/134)
.
وفي (ص:46) قال: (وشكا رجل إلى الأخ عبد الرحمن بن محمد المشهور الوسوسة في الطهارة فقال له: إذا أردت أن تصلي فاحمل في ثوبك بعرة، فقال له: بعرة بعير أو غيرها؟ فقال: بعرة حمار. قال سيدي: وهذا من طب القلوب ومن طب النفوس والعلماء قالوا شيئا وكل من لديه علم يدري بما قالوه) (1) .
__________
(1) لا يخفى على مصل طهارة البدن والثوب والمكان للمصلي وبعرة الحمار نجسة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن أنس قال: (فأتيته بحجرين وروثه، فأخذ الحجرين ورمي الروثة، وقال: إنها رجس) أي نجس، وذكر أنها روثة حمار، والمصيبة أن يقرروا أن ذلك من العلم النافع وله أسرار لا يعرفها إلا خواصهم وكأننا لسنا مخاطبين بالشرع، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: رجس، وهؤلاء يقولون: طب القلوب!(106/135)
وفي (ص:83) قال: (أذن مؤذن أذاناً غير مرتب في مسجد الحبيب صالح بن عبد الله العطاس بوادي عمد فلما خرج من محل الأذان قال للحبيب صالح: هكذا الأذان يا حبيب صالح؟ فقال: نعم، فقال المؤذن وكان فيه نوع جذب لمن هناك: من طلع للأذان منكم فعلت به وفعلت وواظب على الأذان وورد في تلك المدة بعض العلماء الورعين المخاطبين زائراً للحبيب صالح فسمع ذلك المؤذن وهو يقدم ويزخر ويلحن فعند ذلك زجره وانتهى فقال له المؤذن: اسكت فقد سمعني من هو خير منك يعني الحبيب صالح فقال ذلك العالم للحبيب صالح: كيف تتركون هذا الجاهل يلحن ويغير في الأذان أذاناً غير مرتب؟ فقال له الحبيب صالح: ما المقصود من الأذان؟ قال: الإعلام، قال له: وقد وقع، ثم قال: إن من عادة السلف إذا رأوا مثل هذا يقولون ثاني مرة افعل كذا وكذا ولا يأمرونه بإعادة ما فعل أولاً)(1).
__________
(1) من المعلوم أنه لا يجوز إقرار المخطئ على خطئه، لأنه من المداهنة وما جاء في الحكاية إقرار ولكن الصارف له الجذب، ثم إنه لم يعمل بمقولة السلف كما زعم بل جعله يتمارى والأذان عبادة مخصوصة بألفاظ لا يجوز تبديلها فيكفي ما جاء فيها أنها إقرار لمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .(106/136)
وفي (ص:98) قال: (بلغنا أن الحبيب صالح بن عبد الله العطاس وعظ أناساً وحثهم على الصلاة، وقال لهم: إن الذي يصلي لا تحرقه النار، وكانت هناك قهوة تطبخ على النار فرفعها وجلس محلها فوق النار ولم تحرقه، يريهم عياناً أن المصلي لا تحرقه النار)(1). وجاء في كتاب تاريخ النور السافر(2) قال: (قال الفقيه محمد بن عبد السلام: ولقد أخبرني الفقيه محمد بن عطيف أيام وصل إلينا زبيد: أن رجلاً يرى أن القيامة قامت، وأن منادياً ينادي: يا أهل اليمن، قوموا ادخلوا الجنة، فقيل للمنادي: بم أعطوا هذه المنزلة؟ قال: لقراءتهم الفاتحة. وكان أخباره لي بذلك أنّا كنا إذا دخلنا عليه نتحدث عنده ساعة، فإذا أردنا الخروج طلب منا قراءة الفاتحة وكذا كل من دخل عليه من أهل زبيد يعجب من هذه القاعدة)(3).
وجاء في كتاب كنوز السعادة الأبدية(4) قال: (كان الأولون يمتحنون المريدين مثل قضية الشيخ عمر بامخرمة مع شيخه عبد الرحمن الأخضر لما أراد أن يتحكم له قال: با أشرط عليك ثلاث خصال، فقال: وما هي؟
__________
(1) إن الفضائل لا تثبت إلا بدليل من الكتاب والسنة ولم يأت دليل صريح بذلك، بل قد يتعرض المصلي للأذى.
(2) ص: 196).
(3) وهذه القاعدة مطردة عند الصوفية لا يتركونها وهي عند صوفية حضرموت أظنها أكثر، هذه هي قاعدتهم، ولم تكن عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما ما ثبت عن أصحابه أن بعضهم إذا فارق صاحبه قرأ سورة العصر تذكيراً بها. وقد توسع الصوفية في قراءة الفاتحة حتى جعلوها لك اجتماعاً وافتراقاً وتهنئة كالقدوم من الحج والعمرة وكذلك للتعزية حتى أنهم جعلوا لشرب القهوة صباحاً فاتحة وصارت الفاتحة كفارة المجالس بدلاً من الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك) (فتنبه).
(4) ص: 169).(106/137)
فقال له الأولى: اطلع إلى فوق جبل قمران وكان هذا الجبل من أطول الجبال واطمر (اقفز) من فوقه فقال: مرحباً، فطلع إليه النهار ولم يبلغ رأسه إلا في العشية وطمر فتلقاه شيخه ووصل إلى الأرض سالماً فقال له: طمرت وأنت مفتح عينيك أو مغمض، فقال له: بل مغمض، فقال له: اطمر وأنت مفتح، فقال: مرحباً، وطمر مرة ثانية وهو مفتح ووصل سالماً إلى الأرض.
ثم قال له: الخصلة الثانية إذا قام الناس إلى الصلاة واستقبلوا القبلة فاستقبل أنت المشرق، فقال في نفسه: وهذه أعظم بلية في الدين وفي الصلاة، قال الشيخ عمر: إني لما توجهت إلى المشرق لأصلي شاهدت عين الكعبة(1) وصليت إليها، ثم قال له: والخصلة الثالثة...)(2).
وفي (ص: 363) قال: (والصوفية قالوا: إن القهوة مثل ماء زمزم لما شربت له فإن شربت للهو صارت بلية)(3).
وفي (ص:389) قال: (وقال الأخ علي بن سالم بن الشيخ أبى بكر: جاء إلى عندي درويش من المغرب وكان يصلي أول الوقت قبل الأذان، فقلت له: إنك تصلي قبل الوقت فقال: إنى أصلى في الوقت ولا أصلي حتى أسمع ديك العرش، فقال له الأخ علي: لا أصدقك حتى تسمعني إياه، فلما دخل الوقت أسمعني إيّاه فسمعته فصلينا)(4)
__________
(1) انظر إلى قدرتهم على تحويل المحسوسات وهذا يمنع الإنكار عليهم فيما خالفوا ظاهر الشرع.
(2) قد يبق ذكرها ومحل الشاهد الخصلة الثانية وفيها مخالفة أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وانظر إلى القدرة العجيبة في تحويل الكعبة إلى المشرق هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن أكبر الأولياء والصالحين وهم الصحابة بمثل ذلك؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
(3) وهذا يؤكد ما ذكرنا آنفاً أنهم يتعبدون الله لشرب القهوة، كما يتعبد المسلمون بشرب زمزم.
(4) هذا هو مذهبهم، ينظرون إلى الدراويش نظرة الولي الطبقة بخلاف العلام الطبقة الذي يشاركه بالبنان في علم، هذا هو الأمر الأول في هذه القصة.
الأمر الثاني: إن الله أعلمنا بمواقيت الصلوات وأنزل جبريل عليه السلام ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم بمواقيت الصلاة وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمواقيتها ولم يرتبط النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من كبار الأولياء وهم الصحابة رضي الله عنهم بديك العرش كما زعموا.
الأمر الثالث: من قال أن للعرش ديكا يصيح بدخول الوقت فهذا من القول على الله بغير علم ولكن المصيبة الاعتقاد الفاسد أن الأولياء بزعمهم قدرة على اختراق حجب السماء بأبصارهم وأسماعهم وأجسادهم كما ذكر في نفس الصحيفة وقال: ( قال الحبيب أبو بكر العطاس: صلينا نحن والحبيب محمد المشهور في مسجد باعلوي فقال: لي هيا ما تقول؟ بانروح النخل قال: فطلعنا من سحاب إلى سحاب إلى أن وصلنا ورجعنا وصلينا المغرب في باعلوي). فصلاتهما باطلة شرعا وصحيحة خرافة.(106/138)
.
وفي (ص: 352-353) قال: (والله يقول:) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ([الحجرات:7] سئل بعض الصوفية عنه فقال: إن روحه مالئة الكون، ولما جلس الأخ علي بن سالم في المدينة قال له في رؤيا يقظة ما هي منام: أنا معك في كل مكان، فقال: كيف؟
قال: إذا خطر ببالك أمر باتسمع أحدا في الهواء يقول: لا أو نعم وقال: إن الحبيب صلى الله عليه وسلم سماه الأدعج، ولما حجبت الحبابة خديجة بنت حسين هي وابنها الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى أو زارت المدينة استراحت وقالت لابنها الحبيب عبد الله: هل أحد يخرج من الجنة والحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (1) اعقل القلوص بانقيم هنا والحبيب عبد الله يحب رضا والدته ويحب المدينة فقال لها: مرحبا، وبعد أيام قالت له: رح هات لنا جمالا للسفر، فقال لها: كيف القضية وأنت تحبين الإقامة هنا؟ فقالت: إني رأيت الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: اخرجوا إلى حضرموت واعتنائي بكم وأنتم بها أكثر من اعتنائي بكم وأنتم معنا) (2)
__________
(1) هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
(2) يفهم مما جاء في الصحيحين(352- 353) الآتي:
أولا: إن الصوفية لهم تفسير خاص لكتاب الله على حسب مذهبهم خلاف مذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء التفسير، ويمكنك أن تقاون بين تفسير الصحابة والسلف وبين تفسير الصوفية، قال السيوطي في الدر المنثور في التفسير المأثور(6/ 93- 94): أخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وابن مردويه عن أبي نضرة قال: قرأ أبو سعيد الخدري:) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ( [الحجرات:7] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة:) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ( [الحجرات:7] قال: هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم نبي الله في كثير من الأمر لعنتوا فأنتم والله أسخف قلبا وأطيش عقولا، فاتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله فإن ثقة لمن أخذ به وانتهى إليه وإن ما سوى كتاب الله تغرير) أ.هـ.
ثانيا: إنهم يقررون لأنفسهم ويقنعون الناس بأن كل ما يفعلون ويقررون ويشرعون إنما هو من بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره فهم على صلة به بعد موته كصلة أصحابه في حال حياته فهم يرونه مناما ويقظة ويتصلون به متى شاءوا.
ثالثا: يغرسون في نفوس الناس أفضيلة سكنى حضرموت وخاصة بلدة تريم ويبالغون في ذلك ويجعلونها المقام الذي اختاره رسول الله لأوليائه وأحبابه وكأنها مهبط الوحي ويلفقون القصص المكذوبة والخرافات المنسوخة في الترغيب في سكناها وكأنها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك بعضا من أقوالهم وتأويلاتهم الفاسدة: جاء في تاريخ النور السافر(ص: 72) قال: ( وكفى حضرموت من الشرف العظيم والمجد الفخيم، والفخر الذي لا يبلى ويبه، بل ينمو ويزيد أن الإمام شيخ الإسلام مجتهد زمانه الشيخ أبا الحسن البكري الصديقي ذكر في تفسيره عند قوله تعالى: ( وإن منكم إلا واردها)[ مريم:71]: يستثنى من ذلك أهل حضرموت؛ لأنهم في أهل ضنك في المعيشة) أ.هـ. فيقرر أن أهل حضرموت لا يردون جهنم فهم ناجون فلهم أن يعلموا ما أرادوا؛ أنهم في ضنك من العيش. وهكذا يوردون الناس إلى المهالك والاغترار بالأماني الكاذبة. وانظر إلى تفسير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف فهموا هذه الآية. قال السيوطي في الدر المنثور في التفسير المأثور(4/505): وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن وقال بعضهم: يدخلونها جميعا( ثم ننجي الذين اتقوا) فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه صمتا: وإن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار ضجيجا من بردهم( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) [ مريم:72] وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله( وإن منكم إلا واردها) قال: يردها البر والفاجر، ألم تسمع قوله( فأردوهم النار وبئس الورد المورود)[ هود:98] قوله: (( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا))[ مريم:86] وقال ابن كثير في تفسيره( وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: ( وإن منكم إلا واردها) فلا أدري أأنجو منها أم لا- وفي رواية وكان مريضا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسره؟ فقال: أخبرنا أنا واردها ولم نخبر إنا صادرون عنها. وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله.
فانظر رعاك الله كيف فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وكيف فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية وكيف كان أثر هذه الآية على قلوبهم وسلوكهم.
وجاء في نفس المرجع(ص: 76) قال وروي أن الفقيه محمد بن أبي بكر عباد رحمه الله كان يقول: إذا كان يوم القيامة أخذ أبو بكر الصديق أهل تريم كلهم قبضته في يده ورمى بهم في الجنة. وبها مساجد كثيرة مشهورة: وهكذا مسلكهم أحي بعد رسول الله حتى يعلموا ذلك أم أن لهم اتصال بالسماء وما في اللوح المحفوظ؟ وهذا لا ينكرونه كما مر ذكر الكثير من قصصهم التي يقررون علمهم بما في اللوح المحفوظ وعروجهم إلى السماء، فهم بذلك يغرسون في نفوس الناس تعظيم بلدة تريم ومساجدها والتبرك بها وتعظيم سادتها ووجهائها لتبقى لهم المهابة والزعامة ويظل الناس لهم ويحرصوا على رضاهم؛ لأنهم يوصلون من شاءوا إلى الجنة فيجعلون الناس يتعلقون بهذا.الترهات والأماني الكاذبة.(106/139)
.
المبحث الثاني: رفع بعض التكاليف الشرعية عنهم أو كلها:
جاء في كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية (1) : قال: (ولصاحب الأنفاس رضي الله عنه رعاية خاصة بأهل فطره وعامة بجميع أهل عصره تؤيدها رؤيا سيدي الحبيب الأواب خليفة سلفه الأنجاب علوي بن عبد الله بن شهاب وقد سمعته يحكيها منذ زمان طويل في أيام حياته وهي أنه قال: طالعت في مناقب فخر الوجود الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب عينات حتى بلغت فيها إلى قوله منذ برز هذا الهيكل ما كتبت على أهل عصري سيئة، قال الحبيب علوي: فاستعظمت هذه المقالة جدا وقلت في نفسي: هل يوجد اليوم في عصرنا من يقول مثلها؟ ووضعت تلك المناقب ونمت، فرأيت في منامي كأن الشيخ الإمام عبد الرحمن بن علي بن أبي بكر السكران قائما فوقي وهو يقول: باعلوي أنا عمك علي الحبشي يقول في هذا الزمان بمثل المقالة التي قالها الشيخ أبو بكر ابن سالم، قال الحبيب علوي: فاستبشرت بهذه الرؤيا ولما دخل الحبيب علي إلى تريم أخبرته بها فسر سرورا كثيرا) (2) .
__________
(1) ص: 22-23).
(2) فنظر إلى هذه المنقبة التي جعلت أهل عصره لا يواخذون بما فعلوا أو إنهم عصموا من العصيان أو غفر لهم بوجوده فيهم، وانظر إلى هذه الجرأة العجيبة على الله عز وجل، هذا الأمر لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مع أهل زمانه ولا لأبي بكر الصديق مع أهل عصره ولا لعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم الذين بلغوا العلو في الولاية والشرف ولم يدع ذلك أحد من الأئمة المتبوعين ولمنه تلبيس إبليس حملهم أن يلفظوا مثل ذلك القول.(106/140)
وفي (ص: 51-53) في ذكر مناقب عبد الرحمن بن محمد الجفري صاحب تريس قال: (قال وهي أن رجلا غريبا مرض مرضا أعيى الأطباء علاجه حتى قال له بعض الصالحين: إن مرضك هذا لا يشفي إلا بأكل الحلال الصرف، فسأله عنه: أين يوجد؟ فقيل له: إنه حضرموت فخرج إليها وسأل عن المشهور بها في ذلك الوقت من الصالحين فقيل له: إنه الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات فسار إليه وشكا ما به من المرض فحوله على تلميذه الحبيب الإمام عبد الرحمن بن محمد الجفري فسار إلى بلده فصادفه بها يسني في زرع له فظنه خادما له لما رآه بتلك الحالة فجلس عنده ساعة حتى دخل وقت أحد الصلوات الخمس فقام الغريب يصلي والحبيب في سناوته لم يتركها حتى خرج وقت الصلاة والغريب يلاحظه ثم قاله الحبيب: وما تريد من عبد الرحمن الجفري؟ فأخبره بمقصوده وحوالة الشيخ أبي بكر عليه فقال له: إنه عبد الرحمن الجفري وحوالة الشيخ مقبولة، فادخل إلى هذا القضب ويسميه بعضهم البرسيم واملأ منه بطنك ففيه دواءك وشفاؤك إن شاء الله، فكل الرجل منه حتى شبع فأمر الحبيب أن يمشي ساعة بعد الأكل فامتثل أمره وتحركت بطنه فخرج منها كل داء ومرض وجاء إلى الحبيب يحمد الله ويشكره على العافية فأمره بالطلوع إلى بيته وأضافه وأكرمه ولما هم الرجل بالخروج أهدى إلى الحبيب شيئا من الدنانير فقال له الحبيب: أنت أحوج منا إليها ولم يقبلها فكلف عليه الرجل فأخذها فمسح عيني الرجل فرأى الجبل الذي تجاهه قد صار ذهبا أحمر فقال له الحبيب: ماذا ترى؟ فأخبره بما شاهده، فقال له الحبيب: نحن بحمد الله في غناء ولا نسني إلا لستر الحال وطلب الحلال، فقال له الغريب: إنه وقع ببالي شيء من مرور وقت الفريضة عليك وأنت تسني فدخل به الحبيب إلى تسع خلوات فوجد في كل واحدة منهن صورة للحبيب عبد الرحمن تصلي، فاعتذر إليه الغريب وشكره على حسن صنيعه معه وتوجه إلى الرضا في عافية أو كما قال) (1)
__________
(1) إن مما يقرره هؤلاء التجزئة للولي، وذلك بأن يرى في كل مكان وهذا الأمر لم يعرف عن السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إنما عرف عن السحرة والمشعوذين والعرافين والكهنة. ولقد كشفت هذه القصة ما يرونه مما ذكرنا وكيف ترك أداء الفرض حتى خرج وقته ولم يصل ثم كان من أمره ما كان، فهل كان سيد الأولياء صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؟ وهل من الصحابة من يفعل ذلك؟(106/141)
.
وفي (ص: ه ه-56) قال: (ولما جاء الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى إلى قرسي وفيها الحبيب أحمد بن عبد الله بافقيه وأولاده شيخ ومحمد كلهم رجال فحضرت صلاة قدموا فيها الحبيب عبد الله بن عمر إماما وكان الحبيب علوي بن هاشم جالا في ناحية لم يصل معه، فقال الحبيب محمد في نفسه: كيف هذه الولاية وفيها خرق الشريعة؟ وكيف تكون ولاية بلا صلاة؟ فكاشفه والده الحبيب أحمد وقال له: يا محمد، فقال: مرحبا، فقال له: ارفع رأسك فرفع رأسه فإذا تسع صور على صورة الحبيب علوي يصلين في الهواء فقال له: هل تضر صورة واحدة جالسة لا تصلي وتسع يصلين؟ ويذكرون أنه رئي في نحو عشر بلدان وفعل في كل بلد ضيافة في وقت واحد والتجزي لا يكون إلا للرجال، أخبرني محمد محروس وكان من الرجال قال: إن عمر مشغاف كان يتردد على عقيل بن حسن الجفري وأنه مرة جاء يسأل عنه وسار على ست ديار أو سبعة فوجده فيهن كلهن ولا هو في الظاهر متهوم بهذا الأمر كله ولكن له تعلق بالحبيب أبي بكر والحبيب حسن) (1) .
__________
(1) وهذه مثل الذي سبقت وزيادة على ذلك أن التعلق يوصل المريد إلى درجة سيده فيكون له حظ مما حصل للسيد.(106/142)
وفي (ص:203-204): قال: ( لما شكوت على الحبيب أبي بكر العطاس ضعفي عن العمل وعجزي، قال: لا تتعبوا أنا قد تعبت وعملت لكم وأعمالي بتكفيكم شوفوا صحبة الرجال ونفعها أنت نائم وغيرك يعمل لك، كان أبو العباس المرسي والله إنه ليأت إلى البدوي الذي يبول على فخده فأوصله إلى الله بنظرة واحدة، انظروا كيف انفعالات الرجال، وقال لي أحمد باجابر: إن الحبيب أبا بكر العطاس نظر مرة إلى شريم في الأرض فقال: والله إني لو شئت أرقي هذا الشريم إلى مراتب الرجال لفعلت) (1)
__________
(1) الأصل أن الإنسان يعمل لنفسه قال تعالى) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ( ووصل الأعمال إلى الآخرين إنما خلاف العلماء في إهداء الثواب للأموات لا الأحياء،والله عز وجل يقول: ) وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى( [ النجم: 39]واختلف العلماء في النيابة في الأعمال وحاصل خلافهم هل تجوز النيابة في الحج عن الميت والعاجز الذي لا يثبت على الدابة وكذلك الصيام عن الميت وجماهير أهل العلم يرون جوازه وأما النيابة عن الأحياء في غير ما ذكر فلا تجوز. أما في الآخرة فإن الله أكرم بالأمة بالشفاعة وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله وبعد إذنه ورضاه، فإن قلنا تنزلا أنه يريد الشفاعة فمن أين علم أنه شفيع؟ أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن قيل: نعم، قلنا: فهذا كفر وإن قيل: إلهام فالإلهام لا يتطرق إلى المسائل الغيبية التي يتعلق أمرها بالله عز وجل وإن قيل: من باب حفظ الله لهم فإن ذلك من تزكية النفس والله عز وجل يقول:) فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى( [ النجم:32] فإن خلا مما ذكر فلا يكون إلا أنه خط عنهم شيئا من التكاليف وكفاهم إياها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ساجدا راكعا باكيا ويقول صلى الله عليه وسلم: (( أو لا أكون عبد ا شكورا؟)) وكان صلى الله عليه وسلم يتحرك بالدعوة وهكذا أصحابه فلم يكونوا ينظرون إلى الناس بمجرد النظر ليوصلهم إلى الله ولكن بدعوتهم وإبلاغ دين الله لهم؛ ليحققوا الوصول الحقيقي إلى الله لا الوصول في مفهوم الصوفية الذي يوصل الإنسان إلى السماء فيعرج إليها متى شاء كما في قصة الطالب الذي قام الليل في المزبلة ويظن أنها الجنة..).(106/143)
.
المبحث الثالث: التعبد بمحرمات منصوص على تحريمها:
جاء في كتاب جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1) في ذكر كرامات محمد بن حسين البجلي قال: (قال المناوي محمد بن حسين البجلي الإمام العارف الصوفي صاحب الكرامات والمكاشفات، سئل عن السماع وما فيه من صوت الجلاجل فقال: والله ما أسمعها تقول إلا الله الله الله) (2)
__________
(1) 1/198).
(2) إن هذا القول يصادم نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم المعتبرين، فيجعل من سماع السماع وصوت الجلاجل على الدفوف عبادة وذكرا، والله عز وجل يقول:) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا( قال ابن مسعود عن لهو الحديث: والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند النعمة ورنة عند مصيبة)) رواه البراز والضياء وهو في صحيح الجامع رقم: (3801).
قال العلامة السيوطي رحمه الله في الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص275( ومن المحدثات الرقص والغناء في المساجد أو الضرب بالدف أو الرباب أو غير ذلك من آلات الطرب، فمن فعل ذلك في المسجد فهو مبتدع ضال مستحق للطرد مع الضرب؛ لأنه استخف بما أمر الله بتعظيمه.
( ما حكى الإمام البيهقي عن شيخه الإمام الحليمي: إنا إذا أبحنا الدف فإنا نبيحه للنساء خاصة، وعبارة مناهجه وضرب الدف لا يحل إلا للنساء؛ لأنه في الأصل من أعمالهن وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين بالنساء) ( كف الرعاع(ص: 60) الشعب(4/ 283). وقال الإمام ابن قدامه المقدسي رحمه الله تعالى في المغني(14/159) (أما الضرب به- أي الدف- للرجال فمكروه( أي كراهة تحريم للعن المتشبه بالنساء) على حال؛ لأنه إنما يضرب به النساء والمخنثون المتشبهون بهن ففي ضرب الرجال به تشبه بالنساء وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء) أهـ.
وفي روح المعاني للألوسي رحمه الله (11/ 75- 79): ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسدة أكثر من أن تحصى وكثير مما ينشدون في الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة) ثم قال: ( ثم إنك إن ابتليت بشيء من ذلك فإياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة) أهـ .
ونقل القرطبي عن الإمام الطرطوشي أنه سئل عن قوم غي مكان يقرأون شيئا من القرآن ثم ينشد لهم منشد من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة، فهل الحضور معهم حلال أم لا؟
فأجاب: مذهب الصوفية أن هذه بطالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد، فأول من أخذ به أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خور، فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون وهو- أي الرقص- دين الكفار وعباد العجل، وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير والوقالر، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يحضر معهم ويعينهم على باطلهم. هذا مذهب الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وأئمة المسلمين) أهـ .
قال ابن حجر الهيتمي معلقا على قوله( فتأمله واحفظه فإنه الحق وغيره باطل الذي غايته الفظيعة الآثام) أ هـ كف الرعاع(ص: 45).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى(11/ 565): ( وبالجملة قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو بالدف كما يبح لأحد أن يخرج عن متابعة واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا في باطن الأمر ولا في ظاهره ولا لعلصي ولا لخاطئ ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح أما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بالدف ولا يصفق بكف، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((التصفيق لنساء والتسبيح للرجال)) ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا، ويسمون الرجال المخنثين مخانيث وهذا منشور في كلامهم) أهـ فهذا هو حالهم وهذه هي عبادتهم وهو لا يخفى عن الناظر.(106/144)
.
وفي (1/ 149) في ذكر كرامات محمد بهاء الدين شاه نقشبند قال: (ودعاه بعض أصحابه في بخارى فلما أذن المغرب قال للمولى نجم دادرك: أتمتثل كل ما آمرك به؟ قال: نعم، قال: فإن أمرتك بالسرقة تفعلها؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأن حقوق الله تكفرها التوبة وهذه من حقوق العباد (1) فقال: إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا) (2) .
__________
(1) فإن المانع له من طاعته في المعصية كون المعصية من حقوق العباد فلو كانت من حق الله لعصى الله في طاعة سيده ويكون تعبدا وقربة إلى الله.
(2) قد سبق ذكر هذه القصة والتعليق عليها وأزيد أنه لا يجوز الاختبار بالمعصية والأصل أن المعاصي يزجر عنها ولكن هؤلاء يجعلون للأمور ظاهرا أو باطنا وهم ممن يعملون الباطن.(106/145)
وجاء في كنوز السعادة الأبدية (1) قال: (وقد ذكروا أن الحبيب أحمد المذكور [سورة وهو أحمد بن محسن الهدار] كان إذا رأى امرأة في الطريق قبصها في ثديها والحكمة في ذلك أنه يخرج شهوة الزنا منها، فقال بعض السادة لزوجته: إن خليتي عمي أحمد يقبص ثديك فعلت بك وفعلت، فلما كان في بعض الأيام أقبلت تلك المرأة تسير وزوجها يمشي في تلك الطريق فإذا الحبيب أحمد واصل إليها فأسرعت المشي وخبت خوفا من الحبيب أحمد ومن زوجها فخب الحبيب أحمد وراءها وقال لها: مالك عذر من قبصة عمك وإن خبيتي فلحقها وقبصها في ثديها وزوجها ينظر وقال لها: باتأتين بسبعة أولاد يركبون الخيل على رغم أنف زوجك، فقال زوجها: إذا كان هكذا فلا بأس، فولدت الأولاد السبعة وركبوا الخيل كما ذكر الحبيب) (2)
__________
(1) ص: 237-238).
(2) قد سبق ذكرها ومحل الشاهد من ذكرها هنا أن القبصة بركة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والبركة من الله) رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله فيكون هذا الأمر مما يتقرب به إلى الله؛ لأن التماس البركة عبادة، رغم أن هذا الفعل منكر لا يجوز فعله وهو من الفحشاء والله عز وجل يقول: ) قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا أصافح النساء) رواه الترمذي والنسائي والبيهقي عن أميمة بنت رقيقة وهو في صحيح الجامع رقم(2513).
فانظر إلى نبي الأمة وسيد الأولياء وأعظمهم كرمة على ربه ينهى عن لمس المرأة بمجرد اللمس فكيف بقبصة الثدي إنها دعوة إلى التفسخ والتحلل وانظر إلى موقف الزوج الذي ماتت عنده الغيرة. فهل كان سلفنا الصالح يتنزلون بذكر هذه الرذائل عوضا أن يجعلوها قربة ويرجوا من ورائها خيرا، إن الأمر لا ترضاه حتى الحيوانات إذغ استثنيناه منها الخنزير، فإنه لا غيرة له ومن يأكله من بني البشر.
فهل ترضى يا أخي أن يتعرض لأهلك أي إنسان مهما بلغ من الصلاح والعلم؟ وهل يكون في نظرك إنسانا معتبرا...؟!(106/146)
.
المبحث الرابع: النصب والتحايل على الناس من أجل أخذ أموالهم أو جهدهم بالبشارات الكاذبة:
جاء في جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1) في ذكر كرامات محمد فرفور قال: (المجذوب الصاحي كان محلوق اللحية، وله كرامات كثيرة منها:أنه كان يبيع الليمون كل ليمونة بغلس، فمن أكل من ليمونه وبه مرض شفي، وله أخ يبيع الفجل في باب جامع الأزهر فمن كل ورقة من فجله عوفي وشرب رجل من جماعة الخواص فتعلق بحلقه علقة وكبرت حتى سدت حلقه فقال له الخواص: خذ من ورق فجل الشيخ الذي يبيعه بباب الأزهر ورقة وكلها ففعل فسقطت العلقة حالا).
وفي (1/ 492) في ذكر كرامات أحمد بن الرفاعي قال: (وقال الإمام اليافعي في كتابه روض الرياحين روي أن الشيخ جمال الدين خطيب أونيه كان من كبار أصحاب سيدي أحمد، وكان في أونيه بستان، فأراد أن يشتريه لضرورة دعته إلى شرائه. فطلب يوما من سيدي أحمد أن يرسل إلى صاحب البستان وهو الشيخ إسماعيل بن عبد المنعم شيخ أونيه ويكلمه ني بستانه ويشتريه منه، فقال سيدي أحمد: سمعا وطاعة، أي أخي أنا أمشي إليه ثم قام ومشى معه إلى صاحب البستان وكان منزله في أونيه، فشفع إليه لا المبيع المذكور فأبى، فكرر الشفاعة فقال: أي سيدي إذا اشتريته مني بما أريد بعتك، فقال له: أي إسماعيل قل لي كم ثمنه؟
__________
(1) 1/295).(106/147)
فقال: أي سيدي تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: إي ولدي من أنا حتى تطلب مني هذا؟ الطلب مني مهما أردت من الدنيا فقال: أي سيدي ما أريد شيئا من الدنيا سوى ما ذكرت، فنكس سيدي أحمد رأسه واصفر لونه وتغير ثم رفعه وقد تبدلت الصفرة محمرة وقال: أي إسماعيل قد اشتريت منك البستان بما طلبت، فقال: أي سيدي اكتب لي خطك بذلك، فكتب له ورقة بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل ابن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامنا له على كرم الله تعالى قصرا في الجنة، تحفه أربعة حدود: الأول إلى جنة عدن، الثاني إلى جنة المأوى، الثالث إلى جنة الخلد والرابع إلى جنة الفردوس بجميع حوره وولدانه وفرشه وأسرته وأنهاره وأشجاره عوض بستانه في الدنيا والله له شاهد وكفيل، ثم طوى الكتاب وسلمه إياه فأخذه ومضى إلى أولاده وهم على الدالية يسقون ذرة كانوا قد زرعوها في البستان المذكور. فقال: انزلوا فقد بعت البستان المذكور إلى سيدي أحمد فقالوا: كيف بعته ونحن محتاجون إليه؟ فعرفهم بما جرى من حديث القصر وأن خطه في يده بذلك، فأبوا أن يرضوا إلا أن يجعلهم شركاء فيه، فقال: انزلوا فهو لي ولكم والله على ما نقول وكيل فرضوا ونزلوا واستولى الخطيب على البستان وتصرف فيه، ثم بعد مدة يسيرة توفي الشيخ إسماعيل بائع البستان إلى رحمة الله وكان قد وصى أولاده أن يجعلوا ذلك الكتاب في كفنه ففعلوا ودفنوه، فلما أصبحوا من الغد وجدوا على قبره مكتوبا (قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) (1)
__________
(1) إن هذه القصة نصب واحتيال من وجوه:
الأول: أن الأجور والمنح في الآخرة و لا يملك أحد التصرف فيها إلا الله وما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ممن ادعى ذلك من غير معرفة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب دجال.
الثاني: إن أهل الجنة لا يعلمهم إلا الله وما أوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومذهب أهل السنة والجماعة( أنهم لا يشهدون امعين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الأربعة والعشرة المبشرين بالجنة وعكاشة وغيرهم ممن عينهم من أهل الجنة وكذلك من شهد القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم لهم بالنار كأبي لهب وأبي جهل وأبي طالب وغيرهم، وهذا قد ضمن له بقصر في الجنة.
الثالث: أن الرجل كأنه يرى الجنة ويرى القصر فيه من حيث بين حدودها وهذا الأمر لا يعلم إلا بوحي، أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما ما وجد من كتابه فلا يستبعد أنه من فعلهم أو شيطانهم وليس هذه القصة فقط التي فيها ضمان الجنة لغيرهم أو لأنفسهم فقد جاء في كنوز السعادة الأبدية(ص: 299- 201) في ذكر كرامات سلطانة قال: ( قال الشواف: سلطانة أم العسكر لها مناقب تشتهر مثل المشايخ وأكبر فيها وقع سر الله إذا بغت علم أخبار جاها النبي وسط الدار ظاهر تشوفه الأبصار يحكى لها شيء لله، وكانت تقول أن الله أطلعني على أحوال الأولياء جميعهم إلا حال سيدي عبد الرحمن السقاف وابنه أبي بكر كلما ارتقيت وجدتهم قبلي إذا بايأتي الولي إلي أعلم به قبل وصوله إلا الشيخ عبد الرحمن ما أدري به إلا وهو عندي إلا أني أسمع الشاؤوش في السماء يقول: رحبوا بالسلطان ابن السلطان، وكانت تقول: لو لا خوف الشهرة لضمنت على الله بالجنة لمن زارني آخر إثنين في الشهر) وفي الشحر في أحد بيوتها ويمكن في بعض المناطق الأخرى. ولذلك تجد كثيرا من الجهال الذين يذهبون إلى حول علي حبشي بسيئون يقصدون قبرها بالزبارة وكذلك في غير أيام الحول، انظر أخي إلى الجهل كيف يفعل بأصحابه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( لا تجعلوا قبري عبدا..)) والعبد يطلق على ما يكون في الأسبوع أو الشهر أو السنة، وهذه تجعل لزيارة قبرها يوم الإثنين ضمان الجنة.(106/148)
وجاء في كتاب كنوز السعادة الأبدية (ص:357) قال: (وأضاف رجل بعض الصوفية هو ومريديه فلما قدم لهم الأكل قال الشيخ لمريديه: قفوا عن أكل هذا الطعام، وكله هو كله ثم خرجت منه شعلة نار، وقال لهم: إن الطعام نار وأنا لا تضرني وقدرت على إخراجها وأنتم لا تقدرون على ذلك) (1) .
الفصل الثالث
انحرافات الخرافيين في السلوك والأخلاق
__________
(1) انظر كيف حالهم يحلونه لأنفسهم ويحرمونه على غيرهم، فهم لا تؤثر فيهم النار إن حملنا كلامه على الحقيقة وهذا من السحر الذي يتعاملون به كما أسلفنا في ذكر مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع مشايخ البطائحية، وإن كان يريد بذلك الشر إي أن الطعام شر فإن الإنسان يبتعد بنفسه عن الشر أولا قبل أن يدفع غيره عنه، وكل صالح يهرب من الشر كما في الصحيح من حديث حذيفة((... وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع...)) ثم إنه لو حمل على ذلك فإنه يحرم طيبات الله على عباده قال الله تعالى:) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ( وقال الله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ( [ البقرة:172]، وهذا لا يفسر إلا أنه يأكل مع شياطينه ويلبسون عليهم بهذه الكرامة المزيفة كما زينوا للمشركين قتل أولادهم سفهاً.(106/149)
إن الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن يحتلان أهمية عظيمة ومكانة ومنزلة رفيعة في ديننا الإسلامي الحنيف، فهما جزء لا يتجزأ من عقيدتنا وتصديق ذلك قوله تعالى:) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ 1 فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ 2 وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ([سورة الماعون] وقال الله تعالى: ) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ 1 الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ 2 وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ 3 أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ 4 لِيَوْمٍ عَظِيمٍ 5 يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ([سورة المطففين] والأخلاق الفاضلة من أعظم ما وصف به صاحب رسالة الإسلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال الله جل جلاله:) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( [سورة القلم].
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: الخلق العظيم هنا هو الأدب العظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به وهو الإسلام وشرائعه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وعن مجاهد وعن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم في صحيحه.
قال قتادة: تقول كما هو في القرآن، وجعل الله إصلاح الأخلاق من أخص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ومن أعمدة قوام الأمم لما رواه البخاري في الأدب المفرد وابن سعد والحاكم وابن عساكر وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وفي رواية (لأتمم صالح الأخلاق) وكما قال القائل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيتڑڑفإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا(106/150)
وجعل الله الأخلاق الفاضلة من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا بها لما رواه الترمذي عن أبى ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
قال ابن رجب رضي الله عنه في جامع العلوم الحكم عند قوله صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن ): (هذا من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به، وإنما يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس)أهـ
ومن أجل مكانة الأخلاق الفاضلة وأهميتها جعل الله لمن تخلق بها أجرا عظيما، ومن الأدلة على ذلك:
أولا: ما رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق).
ثانيا: ما رواه الترمذي أيضا عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال:(تقوى الله وحسن الخلق، فإن الله يبغض الفاحش البذيء) وصححه الألباني في صحيح الجامع. وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه الطبراني.
ثالثا: ما رواه البزار وصححه الألباني في صحيح الجامع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة) وفي رواية لأبي داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة القائم والصائم).(106/151)
رابعا: ما رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع عن أسامة بن شريك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا) وفي رواية الطيالسي عن جابر: (أن الله جميل يحب الجمال ويحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها) أي: حقيرها ورديئها وفي رواية الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قال: يا رسول الله، وما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
خامسا: ما رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس لم يعطوا شيئا خيرا من خلق حسن).
فهذه مكانة الأخلاق وأهميتها وفضلها فحري بكل مؤمن العناية بها التزاما وحرصا على تطبيقها هم أهل الصلاح والتقى ولكن الخرافيين أبوا إلا أن يجعلوا من الفحش والبذاءة وسوء الخلق وكل خارم للمروءة شرفا وكرامة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء) (1) .
فجعلوا من الفواحش قربة وولاية وعزا وفخرا ونورا وهداية وحفظا وبركة مسوغا لأفعالهم الشنيعة المؤلمة المحزنة التي تثير غيظ القلوب المؤمنة المخلصة المتمسكة بشريعة الله السائرة على هدي رسولها صلى الله عليه وسلم.
إني وأنا أجمع بعض مقالاتهم أخجل من قراءتها لما فيها من فحش القول والفعال ولما فيها من الإساءة للإسلام والمسلمين وللصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنها تجعل العدو للإسلام يسخر من ديننا ويقول اليهودي أو النصراني أو الشيوعي أو العلماني: ما نفعله في أوربا من تفسخ وفحش وزنا وغير ذلك باسم المتعة الجنسية يفعله صالحوكم -أي: المزعومين- باسم الكرامة والصلاح وغير ذلك.
__________
(1) رواه أحمد في المسند برقم(3839) وإسناده صحيح.(106/152)
وأقول لك أخي القارئ: ما لم يكن دينا لأولنا ولخيارنا أيكون دينا لنا؟ وما نهي عنه أولنا وخيارنا أيكون دينا ومشروعا لنا؟ وما كان يعد عند نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخيارنا فحشا وبذاءة أفيكون لأخر الأمة كرامة وفضلا؟!
وإني أضع بين يديك مقالاتهم من كتبهم لترى بعينك كيف يجعلون من الفحش كرامة وفضلا.
المبحث الأول: الزنا ومقدماته والتلذذ بالمردان كرامة لا يجوز الإنكار عليها عندهم:
جاء في كتاب جامع كرامات الأولياء (1/ 414) في ذكر كرامات إبراهيم النبتيتي قال: (ومنها: قال الحمصاني: وقفت أصلي في جامع المرأة فدخل علي رجل من الجند ومعه أمرد وقصد به جهة المراحيض فتشوشت في نفسي وقلت: ضاقت عليه الدنيا وما وجد إلا الجامع ولم أنطق بذلك، فقال لي إبراهيم المذكور: ما فضولك؟ وما أدخلك يا كذا ويا كذا؟ وسبني وشتمني وقال: لا تتعرض ومالك وذلك؟ إلى غير ذلك) (1) .
__________
(1) يفهم من هذه الحادثة أمور منها:
الأمر الأول: إن مثل هذا الأمر كان معروفا في زمانهم وأنه معروف عند الجند.
الأمر الثاني: إن الوقت كان وقت خلوة وريبة ولو كان في وقت وجود الناس لما وجد الرجل ذلك التشويش في قلبه.
الأمر الثالث: إن القاص أراد أم يظهر كرامة إبراهيم النبتيتي من معرفة ما في نفس الرجل وغفل عن الأمر الشنيع وهو ملازمة المردان والاختلاء بهم.
الأمر الرابع: أن الخرافيين لا يهتمون بإنكار المنكر بل يفعل الناس ما شاءوا ولو كان الأمر فيه ريبة مشروعة بل لهم تأويلات فاسدة في فعل بعض الفواحش. وهم لا ينتهزون من ذلك الفحش كما قال ابن شهاب في قوله:
ولهم مع الجنس اللطيف لطائف
أبت المروءة شرحها للناقل(106/153)
وفي (2/ 373) في ذكر كرامات علي أبو خودة قال: (وأخبرني الشيخ يوسف الحديثي رضي الله عنه قال: كنت يوما في دمياط فأراد السفر في مركب قد إنوسقت- أي امتلأت- ولم يبق فيها مكان لأحد فقالوا للريس: إن أخذت هذا غرقت المركب؛ لأنه يفعل في العبيد الفاحشة، فأخرجه الريس من المركب فلما أن أخرجوه من المركب قال: يا مركب، تسمري، فلم يقدر أحد يسيرها بريح ولا بغيره، وطلع جميع من فيها ولم تسر).
وفي طبقات الشعراني (1) قال في كرامات علي أبو خودة: (وكان إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه وحسس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس) (2) .
__________
(1) 2/ 135).
(2) فهذه أعظم من الأولى حيث نستنتج منها منطوقات ومفهومات منها:
أولا: أن الرجل قد عرف بين الناس بفحشه وإتيانه العبيد ومراودته للنساء والمردان فهو مظهر للمنكر الذي يحا للناس التعاون غيبته والتعاون على إزالة المنكر الذي يباشره وإقامة حد الشرع في حقه.
ثانيا: أن المجتمع الذي يعيش فيه الرجل إما مجتمع متفسخ أشبه بالمجتمعات الأوربية المتحضرة على زعمهم وإما مجتمع جاهل أشبه بمجتمع الحيوانات فاستغل أمثال هذا الرجل الماجن جهلهم ومارس معهم هذه الرذيلة تحت غطاء الكرامة فهل تجتمع كرامة مع لواطة وولاية وزنا وفحش ولواط؟
ثالثا: أن ما يفعله الرجل هو فحش وزنا ولواط بيّن لا يقبل التأويل فهو فعل مقصود تراه الأعين وتحسه الأجساد.
فلا أدري أي عقول تقبل بعد ذلك تأويلا وأي تأويل لهذا إنما هو فتح باب للزندقة والإباحية.(106/154)
وفي (1/ 366) في ذكر كرامات علي وحيش قال: (وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له: أمسك رأسها إلي حتى أفعل فيها، فإن أبي شيخ البلد تسفر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، قال الشعراني: وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة) (1) .
__________
(1) انظر إلى هذه الفاحشة الدنيئة كيف صيرها الخرافيون كرامة ثم انظر إلى خداعهم ودجلهم أن هذا ليس له حقيقة إنما هو خيال من السحر الجائز المبارك كما في شرعهم، وبمثل ذلك يخدعون الجهلة في التستر على فواحشهم وفسادهم.(106/155)
وفي كتاب كنوز السعادة الأبدية (1) قال: (وقد ذكروا أن الحبيب أحمد بن عيسى الهدار كان إذا رأى امرأة في الطريق قبصها في ثديها والحكمة في ذلك أنه يخرج شهوة الزنا منها، فقال بعض السادة لزوجته: إن خليتي عمي أحمد يقبص ثديك فعلت بك وفعلت؟ فلما كانت في تلك الطريق فإذا الحبيب أحمد واصل إليها فأسرعت المشي وخبت خوفا من الحبيب أحمد ومن زوجها فخب الحبيب أحمد وراءها وقال لها: مالك عذر من قبصة عمك أحمد وإن خبيتي، فلحقها وقبصها في ثديها وزوجها ينظر وقال لها: باتأتي بسبعة أولاد كلهم يركبون الخيل على رغم أنف زوجك، فقال زوجها: إذا كان هكذا فلا بأس) (2).
المبحث الثاني: كشف العورة ولاية:
__________
(1) ص: 237-238).
(2) انظر إلى هذه الكرامة قبصة في الثدي مقابلها سبعة من الولد يركبون الخيل فكيف وكيف وكيف ...) هذه هي الكرامة عندهم هذا يلوط بالعبيد ويلتمس مقاعد النساء والمردان ويراودهم وهذا يلوط ويدخل النور من دبر الغلام وهذا يقبص الثدي يخرج حظ الزنا. فهل هذا هو الإسلام الذي جاء به نحمد صلى الله عليه وسلم وأقول لهؤلاء الذين يسيرون في فلك الخرافيين، أتقبل أن يفعل بزوجتك هكذا أو بابنك هكذا أو ابنتك هكذا أو يمارس معك مثل هذا الفعل؟ فكل غيور على عرضه لا يرضى ولا يقبل ذلك مهما كان المقابل إلا من كان ديوثا، والديوث الذي يرضى بالخبث في أهله، هذا مع كونه فاحشة مجردة عن كل شيء فكيف إذا كان هذا الفحش يتعبد به بهتانا وزورا ويدون في الكتب بأنه كرامة وهو زندقة يلزم فيه الحد الشرعي للزنديق ولمن يسعى في الأرض فسادا؟
فهذه أخي القارئ الكرامة عندهم وهذه كتبهم شاهدة عليهم وأقول لك: خذ مقارنة بين ما ذكره وبين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقب الصحابة لن تجد شيئا من بذيء القول منقبة لهم وكرامة فتاريخهم حافل بالجهاد والتضحية والخلق الحسن.(106/156)
وفي (1/ 210- ا 21) في ذكر كرامات محمد بن هارون قال: (إنه كان يقول لوالد سيدي إبراهيم الدسوقي إذا مر عليه ويقول: في ظهره ولي يبلغ صيته المشرق والمغرب وكان سبب خراب بلده سنهور المدينة، أنه كشف له عن صاعقة تنزل من السماء تحرقها بأهلها، فأمر بذبح ثلاثين بقرة وطبخها ومدها في زاويته وقال للنقباء: لا تمنعوا أحدا يأكل أو يحمل، فملأ الناس وحملوا جهدهم، فجاء فقير مكشوف العورة أشعث أغبر فقال: أطعموني حتى عجزوا فلم يقدروا أن يشبعوه فدفعوه وأخرجوه، فنزلت الصاعقة على البلد، فخرج الشيخ بأهله ومن تبعه وهلك الناس في أسواقهم وبيوتهم أجمعين فقال الشيخ للنقيب: يا ولدي ما هذا الذي فعلته؟ شخص يريد يتحمل البلاء عن بلدنا بأكلة تمنعه، فهي إلى الآن خراب وعمروا خلافها) (1) .
__________
(1) قد يتوهم القارئ أن الفقير ربما كان مجنونا والمجنون لا يؤخذ على كشف عورته ولكن يندفع هذا التوهم بقوله ( شخص يريد يتحمل البلاء عن بلدنا..) فلم يقتصر كشفه لأمر الصاعقة فقط بل بأمر الرجل، ثم انظر كيف خروجه بعد نزول الصاعقة وقد صارت البلاد كلها خرابا....(106/157)
وفي (1/ 412) في ذكر كرامات إبراهيم العريان قال: (وكان يطلع على المنبر ويخطب عريانا فيقول: للسلطان دمياط باب اللوق بين القصرين وجامع طولون والحمد لله رب العالمين فيحصل للناس بسط عظيم، قال الإمام الشعراني: طلع لنا مرارا عديدة بالزاوية وسلم على باسم أبي وأمي وقال المناوي: كان محبوبا للناس معظما عندهم معتقدا، وكان يصعد المنبر فيخطب عريانا ويذكر الوقائع التي تقع في الأسبوع المستقبل فلا يخطئ في واحدة، وكان إذا أدخلوه بيتا وأغلقوه عليه وجدوه خارجه) (1) .
وفي (1/ 24) في ذكر كرامات حسن قضيب البان الموصلي قال: (قال المناوي: خرج أبو النجاد المغربي يريد المشرق ومعه أربعون وليا فكان كل بلد جاءه يسترعب ما فيه من الرجال حتى وصل الموصل فخرج إليه الرجال وإذا بقضيب البان خرج بأطماره وشعثه فقال: أين الشيخ؟ فقالوا:خرج، قال: خرج يتشيطن، فغضبوا، وقال أحدهم: كذب شيطانك، فتغيظ ورمى أطماره ووقف عريانا على جنب بركة يصب الماء على يده بيده، وإذا بالشيخ جاء فأخبروه قال: صدق كنت مع إمام الموصل ينافقني وأنافقه، ثم قال قضيب البان: أخبرني بكل رجل رأيته من بلادك، فذكر رجلا وقضيب البان يقول في كل رجل وزنه كذا ربع رجل ونصف رجل، وهذا وازن وهذا كامل وهذا وإن ملأ صيته ما بين الخافقين لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
__________
(1) لقد سبق التعليق عليها ولكن أضيف حسب الزيادة المذكورة للمناوي( كان محبوبا للناس معظما عندهم معتقدا...) أقول: هل يتصور من مجتمع صالح يقبل شخصا يتعرى أمامه فضلا أن يعتقد به الولاية( إذا حملنا قوله على هذه المحمل) لأن من شرط الولاية التقوى والتعري معصية وكذب على الله يفترى ككذب أهل الجاهلية في طوافهم.
وإني أضع هذا المسألة بين يديك: هل تقبل أن يكون خطيب الجامع الذي تصلي فيه بهذه الصورة؟! وهل ترضى أمثال هؤلاء يكونون لك قدوة؟!
فأما الحكم الشرعي في تلك الفعال فسيأتي إن شاء الله تعالى.(106/158)
وفي (2/ 299) في ذكر كرامات عدي بن مسافر قال: (قال أبو بكر البركات: دخل يوما على عمي الشيخ عدي ثلاثون فقيرا فقال عشرة منهم: يا سيدي تكلم لنا في شيء من الحقيقة، فتكلم لهم فذابوا وبقي موضعهم حومة ماء (1) وتقدم العشرة الثانية فقالوا له: تكلم لنا في شيء من حقيقة المحبة. فتكلم فماتوا، ثم تقدم الآخرون وقالوا: سيدنا تكلم لنا في شيء من حقيقة الفقر، فتكلم لهم فنزعوا ما كان عليهم من الثياب فخرجوا عرايا إلى البرية) (2)
__________
(1) ابن آدم يكون كالثلج ويتحول إلى أسيد يحرق الأرض فيحرقها ثم يكون حومة هذا أثر علم الشيطان الذي يسمونه الحقيقة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا الشريعة لانت قلوبهم وازدادوا إيمانا بذكر الله كما قال الله تعالى عنهم) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [ الأنفال:2]. وقلوب هؤلاء وأجسامهم تذوب بذكر الشيطان.
(2) كيف يكون حال المسلمين إذا كان هؤلاء أسوتهم انحطاط وتخلف فإن هذا الكرامة بزعمهم أخطر ما تحمله محاربة العلم الشرعي وتخويف الجهال من معرفة الشرع ولذلك اشتهر عند كثير من العامة أن كثرة العلم والإشتغال بالمذاكرة للقرآن والسنة يؤدي إلى الجنون ولذلك يكتفون في تعليم أبنائهم على أحكام الطهارة والصلاة وترك الأمور الأخرى لأمثال هذه الرموز التي جعلوها أسوة للمسلمين وهم أسوة فساد ورذيلة.
ف'ن العلم الشرعي علم الكتاب والسنة يملأ القلوب نورا وخوفا من الله واطئمنانا وثباتا قال الله تعالى:) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ( [ الزمر:23]. وقال جلا جلاله:) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [ الأنفال: 2]. وقال الله سبحانه وتعالى:) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( [ الرعد: 28].
أما ما ذكره المخوف من أحوال الفقراء وأثر علم الحقيقة عليهم فإما أن يكون مما ينسجه الخرافيون من قصص وروايات مكذوبة وهذا من وسائلهم وإما أن يكون من السحر وهم لا يتنزهون عنه وغالب مكرهم قائم على السحر والشعوذة والدجل.(106/159)
.
جاء في جامع كرامات الأولياء (1) في ذكر كرامات علي ثور الدين بن العظمة قال: (ومن كراماته ما كان حشيش الحمصياني أن مر عليه يوما، فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستر عورته فما تم له هذا الخاطر إلا وقد وجد نفسه بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف شاء، ويقول له: انظر إلى قلوبهم ولا تنظر إلى فروجهم) (2)
__________
(1) 2/378).
(2) إن ما جاء في الكرامة المزعومة لا يقبله عقل فضلا أن يقره الشرع لعدة أمور:
الأول: أن الفطرة تستقبح كشف العورة وما سميت عورة إلا لقبح منظرها وقد استقبح كشفها أبونا آدم وزوجته قال الله جل جلاله: )فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ 20 وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ 21 فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ( أو قوله تعالى: ) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ( [ الأعراف:26].
قال القرطبي في تفسيره: (سوآتهما) عوراتهما وسمي الفرج عورة؛ لأن إظهاره يسوء صاحبه، ودل هذا عليه السلام قبح كشفها فقيل: إنما بدت سواءتهما لهما لا لغيرها- وقال في قوله تعالى: ) فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا( وفي الآية دليل على قبح كشف العورة وأن الله أوجب عليهما الستر ولذلك ابتدر إلى سترها ولا يمتنع أن يؤمروا بذلك في الجنة كما قيل لهما: ) وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ( وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك لأن ستر ظاهره يمكنه التستر بها كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم.
وقال في قوله تعالى: ) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ( فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: ) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ( قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة؛ لأنه قال:) يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ( وقال قوم إنه ليس دليلا على ما ذكره بل فيه دلالة على الإنعام فقط.
(قال) قلت القول الأول أصح ومن جملة الإنعام ستر العورة، فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس.أهـ.
فهذا يدل على أن الفطرة تأبى كشف العورة، فإذا كان أبو البشر مع زوجته يأبيان كشف عورتيهما لهما لا لغيرهما وهذا بزعمهم الولي يكشف عورته ويصر على ذلك الفعل ويقول انظر إلى قلوبهم ولا تنظر إلى فروجهم.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحمل رؤية الفخذ من أحد أصحابه فيسارع إلى توجيهه وبيان حكم الفخذ مكشوفا ويقول لجرهد(غط فخذك فإن الفخذ عورة) أخرجه البخاري تعليقا وأبو داود مسندا بسند صحيح. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احفظ عورتك إلا من زوجك).
ثانيا: إن ذلك الفعل من المنكر المجمع على إنكاره ولا يكتفي بالخاطر بل بحسب ما استطاع الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم، فكان بهذا الخاطر الإنكاري استحق ذلك التأنيب والتأديب.
ثالثا: إن هذا الولي بزعمهم لديه قدرة كقدرة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا جعله بين أصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء فماذا ترك لله؟
رابعا: دعوة إلى عدم مؤاخذة الناس حسب ظواهرهم وأن العبرة ليست بالظاهر وإنما العبرة بالبواطن في الحكم، وفي ذلك تعطيل للشريعة وكأن لا تلزم بين الظاهر والباطن وهذا معتقد المرجئة وغيرهم وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على تلازم الظاهر والباطن( للمزيد انظر كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي).(106/160)
.
وفي (2/331-332) في ذكر كرامات علي الكردي: أحد أكابر الأولياء أصحاب التصريف العظيم والكرامات الكثيرة- كما زعموا- قال: (ولما جاء العارف الكبير الإمام شهاب الدين عمر بن محمد المسهروردي إلى دمشق في رسالة الخليفة إلى الملك العادل بالخلعة والطوق وغير ذلك قال لأصحابه: أريد أن أزور عليا الكردي، فقال له الناس: يا مولانا لا تفعل أنت إمام الوجود، وهذا رجل لا يصلي ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته، فقال: لابد من ذلك، قال: وكان الشيخ علي الكردي مقيما أكثر أوقاته في الجامع حتى دخل عليه مولى آخر يقال ياقوت، فساعة دخوله من الباب، خرج الشيخ علي من دمشق وسكن جبانتها بالباب الصغير وما دخلها بعد ذلك إلى أن مات وياقوت فيها يتحكم، فقالوا للشيخ شهاب الدين: هو في الجبانة، فركب بغلته ومشى في خدمته من يعرفه موضعه، فلما وصل إلى قريب من مكانه، ترجل وأقبل يمشي إليه فلما رآه علي الكردي وقد قرب منه كشف عورته! فقال الشيخ شهاب الدين: ما هذا شيء يصدنا عنك ونحن ضيفانك، ثم دنا منه وسلم عليه وجلس معه وإذا بحمالين قد جاءوا ومعهم مأكول متبر) (1)
__________
(1) قال مؤلف كتاب كشف حقيقة الصوفية معلقا على هذه القصة: ( وهكذا غاص المجتمع الإسلامي في ظلمات الضلال والجهل، لا يصلي ويسير مكشوف العورة وهو يتحكم ويتصرف بالوجود، ويزوره إمام الوجود، وما أدرك من هو هذا الإمام، إنه إمام في تدمير عقائد هذه الأمة وسلبها إسلامها ودفعها إلى ظلمات الضلال والشرك والأخلاق البذيئة.. لكن هذا كله له تأويل عند القوم يضحكون به على أذقان المغفلين والسذج وعلى الذين ماتت فيهم الغيرة على الإسلام) أهـ. وأقول: لقد غار الله على عورة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو صبي غير مكلف والقصة معروفة في نقل قريش الحجر لإعادة بناء البيت، فما رءي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها مكشوف العورة).
وغار رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى أسماء بنت أبي بكر قد لبست ثوبا رقيقا فقال لها: يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض فلا يرى منها إلا هذا وذا وأشار إلى الوجه والكفين) والحديث اختلف في صحته وقد صححه الألباني رحمه الله وقال صلى الله عليه وسلم: ( يا جرهد غط فخذيك فإن الفخذ عورة). فلم يكن سيد الأولياء أن يقبل النظر إلى عورة من العورات ولم يكن أحد من كبار الأولياء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد له بالخيرية وبالجنة يتعرى أمام من يأتيه لكي لا يعرف وتكشف ولايته ولكنها ولاية للشيطان كما قال تعالى: ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ(.(106/161)
.
المبحث الثالث: احتقار الناس واستذلالهم والترفع عليهم مما يجوز لهم ولا يجوز لغيرهم:
جاء في كتاب كنوز السعادة الأبدية (1) قال: (وكان بعض المشايخ إذا رأى مريده سار به عند القاضي وقال له: هذا زنى بابنتي أو قذفنا فإن أقر جلدوه وإن أنكر طرده الشيخ، وقال له: رح عني) (2) .
وقال: (ولما حبس الشبلي في المارستات دخل عليه جماعة فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أحباؤك جاءوا زائرين، فأخذ يرميهم بالحجر فشردوا منه، فقال لهم: يا كذا بين لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي.
__________
(1) ص: 171- 173).
(2) انظر إلى صورة الذل يمارسه هؤلاء مع مريدهم هل يتصور أن يكون الاختبار بهذا الوقاحة والفحش إن لم يكن ذلك من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فهل هذه التربية من هدي الكتاب والسنة؟ حاشا وكلا ولكنها من غواية الشيطان وضلاله.(106/162)
وأتى مريد إلى الشيخ أبي يزيد فقال له: يا أستاذي أنا منذ ثلاثين سنة أصوم النهار وأقوم الليل وقد تركت الشهوات ولا أجد في قلبي شيئا من هذا الذي تذكره وأنا أؤمن بكل ما تقول وأصدق به، فقال له أبو يزيد رضي الله عنه: لو صليت ثلاثمائة سنة وأنت على ما أراك عليه لا تجد منه ذرة، فقال: ولم يا أستاذي؟ فقال: لأنك محجوب بنفسك، فقال له: وهل لهذا دواء حتى ينكشف الحجاب، قال: نعم ولكنك لا تقبل ولا تعمل، فقال: بل أقبل وأعمل، فقال له أبو يزيد: اذهب هذه الساعة إلى الحمام واحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة واملأها من اللوز واجمع حولك صبيانا وقل بأعلى صوتك: يا صبيان من صفعني صفعة أعطيته لوزة، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه وأنت على هذه الحالة حتى ينظر إليك كل من عرفك فقال المريد: سبحان الله، فقال له أبو يزيد: قولك سبحان الله شرك، فقال له: وكيف ذلك؟ فقال: أبو يزيد لأنك عظمت نفسك فسبحتها، فقال المريد: لا أقدر على هذا ولكن دلني على غير هذا حتى أفعله، فقال له أبو يزيد: ابدأ بهذا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك بما يصلح لك، فقال: لا أطيق هذا، فقال: إنك قد قلت إنك تقبل وتعمل وأنا أعلم أن لا مطمع لعبد فيما حجب عن العامة من أسرار الغيب حتى تموت نفسه ويخرق عوائد العامة فحينئذ تخرق له العوائد وتظهر له الفوائد) (1)
__________
(1) ما فعل الشبلي هل هذا من أخلاق الصالحين؟ إن هي إلا أخلاق المجانين، ثم هم جاءوا إليه زائرين محبة في الله ولكنهم لا يقبلون مثل هذا إلا أن يذلوا من يأتيهم لو كان زائرا. أما ما أمرد به أبو زيد مريده فإنه اشتمل على عدة مخالفات:
الأولى: حلق لحيته، فإن حلقها مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولأمره صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال).
فحلق اللحية محرم باتفاق الأئمة الأربعة رحمه الله تعالى عليهم وهو بين كما دلت عليه النصوص المذكورة آنفا فهل يكون العلاج والوصول والترقي والكشف بمعصية الله ومخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الثانية: التشبه بالمجانين: لا يجوز من وجهين:
الوجه الأول: خداع الناس؛ فإن الناظر له يظن أنه مجنون فلا يؤاخذه بفعاله والخداع محرم لا يجوز إلا في الحرب، عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( المكر والخديعة في النار لكنت من أمكر الناس)) رواه مسلم قال الراغب في المفردات (ص: 143): الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمره يبيده على خلاف ما يخفيه) أ.هـ. وقال المناوي: الخداع: إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر وقيل: هو إظهار ما يخالف الإضمار ( انظر التوفيق على مهمات التعاريف لابن المناوي(ص: 153) من موسوعة نضرة النعيم(10/447).
الوجه الثاني: التجني على نعمة العقل وعدم شكرها؛ فإن سلامة العقل من أعظم النعم التي أنعم الله بها على العباد؛ فإن المسلم إذا رأى المبتلي يقول كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا). فلا يدعي الإنسان الشر فيصيبه.
الثالثة: التغرير بالأطفال إلى فعل غير مرضي وإلى خلق سيء، فإن الأطفال لا يميزون بين الأخلاق الفاضلة والسيئة إلا بتوجيه الكبار لهم وزجرهم عن مساوئ الأخلاق وإرشادهم إلى محاسنها فإنهم يخدعون بهذا الأسلوب والترغيب فيتعاملون مع غيره بهذا الأسلوب رجاء الحصول على ما وجدوه عند هذا المتشبه بالجنون أو بالعته.
الرابعة: قوله له سبحان الله شرك يدل على جهله بالنصوص الشرعية فإن سبحان تستعمل للتعجب للأمر العظيم كما تستعمل لتنزيه الله جل جلاله من كل نقص وعيب، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في سورة النور: قالوا:) سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ( وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: )سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) رواه البخاري ومسلم. والنصوص الدالة عليه السلام ذلك كثيرة، فمن أي وجه تكون شركا؟
الخامسة: إن المسلم يرتقي بالطاعات والقربات كما في الحديث القدسي( وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه..).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم قربة إلى ربكم ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد) رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم صحيح الجامع(4079).(106/163)
.
وذكر الأستاذ كرامة مبارك سليمان في كتابه الفكر والمجتمع في حضرموت (1) وقال:
ا) حضرموت والسخرية البشرية:
تأخذ السخرية البشرية ألوانا متعددة وتنطوي كلها تحت لواء الإذلال والاستغلال والجبروت، وتشتد وطأة السخرية في ظل الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية وفي حالات الفوضى الاجتماعية، وقد شهدت حضرموت أنواعا من الاضطهاد الاجتماعي والسخرية البشرية، فقد ذكر المؤرخون الحضارم أن معن بن زائدة القائد العبسي في غزوه الكاسح لليمن وحضرموت سنة (140 هـ) قد استباح حضرموت وخرب ديارها ومنابع مياهها وأذل أهلها وألبسهم السواد وألزم نساءها لبس الثياب ذات الذيول الساحبة على الأرض مع كشف جزء من الساق في الأمام. وفي عام (1972 م) شهدت حضرموت طغيانا اجتماعيا أشد وطأة مما فعله معن بن زائدة فصادر النظام الاشتراكي العلمي الذي حكم جنوب اليمن الممتلكات وأمم الأرض والعقار وانتهك الحرمات وأبدل السخرة البشرية بأخرى أظلم منها وأقسى وأعتى وأجهل فسحل وسجن وأذل علية من علماء وقبائل وقادات عمالية شريفة وأقام من أراذل المجتمع والانتهازين القافزين إلى حلبة كل سلطان حكاما طاغين جددا. وهناك لون ثالث للسخرة البشرية التي عرفتها حضرموت فهي قد بدأت بجبروت السلاح ثم انتقلت بقوة المال واستقرت بحكم التقاليد وضحيتها الإنسان الضعيف. يروي لنا هذا النموذج من السخرة البشرية التربوية والاجتماعية الأستاذ محمد أحمد الشاطري (2) : خلال سنوات الفوضى القبلية التي ضربت أطنابها جميع حضرموت وقبل أن تفرض هدنة القبائل التي عرفت بهدنة إنجرامس، لا يكتفي القبيلي المسلح بالنهب والسلب وقطع الطرق، بل يعمل البعض منهم على خطف الضعفاء والمساكين وبيعهم على الأثرياء في حضرموت وخارجها، وكان الثري الكبير السيد عوض الشاطري قد اشترى
__________
(1) وهو كتاب قيم ننصح بقراءته بذل المؤلف فيه جهدا مشكورا.
(2) محمد أحمد الشاطري: كيفية وضع كتاب مفصل عن مناقب آل باعلوي.(106/164)
أربعة رجال من المستضعفين المسترقين بحكم الخطف - شراء صوريا- بوثائق بيع عن القبيلي المختطف بعد أن ينقد الشاطري للقبيلي الثمن، ويطلق الشاطري الرجل المختطف ويكون بذلك قد خلصه من الرق القبلي، ويذكر الأستاذ محمد أحمد الشاطري أن الأربعة الرجال الذين افتداهم جده عوض الشاطري هم:
ا- جد أسرة آل بامقيشم من تريم.
2- جد أسرة آل حيمود.
3- جد أسرة آل عبود.
4- جد أسرة آل عطيفة.
ويقول السيد محمد الشاطري: وكان هؤلاء الأربعة ونسلهم يشعرون بالفضل لأهلنا، لأنهم أنقذوهم من أولئك الظلمة، ويقولون لآل الشاطري: نحن أخدامكم؛ اعترافا بجميلهم عليهم ويأتون رجالا ونساء وأطفالا في يومي العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى إلى منازل آل الشاطري ويهنئونهم بالعيد ويتناولون القهوة ويغنون بالأشعار الشعبية الحمينية تجديدا للترابط الذي ربط المظلومين ومنقذيهم وذكركما لأيام خلاصهم. وتحليلا لرواية أستاذنا الجليل الذي اعترف بأن وثائق الشراء والتي سماها وثائق الافتداء هذه وغيرها لم يحتفظ بها المفتدون من السادة آل باعلوي وآبائه آل الشاطري.
وفي ضوء الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي عاشته حضرموت خلال تلك الفترة يتبين لنا كيف تمارس مختلف ألوان السخرة البشرية في وضع أمتي مضطرب يتمثل في قول الشاعر:
والظلم من شيم النفوس ومن تجد
ڑڑذا عفة فلعله لا يظلم(106/165)
إن المختطفين المستضعفين قد تحولوا من رقة العبودية المؤقتة إلى رقة المخدومية الدائمة المتوارثة جيلا بعد جيل، فالقبلي الضعيف في ماله ودينه ليس في حاجة إلى عبد يصرف عليه وإنما كان هدفه المال وقد حصل عليه ممن يملك المال. وكسب المشتري خادما مطيعا هو وما نسل. وهل هناك أبشع ظلما وأشد إمعانا في السخرة البشرية من أن يمنع المسلم من أداء فريضة الحج. يقول أستاذنا الجليل محمد أحمد الشاطري: أن سعيد بريك أخبره أن جده عوض الشاطري قد منعه من أداء فريضة الحج؛ لأنه في حاجة إليه لأداء عمل له، ولم تشفع وتثن الشاطري عن إصراره توسلات ودموع سعيد بريك ليسمح له بالذهاب إلى الحج في تلك السنة، وبدلا من ذلك ضرب الشاطري خادمه بريك (17) ضربة بمروحة كانت بيده، قائلا له: هذه الضربات بسبع عشرة حجة تحجها إن شاء الله، فحج المحب الخادم المسكين فعلا (17) حجة كما تقول الرواية ومحققت للشاطري الثري الكرامة أيضا!
ومن أمثلة العبودية المؤقتة إلى المخدومية الوراثية ما نجده أيضا عند آل الخطيب كما يروي صاحب برد النعيم فيقول: أخدام آل الخطيب هم آل أبي مختار وآل أبي مقشم، وسبب خدمة أل أبي مختار لآل الخطيب هو أن جدتهم القديمة كانت جارية للخطباء من الزمن القديم، وكان آل أبي مختار يحملون نعال آل الخطيب في الأعراس، وقلده بيت أهل العروس. أما آل أبي مقشم فكانوا ضعفاء في بيت جبير فلما خربت التجأوا إلى الخطباء وتخدموا لهم إلى الآن. وإن جدهم لبيد دخل على جارية للشيخ محمد بن عبد الله الخطيب المكنى هاني فكان منها أولاده المقاشمة!
ولا تقتصر هذه النماذج من المخدومية الوراثية على المسفلة من حضرموت بل نجد ما يماثلها في علوا ودوعن من حضرموت خلال الدور الصوفي.
الباب الثالث
نماذج من الإنكار على الخرافيين
أولاً:ما ذكره ابن خلدون.
ثانياً: ما ذكره الشوكاني.
ثالثا: ما ذكره المقريزي.
رابعا: ما ذكره أحمد بن محمد بن الصديق الغماري.ً(106/166)
خامساً: ما ذكره ابن المقري.
سادساً: ما ذكره عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف.
سابعاً: ما ذكره ابن عبيد في ديوانه.
ثامناً: ما ذكره صلاح عبد القادر البكري.
تاسعاً: ما ذكره علوي بن أحمد السقاف عن الإمام الغزالي
خاتمة.
الباب الثالث
نماذج من الإنكار على الخرافيين
إن الخرافة منهج إبليسي يصادم الفطرة- كما سبق- فلا تقبله العقول السليمة المتجردة عن الهوى والشهوات، فهي أمر منكر تنكره العامة قبل الخاصة، ولكن ليزداد القارئ يقينا على فساد المنهج الخرافي وأنه منهج إبليسي ضال فاسد يهدم الدين ويفسد الأمة، فإني أدعم ما ذكرته- وأختم رسالتي- بنماذج من الإنكار عليهم من كلام أهل العلم والفضل وكذلك ممن كان على طريقتهم وتبين له فسادها.
أولا: ما ذكره ابن خلدون:
قال ابن خلدون رحمه الله في مقدمته (1) : (ثم حدث أيضا عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس وظهر في كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم، وظهر منهم أيضا القول بالقطب والأبدال وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والتقيا وأشربوا أقوال الشيعة وتوغلوا في الديانة بمذهبهم حتى لقد جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أن عليا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة) أهـ.
ثانيا: ما ذكره الشوكاني:
__________
(1) ص:256).(106/167)
قال الشوكاني في قطر الولي على حديث الولي (1) : (أن المصدر الذي لا يزيغ والميزان الذي لا يجوز هو ميزان الكتاب والسنة فمن كان متبعا لهما معتمدا عليهما فكراماته وجميع أحواله رحمانية ومن لم يتمسك بهما ويقف عند حدودهما فأحواله شيطانية، فلا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من الله سبحانه، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة فإن كانت موافقة لهما فهي حق وصدق وكرامة من الله سبحانه وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع ممكور به قد طمع منه الشيطان فلبس عليه. كما نشاهده في الذين لهم تابع من الجن فإنه قد يظهر على يده ما يظن من لم يستحضر هذا المعيار أنه كرامة وهو في الحقيقة مخارق شيطانية وتلبيسات إبليسية ولهذا تراه يظهر من أهل البدع بل من أهل الكفر وممن ترك فرائض الله سبحانه وتعالى ويتلوث بمعاصيه؛ لأن الشيطان أميل إليهم للاشتراك بينه وبينهم في مخالفة ما شرعة الله سبحانه لعباده.
وقال أيضا في (ص:253):
وقد يظهر شيء مما يظن أنه كرامة من أهل الرياضة وترك الاستكثار من الطعام والشراب على ترتيب معلوم وقانون معروف حتى ينتهي حاله إلى ألا يأكل إلا أياما ذوات العدد ويتناول بعد مضي أيام شيئا يسيرا فيكون له بسبب ذلك بعض صفاء من الكدورات البشرية فيدرك ما لا يدركه غيره وليس هذا من الكرامات في شيء ولو كان من الكرامات الربانية والتفضلات الرحمانية لم يظهر على أيدي أعداء الله كما يقع كثيرا من المرتاضين من كفرة الهند الذين يسمونهم الآن بالجوكية.
ثالثا: ما ذكره المقريزي:
قال المقريزي في خططه (2) : إن الفتنة بهذا المكان- قبر أبي تراب ويسمى الآن:
__________
(1) ص: 249).
(2) 2/45).(106/168)
جامع الشيخ الأتربي- وبالمكان الآخر الذي يعرف بجعفر الصادق.. لتعظيمه فإنهما صارا كالأنصاب التي يتخذها مشركو العرب يلجأ إليهما سفهاء العامة والنساء في أوقات الشدائد وينزلون بهذين الموضعين كربهم وشدائدهم التي لا ينزلها العبد إلا بالله ربه ويسألون في هذين الموضعين ما لا بقدر عليه إلا الله وحده من وفاء الدين من غير جهة معينة وطلب الولد ونحو ذلك ويحملون إليهم ظنا أن ذلك ينجيهم من المكاره ويجلب لهم المنافع. (1)
رابعا:ما ذكره أحمد بن محمد بن الصديق الغماري:
قال أحمد بن محمد بن الصديق الغماري: (إن كثيرا من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله).
وقال أيضا:(وإن عندنا بالمغرب من يقول في إن مشيش: إنه الذي خلق الابن والدنيا ومنهم من قال- والمطر نازل بشدة- يا مولانا عبد السلام الطف بعبادك فهذا كفر).(2)
خامسا: ما ذكره ابن المقري:
جاء في ديوان ابن المقري رحمه الله (3) بيانا لمعتقدهم الفاسد وخطرهم على الدين وما هذه الصفحات إلا نموذجا لما ذكره رحمه الله من حال القوم وعنادهم وانحرافهم، فقال يشكو على السطان الملك الناصر كثرة جراءتهم:
شكوى الهدى وتعلق الإسلام
ڑڑبك ليس أضغاثا من الأحلام
ٹڑ
ڑأتخاف ضيما يا خليفة أحمد
ڑڑفي دار ملكك ملة الإسلام
ٹڑ
ڑلا والذي أعطاك من سلطانه
ڑڑملكا أعاد محاسن الأيام
ٹڑ
__________
(1) نقلا من: ( دمعة على التوحيد، ص:71) إصدار المنتدى الإسلامي.
(2) عن جهود علماء الحنفية.. (ص:479- 480) نقلا عن كتاب إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد على القبور للغماري.. انظر( دمعة على التوحيد ص:72) ( جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية د. شمس الدين السلفي الأفغاني).
(3) ص: 28- 30).(106/169)
ڑلك غيرة والله قد أوذي فما
ڑڑمنك امرؤ أولى بحسن قيام
ٹڑ
ڑكم من ملوك طوائف لم يولهم
ڑڑمولاك ما أولاك من إنعام
ٹڑ
ڑفالشكر للرحمن أن تمشي به
ڑڑكلفا تذب عن الهدى وتحامي
ٹڑ
ڑيا أيها الملك الحب لدينه
ڑڑالحاني عليه حنو ذي الأرحام
ٹڑ
ڑيا أحمد يا نجل إسماعيل يا
ڑڑفرع الملوك وكل أصل نامي
ٹڑ
ڑالسنة البيضا تقاعد أهلها
ڑڑفي نصرها زمنا عن الإقدام
ٹڑ
ڑوتخاذلوا لا رقة في دينهم
ڑڑبل خيفة نشأت من الأوهام
ٹڑ
ڑما أثر الخصم الملك عليهم
ڑڑلكنهم ابتوا من الإحجام
ٹڑ
ڑولربما لم يدر أكثر هم بما
ڑڑأولى الفصوص الدين من آلام
ٹڑ
ڑولكم لبثت وما يمر بمسمعي
ڑڑكفر يشاع ولا قبيح كلام
ٹڑ
ڑحتى تهافت في الضلالة معشر
ڑڑوتحزبوا في هذه الأيام
ٹڑ
ڑكان الأسى من أجل حرمة مسجد
ڑڑهتكت بأمر مقدم الحكام
ٹڑ
ڑعزت إهانته علينا إذا أتت
ڑڑمن حيث يرجى الأمر بالإكرام
ٹڑ
ڑوإذا بمن قد قال هذى قطرة
ڑڑأنكرتهما من جنب بحر طامي
ٹڑ
ڑالقوم للباري تعرض جهلهم
ڑڑحتى ادعوه يحل في الأجسام
ٹڑ
ڑفالمرء منهم لا يفرق بينه
ڑڑأبدا وبين الله في الأحكام
ٹڑ
ڑفأردت إنكار عليه فقال لي
ڑڑاقرأ نصوصهم وعد لملامي
ٹڑ
ڑفقرأته فرأيت أمراً راعني
ڑڑومأثماً زادت على الآثام
ٹڑ
ڑومقال كفر في العبادة عنده
ڑڑلا فرق بين الله والأصنام
ٹڑ
ڑوإذا رجال في هواه تهالكوا
ڑڑلقد اقتدوا منه بشر إمام
ٹڑ
ڑهذا يسبح ذا وهذا قائل
ڑڑلأخيه أنت الله ذو الإعظام
ٹڑ
ڑحتى لقد حدثت عن شيخ لهم
ڑڑبالثغر قال وقد أتى بطعام
ٹڑ
ڑماذا تقول لمن يواكل ربه
ڑڑبالأدم أحيانا وغير إدام
ٹڑ
ڑفصرخت في العلماء أرفع معلنا
ڑڑصوتي وفي أهل التقى الأعلام
ٹڑ
ڑأيسب بينكم الإله فتسكتوا
ڑڑوتذوق أعينكم لذيذ منام
ٹڑ
ڑأو في حدود الله ترعى فيكم
ڑڑلأخ أواصر حرمة وذمام
ٹڑ
ڑأسمعتم علماء أرض غيركم
ڑڑلا ينكرون الطعن في الإسلام
ٹڑ
ڑنفعتهم الذكرى وقد ذكرتهم
ڑڑواستيقظوا من رقدة الأحلام
ٹڑ
ڑورأوا رضى الباري الأهم فأسخطوا(106/170)
ڑڑمن أسخطوا فيه بلا استحشام
ٹڑ
ڑإلا رجالا صانعوا من دونه
ڑڑفي الله ذي الإفضال و الأنعام
ٹڑ
ڑكتموا شهادتهم فهان عليهم
ڑڑسخط المهيمن في رضا أقوام
ٹڑ
ڑفاغضب لربك وانتقم لحدوده
ڑڑممن يضيم الدين كل مضام
ٹڑ
ڑما كان يغضب أحمد يا أحمدا
ڑڑإلا لحرمه ربه ويحامي
ٹڑ
ڑولنت أولى بالنبي وهديه
باڑڑفاخلفه في هذا وكل مقام
ٹڑ
ڑإن تنصروا رب السما ينصركم
ڑڑويثبت الأقدام قي الإقدام
ٹڑ
ڑقسما به ائن انتدبت لنصره
ڑڑوضربت دون أذاه بالصمصام
ٹڑ
ڑلترى بعينك من عجائب نصره
ڑڑأشياء لم تخطر على الأوهام
ولما أشتد إنكار الفقهاء على الصوفية قال الكرماني يهجو ثلاثة من الفقهاء غير معينين:
ألا إن أعلام الضلال بينة
ڑڑكفى الله شر الجهل خير شرعية
ٹڑ
ڑلقد رفضوا كفر سبيل محمد
ڑڑونهج سمييه بطرق بديعة
ٹڑ
ڑبميته إحياء وعمية واضح
ڑڑكفيت الردى قيها وشر ذريعة
فأجابه شيخنا بهذه الأبيات:
عجبت لتلميذ رضي شر سنة
ڑڑإلى شر شيخ كافر بالشريعة
ٹڑ
ڑيرى الخالق المخلوق علما لديننا
ڑڑومنكر هذا جاهلا بالحقيقة
ٹڑ
ڑومن يعبد الرحمن ليس يرى له
ڑڑعلى عابد الأوثان فضل مزية
ٹڑ
ڑفإن تلعنوا الشيخ الكفور بربه
ڑڑفلا تعد من تلميذة رب لعنه
ولما أكثروا من المخالفة الظاهرة وكثر ميل الكلام إليهم قال شيخنا محذرا للناس منهم:
ليتهم كانوا يهودا
ڑڑليتهم كانوا نصارى
ٹڑ
ڑكان لا يخشى على الناس
ڑڑبما قالوا اغترار
ٹڑ
ڑحاربوا الرحمن سرا
ڑڑوأطاعوه جهارا
ٹڑ
ڑأظهروا نسكا وأخفوا
ڑڑكل كفر لا يجارى
ٹڑ
ڑواستمالوا الناس بالدين
ڑڑعلى الدين ضرارا
ٹڑ
ڑأظهروا التنزيه لله
ڑڑبسب لا يوارى
ٹڑ
ڑوصفوه باتحاد
ڑڑجمع الكل اختصارا
ٹڑ
ڑنصر الشيطان منهم
ڑڑشيخ سوء لا يبارى
ٹڑ
ڑقال كل الخلق شيء
ڑڑغيره مان وجارا
ٹڑ
ڑقل للشيخ فمن مان
ڑڑومن حرا فجارا
ٹڑ
ڑدينه دين خبيث
ڑڑوعلى التعطيل دارا
ٹڑ
ڑلا ترى الخالق شيء
ڑڑسوى الخلق اقتصارا
ٹڑ
ڑوتسمى الخلق بال
له ڑڑخدعا ومكارا
ٹڑ
ڑخادع الجهال في العلم(106/171)
ڑڑفعدوا العلم عارا
ٹڑ
ڑونهوا عنه البرايا
ڑڑورضوا الجهل اختيارا
ٹڑ
ڑفأضلوا حين ضلوا
ڑڑمن أضلوه فبارا
ٹڑ
ڑوادعوا علما من الله
ه ڑڑاستشاروه استشارا
ٹڑ
ڑنبذو القرآن معه
ڑڑوالأحاديث احتقارا
ٹڑ
ڑوازدروا من طلب العلم
ڑڑوعدوه عواراٹڑ
ڑواستوى من تعبد الله
ڑڑلديهم والحجارا
ٹڑ
ڑفعليهم لعنة الرحمن
ڑڑليلا ونهارا
ٹڑ
ڑفحذرا أيها الناس
ڑڑمن الكفر حذرا
ٹڑ
ڑأرسول الله منه
ڑڑعوضا يا من أعارا
ٹڑ
ڑمع شيطان رجيم
ڑڑيطلب الإسلام ثارا
ٹڑ
ڑشر ما اعتاض من اعتاض
ڑڑمن الجنة نارا
ٹڑ
ڑأبخير الخلق ترضون
ڑڑمن الخلق الشرار
سادسا: ما ذكره عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف:
وجاء في ديوان السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف منكرا على الخرافيين كما في (ص:258): (وقد اتفق لي في شرخ الشباب أن أفضت في درسي كجاري عادتي في النعي على الخرافيين وتفنيد مزاعمهم وأنكرت قول بعضهم: إن أتان الفقيه المقدم قدس سره كانت تعرج إلى السماء وتأتي بخبرها طرفي النهار مع أن البراق لا يقدر على ذلك فلو أنها حضرت ليلة المعراج لأغنت عنه لأن البراق لم يجاوز إيلياء على الأصح، وقول بعض آخر عن بعض العلويين: إنه كانت له زوجة شريفة مضى لحملها ستة أشهر فتزوج فلاحة فنشزت الشريفة فخثرها بين الرجوع أو يأخذ الحمل من بطنها إلى بطن الفلاحة ولما أصرت فعل ما تهددها به وولدت الأخيرة لثلاثة أشهر من حين الدخول، وقول آخر: إن أحد الأولياء مات عن زوجة صالحة من غير ولد فاشتد حزن تلك الصالحة وعظم وجدها عليه فكان يزدد عليها من ضريحه حتى أحبلها بعد موته فجاءت بولد نسبوه إليه.
وطالما أنكرث مثل هذه الأضاليل التي لها يتذمر الإسلام وتتنكس الأعلام وتكل عن عد شرها الأقلام، فما حصلت إلا على الملام وذلك هو الذي استغرق جهدهم في تشويه سمعتي والتمضمض بعرضي والتقول علي والسعاية بي لولا وقاية الله.
سابعا: ما ذكره ابن عبيد الله في ديوانه:(106/172)
قال ابن عبيد الله في ديوانه (1) في وصف حال المموهين ووجوب الاعتماد على الشريعة:
سوق الفضيلة في أيامنا رخصا
ڑڑكأن ما فيه من در الكمال حصى
ٹڑ
ڑلا حظ إلا الا بنا النفاح
ڑڑنمته أم حصان كابد الغصصا
ٹڑ
ڑما زالت الناس قبلي يشتكون لما
ڑڑيلقون من قلة الأحرار والخلصا
ٹڑ
ڑواليوم أطلب إنسانا فأعوزني
ڑڑولم أجد غير وحش تلبس القمصا
ٹڑ
ڑفهل حقيقة هذا الجيل ثابتة
ڑ
ڑأم لا فإشكال هذا الأمر قد عوصا
ٹڑ
ڑما للزمان قد استشرى الفساد به
ڑڑوالخير فيه على أعقابه نكصا
ٹڑ
ڑغنيمة المرء بعد الناس عنه فلا
ڑڑتفرحبآت ولا تحزن لمن شخصا
ٹڑ
ڑولا يغرك زي النسك في أحد
ڑڑفكم تنسك دجال ليقتنصا
ٹڑ
ڑيمشي الهوينا بشيء في عمامته
ڑڑكأنه الروق لكن في امتداد عصا
ٹڑ
ڑكأنما هو هام لا تفارقه
ڑڑرقطاء يقوى بها من عقله نقصا
ٹڑ
ڑمموه يذكر الأخيار منتهزا
ڑڑيذكرهم من صغار الأنفس الفرصا
ٹڑ
ڑفي غرائب كرامات بلا سند
ڑڑوربما اختلف الأخيار والقصصا
ٹڑ
ڑدعم الخرافات و الأحلام إن لنا
ڑڑدينا قويما من الأوهام قد خلصا
ٹڑ
ڑيا شريعتنا وهم ولا شبه
ڑڑلكن غرائم صدقا ما زجت رخصا
ٹڑ
ڑنوى سيرة الهادي وسنته
ڑڑمن حاد عنها ولى قيد البنان عصى
ٹڑ
ڑغير النبيين من شباكه لنهى
ڑڑأهل النهى قد غدا من حبه قفصا
وقال في (ص:369) في قصيدة يرحب فيها بأبي بكر بن شهاب من الديوان:
صفا الوقت حينا للثعالب فاعتلت
ڑڑأسافة لما تناءت صدوره
ٹڑ
ڑوباح بدعوى الكشف والسر كل
ڑڑينادي عليه بالثبور فجوره
ٹڑ
ڑوما شأن هذا القطر الإعصابة
ڑڑبكل امرىء منهم تناهى غروره
ٹڑ
ڑفكم بدعة أحيوا وكم سنة محوا
ڑڑفهم منبع الدا العيا وجذوره
ٹڑ
ڑوكم قمت فيهم معلنا بنصيحتي
ڑڑكأني داود ونصحي زبوره
ثامنا: ما ذكره صلاح عبد القادر البكري:
__________
(1) ص: 238)(106/173)
جاء في تاريخ الإرشاد في إندونيسيا(1):
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة المحترم الوالد الفاضل الحبيب/ حامد بن أبي بكر المحضار حفظه الله ونفعنا بعلمه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تهانينا لكم بقدوم شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والغفران، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من صوامه وقوامه وأن يوفقنا لخير الأعمال.
منذ أيام زرت أحد الإخوان فوجدت عنده كتابا من تأليفكم (صفحات من تاريخ حضرموت) عن حياة الحبيب حسين بن حامد المحضار، ولو كان الكتاب اقتصر على ذكر حياة الحبيب حسين وما جرى من أمره في حضرموت مع سلاطين القعيطي وتوليه الوزارة ومن بعده ابنه الحبيب أبو بكر بن حسين وتم وصول المستر انجرامس وما حدث من تبدل في إدارة الحكومة بعد المعاهدة الأخيرة، كل ذلك جميل على موجب عنوان الكتاب، ولكن بعد كل ذلك إذا بكم كتبتم عن المحضارم بجاوة، والذي لفت نظري ونظر الإخوان أنكم قلتم عن الفتنة الحضرمية بإندونيسيا أنها شؤم على الحضارم؟
فأي فتنة يا عم حامد تعنونها؟
هل فيما حدث عن وصول الشيخ أحمد السوركتى إلى جاوة بطلب من إخواننا العلويين ثم خلافه معهم وقيام العرب بتأسيس جمعية الإرشاد وفتح فروعها في أنحاء جاوة؟
هل تعدون هذه فتنة؟
إن النهضة الإرشادية في جاوة قامت بمبادئها القويمة وأخرجت الناس من عبادة العباد والقبور إلى عبادة الله وحدة، وتركوا البدع والخرافات من زيارات القبور والحول والموالد وغيرها، وهذه نعمة كبيرة وليست شؤما كما قلتم، والحقيقة يا عم حامد الناس تعلموا وعرفوا الحق من الباطل، ويكفي من الأكاذيب والتضليل على العوام.
__________
(1) تأليف صلاح عبد القادر البكري ط الأولى (ص: 257- 273) تحت عنوان (وشهد شاهد من أهلها) (5 رمضان 1410هـ /إبريل 1990م).(106/174)
كان جدودنا رضي الله عنه السابق إذا كتبوا أو ألفوا كتابا يحكمون الكذب ويحشونه بأحاديث ولو موضوعة أو ضعيفة ويدبجون بكلام معسول جذاب حتى يصدقهم العامة، ولكن فيما كتبتم عن العرب في جاوة لم تجيدوا الكذب أبدأ ولم تكونوا موفقين إذا قلتم: إن الفتنة شؤم على الحضارم، والحقيقة يا عم حامد أنها شؤم علينا نحن آل باعلوي، فقد ضاع علينا جاهنا الذي هو سلاحنا ورأس مالنا عند العامة، كنا نكذب عليهم ونلعب بعقولهم ويصدقوننا؟ لأن جاهنا قري في تلك الأيام، ولكن بعد أن جاءت ثورة الإرشاد، فهموا الناس بأن هذا الجاه باطل.
نسأل الله المغفرة على ما ارتكبناه نحن وآباؤنا من الخطايا والذنوب والضحك على عقول العامة.
والآن جمعية الإرشاد توسعت ولها فروع تقريبا مائة فرع في أنحاء مدن إندونيسيا ولها مدارس في أنحاء الجزر ومستشفيات وأصبحت جمعية لما وزنها وكما قال الله تعالى: ) كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ( [سورة إبراهيم].
وأولاد العلويين الآن يتعلمون في مدارسهم، أولاد وبنات ومن إخواننا العلويين موظفون في مدارسهم ومستشفياتهم.
قلتم: إن الذي تولى كبرها (أي فتنة حسب زعمكم) هو الشيخ أحمد السوركتى وألف في موضوع الخلافة رسالة (صورة الجواب) وأيدها الشيخ أحمد العاقب في كتابه (فصل الخطايا).
في الحقيقة إن صدور رسالة (صورة الجواب) هي بمثابة صاعقة ثمود على جماعتنا آل باعلوي ولم يستطيعوا الضغط على عواطفهم بل أخرجوا ردودا كثيرة منها رسالة باسم العم عبد الله صدقة دحلان، وياليته لم يرد؟ لأن يرد كان كله شتائم وبذاءات نخجل من قراءتها.
وأنتم يا عم حامد ذكرتم أن تلك الفتنة قد حملت بعض الإخوان على اعتناق مذهب الشعوبية وإنكار فضل العرب على العجم وفضل بني هاشم على العرب.(106/175)
في الحقيقة هم لا ينكرون فضل العرب على العجم وقد ذكر الترمذي في حديثه وذكره أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (قضاء الصراط المستقيم) ولكن في فضل الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام، هل فضل العلم أم النسب أم ماذا؟
لم يذكر الرسول عن الكفاءة النسبية وعدم جواز زواج العلوية لغير العلوي، أو زواج العربية لغير العربي وإن كلام الله وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام بين: ) فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ( [سورة المؤمنون] ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ([الحجرات:13] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) كلام واضح صريح ولا يحتاج إلى تأويلات، راجعوا خطبة الرسول في حجة الوداع.
والمسألة التي وقعت الضجة عليها هي رسالة (صورة الجواب) الذي أفتى الشين السوركتى بجواز زواج العلوية لغير العلوي وأتى بأدلة على ذلك ووقائع وقعت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفي عهد الصحابة كما هي مبينة في الرسالة، فهل نفى الإمام الحبيب علوي بن طاهر الحداد (نفعنا الله بعلومه) في رده ما حدث في عهد الرسول وعهد الصحابة كما ذكره الشيخ أحمد السوركتى في صورة الجواب؟
إن كتابه (القول الفصل) الذي كتبه في جزءين في نحو ألف صفحة تقريبا والذي
ذكرتم ما يلي:(106/176)
القد رد عليهما الإمام العلامة علوي بن طاهر في كتابه القول الفصل فمحق كل ما حاول تضليل البسطاء) هكذا قلتم، ولكن الحقيقة أن رد الإمام المذكور (قدس الله سره) ليس فيه من الرد العلمي المعقول بل حشو بالسب والشتم و الهجو والسخرية، ولا أظن العم الإمام علوي بن طاهر أن يقصد في كتابه هذا ردا على الشيخ السوركتي، بل يريد أن يخرج للناس كتابا ضخما باسم الرد ويحشوه بالمقالات الطويلة الجوفاء، وتواريخ أهل النحل وكثرة القيل والقال الخارجة عن الموضوع ويهيم في كل واد ويحتج بالاحتجاجات الشعرية لإرضاء الهوى والعصبية الجاهلية ولا أتى بصريح كتاب الله ولا سنة رسول الله إجماع العلماء.
فإذا تحدث أحد من الإرشاديين عن الكفاءة وجواز زواج العلوية لغير العلوي، قال العلويون: هؤلاء من الشعوبيين أو من الخوارج أو النواصب ويرمونهم ببغض أهل البيت، وأنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، يا سبحان الله! أو إذا جادلتهم أو بينت لهم
من الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله قال: أحسن لك أن تسكت ولا تخوض في هذه المسألة، سلم تسلم وليس لك من الأمر شيء والزم حدك ولا تتعداه.
لقد تحدى الشيخ السوركتي العم علوي بن طاهر في حياته أن يأتي بكلمة من كتاب الله أو من سنة رسول الله، باعتبار أن الكفاءة النسبية أمر مراعي في التناكح بين المسلمين بحيث يبطل النكاح عند فقدانه كما زعم العم علوي بن طاهر في كتابه (القول الفصل)
ولكن مع الأسف الشديد لم يأت بدليل لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله. وإنما يهيم في واد ماله قرار وفي متاهات لا أول لها ولا آخر.
ثم يأتي بأكاذيب على الشيخ أحمد العاقب ما لم يقله أبدا في كتابه (فصل الخطاب).(106/177)
قال العم علوي بن طاهر في كتابه (القول الفصل) (1) هكذا: (فإني لم أر في كتب المتقدمين ولا المتأخرين ولا كتب الخلاعة ولا أشعار الخلفاء وأهل البذاءة ما هو أجمع في كتابه أي (فصل الخطاب) لألفاظ الفحش وأساليبه وجمله المتعددة وعباراته المتنوعة وهو قاموس جامع وديوان حافل لطالبي الألفاظ البذيئة ومحبيها إلى آخره ).
هذا قليل من كثير من ذم الحداد كتاب (فصل الخطاب) للشيخ أحمد العاقب ورميه بالفحش والبذاءة والإقذاع والقذارة الذي لم يكن فيه شيء من ذلك، وحبذا لو يأتينا أو يرينا العم علوي بن طاهر عن (فصل الخطاب) كلمة واحدة تضاهي أو تقارب في بذاءتها ونتانتها كلمة دحروجة الجعل التي أوردها في (ص:27) من كتابه (القول الفصل) أي تشبيه للشيخ الوقور أحمد السوركتي بدحروجة الجعل وقوله: ومع ذلك فهم أشد فرحا بإمامهم الضال من الجعل بدحروجته ولعل العم الحبيب علوي بن طاهر الحداد (نفعنا الله بأسراره) يعد هذه الجملة من ألطف الألفاظ التي حلى بها كتابه؛ لأننا إذا قارنا هذه الكلمة بغيرها من الألفاظ الخبيثة التي في قوله الفصل نجدها أهون من غيرها بكثير وإن كانت هي بحسب نجاسة مادتها أقذر وأنتن.
ثم نقول له بأن يرينا في كتاب (فصل الخطاب) كلمة ذم لم ترد في كتاب الله ولا في حديث رسوله ولا في كلام أئمة الدين الأعلام؛ لأن الأستاذ العاقب يتحرى الاقتداء بالكتاب والسنة وأعلام الأمة حتى في ذم خصومه وليس هو من خيل السباق في ميادين الفجور والكذب.
هذا ما طالعناه في كتابه (القول الفصل) وما قرأناه أيضا في رد العم الإمام الحبيب علوي بن طاهر، حتى أننا إذا اجتمعنا ببعض الإخوان المنصفين من جماعتنا العلويين ونتذاكر معهم على ما حدث من نزاع سابق عن رسالة صورة الجواب بما ذكره الشيخ السوركتي عن الكفاءة كان رأينا أنه على حق ولا غبار عليه في فتواه.
__________
(1) ص: 60).(106/178)
وللعلم أن رسالة صورة الجواب للشيخ السوركتي طبع منها إلى الآن أكثر من ثلاثين طبعة ولا يزال الناس يتخاطفونها أما القول الفصل للمام علوي الحداد فطبع منها طبعة واحدة ألف نسخة فقط ولا تزال منه كمية عند ورثة المؤلف مركونة حتى أكلتها الأرضة.
لقد ذكرتم أنه قبل أن يرد عليها الحداد، أملى الإمام الحبيب أبو بكر بن عبد الرحمن ابن شهاب في قصيدة في موضوع الخلاف فأتت على ما قاله المضللون فجعلته كالدميم بأسلوب علمي فقهي أصولي. هذه القصيدة معروفة يا عم حامد ليس بها أسلوب علمي فقهي ولا أصولي كما ذكرتم وإنما هي خزي ووصمة عار على جبين كل علوي، وكيف يقابل بها عند ربه في يوم لا ينفع مال ولا بنون، في يوم لا أنساب بينهم ولا يتساءلون، لأن تاريخ الحبيب الإمام أبو بكر بن شهاب معروف، كان في أول أمره من أهل السنة والجماعة وله تأليف في التوحيد والأصول وله قصيدة في ديوانه في (التوحيد) ثم رحل إلى الهند واتصل برافضتها وترفض!! وصار من أشد أعداء السنيين ثم صار قبوريا في آخر عمره وأخذ يدعو إلى عبادة القبور والاستنجاد بأهلها كما هو واضح في قصائده ثم أصبح إباحيا وشاعرا متهتكا في الخمر والولدان والبغايا، وكان يتغنى بها في سائر أوقاته ويجعل لها مناسبات في كثير من قصائده ويتغزل بها تغزلا فاحشا زنيما ثم يتخلص منها إلى مدح بعض الأشخاص من الذين كان يستجدي أكفهم كما هو معروف بين من يعرفونه وكما هو ظاهر في قصائده، وقد أصيب بضربة سيف على جبهته في حضرموت لما أراد أن يهتك عرض بنت من بنات آل شهاب، وهذه الحادثة معروفة.
ومن قصائده الماجنة المستهترة بالقيم والأخلاق هي:
روق الخمرة صرفا وادر
ڑڑوأسقيناها في الظلام المتعكر
ٹڑ
ڑروح الأرواح بالراح فما
ڑڑذاق طيب العيش إلا من سكر
وقال في قصيدة أخرى:
يا حبيب القلب صلني
ڑڑفي الدجى وقت الظلام
ٹڑ
ڑوارتشف يا نور عيني
ڑڑوسروري والمدام
وقصيدة أخرى مطلعها:
بهزك غصن القد ماذا تريدنا(106/179)
ڑڑوماذا بلغز الغين في السر تعنينا
وهناك قصيدة أخرى بالشعر الحميني فيها من الزندقة والتهتك وهو:
رب يا مالك الأملاك من غير تفريط
ڑڑعبدك أذنب وفرط
ٹڑ
ڑضيع العمر عبدك في معاصي وتخليط
ڑڑخالف أمرك وخربط
ٹڑ
ڑالشهابي يقول افرط في البيض تفريط
ڑڑوالعنق ما هو البط
ٹڑ
ڑما البنادق سوى بعض البنادق مخابيط
ڑڑفي خزانته مسرط
ٹڑ
ڑآه يابوي في قلبي من البيض تحقيط
ڑڑأحس قلبي محقط
ٹڑ
ڑحين تبدي تقول أوحيت في النحر
ڑڑأحس نحري مشبط
ٹڑ
ڑهمتي عالية ألقط في البيض تلقيط
ڑڑما آكل إلا الملقط
ٹڑ
ڑوابغض إلا الذي يعشق لذيك
ڑڑليت له ألف مسقط
ٹڑ
ڑليت لي بين حب الليم موتة وتحنيط
ڑڑيبنهن باأسطط
ٹڑ
ڑليت لي دار شرقي دار حصن
ڑڑفي الطرف باأتوسط
ٹڑ
ڑليت أبوبكر يعطيها ثلاث مشاويط
ڑڑومن على ظهر هاأنط
ماذا تقول يا عم حامد في هذه القصيدة؟ أما ترون أنها زندقة ولا يقولها ألا إباحي متهتك؟
الحبيب ما يأكل إلا الملقط كما قال في قصيدته وتمنى أن يموت بين حب الليم موتة وتحنيط وبينهن بايتسطط ( نفعنا الله بأسراره) وآخر قصيدته يقول: ياريت يعطيها ثلاث مشاويط، هذه الكلمات تحتاج إلى تفسير موسع والحبيب- نفعنا الله بعلمه- بحر في هذه العلوم وقصيدته هذه نفتخر بها كثيرا؟؛لأنها علمية وفقهية وأصولية !!(106/180)
وكما أخبرني الوالد حسين بن علوي الحبشي رحمه الله أن ابن شهاب هذا يقال فيه أنه أعلم رجل ظهر في آل باعلوي منذ ألف سنة وزيادة، ولكن والحق أنه الأول في هدم صرح آل باعلوي في مؤلفاته التي يستحي كل من ينتسب إلى آل باعلوي أن يقرأها، لما فيها من الحشر والكذب والبهتان على الدين الحنيف وعلى الله ورسوله، وهذا الحبيب قد بلغ من تهوره مبلغا لم يبلغه أحد من العالمين، وجعل دين الله ألعوبة وآلة لاصطياد الجاه والمال واعتدى على المسلمين وجعلهم موالي وعبيدا له، وأصبح إباحيا لا يبالي بما يفعل ولا بما يقول وهنا نثبت نموذجا من كلامه رحممه الله ونفعنا بعلمه، وهو العالم الفذ الذي يقال أنه لم يأت في جماعتنا آل باعلوي عالم مثله منذ ألف سنة!!
يقول في كتابه المسمى (رشفة الصادي من بحر فضائل بني نبي الهادي) في (ص: 40) هكذا:
(بنو هاشم وبنو عبد المطلب أكفاء بعضهم لبعض وليس واحد منهم كفؤا للشريفة من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهم؛ لأن المقصود من الكفاءة الاستواء في القرب إليه صلى الله عليه وسلم وليسمرا بمستويين فيها فهذه خصلة خصوا بها لا توجد في غيرهم من بنات قريش، ولهذا لا يقال كان علي بن أبي طالب كفؤا لفاطمة رضي الله عنها، فهذه دقيقة مستثناه من إطلاق المصنفين في عامة كتبهم أنهم كفاء، وليس كذلك وهو مفهوم تأمله وتدبره وقواعد الشرع تقبله، فهذا هو الحق فلينتبه له، فإنه مهم) أهـ.
يقول الحبيب الإمام بهذا الكلام بغير حياء أو خجل بعد أن قرر عدم كفاءة جميع قريش وبني هاشم والمطلب وبالأولى بقية المسلمين لبنات فاطمة والحسنين وقال: ولهذا لا يقال كان علي بن أبي طالب كفؤا لفاطمة رحمه الله، فهذه دقيقة مستثناه من إطلاقا المصنفين في عامة كتبهم.
فانظر يا عم حامد أين وصل الخبال والغرور بهذا الحبيب الذي هو أعلمنا الذي لم
يأت في جماعتنا آل باعلوي عالم مثله منذ ألف سنة ؟(وقوله فهذه دقيقة مستثناه.. إلخ)(106/181)
يشير أن عليا وجميع الصحابة وجميع الأئمة بلداء مغفلون لا يفهمون دقائق الدين، بل
الذي يفهمها هو الإمام الحبيب أبو بكر بن شهاب الذي أعمى بصيرته التعصب والغرور
وفي قوله هذا احتقار للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال في (ص:82) ما نصه:
(وإذا تحققنا المغفرة لمحبيهم ومحبي شيعتهم كما وردت به الأحاديث فكيف نشك في لزوم ذلك لذواتهم الطيبة الطاهرة، وعناصرهم الزكية الفاخرة؟ فالزم حدّك أيها الأخ ولا تتعداه فإن الخمرة تستحيل خلاّ، وليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم؛ لأن ذنوبهم إنما هي صورية والتوبة التي سبقت لهم بها الإرادة تغسل تلك الصور وتبدّلها حسنات، فيكون وجودها كالعدم، ولا يلزم ظهور تلك التوبة علينا؛ لأن الخصوصية مخفية وقد اختارهم الله واصطفاهم وهو على علم بما يكون منهم فلا يموت أحد منهم إلا بعد تطهيرهم مما جناه إذ المحبوب لا تضره الذنوب) اهـ.
من أين تحقق الإمام الحبيب (نفعنا الله بأسراره) فيما زعمه من المغفرة لمحبي آل باعلوي الذي جعلهم من أهل البيت حتى يحكم على المغفرة لهم بالأولوية؟ وأين تلك الأحاديث التي زعمها قلتم لم يذكرها، وجعلها مبهمة؟
يقول الحبيب أبو بكر (نفعنا الله بعلمه) لغيره: الزم حدك ولا تتعداه، وهو يتعدى حدود الله بكل جراءة، والله يقول: ) وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ(.
فلم يا حبيب لا توجه هذه الكلمات إلى نفسك وتقول لها: الزمي حدك ولا تتعديه؟ وتقول يا حبيب لغيرك: ليس لك من الأمر شيء، وأنت تحكم بما تريده على ما تريده!! كأن الأمر لك، لا لله ولا لرسوله والله يقول: ) قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ(. [آل عمران:
154]، ويقول: ) إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ( [الأنعام:57]، وأمّا قول (فإن الخمرة تستحيل خلا) فنحن نسأل الحبيب (قدس الله سره) هل استحالة الخمرة خلا استحالة فساد إلى صلاح ومن نجاسة إلى طهارة أم الأمر بالعكس؟(106/182)
من أين عرف الحبيب أن ذنوبنا نحن العلويين صورية وذنوب غيرنا ليست صورية؟ ومتى ومن أين أخذ الحبيب تلك التوبة التي سبقت لهم دون غيرهم؟ ومن أخبره بأنه لا يموت أحد منا إلا بعد تطهيره؟
وقال أيضاً في (ص:85) من الكتاب المذكور:
نعتقد في أهل البيت أن الله سبحانه وتعالى تجاوز عن جميع سيئاتهم لا بعمل عملوه ولا بصالح قدموه بل بسابق عناية من الله لهم. انتهى.
هذا ما جاء في كتاب الحبيب أبو بكر شهاب (نفعنا الله بعلمه) ونحن هنا يا عم حامد كثيراً ما نسأل عن هذا الذي ذكره الحبيب ونحتار في الجواب، أولا: من هم أهل البيت المذكورون على لسان الشارع في كتاب الله أو كلام رسوله؟ وإلى أي زمن أو طبقة ينتهي اعتبارهم من أهل البيت؟ وهل البشر الموجودون الآن يعدون من أهل بيت آدم وأهل بيت نوح عليهما السلام؟ وهل اليهود الذين لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت داخلون في من اصطفاهم الله واختارهم على علم على العالمين من آل إبراهيم وآل عمران كما في قوله تعالى: ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( [سورة آل عمران]، وقوله: ) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( [سورة الدخان]، أم لا؟
هذه أسئلة ما لها جواب ونريد الحقيقة، ولا أحد يدري على ماذا بنى الحبيب أبو بكر (قدس الله سره) هذا الاعتقاد وعلى أي دليل يستند؟ حيث قال: نعتقد في أهل(106/183)
البيت... إلخ إن العلماء يقولون: إن الاعتقاد لا يمكن استناده إلا على دليل يقيني، لا على دليل ظني وبالأحرى على دليل وهمي، وهذا الذي ذكره الحبيب في كتابه ليس له دليل لا قطعي ولا ظني، ولماذا يكذب على الله ويتجرأ على مثل ذلك؟ فما الذي يحوج الحبيب إلى الكذب على الله ورسوله؟ وهل هي عبادة الهوى والعصبية الجاهلية؟ فالحبيب أبو بكر بن شهاب بمقالته هذه سواء قلنا أنه مخترع أو قلنا إنه ناقل ممن هو أضل منه من الرافضة المخذولين يدعو قومه إلى الإباحية الصرفة ويسهل لهم ارتكاب المعاصي وكبائر الإثم التي لا يمنع المؤمنين من ارتكابها إلا الخوف من غضب الله تعالى وعقابه. فإذا قيل لطائفة من الناس إنكم لا تعذبون أبدا، ولا تسألون عما تعملون وإن ذنوبكم صورية، لا تموتون إلا وأنتم مطهرون منها، وقد سبق في الأزل إنكم لا تؤاخذون بشيء من ذنوبكم ولا يتوقف دخولكم الجنة ودار رضوان الله على شيء من أعمالكم فإن معنى هذا هو الحث على أن يرتكبوا كل ما نهوا عنه مما تشتهيه نفوسهم ويفعلوا كما يشاءون وهذا هو المسبب في فساد كثير من جماعتنا آل باعلوي وتعديهم على كثير من الجرائم التي بغضت الناس فيهم وأسقطت ثقتهم ويعتقدون أنهم معصومون من النار. فنسأل الله العفو والعافية وحسن الخاتمة.
هذا يا عم حامد تاريخ الحبيب أبو بكر بن شهاب وهو الهادم الأول لصرح آل باعلوي كما ترون. وأمثال هذا الحبيب عندنا كثيرون، عندهم غرور وكبر وعنجهية.
وقد ذكر الإمام الغزالي في إحيائه في الجزء الرابع في باب (ذم الكبر والعجب) تمعنوا في قراءته، إننا في مجالسنا عندما نقرأ هذا الباب فإننا نغطي وجوهنا من الحياء والخجل.
لقد ذكرتم ما قاله زعيم آل تميم عبد القادر بن عمر بن شيبان وهو رئيس على قبيلة آل مبارك بن عمر (فخيدة من آل شيبان) وليس زعيماً على أصل تميم كما ذكرتم.(106/184)
المذكور أتى بقصيدة ذم فيها الإرشاديين، وذلك عن جهل منه بما يسمعه من الدعايات الكاذبة ضد الإرشاديين وزعيمهم وقالوا: إن هذه الجمعية أسست لهدم الدين، ثم قالوا إنهم وهابيون ضد أهل السنة ثم قالوا إنهم شيوعيون، ثم قالوا: إنهم يصلون في اليوم مرتين فقط، وقالوا: إن زعيمهم السوركتي معه صليب تحت جبته. تهم كثيرة وكلها كاذبة.
لكن يا عم حامد هل تعلمون أن أبناء الشاعر عبد القادر بن عمر بن شيبان وإخوانه وأبناء أعمامهم وأحفادهم وأهل ديرتهم وقبيلته كلها وعبيدهم أصبحوا إرشاديين موحدين وأيضا اللحمدي وقبيلته كلهم خرجوا من الضلال إلى الرشاد ومن الحضارم هنا كلهم تقريباً ما عدا النطيحة والمتردية جميعهم والحمد لله موحدون مؤمنون بالله وحده.
لقد عمل جماعتنا آل باعلوي دعاية ضد الإرشاديين ووشوا بهم عند الشريف حسين وقالوا: إن هؤلاء وهابيون وليسوا من أهل السنة والجماعة ويحصلون على مساعدة من السلطان عبد العزيز بن سعود من الرياض وطلبوا من الشريف حسين أن يمنعوهم من الحج فهل يا ترى يتجرؤون في الوقت الحاضر أن يتهموهم بهذه التهمة؟
يقول المثل الحضرمي: (مطيّة الكذب زاحفة) وأمّا الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.(106/185)
وقد استغربنا لأن كتابكم هذا (صفحات من تاريخ حضرموت) طبع في السعودية مع أنه طعن على أهل التوحيد ودعاية لأهل الخبال والخرافات ولكن عندما رأينا أنه طبع في مطبعة (عالم المعرفة جدة) للنشر والتوزيع فهمنا أنها مطبعة للحبيب محسن باروم، وهذا الحبيب قد يأتي إلى جاوة مرسل من قبل رابطة العالم الإسلامي ويطوف قي المعاهد والمدارس التي يديرها جماعتنا آل باعلوي ويخصهم بالمساعدات. ومنذ شهرين جاء إلى قرية اسمها باغيل وحضر افتتاح معهد ساعد هو في بنائه فإذا أحد المدعوين يخطب ويدافع عن الشيعة وقد أخرج وأنزل بالقوة من المنبر وأظن أن الحبيب محسن ما يريد أن السعوديين يعلمون ذلك وإلا ستسيء سمعته، ولكن كل شيء سيظهر للعيان.
هذا ونرجو أن لا تقولوا بعد الآن أن الحركة الإرشادية في جاوة فتنة أو شؤم على الحضارم؟ لأن الحضارم ليسوا بلهاء أو جهلاء بحيث ينطلي عليهم هذا الكلام الفارع. لو أنكم ذكرتم هذا قبل سبعين سنة لصدقوا ما تقولون مثلما كان آباؤنا سابقا من آل باعلوي يلعب بعقولهم بالكرامات التي حشيت بها كتبنا السابقة مثل المشرع الروي أو تذكير الناس للحبيب أبو بكر الحبشي، الحضارم اليوم أكثرهم متعلمون وعندهم وعي ويفهمون الحق من الباطل.
وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً وبرزقنا اجتنابه.
فاللهم لا تجعله مشتبهاً علينا فنتبع الهوى واجعل اللهم هوانا تبعاً لما جاء به حبيبك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
تاسعاً: ما ذكره علوي بن أحمد السقاف عق الإمام الغزالي رحمه الله(1):
__________
(1) نقلاً من كتاب (توشيح المستفيدين) لعلوي بن أحمد السقاف.(106/186)
قال الإمام الغزالي رحمه الله: ((ولو زعم زاعم أن بينه وبين الله حالة أسقطت عنه التكاليف بحيث لا تجب عليه الصلاة ولا الصوم ونحوهما وأحلّت له شرب الخمر وكل أموال الناس كما زعمه بعض من يدعي التصوف وهم الإباحيون فلا شك في وجوب قتله على الإمام أو نائبه بل قال بعضهم: قتل واحد منهم أفضل عند الله من قتل مائة حربي في سبيل الله تعالى) اهـ.
خاتمة
إن كل ما كتبته وجمعته في هذا المؤلف إنما هو غيض من فيض وإلا ففضائح الخرافيين إذا استقصيت لا يسعها إلا المجلدات الضخمة ولكني اكتفيت بما هو بين يديك أخي القارئ؛ ليعلم العقلاء حال الخرافيين فإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.
ولا يسعني وأنا أختم هذا الكتاب إلا أن أنصح إخواني المسلمين عامة ومن وقع في شباك الخرافيين واغتر بهم خاصة أن لا يغتروا بالصور والأجسام والأحساب والأنساب فإنها لا عبرة بها إذا خلت من الأعمال. فليكن محل نظرهم العمل وضابطه أن يكون مشروعاً ولا يكون مشروعاً إلا إذا كان متابعاً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه نجا وفاز ومن مال عنه ضل وخسر؛ لأن ما سواه طُرق الشيطان، قال الله جل جلاله: ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(. [سورة الأنعام].
وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ( [الأنعام: 153]).(106/187)
وعن مجاهد: ) وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ( [الأنعام:153]، قال: البدع والشهوات.
والصراط المستقيم هو طريق السلامة والكيس العاقل الذي يختار لنفسه السلامة والموفق من وفقه الله إلى الهدى واتباع الحق.
وفقني الله وإياك أخي المسلم إلى الهدى واتباع الحق ومحبة أهله وجنبني وإياك الضلال واتباع الباطل، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماماً.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
مراجع البحث
مڑالكتابڑالمؤلفٹڑ
1.ڑڑالقرآن الكريمڑٹڑ
2.ڑڑأحسن الكلام في ما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكامڑمحمد بخيت المطيعيٹڑ
3.ڑڑأحكام القرآنڑابن العربي المالكيٹڑ
4.ڑڑأساس التقريرڑفخر الدين الرازيٹڑ
5.ڑڑأسنى الطالب شرح روض الطالبڑزكريا الأنصاريٹڑ
6.ڑڑأشرطة [الخرافيون]ڑسفر الحواليٹڑ
7.ڑڑأصول الدينڑالبغداديٹڑ
8.ڑڑأضواء البيانڑمحمد الأمين الشنقيطيٹڑ
9.ڑڑإغاثة اللهفانڑابن القيمٹڑ
10.ڑڑإتحاف السادةڑالزبيديٹڑ
11.ڑڑالإبداع في مضار الإبتداعڑعلي محفوظٹڑ
12.ڑڑالأجوبة المرضيةڑالشعرانيٹڑ
13.ڑڑالأمر بالإتباع والنهي عن الإبتداعڑالسيوطيٹڑ
14.ڑڑالباعث على أنكار البدع والحوادثڑأبو شامةٹڑ
15.ڑڑالبحر الرائقڑابن نجيم الحنفيٹڑ
16.ڑڑالبداية والنهايةڑابن كثيرٹڑ
17.ڑڑالتحرير والتنويرڑابن عاشورٹڑ
18.ڑڑالتعريفاتڑالجرجانيٹڑ
19.ڑڑالتوفيق على مهمات التعاريفڑالمناويٹڑ
20.ڑڑالجامع لأحكام القرآنڑالقرطبيٹڑ
21.ڑڑالحوادث والبدعڑأبو بكر الطرطوشيٹڑ
22.ڑڑالخطط المقريزيةڑالمقريزيٹڑ
23.ڑڑالدر المنثورڑالسيوطيٹڑ
ڑمڑالكتابڑالمؤلفٹڑ
24.ڑڑالدر نضيد في إخلاص كلمة التوحيدڑالشوكانيٹڑ
25.ڑڑالشرح الصغير على أقرب المسالكڑأحمد الدردير المالكيٹڑ
26.ڑڑالشفاڑالقاضي عياضٹڑ
27.ڑڑالطبقات الكبرىڑالشعرانيٹڑ
28.ڑڑالعلمانيةڑد/ سفر الحواليٹڑ(106/188)
29.ڑڑالفكر والمجتمع في حضرموتڑكرامة مبارك سليمانٹڑ
30.ڑڑالقاموس المحيطڑالفيروز آبادي/ط. مؤسسة الرسالةٹڑ
31.ڑڑالكشف المبين عن حقيقة القبوريينڑأحمد بن حسن المعلمٹڑ
32.ڑڑالكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخڑمحمد عبد الرؤوف القاسم
ط. الكتبة الإسلاميةٹڑ
33.ڑڑالمحاضرات الفكريةڑعلي فكريٹڑ
34.ڑڑالمحرر الوجيزڑابن عطيةٹڑ
35.ڑڑالمصباح المنيرڑللفيومي/ طبعة المكتبة العامةٹڑ
36.ڑڑالمعجم الوسيطڑطبعة دار الأمواج/ بيروت- لبنانٹڑ
37.ڑڑالمعز لدين اللهڑللدكتورين/ حسن إبراهيم حسن
وطه أحمد شرفٹڑ
38.ڑڑالمغنيڑابن قدامةٹڑ
39.ڑڑالمقدمةڑعبد الرحمن بن خلدونٹڑ
40.ڑڑالمنهاج في شعب الإيمانڑالحليميٹڑ
41.ڑڑبيان السنة المسمى بالعقيدة الطحاويةڑالإمام الطحاويٹڑ
42.ڑڑتاريخ الجندي بتحقيق الأكوعڑللنجدي/ محمد بن علي الأكوعٹڑ
43.ڑڑتاريخ الإرشاد في إندونيسياڑصلاح عبد القادر البكريٹڑ
44.ڑڑتاريخ الشعراء الحضرميينڑالسقافٹڑ
45.ڑڑتاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشرڑعبد القادر بن الشيخ بن عبيد الله العيدروسٹڑ
46.ڑڑتاريخ ثغر عدنڑالطيب بامخرم/ تحقيق: علي حسن عبد الحميدٹڑ
47.ڑڑتاريخ حضرموتڑصلاح البكريٹڑ
48.ڑڑتحفة الزمن في تاريخ اليمنڑحسن بن عبد الرحمن الأهدلٹڑ
49.ڑڑتحقيق شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعةڑللإمام اللالكائي د/ أحمد بن سعد ابن حمدانٹڑ
50.ڑڑتذكرة الحفاظڑالذهبيٹڑ
51.ڑڑتذكير الناسڑأحمد بن حسن العطاسٹڑ
52.ڑڑتفسير الطبريڑالإمام الطبريٹڑ
53.ڑڑتفسير القرآن الكريمڑابن كثيرٹڑ
54.ڑڑتلبيس إبليسڑابن الجوزيٹڑ
55.ڑڑتنوير القلوبڑللكرديٹڑ
56.ڑڑتيسير مصطلح الحديثڑد/ محمود الطحانٹڑ
57.ڑڑجامع العلوم والحكمڑابن رجبٹڑ
58.ڑڑجامع كرامات الأولياءڑالنبهانيٹڑ
59.ڑڑقطر الولي على حديث الوليڑالشوكانيٹڑ
60.ڑڑدمعة على التوحيدڑإصدار المنتدى الإسلاميٹڑ
61.ڑڑديوان ابن المقريڑابن المقريٹڑ(106/189)
62.ڑڑديوان ابن عبيد اللهڑعبد الرحمن بن عبيد الله السقافٹڑ
63.ڑڑديوان بني شهابڑأبو بكر بن عبد الرحمن بن شهابٹڑ
64.ڑڑروح المعانيڑالألوسيٹڑ
65.ڑڑزاد الميسرڑابن الجوزيٹڑ
66.ڑڑسلسلة الأحاديث الضعيفةڑالألبانيٹڑ
67.ڑڑسير أعلام النبلاءڑالذهبيٹڑ
68.ڑڑشرح الأربعين النوويةڑالنوويٹڑ
69.ڑڑشرح العقيدة الطحاويةڑابن أبي العزٹڑ
70.ڑڑشرح العينية/ نظم عبد الله بن علويڑأحمد بن زين الحبشيٹڑ
71.ڑڑصبح الأعشىڑأحمد بن علي القلقشنديٹڑ
72.ڑڑصحيح البخاريڑمحمد بن إسماعيل البخاريٹڑ
73.ڑڑصحيح الجامع الصغير وزيادتهڑالألبانيٹڑ
74.ڑڑصلة الأهل بتدوين ما تفرق من مناقب بني فضلڑمحمد أحمد بافضلٹڑ
75.ڑڑصوب الركام في تحقيق الأحكامڑعبد الرحمن بن عبد الله السقافٹڑ
76.ڑڑطبقات الخواصڑالزبيديٹڑ
77.ڑڑطبقات السبكيڑالسبكيٹڑ
78.ڑڑظاهرة الأرجاءڑسفر الحواليٹڑ
79.ڑڑفتح الباري شرح صحيح البخاريڑابن حجرٹڑ
80.ڑڑفتح المجيد شرح كتاب التوحيدڑعبد الرحمن بن حسن آل الشيخٹڑ
81.ڑڑكتاب الاستقامةڑشيخ الإسلام ابن تيميةٹڑ
82.ڑڑكف الرعاعڑابن حجر الهيتميٹڑ
83.ڑڑكفاية الأخيار في حل غاية الاختصارڑالحصنيٹڑ
84.ڑڑكنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشيةڑأبو بكر الشليٹڑ
85.ڑڑلسان العربڑابن منظورٹڑ
86.ڑڑلوامع الأنوار البهيةڑمحمد السفاريني الحنبليٹڑ
87.ڑڑمجموع الفتاوىڑشيخ الإسلام ابن تيميةٹڑ
88.ڑڑمحاضرات بعنوان الموالد البدعية نشأتها وأهدافهاڑأحمد بن حسن المعلمٹڑ
89.ڑڑمحلة المنارڑمحمد رشد رضاٹڑ
90.ڑڑمختصر التحفةڑالألوسيٹڑ
91.ڑڑمراتب الإجماعڑابن حزمٹڑ
92.ڑڑمغني المحتاجڑالشربينيٹڑ
93.ڑڑمفاتيح الغيبڑالرازيٹڑ
94.ڑڑمنهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرةڑخالد عبد اللطيف بن محمد نورٹڑ
95.ڑڑمنهج الإستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعةڑعثمان بن علي حسنٹڑ
96.ڑڑمواهب القدوس في مناقب العيدروسڑأحمد بن عمر بحرقٹڑ(106/190)
97.ڑڑمولد الديبعيڑعبد الرحمن بن الديبعٹڑ
98.ڑڑنسيم حاجر في تأييد قولي عن مذهب المهاجرڑعبد الرحمن بن عبيد الله السقافٹڑ
99.ڑڑنهاية المحتاجڑالرمليٹڑ
100.ڑڑنواقض الإيمان الاعتقاديةڑد/ الوهيبي
فهرس المحتويات
تقديم…
مقدمة…
الباب الأول
الخرافة
الفصل الأول…
معنى الخرافة…
ومن خلال المعنى اللغوي للخرافة نخلص إلى حقيقتها:…
الفصل الثاني…
نشأة الخرافة…
شركا إبليس لصيد بني آدم:…
الشرك الأول: الجنس وملحقاته…
الشرك الثاني: الإشراق:…
طرق الوصول إلى الإشراق:…
الطريق الأول: طريق شجرة الخلد وملك لا يبلى:…
الطريق الثاني: طريق الرياضة والمجاهدة الصوفية:…
علاقة الصوفية بالإمامية:…
الصوفية يلتقون مع الشيوعية:…
الفصل الثالث…
كيف ينشر الخرافيون خرافاتهم…
الوسيلة الأولى: الاستعانة بشياطين الجن:…
الوسيلة الثانية: الكشف والإلهام:…
الوسيلة الثالثة: الاحتيال على ضعاف العقول:…
الوسيلة الرابعة: الدجل المشوّق:…
الوسيلة الخامسة: استخدام وجاهتهم:…
الوسيلة السادسة: استخدام من يسمونهم الدراويش:…
الفصل الرابع…
أسباب انتشار الخرافة…
السبب الأول: الجهل بالدين وبما هو منه وما ليس منه:…
السبب الثاني: عدم التمييز بين الكرامات والخرافات:…
أولاً: المذاهب في الكرامة:…
ثانياً: الفرق بين المعجزة والكرامة:…
ثالثاً: الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق…
رابعاً: ضوابط الكرامة:…
السبب الثالث: قبول الأخبار وعدم تمحيصها وعرضها على الكتاب والسنة وأهل الاختصاص:…
السبب الرابع: ضعف النفوس عن العمل الجاد ومغالبة الشهوات والركون إلى الأماني الكاذبة:…
السبب الخامس: دعم القوى الشيطانية للخرافة وترويجها لمنهجها الفاسد:…
السبب السادس: غياب دولة الإسلام:…
الفصل الخامس…
لماذا يتمسك الخرافيون بالخرافات؟…
أولاً:: الزعامة والوجاهة:…
ثانياً المهابة لهم والرهبة منهم:…
ثالثاً: استمرار التبعية المطلقة لهم:…
رابعاً: الارتزاق وجمع المال:…(106/191)
الفصل السادس…
مفاسد الخرافة والخرافيين…
المفسدة الأولى: فهي معول هدم لعقيدة التوحيد:…
المفسدة الثانية: تقليل شأن الكتاب والسنة وعدم الأخذ بظاهر الشرع:…
أمثلة من أقوال المحققين وأحوالهم:…
المفسدة الثالثة: التجرؤ على فعل الفواحش:…
المفسدة الرابعة: الزهد في الاستقامة والاقتصار على بعض العبادات المؤقتة وفيها دخ…ن:
المفسدة الخامسة: انتشار الكهانة والعرافة في المجتمع المسلم:…
المفسدة السادسة: كونها مرتعاً خصباً للمذاهب الهدامة.…
الباب الثاني
انحرافات الخرافيين
الفصل الأول:…
العقائد…
المبحث الأول: ادعاء الربوبية والألوهية وادعاء علم الغيب:…
تنبيه:…
المبحث الثاني: أنهم أعلى مقاماً من الأنبياء عامة والنبي خاصة صلى الله عليه
وسلم:…
المبحث الثالث: القدرة على الضر والنفع وإجابة المضطر:…
المبحث الرابع: القدرة على الإحياء والإماتة ورد القضاء والقدر:…
المبحث الخامس: لهم حق التحليل والتحريم والطاعة فيهما:…
الفصل الثاني…
انحرافات الخرافيين في العبادات…
المبحث الأول: جواز التعبد بأمور تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم بالنص الصريح…
المبحث الثاني: رفع بعض التكاليف الشرعية عنهم أو كلها:…
المبحث الثالث: التعبد بمحرمات منصوص على تحريمها:…
المبحث الرابع: النصب والتحايل على الناس من أجل أخذ أموالهم أو جهدهم بالبشارات الكاذبة:…
الفصل الثالث:…
انحرافات الخرافيين في السلوك والأخلاق…
المبحث الأول: الزنا ومقدماته والتلذذ بالمردان كرامة لا يجوز الإنكار عليها
عندهم:…
المبحث الثاني: كشف العورة ولاية:…
المبحث الثالث: احتقار واستذلال الناس والترفع عليهم مما يجوز لهم ولا يجوز
لغيرهم:…
الباب الثالث
نماذج من الإنكار على الخرافيين
أولاً: ما ذكره ابن خلدون:…
ثانياً: ما ذكره الشوكاني:…
ثالثاً: ما ذكره المقريزي:…
رابعاً: ما ذكره أحمد بن محمد بن الصديق الغماري:…
خامساً: ما ذكره ابن المقري:…(106/192)
سادساً ما ذكره عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف:…
سابعاً: ما ذكره ابن عبيد الله في ديوانه:…
ثامناً: ما ذكره صلاح عبد القادر البكري:…
تاسعاً: ما ذكره علوي بن أحمد السقاف عن الإمام الغزالي رضي الله عنه:…
خاتمة…
مراجع البحث…
فهرس المحتويات…(106/193)
تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي
أو مصرع التصوف:
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين خطبة الكتاب
الحمد لله المضل الهاد وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تضمن الإسعاد يوم يقوم الأشهاد
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الرشاد
صلى الله عليه وسلم على آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد فلم يجسر أحد في زمانهم على إلحاد بتمثيل أو تعطيل أو حلول أو اتحاد أبعدنا الله من ذلك أيما إبعاد وحمانا منه على مر الدهور والآباد
وبعد فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف الموسوم عند أهل الحق بالوحدة ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرا حتى يعلم حاله فيهجر مقاله ويعتقد انحلاله وكفره وضلاله وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله امتثالا لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن
لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وفي رواية عن عبد الله بن مسعود وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل وما أحضر إلى النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه وأتباعه ومحبيه
عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام
وينبغي أن يعلم أولا أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة وهي أنه لا شيء سوى هذا العالم وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته
ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله بما يحل به عقائد أهله بأن كل أحد على صراط مستقيم وأن الوعيد لا يقع منه شيء وعلى تقدير وقوعه فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة ونحو ذلك(107/1)
وإن حصل لأهله ألم فهو لا ينافي السعادة والرضى كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا وهذا يحط عند من له وعي على اعتقاد أنه لا إله أصلا وأنه ماثم إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما وراء ذلك شيء
منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم
وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه ولا يلقىزمام انقياده إليه فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بعد كل سامع من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم ووقف لهم في أودية اعتقادهم ثم استدرجهم عند المضائق واستغواهم في أماكن الاشتباه وهو أصنع الناس في التلبيس
فإنه يذكر أحاديث صحاحا ويحرفها على أوجه غريبة ومناح عجيبة فإذا تدرج معه من أراد الله والعياذ به ضلاله وصل ولا بد إلى مراده من الانحلال من كل شرعة والمباعدة لكل ملة
وخواص أهل هذه النحلة يتسترون بإظهار شعائر الإسلام وإقامة الصلاة والصيام وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف وتزويق الزندقة بتسميتها بعلم التصوف فهو ممن أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في النص النوحي أن الدعوة إلى الله مكر ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام فقال ادعوا إلى الله فهذا عين المكر إلى آخر كلامه
وهذا هو السر في تنسكهم
على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك لانقياد أهله بغير ذلك وقد يستدرجهم الله وأمثالهم ممن يريد ضلاله بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم كما يظهره الله على يد الدجال وأيدي بعض الرهبان ليتبين الموقن من المرتاب
مثالهم في زندقتهم
وقد ضربوا لتصحيح زندقتهم مثالا مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام ولا خالط أنفاس النبوة حتى صار يدفع الشبه
حاصل ذلك المثال أنهم يصلون إلى الله بغير واسطة المبعوث بالشرع فتم لهم المكر(107/2)
وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع ولم يبالوا بخرق الإجماع وذلك المثال أن ملكا أقام على بابه سيافا وقال له من دخل بغير إذنك فاقتله وقال لغيره أذنت لك في الدخول متى شئت فإذا دخل الغير فقد أصاب
وإن قتله السياف فقد أصاب وعنوا بالسياف الشارع
فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئا
فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم وهو قصد أهل الشريعة ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع فإن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة ودعوته شاملة
احتجاج الصوفية بقصة الخضر
ولا حجة لهم في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام للفرق بخصوص تلك الرسالة مع أن الخبر بعلم الخضر جاء من الله تعالى إلى موسى عليه السلام
فأين هي من دعاويهم ولا شبهة عليها فضلا عن دليل بل هي مصادمة للقواطع ومن صادم القواطع انقطعت عنقه ولو بلغ في الزهد والعبادة أقصى الغايات 88 : 42 وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآيات
ولو وقعت منهم الخوارق فإنها شيطانية قال الله تعالى 43 : 36 ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين 6 : 121 وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون
القول في صرف الكلام عن ظاهره
وسميت هذه الأوراق تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي وإن شئت فسمها النصوص من كفر 4 الفصوص لأني لم أستشهد على كفره وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه فإنه ليس كل كلام يقبل تأويله وصرفه عن ظاهره
وذلك يرجع إلى قاعدة الإقرار بشيء وتعقيبه بما يرفع شيئا ما من معناه ولا خلاف عند الشافعية في أنه إن كان مفصولا لا يقبل وأما إذا كان موصولا ففيه خلاف
ومن صورة ما لا ينفع فيه الصرف عن الظاهر
كما لو أقر ببيع أو هبة ثم قال كان ذلك فاسدا فأقررت بظني الصحة فإنه لا يصدق في ذلك
حكم من ينطق بكلمة ردة(107/3)
ونقل الشيخ سراج الدين بن الملقن في العمدة على المنهاج والزركشي في التكملة عن إمام الحرمين أنه قال في أوائل الإيمان قال الأصوليون لو نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهرا وباطنا قال الإمام الغزالي في البسيط بعد حكايته أيضا عن الأصوليين لحصول التهاون منه وهذا المعنى يعني التهاون لا يتحقق في الطلاق فاحتمل قبول التأويل بإطلاقه
وسيأتي ما يشهد لذلك من نقل شيخ الإسلام الشيخ زين الدين العراقي عن العلامة علاء الدين القونوي محسنا له على أن بعض العلماء غلب جانب الحرمة لله ولرسله فمنع التأويل مطلقا
قال القاضي أبو الفضل عياض المالكي في كتابه
الشفاء وهو الذي تلقته الأمة بالقبول وتدارسوه في الارتحال والحلول في القسم الرابع منه فصل الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل ويلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره فههنا متردد النظر وحيرة العبر ومظنة اختلاف المجتهدين ووقفة استبراء المقلدين 8 : 43 ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة فمنهم من غلب حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وحمى حمى عرضه فجسر على القتل ومنهم من عظم حرمة الدم
بيان ما هو من المقالات كفر
وقال في فصل بيان ما هو من المقالات كفر كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله أو مع الله فهي كفر كمقالة الدهرية وسائر فرق أصحاب الإثنين من الديصانية
والمنانية وأشباههم من الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا
بعبادة الأوثان أو الملائكة أو الشياطين أو الشمس أو النجوم أو النار أو أحد غير الله
ثم قال وكذلك من أقر بالوحدانية وصحة النبوة ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به
ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع كالمتفلسفين وبعض الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة وأصحاب الإباحة فإن هؤلاء(107/4)
زعموا أن ظواهر الشريعة 5 وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة والجنة والنار ليس منها شيء على مقتضى لفظها ومفهوم خطابها وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع وتعطيل الأوامر والنواهي وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به
وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيرا ونبيا من القردة والخنازير والدواب والدود ويحتج بقوله تعالى 35 : 24 وإن من أمة إلا خلا فيها نذير إذ ذلك يؤدي إلى أن توصف أنبياء هذه الأجناس
بصفاتهم المذمومة وفيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه مع إجماع المسلمين على خلافه وتكذيب قائله انتهى
قلت فكيف بمن يدعي أن الإله عين كل شيء من ذلك
وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو توقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك
الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك انتهى قلت فكيف بمن يقول إن جميع الخلق من أهل الملل وغيرها على صراط مستقيم وأن فرعون مات طاهرا مطهرا بعد النص القطعي على أنه
من أهل النار بقوله 10 : 83 وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين وقوله تعالى 4 : 43 وأن المسرفين هم أصحاب النار
وقال إن كل عابد شيئا فهو عابد لله وحرف ما أخبر به عن عذاب قوم نوح وهود ونحوهم بما سيأتي من أن ما حل بهم أعقبهم راحة وعذوبة وأن الله تعالى كان ناصرهم على أنبيائه فإن العداوة ما كانت إلا بينهم وبينهم(107/5)
قال وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع ثم قال وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية والقول بالحلول وقوله أنا الحق مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ولم يقبلوا توبته وكذلك حكموا في ابن أبي الغرافيد
وكان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين ابن أبي عمر المالكي انتهى
قلت فكيف بمن يقول صريحا إن الخلق هو الحق والحق هو الخلق
والحق هو الإنسان الكبير وهو حقيقة العالم وهويته
وقال شيخ الإسلام الشيخ محيى الدين النووي الشافعي في كتاب الردة الروضة مختصر الرافعي قال المتولي من اعتقد قدم العالم أو حدوث 6 الصانع إلى أن قال أو أثبت له الانفصال أو الاتصال كان كافرا انتهى
قلت فيكف بمن يصرح بأنه عين كل شيء قال والرضى بالكفر كفر قلت فكيف بمن يصوب كل كفر وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام
ويقول إن الضلال أهدى من الهدى لأن الضال حائر والحائر دائر
حول القطب والمهتدي سالك في طريق مستطيل فهو بعيد عن القطب وسترى ذلك كله في عباراته صريحا
ثم نقل الشيخ محيى الدين النووي عن الحنفية مرتضيا له قائلا إن إطلاق أصحابنا يقتضي الموافقة عليه
أنه إذا سخر بوعد الله تعالى أو بوعيده كفر ولو قال لا أخاف القيامة كفر انتهى
قلت فكيف بمن يقول إنه ليس لوعيد الله عين تعاين وأن الآخرة موضع السعادة لكل أحد والمعذب منعم بعذابه
ثم نقل الشيخ عن القاضي عياض مرتضيا له أن من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى أو شك في تكفيرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده قال وكذا نقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة(107/6)
ثم قال في الباب الثاني في أحكام الردة إن حكمها إهدار دم المرتد فيجب قتله إن لم يتب سواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا أو غيره ككفر الباطنية انتهى
وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري في مختصر الروضة فمن اعتقد قدم العالم إلى أن قال أو شك في تكفير اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي كفر لا إن جهل لقرب لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين انتهى
الباطنية
قال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل وإنما لزمهم يعني الباطنية هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية وبخراسان التعليمية والملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية لأنا نميز عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا
الشخص يعني إسماعيل بن جعفر ثم إن الباطنية القديمة خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج فقالوا في الباري تعالى إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقناها عليه وذلك تشبيه فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق بل هو إله المتقابلين وخالق الخصمين والحاكم بين المتضادين ونقلوا في هذا نصا عن محمد بن علي الباقر 7 أنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قائم به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة فقيل فيهم إنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن
جميع الصفات قالوا وكذلك نقول في القدم إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته انتهى
وقول ابن عربي في الجمع بين التشبيه والتنزيه أشنع من هذا وأبشع وأقبح وأفظع
من هو الزنديق(107/7)
قال الشيخ محي الدين النووي وسواء كان ظاهر الكفر أو زنديقا يظهر الإسلام ويبطن الكفر كذا فسر الزنديق في باب الردة في كتاب الفرائض وضعفه الأئمة
قال ابن الملقن في العمدة وقال في كتاب اللعان في الكلام على التغليظ إنه الذي لا ينتحل دينا قال وهذا أقرب لأن الأول هو المنافق وقد غايروا بينه وبين الزنديق
قال وقال الغزالي في الأصول الزنديق ضربان
زنديق مطلق
وهو الذي ينكر أصل المعاد حسا وعقلا وينكر الصانع وزنديق مقيد وهو الذي يثبت المعاد بنوع عقل مع نفي الآلام واللذات الحسية الجسمية وإثبات الصانع مع نفي علمه فهذه زندقة مقيدة بنوع اعتراف بتصديق الأنبياء انتهى
وسيأتي في آخر هذا الكتاب عن العلامة علاء الدين البخاري تحقيق معنى الزنديق وغيره من أسماء الكفرة
على أن قتل المعتقد لمثل هذا لا بد منه ولو توقفنا في تسميته
قال القاضي عياض وما رواه عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه من قولهم في القدرية يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا وقال عيسى عن أبي القسم في أهل الأهواء من الأباضية والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب الله تعالى يستتابون أيضا أظهروا ذلك أو أسروه فإن تابوا وإلا قتلوا وميراثهم لوثتهم وقال مثله ابن القسم في كتاب محمد في أهل القدر وقد انتهى بنا المقال الدال على كفر من اعتقد ما قاله من الضلال وهذا حين الشروع في سوق كلامه الموضح لفساد طويته وقبح مرامه
إفك وبهتان
وأعظم الأمر أنه نسب كفره إلى إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الماحي لجميع الإشراك المخلص لمتبعيه من حبائل سائر الأشراك فقال في الخطبة
أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق وبيده كتاب فقال لي هذا كتاب فصوص الحكم(107/8)
خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به فقلت السمع والطاعة لله ولرسوله وأولى الأمر منا كما أمرنا فحققت الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم 8 من غير زيادة ولا نقصان
فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا انتهى
دفع ما افتراه على الرسول
ولا شك أن النوم والرؤيا في حد ذاتهما في حيز الممكن لكن ما أصله من مذهبه الباطل ألزمه أن يكون ذلك محالا وذلك أن عنده أن وجود الكائنات هو الله فإذن الكل هو الله لا غير فلا نبي ولا رسول ولا مرسل ولا مرسل إليه فلا خفاء في امتناع النوم على الواجب وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام فمن هنا يعلم أنه لا يتحاشى من التناقض لهدم الدين بنوع مما ألفه أهله
نبه على ذلك الإمام علاء الدين البخاري في كتابه فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين
إيمانه بأن الله إنسان كبير
ثم قال ابن عربي في فص حكمة إلهية في كلمة آدمية لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى [ التي لا يبلغها الإحصاء ] أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر [ كله ] لكونه متصفا بالوجود ويظهر به سره إليه فإن رؤية الشيء [ نفسه ] بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة
ثم قال فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير
ثم قال فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة فأما إنسانيته فلعموم
نشأته وحصره الحقائق كلها وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي به يكون النظر وهو المعبر عنه بالبصر فلهذا سمي إنسانا فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي(107/9)
ثم قال ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفه ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح في الحادث وإن كان واجب الوجود ولكن وجوبه بغيره لا بنفسه
ثم قال فوصف نفسه لنا بنا فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا وإذا شهدنا شهد نفسه ولا نشك أنا كثيرون بالشخص والنوع وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد
آدم عند الصوفية
ثم قال فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا ولهذا قال لإبليس
: 35 ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وما هو إلا عين جمعه [ الصورتين ] صورة العالم وصورة الحق [ وهما يدا الحق ]
ثم قال فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى
ولذلك قال فيه كنت سمعه وبصره ما قال كنت عينه وأذنه
زعمه أن الحق مفتقر إلى الخلق
ثم قال ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان 9 للعالم وجود كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العينية ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده شعر
فالكل مفتقر ما الكل مستغني ... هذا هو الحق قد قلناه لا نكني
التنزيه والتشبيه
ثم قال في فص حكمه سبوحية في كلمة نوحية اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد فالمنزه إما جاهل وإما صاحب سوء أدب ولكن إذا أطلقاه وقالا به(107/10)
فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه ولم ير غير ذلك فقد أساء الأدب وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر ويتخيل أنه في الحاصل وهو في الفائت وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت به إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان
بم يعرف الله عند الصوفية
فإن للحق في كل خلق ظهورا فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته وهو الإسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره وكذلك كل محدود
فالحق محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا تعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته فلذلك يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة
وهذا محال حصوله فحد الحق محال وكذلك من شبهه وما نزهه فقد قيده وحدده وما عرفه ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه ووصفه بالوصفين(107/11)
على الإجمال لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور فقد عرفه [ مجملا ] لا على التفصيل كما عرف نفسه مجملا لا على التفصيل ولذلك ربط النبي صلى الله عليه وسلم معرفة الحق بمعرفة النفس فقال من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال الله تعالى 41 : 53 سنريهم آياتنا فى الآفاق وهو ما خرج عنك وفى أنفسهم وهو عينك حتى يتبين لهم أي للناظر أنه الحق أي من حيث أنك صورته وهو روحك فأنت له كالصورة الجسمية لك وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك والحد يشمل الظاهر والباطن منك فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها لم تبق إنسانا ولكن يقال فيها إنها صورة تشبه صورة الإنسان فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة ولا ينطلق عليها اسم إنسان إلا بالمجاز لا بالحقيقة وصور العالم لا يمكن زوال 10 الحق عنها أصلا فحد الألوهية له بالحقيقة
لا بالمجاز كما هو حد الإنسان إذا كان حيا وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنى بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها كذلك جعل الله تعالى صورة العالم تسبح بحمده ولكن لا فقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور فالكل ألسنة الحق ناطقة بالثناء على الحق ولذلك قال الحمد لله رب العالمين أي إليه ترجع عواقب الثناء فهو المثني والمثنى عليه شعر
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه كنت محددا
وإن قلت بالأمرين كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا
فمن قال بالإشفاع كان مشركا ... ومن قال بالإفراد كان موحدا
فإياك والتشبيه إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا
فما أنت هو بل أنت هو وتراه في ... عين الأمور مسرحا ومقيدا
قال الله تعالى [ 42 : 11 ليس كمثله شيء فنزه وهو السميع البصير ] فشبه وقال تعالى ليس كمثله شيء فشبه وثنى وهو السميع البصير فنزه وأفرد
تكفير الصوفية لنوح(107/12)
لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارا ثم دعاهم إسرارا ثم قال لهم 71 : 10 استغفروا ربكم إنه كان غفارا وقال 71 : 5 6 إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان والأمر قرآن لا فرقان ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه فإن القرآن يتضمن
الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمدصلى الله عليه وسلم وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ف ليس كمثله شيء يجمع الأمرين في أمر واحد فلو أن نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه فإنه شبه ونزه في آية واحدة بل في نصف آية ونوح دعا قومه ليلا من حيث عقولهم وروحانيتهم فإنها غيب ونهارا دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم وما جمع في الدعوة مثل ليس كمثله شيء فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان [ فزادهم ] فرارا ثم قال عن نفسه إنه دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم وفهموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم لذلك جعلوا أصابعهم في
آذانهم واستغشوا ثيابهم وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل لا بلبيك ففي ليس كمثله شيء إثبات المثل ونفيه وبهذا قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه أوتي جوامع الكلم فما دعا محمد قومه ليلا ونهارا بل دعاهم ليلا في نهار ونهارا في ليل فقال نوح في حكمته لقومه 71 : 11 يرسل السماء عليكم مدرارا وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري ويمددكم بأموال أي بما يميل بكم إليه فإذا مال بكم إليه رأيتم 11 صورتكم(107/13)
فيه فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم وعالم وولده وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري والأمر موقوف علمه على المشاهدة بعيد عن نتائج الفكر إلا خسارا فما ربحت تجارتهم فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم وهو في المحمديين 57 : 7 وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه وفي نوح 71 : 2 أن لا تتخذوا من دوني وكيلا فأثبت الملك لهم والوكالة لله فيهم فهم مستخلفون فيه فالملك لله وهو وكيلهم فالملك لهم وذلك ملك الاستخلاف وبهذا كان الحق تعالى مالك الملك كما قال الترمذي رحمه الله
الدعوة إلى الله مكر عند الصوفية
ومكروا مكرا كبارا لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه
ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية 12 : 108 أدعو إلى الله فهذا عين المكر
قلت فهذا وأشكال من قوله كما يأتي في ال2فص اليوسفي يدندن به على تصحيح قول الكفار إن القرآن سحر
ولا يقدر على التصريح به ولقد أخبرني من أثق به أن بعض أتباعهم قال له القرآن أساطير الأولين
ثم قال ابن عربي [ مفسرا قول رب العالمين ] 12 : 108 على بصيرة فنبه على أن الأمر له كله فأجابوه مكرا كما دعاهم فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته وإنما هي من حيث أسماؤه فقال 19 : 86 يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا فجاء بحرف الغاية وقرنها بالإسم فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة إسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين(107/14)
فقالوا في مكرهم 71 : 23 لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله في المحمديين 17 : 23 وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله
في كل معبود
تكفير العراقي لابن عربي
وقال شيخ شيوخنا الإمام القدوة العارف شيخ الإسلام حافظ عصره الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي في كراسة أجاب فيها سؤال من سأله عن بعض كلام ابن عربي هذا وقوله في قوم نوح لا تذرن آلهتكم إلى آخره كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد فجعل تركهم لعبادة الأوثان التي نهاهم نوح عن عبادتها جهلا يفوت عليهم من الحق بقدر ما تركوا انتهى
قلت يا ليت شعري من قال هذا القول في هذا العدد اليسير من الأصنام ماذا يقول فيما روى في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول 17 : 18 جاء الحق وزهق الباطل
وفي السير أنها كانت 12 مثبتة في الأرض بالرصاص فما أشار بذلك العود إلى صنم منها إلا انقلب إن أشار إلى قفاه انكب على وجهه وإن أشار إلى وجهه انقلب على قفاه وكان في جزيرة العرب من الأصنام ما يتعسر حصره فما أبقى لشيء منها باقية وما استباح قتالهم ونهب أموالهم وقتل رجالهم ومزق أبطالهم وركب من دون ذلك الأهوال العظام وقاطع الأخوال والأعمام إلا على ذلك فتبا لمن أنكره أو رأى شيئا أكمل منه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين انتهى
كل شيء عندهم رب وإله(107/15)
قال ابن عربي فالأدنى من تخيل فيه أي في كل معبود الألوهية فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال 13 : 33 قل سموهم فلو سموهم لسموهم حجارة وشجرا وكوكبا ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلها ما كانوا يقولون الله ولا الإله والأعلى ما تخيل بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر فالأدنى صاحب التخيل يقول 3 : 39 ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا والأعلى العالم يقول 34 : 32 فإلهكم إله واحد
فله أسلموا وبشر المخبتين الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة
قلت وعلى هذا يحوم ابن الفارض بقوله فالعلماء شهدوا فيه أنه من أهل الاتحاد
الرأي في ابن الفارض وتائيته
وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير إنه نظم التائية على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد وقال وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها وقال في سنة سبع وسبعين وستمائة في ترجمة محمد بن إسرائيل وكان أديبا ولكن في كلامه ما يشير إلى الحلول والاتحاد
على طريقة ابن الفارض وابن عربي
وقال الشيخ مدين وهو كان رأس الصوفية زماننا إن التائية هي الفصوص لا فرق بينهما ومن قال ان السراج عمر بن إسحاق الهندي عزر الشهاب أحمد بن يحيى بن أبي حجلة لأجل كلامه في ابن الفارض وجعل ذلك دليلا على ولايته أجيب بأن شيخنا حافظ العصر أحمد بن حجر ذكر في ترجمته في أول تاريخه في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أن السراج الهندي كان يتعصب للصوفية الاتحادية وأنه شرح التائية فسقط كلامه والاعتبار به وعلى كل تقدير فتعزيره له غير واقع في محله بوجه فإنه لا شيء على من كفر مسلما بتأويل بلا خلاف
نعلمه بين العلماء
والحجة فيه قصة عمر وحاطب رضي الله عنهما وغير ذلك مما وقع بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في وقائع عدة على أن التعزير يحتمل أمورا عدة لا يتعين شيء منها إلا بدليل فسقط الاستدلال به(107/16)
وقال العلامة علاء الدين البخاري وكان عين العلماء والصوفية قبل الشيخ مدين لشخص حنفي لا فرق بين التائية والفصوص إلا بكونه نثرا وكونها نظما كما أنه لا فرق بين منظومة 13 النسفي والقدوري إلا بذلك
وقال الشافعي مثل ذلك ومثل بالبهجة نظم الحاوي وبالحاوي
وقال العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل وهو من أعيان صوفية اليمن وفقهائهم واعلم أن ابن الفارض من رءوس أهل الاتحاد واستشهد على
بشراح التائية من أتباعه مثل سعيد الفرغاني وداود القيصري ومحمود الأنزاوي
شواهد من تائية ابن الفارض
وإياك والإعراض عن كل صورة ... مموهة أو حالة مستحيلة
فطيف خيال الظل يبدي إليك في ... كرى اللهو ما عنه الستائر شقت
ترى صور الأشياء تجلى عليك من ... وراء حجاب اللبس في كل خلعة
تجمعت الأضداد فيها لحكمه ... وأشكالها تبدو على كل هيئة
صوامت تبدي النطق وهي سواكن ... تحرك تهدي النور غير ضوية
ثم ذكر أنواعا من الأضداد في نيف وعشرين بيتا ثم قال
وكل الذي شاهدته فعل واحد ... بمفرده لكن بحجب الأكنة
إذا ما أزال الستر لم تر غيره ... ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
ويجمعنا في المظهرين تشابه ... وليست لحالي حاله بشبيهة
فأشكاله كانت مظاهر فعله ... بستر تلاشت إذ تجلى وولت
وكانت له بالفعل نفسي شبيهة ... وحسي كالأشكال واللبس سترتي
تمجيد الصوفية لعبادة الأصنام
وقال في الفص النوحي أيضا 71 : 23 وقد أضلوا كثيرا أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب ولا تزد الظالمين لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهمأول الثلاثة فقدمه على المقتصد والسابق
إلا ضلالا إلا حيرة المحمدي زدني فيك تحيرا 2 : 20 كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرج منه وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته فله من وإلى وما بينهما وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه من ولا غاية له(107/17)
فتحكم عليه إلى فله الوجود الأتم وهو المؤتي جوامع الكلم والحكم مما خطيئاتهم فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة فأدخلوا نارا في عين الماء في المحمديين 81 : 6 وإذا البحار سجرت سجرت التنور إذا أوقدته فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد فلو أخرجهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله وبالله
بل هو الله
قال نوح رب ما قال إلهي فإن الرب له الثبوت والإله يتنوع بالأسماء فهو كل يوم هو في شأن فأراد بالرب ثبوت التكوين إذ لا يصح إلا هو
لا تذر على الأرض يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها المحمدي ولو دليتم بحبل لهبط على الله له ما في السماوات وما في الأرض وإذا دفنت فيها [ فأنت فيها ] وهي ظرفك 55 : 20 وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى 14 لاختلاف الوجوه من الكافرين الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم طلبا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم
والغفر الستر
ديارا أحدا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة إنك إن تذرهم أي تدعهم وتتركهم يضلوا عبادك إلى الخير فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا فهم العبيد الأرباب ولا يلدوا أي ما ينتجون ولا يظهرون إلا فاجرا أي مظهرا ما ستر كفارا أي ستارا ما ظهر بعد ظهوره فيظهرون ما ستر ثم يسترونه بعد ظهوره فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر(107/18)
في كفره والشخص واحد رب اغفر لي استرني واستر من أجلي فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك 67 : 39 وما قدروا الله حق قدره ولوالدي من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة ولمن دخل بيتي أي قلبي مؤمنا أي مصدقا لما يكون فيه من الإخبارات الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها وللمؤمنين من العقول وللمؤمنات من النفوس ولا تزد الظالمين من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية إلا تبارا أي هلاكا فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم في المحمديين 88 : 28 كل شيء هالك إلا وجهه والتبار الهلاك
الحق عين الخلق عند الصوفية
ثم قال في فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو فهو العلي لذاته أو عن ماذا وما هو
إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو
فهو العلي لا علو إضافة لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات والعين واحدة من المجموع في المجموع فوجود الكثرة في الأسماء وهي النسب وهي أمور عدمية وليس إلا العين الذي هو الذات فهو العلي لنفسه لا بالإضافة فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة لذلك نقول فيه هو لا هو
أنت لا أنت
قال الخراز
وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من [ أسماء ] المحدثات
قلت وقال ابن الفارض
أممت إمامي في الحقيقة فالورى ... ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي(107/19)
يراها أمامي في صلاتي ناظري ... ويشهدني قلبي إمام أئمتي
ولا غرو أن صلى الأنام إلى أن ... ثوت بفؤادي وهي قبلة قبلتي
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى كم أواخي الستر ها قد هتكته ... وحل أواخي الحجب في عقد بيعتي
أفاد اتخاذي حبها لاتحادنا ... نوادر عن عاد المحبين شذت
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت
وإن نطقت كنت المناجي كذاك إن ... قصصت حديثا إنما هي قصت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما ... وصفت سكوتا عن وجود سكينة
فمن بعد ما جاهدت شاهدت مشهدي ... وهادى لي إياي بل بي قدوتي
فبي موقفي لا بل إلي توجهي ... كذاك صلاتي لي ومني كعبتي
الوحدة المطلقة دين ابن عربي
قال الإمام زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور وأما قوله فهو عين ما ظهر وعين ما بطن فهو كلام مسموم ظاهره القول بالوحدة المطلقة وأن جميع مخلوقاته هي عينه ويدل على إرادته لذلك صريحا قوله بعد ذلك وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات وكذا قوله بعد ذلك والمتكلم واحد وهو عين السامع وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء
لا يعتذر عن الصوفية بالتأويل
ثم قال ولا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا نؤول له كلامه ولا كرامة
ولقد أحسن بعض من عاصرناه من العلماء العارفين وهو الشيخ الإمام العلامة علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي حيث سئل عن شيء من هذا
فقال إنما نؤول كلام من ثبتت عصمته حتى نجمع بين كلاميه لعدم(107/20)
جواز الخطأ عليه وأما من لم تثبت عصمته فجائز عليه الخطأ والمعصية والكفر فنؤاخذه بظاهر كلامه ولا يقبل منه ما أول كلامه عليه مما لا يحتمله أو مما يخالف الظاهر وهذا هو الحق انتهى
خطر صرف الكلام عن ظاهره
وكذا قال في عدم التأويل لغير المعصوم الإمام نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي وقد حقق هذه المسألة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في أول الإحياء في كتاب العلم بما حاصله أن الكلام إن كان ظاهرا في الكفر بالاتحاد فقتل واحد ممن يقول به أفضل من إحياء عشرة أنفس وإن كان فهمه مشكلا فلا يحل ذكره
وقال إن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام بنقل عن صاحب الشرع وبغير ضرورة تدعو إلى ذلك من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ
ثم قال والباطن لا ضبط
له بل تتعارض فيه الخواطر ثم قال وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة
وسيأتي تأييد ذلك عن الشيخ زين الدين العراقي وولده الحافظ أبي زرعة 16 وحكاية ابن خليل السكوني الإجماع على ذلك
صلة الخلق بالحق عند الصوفية
ثم قال ابن عربي في الفص الإدريسي أيضا وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود والمعدود منه عدم ومنه وجود فقد يعدم الشيء من حيث الحس وهو موجود من حيث العقل فلا بد من عدد ومن معدود ولا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه فإن كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا والعشرة [ إلى أدنى وإلى أكثر إلى غير نهاية ] ما هي مجموع ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد
ثم قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها
علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه وإن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة [ لا ] بل هو
العين الواحدة وهو العيون الكثيرة
الطبيعة هي الله عند الصوفية(107/21)
ثم قال وخلق منها زوجها [ فما نكح سوى نفسه فمنه الصاحبة والولد والأمر واحد في العدد ] فمن الطبيعة ومن الظاهر منها وما رأيناها نقصت بما ظهر منها ولا زادت بعدم ما ظهر وما الذي ظهر غيرها وما هي عين ما ظهر لاختلاف الصور بالحكم عليها فهذا بارد يابس وهذا حار يابس فجمع باليبس وأبان بغير ذلك والجامع الطبيعة [ لا ] بل العين الطبيعة فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة لا
بل صورة واحدة في [ مرايا ] مختلفة فما ثم إلا حيرة لتفرق النظر ومن عرف ما قلناه لم يحر وإن كان في مزيد علم فليس إلا من حكم المحل والمحل عين العين الثابتة فيها يتنوع الحق في
المجلى فتتنوع الأحكام عليه فيقبل كل حكم وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه وما ثم إلا هذا شعر
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قال لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بصر
جمع وفرق فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة لا تبقى ولا تذر
دين ابن الفارض
قلت وهذا مراد ابن الفارض بقوله
وجل في فنون الاتحاد ولا تحد ... إلى فئة في غيره العمر أفنت
فواحده الجم الغفير ومن عداه ... شرذمة في غيره العمر أفنت
فمت بمعناه وعش فيه أو فمت ... معناه واتبع أمة فيه أمت
فأنت بهذا المجد أجدر من أخي اجتهاد ... مجد عن رجاء وخيفة
فألغ الكنى عني ولا تلغ ألكنا ... بها فهي من آثار صيغة صنعتي
وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة
وأي مكان ضمها حرم كذا ... أرى كل دار أوطنت دار هجرة
وما سكنته فهو بيت مقدس ... بقرة عيني فيه أحشاي قرت
ومسجدي الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت
وشكري لي والبر مني واصل ... إلي ونفسي باتحادي استبدت
وثم أمور تم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت
بها لم يبح من لم يبح دمه ... وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت
وقلبي بيت فيه أسكن دونه ... ظهور صفاتي عنه من حجبيتي(107/22)
ومنها يميني في ركن مقبل ... ومن قبلتي للحكم في في قبلتي
وحولي بالمعنى طوافي حقيقة ... 17 وسعيي لوجهي من صفائي لمروتي
وفي حرم من باطني أمن ظاهري ... ومن حوله يخشى تخطف جيرتي
وشفع وجودي في شهودي ظل في اتحادي وترا في تيقظ غفوتي
ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري ... ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي
وقد جاءني مني رسول عليه ما ... عنت عزيز بي حريص لرأفة
ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري ... إلى دار بعث قبل إنذار بعثة
إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت
العبد عين الرب عند الصوفية
ثم قال في فص حكمة علية في كلمة إسماعيلية والعبد من كان عند ربه مرضيا وما ثم إلا من هو مرضي عند ربه لأنه الذي يبقى عليه ربوبيته فهو عنده مرضي فهو سعيد ثم قال شعر
فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب وأنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد
فرضى الله عن عبيده فهم مرضيون ورضوا عنه فهو مرضي فتقابلت الحضرتان تقابل الأمثال والأمثال أضداد لأن المثلين حقيقة لا يجتمعان إذ لا يتميزان وما ثم إلا متميز فما ثم مثل فما في الوجود مثل فما في الوجود ضد فإن الوجود حقيقة واحدة والشئ لا يضاد نفسه
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن ... فما ثم موصول وما ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى ... بعيني إلا عينه إذ أعاين
النار عين الجنة عند الصوفية
ثم قال الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد [ والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز ] 47 : 14 فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله لم يقل ووعيده بل قال ونتجاوز عن سيئاتهم مع أنه توعد على ذلك فأثنى على إسماعيل عليه الصلاة والسلام بأنه كان صادق الوعد
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين(107/23)
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... وبينها عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة لفظه ... وذاك لكالقشر والقشر صائن
مثل من تفسير ابن عربي للقرآن
ثم قال في فص حكمة نورية في كلمة يوسفية بعد أن قرر أن الشيء قد يرى على خلاف ما هو عليه لبعد أو ظلام ونحوة فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي كان عند ذلك الظل فما حيث هو ظل له يعلم ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه يجهل من الحق فلذلك نقول إن [ الحق ] معلوم لنا من وجه مجهول لنا من وجه 25 : 45 ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا أي يكون فيه بالقوة
يقول ما كان الحق ليتجلى للممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود 25 : 45 ثم جعلنا الشمس عليه دليلا وهو إسمه النور الذي قلنا ويشهد له الحس فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور 25 : 46 ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا
وإنما قبضه إليه لأنه ظله فمنه ظهر وإليه يرجع الأمر كله فهو هو لا غيره وجود الحق عين
وجود الخلق عند الصوفية
فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات فمن حيث هوية الحق
هو وجوده ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل كذلك لا يزول عنه 18 باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق لأنه الواحد الأحد ومن حيث كثرة الصور هو العالم فتفطن وتحقق ما أوضحته لك فإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي وهذا معنى الخيال أي خيل إليك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الحق وليس كذلك في نفس الأمر(107/24)
ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه يستحيل [ عليه ] الانفكاك عن ذلك الاتصال لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته وهذا وما شاكله من قوله كما تقدم في الفص النوحي مشير إلى تصحيح قول الكفار في القرآن إنه سحر لا حقيقة له إشارة تكاد أن تكون صريحة وإلى مثل هذا المحال لوح ابن الفارض والأمر فيه أوضح مما في الفصوص
وها دحية وافى الأمين نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة
أجبريل قل لي كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة بشريه
وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية المرئي من غير مرية
يرى ملكا يوحى إليه وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه بصحبة
ولى من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن دعوى الحلول عقيدتي
وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة
يعني قوله تعالى 6 : 9 ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون هذا ما كان ظهر لي ثم تبين أن المراد أقبح من هذا بقول شراح التائية الفرغاني وغيره وسيأتي نقله عنه آنفا
رد علاء الدين البخاري
قال الإمام علاء الدين البخاري ما ذكرتم في نفي ثبوت الأشياء معارض بالمثل إذ لا خفاء أنه من أعيان الأكوان غير أنه من الأعراض فيكون ما ذكرتم أيضا خيالا وسرابا لا حقيقة له فلا يمكن به إثبات مذهبكم الباطل وإذا لم يبق في قوس المكابرة منزع ولا لما لزمهم من شنيع المحالات والضلالات مدفع التجأوا إلى دعوى الكشف على ما هو دأب قدماء الفلاسفة حين عجزوا عن إقامة البرهان وأنت خبير بأن الكشف إنما يظهر الحقائق لا أنه يهدم الشرائع وينفي الحقائق فإن ذلك زندقة وقد غلط هؤلاء كغلط
النصارى لما رأوا إشراق نور الله تعالى وقد تلألأ في عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله وهؤلاء لما رأوا الوجود فائضا من الحضرة الإلهية على الموجودات فلم يفرقوا بين الفيض والمفيض فقالوا الوجود هو الله سبحانه وتعالى ا ه
رأي العضد والجرجاني(107/25)
وقال الشريف الجرجاني في شرح المواقف للعضد واعلم أن المخالف في هذين الأصلين يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول طوائف ثلاث الأولى
النصارى ثم ذكر مذاهبهم ثم قال الثانية النصيرية والإسحاقية من غلاة الشيعة قالوا ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر ففي طرف الشر كالشياطين فإنه 19 كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة الإنسان ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه وفي طرف الخير كالملائكة فإن جبريل صلى الله عليه وسلمكان يظهر بصورة دحية الكلبي [ والأعرابي ] فلا يمتنع [ حينئذ ] أن يظهر الله تعالى في صورة بعض [ الكاملين وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم وهو العترة الطاهرة وهو من يظهر فيه العلم التام والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم وهذه ضلالة بينة
الطائفة ] الثالثة [ بعض ] المتصوفة وكل منهم مختبط بين الحلول والاتحاد ثم قال العضد ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول لا حلول ولا اتحاد إذ ذاك يشعر بالغيرية ونحن لا نقول بها بل نقول ليس في ذات الوجود غيره وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجرم إذ يلزم ذلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل ولا مميز أدنى تمييز
رأي السعد التفتازاني
وهذا المعنى الأخير هو الذي أراده الشيخ سعد الدين التفتازاني بالمذهب الثاني من قوله في شرح المقاصد وههنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد وليسا منه في شيء(107/26)
الأول أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله وهو الذي يسمونه الفناء في التوحيد وإليه يشير الإلهي إن العبد لا يزال يتقرب إلي حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به وحينئذ ربما تصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو بالاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وبعد الكشف عنها بالمثال ونحن على ساحل التمني نعترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق
الثاني أن الواجب هو الوجود المطلق وهو واحد لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة بالإضافات والتعينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على مظاهر لا بطريق المخالطة ويتكرر في النواظر لا بطريق الانقسام فلا حلول منا ولا اتحاد لعدم الإثنينية والغيرية وكلامهم في
ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشرع أشرنا في بحث الوجود إلى بطلانه لكن من يضلل الله فما له من هاد انتهى كلام الشيخ سعد الدين رحمه الله
زعم أن الحق يتلبس بصور الخلق
وقال سعيد الفرغاني وهو من أكابر أتباعهم في شرحه للتائية وتنزه تلك الإشارة عقيدتي عن رأي الحلول فإنه لما جاز ووقع أن يكون لملك مخلوق قدرة التلبس بأي صورة شاء بلا معنى الحلول فيه يصح أن يتلبس الحق تعالى بصورتي بفناء أنانيتي بالكلية وإن تعللت بعدم جواز تلبسه بالصورة وعللت بتنزيهه عن ذلك التلبس منعناك ورددنا تعليلك بالكتاب والسنة(107/27)
ثم قال في شرح البيت الذي فيه استشهاده بالكتاب والسنة وفي الذكر أي 20 القرآن آي القرآن 20 ذكر اللبس أي تلبس الحق بالصورة ليس بمردود بل هو ثابت مذكور معروف موضعه من القرآن ولم أتجاوز في تقريري حكمي الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى 8 : 27 نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يعني من أن يكون منحصرا ظهوره حالتئذ وقبله وبعده في ذلك التلبس وفي غيره من الصور وغير ما وقوله تعالى 28 : 30 نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة
الآية وإذا جاز تلبسه بصورة الجماد فبصورة الإنسان أجمع وأولى عند فنائه عن تعينه وتشخصه وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عنه تعالى كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وقوله أيضا فإن الله تعالى قال
على لسان عبده سمع الله لمن حمده ثم حديث القيامة في الإتيان في الصورة
ثم قال فالحديث أولا وآخرا معلم أنه يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف ومما ينكر من غير حلول فكان ظهوره بصورتي أيضا جائزا من غير حلول فصح بهذا دعوى اتحادي مع الحلول
أمر ابن الفارض باتباع شريعته
ثم قال في شرح قوله
منحتك علما إن ترد كشفه فرد ... سبيلي واشرع في اتباع شريعتي
قال يحتمل أن يكون إضافة الشريعة من الناظم إلى نفسه بلسان الجمع والترجمانية ويريد بقوله فرد سبيلي ما أريد به في قوله تعالى 12 : 108 قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة وبقوله شريعتي شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال
فمنبع صدا من شراب نقيعه ... لدي فدعني من سراب بقيعة(107/28)
صدا ماء للعرب يضرب المثل به لعذوبته والنقيع البئر الكثيرة الماء يقول معللا البيت السابق الذي حاصله أمره باتباع شريعته والورود في سبيل هداه وطريقته ونهى عن متابعة غيره ممن يدعي التحقيق في العلم والمعرفة الحقيقية نحو علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة أن المورد العذب الهنئ النافع عندي ويختص بمشربي وهو المفهوم المطابق من الكتاب والسنة وإشاراتهما الغامضة بلا تأويل عقلي وتقليد بل على ما هو الأمر عليه فإن استطعت أن تخوص فيه وتشرب منه وإلا فدعني من سراب علوم علماء الظاهر وتأويلاتهم ومفهوماتهم التي ظاهرها لأجل الفصاحة وتركيب الدلائل تظهر وتغر السامع الغر فيحسبها شيئا نافعا له فإذا فتش عن حقيقتها لم يجد شيئا ولا تحقيق ولا معرفة فيها ولا طائل تحتها وكذلك دلائل الفلسفة في المسائل الإلهية تغر ولا تقر ولا تذكر عندي مذاهبهم ومقالاتهم ودلائلهم ولا تلتفت إلى ذلك تفز فوزا عظيما
هكذا كلام الفرغاني الذي يثنى ابن بنت ابن الفارض في مقدمة 21 الديوان عليه وشهد له أنه على نفس جده وهكذا يفعل في كل الأبيات مهما وجد شيئا من المتشابه في الكتاب أو السنة أجراه على ظاهره وجعله حجة في
الاتحاد واستحسان الأفعال القبيحة من المكلفين فإن عجز بكون الشرع نص على قباحتها يقول إن فيها حسنا وقبحا من بعض الوجوه ولعل ذلك الوجه يقود أصحاب تلك المقالة إلى الخير ويسعى كل السعي في إسقاط الإنكار على أحد في فعل من الأفعال وكذا نقل البدر بن الأهدل عن شرحها للأبزاري وغيره والله المستعان
تكذيب صريح للقرآن
وقال في فص حكمة أحدية في كلمة هودية 11 : 56 وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فكل ماش [ فعلى ] صراط الرب المستقيم فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه ولا ضالون فكما كان الضلال عارضا فكذلك الغضب الإلهي عارض والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شئ
إفك على الله(107/29)
ثم قال اعلم أن العلوم الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة فإن الله تعالى يقول كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها فذكر أن هويته [ هي ] عين الجوارح التي هي عين العبد فالهوية واحدة والجوارح مختلفة ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلف باختلاف الجوارح كالماء حقيقة واحدة مختلف في الطعم باختلاف البقاع
قلت وعلى هذا الضلال عول ابن الفارض فقال
وجاء حديث في اتحادي ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة
مشيرا بحب الحق بعد تقرب ... إليه بنقل أو أداء فريضة
وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة
فكلي لكلي طالب متوجه ... وبعضي لبعضي جاذب بالأعنة
ومني بدالي ما علي لبسته ... وعني البوادي بي إلي أعيدت
وفي شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي
تعانقت الأطراف عندي4 وانطوى ... بساط السوى عدلا بحكم السوية
وليس ألست الأمس غيرا لمن غدا ... وجنحي غدا صبحى ويومي ليلتي
وسر بلى لله مرآة كشفها ... وإثبات معنى الجمع نفي المعية
ظهور صفاتي عن أسامي جوارحي ... مجازا بها للحكم نفسي تسمت
رقوم علوم في ستور هياكل ... على ما وراء الحس في النفس ورت
وأسماء ذاتي عن صفات جوانحي ... جوازا الأسرار بها الروح سرت
مظاهر لي بدوت فيها ولم أكن ... علي بخاف قبل موطن برزني 22
ولما شعبت الصدع والتامت فطور ... شمل بفرق الوصف غير مشتت
تحققت أنا في الحقيقة واحد ... وأثبت صحو الجمع محو التشتت
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
تمجيد الصوفية للمجرمين
ثم قال في الفص الهودي أيضا فنسوق المجرمين وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم [ بها ] فهو يأخذ بنواصيهم والريح تسوقهم وهي عين الأهواء التي كانوا عليها إلى جهنم(107/30)
وهي البعد الذي كانوا يتوهمونه فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جنهم في حقهم ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق لأنهم مجرمون فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة فما مشوا بنفوسهم وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب 56 : 85 ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون
زعمهم أن هوية الحق عين أعضاء العبد وقواه
ثم قال فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق
متوهم فالخلق معقول والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود وما عدا هذين الصنفين فالحق عندهم معقول والخلق مشهود فهم بمنزلة الملح الأجاج والطائفة الأولى بمنزلة الماء العذب الفرات السائغ لشاربه فالناس على قسمين من الناس من يمشي على طريق يعرفها ويعرف غايتها فهي في حقه على صراط مستقيم ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها ولا يعرف غايتها وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة
تفسيرهم لما عذب الله به قوم هود
ثم قال ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا 46 : 24 هذا عارض ممطرنا فظنوا خيرا بالله تعالى وهو عند ظن عبده به فأضرب لهم الحق عن هذا القول فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب فإنه إذا أمطرهم فذلك حظ
الأرض وسقي الحب فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر إلا عن بعد فقال لهم 26 : 24 بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم(107/31)
فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة والمسالك الوعرة والسدف المدلهمة وفي هذه الريح عذاب أي أمر يستعذبونه إذا ذاقوه إلا أنه يوجعهم لغرقة المألوف انتهى ما قاله مكذبا لصريح الذكر الحكيم في قوم قال فيهم أصدق القائلين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون 23 علوا كبيرا 7 : 71 قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب 72 : 7 فكذبوه فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين 11 : 59 60 وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ابن عربي يزعم أنه اجتمع بالأنبياء
ثم ادعى في هذا الفص أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في مشهد واحد سنة ست وثمانين وخمسمائة وأنه ما كلمه منهم إلا هود وقال رأيته لطيف
المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها ودليلي على كشفه لها قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم وأي بشارة للخلق أعظم من هذه ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن
ظن الصوفية بالله سبحانه(107/32)
ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق أنه عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان أي هو عين الحواس والقوى الروحانية أقرب من الحواس فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا وترجم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عن الله ] مقالته بشرى فكمل العلم في صدور الذين أوتوا العلم 49 : 47 وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم ونفاسة وظلما وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد تنزيها كان أو غير تنزيه أولها العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته هواء فكان الحق فيه قfل أن يخلق الخلق ثم ذكر أنه استوى على العرش فهذا أيضا تحديد ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا فهذا تحديد ثم ذكر أنه في السماء وأنه في الأرض وأنه
معنا أينما كنا إلى أن أخبرنا أنه عيننا ونحن محدودون فما وصف نفسه إلا(107/33)
بالحد وقوله 43 : 11 ليس كمثله شئ حد أيضا إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود فالإطلاق عن التقييد تقييد والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه وإن أخذنا ليس كمثله شيء على نفي المثل تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها فهو محدود بحد كل محدود فما يحد شئ إلا وهو حد الحق فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود فهو عين الوجود فهو على كل [ شئ ] حفيظ ولا يؤوده حفظ شئ فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشئ غير صورته 24 ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير هذا لفظه هنا وتقدم في الفص الآدمي أن العالم يعبر عنه في اصطلاحهم بالإنسان الكبير فراجعه تعرف صراحة كفر الخبيث
الكون هو رب الصوفية
ثم قال فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت [ قلت ] هو الحق وإن شئت قلت هو الحق الخلق وإن شئت قلت
لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب ولولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه
فلا تنظر العين إلا إليه ... ولا يقع الحكم إلا عليه
ثم قال وبالجملة فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه ويطلبه فيها [ فإذا تجلى له الحق فيها عرفه وأقر به وإن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه ] فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلا نفوسهم وما جعلوا فيها
لم يقول الصوفية بوحدة الأديان(107/34)
فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات
كلها فإن الله تعالى أوسع وأعظم [ من ] أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول 2 : 115 فأينما تولوا فثم وجه الله
ثم قال فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة وما ثم إلا الاعتقادات فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضي عنه وإن شقى زمانا ما في الدار الآخرة فقد مرض وتألم أهل العناية مع علمنا بأنهم سعداء وأهل حق في الحياة الدنيا
الوحدة عند ابن الفارض
وإلى هذه الجهالة والضلالة رمز ابن الفارض في هذه المقالة
فلا تك مفتونا بحسك معجبا ... بنفسك موقوفا على لبس غرة
وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدت
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها ... معار له أو حسن كل مليحة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... لصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها وهي فيها تجلت
بدت باحتجاب واختفت بمظاهر ... على صبغ التلوين في كل برزة
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين حكم البنوة
وما برحت تبدو وتخفى لعلة ... على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... 25 وآونة تدعى بعزة عزت
ولسن سواها لا ولا كن غيرها ... وما إن لها في حسنها من شريكة
كذاك بحكم الاتحاد بحسنها ... كمالي بدت في غيرها وتزيت
بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنة وبأيت
وليسوا بغيري في الهوى لتقدم ... علي لسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواها وإنما ... ظهرت [ لهم ] للبس في كل هيئة(107/35)
ففي مرة قيسا وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة
تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت باطنا ... بهم فاعجب لكشف بسترة
أسام بها كنت المسمي حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخفت
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وليس معي في الكون شئ سواي ... والمعية لم تخطر على ألمعيتي
الكثرة عين الوحدة
ثم قال ابن عربي في فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية وإن اختلفت حقائقها وكثرت أنها عين واحدة فهذه كثرة معقولة في واحد العين فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة كما أن الهيولي تؤخذ في حد كل صورة [ وهي ] مع كثرة الصور [ واختلافها ] ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد هو هيولاها فمن عرف نفسه بهذه المعرفة فقد عرف ربه فإنه على صورة خلقه بل هو عين هويته وحقيقته
قلت وإلى هذا المحال أشار ابن الفارض فقال
رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي
وعد جملة من أفعال البر في أبيات ثم قال
ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي وقوتي
متى حلت عن قولي أنا هي أو أقل ... وحاشا لمثلي أنها في حلت
وهذا مثل ما يقال خاب فلان وخسر وكان مثل إبليس إن كان منه كذا فعل العبد عين
فعل الرب عند الصوفية
وقال ابن عربي في فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه فاعلم ... إذا ما قلت إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وقال في فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية والعمل مقسم على ثمانية
أعضاء من الإنسان وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها فلم يكن العامل غير الحق والصورة للعبد والهوية مدرجة فيه أي في اسمه لا غير لأنه تعالى عين ما ظهر
ما الخلق(107/36)
ثم قال فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية والنسب الربانية ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا وأعلمنا أنه هويتنا لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا لنفسه فما خرجت الرحمة عنه فعلى من 26 امتن وما ثم إلا
هو إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم حتى يقال إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين
زعمه أن التفاضل لا يستلزم التغاير
ثم قال فكل جزء من العالم أي هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله فلا يقدح قولنا إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو وتكون في عمرو أكمل [ وأعلم منه في زيد ] كما تفاضلت الأسماء الإلهية وليست غير الحق فهو تعالى من حيث هو عالم أعم في التعلق من حيث ما هو مريد وقادر وهو هو ليس غيره فلا تعلمه هنا يا ولي وتجهله
هنا وتثبته هنا وتنفيه هنا إلا إن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال ليس كمثله شيء فنفى وهو السميع البصير فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير
من حيوان وما ثم إلا حيوان إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس وظهر في الآخرة لكل الناس فإنها الدار الحيوان وكذلك الدنيا إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه من حقائق العالم فمن عم إدراكه كان الحق أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم فلا تحجب بالتفاضل وتقول لا يصح كلام من يقول إن الخلق هوية الحق بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها [ هي ] الحق ومدلولها المسمى بها وليس إلا الله
الضال مهتد والكافر مؤمن(107/37)
ثم قال نحن على الصراط المستقيم الذي الرب عليه لكون نواصينا في يده وتستحيل مفارقتنا إياه فنحن معه بالتضمين وهو معنا بالتصريح فإنه قال 57 : 4 وهو معكم أينما كنتم ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم
ثم قال في فص حكمة وجودية في كلمة داودية 21 : 22 لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وإن اتفقنا فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديرا لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله ومن هنا تعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعا إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة
لن يعذب كافر عند الصوفية
ثم قال ولما كان الأمر [ في نفسه ] على ما قررناه لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء وأنها سبقت الغضب الإلهي والسابق متقدم فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم فنالته الرحمة إذا لم يكن غيرها سبق فهذا معنى سبقت رحمته غضبه لتحكم على من وصل 27 إليها فإنها في الغاية وقفت والكل سالك إلى الغاية فلا بد من الوصول إليها فلا بد من الوصول إلى الرحمة ومغادرة الغضب فيكون الحكم لها في كل واصل إليها بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها
فمن يك ذا فهم يشاهد ما قلنا ... وإن لم يكن فهم فيأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمد ... عليه وكن في الحال فيه كما كنا
فمنه إليه ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا(107/38)
وقال في فص حكمة نفسية في كلمة يونسية وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من فيها وهذا نعيمهم فنعيم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقى في النار فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها وبما تعود في علمه وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية في حقه وهي نار في عيون الناس فالشئ الواحد يتنوع في عيون الناظرين
هكذا هو التجلي الإلهي
وقال في فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب وبالصفات والرضا مزيل للغضب والغضب مزيل للرضا عن المرضي عنه والاعتدال أن يتساوى الرضا والغضب فما غضب الغاضب على من غضب عليه وهو عنه راض فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه وهو ميل وإنما قلنا هذا لأجل من يرى أن أهل النار لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه فمآلهم حكم الرضا من [ الله ] فصح المقصود فإن كان كما قلنا مآل أهل النار إلى إزالة الآلام وإن سكنوا النار فذلك رضا فزال الغضب لزوال الآلام إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت فمن غضب فقد تأذى فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد وإذا كان الحق هوية العالم فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه وهو قوله 11 : 123 وإليه يرجع الأمر كله حقيقة وكشفا فاعبده وتوكل عليه حجابا وسترا فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم لأنه على صورة(107/39)
الرحمن أوجده الله تعالى أي ظهر وجوده تعالى بظهور العالم كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية فنحن صورته الظاهرة وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها فما كان التدبير إلا فيه [ كما لم يكن إلا منه ] فهو الأول بالمعنى والآخر بالصورة وهو الظاهر 28 بتغير الأحكام والأحوال والباطن بالتدبير وهو بكل شيء عليم فهو على كل شيء شهيد
الحق عندهم سار في عناصر الطبيعة
وقال في فص حكمة إبناسية في كلمة إلياسية وكان إلياس الذي هو إدريس قد مثل له انفلاق الجبل [ المسمى ] لبنان عن فرس من نار فلما [ رآه ] ركب عليه فسقطت عنه الشهوة فكان عقلا بلا شهوة فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأغراض النفسية فكان الحق فيه منزها فكان على النصف من المعرفة بالله فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله ] عن التنزيه لا على التشبيه وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله فنزه في موضع وشبه في موضع ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها
رد العراقي على وحدة الأديان
قال الإمام زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور قبل بتوحيد(107/40)
إلياس عليه السلام بعثت الرسل كلها لأن الملل كلها وما جاءت به الرسل لم يختلفوا في التوحيد والإقرار به وقد نزه الله تعالى نفسه عن الشبه بقوله تعالى ليس كمثله شيء وليت شعري ما الفائدة لبعثة الرسل إذا كان من عبد شيئا من المخلوقات عابدا لله تعالى وليت شعري ماذا يقول هذا القائل في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في نهيهم عن عبادة الأوثان وكسرها هل يقول كانوا بعبادتها مصيبين عابدين لله وأنه ما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم اتساع فأنكر عليهم كما قال في حق هارون عليه السلام ولا شك أن الرسل كلهم متفقون في التوحيد وكأنه إنما سكت عن ذلك خيفة من السيوف المحمدية فإن هذه المؤلفات التي كان يسرها إلى أصحابه ويسرها أصحابه إلى أصحابهم ولو كان حقا لأظهروه على رؤوس الأشهاد انتهى
الشرائع أوهام عند الصوفية
ثم قال ابن عربي فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية وبه جاءت الشرائع المنزلة فشبهت ونزهت شبهت في التنزيه بالوهم ونزهت في التشبيه بالعقل فارتبط الكل بالكل فلم يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه قال الله تعالى ليس كمثله شيء فنزه وشبه وهو السميع البصير فشبه وهي أعظم آية تنزيه نزلت ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف فهو أعلم العلماء بنفسه وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه
ليس لله وجود عند الصوفية
ثم قال في مثل ضربه للتشبيه في التنزيه والتنزيه في التشبيه مثل من يرى الحق في النوم ولا ينكر هذا وأنه لا شك الحق عينه فتتبعه لوازم تلك الصورة وحقائقها التي تجلى فيها في النوم ثم بعد ذلك يعبر أي
يجاز عنها إلى أمر آخر يقتضي التنزيه عقلا فإن كان الذي يعبرها ذا كشف وإيمان فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط بل يعطيها 29 حقها في التنزيه ومما ظهرت فيه فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة
الداعي عين المجيب(107/41)
ثم قال ومن ذلك قوله تعالى 40 : 60 ادعوني أستجب لكم قال الله 2 : 186 وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصور فهما صورتان بلا شك وتلك الصور كالأعضاء لزيد فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية وأن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهو الكثير بالصور الواحد بالعين كالإنسان بالعين واحد بلا شك ولا نشك أن عمروا ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا فهو وإن كان واحدا بالعين فهو كثير بالصور والأشخاص وقد علمت قطعا إن كنت مؤمنا أن الحق عينه يتجلى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحول في صورة فينكر ثم يتحول عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلي ليس
غيره في كل صورة ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عرفه وأقر به وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة عين صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصور كثيرة في عين الرائي وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة مع كون المرآة لها أثر في الصور بوجه وما لها أثر بوجه
ثم قال فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن فقد أوتي خيرا كثيرا
قلت وإلى هذا أومأ ابن الفارض بقوله
ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي
ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ... شهود ولم تعهد عهود بذمة
وفي عالم التركيب في كل صورة ... ظهرت بمعنى عنه بالحسن زينتي
وضربي لك الأمثال مني منة ... عليك بشأني مرة بعد مرة
تأمل مقامات السروجي واعتبر ... بتلوينه تحمل قبول مشورتي
وتدر التباس النفس بالحس باطنا ... بمظهرها في كل شكل وصورة
وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى ... بغير مراء في المرائي الصقيلة(107/42)
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة
وأصغ لرجع الصوت عند انقطاعه ... إليك بأكناف القصور المشيدة
أهل كان من ناجاك ثم سواك أم ... سمعت خطابا عن صداك للصوت
وقل لي من ألقى إليك علومه ... وقد ركدت منك الحواس بغفلة
وما كنت تدري قبل يومك ما جرى ... بأمسك أو ما سوف يجري بغدوة
فأصبحت ذا علم بأخبار منى مضى ... 30 وأسرار من يأتي مدلا بخبرة
أتحسب من جاراك في سنة الكرى ... سواك بأنواع العلوم الجليلة
وما هي إلا النفس عند اشتغالها ... بعالمها عن مظهر البشرية
تجلت لها بالغيب في شكل عالم ... هداها إلى فهم المعاني الغريبة
ولا تك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت
فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة
تلقيته مني وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي ممدتي
ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة
الحق عين كل معلوم عند الصوفية
ثم قال في فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية بعد أن ذكر أن من حكمته الملفوظة أنها إن تك مثقال حبة من خردل الآية وأن من حكمته المسكوبة عموم المؤتى إليه لأنه لم يقل يأت بها الله إليك أو إلى غيرك قال فنبه لقمان بما تكلم به وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم لأن المعلوم أعم [ من الشيء ] فهو أنكر النكرات ثم تمم الحكمة واستوفاها
لتكون النشأة كاملة فيها فقال إن الله لطيف فمن لطافته ولطفه أنه في الشيء المسمى كذا المحدود بكذا عين ذلك الشيء حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ والاصطلاح فيقال هذا سماء وأرض وصخرة وشجرة وحيوان وملك ورزق وطعام والعين واحدة من كل شيء
وفيه كما تقول الأشاعرة إن العالم كله متماثل بالجوهر فهو جوهر واحد فهو عين قولنا [ العين واحدة ] ثم قالت ويختلف بالأعراض وهو عين قولنا(107/43)
ويختلف ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز فيقال هذا ليس هذا من حيث صورته أو عرضه أو مزاجه كيف شئت فقل وهذا عين هذا من حيث جوهره ولهذا تؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة أو مزاج فنقول نحن إنه ليس سوى الحق ويظن المتكلم أن مسمى الجوهر الفرد وإن كان حقا ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي فهذا حكمة كونه لطيفا ثم نعت فقال خبيرا أي عالما عن اختبار وهو قوله ولنبلونكم حتى نعلم وهذا هو علم الأذواق فجعل الحق نفسه مع علمه بما هو الآمر عليه مستفيدا علما ولا نقدر على إنكار ما نص الحق عليه [ في حق نفسه ] ففرق تعالى بين علم الذوق والعلم المطلق فعلم الذوق مقيد بالقوى وقد قال عن نفسه إنه عين قوى عبده في قوله كنت سمعه
وهو قوة من قوى العبد
وبصره وهو قوة من قوى العبد ولسانه وهو عضو من أعضاء العبد ورجله ويده فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب حتى ذكر الأعضاء وليس العبد بغير لهذه الأعضاء والقوى فعين مسمى العبد هو الحق لا عين العبد هو السيد فإن النسب متميزة لذاتها وليس المنسوب إليه متميزا [ 31 ] فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع النسب فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في
هذه الآية من هذين الإسمين الإلهيين
وقال في فص حكمة إمامية في كلمة هارونية اعلم أن وجود هارون كان من حضرة الرحموت ثم ذكر غضب موسى عليه السلام وأخذه بلحيته ثم قال وسبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح التي ألقاها من يده فلو نظر فيها نظرة تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما [ هو ] هارون برئ منه والرحمة بأخيه فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره وأنه أسن منه
تمجيد الصوفية لعبادة العجل(107/44)
ثم قال وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى ألا نعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع [ الأمر ] في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شئ بل يراه عين كل شيء
بعض ما كفر به العراقي ابن عربي
قال الشيخ زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور هذا الكلام كفر من قائله من وجوه
أحدها أنه نسب موسى عليكم إلى رضاه بعبادة قومه للعجل
الثاني استدلاله بقوله تعالى 17 : 23 وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه على أنه قدر أن لا يعبد إلا هو وأن عابد الصنم عابد له الثالث أن موسى
عليه السلام عتب على أخيه هرون عليهما السلام إنكاره لما وقع وهذا كذب على موسى عليه السلام وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبه لعبادتهم العجل الرابع أن العارف يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فجعل العجل عين الإله المعبود فليعجب السامع لمثل هذه الجرأة التي تصدر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان
آيات تشهد بكفر ابن عربي
ثم ساق من الآيات التي كذب بها في هذه المقالة قوله تعالى 20 : 92 93 ما منعك إذا رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن وقوله بئسما خلفتموني من بعدي وقوله واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين وقوله إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين وقوله
ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين
شرك الصوفية أخبث الشرك(107/45)
ثم قال فجاء هذا المخالف لله ولرسوله ولجميع المؤمنين فصوب فعلهم وصرح بأنهم من العارفين بقوله إن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء ولا شك أن شرك قائل هذا أشد من شرك اليهود والنصارى فإن أولئك عبدوا عبدا من عباد الله المقربين وهذا يرى أن عبادة العجل والصنم عين عبادة الله بل يؤدي كلامه إلى أن يرى الحق عين الكلب والخنزير وعين العذرة وقد أخبرني بعض الصادقين من فضلاء أهل 32 العلم أنه رأى شخصا ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الإسكندرية وأن ذلك الشخص قال له إن الله تعالى هو عين كل شئ فمر بهما حمار فقال وهذا الحمار فقال وهذا الحمار فروث الحمار من دبره فقال له وهذا الروث فقال وهذا الروث فنسأل الله السلامة والتوفيق
تعليلهم لإنكار موسى على السامري
قال ابن عربي وكان موسى يربي هرون عليهما السلام تربية علم وإن كان أصغر منه في السن ولذلك لما قال له هرون ما قال رجع إلى السامري فقال له فما خطبك يا سامري يعني فيما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص وصنعك هذا الشبح من حلى القوم حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم وليس للصور بقاء فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه فغلبت عليه الغيرة فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا وقال له أنظر إلى إلهك فسماه إلها بطريق التنبيه للتعليم لما علم أنه بعض المجالي الإلهية لأحرقنه فإن حيوانية الإنسان لها التصرف من حيوانية الحيوان لكون الله سخرها للإنسان ولا سيما وأصله ليس من حيون فكان أعظم في التسخير
ثم قرر أمر التسخير وان منه ما هو بالمآل ومنه ما هو بالحال وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه وتسخير الرعايا للملك بقيامه في مصالحهم قال وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة فالمرتبة حكمت عليه بذلك فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه إسم مسخر(107/46)
قال الله تعالى كل يوم هو في شأن فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعيد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إما عبادة تأله وإما عبادة تسخير فلا بد من ذلك لمن عقل وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر الدرجات في عين واحدة فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها
الهوى رب الصوفية الأعظم
وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال 23 : 45 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وهو أعظم معبود فإنه لا يعبد شئ إلا بالله ولا يعبد هو إلا بذاته ثم قال والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد
فيه ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو ملك أو كوكب
وحدة الأديان عند ابن الفارض
قلت وإلى هذا 32 أشار ابن الفارض بقوله
فبي مجلس الأذكار سمع مطالع ... ولي حانة الخمار عين طليعة
وما عقد الزنار حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار بي فهي حلت
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وإن خر للأحجار في البد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية
فما زاغت الأبصار من كل ملة ... وما راغت الأفكار من كل نحلة
وما احتار من للشمس عن غرة صبا ... وإشراقها من نور إسفار غرني
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما عبدوا غيري وإن كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء ناري مرة فتوهموه ... نارا فضلوا في الهدى بالأشعة
الإله الصوفي مجلى صور العالم(107/47)
وقال في فص حكمة علوية في كلمة موسوية وجود الحق كانت الكثرة له وتعداد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية فثبت به وبخالقه أحدية الكثرة وقد كان أحدي العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولاني أحدي العين من حيث ذاته كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة
حكم ابن عربي بإيمان فرعون ونجاته
ثم ذكر أخذ فرعون لتابوت موسى عليه السلام وأنه أراد قتله وأن امرأته رضي الله عنها قالت قرة عين لي ولك فبه قرت عينها بالكمال الذي
حصل لها كما قلنا
قال وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شئ من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء حتى لا ييأس أحد من رحمة الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
رد هذه الفرية
هذا نصه بحروفه مع العلم الضروري لكل من شم رائحة العلم من المسلمين وغيرهم أن فرعون ما نطق بالإيمان إلا عند رؤية البأس وتصريح الله تعالى في غير آية من كتابه العزيز العزيز بأنه لا ينفع أحدا إيمانه عند ذلك وأن ذلك سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تحويلا وقوله في دعاء موسى عليه السلام فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم مع قوله تعالى 89 : 10 قد أجيبت دعوتكما وقوله تعالى منكرا عليه 91 : 10 الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين وقوله 48 : 23 فكذبوهما فكانوا من المهلكين 34 وقوله تعالى 83 : 10 وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين 43 : 40 وأن المسرفين هم أصحاب النار المنتج قطعا أن فرعون من أصحاب النار وأما السنة فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت(107/48)
له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف قال الحافظ المنذري رواه رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير والأوسط وابن ماجه في صحيحه وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية في الفتوى التي أجاب فيها الشيخ سيف الدين بن عبد المطلب بن بليان السعودي ويكفيك معرفة بكفرهم يعني ابن عربي وأتباعه أن أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا وقد علم بالاضطرار عن دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق بالله
سؤال فرعون وجواب موسى
ثم قال ابن عربي وهنا سر كبير فإنه أي موسى عليه السلام أجاب بالفعل لمن سألوه عن الحد الذاتي أي بقوله وما رب العالمين فجعل الحد
الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ما ظهر فيه من صور العالم فكأنه قال في جواب قوله وما رب العالمين قال الذي تظهر فيه صورة
العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض إن كنتم موقنين
فرعون عند الصوفية رب موسى وسيده
ثم قال فلما جعل موسى المسئول عنه عين صور العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون فقال له 29 : 26 لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين والسين في السجن من حروف الزوائد أي لأسترنك فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول لك مثل هذا القول
فإن قلت لي فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرقت فيقول فرعون إنما فرقت المراتب العين
ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل وأنا أنت بالعين وغيرك بالرتبة
ثم قال ولما كان فرعون في منصب التحكم(107/49)
صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال 24 : 79 أنا ربكم الأعلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك فقالوا له 72 : 20 فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون فقطع الأيدي والأرجل 35 وصلب بعين حق في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات الله وليس كلمات الله سوى أعيان الموجودات فينسب إليها القديم من حيث ثبوتها وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها كما تقول حدث اليوم
عندنا إنسان أو ضيف ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل الحدوث
حكم من ينسب ربوبية إلى فرعون
قال الشيخ زين الدين العراقي قوله في قول فرعون أنا ربكم الأعلى أنه صح قوله ذلك مستدلا عليه بأن السحرة صدقوه كذب وافتراء على السحرة فلقد كذبوه وخالفوه ودعواه كاذبة وبها أخذ الله فرعون وأهلكه فقال تعالى حكاية عنه فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ثم قال ولا شك أن من صح أنه قال هذا واعتقده مع وجود عقله وهو غيره مكره ولا مجبر الإجبار المجوز للكفر فهو كافر ولا يقبل منه تأويلها على ما أراد ولا كرامة كما قدمنا ذكره وهذا ما لا نعلم فيه خلافا بين العلماء بعلوم الشريعة المطهرة في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل الاجتهاد والصحيح والله أعلم
وهذا كما ترى مبطل لما يقوله بعضهم من الخرافات في تأويله ستر الكفر وأن المراد به فرعون النفس لأنه نزل قوله على جل آيات القرآن جملة جملة ومن المقطوع به أن الله تعالى ما أنزل هذه الآيات إلا في فرعون موسى
تحريم التأويل(107/50)
ولهذا قال الغزالي في الطامات من كتاب العلم من الإحياء بعد تحريم التأويل بما لا تسبق الأفهام إليه ما نصه وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانه قطعا كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا وجوده ودعوة موسى عليه السلام له كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار
وليس من جنس الشياطين والملائكة وما يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه انتهى
رأي ولد العراقي في الفصوص والتائية
وقال الإمام ولي الدين أحمد العراقي ابن الشيخ زين الدين المذكور في المسألة الحادية والعشرين من فتاويه المكية ما نصه لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه وكذلك فتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك وقد صح عندي عن الحافظ المزي أنه نقل من خطه في تفسير قوله تعالى 6 : 2 إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون كلاما ينبو عنه السمع ويقتضي الكفر وبعض كلماته لا يمكن تأويلها
والذي يمكن تأويله منها كيف يصار إليها مع مرجوحية التأويل وأن الحكم إنما يترتب على الظاهر وقد بلغني عن الشيخ علاء الدين القونوي وأدركت أصحابه أنه قال في مثل ذلك إنما يؤول كلام المعصومين وهو كما قال
ثم ذكر كلام الذهبي فيه وساق الأسانيد إلى ابن عبد السلام بما يأتي عنه من تكفيره ثم قال وأما ابن الفارض فالاتحاد في شعره وأمرنا أن نحكم بالظاهر وإنما نؤول كلام المعصومين لكن علماء عصره من أهل الحديث رووا عنه في معاجمهم ولم يترجموه بشيء من ذلك فقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في معجمه الشافعي الأديب سمع من
أبي القاسم ابن عساكر وحدث سمعت شيئا من شعره وقال الحافظ رشيد الدين العطار في معجمه الشيخ الفاضل الأديب كان حسن النظم متوقد الخاطر وكان يسلك طريق التصوف وينتحل مذهب الشافعي وأقام في مكة مدة وصحب جماعة من المشايخ(107/51)
وقال الحافظ أبو بكر بن مسدى برع في الأدب فكان رقيق الطبع عذب النبع فصيح العبارة دقيق الإشارة سلس القيادة نبيل الإصدار والإيراد وتصرف فتصوف فكان كالروض المفوف وتخلق بالزي وتزيا بالخلق وجمع كرم النفس كل مفترق انتهى كلام الشيخ ولي الدين
وما قاله هؤلاء الأئمة ليس فيه مناقضة لكلامه أولا في الحكم عليه بالاتحاد فإنهم لم يقضوا على التائية ونحوها وأما قوله إن صح ذلك عنه فهو على طريق من يعتبر في الكتب المشهورة إسنادا خاصا وهي طريقة غير مرضية والصحيح أنها لا تحتاج إلى ذلك بل الشهرة كافية والله الموفق
رأى السكوتي
وقال الإمام أبو علي ابن خليل السكوتي في كتابه تحت العوام فيما يتعلق
بعلم الكلام
بعد أن حذر من ابن عربي وأتباعه فقال وليحترز من مواضع كثيرة من كلام ابن عربي الطائي في فصوصه وفتوحاته المكية وغيرهما وليحترز أيضا من مواضع كثيرة من كلام ابن الفارض الشاعر وأمثاله مما يشيرون بظاهره إلى القول بالحلول والاتحاد لأنه باطل بالبراهين القطعية ثم قال وكل كلام وإطلاق يوهم الباطل فهو باطل بالإجماع فأحرى وأولى بطلانه إذا كان صريحا في الباطل فإن قالوا لم نقصد بكلامنا ورموزنا وإشاراتنا الاتحاد والحلول وإنما قصدنا أمرا آخر يفهم عنا قلنا لهم الله أعلم بما في الضمائر وما يخفى في السرائر وإنما اعترضنا نحن الألفاظ والإطلاقات التي تظهر فيها الإشارات إلى الإلحاد والحلول والاتحاد انتهى
حكم من يؤول للصوفية كلامهم
والفيصل في قطع التأويل من أصله أن محقق زمانه وصالحه علاء الدين محمد البخاري الحنفي ذكر عنده ابن عربي هذا فقال قاضي المالكية إذ ذاك شمس
الدين محمد البساطي يمكن تأويل كلامه فقال له البخاري كفرت(107/52)
وسلم له أهل عصره ممن كان في مجلسه ومن غيرهم وما طعن أحد منهم فيه بكلمة واحدة وقد كان منهم حافظ العصر قاضي الشافعية بها شهاب الدين أحمد بن 37 حجر وقاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني وقاضي القضاة محمود العيني الحنفي والشيخ يحيى السيرامي الحنفي وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي وزيد الدين أبو بكر القمني الشافعي وبدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي وشهاب الدين أحمد بن تقي المالكي وغيرهم من العلماء والرؤساء وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعتقاد الاتحاد ومن طائفة الاتحادية وتكفيره لمن يقول بقولهم
أوهام الصوفية في الحكم بإيمان فرعون
ثم قال ابن عربي وأما قوله 85 : 40 فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده إلا قوم يونس فلم يدل ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة بقوله في الاستثناء إلا قوم يونس فأراد أن ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه ثم قال فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة فكان كما تيقن لكن على غير الصورة التي أراد فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه ونجى بدنه كما قال تعالى 92 : 10 فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه احتجب فظهر بالصورة المعهودة ميتا ليعلم أنه هو فقد عمته النجاة حسا ومعنى ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي لا يؤمن ولو جاءته كل آية حتى يروا العذاب الأليم أي يذوقوا العذاب الأخروي فخرج فرعون من هذا الصنف
هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى الله لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه وما لهم نص في ذلك يستندون إليه انتهى وقد تقدم النص المنتج قطعا بديهة أنه من أهل النار ثم
قال ثم لتعلم أنه(107/53)
ما يقبض الله أحدا إلا وهو مؤمن أي مصدق بما جاءت به الأخبار الإلهية أعني من المحتضرين ولهذا يكره الموت الفجاءة وقتل الغفلة ثم قال وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار فلأنها كانت بغية موسى فتجلى له في مطلوبه ثم قال كنار موسى رآها حين حاجته وهو الإله ولكن ليس يدريه
افتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال في فص حكمة فردية في كلمة محمدية وإنما حبب إليه النساء فحن إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه فأبان بذلك عن الأمر
في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية ونفخت فيه من روحي
ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقين يا داود إني أشد شوقا إليهم
التثليث عند الصوفية
ثم ذكر العبد المؤمن وأنه لا يرى ربه إلا بعد الموت فاشتاق الحق لوجود هذه النسبة يعني رؤية المؤمن له تعالى بالموت ثم قال فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه فما اشتاق إلا إلى نفسه ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة 38 في جسده أخلاطا حدث عن نفخة اشتعال بما في جسده من الرطوبة فكان روح الإنسان نارا لأجل نشأته ولهذا ما كلم الله تعالى موسى إلا في صورة النار وجعل حاجته فيها فلو كانت نشأته طبيعية لكان روحه نارا وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتعال نارا لا نورا فبطن نفس الرحمن فيما كان(107/54)
به الإنسان إنسانا ثم اشتق له منه شخصا على صورته سماه امرأة فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه فحببت إليه النساء فإن الله أحب من خلقه على صورته وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم وعلو نشأتهم الطبيعية فمن هناك وقعت المناسبة والصورة أعظم مناسبة وأجلها وأكملها فإنها زوج أي شفعت وجود الحق كما أن هناك المرأة شفعت بوجودها الرجل فصيرته زوجا فظهرت الثلاثة حق ورجل وامرأة
فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه فحبب إليه ربه النساء كما أحب الله من هو على صورته انتهى وقد علم من هنا قطعا أنه يريد بالصورة في خلق آدم على صورته معناها المتعارف
رب الصوفية امرأة
ثم قال فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما كان شهودا في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل
منفعل ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا فإن الله بالذات غني عن العالمين وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا
ولم تكن الشهادة إلا في مادة فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله وأعظم الوصلة النكاح وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته ليخلفه فيرى فيه نفسه فسواه وعدله ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه فظاهره خلق وباطنه حق
وهذا يدلك على أن الإله عنده كالكلي الطبيعي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته والله الموفق(107/55)
ثم قال فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة فكان صورة بلا روح عنده وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كانت لمجرد الالتذاذ ولكن لا يدري لمن فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلم كما قال بعضهم
صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا
أحب الالتذاذ فأحب 39 المحل الذي يكون فيه وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة فلو علمها لعلم بمن التذ ومن التذ وكان كاملا وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله 288 : 2
وللرجال عليهن درجة نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته مع كونه على صورته فبتلك الدرجة التي تميز عنه بها كان غنيا عن العالمين وفاعلا أولا فإن الصورة فاعل ثان فماله الأولية التي للحق فتميزت الأعيان بالمراتب فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف فلهذا كان حب النساء لمحمد صلى الله عليه وسلم عن تحبب إلهي وأن الله أعطى كل شئ خلقه وهو عين حقه فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه أي بذات ذلك المستحق وإنما قدم النساء أي في قوله صلى الله عليه وسلم حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة لأنهن محل الانفعال كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني فإن فيه انفتحت صورة العالم أعلاه وأسفله
الأنوثة صفة الإله الصوفي
ثم قال إنه صلى الله عليه وسلم غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير لأنه قصد التهمم بالنساء فقال ثلاث ولم يقل ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران إذ فيها ذكر الطيب وهو منكر وعادة العرب أن تغلب التذكير(107/56)
على التأنيث ثم قال ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر فبدأ بالنساء وختم بالصلاة وكلتاهما تأنيث والطيب بينهما كهو في وجوده فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه فهو بين مؤنثين تأنيث ذات وتأنيث حقيقي كذلك النساء تأنيث حقيقي والصلاة تأنيث غير حقيقي والطيب مذكر بينهما كآدم بين الذات الموجود هو عنها وبين حواء الموجودة عنه وإن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا فكن على أي مذهب شئت فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم والعلة مؤنثة
الإله الصوفي بين التقييد والإطلاق
ثم قال وثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله 44 : 17 وإن من شئ إلا يسبح بحمده أي بحمد ذلك الشيء فالضمير الذي في
قوله بحمده يعود على الشيء أي بالثناء الذي يكون عليه كما قلنا في المعتقد أنه إنما يثنى على الإله الذي في معتقده وربط به نفسه وما كان من عمله فهو راجع إليه فما أثنى إلا على نفسه فإنه من مدح الصنعة فإنما مدح الصانع بلا شك فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها وإله المعتقد مصنوع للناظر فيه فهو صنعه فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ولهذا يذم معتقد غيره ولو أنصف لم يكن له ذلك إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه 40 على غيره فيما اعتقده في الله إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده وعرف الله في كل صورة وكل معتقد فهو ظان ليس بعالم ولذلك قال أنا عند ظن عبدي بي
أي لا أظهر له إلا في صورة معتقده فإن شاء أطلق وإن شاء قيد فإله المعتقدات تأخذه الحدود وهو الإله الذي وسعه قلب عبده فإن الإله المطلق لا يسعه شئ لأنه عين الأشياء وعين نفسه
والشيء ولا يقال فيه يسع نفسه لا يسعها فافهم
قلت وهذا أراد ابن الفارض بقوله
فلو أنني وحدت ألحدت وانسلخت ... من آي جمعي مشركا بي صنعتي(107/57)
دعاء ومباهلة
هذا آخر الكتاب المباعد للصواب المراد للشك والارتياب لعنة الله على معتقده ورحمة الله على منتقده قد تم ولله الحمد ما أردت انتقاده منه مترجما بسوء السيرة وقبح السريرة عنه وانتهى ما وقع انتقادي عليه وأداني اجتهادي إليه من واضح كفره ودقيق مكره وجلي شره أعاذنا الله بحوله وقوته من شكوكه وعصمنا من زيغ طريقه وباعدنا من سلوكه ورأيت أن أختم ذلك بحكاية طالما حدثنا بها شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر قاضي القضاة أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري الشافعي
ثم رأيتها منقولة عن كتاب الحافظ تقي الدين الفاسي في تكفير ابن عربي وقد أصلح شيخنا بعضها بخطه قال كان في أيام الظاهر برقوق شخص يقال له ابن الأمين شديد التعصب لابن عربي صاحب هذا الفصوص وكنت أنا كثير البيان لعواره والإظهار لعاره وعثاره
وكان بمصر شيخ يقال له الشيخ صفا وكان مقربا عند الظاهر فهددني المذكور بأنه يعرفه بي ليذكر للسلطان أن بمصر جماعة أنا منهم يذكرون الصالحين بالسوء ونحو ذلك(107/58)
وكانت تلك الأيام شديدة المظالم والمصائب والمغارم وكنت ذا مأل فخفت عاقبته وخشيت غائلته فقلت إن هنا ما هو أقرب مما تريد وهو أن بعض الحفاظ قال إنه وقع الاستقراء بأنه ما تباهل اثنان على شئ فحال الحول على المبطل منهما فهلم فلنتباهل ليعلم المحق منا من المبطل فتباهلت أنا وهو فقلت له قل اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك فقاله فقلت أنا اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك وافترقنا وكان يسكن الروضة فاستضافه شخص من أبناء الجند جميل الصورة ثم بدا له أن يتركهم فخرج في أول الليل فخرجوا يشيعونه فأحس بشيء مر على رجله فقال لأصحابه مر على رجله شئ ناعم فانظروا ما هو فنظروا 41 فلم يجدوا شيئا فذهب فما وصل إلى منزله إلا وقد عمى ولم يصبح إلا وهو ميت وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة وكانت المباهلة في رمضان منها قال وكنت عند وقوع المباهلة عرفت من حضر أن من كان مبطلا في المباهلة لا تمضي عليه السنة فكان ولله الحمد ذلك واسترحت من شره وأمنت من عاقبة مكره
المكفرون لابن عربي
وقد صرح بكفر هذا الرجل ومن نحا نحوه في مثل هذه الأقوال الظاهرة
في الضلال جماعة من العلماء الأعلام مشايخ الإسلام كما نقل عنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني الحنفي في كتابه الذي صنفه في ذلك وكذا نقل بعض ذلك الإمام سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي الصوفي في جزء نقله عنه أحمد بن أقش الحراني قال وقد كتب كل من راقب الله تعالى وخشيه وامتنع كل من التبسه مخافة غيره وغشيه فالذي كتب قام لله تعالى بلوازم فرضه والذي امتيح فهو المسئول عن ذلك في يوم عرضه فإن زعم أنه ترك خوف الفتنة من المخالفين فتلك محنة في الدين بما وجب على كل عالم من التبيين(107/59)
وكذلك نقل الفتاوى العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل شيخ أبيات حسين ببلاد اليمن في تصنيفه المسمى كشف الغطا عن حقائق التوحيد فالمنكرون منهم سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم السلمي الشافعي كما نقل ذلك عنه شيخ الإسلام تقي الدين محمد بن دقيق العيد قال الحافظ شمس الدين محمد الذهبي فيمعجمه حدثني محمد المفيد حدثنا أبو الفتح اليعمري سمعت أبا الفتح محمد بن علي القشيري سمعت شيخنا ابن عبد السلام يقول وجرى ذكر ابن العربي الطائي فقال هو شيخ سوء كذاب وقال الصلاح خليل الصفدي في تاريخه سمعت أبا الفتح بن سيد الناس يقول سمعت ابن دقيق العيد يقول سألت ابن عبد السلام
عن ابن عربي فقال هو شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا وقال شيخنا العلامة محمد بن محمد بن علي بن يوسف ويعرف بابن الجرزي الشافعي في جواب أجاب فيه بكفره كما حكاه عنه ابن الأهدل ولقد حدثنا شيخنا شيخ الإسلام الذي لم تر عيناي مثله عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير من لفظه غير مرة حدثني شيخ الإسلام العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي حدثنا الشيخ العلامة شيخ الشيوخ قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد القائل في آخر عمره لي أربعون 42 سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى قال سألت شيخنا سلطان العلماء عز الدين أبا محمد عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي عن ابن عربي فقال شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا انتهى
وقال ابن تيمية في جواب السيف(107/60)
السعودي فكفره الفقيه أبو محمد بذلك ولم يكن بعد ظهر من قوله إن العالم هو الله والعالم صورة الله وهوية الله قال السيف المذكور ثم تابعه في الإنكار الشيخ الإمام بركة الإسلام قطب الدين ابن القسطلاني وحذر الناس من تصديقه وبين في مصنفاته فساد قاعدته وضلال طريقه في كتاب سماه بالارتباط ذكر فيه جماعة من هؤلاء الأنماط ومنهم قاضي القضاة قدوة أهل التصوف إمام الشافعية بدر الدين محمد بن جماعة قال وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن في المنام فيما يخالف أو يضاد قواعد الإسلام بل ذلك من وساوس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته وأما إنكاره يعني ابن عربي ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد فهو كافر به عند علماء التوحيد وكذلك قوله في نوح وهود عليهما السلام قول لغو باطل مردود والقدوة العارف عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي وقال إنه علق في ذم هذه الطائفة ثلاث كراريس الأول سماه البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد الثاني لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد والثالث أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص كل ذلك ليبقى المؤمنون منهم على بصيرة يحذرون من طرقهم وزندقتهم وحاصل ذلك كله بكلام وجيز مختصر
أن هؤلاء جميع ما يبدونه من الكلام الحسن في مصنفاتهم إنما هو ربط واستجلاب فإن الدعاة إلى البدعة إن لم يكونوا ذوي بصيرة يستدرجون الخلق في دعوتهم حتى يحلوهم عن أديانهم لا يستجاب لهم(107/61)
هذا ابن عربي عنده في أصوله أنه يجعل المعدومات أشياء ثابتة علويها وسفلها قبل وجودها فهي عنده ثابتة في القدم لكن ليس لها وجود ثم أفاض الحق عليها من وجوده الذاتي فقبل كل موجود من وجود عين الحق بحسب استعداده فظهر الكون بعين وجود الحق فكان الظاهر هو الحق فعنده أنه لا وجود إلا للحق ويستحيل عنده أن يكون ثم وجود محدث كما يقوله أهل الحق فإنهم يقولون وجود قديم ووجود حادث وهذا عنده وعند أصحابه أنه ليس بوجود حادث وليس ثم إلا وجود الحق الذاتي وهو الذي فاض على الأعيان والممكنات
فهو موجود بعينه ومن شك أن هذا اعتقاده فليراجع كتبه الفصوص وغيرها وعنده أنه لما فاض على الأكوان عين وجود الحق كان هو الظاهر فيها بحكم الوجود وكانت هي الظاهر فيه بحكم الأسماء فإنها كثيرة متعددة وعنده أن الكون افتقر إلى الحق بسبب إفاضة الوجود وأن الحق أيضا افتقر إلى الكون لظهور أسمائه وكل منهما يعبد الآخر
فتوى الجزري
ومنهم العلامة شمس الدين محمد بن يوسف ابن الجزري جد شيخنا العلامة شمس الدين قال وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر وقوله إن الحق المنزه هو الخلق المشبه كلام باطل متناقض وهو كفر وقوله في قوم هود وحصلوا في عين القرب افتراء على الله تعالى ورد لقوله فيهم وقوله زال البعد وصيرورة جهنم في حقهم نعيما كذب وتكذيب للشرائع وأما من يصدقه فيما قال فحكمه كحكمه في التضليل والتكفير إن كان عالما وإن كان ممن لا علم له فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك ويجب تعليمه وردعه عنه مهما أمكن ومنهم الإمام القدوة برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري ومنهم العلامة زين الدين عمر ابن أبي الحرم الكتناني الشافعي
ومن جوابه وقوله في قوم هود كفر لأن الله تعالى أخبر في القرآن العظيم عن عاد أنهم كفروا بربهم والكفار ليسوا على صراط مستقيم فالقول بأنهم كانوا عليه مكذب لصريح القرآن ويأثم من سمعه ولم ينكره إذا كان مكلفا وإن رضي به كفر
رأي أبي حيان(107/62)
والإمام أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي ذكر ذلك في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى 17 : 5 لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم الآية في أوائلها ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض وأتباع هؤلاء كابن سبعين وعد جماعة ثم قال
وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله
رأي التقي السبكي والفاسي والزواوي
والعلامة قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي فقال ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام فضلا عن العلماء قال ذلك في باب الوصية من شرح 44 المنهاج ونقله الكمال الدميري والتقي الحصني وقال الحافظ تقي الدين الفاسي في كتابه فيه وقد أحرقت كتب ابن عربي غير مرة وممن صنع ذلك من العلماء المعتبرين الشيخ بهاء الدين السبكي والعلامة القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود الزواوي المالكي شارح صحيح مسلم فقال وأما ما تضمنه هذا التصنيف من الهذيان والكفر والبهتان فهو كله تلبيس وضلال وتحريف وتبديل فيمن صدق بذلك أو اعتقد صحته(107/63)
كان كافرا ملحدا صادا عن سبيل الله مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحدا في آيات الله مبدلا لكلماته فإن أظهر ذلك وناظر عليه كان كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن أخفى ذلك وأسره كان زنديقا فيقتل متى ظهر عليه ولا تقبل توبته إن تاب لأن توبته لا تعرف فقد كان قبل أن يظهر عليه يقول بخلاف ما يبطن فعلم بالظهور عليه خبث باطنه وهؤلاء قوم يسمون الباطنية لم يزالوا من قديم الزمان ضلالا في الأمة معروفين بالخروج من الملة يقتلون متى ظهر عليهم وينفون من الأرض وعادتهم التمصلح والتدين وادعاء التحقيق وهم على أسوأ طريق فالحذر كل الحذر منهم فإنهم أعداء الله وشر من اليهود والنصارى لأنهم قوم لا دين لهم يتبعونه ولا رب يعبدونه وواجب على كل من ظهر على أحد منهم أن ينهي أمره إلى ولاة المسلمين ليحكموا فيه بحكم الله تعالى ويجب على من ولي الأمر إذا سمع بهذا التصنيف البحث عنه وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها وأدب من اتهم بهذا المذهب أو نسب إليه أو عرف به على قدر قوة التهمة عليه حتى يعرفه الناس ويحذروه
رأي البكري
ومنهم الشيخ الإمام المحقق الزاهد القدوة العارف نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي قال وأما تصنيف تذكر فيه هذه الأقوال ويكون المراد بها ظاهرها فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك بل هو
كاذب فاجر كافر في القول والاعتقاد ظاهرا وباطنا وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر بقوله ضال بجهله ولا يعذر في تأويله لتلك الألفاظ إلا أن يكون جاهلا بالأحكام جهلا تاما عاما ولا يعذر في جهله لمعصيته لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم أعني معرفة الأدب في التعبيرات على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله بل كلها كذلك وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه(107/64)
وأما دلائل ذلك فهي مذكورة في تصانيف العلماء وفيما ألفته أيضا في بعض المسائل وليست هذه الورقة مما تسع الكلام على أقوال هذا المصنف لفظة لفظة
مسألة الوعيد
لكن مسألة الوعيد يعني التي قال فيها ابن عربي وما لوعيد الحق عين تعاين لا بد فيها من نبذة لطيفة للضرورة
اعلم 45 أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية وإجماع المسلمين أن قول الله حق وخبره صدق وذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى ومن أنكر أن خبر الله حق أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين وإنما قال بعض الناس من الأصوليين إنه لا يجب وقوع الوعيد بتأويل مقرر في الأصول وحقيقته ترجع إلى أن كلام الله تعالى منزل على عادة العرب في تخاطبها وعادتها إذا أوعدت بالعقوبة وإن كانت
صورتها الوعيد الجازم فإنما تريد إذا لم تعف وأصرت على الانتقام وادعى أن ذلك مركوز في طباعها وأن حقيقة اللفظ الحمل عليه سواء أراده حالة التخاطب أو لم يرده
وقال فيه آخرون إن الرب سبحانه وتعالى علق الأشياء بمشيئته في غير موضع وأن الوعد المطلق مقيد بالمشيئة فجوز أن يقع الوعيد بشيء فلا يحصل المتوعد إما لأن حقيقة اللفظ مقيدة بعدم العفو وإما لأن مطلق اللفظ مقيد بنصوص أخر مع أمور أخرى يحتملها اللفظ مطلقا من غير دليل خاص من تقييد المطلق وتخصيص العام واحتمال الإضمار والمجاز
وجوز أن يضع الله تعالى اللفظ وضعا جديدا لمعنى آخر لا تفهمه العرب عند بعض الناس إلى غير ذلك
ومع هذا كله فإنما هو كلام في أصل الوعيد من حيث الجملة
وأما خصوص مسألة وعيد الكافرين فلا خلاف أن المراد به قد علم وأن من ادعى أن الكفار لا يعذبون أصلا فهو كافر إلا أن يكون ممن لم تبلغهم الدعوة أو في معناه
والمراد في وعيد الكافرين المعلوم هو أنهم يعذبون في النار العذاب الشديد ولا يغفر كفرهم المغفرة المزيلة للعقوبة بعد بلوغ الدعوة على الوجه الذي تقوم به الحجة(107/65)
والعلم بالمراد في هذه القضية متلقي بوجهين أحدهما أخبار التواتر
الثاني فهم الصحابة لذلك عن المعصوم فهما قطعيا منقولا إلينا بالتواتر المعنوي وإنما تكلموا في مسألة الخلود دون أصل
التعذيب فمن حاك الخلاف عن السلف ومن حاك الإجماع ففيها نظر والله أعلم
فتوى البالسي وابن النقاش
ومنهم العلامة نجم الدين محمد بن عقيل البالسي الشافعي فقال من صدق هذه المقالة الباطلة أو رضيها كان كافرا بالله تعالى يراق دمه ولا تنفعه التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعي ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها بلسانه بل يجب عليه منع قائلها بالضرب إن لم ينزجر باللسان فإن عجز 46 عن الإنكار بلسانه أو بيده وجب عليه إنكار ذلك بقلبه وذلك أضعف الإيمان
ومنهم نادرة زمانه العلامة أبو أمامة محمد بن علي بن النقاش المصري الشافعي في تفسيره وأجاد جدا في تقرير مذهبهم وبيان عواره فقال وقد ظهرت أمة ضعيفة العقل نزرة العلم اشتغلوا بهذه الحروف وجعلوا لها دلالات واشتقوا منها ألفاظا واستدلوا منها على مدد وسموا أنفسهم بعلماء الحروف ثم جاءهم شيخ وقح من جهلة العالم يقال له
البوني ألف فيها مؤلفات وأتى فيها بطامات ومن الحروف دخلوا للباطن وأن للقرآن باطنا غير ظاهر بل وللشرائع باطنا غير ظاهرها ومن ذلك تدرجوا إلى وحدة الوجود وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ممن يجعل الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وقد لا يرضى هؤلاء بلفظ الاتحاد بل يقولون بالوحدة لأن الاتحاد يكون افتعالا بين شيئين وهم يقولون الوجود واحد لا تعدد فيه ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود ولكن ليس وجود هذا وجود هذا(107/66)
والقدر المشترك هو كلي والكلي المطلق لا يوجد كليا مطلقا إلا في الأذهان لا في الأعيان بل كل موجود من المخلوقات له وصف يختص به لا يشاركه فيه غيره في الخارج وأنقص المراتب عند هؤلاء مرتبة أهل الشريعة ثم قال وهم متأهلون للخيال معظمون له ولا سيما ابن عربي منهم ويسميه أرض الحقيقة ولهذا يقولون بجواز الجمع بين النقيضين وهو من الخيال الباطل وقد علم المعتنون بحالهم من علماء الإسلام كالشيخ عز الدين ابن عبد السلام
وابن الحاجب وغيرهما أن الجن والشياطين تمثلت لهم وألفت كلاما يسمعونه وأنوارا يرونها فيظنون ذلك كرامات وإنما هي أحوال شيطانية لا رحمانية وهي من جنس السحر
ولقدولقد حكى سعيد الفرغاني في شرح قصيدة ابن الفارض أن رجلا نزل دجلة ليغتسل لصلاة الجمعة فخرج من النيل فأقام بمصر عدة سنين وتزوج وولد له هناك ثم نزل ليغتسل لصلاة الجمعة فخرج من دجلة فرأى غلامه ودابته والناس لم يصلوا بعد الجمعة ومن المعلوم لكل ذي حس أن يوم الجمعة ببغداد ليس بينه وبين يوم الجمعة بمصر يوم فضلا عن أكثر منه ولا الشمس توقفت عدة أعوام في السماء وإنما هو الخيال فيظنونه لجهلهم في
الخارج ثم قال وحقيقة قولهم إن ما ثم وجودا 47 إلا هذا العالم لا غير كما قاله فرعون لكن هم يقولون إن العالم هو الله وفرعون أنكر وجود الله ثم قال قيل لبعض أكابرهم ما الفرق بينكم وبين النصارى قال النصارى خصصوا وهذا موجود في كلام ابن عربي وغيره ينكرون على المشركين تخصيصهم عبادة بعض والعارف عندهم يعبد كل شيء ثم قال ومن المعتقدين الحلول الخاص طائفة من أتباع العبيدية الباطنية الذين ادعوا أنهم علويون ثم قال وقد اعتقدت طائفة منهم الإلهية في الحاكم كالدريزية
أتباع شهنكير الدرزي الذي كان من موالي الحاكم وأضل أقواما بالشام في وادي تيم الله بن ثعلبة انتهى
رأي ابن هشام وابن خلدون(107/67)
ومنهم العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام صاحب المغنى وغيره من المصنفات البديعة وكتب على نسخة من كتاب الفصوص
هذا الذي بضلاله ... ضلت أوائل مع أواخر
من ظن فيه غير ذا ... فلينأ عني فهو كافر
هذا كتاب فصوص الظلم ونقيض الحكم وضلال الأمم كتاب يعجز الذم عن وصفه قد اكتنفه الباطل من بين يديه ومن خلفه لقد ضل مؤلفه ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا لأنه مخالف لما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وفطر عليه خليقته انتهى
وقال العلامة قاضي القضاة أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون إن طريق المتصوفة منحصر في طريقين الأولى وهي
طريقة السنة طريقة سلفهم الجارية على الكتاب والسنة والاقتداء بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين والطريقة الثانية وهي مشوبة البدع وهي
طريقة قوم من المتأخرين يجعلون الطريقة الأولى وسيلة إلى كشف حجاب الحس لأنها من نتائجها ومن هؤلاء المتصوفة ابن عربي وابن سبعين وابن برجان وأتباعهم ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم ولهم تواليف كثيرة يتداولونها مشحونة بصريح الكفر ومستهجن البدع وتأويل الظاهر لذلك على أبعد الوجوه وأقبحها مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملة أو عدها في الشريعة وليس ثناء أحد على هؤلاء حجة ولو بلغ المثنى ما عسى أن يبلغ من الفضل لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلا أو شهادة من كل أحد
وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة وما يوجد من نسخها بأيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي والبد لابن سبعين وخلع النعلين لابن قسي وعين اليقين لابن برجان وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض والعفيف التلمساني وأمثالهما أن يلحق بهذه الكتب وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض فالحكم في هذه(107/68)
الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب لما في ذلك من المصلحة العامة 48 في الدين بمحو العقائد المختلفة فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق
رأي الشمس العيزري
ومنهم العلامة شمس الدين محمد العيزري الشافعي في كتاب سماه الفتاوي المنتشرة قال عن الفصوص قال العلماء جميع ما فيه كفر لأنه دائر مع عقيدة الاتحاد وهو من غلاة الصوفية المحذر من طرائقهم وهم شعبان شعب حلولية يعتقدون حلول الخالق في المخلوق وشعب اتحادية لا يعتقدون تعددا في الوجود في زعمهم أن العالم هو الله وكل فريق منهم يكفر الآخر وأهل الحق يكفرون الفريقين
ثم قال
ومنهم ابن الفارض صاحب الديوان وعد جماعة معه ثم قال ذكر هؤلاء بالحلول والاتحاد جماعة من علماء الشريعة المتأخرين كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح وابن دقيق العيد وشيخ الفقهاء الزين الكتناثي وقاضي القضاة الشيخ تقي الدين السبكي وحكم بتكفيرهم القضاة الأربعة البدر بن جماعة والزين الحنفي والشرف الزواوي والسعد الحنبلي ثم ذكر كلام الشيخ أبي حيان فيهم
من تفسيره البحر إلى أن قال وقد انتدب بعض المغالطين من أهل العلم ممن يحسن الظن ببعضهم ولا صواب معه وصنف تأويلات لنظم السلوك وتعسف بما لا يصح الأخذ به لقوة ظواهر الألفاظ الخارقة جزما لسياج عصمة الديانة وانتهاك حرمة الربوبية ثم قال ويحوم بظاهر كلامه على أنه هو الله وأن الله هو وهذا بهتان قبيح وكفر صريح ثم قال وكان ابن الفارض يقول إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره إذ شرط هذا التوحيد الكتم
رأي لسان الدين ابن الخطيب والموصلي(107/69)
ومنهم العلامة لسان الدين محب بن الخطيب الأندلسي المالكي في كتابه روضة التعريف بالحب الشريف وأجاد في تقرير مذهبهم ورد ما شاء فقال الفرع الخامس فيرأي أهل الوحدة المطلقة ثم قال وحاصله أن الباري جل وعلا هو مجموع ما ظهر وما بطن وأنه لا شيء خلاف ذلك وأن تعدد هذه الحقيقة المطلقة والآنية الجامعة التي هي عين كل آنية والهوية التي هي
عين كل هوية إنما وقع بالأوهام من الزمان والمكان والخلاف والغيبة والظهور والألم واللذة والوجود والعدم
قالوا وهذه إذا حققت إنما هي أوهام راجعة إلى أخبار الضمير وليس في الخارج شيء منها فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره وما فيه واحدا وذلك الواحد هو الحق وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل فإذا سقط الباطل وهو اللازم بالأوهام لم يبق إلا الحق وصرحت بذلك أقوال شيوخهم فمنه قول ابن أحلى حق أقام باطلا ببعض صفاته وقال الحلاج وابن العربي وقد تعرض لما به وقع التعدد وأنه وهم فالكل واحد وإن كان متفرقا
فسبحان من هو الكل ولا شيء سواه الواحد بنفسه المتعدد بنفسه
ومنهم الحافظ الرحلة شمس الدين أبو عبد الله محمد الموصلي الشافعي نزيل دار الحديث بدمشق
فقال وفي كلام ابن عربي من الكفر الصريح الذي لا يمكن تأويله شيء كثير يضيق هذا الوقت من وصفه ومنه تفسير اسمه العلي بأن قال العلي على من وما ثم إلا هو وهو المسمى أبا سيعد الخراز
رأي البساطي
ومنهم شيخنا علامة زمانه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي قاضي مصر قال في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة في حدوث العالم وخالفنا في ذلك طوائف الأولى الدهرية والثانية(107/70)
متأخرو الفلاسفة كأرسطو ومن تبعهم من ضلال المسلمين كابن سينا والفارابي ومن حلي كلامه وزخرفه بشعار الصالحين كابن عربي وابن سبعين ثم قال في الكتاب الثاني في المسألة السادسة في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة المسلمين نشأوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة فلما حصلوا من ذلك على شيء صفت أرواحهم وتجردت نفوسهم وتقدست أسرارهم وانكشف لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه وقد كانت طرق أسماعهم من
خرافات النصارى أنه إذا حل روح القدس في شيء نطق بالحكمة وظهر له أسرار ما في هذا العالم مع تشوف النفوس إلى المناصب العلية فذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة فمنهم من صرح بالاتحاد على المعنى الذي قالته النصارى وزادوا عليه أنهم لم يقصروه على المسيح كما ذهب إليه الغلاة من الروافض في علي رضي الله عنه وكذا ما ذهب إليه جماعة في خاتم الأولياء عندهم من
الحلول ولهم في ذلك كلمات يعسر تأويل كلها لمن يريد الاعتذار عنهم بل منها مالا يقبل التأويل ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بعدا حتى أنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب وهي وهي أن ما هم فيه ويزعمونه وراء العقل وأنه بالوجدان يحصل ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية وفي هذا كفاية والله أعلم انتهى
البساطي وشرحه للتائية
وقد قام في زماننا ناس حدثان الأسنان سفهاء الأحلام أرادوا 50 إظهار هذا المذهب ثم أخزاهم الله تعالى فقلقلوا كل مقلقل وكان مما قالوه إن الشمس البساطي هذا منهم وأنه شرح تائية ابن الفارض فاستبعد هذا منه
وإن كان ما قالوه صحيحا فقد قضى على نفسه في كلامه هذا بأنه خرج من دائرة العقل(107/71)
ثم يسر الله وله الحمد الاطلاع على الشرح المنسوب إليه فإذا هو بريء مما فرقوه به كما كنت أظن فرأيته قال في أوله أما بعد فهذا كتاب شرح قصيدة ابن الفارض ولباب فتح وصيد لحن ابن الفارض على وجه أنا نبين مراده من كلامه بقدر فهمنا لمقصوده منه ولا يلزمنا صحة ما قاله في العربية لفظا أو في الشريعة معنى أو استحسانا عقلا أو شرعا أو عرفا ثم تكلم على الأبيات على وجه يظهر منها حملها على موافقة الشرع ما أمكنه فإذا عجز صرح في ذلك الموضع بما يليق به من الحكم عليه من غير
ثم قرر أمر التسخير وأن منه ما هو بالمآل ومنه ما هو بالحال وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه وتسخير الرعايا الملك بقيامه في مصالحهم قال وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون في ذلك مليكهم ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة فالمرتبة حكمت عليه بذلك فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخر
قال الله تعالى كل يوم هو في شأن فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعيد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إما عبادة تأله وإما عبادة تسخير فلا بد من ذلك لمن عقل وما عبد شئ من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر الدرجات في عين واحدة فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها
الهوى رب الصوفية الأعظم
وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال 23 : 45 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وهو أعظم معبود فإنه لا يعبد شئ إلا بالله ولا يعبد هو إلا بذاته ثم قال والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد(107/72)
وما قبله وما بعده مما ادعى فيه أن الله يتحد به ويتجلى بصورته من غير حلول ما نصه ولكن دعوى تجلي الله بصورة ما مكفر بها شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به وإن لم يكن حلولا
رأي ابن حجر والبلقيني وغيرهما
ومنهم شيخنا شيخ الإسلام حافظ عصره قاضي القضاة أبو الفضل بن حجر وشيخه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني فقال في ترجمة عمر بن الفارض في لسان الميزان بعد أن ذكر ترجمة الذهبي له بأنه شيخ الاتحادية وأنه ينعق بالاتحاد الصريح في شعره وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن العربي فبادر بالجواب بأنه كافر فسألته عن ابن الفارض فقال لا أحب التكلم فيه فقلت فما الفرق بينهما والمهيع واحد وأنشدته من التائية 51 فقطع علي بعد إنشاد عدة أبيات بقوله هذا كفر هذا كفر
ومنهم الشيخ ولي الدين العراقي وأبوه كما تقدم في الفص الموسوي وغيره ومنهم العلامة برهان الدين السفاقيني صاحب الإعراب ونظم قصيدة طويلة يتحرق فيها ويندب أهل الإسلام لهؤلاء الضلال فقال فيها
فشيخهم الطائي في ذاك قدوة ... يرى كل شيء في الوجود هو الحقا
وكم من غوي كابن سبعين مثله ... وكلهم بالكفر قد طوقوا طوقا
وكالششتري القونوي وابن فارض ... فلا برد الله ثراهم ولا أسقى
ومن كفر ابن الفارض بصريح اسمه شيخنا محقق عصره قاضي القضاة شيخ الإسلام محمد بن علي الغاياتي الشافعي
أخبرني عنه بذلك الثقة من غير وجه وأخبرني الثقة عن الشيخ مدين أنه قال التائية هي الفصوص لا فرق بينهما وقد كان المذكور رأس صوفية عصرنا
مقتل الحلاج
ومنهم الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي الشافعي وقال هؤلاء كلهم يقتفون في مسالكهم هذه طريقة الحسين بن الحلاج الذي أجمع الفقهاء في زمانه على كفره وقتله قاله الإمام أبو بكر المازري الفقيه المالكي قلت وما قاله القاضي عياض كما تقدم نقله عنه في مقدمة هذا الكتاب
والله الموفق(107/73)
قال وقد بسطت سيرته في التاريخ بعد الثلاثمائة وذكرت صفة قتله واجتماع الكلمة على تكفيره من العلماء والصوفية العباد سوى ابن عطاء وابن خفيف حتى أنشدهما بعضهم من شعره قائلا ما تقولان في قول بعض الشعراء
سبحان من أظهرنا شوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
فقالا هذا شعر الزنادقة فقال هذا شعر الحسين بن منصور الحلاج فلعنا الحلاج ورجعنا عنه انتهى
رأي الذهبي
وممن صرح بكفره وأحسن في بيان أمره حافظ عصره شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي فقال في كتابه تاريخ الإسلام بعد خط الحافظ سيف الدين بن المجد علي الحريري المتصوف فكيف لو رأى الشيخ كلام ابن عربي الذي هو محض الكفر والزندقة لقال هذا الدجال المنتظر ولكن كان ابن العربي منقطعا عن الناس إنما يجتمع به آحاد الاتحادية ولا يصرح بأمره لكل أحد ولم تشتهر كتبه إلا بعد موته ولهذا تمادى أمره فلما كان على رأس السبعمائة جدد الله لهذه الأمة دينها بهتكه وفضيحته ودار بين العلماء كتابه الفصوص وقد خط عليه الشيخ القدوة الصالح إبراهيم بن معضاد الجعبري فيما حدثني به شيخنا ابن تيمية عن التاج 52 البارنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم يذكر ابن عربي كان يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا وحكى عنه ابن تيمية أنه قال لما اجتمع بابن عربي رأيت شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله
رأي ابن تيمية وغيره من العلماء
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وقد صنف بعضهم أي أهل الاتحاد كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك يقول فيها وذكر منها عدة أبيات ثم قال إلى مثل هذا الكلام أي الدال على الاتحاد ولهذا كان عند الموت ينشد
إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي(107/74)
أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام
فإنه كان يظن أنه هو الله فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه وقال في إفتائه الذي استفتاه فيه الشيخ سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي بعد أن حكى جملة من أقوال ابن عربي صريحة في الكفر فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي يعني صدر الدين والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد ويسمون أهل وحدة الوجود ويدعون التحقيق والعرفان وهم يجعلون وجود
الخالق عين وجود المخلوقات فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم لأنه ما عندهم له غير وأما العلامة ابن دقيق العيد فذكر أنه سمع عز الدين بن عبد السلام يقول في ابن عربي شيخ سوء كذاب وممن حط عليه وحذر منه الشيخ القدوة إبراهيم الرقي ثم ذكر جماعة ممن تقدم ذكرهم في إفتائهم بأن كتابه الفصوص فيه الكفر الأكبر وقد ذكر ابن أبي حجلة أيضا عن غير هؤلاء ممن كفر هذه الطائفة من علماء الإسلام وذكر في كلام كل منهم في إبطال هذا المذهب ما لا لبس فيه وفيما ذكرته مقنع وذكر الحافظ تقي الدين الفاسي في كتابه فيه ممن كفره الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضري ابن خلدون قاضي المالكية بمصر وقال في فتوى ذكرها فيه وفي أضرابه فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة(107/75)
ومما ذكره الفاسي أيضا من مكفريه الإمامان رضي الدين أبو بكر بن محمد بن صالح 53 الجبلي المعروف بابن الخياط الشافعي مدرس المعينية بتعز ومفتي تلك النواحي والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري الشافعي مفتي زبيد وفاضل اليمن شرف الدين إسماعيل ابن أبي بكر المقري الشافعي قال وبين من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره وقال وأما من أثنى على ابن عربي فلفضله وزهده وإيثاره واجتهاده في العبادة ولم يعرفوا ما في كلامه من المنكرات لاشتغالهم عنها بالعبادات وقال الفاسي أيضا وبعض المثنين عليه يعرفون ما في كلامه من المنكرات ولكنهم يزعمون أن
لها تأويلات وحملهم على ذلك كونهم تابعين لابن عربي في طريقته فثناؤهم على ابن عربي مطروح لتزكيتهم معتقدهم
رأي علاء الدين البخاري(107/76)
وممن كفر أهل هذا المذهب شيخ مشايخنا نادرة زمانه علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي وصنف فيهم رسالة سماها فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين وبين أن وحدتهم الوحدة التي قرر أصلها بعض الفلاسفة لا التي يسميها أهل الله الفناء ونقل عن القاضي عضد الدين تكفيرهم فإنه قال في وصفه لابن عربي يحكى عنه أنه كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش فقد صح عن صاحب كتاب المواقف عضد الملة والدين أعلى الله درجته في عليين أنه لما سئل عن كتاب الفتوحات لصاحب الفصوص حين وصل هنالك قال أفتطمعون من مغربي يابس المزاج بحر مكة ويأكل الحشيش شيئا غير ذلك وقد تبعه أي ابن عربي في ذلك ابن الفارض حيث يقول أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بتسمية التائية نظم السلوك إذ لا يخفى على العاقل أن ذلك من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى فإذن الكل هو الله لا غير فلا نبي ولا رسول ولا مرسل إليه ولا خفاء في امتناع النوم على الواجب وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام لكن لما كان لكل ساقطة لاقطة ترى طائفة من الجهال ذلت أعناقهم لها خاضعين أفرادا وأزواجا
وشرذمة من الضلال يدخلون في فسوق الكفر بعد الإيمان زمرا وأفواجا مع أنهم يرون أنه اتخذ آيات الله وما أنذروا به هزوا وأشرك جميع الممكنات حتى الخبائث والقاذورات بمن لم يكن له كفوا أحد
تحقيق معنى الكافر والملحد والزنديق والمنافق(107/77)
وقال في آخر رسالته إنهم يسمون كفرة وملاحدة وزنادقة وذلك أن الكافر اسم لمن لا إيمان له فإن أظهر الإيمان من غير اعتراف بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم خص باسم المنافق دون الزنديق لأن الله تعالى لم يسم الذين نافقوا 54 في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زنادقة فدروز الشام على ما تشهد به كتبهم الملعونة إنما يظهرون الإيمان ولا يعترفون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فهم مباحيون منافقون لا زنادقة على ما يتوهم ذلك لعدم التفرقة بين المنافق والزنديق وإن طرأ كفره بعد الإيمان خص باسم المرتد لرجوعه عن الإيمان وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك لإثباته الشريك في الألوهية وإن كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة خص باسم الكتابي كاليهودي والنصراني وإن كان يقول بقدم الدهر واستناد الحوادث خص باسم الدهري وإن كان لا يثبت الصانع خص باسم المعطل وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار شعائر الإسلام يتبطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق وهو في الأصل منسوب
إلى زند اسم كتاب أظهره مزدك في أيام قباذ وزعم أنه تأويل كتاب المجوسي الذي جاء به زرادشت الذي يزعم أنه نبيهم وإن كان مع تبطن تلك العقائد الباطلة يستحل الفروج وسائر المحرمات بتأويلات فاسدة كما يزعم الباطنية والوجودية خص باسم الملحد والزنديق في عرف الشرع اسم لما عرفت لا لكل من صدر عنه فعل أو قول يوجب الكفر على ما هو
متعارف أهل عصرنا وقد يتوهم بناء على عدم الشعور بمعنى الحلول والاتحاد أن الوجودية حلولية أواتحادية وليس كذلك إذ الحلول والاتحاد إنما يكون بين موجودين متغايرين في الأصل والوجودية يجعلون الله تعالى عين وجود الممكنات فلا مغايرة بينهما ولا اثنينية فلا يتصور ههنا الاتحاد والحلول
بل زندقة أخرى أنجس منهما باطلة ببديهة العقل إذ القائلون بها يجعلون الله تعالى أمرا اعتباريا لا وجود له في الخارج
بعض مصطلحات الصوفية(107/78)
وقال إن الملاحدة عبروا عن ضلالتهم بعبارات العارفين بالله يتسترون بها في زندقتهم فينبغي الحذر من ذلك فأرادوا بالفناء نفي حقائق الأشياء وجعلوها خيالا وسرابا على ما هو مذهب السوفسطائية وبالبقاء ملاحظة الوجود المطلق وبالوحدة المطلقة كون ما سوى الوجود من الأشياء خيالا وسرابا وكون وجود جميع الأشياء حتى وجود الخبائث والقاذورات إلها وذلك
غير ما أراده العارفون فإنهم أرادوا بها معاني يصدقها الشرع وهم مصرحون بأن كل حقيقة يردها الشرع فهي زندقة وأنه ليس في أسرار المعرفة شئ يناقض ظاهر الشرع بل باطن الشريعة يتم بظاهره وسره يكمل صريحه 55 ولهذا إذا انكشفت على أهل الحقيقة أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى الألفاظ الواردة في الشرع فما وافق ما شاهدوه قرروه وما خالف أولوه بما يطابق الشرع كالآيات المتشابهة ولا يستبعد وقوع المتشابه في الكشف ابتلاء
لقلوب العارفين كما أن وقوع المتشابه في الشرع ابتلاء لقلوب الراسخين فأراد بالبقاء التخلق بالأخلاق الإلهية والتنصل عن كدورات الصفات البشرية والفناء عندهم عبارة عن اضمحلال الكائنات في نظرهم مع وجودها وعن الغيبة عن نسبة أفعالهم إليهم وكذا الوحدة المطلقة عبارة عن مشاهدة الله لا غير من بين الموجودات لاضمحلالها مع تحققها ووجودها عند ظهور أنوار التجليات كاضمحلال الكواكب مع وجودها عند ظهور نور الشمس في النهار فإن كان العارف في هذه الحال يرى نفسه فذلك هو الفناء في التوحيد وهو مرتبة الخواص وهو مشوب بكدورة وقصور وإن غاب مع ذلك عن مشاهدة نفسه(107/79)
وعن أحواله الظاهرة والباطنة وعن ذلك الفناء بحيث لا يشاهد شيئا غير الله كما لا يشاهد في النهار من الكواكب غير الشمس فذلك هو فناء الفناء في التوحيد وهو درجة خواص الخواص فيصير لهم معنى قوله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه ذوقا وحالا كما أن حظ غيرهم من المؤمنين منه يكون علما وإيمانا فالذوق نيل عين تلك الحال بالحصول الاتصافي والعلم معرفة ذلك بالبرهان ومأخذه القياس بأن ينظر إلى اضمحلال تلك الكواكب عند إشراق الشمس فيقاس به اضمحلال وجود الكائنات عند إشراق أنوار التجليات والإيمان قبوله بالتسامع والإذعان له ولا يخالف هذا قولهم إن الطريق إلى المعلوم بالكشف إنما هو العيان دون البرهان لأن المراد منا إقامة البرهان على تحقق الكشف لا على إثبات المعلوم فقد عرفت أن معنى الوحدة المطلقة عند العارفين بعيد عما يريد به الكفرة الوجودية من الفلاسفة ومن تبعهم ممن يدعي الإسلام ليتمكن من هدمه عند الضعفاء
أسطورة الكشف
ويروجون تلك السفسطة بإحالتها على الكشف ويتفيهقون بأن مرتبة
الكشف وراء طور العقل وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال لا نيل ما هو ببديهة العقل محال وذلك أن الله تعالى خلق العباد وبين لهم سبيل الرشاد وزينهم بالعقل نورا يهتدون به إلى معرفته وحجة توصلهم إلى محجته بالاستدلال على وجود الصانع بالمصنوعات والنظر فيما يجوز ويستحيل 56 عليه من الأفعال والصفات وأن إرسال الرسل من أفعاله الجائزة وأنه قادر على تعريف صدقهم بالمعجزة وعند ذلك ينتهي تصرف العقل لعدم استقلاله بمعرفة المعاد وبما يحصل السعادة والشقاوة هنالك للعباد وإنما يستقل بمعرفة الله تعالى وصدق الرسول ثم يعزل نفسه ويتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول في أحكام الدنيا والآخرة بالقبول إذ لا ينطق(107/80)
بما يحيل العقل بالبديهة والبرهان لامتناع ثبوت ما تحكم حجة الله عليه بالبطلان فلا مجال في مورد الشرع ولا في طور الولاية والكشف لما يحكم العقل عليه بأنه محال بل يجب أن يكون كل منهما في حيز الإمكان والاحتمال غير أن الشرع يرد بما لا يدركه العقل بالاستقلال وبالكشف يظهر ما ليس له العقل ينال لأن الطريق إليه الكشف والعيان دون بديهة العقل والبرهان لكن إذا عرض عليه لا يحكم عليه بالبطلان لكونه في حيز الإمكان ولا ينبغي متوهم أن ما يتستر به الوجودية من دعوى الكشف من قبيل ما ليس له العقل ينال بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال إذ الطريق إليه التصور ثم التصديق بالبطلان وذلك وظيفة العقل بالبديهة أو البرهان وأما الأمور الممكنة الكسبية فيجعلها العقل في حظيرة الإمكان ولا يحكم عليها بالبطلان ثم إن ما يناله الكشف ولا يناله العقل الممكن الذي الطريق إليه العيان دون البرهان لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفا بالإمكان موجودا في الأعيان لأن قلب الحقائق بين الامتناع والبطلان فلو تخايل حصول المحال بالكشف ككون الوجود المطلق واحدا شخصيا وموجودا خارجيا وكون الواحد الشخصي منبسطا في المظاهر متكررا عليها(107/81)
بلا مخالطته متكثرا مع النواظر بلا انقسام فذلك شعوذة الخيال وخديعة الشيطان وقال بعد ذلك إنهم صرحوا بأن التكثر في الموجودات ليس بتكثر وجوداتها بل تكثر الإضافات والتعينات والتعينات ثم قال فقالوا معنى قولنا الواجب موجود أنه وجود ومعنى قولنا الإنسان أو الفرس موجود أنه ذو وجود بمعنى أن له نسبة إلى الوجود لا أنه متصف بالوجود على ما هو معنى الوجود لغة وعرفا وشرعا احترازا عن شناعة التصريح بكون الواجب صفة الممكن وأنت خبير بأن جواز الإطلاق فرع صحة الاشتقاق ولو سلم فما ذكروا في بيان معناه في الواجب والممكن ليس معناه لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ومنشأ الغلط فيما يكشفه الشرع بما يقصر عنه العقل وما يدعيه هؤلاء مما يحيله 57 عدم التفرقة بين ما أحاله العقل كهذه المذكورات وبين ما لا يناله العقل كاضمحلال وجود الكائنات عند سطوع أنوار التجليات وإنما ينال ذلك بجذبة الإلهية أو رياضة في متابعة الحضرة النبوية في الوظائف العلمية والعملية
والنيل هو الحصول الاتصافي والعلم هو الحصول الإدراكي ثم إن كلا مما لا يدركه العقل بالاستقلال وما ليس له العقل ينال لما كان مستوقفا على الإعلام والإرشاد من رب العالمين بعث الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لبيان الأول وهو علم الشريعة صريحا والإشارة إلى الثاني وهو علم الحقيقة رمزا وتلويحا كما يلوح من القرآن المجيد 28 : 88 كل شيء هالك إلا وجهه إلى درجة الفناء في الفناء في التوحيد
انتهى ما نقلته من رسالة الشيخ علاء الدين البخاري لكني تصرفت فيه بالتقديم والتأخير وقد وضح بذلك محالهم وتبين به ضلالهم والله الموفق
عود إلى من كفروا ابن عربي
وعن الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي في كتابه تحذير النبيه والغبي من الافتتان بابن عربي أنه قال وقد سئل عنه وعن شيء من كلامه(107/82)
شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي عالم إفريقية فقال ما معناه إن من نسب إليه هذا الكلام لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته انتهى
ومنهم شيخنا العلامة إمام القراء شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي نزيل بلاد الروم ثم العجم قال ومما يجب على ملوك الإسلام ومن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يعدموا الكتب المخالفة لظاهر الشرع المطهر من كتب المذكور وغيره ولا يلتفت إلى قول من قال هذا الكلام المخالف للظاهر ينبغي أن يؤول فإنه غلط من قائله
إنما يؤول كلام المعصوم ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهره الكفر لم يكن في الأرض كافر ومنهم العلامة نادرة زمانه علما وعملا بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل اليمني الحسيني نسبا وبلدا وصنف في ابن عربي وابن الفارض كتابا كبيرا نافعا جدا وذكر فيه أنه كان في اليمن شخص من أكابر أتباعه يقال له الكرماني حصلت به في اليمن فتن كبيرة وحصل بينه وبين ابن المقري خطوب وصنف في الرد على ابن المقري كتابا قال فيه عن نفسه وأهل مذهبه ما لفظه إنا حيث قلنا المخلوق فمرادنا الخالق وحيث قلنا الحجر فمرادنا الله انتهى
من مكر الصوفية
ومن مكر هذه الطائفة كما شرعه لهم شيخهم من أن الدعوة إلى الله مكر أن يخيلوا كل من ظنوا أنه مال عنهم بأنه يصاب في نفسه أو ماله ويقولون ما تكلم أحد فيهم إلا أصيب ويباهتون 58 بأشياء هي كذب ظاهر ولا عليهم وأكثر الناس صبيان العقول مرضى الأفكار تجد أحدهم إذا سمع هذا نفر منك نفرة النعام الشارد ثم يكون أحسنهم خلالا الذي يقول التسليم أسلم ولا يتأمل أن الشك في الكفر بعد البيان كفر وهو مع كونه كذبا بمن أنكر عليهم من أكابر العلماء الذين لا يحصون كثرة وماتوا على أحسن الأحوال تشبه باليهود في قولهم في الإسلام لما مات أبو أمامة أسعد(107/83)
ابن زرارة الأنصاري رضي الله عنه فإنهم شرعوا يقولون تخييلا لبعض الضعفاء لو كان نبيا ما مات صاحبه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بئس الميت أبو أمامة ليهود يقولون كذا ووالله ما أملك لنفسي ولا لصاحبي شيئا وتسنن بالكفرة في قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ونحو ذلك من الآيات ومتى مال الإنسان نحو تخييلهم كان كمن قال الله تعالى فيه ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
من آيات ثبات الإيمان في القلب
مع أن الكتاب والسنة ناطقان بأن علامة صحة الإسلام في القلب المصائب قال الله تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون الآيتين وقال الله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا الآية إلى غير ذلك من آيات الكتاب الناطق بالصواب وقال شخص للنبي إني أحبك قال فأعد للبلاء تجفافا وقال صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه إلى أمثال ذلك وهو كثير جدا وأعجب من ذلك أن البيعة على الإسلام كانت ليلة العقبة على الصبر على المصائب فإن العباس بن نضلة رضي الله عنه قال لقومه قبل المبايعة يثبتهم على البيعة إن كنتم ترون أنه إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم فتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة قالوا فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه على هذا كانت(107/84)
المبايعة وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ولقد شرع لنا 59 رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وتركنا على بيضاء نقية ليلها كنهارها ولم يتغير دينه بعده ولم يتبدل ولم يزدد إلا شدة
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الدين بدأ غريبا وأنه سيعود كما بدأ وقال فيا طوبى للغرباء فلا يهتم الإنسان بقلة الموافق فإن الله معه ومن كان الله معه كان كثيرا ولا بكثرة المخالف المشاقق فإنهم أعداء الله فليس معهم ومن لم يكن الله معه كان قليلا 39 : 3637 أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام
هوان الدين عند الأكثرية
ومما ينبغي أن يكون نصب العين معيارا يعرف به هوان الدين عند أكثر الناس وهو أن أحدهم لو كان مشرفا على الموت من الجوع ووجد
طعاما شهيا فقال له أحد إنه مسموم لم يقربه بعد ذلك ثم لا يبالي بقول هؤلاء العلماء الذين هم القدوة في الدين أن كلام هؤلاء الاتحادية سم حاسم للدين من أصله ذابح للإيمان بسيفه ونصله فإنا لله وإنا إليه راجعون
من هم الأولياء
هذه نبذة من ذم أهل الحق له وهم الأولياء حقيقة لما شاع لهم من الأنوار التي ملأت الأقطار بمصنفاتهم التي أحيوا بها الدين وأيدوا سنة سيد المرسلين فقد قال الشيخ محيي الدين النووي في مقدمة شرح المهذب فصل في النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن يؤذي أو يبغض الفقهاء والمتفقهين
وروى الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنهما قالا إن لم يكن الفقهاء أولياء لله فليس لله ولي وعن ابن عباس رضي الله
عنهما من آذى فقيها فقد آذى رسول صلى الله عليه وسلم ومن آذى رسول صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل انتهى
ومن نابذ كلامهم فقد عاداهم(107/85)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن رد أقوالهم لأجل توهم أن من حكموا بكفره ولى لشهرة باطلة وكلام مزوق يراد به الإضلال والغرور فمن كمن أصابه داء فوصف له الأطباء العارفون دواء فقال له عامي لا تسمع منهم وخذ هذا فقد قال لي فلان وفلان وعد جماعة مثله أنه نافع فاعتمد على مجرب ولا تعتمد على طبيب
وأمثال هذا من الخرافات فقبل كلامه لكونه قريب الطبع من طبعه فأعطاه سما فتحساه فهلك إلى لعنة الله فإنه لا عبرة بشهرة أصلا إلا شهرة كانت بين أهل العلم 60 الموثوق بهم لأن الاستفاضة والشهرة من العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم ينتبه إلى معلوم محسوس وأما من مدحه فهو أحد رجلين كما مضى عن الفاسي وغيره رجل بلغه زهده وانقطاعه عن الناس ولم يبلغه ما في كلامه من المصائب فالجرح مقدم على ثنائه أو رجل كان يعتقده في الباطن فهو يناضل
عن نفسه فلا عبرة به
رأى ابن أيوب في الحلاج وابن عربي
وحدثني الفاضل جمال الدين عبد الله بن الشيخ القدوة زاهد زمانه والمشار إليه بالصلاح والمعارف والورع وحفظ اللسان في أوانه بدمشق الشيخ علي بن أيوب أن أباه الشيخ عليا المذكور كان يجلس في الجامع مطرقا يقيم إحدى رجليه هيئة المستوفز ويضع ذقنه على ركبته فلا يكلم لهيئته فإذا رفع رأسه علم أنه أذن في الكلام فسأله من أراد عما شاء ففعل ذلك يوما فلما رفع رأسه سأله شخص عن ابن عربي هذا فأطرق زمانا طويلا ثم رفع رأسه فقال إنه كفر كفرا ما وافق فيه كفر ملة من الملل بل خرق بكفره إجماع الملل وزاد عليهم
قال الشيخ جمال الدين فحكيت ذلك لبعض من يشار إليه بالعلم والميل إلى ابن عربي فقال والله لو سمع ابن عربي هذا الكلام لقال ما عرفني أحد غير هذا الرجل
قال وسئل والدي أيضا عن الحلاج فقال لا شك أن الحجاج قتل من العلماء خلائق يتعسر حصرهم وشتت شملهم(107/86)
وأبادهم وقتل سعيد بن جبير وأهل الأرض محتاجون إلى علمه وخلعه العلماء وخرجوا عليه وقاتلوه ومع هذا كله لم يقل أحد منهم إنه كافر بل قالوا إنه من عصاة المسلمين لا تحل امرأته لذلك
والحلاج ما تعرض لأحد من أهل العلم بأذى في دنياه وأجمع جميع أهل زمانه منهم على كفره واستباحة دمه فلو كان العلماء يقولون بالهوى لقالوا في الحجاج الذي ما ترك نوعا من الأذى حتى رماهم به فثبت أنهم لا يقولون بالهوى فوجب على الناس اتباعهم وقبول كلامهم وهذا غاية في البيان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ الضابط المتقن المتفنن أستاذ المفسرين نادرة المحدثين برهان دين العالمين أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط ابن علي ابن أبي بكر البقاعي الشافعي نزيل القاهرة المحروسة فرغت من مسودة هذا الكتاب بحمد الهادي للصواب في شوال سنة أربع وستين وثمانمائة والحمد لله وحده
وفرغ من نسخ هذه النسخة المباركة في وقت العصر من يوم الأربعاء من شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة
تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الهاد لأركان الجبابرة الشداد القامع لأهل الإلحاد بسيوف السنة الحداد
وأشهد أن لا إله إلا الله المفضل الهاد وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي لسائر العباد إلى سبيل الرشاد صلى الله عليه وسلم وعلى آله الخيرة الأمجاد وصحابته الأبطال الأنجاد وسلم تسليما يغلب التعداد ويبقى على مر الآباد(107/87)
وبعد فهذه رسالة سمتيها تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد أنفذتها إلى العباد في جميع البلاد الراغبين في الاستعداد ليوم المعاد بموالاة أهل الوداد وملاواة الأشقياء الأضداد الضالين بنحلة الاتحاد أرجو أن تكون ضامنة للاسعاد يوم التناد فقلت اعلموا أيها الإخوان الذين هم على البر أعوان حفظكم الله ورعاكم وصانكم من كل سوء وحماكم أنه لا يقدم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من جعل نفسه هدفا للحتوف وتجرع من مر الكلام ما هو أمر من السهام فإن الناهي عن المنكر يعاني الهوان الأكبر بمعاداة كل شيطان من الإنس والجان يقوم عليه الجيلان ويرشقه بسهام الأذى القبيلان شياطين الإنس ظاهرا بالمقال والفعال وشياطين الجن باطنا بما يوحون إليهم من الضلال
آيات سلى الله بها نبيه(107/88)
ولصعوبة المقام وما فيه من الأخطار والآلام سلى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وقال الله تعالى قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون وقال تعالى كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وقال تعالى ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون وقال تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك 63 زين للكافرين ما كانوا يعملون وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون إلى غير ذلك من الآيات والدلالات الواضحات ففي الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عليهم أفضل صلى الله عليه وسلم مسلاة لأتباعهم واعتبار بأحوالهم واعتصام وما أتى أحد قط أحدا بمخالفة هواه إلا ساءه وأذاه إلا من عصم الله 87 : 2 أفكلما جاءكم
رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وهؤلاء الذين اتسموا بسمة الاتحاد وقد ألفهم الطغام من الأنام لما غروهم به من إظهار التصوف ليأخذوهم من المأمن وما دروا أن الصوفية أشد الناس تحذيرا منهم وتنفيرا للعباد عنهم
الرأي في سلف الصوفية(107/89)
فإن المحققين منهم والمحققين بنوا طريقهم على الاقتداء بالكتاب والسنة كما نقل القاضي عياض في أوائل القسم الثاني من الشفاء فيما يجب من حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الحسن رحمه الله أنه قال إن أقواما قالوا يا رسول الله إنا نحب الله فأنزل الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله وعنه أنه قال عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة وعن أبي عثمان الحيري أنه قال من أمر على نفسه السنة قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة وقال سهل ابن عبد الله التستري أصول مذهبنا ثلاثة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع
الأعمال وفي كتب القوم كالرسالةوالعوارف من ذلك شيء كثير والشهادة على من قال الحقيقة خلاف الشريعة بالزندقة وأن الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم قاله الجنيد وقال أبو عثمان الحيري خلاف السنة في الظاهر علامة رياء في الباطن وقال النووي من ادعى حالا يخرجه من حد العلم الشرعي فلا تقربن منه وقال الخراز كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل وقال القشيري حكم الوقت فيما ليس لله فيه أمر إذ التضييع لما أمرت به والإحالة على التقدير وعدم المبالاة بما يحصل من التقصير خروج عن الدين وقال السهروردي في قوم تسموا(107/90)
بالملامتية إنهم في غرور يزعمون أن الارتسام بالشريعة رتبة العوام وهذا عين الإلحاد وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة وكذا قال الشيخ 64 عبد القادر الكيلاني وقال القشيري من كان سكره بحظ مشوبا كان صحوه بحظ صحيح مصحوبا ومن كان محقا في حاله كان محفوظا في سكره والعبد في حال سكره يشاهد الحال وفي حال صحوه يشاهد العلم إلا أنه في حال سكره محفوظ لا بتكلفه وفي حال صحوه متحفظ بتصرفه ومن شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما وإنما نقلت هذه النبذة الماضية من الشفاء ليعلم أن طريق
الفقهاء هي طريق الصوفية هذا ما بنى عليه الصوفية أمرهم وأما هؤلاء الذين تشبهوا بهم ونبه العلماء حتى الصوفية على أنهم ليسوا منهم ودلسوا على الناس ولبسوا أحوالهم ليقطعوا الطريق على أهل الله وهم يظهرون أنهم منهم
منابذة الصوفية للعقل والشرع
فأول ما بنوا عليه أمرهم ترك العقل الذي بنى الله أمر هذا الوجود على حكمه بشرط استناده إلى النقل الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله عليهم الصلاة والسلام لئلا يزل العقل بما يغلبه من الفتور والشهوات والحظوظ وجعل العقل حاكما لا يعزل بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات في ملة من الملل وضموا إلى ذلك الداهية الدهياء وهي ترك ما عطر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الكون بمدحه وملأ الوجود بذكر مناقبه وفضائله وهو العلم والشرع
وحذروا من اتباع شيء من ذلك غاية التحذير فكانوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وذلك بين جدا في فصوص ابن عربي ونظم تائية ابن الفارض اللذين قصد بهما هدم الشريعة وكل منهما ثابت عمن نسب إليه عند أهله ثبوتا رافعا للريب والتائية متصلة بابن الفارض بالآحاد والتواتر
موقف العلماء من ابن عربي وابن الفارض
وقد كفرهما العلماء بسبب ما نقل عن حالهما وما صدق ذلك من كلامهما(107/91)
أما ابن عربي فالمتكلمون فيه كثير جدا وكان له علم كثير في فنون كثيرة وله خداع كبير غر به خلقا فأثنى عليه لأجل ذلك ناس من المؤرخين ممن
خفي عليهم أمره أطبق العلماء على تكفيره وصار أمرا إجماعيا وأما ابن الفارض فأمره أسهل وذلك أنه لم يوجد لأحد من أهل عصره الخبيرين بحاله ثناء عليه بعدالة ولا ولاية ولا ظهر عنه علم من العلوم الدينية ولا مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة واحدة على كثرة شعره فدل ذلك على سوء طويته ونقل القدح فيه نقلا قطعيا عن محبيه ومبغضيه فقد قال شراح تائية التابعون لطريقته والمنتقدون عليه من أهل السنة إن أهل زمانه كلهم من أهل الشريعة وأرباب الطريقة رموه بالفسق والإباحة والزندقة 65 على الإجمال
المكفرون لابن الفارض
وأما التفصيل والتعيين فقد رماه بالزندقة بشهادة الكتب الموثوق بها نحو من أربعين عالما وهم دعائم الدين من عصره إلى عصرنا فمن أهل عصره سلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام الشافعي والحافظ الفقيه الأصول تقي الدين ابن الصلاح الشافعي والإمام الفقيه المحدث الصوفي قطب الدين القسطلاني الشافعي والإمام نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي وشرح التائية وبين
عواره فيها بيتا بيتا وأبو علي عمر بن خليل السكوني المالكي والشيخ جمال الدين ابن الحاجب المالكي
وممن يليهم قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الصوفي الشافعي وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز الشافعي وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي والشرف عيسى الزواوي المالكي والسعد الحارثي الحنبلي والإمام أبو حيان الشافعي وأبو أمامة ابن النقاش الشافعي والحافظ شمس الدين الموصلي الشافعي وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي وشيخ الفقهاء الزين الكتناني الشافعي والشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي(107/92)
وممن يليهم الكمال جعفر الأدفوي الشافعي ونقل ذم التائية عن العلماء والبرهان إبراهيم السفاقسي المالكي والشهاب أحمد بن أبي حجلة الحنفي والحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي والحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي
وممن يليهم العلامة شمس الدين محمد العيزري الشافعي وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي وعلامة زمانه علاء الدين محمد البخاري الحنفي الصوفي وكفر بعض من قال بحضرته إن ذلك يؤول وما أنكر عليه أحد ممن كان حاضره من العلماء تكفيره له ولا غيرهم من أهل زمانه من مذهب من المذاهب وما وسع المكفر إلا البراءة من الاتحادية ومذهبهم
وممن يليهم قاضي القضاة ولي الدين العراقي وقاضي القضاة حافظ عصره
شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي وقاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين البساطي المالكي وعلامة اليمن بدر الدين حسين ابن الأهدل الشريف الشافعي الصوفي كما شهد بهذا النقل عنهم نحو عشرين كتابا من مصنفاتهم ومصنفات غيرهم من العلماء وهي شرح التائية لابن حمدان وديباجة ديوان ابن الفارض و لحن العوام لابن خليل وتفسير أبي حيان البحر والنهر والفرقان لابن تيمية وقصيدة السفاقسي التي يقول فيها
وكالششتري القونوي ابن فارض ... فلا برد الله ثراهم ولا أسقى
والقونوي الذي ذكره
صدر الدين 66 صاحب ابن عربي وكتاب ابن أبي حجلة والميزان ولسانه لابن حجر والتاريخ لابن كثير بخطه وناصحة الموحدين للعلاء البخاري والفتاوي المكية للعراقي وتاريخ العينى وشرح التائية للبساطي وكشف الغطاء لابن الأهدل فهذه ستة عشر كتابا وقصيدة شهدت بكفره من بضع وعشرين عالما هم أعيان كل عصر
موقف شيوخ المذاهب من ابن الفارض(107/93)
وممن كفره قاضي القضاة سعد الدين الديري الحنفي وقاضي القضاة محقق زمانه شمس الدين القاياتي ونادرة وقته عز الدين بن عبد السلام القدسي الشافعي والعلامة علاء الدين القلقشندي الشافعي والشيخ يحيى العجيسي المالكي والعلامة
شمس الدين البلاطنيسي الشافعي شيخ الشاميين في وقته وشيخ الإسلام عبد الأول السمرقندي الحنفي ابن صاحب الهداية والعلامة الصوفي كمال الدين ابن إمام الكاملية الشافعي والعلامة شهاب الدين ابن قر الشافعي والعلامة أبو القاسم النويري المالكي كما شهد بذلك الثقات من أصحابهم
فهؤلاء أعيان العلماء في عصر ابن الفارض وفي كل عصر أتى بعده طبقة بعد طبقة إلى وقتنا هذا وقد اجتمع فيهم أهل المذاهب الأربعة التي هي عمدة الإسلام فشهادة هؤلاء العلماء الموثوق بهم حجة على من قال بكفره أما من لم ندركه فبشهادة الكتب الموثوق بصحة نسبتها إلى قائليها وأما من أدركناه فبشهادة الكتب في بعضهم وشهادة الثقاة في باقيهم هذا إلى ما شهدت به شروح التأئية كما يأتي
تواتر نسبة ابن الفارض إلى الكفر
فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواترا معنويا وقد علم بهذا عذر من كفره لو لم يكن له سند غير هذا فكيف وقد تأيد هذا بما في كلامه وكلام ابن عربي من الطامات التي منها منابذة العقل والشرع كما مضى
الضلال عند الصوفية خير من الهدى(107/94)
أما ما في الفصوص من ذلك فقد قال في الفص النوحي في أثناء تحريفه لسورة نوح عليه السلام التحريف الذي يكفر الإنسان بأدنى شيء فيه وقد أضلوا كثيرا أي حيروهم في تعداد الواحد ولا تزد الظالمين المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة إلا ضلالا إلا حيرة فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا يبرح منه وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه صاحب خيال إليه غايته وله من و إلى وما بينهما وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه من ولا غاية له فيحكم عليه إلى فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم وقال 22 : 71 ومكروا مكرا كبارا لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله فهذا 67 عين المكر
رب ابن الفارض أنثى
وأما ما في التائية من ذلك فقال فيها مخاطبا لله تعالى كما أجمع عليه شراحه بضمير المؤنث من أولها إلى آخرها وهي نحو سبعمائة بيت ولو خاطب أحد من أهل الزمان غيره بمثل ذلك قاتله لكن الناس لا يحلمون إلا عند حقوق مولاهم سبحانه وأما في حقوقهم فهم في غاية الحدة والمشاححة والله الهادي
تفضيل الزنديق نفسه على الرسل
قال
وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي
فضله الشارع على من ذكر في البيت كما هو ظاهر العبارة وعلل ذلك بقوله لقوة استعداده فسار في خطوة واحدة مالا يستطيعه غيره إلا في أزمنة طوال
وقال القاضي عياض في أواخر الشفاء من قال صبرت كصبر أيوب إن دريء عنه القتل لم يسلم من عظيم النكال وأقول فكيف إذا فضل نفسه وكذب نحو قوله صلى الله عليه وسلم أشد الناس بلاء الأنبياء
الخلاعة سنة ابن الفارض
قال
وخلع عذارى فيك فرضي وإن أبى اقترابي ... قومي والخلاعة سنتي
وليسوا بقومي ما استعابوا تهتكي ... فأبدوا قلى واستحسنوا فيك جفوتي
وأهلي في دين الهوى أهله وقد ... رضوا لي عاري واستطابوا فضيحتي(107/95)
فمن شاء فليغضب سواك فلا أذى ... إذا رضيت عني كرام عشيرتي
ذللت بها في الحي حتى وجدتني ... وأدنى منال عندهم فوق همتي
وأخملني وهنا خضوعي لهم فلم ... يروني هوانا بي محلا لخدمتي
ومن درجات العز أمسيت مخلدا ... إلى دركات الذل من بعد نخوتي
فلا باب لي يغشى ولا جاه يرتجى ... ولا جار لي يحمي لفقد حميتي
كأن لم أكن فيهم خطيرا ولم أزل ... لديهم حقيرا في رخائي وشدتي
فحالي بها حال بعقل مدلة ... وصحة مجهود وعز مذلة
أسرت تمني وصلها النفس حيث لا ... رقيب حجا سرا لسري وخصت
يغالط بعض عنه بعضي صيانة ... وميني في إخفائه صدق لهجتي
أجمع شراح التائية على أن المراد بالأبيات التسعة الأولى أن طريقة هتك أستار الحرمة والخرق في بعض النواميس الإلهية وتخليته الناس مع ربهم من غير أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ورضاه بكل ما يقع منهم لشهوده الأفعال
كلها الواحد الحقيقي الظاهر في صور الكثرات وعدم الالتفات إلى المترسمين من الزهاد العباد وكسر نواميسهم والرد عليهم وعدم التقييد بظواهر العلوم والاعتقادات فحملهم ذلك على أن رموه بالفسق والبدعة والكفر والإباحة والزندقة والخروج عن طريقهم فذل بين حي أهل الشريعة والطريقة وأجمعوا على أن المراد من الثلاثة 68 الأخرى أن نفسه أسرت تمني الوصل وتحققها بحقيقته حتى غاب عنها رقيب العقل خوفا من اطلاعه على ذلك فيغلب عليه حكم التنزيه فيقوم بالمنع والتشنيع فيقول ما للراب ورب الأرباب وأنه بالغ في الإخفاء خوفا من أن يتنبه العقل فيقوم يشنع وينكر فصار كل واحد من الصفات يغالط الآخر وكذبه في هذا صدق لهجته
وقال بعد ذلك بكثير
ولا استيقظت عين الرقيب ولم تزل ... علي بها في الحب عيني رقيبتي
قال التلمساني يعني لما سكرت روحي ونامت عين الرقيب وهو الشرع والعقل أقمت عيني رقيبة علي لرعاية آداب حضرة المحبوبة
ذمه للرسل وللشرائع
وقال في ذم الشرع أيضا
منحتك علما إن ترد كشفه فرد ... سبيلي واشرع في اتباع شريعتي(107/96)
فنبع صداء من شراب نقيعه ... لدي فدعني من سراب بقيعة
ودونك بحرا خضته وقف الأولى ... بساحله صونا لموضع حرمتي
قال الشراح إن معنى ذلك أنه منح أتباعه علما كماء صداء وهو ماء يضرب به المثل في الغزارة والعذوبة ونهى عن متابعة غيره من علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة والفقهاء وغيرهم من أهل العلوم الفكرية فإنها تغر السامع وهي كسراب بقيعة ليست شيئا وأنه خاض بحر التوحيد وأخرج منه ما لم ينله أحد من السابقين من الأنبياء والأولياء لوقوفهم في ساحل ذلك البحر لأجل حفظ حرمته ثم خادعوا بأن قالوا قال هذا على لسان الحضرة المحمدية إذ كمال التوحيد مختص بمقام جمعه والكمل والتابعين إياه انتهى
وقد وقع من شرحه بذلك مع الحيدة عما لا محيد عنه في الكفر من
جهة أخرى وهي أنه يلزم منه تفضيل أتباع النبيصلى الله عليه وسلم على الأنبياء الماضين عليهم السلام
يفضل أتباعه على الرسل وزندقته على شرعة الله
ومن نمطه لكونه لا ينفك عن كفر قوله عقبه
وأصغر أتباعي على عين قلبه ... عرائس أبكار المعارف زفت
فإن سيل عن معنى أتي بغرائب ... من الفهم جلت أو عن الوهم دقت
فإنه لا يصح على لسانه ولا لسان غيره
ثم قال في ذم الشرع والعلم
ولاتك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت
فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة
تلقيته مني وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي ممدتي
قالوا في معناه لا يستخفنك كثرة دروس العلوم النقلية فوراءها علم مكنون أخذت ظاهره من حسي وباطنه من عقلي وسره من روحي ومكنونه من سري من حيث أن كل واحد منها عيني وذاتي ولا وصف ولا نعت زائد علي حاكم بمغايرتي وغيريتي إياها فكنت المعطي وكنت المعطى وكنت الممد وكنت المستمد والفاعل والقابل
هذا أمرهم 69 في الانسلاخ من العقل
الصلة بين التصوف والنصرانية(107/97)
وقد شهد عليهم العلماء بذلك قال العلامة قاضي القضاة شمس الدين البساطي في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة من الكتاب الثاني في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة من المسلمين نشأوا في الابتداء على الزهد والعبادة إلى أن قال ولهم في ذلك أي الاتحاد بالمعنى الذي قالته النصارى كلمات يعسر تأويلها بل منها ما لا يقبل التأويل ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بعدا حتى أنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب وهي أن ما هم فيه ويزعمونه وراء طور العقل وأنه بالوجدان يحصل ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية وهكذا قال الشيخ سعد الدين في شرح المقاصد والشريف في شرح المواقف
ادعاؤه الربوبية
ولما تمهد له في زعمه ادعى أنه الله عنادا لقوله تعالى 17 : 5 لقد كفر
الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقوله تعالى 31 : 9 اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وقوله تعالى 31 : 19 هل تعلم له سميا ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتاله لكل من سمى شيئا غير الله إلها فقال شعر
فبي دارت الأفلاك فأعجب لقطبها ... المحيط بها والقطب مركز نقطتي
فمن قال أو من طال أو صال إنما ... يمن بإمدادي له برقيقة
وما سار فوق الماء أو طار في الهوا ... أو اخترق النيران إلا بهمتي
وعني من أمددته برقيقة ... تصرف عن مجموعة في دقيقة
ومني لو قامت بميت لطيفة ... لردت إليه نفسه وأعيدت
ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي
فلا حي إلا عن حياتي حياته ... وطوع مرادي كل نفس مريدة
ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ... شهود ولم تعهد عهود بذمة
ولا قائل إلا بلفظي محدث ... ولا ناظر إلا بناظر مقلتي
هذا لا يصح كونه عنه ولا عن الله
زعمه أن صفات الله عين صفاته(107/98)
ويقول أيضا أن الله يتحد به بحيث يصير الذاتان ذاتا واحدة فمن ذلك قوله
ولا منصت إلا بسمعي سامع ... ولا باطش إلا بأزلي وشدتي
ولا ناطق غيري ولا ناظر ولا ... سميع سوائي من جميع الخليقة
وهأنا أبدي في اتحادي مبدئي ... وأنهي انتهائي في تواضع رفعتي
جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئي أراها برؤية
وأشهدت غيبي إذ بدت فوجدتني ... هنالك إياها بجلوة خلوتي
فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها إذ واحد نحن هيئتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
وإن نطقت كنت المناجى كذاك إن ... قصصت حديثا إنما هي قصت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن لم يجوز رؤية اثنين واحدا ... حجاك ولم يثبت لبعد تثبت
سأجلو إشارات عليك خفية ... بها كعبارات لديك جلية
وأثبت بالبرهان قولي ضاربا ... مثال محق والحقيقة عمدتي
بمتبوعة ينبيك في الصرع غيرها ... على فمها في مسها حين جنت
ومن لغة تبدو بغير لسانها ... عليه براهين الأدلة صحت
وفي العلم حقا أن مبدي غريب ما ... سمعت سواها وهي في الحس أبدت
قال الإمام شمس الدين البساطي في شرح هذه الأبيات ومن ظن هذا برهانا فجنونه أعظم من جنون المتبوعة وقال قبل ذلك
زعمه أن الله سبحانه يصلي له
ولا غرو أن صلى الأنام إلى أن ... ثوت بفؤادي وهي قبلة قبلتي
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
ثم قال بعد ذلك وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدت
رب الصوفية في صور العاشقات
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... بصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها وهي فيها تجلت(107/99)
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين سر النبوة
انظر إلى هذا التجاسر مع الكفر على صفي الله آدم عليه السلام في وصفه
بالهيام بالذات الأقدمين كما لا يخفى ولما لا يخفى
وما برحت تبدو وتخفى لعله ... على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى وأخرى بثينة ... وأونة تدعى بعزة عزت
ولسن سواها لا ولا كن غيرها ... وما إن لها في حسنها من شريكة
كذاك بحكم الاتحاد لحسنها ... كما لي بدت في غيرها وتزيت
بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنه وبأيت
وليسوا بغيري في الهوى لتقدم ... علي بسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواي وإنما ... ظهرت بهم للبس في كل هيئة
ففي مرة قيسا وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة 71
تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت ... باطنا بهم فاعجب لكشف بسترة
وهن وهم لا وهن وهم مظاهر ... لنا بتجلينا بحب ونضرة
فكل فتى حب أنا هو وهي ... حب كل فتى والكل أسماء لبسة
أسام بها كنت المسمى حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخضت
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وليس معي في الملك شئ سواي ... والمعية لم تخطر على ألمعيتي
فهذا ظاهر في إرادة الاتحاد بحيث أن الذاتين تكونان ذاتا واحدة لا شبهة فيه أصلا
ثباته على اعتقاد الوحدة
ثم قال في إثباته ونفي الحلول
رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي
وعذت بنسكي بعد هتكي وعدت من ... خلاعة بسطي لانقباض بعفتي
وصمت نهاري رغبة في مثوبة ... وأحييت ليلي رهبة من عقوبة
وعمرت أوقاتي بورد لوارد ... وصمت لسمت واعتكاف لحرمة
وبنت عن الأوطان هجران قاطع ... مواصلة الأحباب واخترت عزلتي
ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي وقوتي
وأنفقت من يسر القناعة راضيا ... من العيش في الدنيا بأيسر بلغة(107/100)
وهذبت نفسي بالرياضة ذاهبا ... إلى كشف ما حجب العوائد غطت
وجردت في التجريد عزمي تزهدا ... وآثرت في نسكي استجابة دعوتي
متى حلت عن قولي أنا هي أو أقل ... وحاشا لمثلي أنها في حلت
جميع هذه الأفعال التي هي محاسن الشريعة جعلها نقائض ودعا على نفسه بها إن ادعى الحلول أو حال عن دعوى الاتحاد
استدلاله على زندقته
ثم قال بعد هذا بكثير في أواخر القصيدة دالا على مذهبه فيما زعم
وجاء حديث في اتحادي ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة
يشير بحب الحق بعد تقرب ... إليه بنفل أو أداء فريضة
وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة
قال شارحه إن الحب ميل باطني أثره رفع امتياز المحب والمحبوب ورفع ما بينهما والمحب عين الحضرة الإلهية والمحبوب ظهور كماله الذاتي والأسمائي ولن يصح لقبول هذا الظهور المحبوب منصة إلا الحقيقة الإنسانية صورة ومعنى لكمال جمعيتها وتتميمها دائرة الأزلية والأبدية والحديث المشير بهذا الاتحاد لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ولسانا ورجلا وعبارة التلمساني في مقدمة شرحه نص
في المراد وهي فالسمع والبصر وغيرهما من الصفات في أي موصوف كان هو الله حقيقة وسيأتي كلام القشيري 72 والسهروردي أن هذا زندقة وساق ابن الفارض بعد الأبيات الماضية ما زعم أنه يدل على دعواه الاتحاد وأنه إذا دل على ذلك انتفى الحلول فقال
ولست على غيب أحيلك لا ولا ... على مستحيل موجب سلب حليتي
وكيف وباسم الحق ظل تحققي ... تكون أراجيف الضلال مخيفتي
وها دحية وافى الأمين نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة
أجبريل قل لي كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة بشرية
وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية المرئي من غير مرية
يرى ملكا يوحى إليه وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه لصحبة
ولي من أصح الرؤيتين إشارة ... تنزه عن رأي الحلول عقيدتي
يدين بتلبس الله بصورة خلقه(107/101)
قالوا إن المراد كما هو ظاهر جدا أن جبريل عليه السلام ظهر في صورة دحية من غير حلول فيه ولأجل ظهوره كذلك ادعى أن الله تعالى تجلى بصورة الناظم لم يدع حلوله فيه
قال البساطي لكن دعوى تجلى الله بصورة ما مكفر بها شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به وإن لم يكن حلولا
ثم قال دالا على أن ما قاله بزعمه في الكتاب والسنة
وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة
وشرحه الشراح كلهم بقوله تعالى في الكتاب العزيز 30 : 28 نودى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله
وقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وقوله تعالى يد الله فوق أيديهم وفي السنة حديث الإتيان في الصورة التي تنكر يوم القيامة ثم في الصورة التي تعرف
ثم قال فعلم أنه تعالى يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف ومما ينكر من غير حلول فكان ظهوره بصورتي جائزا من غير حلول فصح بهذا دعوى اتحادي مع نفي الحلول
انتهى وليس وراءه تصريح بالكفر
نسأل الله العافية
وقالوا في شرح البيت الثاني إن الحق من أسماء الذات ومن اتصف بأسماء
الذات أعلى ممن اتصف بأسماء الصفات وقد أخبر عن اتصافه باسم الحق وهو الثابت بذاته المثبت لغيره فلا يمكن أن يتغير عما ذهب إليه
رأى القشيري والسهروردي
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في شرحه للأسماء الحسنى إن العبد لا يجوز أن يتصف بصفات ذات الحق كما زعم بعضهم أن العبد يكون باقيا ببقاء الحق سميعا بسمعه بصيرا ببصره وهذا خروج عن الدين وانسلاخ عن الإسلام بالكلية وهذه البدعة أشنع من قول النصارى إن الكلمة القديمة اتحدت بذات عيسى عليه السلام وهي توازي قوله 73 الحلولية(107/102)
وقال السهروردي في الباب الحادي والستين من عوارفه في الكلام على المحبة ما حاصله إن المحبة التخلق بأخلاق الله ومن ظن من الوصول غير ما ذكرنا أو تخايل له غير هذا القدر فهو متعرض لمذهب النصارى في اللاهوت والناسوت وقال علم البقاء والفناء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة
وحدة الأديان عند ابن الفارض
وعلى هذا الأصل المخبث الخبيث وهو الاتحاد بين جميع الكائنات
وأنه لا غير ولا غيريه في شئ من الوجود فرع صحة كل دين لأن الفاعل عنده إنما هو الله فأبطل دين الإسلام القائل بأن كل ما عداه باطل فصار المحامي له خاذلا لمن ينصره فإن من كفر ابن الفارض ساع جهده في نصر دين الإسلام وتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وأغلب المحامين له يعتقدون أن دين الإسلام القائل بضلال ما عداه هو الحق ويسعون في نصر من يصوب كل ملة ويصحح كل نحلة وهم لا يشعرون أنه قال في تصويب جميع الأباطيل شعر
شعره في وحدة الأديان
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة
فما عبدوا غيرية وإن كان قصدهم ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء نورى مرة فتوهموه ... نارا فضلوا في الهدى بالأشعة
وإن خر للأحجار في البد عاكف ... فلا وجه للإنكار بالعصبية
فقد عبد الدينار معنى منزه ... عن العار بالإشراك بالوثنية
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وما احتار من للشمس عن غرة صبا ... وإشراقها من نور إسفار غرتي
وقد بلغ الإنذار عني من بغى ... وقامت بي الأعذار في كل فرقة
فما زاغت الأبصار من كل ملة ... ولا راغت الأفكار في كل نحلة(107/103)
قال شراحه إنه مهد في هذه الأبيات أعذار كل فرقة وأن كل صاحب ملة ونحلة وإن بطل سعيه على نصيب من الهدى فعباد النار غير مؤاخذين من جميع الوجوه بل من وجه دون وجه ولا لوم على أحد بل لكل واحد وجه ومحمل خير يحمل عليه فكل يعمل على شاكلته وكذا عابد الأصنام
قالوا لا تنكر عليه فإن أنكرت لم يكن إنكارك إلا تعصبا لأنك لا تنكر على المقبل على الدنيا مع أنه أقوى شركا من عابد الصنم وقالوا كما أن القرآن نور المساجد فكذلك الإنجيل نور المعابد وقالوا نحو هذا في التوراة وفي عابد الشمس إنه بإثباته عين الألوهية لم يكن ناقصا فقام له عذر من وجه من الوجوه وذلك كاف للكريم ولا يقول بشئ من هذا مسلم
معاندته للتوحيد الحق
وقد عاند التوحيد الحق في قوله
ولو أنني وحدت ألحدت وانسلخت ... من آي جمعي مشركا بي صنعتي
قالوا في شرحه لو أنني أثبت وحدة الذات الحق المطلوب المحبوب ونفيت كثرة نسبه عنه كما أثبتت ونفت المنزهة وبعض الفلاسفة لكنت مائلا عن سنن الاستقامة لأني أثبت لنفسي وغيري وجودا يقابل وجود الحق وهذا عين الإلحاد والشرك فليس وراء هذا كفر فإن كان هذا مما يفهمه المنازع كما يفهم الذاب عن الشارع فقد علم منابذته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يفهمه ويدعي أن له معنى حسنا فيكفيه أنه يخوض بالجهل فيما هو أخطر الأشياء وهو أصول الدين الذي في الزلة فيه ذهاب الروح والدين وهو معاند بمنازعته لقوله تعالى 66 : 3 هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون 33 : 7 قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها
وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون 36 : 17 ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا(107/104)
ويكون تابعا لمجرد العصبية وحمية الجاهلية مع أنك لا تجد من يحامي عنه إلا منهمكا في الفسوق والبغي والعقوق أو قريبا منه تبعا له في قوله
دعوته إلى المجون
وينبيك عن شأني الوليد وإن نشأ ... بليدا بإلهام كوحي وفطنة
ويعرب عن حال السماع بحاله ... فيثبت للرقص انتفاء النقيصة
ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة
وإياك والإعراض عن كل صورة ... مموهة أو حالة مستحيلة
قالوا في شرحه إن الطفل يبين بحاله من الإصغاء إلى المناغي عن حال أهل السماع والرقص فيثبت بهذا انتفاء النقص خلافا لما قاله المحجوبون ولما كان سماع الطفل ورقصه بريا عن الشهوة والرئاء كان معربا عن صحة حال سماع الواجدين ورقصهم وهزل الملاهي جد نفس مجدة فلا تكن غافلا
عنه فإنه فائض من الأسماء الإلهية وما يفيض عن الحق إلا ما هو حق لا باطل
الباطل إله الصوفية
ولذلك قال ابن عربي لا تنكر الباطل في طوره فإنه بعض ظهوراته فقد أفاد هذا أنهم يعتقدون أن الباطل هو الله ولو لم يكن في هذا إلا أنه يدعو إلى البطالة والخلاعة والضلالة لكان كافيا في استهجانه 75 ومنابذته للدين
وقد نقل شيخنا حافظ العصر ابن حجر في لسان الميزان أنه كان لهذا الناظم جوار في البهنسة موظفات للغناء والضرب بآلات الملاهي وكلما ماتت واحدة منهن اشترى بدلها أخرى وكان يذهب إليهن في بعض الأوقات فيسمعهن ويرقص على غنائهن ويرجع
المناضل عن ابن الفارض
فالمناضل عنه مسارع إلى شكله ومضارع لمن كان فعله كفعله كما قال علي
رضي الله عنه بعد قدومه الكوفة بثلاثة أيام قد عرفنا خياركم من شراركم قالوا كيف ومالك عندنا إلا ثلاثة أيام قال كان معنا خيار وشرار فانضم خيارنا إلى خياركم وشرارنا إلى شراركم وحديث الأرواح جنود مجندة الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أعدل شاهد لذلك ويتعين على كل مسلم إنكار ما أنكره الشرع من مثل هذا
قوله يوجب إراقة دمه(107/105)
وقد اعترف هو أن ما قاله موجب لإراقة الدم وأنه قاله في الصحو والإفاقة لا في السكر والجذبة فقال
وثم أمور تم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت
بها لم يبح من لم يبح دمه وفي الإشارة ... معنى ما العبارة حدت
قالوا في شرحه أي انكشفت لي أمور وأسرار بواسطة الصحو الذي حصل لي بعد السكر والإفاقة وهي متغطية عن غيري من المحجوبين ولم يظهر تلك الأسرار إلا من أباح دمه للمحجوبين فإنهم يقتلون العارفين الذين باحوا بأسرار التوحيد وصرح بأن ما بقوله حقيقة لا مجاز فقال
عليها مجازي سلامي فإنما ... حقيقته مني علي تحيتي
قال الشراح أي على حضرة المحبوبة سلامي في قولي التحيات إلى آخره مجاز لأنها عيني لا غيري فحقيقة السلام مني وإلي وقد مثلوا كون التشخص مجازيا والإطلاق حقيقيا بأن الروح الكلي الذي هو الإله عندهم كالبحر والأشخاص الناشئة منه مثل البخار الصاعد من صورته البخارية ثم في صورة السحابية ثم يرجع إلى الماء ويختلط بالبحر فيصير إياه وهو بخار وسحاب حقيقة وتلك الصورة العارضة مجاز
فأين هذا الانهماك في اللذة قولا وفعلا والانقياد للهوى عقدا وحلا من رتبة الولاية التي يدعيها المتعصبون له التي من شرطها الإعراض عن الانهماك في اللذات الدنيوية ومن رتبة الولاية التي يدعيها هو
ومن هنا تعلم أنهم لا أرضوه ولا أرضوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من المؤمنين فإنه هو لا يرضى إلا أن يكون خليعا وهم يقولون متقيد وهو يقول إن ما قاله مبيح للدم وهم يقولون لا يبيحه وهو يقول إنه عاقل صاح وهم يقولون مجنون 76 سكران وهو يقول إن ما قاله حقيقة وهم يقولون مجازا ولا يقدرون على تخريجه على المجاز وهو لا يرضى إلا أن يكون هو الله وينهى عن ذكره بغير لماذا يزجر عن تكنيته بكنية أو تلقيبه بلقب
وألغ الكنى عني ولا تلغ ألكنا ... بها فهي من آثار صيغة صنعتي
وعن لقبي بالعارف ارجع فإن ترى ... التنابذ بالألقاب في الذكر تمقت(107/106)
قال شراحها أي أسقط الكنى عني ولا تستعمل اللغو في إطلاقها على حال كونك عييا عن الكلام في تعريف مقامي فإنها من آثار مصنوعاتي إذ الإنسان صاغها وهو من جملة مصنوعاتي التي أوجدتها وارجع عن إطلاقك علي اسم العارف لاتحادي بذات من لا يطلق عليه هذا الاسم
فلم يدع جهدا في زجرهم عن تسميته بالعارف ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم لبسا في أمرهم بتكفيره وهم يعصون كلا من الأمرين
ولا يرجعون عن شئ من المنهيين فيا خسارتهم بما ضروا به أنفسهم فيما لا ينفعهم كما قال تعالى فيمن يعبد الله على حرف يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير
زعمه أنه عرج إلى السماء
وادعى العروج إلى الله والوصول إلى مقام أو أدنى فقال ومن أنا إياها إلى حيث لا إلى ... عرجت وعطرت الوجود برجعتي قالوا في شرحه عرجت من مقام أنا إياها وهو ابتداء الاتحاد ومن قولهم أنا الحق ولا إله إلا أنا فاعبدني إلى أن وصلت إلى مقام لا نهاية فيه وعطر الوجود برجوعه لاتصافه بصفات الرحمن واتحاده بذات الملك الديان
والبيت الذي بعده أشد كفرا ثم قال
ولى عن مفيض الجمع عند سلامه ... علي بأو أدنى إشارة نسبة
قالوا في شرحه إنه لما فنى في النبي صلى الله عليه وسلم ثم بقي به حصة بمشاركته في قبول عين السلام من حيث عين ذلك المقام وهو مقام أو أدنى
فإنه جل جناب هذا المقام من أن يطلع عليه إلا واحد بعد واحد فالواحد السابق هو صلى الله عليه وسلم والواحد اللاحق به أنا إن شاء الله تعالى من جهة غرقي في لجيته انتهى
وقال عياض في أواخر الشفاء وكذلك أي يكفر من ادعى مجالسة الله تعالى والعروج إليه ومكالمته أوحلوله في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة
لا شئ على من يكفر ابن الفارض(107/107)
وأما من أنكر عليه لأمثال ما رأيته من الألفاظ الصريحة بالنص في الكفر فلا شئ عليه بإجماع المسلمين بقاعدة من كفر مسلما متأولا فلا أضل ممن ترك طريقا مضمون السلامة واتبع طريقا أخف أحواله أنه مظنون العطب والملامة 77 ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح على تقدير تسليم أن يكون لهم فيما هم فيه مصلحة وليس فيه والله مصلحة بوجه فقد اعترف كل من يحامي له أن ظاهر كلامه منابذ للكتاب والسنة وإلا لما احتاجوا إلى ادعاء تأويله مع أن الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ما سلك فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه قد أنكر التأويل لغير كلام المعصوم ومنع منه رضي الله عنه وأرضاه وأهلك كل
من خالفه وأرداه وبسيف الشرع قتله وأخزاه فقال فيما رواه عنه البخاري في كتاب الشهادات من صحيحه إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شئ والله يحاسبه في سريرته
ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة
وقد أخذ هذا الأثر الصوفية وأصلوا عليه طريقهم
منهم صاحب العوارف استشهد به في عوارفه وجعله من أعظم معارفه فمن خالف الفاروق رضي الله عنه كان أخف أحواله أن يكون رافضيا خبيثا وأثقلها أن يكون كفارا عنيدا وهذا الذي سماه الفاروق رضي الله عنه ظاهرا هو الذي يعرف في لسان المتشرعة بالصريح وهو ما قابل النص والكناية والتعريض وقد تبع الفاروق رضي الله على ذلك بعد الصوفية سائر العلماء لم يخالف منهم أحد كما نقله إمام الحرمين عن الأصوليين كافة وتبعه الغزالي وتبعهما الناس
وقال الحافظ زين الدين العراقي أنه أجمع عليه الأمة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل الاجتهاد الصحيح وكذا قال الإمام أبو عمر وابن عبد البر في التمهيدوأصله إمامنا الشافعي رضي الله عنه في كتاب(107/108)
الرسالة لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له الحديث رواه الستة عن أم سلمة رضي الله عنها في أمثال كثيرة وقال الأصوليون كافة التأويل إن كان لغير دليل كان لعبا وما ينسب إلى بعض المذاهب من تأويل ما هو ظاهر في الكفر فكذب أو غلط منشؤه سوء الفهم كما بينت ذلك بيانا شافيا في غير هذه الرسالة وإنما أولنا كلام المعصوم لأنه لا يجوز عليه الخطأ وأما غيره فيجوز عليه الخطأ سهوا وعمدا
المتوقف في تكفير الصوفية
ولا يسع أحدا أن يقول أنا واقف أو ساكت لا أثبت ولا أنفي لأن ذلك يقتضي الكفر لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة
ومن شك في كفر مثل هذا كفر 78 ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة من شك في اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر
وحكى القاضي عياض في الباب الثاني من القسم الرابع من الشفاء الإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود وكل من فارق
دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص أو التوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر انتهى
وقال الإمام حافظ الدين النسفي في كتابه العمدة في أصول الدين التوقف باطل لاقتضائه الشك والشك فيما يفترض اعتقاده كالإنكار ومن العجب أنهم يعاندوننا لأننا لا نؤول لمن يجوز عليه الزلل وينصرون من يتعصبون له وهو لا يؤول المتشابه من كلام المعصوم بل يجريه على ظاهره خلافا لإجماع الأمة مع تأدية ذلك إلى إبطال الشرع ويدعون(107/109)
الإسلام فما أحقهم بقوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل له فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء إلى هذا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام حملة شريعته من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم دعونا 22 : 41 ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين
الرأي في شعر ابن الفارض
وأما المحامون له فإنهم داعون إلى شاعر لم يؤثر عنه قط شئ غير ديوان شعر لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم فيه بقصيدة واحدة بل هو كفر وضلالة وخلاعة وبطالة وقد علم ذم الله وذم رسوله صلى الله عليه وسلم للشعر والشعراء إذا كان حالهم مثل هذا كما قال تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا وذلك إذا انفرد بالشعر
كهذا الرجل فإنه ليس له شئ ينفع الدين أصلا وليس له من الشعر إلا ما عادى به الإسلام وأهله وأذاهم غاية الأذى وأوقع به بينهم العداوة والبغضاء لأنه ملأه كفرا وخلاعة وصدا عن الدين وشناعة فقد حاد به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى 22 : 58 لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله 79 ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشريتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
فنحن في غاية السلامة إن شاء الله تعالى لما قدمت(107/110)
وأما من يحامي عنه فهو دائر بين اعتقاد ما تضمنه كلامه وذلك هو الكفر الموجب للسيف في الدنيا والخلود في النار في الأخرى وبين الذب عنه مع الجهل لما قال وذلك موجب لموادة من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الموجبة لعداوتهما الجارة إلى كل شقاء
تواتر الخبر بتكفير العلماء له
هذا مستندنا وهو قطعي من جميع وجوهه تواتر لنا تواترا معنويا نسبة العلماء له إلى الكفر وتواترا حقيقيا أن التائية نظمه ونحن على القطع بأنها صريحة في القول بالاتحاد بالذات والصفات وما يتبع ذلك من تصويب جميع الملل والنحل إن لم يكن نصا فيه وعلى القطع بأن ذلك كفر والقائل به كافر وقد انتقيت من التائية ما يقارب أربعمائة وخمسين بيتا شهد شراحها البررة والكفرة أن مراده منها صريح الاتحاد وما تفرع عليه من تصويب جميع الأباطيل في مجلد سميته الفارض
لا عبرة بقول حفيد ابن الفارض
ولا مستند لمن ينابذنا إلا ما أثبته ابن بنته في ديباجة الديوان من الزور والبهتان وهو نكرة لا يعرف ولو أنه شهد على أحدهم بدينار لم تقبل شهادته حتى يعدله العدول الموثوق بهم ولا معدل له ولا لجده ممن هو خبير بحالهما أصلا فصار المحامون له لا مستند لهم إلا سند قريش في منابذة النبي صلى الله عليه وسلم في التوحيد حين قالوا 32 : 45 إن نظن إلا ظنا وما نخن بمستيقنين 7 : 38 ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق 22 : 43 إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون 104 : 5 وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون 30 : 7 إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون
وكل من هكذا يوشك أن يقول عند سؤال الملكين في قبره ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافق أو المرتاب هاه هاه لا أدري سمعت(107/111)
الناس يقولون شيئا فقلته على أنه لو ثبت ما في ديباجة الديوان لم يفد ولاية فإن العلماء قسموا الخوارق إلى معجزة وكرامة ومعونة وإهانة
وأشار إلى ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر انظر إلى ما ورد للدجال من الخوارق وهو أكفر الكفرة
بم يكون الإنسان وليا
إنما يفيد الولاية بذل المجهود في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فمن بذل جهده في 80 اتباع السنة قلنا إنه ولي فإن خيل بعض المحلولين منهم أحدا ممن ظهر له الحق بقوله التسليم أسلم فليقل له هذا خلاف ما أمر به صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة من جهاد أعداء الله والبغض في الله من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتفق عليه في تسليته عن التخلف عن أصحابه بمكة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون على أن التسليم لأهل الشريعة وأهل الطريقة المجمع عليهم الذين رموا هذا الرجل بالكفر ورأسهم الفاروق رضي الله عنه بمنعه من التأويل أجدر بإيجاب السلامة وقد قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما
إن لم تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي نقله عنهما النووي في تبيانه عن الخطيب البغدادي ودليله إنما يخشى الله من عباده العلماء ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فقد أرشد الله تعالى إلى أن الولي هو العالم وأن العالم هو العامل بعلمه
دفاع وادعاء
وإن قالوا أنت تبغض الصوفية فقل هذه مباهتة إنما أبغض من كفره من أجمعنا على أنهم صوفية مثل الجنيد وسري وأبي يزيد(107/112)
وأبي سعيد الخراز والأستاذ أبي القاسم القشيري والشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ شهاب الدين عمر السهروردي صاحب العوارف فإن بعضهم قال طريقنا مشبك بالكتاب والسنة فمن خالفهما فليس منا وبعضهم جعل أثر عمر رضي الله عنه أصلا وبنى عليه طريقهم وبعضهم قال من قال إن الشريعة خلاف الحقيقة فهو زنديق ومن قال إن المراد بمحبة الله تعالى ووصوله إليه غير كمال المتابعة للكتاب والسنة أو بمحبة الله غير إكرامه بحسن الثواب فهو زنديق إلى غير ذلك مما حدوه فتعداه من عاديتمونا بسببهم
بل أنتم بعد بغضكم للصوفية نابذتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموالاتكم من نابذ شريعته ونحن نذب عنها وأنتم تناضلون عمن يهدمها من غير فائدة في ذلك وتقولون إنهم أرادوا بكلامهم الذي ظاهره قبيح غير ظاهره ولو قال أحد من الناس لأحد منكم كلمة توهم نقصا كالعلق الذي قال أهل اللغة أن معناه الشئ النفيس عاداه وإن حلف له أنه ما قصد ذما وإن كرر ذلك كانت القاصمة فتحرر بذلك أن نابذتم أهل الدين من الفقهاء والصوفية المجمع
عليهم بالتأويل في جانب الله تعالى ومنعتم مثله في حقكم فأف لهذا عقلا فكيف بالنظر إلى الدين
وجوب الكشف عن زندقة الصوفية وبيانها
وإن قالوا لا تجرب بالإنكار عليه في نفسك فليقل وإن تركت الإنكار عليه كنت أيضا مجربا في نفسي بمنابذة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وفي حديث آخر لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل وقد صرح العلماء بأن من خاف
على أحد أنه يقع في هلكة يجب عليه إنذاره ولو كان في الصلاة 41 : 29 مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون
الجاهلية في الصوفية(107/113)
على أنهم تابعون في هذا التحريف سنة الجاهلية في قولهم لنوح صلى الله عليه وسلم ما أجابهم عنه بما حكاه تعالى عنه في قوله 71 : 10 فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ثم قولهم لهود عليه السلام وقوله لهم ما حكاه تعالى بقوله إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ثم قولهم لإبراهيم عليه السلام كذلك وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله
وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
وقال كفار قريش لزنيرة الرومية رضي الله عنها لما أسلمت فعميت ما أعماها إلا اللات والعزى فرد الله عليها بصرها وقالت ثقيف والله لا يستطيع أحد أن يخرب اللات فلما أخربوها قالوا والله ليغضبن الأساس وقال اليهود لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه لو كان نبيا ما مات صاحبه إلى أمثال هذه الترهات
دفع اعتراض
وإن قالوا استخفافا لضعفاء العقول إن هذا الرجل له ما يزيد على مائتي سنة ميتا فما للناس يقلقونه في قبره تلك أمة قد خلت فقل بعد التأسي بفعل الله بفرعون وأضرابه هذا الكلام لنا عليكم فإنه(107/114)
لو كان حيا لظن أن الكلام فيه لعداوة أو حظ من الحظوظ الدنيوية وحيث انتفت التهم كلها كان الكلام بسبب ما خلفه من كلامه الذي أقر الذابون عنه أن ظاهره خبيث حتى احتاجوا إلى تأويله فلو تركوا كلامه تركنا الكلام فيه فمن غض منه علمنا أنه ما غض مع معاداة أكثر الناس إلا ذبا عن حمى الشريعة خوفا على الضعفاء من الاغترار بهذه الظواهر ومن حامى عنه كان ذلك قرينة دالة على أنه يعتقد ما ظهر من كلامه وإن قالوا لا تذكروا موتاكم إلا بخير رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا قيل حتى يكون من موتانا وإن قالوا لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا رواه البخاري عنها أيضا مرفوعا قيل هذا إذا كان في أمرهم شك بدليل تبت يدا أبي لهب ونحن لم نسبه بل أخبرنا بما وصفه به العلماء الذين ثبتت ولايتهم تحذيرا من كلامه واتباعا لحديث البخاري عن أنس
رضي الله عنه رفعه مروا بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت واتباعا لإجماع الأمة في جرح من يستحق الجرح هذا من فوائد قولنا فليذكر الخصم للدفع عنه فائدة واحدة لنفعه أو لنفع الدين أو أحد من المسلمين وإن قالوا ما لأهل زمانه ما أنكروا عليه قيل قد أنكروا عليه كما مضى بيانه وإن قالوا ما لهم ما قتلوه قيل منعهم اختلاف الأغراض كما منع ذلك في الباجريقي وكما ترى الآن من هذا التجاذب على أن القتل أيضا لا يفيد قطع التعنت من المتعنتين فقد أجمع أهل زمان الحلاج الذي هو رأس هذه الطائفة الاتحادية بعد فرعون وهم أتباع طريقته على قتله على الزندقة كما نقله القاضي عياض في آخر كتابه الشفاء الذي هو من أشهر الكتب وأعظمها ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري رأس الصوفية في زمانه في الرسالة عن أحد مشايخنا عمرو ابن عثمان المكي تكفيره للحلاج وذلك في باب حفظ قلوب المشايخ وقتل بسيف الشرع وأنت تجد الآن هذه الطائفة وأتباعهم من(107/115)
العامة يعتقدون فيه اعتقادا عظيما وينابذون أهل الشريعة وذلك يدل على أنهم إنما يقولون نؤول تقية وخوفا من السيوف المحمدية وأنهم يعتقدون الكلام على ظاهره فاستوى حينئذ القتل على الزندقة وعدمه 33 : 40 ومن يضلل الله فما له من هاد نصيحة
ولا تهتموا أيها الإخوان بكثرة كلام أتباع الشيطان وهجائهم لنا بالإثم والعدوان فهم إنما يقولون ذلك في الغيبة ولهم عليه الإثم والخيبة فإن الله تعالى قد ضمن النصرة وإن كان مع المبطل الكثرة
روى 83 الشيخان عن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون وحتى يقاتل بقيتهم الدجال وفي رواية وهم بالشام وقال تعالى 82 : 6 الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم إلى أن قال وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقد قلت في حالنا وحالهم
نصرنا سنة المختار حقا ... فهاجينا لذاك الأكافر
وراموا نصر شاعرهم فخابوا ... وضلل سعيهم في نصر شاعر(107/116)
ولتعلمن نبأه بعد حين 29 : 8 إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا 40 : 22 ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
قال منشؤها سيدنا الشيخ الإمام العامل العلامة أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعي الشافعي نفع الله المسلمين بعلومه إني فرغت من هذه الرسالة في مقدار يوم وكان فراغي منها ليلة الأحد ثامن عشرين شهر رجب الفرد الحرام سنة ثمان وسبعين وثمانمائة في مسجد دلر رجمه العبد بالقاهرة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
وفرغ من كتابتها الفقير إلى رحمة ربه سليمان بن عبد الرحيم في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة الهجرة النبوية
زاد الناسخ أو غيره بعد هذا
وممن يقول بكفر ابن عربي غير مصنف هذه الرسالة أيضا من العلماء الشيخ إبراهيم ابن داود الآمدي والشيخ أبو بكر بن قاسم الكناني والشيخ الفاضل سليمان بن يوسف الياسوفي الدمشقي والإمام الجليل علي بن عبد الله الأردبيلي والعلامة محمد بن خليل عز الدين الحاضري الحلبي الحنفي الفاضل محمد بن علي الدكالي ثم المصري والشيخ الصالح موسى بن محمد الأنصاري الشافعي قاضي حلب وكلهم ذكر الشيخ برهان الدين إبراهيم البقاعي عن شيخه شهاب الدين أحمد بن حجر في تراجمهم ما فيه الكفاية من فضلهم وحذقهم وعلمهم وزهدهم وورعهم وإنما أردت ذكر أسمائهم ليعلم أن من قال بكفر(107/117)
هذا الضال جماعة من العلماء غير واحد ليحذر من مذهبه من لا يعرفه تحقيقا ويعلم أن جماعة من العلماء لا يتفقون على ضلالة وهؤلاء من المتأخرين دون من لم يذكرهم من المتقدمين كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وصاحب المواقف وغيرهما وكذلك الشيخ الجليل أفضل المتأخرين علامة زمانه الشيخ علاء الدين البخاري وقد عمل في الرد على ابن عربي غبي وبيان كفره رسالة شافعية مسماة بفاضحة الملحدين وناصحة الموحدين
ومن أراد البحث والرد على هذه الطائفة فليطالعها ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(107/118)
كتاب
تنزيه الشريعة عن الألفاظ الشنيعة ******
من تأليف
العالم العامل ، والأستاذ الفاضل ، الشيخ سليمان بن سحمان
من علماء نجد الأعلام
أثابه الله تعالى ونفع به
آمين
****
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
…من سليمان بن سمحان ، إلي جناب عالي الجناب ، الأخ المكرم الا حشم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع سلمه الله تعالي وهداه وحفظة وتولاه وجعله من حزبه وأولياء ، الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاءه ، آمين ،
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأزكي وأشرف تحياته(108/1)
…( أما بعد ) فأني أحمد الله الذي لا أله الا هو وهو للحمد أهل وهو علي كل شىء قدير ، على ما أولاه من نعمة وصرف عنا من نقمه ، والخط الشريف وصل وصلك الله إلى خيري الدنيا والأخرى ، وما ذكرته كان معلوما خصوصا ما ذكرته من جهة المرزوقي فاعلم يا أخي انه قد تبينت لنا حاله ، فلا يروج علينا فى الأخوان ما لفقه قاله ، فلا يهمنك أمره ، وقد اجتمعنا بك فى البحرين ولم نسمع منك الا ما يسرنا من حسن العقيدة ومحبة هذه الدعوة وأهلها والسعي فى نشر ما ذكره ألفه شيخ الإسلام ، وقدوة العلماء الإعلام ، الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، اجزل الله له الأجر والثواب ، فلا نقبل بعد ذلك الا ما تحققناه وبان كالشمس فى نحر الظهيرة . والقول السديد والكواكب الذرية وصلت ألينا فلما قرثت علي ديباجة الكواكب الذرية ومر بسمعي قولك : وقد كنت قرأت فى تراجم بعض الأفاضل من الحنابلة ، كالشيخ العلامة حسن الشطي والشيخ الأمام محمد بن علي سلوم ، لم تسمح نفسي بسماعها ، بعد أن ذكرت هذين الرجلين ، لانه قد كان من المعلوم عندنا لما تحققناه عن مشايخنا ، أن محمد بن علي بن سلوم ليس هو من أئمة أهل الإسلام ، ولا من الأفاضل الأعلام ، بل كان ممن شرق بهذا الدين ولم يرفع به رأسا ، بل عاداه وعادى أهله واتبع غير سبيل المؤمنين ، وكان من المعلوم أيضا عندنا أن آل الشطي من أئمة الضلال وممن يدعون إلى دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين ، ويجزون الاستغاثة بهم في المهمات والملمات ، ومن كان هذا سبيله فليس هو عندنا من الأئمة الأعلام ولا من أفاضل أهل الإسلام ، وان كانوا من الحنابلة .(108/2)
ثم أنى بعد برهة من الزمان أشرفت علي ورقة اعترض صاحبها على أشياء مما في هذين الكتابين مما يخالف ما ذكره المحققون من أهل السنة والجماعة الذين هم الأسوة وبهم القدوة ، وقد ذكرت لي أنى إن عثرت على شيء مما يذكره المعارضون لها مما يخلف الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وائتها أني أبيز ذلك وانك ترجع فى ذلك إلي الحق والصواب مما قاله السلف الصالح رضوان الله عليهم وهذا هو الحق على من كان مقصوده طلب الحق والأنصاف ، وترك التعصب والاعتاد ، فلما تأصلت ما في هذه الورقة وقابلتها بما في هذين الكتابين من الأشياء المخالفة لما عليه المحققون من أهل السنة والجماعة أحببت أن أنبهك على ذلك فمن ذلك ما ذكره الشارح على قوله
ثم الصلاة والسلام سرا مدا قال الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن غيرهم التضرع والدعاء بخير . وهذا خطاء والصواب ما ذكره البخاري في صحيحة عن أبي العالية قال : صلاة الله ثناؤه علي عبده في الملأ الأعلى . واذا كان هذا هو الصواب في المسئلة فلا ينبغي للعالم أن يترك ما هو الراجح المقطوع به ويذكر القول المرجوح الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا ذكره المحققون من أهل العلم وان كانت هذه المسئلة أخف مما بعدها والله المستعان .
……ومنها ما ذكره في الكواكب في صفحة أربعة وعشرين قال في معني الاستواء (( استواء منزها عن المماسة والتمكن والحلول )) فاعلم أن هذا هو القول قول مبتدع مخترع لم يذكره أحد من أهل العلم من سلف هذه الأمة وأئمتها الذين لهم قدم صدق في العالمين ، وقد تقرر أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهينا .(108/3)
قال الأمام أحمد رحمه الله تعالي : لا يوصف الله تعالي إلا بما وصف به نفسة ووصفة به رسوله صلي الله عليه وسلم أنتهي وذلك لعلمهم بالله وعظمته في صدورهم وشده هيبتهم له وعظيم جلاله ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع ، لم يفله أحد ممن يقتدي به ويتبع ، فان أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلو والارتفاع والفوقية فهو قول باطل ضال قائله مخالف للكتاب والسنة ولا جماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله ، وإن لم يرد هذا المعني بل اثبت الملو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء فيقال فيه هو مبتدع ضال قال في الصفات قولا مشتبها موهما فهذا اللفظ لا يجوز نفيه ولا إثباته والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتغبير بالعبارات السلفية الإيمانية وترك المتشابه . هذا ما ذكره شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في جوابه علي بعض الجهمية .(108/4)
…وأما قول الشارح في صفحة خمس وعشرين منه : فمذهب السلف الصالح أن الله تعالي مستو علي عرشه حقيقة من غير مماسة فقوله من غير مماسة ، قول علي السلف بلا علم ولا برهان كما قدمنا بيانه اللهم الا أن يكون من قول بعض من ينتسب إلي السلف من أهل الكلام الذين لا يعتد بقولهم ولا يعول عليه في هذا الباب لان هذا اللفظ لم يرد في كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا قول أحد من الأئمة ومن زعم هذا فعليه الدليل . والدليل علي بطلان هذه الزيادة ما قاله الأمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب وقد سئل عما جحدت الجمهمية : (( أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته ، وانحسرت العقول دون معرفة قدره ، وردت عظمته فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة ، وانما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير وانما يقال (( كيف )) لمن لم يكن مرة ثم كان ، فلما الذي لا يحول ولا يزول وليس له مثل فانه لا يعلم كيف هو الا هو ، وكيف يعرف قدر من لم يعد من لم يمت ولا يبلي ، وكيف يكون لصفة شيء منه حد آو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف ، علي انه الحق المبين لا حق احق منه ولا شيء أبين منه ، الدليل علي عجز العقول عن تحقيق صفته ، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه ، لا تكاد تراه صغرا يحول ويزول ولا يري له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك واخفي عليك لما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله احسن الخالقين وخالقهم ، وسيد السادة وربهم ( ليس كمثله شيء وهو السميع العليم ) اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها ، إذا لم تعرف قدر ما وصف منها فما تكلفك علم ما لم يصف ؛ هل تستدل بذلك علي شيء من طاعته ، أو تنزجر به عن شيء من(108/5)
معصيته ، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران ، فصار يستدل بزعمه علي جحد ما وصف الرب وسمي من نفسه بان قال لابد أن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمي عن البين بالخفي ويجحد ما سمي الرب بصمت الرب عن ما لم يسم منها )) – إلي آخر كلامه رحمه الله .
…والمقصود من ذلك قوله : اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها ، إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف ؛ وقوله ويجحد ما سمي الرب من نفسه بصمت الرب عن ما لم يسم منها والله سبحانه تعالي لم يصف نفسه في كتابه ولا وصفه رسوله صلي الله عليه وسلم في سنته بأنه استوي علي العرش استواء منزها ولنمكن والحلول وقد ذكرت بعد هذا ما ذكره الأمام ربيعة بن عبد الرحمن والأمام مالك والأمام الشافعي والأمام أحمد وأمام الأئمة محمد بن خزيمة رحمهم الله تعالي ولم يذكر أحد منهم هذا القول المخترع المبتدع ولو كان هذا مذهب السلف لذكره أئمتهم المذكورون فعلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الصالح والله اعلم ( ومنها ) ما ذكره في الكواكب أيضا علي قوله
وليس ربنا بجوهر ولا ... عرض ولا جسم تعالي ذو العلا(108/6)
فاعلم وفقني الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح أن لفظ الجوهر والعرض والجسم ألفاظ مبتدعة مخترعة لم يرد بنفيها ولا إثباتها كتاب ولا سنه ولا قول صاحب ولا أحد من أئمة التابعين ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين الذين يعتد بقولهم في هذا الباب فإذا تحقت ذلك فهذه الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر فى مقصود قائلها فان كان معني صحيحا قبل لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة الا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه أن لم يخاطب بها ونحو ذلك ، فإذا تبين هذا فالواجب علي من منحه الله العلم والمعرفة أن ينظر في هذا الباب أعني باب الصفات فما أثبته الله ورسوله أثبته وما نفاه الله ورسوله نفاه . والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي ، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني وننفي ما نفته نصوصها من الألفاظ والمعاني . واما كون شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه وتلميذه ابن القيم ما لا إلي انه لا وجود للجوهر لفرد فحق ولكن المقصود بذلك الرد علي من اثبت الجوهر الفرد وانه لا حقيقة لوجوده ولا يلزم من ذلك إذا رده ونفاه انه يري أن إطلاق هذه الألفاظ علي الله نفيا وإثباتا جائز فقد ذكر رحمه الله في بعض أجوبته ما نصه : فان ذكر لفظ الجسم في أسماء الله تعالي وصفاته بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها ولم يقل أحد منهم أن الله تعالي جسم ولا أن الله تعالي ليس بجسم ولا أن الله تعالي جوهر ولا أن الله تعالي ليس بجوهر انتهي ، وكما صرح بذلك فيما ذكرناه عنهما وفي بعض مواضع أخر خلافا لما ذكره الناظم وأقره الشارح .(108/7)
إذا تقرر هذا فلابد من ذكر كلام أئمة أهل الإسلام علي هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي ادخلها بعض المنتسبين إلى السنة من آهل الكلام وغيرهم في العقائد ونسبها بعضهم إلى مذهب السلف رضوان الله عليهم وذلك مثل لفظ الجوهر والجسم والأعراض والابعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث وغيرها قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه : وكانت المعتزلة تقول أن الله منزه عن الأعراض والابعاض والحوادث والحدود ومقصود هم نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي مباينتة للخلق وعلوه علي العرش وكانوا يعبرون عن مذهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب فانهم إذا قالوا أن الله منزه عن الأعراض لم يكن في ظاهر العبارات ما بنكر لان الناس يفهمون من ذلك انه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبنى آدم من الأمراض والأسفام ولا ريب أن الله منزه عن ذلك ولكن مقصو دهم انه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا – وكذلك إذا قالوا : أن الله منزه عن الحدود والاحياز والجهات ، اوهموا الناس بان مقصو دهم بذلك انه لا تحصره المخلوقات ، ولا تحوزه المصنوعات ، وهذا المعنى صحيح ومقصو دهم به انه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه ، وانه ليس فوق السموات رب ولا علي العرش إله ، وان محمدا لم يعرج به إليه ولم ينزل منه شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا يقترب إليه بشيء ، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ، ولا غيره ، ونحو ذلك من معاني الجهمية . واذا قالوا انه ليس بجسم اوهموا الناس انه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل أبدان الخلق وهذا المعني صحيح ولكن مقصو دهم بذلك انه لا يري ولا يتكلم بنفسه ولا تقوم به صفه ولا هو مباين للخلق وأمثال ذلك ؛ واذا قالوا لا تحله الحوادث اوهموا الناس أن مرادهم انه لا يكون محلا للتغيرات والإستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم(108/8)
وتفسدهم ، وهذا المعني صحيح ولكن مقصو دهم بذلك انه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته وانه لا يقدر علي استواء ؟أو نزول أو آتيان أو مجيء ، وأن المخلوقات التي خلقها الله لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا بل عين المخلوقات هي الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك انتهي .
…وقال ابن القيم رحمه الله تعالي في ( الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ) ويقولون نحن ننزه الله تعالي عن الأعراض والأغراض والابعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث ، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها انهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة فلا يشك انهم يمجدونه ويعظمونه ، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيري تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالي عما يستحقة من كماله – فننزيههم عن الأعراض هو جحد صفاته كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه أرادته فان هذه الأعراض له عندهم لا تقوم الا بجسم فلو كان متصفلها لكان جسما وكانت أعراضا له وهو منزه عن الأعراض .
…وأما الاغراض فهي الغاية والحكمة التي لاجلها يخلق ويفعل ويأمر وينهي ويثبت ويعاقب وهي الغايات المحمودة المطلوبة من أمره ونهيه وفعله فيسمونها أغراضا منه وعللا ينزهونه عنها .
…وأما الإبغاض فمرادهم بتنزيهه عنها انه ليس له رجه ولا يدان ولا يمسك السموات علي إصبع والأرض علي إصبع والشجر علي إصبع والماء علي إصبع فان ذلك كله إبغاض والله منزه عن الإبغاض .(108/9)
…وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها انه ليس فوق السموات رب العرش إله ولا يشار إليه بالأصابع الي فوق كما أشار إليه اعلم الخلق به ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا رفع المسيح إليه ولا عرج برسوله محمد صلي الله عليه وسلم إليه اذ لو كانوا كذلك لزم إثبات الحدود والجهات وهو منزه عن ذلك .
…وأما حلول الحوادث فيريدون به انه لا يتكلم بقدرته ومشيئته ولا ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضي بعد أن كان غضبانا ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن مريدا له فلا يقول له كن حقيقة ولا استوي علي عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم ولا يقوم للمصلى إذا قال ( الحمد لله رب العالمين ) حمدني عبدي فإذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال اثني علي عبدي فإذا قال ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي ، فان هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث .
…الي أن قال واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات ولا نفيا فيكون له النفي فمن اطلقة نفيا وإثباتا سئل عما أراد فان قال أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمي في اللغة جسم سواه فلا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعني منفي عن الله عقلا وسمعا .(108/10)
وإن ارتم به المركب من المادة والصور والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعا والصواب نفيه عن الممكنات أيضا فليس جسم المخلوق من هذا ولا من هذا ، وان ارتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويري بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضي ويغضب فهذه المعاني ثابتة لله تعالي وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما – الي أن قال : وان ارتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار اعرف الخلق به بإصبعه رافعا بها الي السماء بمشهد الجمع الأعظم مستشهدا له لا للقبلة وان أردتم بالجسم ما يقال له أين فقد سال اعلم الخلق به عنه باين منبها علي علوه علي عرشه وسمع السؤال باين و أجاب عنه ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن الجسم وانه ليس بجسم ، وان أردتم بالجسم ما يلحقه ( من ) و ( الي ) فقد نزل جبرائيل من عنده وعرج برسوله إليه ، واليه يصعد الكلام الطيب ، وعبده المسيح رفع إليه . وان أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غيره أمر سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعا من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وقد قال اعلم الخلق به " أعوذ برضاك من سخطك " الحديث – قال واما استعاذته صلي الله عليه وسلم به منه باعتبارين مختلفين فان الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه – وان أردتم بالجسم ماله وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها علي نفسه ؛ وان أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا علي غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو علي عرشه .(108/11)
…وكذلك أن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطا في اللفظ والمعني وجناية علي ألفاظ الوحي أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره وتسميتكم هذه الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها فكذيتم علي القرآن وعلي الرسول وعلي اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظ منكم بدأت واليكم تعود ، واما خطأكم في المعني فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعني الحق وسميتموه بالاسم المنكر .
…الي أن قال : وكذلك إذا قال الفرعوني لو كان علي السموات رب او علي العرش اله لكان مركبا ، قيل له لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبة غيره في محله كقوله تعالي ( في أي صورة ما شاء ركبك ) وقولهم ركبت الخشبة والباب وما يركب من أخلاط أجزاء بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحد كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا وان أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود وانه كان متفرقا فاجتمع فهو كذب وفرية وبهت علي الله وعلي الشرع وعلي العقل ، وان أردتم انه لو كان فوق العرش لكان عاليا علي خلقة بائنا منهم مستويا علي عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعني حق فكأنك قلت لو كان فوق العرش فنفيت الشيء بتغبير العبارة وقبلها الي عبارة أخرى وهذا شانكم فى اكثر مطالبكم .
…وان أردتم بقولكم كان مركبا انه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها من بعض فهل كان عندك هذا تركيبا ؟ فان قلت هذا لا يقال لمن اثبت شيئا من الصفات فأما أنا فلا اثبت له صفه واحدة فرارا من التركيب ، قيل لك العقل لم يدل علي نفي المعني الذي سميته أنت مركبا وقد دل الوحي والعقل والفطرة علي ثبوته أتنفيه بمجرد تسميتك الباطلة ؟ فان التركيب يطلق وير أدبه خمسة معان(108/12)
…( 1 ) تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدا علي ماهيتها فإذا نفيت هذا جعلته وجودا مطلقا إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان .
( الثاني ) تركيب الماهية من الذات والصفات فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا حياة له ولا مشيئة ولا صفة أصلا فكل ذات في المخلوقات من هذه الذات ، فاستفدت بهذا التركيب كفرد بالله وجحدك لذاته ولصفاته وأفعاله .
…( الثالث ) تركيب الماهية الجسيمية من الهيولى والصورة كما يقوله الفلاسفة .
…( الرابع ) التركيب من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام .
…( الخامس ) تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت فان أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركبا كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون قيل لك جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا فلو كان فوق العرش جسم مخلوق محدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار فكيف ذلك في حق خالق الفرد والمركب الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء ؟ والعقل إنما دل علي إثبات اله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له لم يلد ولم يولد ، ولم يدل علي أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة ولا وجه ولا يدين ولا هو فوق خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ، فدعوى ذلك علي العقل كذب صريح عليه كما هي كذب صريح علي الوحي وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة أن أردتم انه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه إحاطة الظرف بالمظروف فنعم هو اعظم من ذلك واكبر واعلي ، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعني .(108/13)
…وان أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه علي خلقه واستواءه علي عرشه فنفيكم بهذا المعني باطل وتسميته جهة وقلتم منزه عن الجهات وسميتم العرش حيزا وقلتم ليس بمتحيز وسميتم الصفات أعراضا وقلتم الرب منزه عن الأعراض ، وسميتم كلامه بمشيئته ونزوله الي سماء الدنيا ومحبيئه يوم القيامة لفصل القضاء بمشيئته أرادته المقارنة لمرادها وإدراكه المقارن لوجود المدرك وغضبه إذا عصي ورضاه إذا أطيع وفرحه إذا اتاب إليه العباد ونداءه لموسى حين أتى الشجرة ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة ونداءه لعباده يوم القيامة ومحبته لمن كان يبغضه حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه وربو بيته التي هو كل يوم في شان " حوادث " وقلتم هو منزه عن حلول الحوادث وحقيقة هذا التنزيه انه متنزه عن الوجود وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالا لما يريد بل عن الحياة والقومية .
…فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم ليس بجسم ولا بجوهر ولا مركب ولا تقوم به الأعراض لا يوصف بالإبغاض ولا يفعل بالأغراض ولا تحله الحوادث ولا تحيط به الجهات ولا يقال في حقه أين وليس بمتحيز كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته وعلوه علي خلقه واستوائه علي عرشه وتكليمه لخلقه ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته هذه الألفاظ ثم توسلوا الي نفيها بواسطتها وكفروا وضللوا من أتثبتها واستحلوا منه ما لم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى ، فالله الموعد واليه التحاكم ، وبين يديه التخاصم
نحن وإياهم نموت ولا ... افلح يوم الحساب من ندما انتهي(108/14)
…وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالي في رسالته الي عبد الله بن سحيم وقد طلب منه أن يذكر له شيئا من معني كتاب الموليس فقال رحمه الله في الجواب بعد كلام له وذلك أن كتابه مشتمل علي الكلام في ثلاثة أنواع من العلوم ( الاول ) علم الأسماء والصفات الذي يسمي علم آصال الدين ويسمي أيضا العقائد ( والثاني ) الكلام علي التوحيد والشرك ( والثالث ) الاقتداء بأهل العلم واتباع الأدلة وترك ذلك .
…أما الاول فانه أنكر علي أهل الوشم إنكارهم علي من قال ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وهذا الإنكار جمع بين اثنين إحداهما انه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه ( الثانية ) انه لم يفهم صورة المسئلة وذلك أن مذهب الأمام احمد وغيره من السلف انهم لا يتكلمون في هذا النوع الا بما تكلم به الله ورسوله فما أثبته الله لنفسه أثبته رسوله أثبتوه مثل الفوقية والاستواء والكلام المجيء وغير ذلك وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلي الله عليه وسلم نفوه مثل المثل والند والسمي وغير ذلك ، واما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه مثل الجوهر والعرض والجهة وغير ذلك لا يثبتونه فمن نفاه مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عبدان وصاحبه فهو عند احمد والسلف مبتدع ، ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره فهو عندهم مبتدع والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم واصحابه – الي أن قال وأنا اذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسئلة .(108/15)
قال الشيخ تقي الدين بعد كلام له علي من قال انه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ككلام صاحب الخطبة قال رحمه الله تعالي : فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال واما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وانما بعث الرسول صلي الله عليه وسلم بإنكار ذلك وكلام السلف والائمة في ذم الكلام و أهله مبسوط في غير هذا الموضع . والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره إذا ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا علي إطلاق الإثبات ولا علي إطلاق النفي انتهي كلام الشيخ تقي الدين .
إذا تدبرت هذا عرفت أن إنكار ابن عبدان وصاحبه علي الخطيب الكلام في هذا هو عين الصواب وقد اتبعا في ذلك أمامهما احمد بن حنبل وغيره في إنكارهم ذلك علي المبتدعة ففهم صاحبكم انهما يريدان إثبات ضد ذلك وان الله جسم وكذا وكذا تعالي الله علي ذلك ، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي انه لا جسم ولا جوهر ولا كذا ولا كذا وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت ، من اثبت بدعوة ، ومن نفي بدعوة ، فالذي يقول ليس بجسم ولا ولا هم الجهمية والمعتزلة والذين يثبتون ذلك هو هشام واصحابه والسلف بريئون من الجميع من اثبت بدعوة ومن نفي بدعوة ، فالموليس لم يفهم كلام الأحياء ولا كلام الأموات ، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة مذهب السلف وظهر أن من أنكر النفي انه يريد الإثبات كهشام واتباعه ولكن العجب من ذلك استدلاله علي فهمه بكلام احمد المتقدم .
…ومن كلام أبي الوفاء بن عقيل قال أنا اقطع أن أبا بكر وعمر ماتا وما عرفا الجوهر والعرض فان رأيت أن طريقة أبي علي الجباني او أبي هشام خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت انتهي .(108/16)
…وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هشام بنفي الجوهر والعرض فمن أنكر الكلام فيهما مثل أبي بكر وعمر فهو عنده علي مذهب هشام الرافضي ، فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة وان ابن عبدان وصاحبه أنكر ذلك مثل ما أنكره احمد والعلماء كلهم علي أهل البدع انتهي .
…فتأمل رحمك الله ما تحت إطلاق هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي خالف من وضعها سلف الأمة وأئمتها واغتر بها من حسن ظنه بهؤلاء الذين قلدوا من ابتدعها من المتكلمين ، الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين حيث أرادوا بها التنزيه ، ووقعوا في التعطيل والتشبيه ، فساروا علي مناهجهم من غير دليل ولا برهان من الكتاب والسنة ، ولا كلام أحد من الأئمة فالله المستعان .
…وتأمل ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حيث قال فمن نفاه – مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه – فهو عند احمد والسلف مبتدع والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلي الله عليه وسلم واصحابه – الي أن قال : وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت من اثبت بدعوة ومن نفي بدعوة ، فالذي يقول ليس بجسم ولا ولا هم الجهمية والمعتزلة والذين يثبتون ذلك هو هشام واصحابه والسلف بريئون من الجميع ، من اثبت بدعوة ومن نفي بدعوة الي آخر كلامه رحمه الله تعالي ( ومنها ) ما ذكره الناظم بقوله
وان ما جاء مع جبريل
كلامه سبحانه قديم ... من محكم القرآن والتنزيل
اعيا الورى بالنص يا عليم(108/17)
…فقوله " كلامه سبحانه قديم " هو من حنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لاهل البدع أن كلام الله سبحانه وتعالي حادث الا حاد قديم النوع ، وانه يتكلم بمشيئة وقدرته إذا شاء لا يمتنع عليه شيء أراده وان لله تعالي متصف بالأفعال الاختيارية القائمة به فهو سبحانه قد تكلم في الأزل بما شاء ويتكلم فما لم يزل بقدرته ومشيئته بما أراد وهو الفعال لما يريد ( إنما آمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) أهل البدع المخالفون للسلف ينفون ذلك ويسمون هذه الأفعال الاختيارية القائمة به سبحانه وتعالي حلول الحوادث والله لا يكون محللا للحوادث ويريدون بهذا أن لا يتكلم بقدرته ومشيئته ولا ينزل كل ليلة الي سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضي بعد أن كان غضبانا ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريدا له فلا يقول له كن حقيقة ولا استوي علي عرشه بعد أن لم يكن مستويا ولا يغضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا ولا يقول للمصلي إذا قال ( الحمد لله رب العالمين ) حمدني عبدي فإذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال اثني علي عبدي فإذا قال ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي فان هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث كما تقدم بيان هذا وايضاحة في كلام ابن القيم رحمه الله وقال في الكافية الشافية لما ذكر أقوال أهل البدع المخالفين لاهل السنة
والآخرون أولو الحديث كأحمد
قد قال أن الله حقا لم يزال
جعل الكلام صفات فعل قائم
وكذاك نص علي دوام الفعل بالا
وكذا ابن عباس فراجع قوله
وكذاك جعفر الأمام الصادق ال
قد قال لم يزل المهيمن محسنا ... ذاك ابن حنبل الرضي الشيباني
متكلما أن شاء ذو إحسان
بالذات لم يفقد من الرحمن(108/18)
حسان أيضا في مكان ثان
لما أجاب مسائل القرآن
مقبول عند الخلق ذو العرفان
برا جوادا عند كل أوان
…الي آخر كلامه فانه قد أجاد فيه أفاد فراجعه فيها واما ما ذكره في القول السديد في الآبيات التي نسبها لشيخ الإسلام قدس الله روحه أن صح النقل بذلك عنه حيث قال
أقول في القرآن ما جاءت به ... آياته فهو القديم المنزل
…فهذا القول أن صح لا ينافي كونه سبحانه يتكلم فيما يزل بقدرته ومشيئته كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا لاهل الكلام من المبتدعة وغيرهم والله اعلم
…( ومنها ) ما ذكره في صفحة أربع وعشرين وهو أخف مما قبله خطرا لما ذكره المهدي وانه قد ورد فيه أحاديث كثيرة لم يثبت منها حديث واحد ، فاعلم يا آخي انك ذكرت هذا القول جازما به من غير علة ذكرتها تقدح في هذه الأحاديث عن عالم من علماء أهل الجرح والتعديل الذين يعتد يهم في هذا الباب وقد ذكر هذه الأحاديث أبو عيسي الترمذي في جامعه وهو أمام فاضل من أئمة أهل الجرح والتعديل فقال رحمه الله تعالي
( باب ما جاء في المهدي )(108/19)
حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي أنبأنا أبي أنبأنا سفيان الثوري عن عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي " وفي الباب عن علي وأبى سعيد وآم سلمة وأبى هريرة هذا حديث حسن صحيح ، حدثنا عبد الجبار بن العلاء العطار أنبأنا سفيان بن عينية عن عاصم عن زر عن عبد الله عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " يلي رجل من أهل بيتي يواطيء اسمه اسمي " قال عاصم وأنبأنا أبو صالح عن أبى هريرة قال : لو لم يعبق من الدنيا الا يوما لطول الله ذلك اليوم حتى يلي ، هذا الحديث حسن حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر أنبأنا شعبة قال سمعت زيدا العمي قال سمعت أبا الصديق الناجي يحدث عن أبى سعيد الخدري قال أن يكون بعد نبينا حدث فسألنا نبي الله صلي الله عليه وسلم قال " أن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمسا او سبعا او تسعا " زيد الشاك قال قلنا وما ذاك ؟ قال " سنين " قال فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهدي اعطني قال فيحثيء له في ثوبه ما استطاع أن يحمله " هذا حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبى سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم وأبو الصديق الناجي اسمه بكر ابن عمر ويقال بكر بن قيس . فهذا ما ذكره الأمام أبو عيسي الترمذي جازما بصحة هذه الأحاديث وأنت لم تذكر لأحاديث المهدي علة عن أحد العلماء علي عدم ثبوتها الا مجرد الدعوى من غير برهان ولا دليل والمثبت مقدم علي النافي واذا صح الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وجزم بذلك أمام من أئمة أهل الحديث وجب علينا التصديق به والإيمان به وانه حق كائن لا مجالة وأحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الثابتة عنه اجل في صدورنا من أن نعارضها بما يذكره ابن خلدون وامثاله ونعارض ما صححه الأمام الترمذي بأمثال ابن خلدون من لا يؤبه له ولا يعد من العلماء الأفاضل والائمة الامائل بل ذكر لي بعض لاخوان انه أخباري(108/20)
صاحب تاريخ قد شحن مقدمته بالطلاسم (1) وأخبار المنجمين هذا ما حدثني به من لا اتهمه في حديثه وأنا ما رأيت شيئا من كتبه ولا اعرفها والله اعلم ، وقد ذكر أبو داود هذه الأحاديث في سنته ولم يذكر لها علة ولا جرحها بشيء من الأمور التي تقدح فيها ( ومنها ) ما ذكره في صفحة تسع وسبعين في الأبيات التي ذكر فيها مفاخرة علي رضي الله عنه قال ومما نسب الي علي رضي الله عنه
محمد النبي أخي وصهري
وجعفر الذي يمشي ويضحي
وبنت محمد سكني وعرسي
وسبطا أحمد آيتاي منها
سبقكم الي الإسلام طرا ... وحمزة سيد الشهداء عمي
يطير مع الملائكة ابن أمي
مبسوط لحمها بدمي ولحمي
فأبكم له سهم كسهمي
غلاما ما بلغت أوان حلمي
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعله يسر الأستاذ المؤلف نفع الله به أن نخبره عن معرفة بان ابن خلدون ليس مؤرخا نقالا للأخبار علي علاتها كأكثر المؤرخين بل هو محقق في التاريخ ومحدث وفقيه وليست مقدمة تاريخه مشحوبة بالطلمسات وأخبار المنجمين كما قال له الثقة عنده بل تذكر فيها الطلمسات في فصل الكلام علي السحر وهو يذمه ويقول فيه ما قال فقهاء أصحابه المالكية وغيرهم . وله فصل آخر في المقدمة عنوانه ( أبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها ) واما كلامه في لمهدي فهو يذكر من أحاديث الترمذي مع ما ذكره أئمة الجرح والتعديل في تضعيف رواتها كتضعيفهم لعاصم بن بهدلة في الحديث دون القراءة ولكن من جهة سوء حفظة وكونه تغير في آخر عمره . واما زيد العمي فكلامهم في ضعفه كثير ويعلم المؤلف حفظه الله أن الترمذي كان يتساهل في التصحيح فلا يعتد بتصحيحه لما خالفه غيره فيه من الأئمة .(108/21)
…فهذه المفاخرة التي ذكرها الشارح لم يذكرها عن علي رضي الله عنه بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا عزاها الي شيء من المكتب المعتمد ولا ذكرها عن أحد من أئمة أهل الحديث ولا غيرهم فالاشبه بها أن تكون من أوضاع الرافضة . والصحابة - رضي الله عنهم - لم يكن من هديهم واخلافهم التفاخر بينهم بالاحساب والأنساب بل كان السلف رضوان الله عليهم ينهون عن الفخر والخيلاء والاستطالة علي الخلق بحق أو بغير حق كما هو مذكور في عقائد أهل السنة والجماعة ، وعلي رضي الله عنه اخشي لله ولتقي له من أن يفتخر بهذه المفاخرة علي أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - علي ما ذكره الرافضي انه افتخر بذلك علي أهل الشورى أو علي معاوية لما بلغته مفاخرته كما ذكره السفا ريني وقد قال تعالي ( تلك أمة قد خلت لهاما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ) وانما كانوا يتفاضلون ويذكون بالتقوى كما قال تعالي ( يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، أن أكرمكم عند الله اتقاكم ) واذا كان من المعلوم أهم ما كانا يتفاخرون باحسابهم وبأنسابهم بل كان ذلك من أمر الجاهلية وقد اذهب الله ذلك بالإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وفيه " أن الله اذهب عنكم عيبه الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس من آدم و آدم خلق من تراب " وعن عياض بن حمار مرفوعا " أن الله تعالي أوحى الي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد علي أحد " رواه مسلم فإذا تبين لك هذا ففضائل علي رضي الله عنه ومناقبه مشهورة مذكورة لا تخفي علي أهل العلم فالعدول عنها الي هذه المفاخرة التي لم تذكر في شيء عن الكتب المتعمدة من الغفلة التي لا ينبغي لمن تصح نفسه و أراد نجاتها أن تنسب إليه ويذكر بها فالله المستعان . ثم أنى بعد ما حررت هذه الكلمات رأيت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في منهاج السنة علي اصل هذه الأبيات التي(108/22)
وضعها بعض الكذابين فنظمها من نظمها ونسبها لعلي رضي الله عنه فقال رحمه الله تعالي .
( الفصل الحادي عشر )
…قال الرافضي وعن عامر بن واثلة قال كنت مع علي وهو يقول لهم لاحتجن عليكم بما لا يستطيع عربتكم ولا عجميكم تغير ذلك ثم قال أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أفيدكم أحد وحدة الله تعالي قبلي ؟ قالوا اللهم لا : قال أنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل آخي جعفر الطيار في الجنة مع الملائكة غيري ؟ قالوا اللهم لا : قال فانشدكم بالله هل فيكم أحد له عم مثل عمي حمزة أسد الله أسد رسوله سيد الشهداء غيري ؟ قالوا اللهم لا : قال فانشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري ؟ قالوا اللهم لا : قال فانشدكم بالله هل فيكم من له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري ؟ قالوا اللهم لا ( وذكر أشياء آخر غير هذا اقتصرنا منها علي ما ذكره منها صاحب النظم )(108/23)
فقال شيخ الإسلام في جوابه أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يقل علي رضي الله عنه يوم الشورى شيئا من هذا ولا يشابهه ( ثم ذكر كلاما الي أن قال ) وفي هذا الحديث الذي ذكره هذا الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزه الله تعالي عليا عنها مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته ، وعلي رضي الله عنه افضل من هؤلاء وهو يعلم أن اكرم الخلق عند الله اتقاهم ولو قال العباسي هل فيكم أحد مثل آخي حمزة ومثل أولاد آخي أي محمد وعلي وجعفر لكانت هذه الحجة من جنس تلك بل احتجاج الإنسان بني اخوته اعظم من احتجاجه بعمه ولو قال عثمان هل فيكم من تزوج بنتي لكان من جنس قول القائل هل فيكم من زوجته مثل زوجتي وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان فأنها ماتت بعد موت النبي صلي الله عليه وسلم بسته اشهر ، وكذلك قوله هل فيكم أحد له ولد كولدي وفيه أكاذيب متعددة – الي آخر ما ذكر رحمه الله تعالي هذا ملخص ما ذكره الشيخ في المناهج في الجزء الثالث في خمسة عشر ولكن العجب كل العجب انك لما ذكرت أحاديث المهدي ذكرت انه لم يثبت فيها حديث واحد وقد تقدم ما ذكره حفاظ أهل الحديث كابي داود وآبي عيسي الترمذي من تحسن أحاديث المهدي وتصحيحها وذكرت ما ذكرت من انه لا يحب اعتقاد مجيء هذا المهدي ولا ندين الله به ، ثم ذكرت هذه المفاخرة المكذوبة الموضوعة التي لا اصل فذكرتها في فضائل علي ومناقبه وافررتها فكان الحق والواجب علي مثلك أن لا تذكر هذه الأبيات الموضوعة المكذوية وان لا تذكر في أحاديث المهدي الا ما ذكره أهل الحديث الذين هم القدرة وبهم الأسوة وحسبك السير علي مناهجهم فانهم كانوا علي الصراط المستقيم ، والمنهج القويم ، ومن أعداهم من أهل الكلام ، الذين فارقوا به أئمة أهل الإسلام فإنما يأخذون بمقاييس عقولهم وآرائهم ، وقد تبعوا في ذلك أهواء قوم قد ضلوا من قبل أضلوا كثيرا وضلوا عن سواء(108/24)
السبيل .
…واعلم يا آخي أني ما كتبت لك الا ما قاله المحققون من آهل العلم الذين هم أئمة هذا الشان من سادات الحنابلة وأئمتهم الذين ينفون عن دين الله تحريف الغاليين ، وانتحال المبطلين ، ليتبين لك طريقة السلف الصالح والصدر الاول ، فمض عليه بالنواجذ ولا يكن في صدرك حرج منه ، فانه الحق ، وقد تركت أشياء مما ذكره المعترض في ورقته أما لسوء فهمه او لعدم معرفته واطلاعه وأمورا أخرى لم ارفع بها رأسا ولم اكتبلك الا ما وقفت عليه مز بورا في الشرح فاعلم ذلك وبالله التوفيق وبه الصمت والعصمة.
( فصل )
إذا تبين لك ما قدمته لك من كلام علماء المحققين وكان المقصود هو ظهور الحق وبيانه فهنا أشياء أخرى يجب التنبيه عليها ولا ينبغي السكوت عنها ( منها ) قوله في الصفحة الثمانية عشرة قول الشارح : فيجب علي كل مكلف أن يعرف الله تعالي بصفات الكمال ويجرم بأنه سبحانه واحد لا يتجزأ ولا ينقسم ، أحد ، لا من عدد ، فرد صمد ، الي أخر قوله وبالله التوفيق .
اعلم أن قول القائل ويجزم بأنه سبحانه وتعالي واحد لا يتجزأ ولا ينقسم قول مبتدع مخترع لم يقله أحد من السلف رضوان الله عليهم وليس مذكورا في عقائد أهل السنة والجماعة بل هو من جنس ما يذكره أهل البدع من قولهم ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم وليس له أعراض ولا أغراض ولا ابعاض الي غير ذلك مما خالفوا به سلف الأمة وأئمتها .
قال شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في كتابه المسمي بالعقل او النقل الذي قال ابن القيم رحمه الله تعالي فيه
واذكر كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثان(108/25)
قال بعد كلام له : وكثير من أهل الكلام يقول التوحيد له ثلاث معان وهو : واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء له ، وواحد في صنياته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ، وهذا المعني الذي تتناوله هذه العبارة فيها ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم وفيها ما يخالف ما جاء به الرسول – فذكر كلاما حسنا الي أن قال – فانهم إذا قالوا لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له فهذا الفظ وان كان يراد به معني صحيح فان الله ليس كمثله شيء وهو سبحانه لا يجوز عليه أن يتفرق ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمدو الصمد الذي لا جوف له وهو السيد الذي كمل سؤدده فانهم يدرجون في هذه نفي علوه علي خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ويقولون أن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما وان يكون له شبيه . أهل العلم يعلمون أن مثل هذا لا يسمي في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا وانقساما ولا تمثيلا وهكذا الكلام في مسمي الجسم والعرض والجوهر والتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك فان هذه الألفاظ يدخلون في مسماة الذي ينفونه أمورا مما وصف به نفسه ووصفه به ورسوله فيدخلون فيها علمه وقدرته وكلامه ويقولون أن القرآن مخلوق لم يتكلم الله به وينفون بها رؤيته لاذ رؤيته علي لصطلاحهم لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم ، ثم يقولون والله منزه عن ذلك فلا تجوز رؤيته ، ولذلك يقولون المتكلم لا يكون إلا جسما متحيزا و الله ليس بجسيم متحيزا ، فلا يكون متكلما ، يقولون لو كان فوق العرش لكان جسما متحيزا والله سبحانه وتعالي ليس بجسم متحيز فلا يكون فوق العرش ، وأمثال ذلك الي آخر كلامه وهو في صفحة ثلاث وثلاثين ومائة .
والمقصود أن قول أهل البدع في الواحد انه الذي لا ينقسم ولا يتجرأ قول مبتدع مخترع لم يقل به أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هو من كلام من ينتسب الي أهل السنة والجماعة من المتكلمين وغيرهم .(108/26)
واما قول الشارح في الأحد انه اجدلا من عدد ، فهو كلام لا طائل تحته ولا يفيد شيئا من المعاني بل الذي ينبغي آن يقال ما قاله فيه شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه حيث قال ( قل هو الله أحد * الله الصمد ) فادخل اللام في الصمد ولم يدخلها في أحد لانه ليس في الموجودات ما يسمي أحدا في الإثبات مفردا غير مضاف بخلاف النفي وما في معناه كالشرط والاستفهام فانه يقال هل عندك أحدا أكرمته وانما استعمل في العمل المطلق وقال أحد اثنان ويقال أحد عشر وفي أول الأيام يقال يوم الأحد الي آن قال والمقصود هنا آن لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان الا بالله وحده وانما يستعمل في غير الله في النفي قال آهل اللغة تقول لا أحد في الدار ولا تقل فيها أحد ولهذا لم يجيء في القرآن الا في غير الموجب كقوله تعالي ( فما منكم من أحد عنه حاجزين ) وكقوله ( لستن كأحد من النساء ) وقوله ( وان أحد من المشركين استجارك فاجره ) وفي الإضافة كقوله تعالي ( فابعثوا أحدكم ) ( وجعلنا لاحدهما جنتين ) والله اعلم ( ومنها ) ما ذكره الشارح في الكواكب في صفحة ثلاثة عشر
فكل ما جاء من الآيات
من الأحاديث نمرة كما ... اوصح في الأخبار عن ثقات
قد جاء فاسمع من نظامي واعلما
قوله فكل ما جاء أي عن الله تعالي من الآيات القرآنية اوصح مجيئه في الأخبار بالأسانيد بخلاف الضعيفة فان وجودها كعدمها فلا بد من آن تكون الأخبار عن رواة ثقات في النقل من الأحاديث والآثار فما هو يوهم تشبيها فهو من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله نؤمن به وبأنه من عند الله ونمرة كما قد جاء عنه تعالي او عن رسوله فمذهب السلف عدم الخوض في هذا والسكوت عنه ونفوض علمه الي الله قال ابن عباس هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين واما آهل التأويل فآبوا الا يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الآمة وأئمتها وابتدعوا في ذلك وكل بدعة ضلالة انتهي .(108/27)
فاقول اعلم وفقك الله آن هذا الكلام الذي أوردته في هذا المقام لا ينبغي آن يؤخذ علي إطلاقه ونسبته الي مذهب آهل السنة والجماعة من السلف رضوان الله تعالي عليهم بل فيه ما هو حق من كلام السلف وفيه ما هو من بعض أقوال المتكلمين الذين ينتسبون الي آهل السنة ممن كثر في باب أسماء الله وصفاته اضطرابهم وكثف عن معرفته حجابهم فان السلف رضوان الله تعالي عليهم لا يدخلون أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة في المتشابه الذي لا يعلم تاويله الا الله نعم فيه ما ذكر عن السلف انهم يمون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت وسيأتي بيان معني ذلك فيما بعد آن شاء الله تعالي شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في الرسالة المسماة بالإكليل في المتشابه والتأويل .
( فصل )(108/28)
واما إدخال أسماء الله وصفاته او بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تاويله الا الله او اعتقاد آن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تاويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم فانهم وان أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام علي هذا من وجهين الاول من قال آن هذا من المتشابه وانه لا يفهم معناه فنقول آما الدليل علي ذلك فاني ما اعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا احمد بن حنبل ولا غيره انه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفي أحد آن يعلم معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا ي قالوا آن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وانما قالوا كلمات لها معان صحيحة قالوا في أحاديث الصفات تمر كما جاءت ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها و أبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عن عماد لت عليه ونصوص احمد اجمد والائمة قبله بينة في انهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص علي ما دلت عليه من معناها ويفهمون منه للبعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك واحمد قد قال في غير أحاديث الصفات تمر كما جاءت في أحاديث الوعيد مثل قوله " من غشنا فليس منا " وأحاديث الفضائل ومقصودة آن الحديث لا يحرف كلمة عن مواضيعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تاويلا بالصرف المتأخر فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص احمد في كتاب الرد علي الزنادقة و الجهمية انهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم احمد علي ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تاويل الجهمية وجري في ذلك علي سنن الأئمة قبله فهذا اتفاق من الأئمة علي انهم يعملون معني هذا المتشابه وان لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه او الحاد في أسماء الله وآياته انتهي .(108/29)
…فتأمل ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال فهذا اتفاق من الأئمة علي انهم يعملون معني هذا المتشابه وان لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه او الحاد في أسماء الله وآياته . ثم تأمل الشارح بقوله فمذهب السلف عدم الخوض في هذا والسكوت عنه فانه يخالف ما ذكره شيخ الإسلام عن اتفاق الأئمة علي انهم يعلمون معني هذا المتشابه وان لا يسكت عن بيانه في تفسيره فتبين آن هذا ليس هو مذهب السلف وانه من القول عليهم بلا علم ولا برهان يدل علي ذلك .
…ثم قال شيخ الإسلام ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب آن آهل السنة متفقون علي أبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهرة الي ما يخالف ظاهرة فلو قيل آن هذا هو التأويل المذكور في الآية وانه لا يعلمه الا الله وليس هذا مذهب السلف والائمة وانما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها لا التوقف عنها وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة علي المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها . وذكر كلاما طويلا أجاد فيه أفاد ، وبلغ غاية المراد ، فمن أراد الوقوف عليه فهو في الرسالة المسماة بالإكليل في المتشابه والتأويل ، وانما لم نذكره خوف الإطالة اذ المقصود التنبيه علي هذه الورطات .(108/30)
واما قول الشارح فمذهب السلف عذم الخوض في هذا والسكوت عنه وتفويض علمه الي الله فاعلم يا آخى آن شيخ الإسلام ابن تميمة ذكر في العقل والنقل أقوال آهل التفويض فنذكر من ذلك ما يدل علي بطلانه وانه من شر أقوال آهل البدع والإلحاد قال شيخ الإسلام قدس الله روحه في صفحة خمسة عشر ومائه في الوجه السادس عشر واما التفويض فمن المعلوم آن الله تعالي امرنا آن نتدبر القرآن وحصنا علي عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك آن ير أدمنا الأعراض عن فهمه ومعرفته وعقله ؟ فذكر أقوال الفلاسفة ثم قال و الجهمية والمعتزلة وامثالهم يقولون انه أراد آن يعتقدوا الحق علي ما هو عليه مع علمهم بأنه لم يتبين ذلك في الكتاب والسنة بل النصوص تدل علي نقيض ذلك فأولئك يقولون أراد منهم اعتقاد الباطل وامرهم به ، وهؤلاء يقولون أراد اعتقاد ما لم يداهم الا علي نقيضه ، والمؤمن يعلم بالاضطرار آن كلا القولين باطل ولا به للنفاة آهل التأويل من هذا او هذا ، واذا كان كلاهما باطلا كان تاويل النفاة للنصوص باطلا فيكون نقيضه حقا وهو افرار الأدلة الشرعسة علي مدلولاتها ومن خرج عن ذلك لزمه من الفساد ما لا يقوله الا آهل الإلحاد ، وما ذكرناه من لوازم قول آهل التفويض هو لازم لقولهم الظاهر المعروف بينهم اذ قالوا آن الرسول كان يعلم معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة ولكن لم يبين للناس مراده بها ولا اوضحة إيضاحا يقطع به النزاع . واما علي قول أكابرهم آن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمه الا الله وان معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها – فعلي قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما انزل الله عليهم من هذه النصوص الملائكة ولا السابقون الأولون وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن او كثير مما وصف به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه بل يقولون كلاما لا يعقلون معنله ، وكذلك نصوص المثبتين للقدر عند طائفة والنصوص المثبتة(108/31)
للآمر والنهي والوعد والوعيد عند طائفة والوعيد والنصوص المثبتة للمعاد عند طائفة ، ومعلوم آن هذا قدح في القرآن والأنبياء اذ كان الله انزل القرآن واخبر انه جعله هدي للناس ، أمر الرسول آن يبلغ البلاغ المبين وان يبين للناس ما نزل إليهم أمر بقدير القرآن وعقله ومع هذا فاشرف ما فيه وهو ما اخبر به الرب عن صفاته او عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم او عن كونه آمر ونهي ووعد وتوعد او عما اخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين ، وعلي هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع : الحق في نفس الآمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النصوص ما ينافي ذلك لان تلك النصوص مشكلة متشابهة ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوزان يستدل به فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول آن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لانا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلا عن آن يبينوا مرادهم فتبين آن قول آهل التفويض الذين يزعمون انهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال آهل البدع والإلحاد الي آخر كلامه رحمة الله .
واما قول الشارح قال ابن عباس هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين ، واما آهل التأويل فآبوا الا آن يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الآمة وأئمتها وابتدعوا في ذلك وكل بدعة ضلاله انتهي .(108/32)
فاعلم يا آخى آن هذا القول الذي نسبه الشارح الي ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة آن كان صحيحا ثابتا فليس معنادما وهمه الشارح من آن نصوص الكتاب والسنة الواردة في أسماء الله وصفاته (1) مما يوهم تشبيها فيكون من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله ، وانه مما لا يعقل معناها وأنها لا تفسر وقد تقدم بيان ذلك في معني التفويض ونزيد ذلك إيضاحا بما قاله شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في هذا الكتاب حيث قال : واما تاويل ما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي اخبر عنها وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره . ولهذا قال مالك و ربيعة وغيرهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول 0 وكذلك قال ابن الماجشون واحمد بن حنبل وغيرهما من السلف يقولون آنا لا نعلم كيفية ما اخبر الله عن نفسه وان علمنا تفسيره ومعناه 0 ولهذا رد احمد بن حنبل علي الجهمية والزنادقة فيما طعنوا فيه من متشابه القرآن وتاولوه علي غير تاويلة فرد علي من حمله علي ما أريد به وفسر هو جميع الآيات المتشابهة وبين المراد به 0 وكذلك الصحابة والتابعون فسروا جميع القرآن وكانوا يقولون آن العلماء يعلمون تفسيره وما أريد به وازلم يعلمون كيفية ما اخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفيات الغيب فان ما أعده الله لأوليائه من النعم ما لا عين رأته ولا آذن سمعته ولا خطر علي قلب بشر ، فذاك الذي اخبر به لا يعلمه الا الله بهذا المعني فهذا حق 0 واما من قال آن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد به لا يعلمه الا الله فهذا ينازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا انهم يعلمون معناه كما قال مجاهد عرضت
__________
(1) كذا في النسخة فلما آن تكون " انه " هنا تأكيدا لانه في أول الجملة واما آن تكون سبق قلم فان ما بعدها خبر لانه الأولى ، وحاصل المعني آن النصوص المذكورة ليست من المتشابه الذي لا يعقل كما توهم الشارح(108/33)
المصحف علي ابن عباس من فاتحته الي خاتمته اقف عند كل آية و أساله عنها ، وقال ابن مسعود في كتاب الله آية الا و آنا اعلم فيم أنزلت وقال الحسن البصري ما انزل الله آية الا وهو يحب آن يعلم ما أراد بها 0 ولهذا كانوا يجعلون القرآن يحيط بكل ما يطلب من علم الدين كما قال مسروق ما نسال أصحاب محمد عن شيء الا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه 0 وقال الشعبي ما ابتدع قوم بدعة الا في كتاب الله بيانها ، وامثال ذلك من الآثار الكثيرة المذكورة بالأسانيد الثابتة مما ليس هذا موضع بسطة انتهي0
فهذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه من علم الكيفية عما اخبر الله به عن نفسه وكذلك لا يعلمون كيفيات الغيب فان ما أعده الله لأوليائه من النعيم مما لا عين رأته ولا آذن سمعته ولا خطر علي قلب بشر فذاك الذي اخبر الله به لا يعلمه الا الله بهذا المعني فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام هو الذي يحمل عليه قول ابن عباس وغيره من الصحابة آن كان النقل بذلك ثابتا عنهم وقد تقدم آن السلف رضوان الله عليهم كانوا يقولون آنا لا نعلم كيفية ما اخبر الله عن نفسه وان علمنا تفسيره ومعناه فكان من المعلوم آن ابن عباس وغيره من الصحابة وأئمة السلف كانوا يفسرون ما تش به من القرآن يعلمون معني ذلك ولم يسكتوا عن بيان ذلك 0
…( واما قول الشارح ) : واما آهل التأويل فآبوا الا آن يفسروا ويؤولوا حتى خالفوا سلف الآمة وأئمتها وابتدعوا في ذلك وكل بدعة ضلالة انتهي 0(108/34)
…فاعلم يا آخى آن التأويل المردود الذي سلكه الجهمية ومن تبعهم من المتكلمين هو صرف الكلام عن ظاهرة الي ما يخالف ظاهرة فلو قيل آن هذا هو التأويل المذكور في الآية وانه لا يعلمه الا الله لكان في هذا تسليم الجهمية آن للآية تاويلا يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه الا الله وليس هذا مذهب السلف والائمة وانما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها لا التوقف عنها ، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة علي المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها ، فكان من المعلوم آن السلف الذي قالوا لا يعلم تاويله الا الله كانوا يتكلمون بلغتهم المعروفة بينهم ولم يكن لفظ التأويل عندهم يراد به معني التأويل الاصطلاحي الخاص وهو صرف اللفظ عن المعني المدلول عليه المفهوم منه الي معني يخالف ذلك فان تسمية هذا المعني وحده تاويلا إنما هو اصطلاح طائفة من المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ليس هو عرف السلف من الصحابة والتابعين والائمة الأربعة وغيرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه والله اعلم إذا تبين لك هذا فاعلم آن مراد من قال من السلف - رضي الله عنهم - انه لا يفسر يعنون انه لا يؤول ويحرف فيصرف عن ظاهرة الي ما لا يدل عليه ظاهرة كما أولوا الاستواء وفسروه بأنه الاستيلاء وكما فسروا اليد بالنعمة وهذا هو الذي نهي السلف عن تفسيره وتأويله بهذا المعني والله اعلم 0
( فصل )
ومنها ما ذكره في الواجه الرابع والعشرين علي قول الناظم
سبحانه قد استوي كما ورد ... من غير كيف قد تعالي آن يحد(108/35)
فقال : تعالي الله آن يحد وفيه الرد علي من زعم آن يلزم من كونه مستويا علي عرشه آن يحد تعالي الله عن ذلك اذ المحدود محدث والمحدث مفتقر للخالق والخالق سبحانه ( هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) الاول من غير بداية ، والآخر من غير نهاية ، والظاهر من غير تحديد ، والباطن من غير تخصيص ، موجود بالوجود القديم من غير تشبيه ولا تكييف .
فاقول اعلم وفقك الله آن هذا الكلام الذي أورده الشارح في هذا المقام من الألفاظ لمجملة الموهمة المطلقة المتحملة لمعنيين حق وباطل فلا ينفصل النزاع الا بتفصيل تلك العاني وتنزيل ألفاظها عليها كما قل ابن القيم رحمة الله تعالي علي هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الآمة وأئمتها ، ويقولون نحن ننزه الله تعالي عن الأعراض الاغراض والابعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث ، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها لهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة فلا يشك لهم يمجدونه ، ويعظمونه ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيري تحتها لإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالي عما يستحقة من كماله – الي آخر كلامه 0 وقد تقدم 0
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه : وكذلك إذا قالوا آن الله منزه عن الحدود والاحياز والجهات اوهموا الناس بان مقصو دهم بذلك انه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات وهذا المعني صحيح ، مقصو دهم انه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه ، وانه ليس فوق السموات رب ولا علي العرش اله ، وان محمدا لم يعرج به إليه ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه بشيء ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية انتهي 0(108/36)
فإذا تبين لك هذا فاعلم آن قول الشارح علي هذه اللفظة المحتملة الموهمة المطلقة حيث قال : تعالي الله آن يحد وفيه الرد علي من زعم انه يلزم من كونه مستويا علي عرشه آن يحد ، تعالي الله عن ذلك ، اذ المحدود محدث والمحدث مفتقر للخالق الي آخر كلامه هو من كلام آهل البدع من الجهمية وغيرهم ممن نحا نحوهم من المتكلمين فإذا كان هذا هو المفهوم من كلام الناظم والشارح قطعا ولا محيد عنه لإطلاقه ألفاظا لم ينطق بها الكتاب والسنة ولا نطق بها أئمة السلف رضوان الله عليهم بل المتكلم بها من هؤلاء المبتدعة يوهمون الناس آن مقصو دهم بذلك انه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات ، وهذا المعني صحصح ، ولكن مقصو دهم هو ما تقدم بيانه عنهم من كلام شيخ الإسلام آنفا واذا كان ذلك كذلك فنحن نسوق كلام أئمة السلف رضوان الله تعالي عليهم في هذا المقام ليتبين لك خطأ الناظم الشارح 0(108/37)
قال شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في العقل والنقل بعد آن ذكر كلاما طويلا قال : وقال حنبل في مواضع آخر عن احمد قال ( ليس كمثله شيء ) في ذاته كما وصف به نفسه قد اجمل تبارك وتعالي بالصفة لنفسه فحد لنفسه ليس يشبه شيء فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة الا بما يوصف به نفسه قال فهو سميع بصير بلا حد و لا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث ، فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين ؛ نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهة ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه هذا يدل علي آن الله تبارك وتعالي يري في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم لله بآمره بغير صفة ولا حد الا ما وصف به نفسه ، سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا ، عالم الغيب والشهادة علام الغيوب 0 فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد ، وهو علي العرش بلا حد كما قال تعالي ( ثم استوي علي العرش ) كيف شاء ، المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وكما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير 0 قال إبراهيم لأبيه ( يا آبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) فنثبت آن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدي القرآن والحديث ، والخبر " يضحك الله " ولا نعلم كيف ذلك الا بتصديق الرسول وبتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالي الله عما تقول الجهمية والمشبهة ( قلت ) والمشبهة ما يقولون ؟ قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده – وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا احبه 0(108/38)
وقال محمد بن مخلد قال احمد : نصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله 0 وقال يوسف بن موسى آن آبا عبد الله قيل له ولا يشبه ربنا شيئا من خلقه قال نعم ( ليس كمثله شيء ) فقول احمد انه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء واذا شاء وقوله وهو علي العرش بلا حد كما قال ( ثم استوي علي العرش ) كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء يبين آن نظره وتكليمه وعلوه علي العرش واستواءه علي العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته ، وقوله بلا حد ولا صفة يبلغها واصف او يحده أحد – نفي به إحاطة علم الخلق به وان يحدوه او يوصفوه علي ما هو عليه الا بما اخبر به عن نفسه ليتبين آن عقول الخلق لا تحيط بصفاته ، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصف به خلقه (1) ولهذا قال احمد لا تدركه الأبصار 0 بحد ولا غاية 0 فنفي آن يدرك له حد او غاية 0 فهذا اصح القولين في تفسير الادرك وقد بسط الكلام علي شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع 0
__________
(1) كذا وقد سقط من عبارة الشافعي كلام بين الحمد وهذا وهذا الوصف يحتمل آن يكون عمدا للاختصار وان يكون سهوا – ومنه قوله قتل محل الشاهد هنا : ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته ، الذي هو وصف نفسه وفوق ما يصفه به حلقه آهل 0(108/39)
وما في هذا الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه احمد وغيره من الأئمة كما ذكره لخلال أيضا قال حدثنا آبو بكر المروذي قال سمعت آبا عبد الله لما قيل له : روى علي ابن الحسن بن شقيق عن ابن مبارك انه قيل كيف نعرف الله عز وجل ؟ قال علي العرش بحد 0 قال قد بلغني ذلك عنه و أعجبه ثم قال آبو عبد الله ( هل ينظرون الا آن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) ثم قال ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) قال الخلال وأنبانا محمد بن علي الوراق حدثنا آبو بكر الاثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال لاحمد بن حنبل يحكي عن ابن المبارك وقيل له نعرف ربنا ؟ قال : في السماء السابعة علي عرشه بحد فقال احمد هكذا هو عندنا واخبرني حرب بن إسماعيل قال قلت لاسحق يعني ابن راهويه هو علي العرش بحد قال نعم بجد ، وذكر عن ابن المبارك قال هو علي عرشه بائن من خلقه بجد ، قال واخبرني المروذي قال : قال اسحق ابن إبراهيم بن راهويه قال الله تبارك وتعالي ( الرحمن علي العرش استوي ) إجماع آهل العلم انه فوق العرش استوي ويعلم كل شيء في اسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤس الآكام وبطون الأدوية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما فوق العرش ، أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر الا وقد عرف ذلك كله و أحصاه ؛ فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره 0 فهذا بينوا آن ما اثبتوا له من الحد لا يعلمه غيره ، كما قال مالك وربيعه وغيرهما : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، فتبين آن كيفية استوائه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الآمر ولكن نفوا علم الخلق به ، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف والائمة ينفون علم الخلق بقدره وكفيته ، وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن آبى سلمة الماجشون في كلامه المعروف وقد ذكره ابن بطة في(108/40)
الإبانة وآبو عمر الطلمنكي في كتابة الأصول ورواء آبو بكر الاثرم قال حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن آبى سلمه انه قال : آما بعد فقد فهمت ما سالت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خافها في صفات الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته ، وانحسرت العقول عن معرفة قدرة ، الي آن قال فانه لا يعلم كيف هو الا هو ، وكيف يعرف قدر من لا يموت ولا يبلي ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد او منتهى يعرفه عارف ، او يحد قدره واصف ، الدليل علي عجز العقول عن تحقيق صفته ، عجزها عن تحقيق صفة اصغر خلقه ، - الي آن قال : اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها ، إذا لم تعرف ما وصف فما نكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك علي شيء من طاعته ، او تنزجر عن شيء من معصيته ؟ وذكر كلاما طويلا الي آن قال : فآما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه علي جحد ما وصف الرب وسمي من نفسه بان قال لا بد الألسن كان له من الألسن يكون له كذا ، فعمي عن البين بالخفي بجحد ما سمي الرب من نفسه ويصف الرب بما لم يسم فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالي ( وجوه يومئذ ناضرة * الي ربها ناظرة ) فقال لا يراه أحد يوم القيامة ، فجحد والله افضل كرامة الله التي اكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) قد قضي انهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون 0 وذكر كلاما طويلا كتب في غير هذا الموضع ثم ذكر بعد هذا كلام الأمام عثمان بن سعيد الدرامي في كتابه الذي سماه ( رد عثمان بن سعيد ، علي الكافر العنيد ، فيما افتراه على الله في التوحيد ) فقال :
{ باب الحد والعرش }(108/41)
…قال أبو سعيد وادعى المعارض أيضاً أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية ، قال وهذا هو الأصل الذي بني عليه جهم جميع ضلالاته ، واشتق منها جميع أغلوطاته ، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهماً إليها من أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد عملوا أنه ليس شيء يقع عليه اسم شيء إلا وله حد وغاية وصفه ، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة ، فالشيء أبداً موصوف لا محالة ، ولاشيء يوصف بلا حد ولا غاية ، وقولك لا حد له تعني أنه لاشيء ، قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره ولا يجوز لا حد أن يتوهم غاية في نفسه ، لكن يؤمن بالحد وبكل علمه انتهى .
…إذا فهمت هذا وتحققته تبين لك منافاه ما قاله الناظم والشارح لكلام أئمة السلف رضوان الله عليهم لأن مرادهم في قولهم بلا حد كما قال أحمد وهو على العرش بلا حد ، وقوله : وكما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ، وقوله لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد . فمرادهم بقوله بلا حد معناه ما ذكره شيخ الإسلام قدس الله ورحمه بقوله بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد نفى به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفوه على ما هو عليه إلا بما أخبر به عن نفسه ليتبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في خطبة الرسالة : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه . ولهذا قال أحمد لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية فنفى أن يدرك له حد أو غاية وكذلك ما ذكره الإمام عبد العزيز بن عبدالله ابن أبي سلمة الماجشون حيث قال وكيف يكون لصفة شيء منه حداً ومنتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف إلى آخر كلامه .(108/42)
…فهذا ما ذكره أئمة السلف رضوان الله عليهم في معنى قولهم بلا حد وهو خلاف ما فهمه الشارح في معنى قولهم بلا حد فإنه قال وفيه الرد على من زعم أنه يلزم من كونه مستوياً على عرشه أن يحد تعالى الله عن ذلك إذ المحدود محدث والمحدث مفتقر للخالق وهذا يوافق ما قاله أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ممن أخذ بانوال الجهمية المنكرين لعلوه على عرشه ومباينته لمخلوقاته كما ذكر ذلك عنهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي حيث قال وادعى المعارض أيضاً أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بني عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها جميع أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهماً إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية أو صفه وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبداً موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لاشيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لايعلمه أحد غيره ولا يجوز لا حد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن يؤمن بالحد وبكل علم انتهى(108/43)
…فإذا كان ذلك كذلك تعين ما ذكره أئمة السلف حيث قالوا : كيف نعرف الله عز وجل ، قال : على العرش بحد كما رواه على بن الحسين بن شقيق عن عبدالله بن المبارك رضي الله عنه ، وكما رواه الخلال باسناده إلى الإمام أحمد أنه قيل له يحكي عن ابن المبارك وقيل له : كيف تعرف ربنا ؟ قال : على عرشه بحد قال أحمد : هكذا هو عندنا وذكر أيضاً عنه حرب بن إسماعيل قال : قلت لاسحق يعني ابن راهوية هو على العرش بحد قال : نعم بحد . وذكر عن ابن المبارك قال : هو على عرشه بائن من خلقه بحد . ثم قال شيخ الاسلام بعد أن ذكر أقوال أئمة السلف : أنه بحد قال رحمه الله بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعة وغيرهما : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر ، ولكن نفوا على الخلق به واعلم أني إنما أعدت هذا الكلام وكررته ليتبين لك ما بين اللفظتين من قوله : بلا حد ومن قوله : بحد لتعلم الفرق بين هاتين اللفطتين كما بينه شيخ الاسلام فيما تقد والله أعلم (1) .
__________
(1) قال الحافظ الذهبي في ترجمة الحافظ محمد بن حبان أبي حاتم البستي من الميزان ما نصه : قال أبو إسماعيل الهروي شيخ الإسلام سألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان فقال رأيته ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين : قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه . قلت انكاره الحد واثباتكم نوع من فضول الكلام والسكوت عن الطرفين أولى إذ لم يأت نص بنفي ذلك ولا أثباته والله تعالى ( ليس كمثله شيء ) فمن أثبته قال له خصم جعلت لله حداً برأيك ولا نص معك بالحد . والمحدود مخلوق ، تعالى الله عن ذلك . وقال هو للنافي ساويت ربك بالشيء المعدوم إذ المعدوم لا حد له . فمن نزه الله وسكت سلم وتابع السلف اهـ .(108/44)
…وأما قول الشارح : والخالق هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ، الأول من غير بداية والآخر من غير نهاية والظاهر من غير تحديد ، والباطن من غير تخصيص ، إلى آخر كلامه .
فاعلم وفقك الله أن في هذا الكلام ألفاظ لم يقل بها أحد من أئمة السلف رضي الله عنهم كقوله : الظاهر من غير تحديد ن والباطن من غير تخصيص ، فلنسلم معنى ما ذكره من هذه الألفاظ لما تقدم بيانه ، والذي ذكره أئمة السلف هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في سفر الهجرتين حيث قال : وقد فسر أعلى الخلق بربه هذه الآية قوله تعالى ( هو الأول والآخر والباطن وهو بكل شيء عليم ) بأنه هو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر ليس بعده شيء ، والظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء ، فهذا تفسير أعلم الخلق بربه ولا حاجة بنا إلى تفسير من لا عصمة في قوله . وقد بينا فيا تقدم أن هذا من كلام أهل البدع وإنهم يوهمون الناس أن مقصودهم بذلك أن لا تحصره المخلوقات ، ولا تجوزه المصنوعات ، وهذا المعنى صحيح . ومقصودهم أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلاً عنه ، وأنه ليس فوق السموات رب ، ولا على العرش غله . وقد تقدم هذا في كلامه شيخ الاسلام بتمامه .
…وأما قوله : والباطن من غير تخصيص – فهو أيضاً من كلام أهل البدع كما ذكره شيخ الإسلام عن ابن التومرت الذي يسمونه المهدي وهو من نفاة الصفات . والجواب عما ذكره ابن التومرت مذكور في العقل والنقل في صفحة سبع ومائتين في المجلد الأخير في الجزء الثالث فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه هناك والله أعلم .
…ومنها ما ذكره الشارح في صفحة سبع وعشرين على قوله ( ونهجه ) أي نهج اليد والوجه ونحوهما أي كل ما ورد من الأوصاف من الرجل والقدم والصورة فأقول :(108/45)
…اعلم أن ما ذكره الشارح من قوله والصورة أن أراد به ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( إن الله خلق آدم على صورته )) ورواه الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولفظه (( خلق آدم على صورة الرحمن )) قال شيخ الاسلام : ورواه الاعمش مسنداً ، وكما رود في الحديث (( فيأتيهم على الصورة التي يعوفونها فيقول أنا ربكم )) فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فهو الحق الذي لا ريب فيه . ولكن لا نقول إلا ما ورد به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لا حد أن يطلق على الله أن صورة لان ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة لا نفياً ولا إثباتاً ، ولا سمى الله به نفسه . فإطلاق هذه الالفاظ على الله من أقوال أهل البدع التي تلقاها من خلف منهم عمن سلف .
…قال ابن القيم رحمه الله في المدارج بعد ان ذكر كلاماً سبق : إن الفعل أوسع من الاسم ، ولهذا أطلق على نفسه أفعالاً لم يتسم منها بأسماء الفاعل كأراد وشاء وأحدث ، ولم يسم بالمريد والمشيء والمحدث كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه فباب الأفعال أوسع من باب الاسماء وقد أخطأ اقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسماً وبلغ بأسمائه زيادة على الالف فسماه الماكر والخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك وكذلك باب الاخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمي بذلك انتهى .(108/46)
…فإذا تبين لك هذا فأعلم أن من أدخل اسم الصورة في أسماء الله أخطأ أقبح خطأ لأن باب الأفعال والاخبار عن الله أوسع من باب الاسماء ولفظ الصورة لم يذكره أحد من علماء أهل السنة والجماعة في عقائدهم وإنما ذكر ذلك بعض من ينسب إلى أهل السنة فمن اشتق من أفعال الله سبحانه وتعالى أسماء وأوضافاً لم يذكرها الله ولا رسوله إلا على سبيل الاخبار فنقول في ذلك ما قاله الله ورسوله وأخبر به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والحديث والله أعلم . وقد تقدم التنبيه على أن السلف رضوان الله عليهم قد فسروا آيات الصفات وأحاديثها وبينوا معانيها ونهوا عن تأويلات الجمهمية وذكرنا ما ذكره شيخ الاسلام من أن مذهب أهل التفويض اشر المذاهب وأخبثها ونسبة ذلك إلى السلف من الكذب عليهم والله أعلم .
…( ومنها ) ما ذكره في صفحة ثمان وسبعين على قول الناظم
فسائر الصفات والافعال ... قديمة لله ذي الجلال
…قال الشارح وسائر الافعال من الاستواء أو النزول والاتيان والمجيء والتكوين ونحوها قديمة عند سلف الامة وأئمتها لله ذي الجلال والاكرام ليس منها شيء محدث وإلا لكان محلا للحوادث وما حلت به الحوادث فهو حادث تعالى الله عن ذلك انتهى .
…فأقول اعلم أنا قد قدمنا فيما قبل من كلام شيخ الاسلام ابن اتيمية وكلام تلميذه ابن القيم الذين هم سادات الحنابلة وأئمتهم ما فيه الكفاية ولكن لا بد من التنبيه على بعض ذلك ليتبين لك أن نسبة ذلك إلى سلف الامة وأئمتها من الكذب عليهم وإنما هو كلام سلف أئمة أهل البدع والضلال الذين ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة . فمن ذلك أن شيخ الاسلام ابن تيمية وابن القيم ذكرا أن مذهب السلف وأئمتها أن أفعال الله سبحانه وتعالى قديمة النوع حادثة الآحاد وأن الله سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء أو لم نزل الارادات والكلمات تقوم بذاته شيئاً بعد شيء ونحو ذلك .(108/47)
فإذا عرفت هذا تبين لك أن قول الشارح في أفعال الله الاختيارية : ليس منها شيء محدث والا كان محلاً للحوادث وما حلت به الحوادث فهو حادث تعالى الله عن ذلك- ليس هو من كلام السلف وأئمتها بل هو من كلام أهل البدع المخالفين للسلف كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى . وأما حلول الحوادث فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضياً ولا يرضى بعد أن كان غضبان ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد سيئاً بعد أن لم يكن مريداً له فلا يقول له كن حقيقة ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستوياً ولا يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن منادياً ولا يقول للمصلي إذا قال ( الحمد لله رب العالمين ) حمدني عبدي فإذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال ( أثنى على عبدي ) فإذا قال ( ملك يوم الدين ) قال مجدني عبدي )) فإن هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث انتهى ، وقد تقدم كلام شيخ الاسلام وفيه الكفاية .
ثم إن ممن المملوم عند من له إلمام بالمعارف والعلوم أن نزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر وكذلك مجيئه لفصل القضاء بين العباد يوم القيامة لم يكن قديماً قبل أن يخلق السموات والأرض في الازل بل ذلك فيما لم يزل إلى يوم القيامة بمشيئته وقدرته وإرادته كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يجيء ويأتي على ما يليق بعظمته وجلاله ومن تأمل كلام شمس الدين ابن القيم حق التأمل تبين له ما قاله أئمة السلف وتبين له أيضاً وتبين له ايضاً ما يقوله أئمة أهل البدع وما تحت ألفاظهم المحملة التي لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولم يتكلم بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعون ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين والله أعلم .(108/48)
وكذلك ما قاله الشارح بعد هذا قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ليس لا حد أن يفسره إلا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . فأقول قد تقدم الكلام على ذلك وإنما مقصود السلف بذلك تأويله وصرفه عن ظاهره . وأما قوله وسمع الامام أحمد رحمه الله شخصاً يروي حديث النزول ويقول ينزل بغير حركة ولا انتقال ، ولا تغير حال ، فانكر الامام أحمد عليه ذلك وقال قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كان اغير على ربه منك . فاقول نعم قد كان أحمد ينكر هذه الألفاظ التي لم يأت بها كتاب ولا سنة ولا نطق بها أصحاب رسول الله عليه وسلم ولا من بعدهم من التابعين وكان يحب السكوت عن ذلك كما قدمنا ذلك عنه في الحد .
ولأئمة السلف ومنهم أحمد كلام في الحركة والانتقال فنذكر من ذلك ما تبين به صحة مذهب السلف وبطلان ما خالفهم من كلام أهل البدع . قال شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه في العقل والنقل بعد كلام طويل قال فيه : والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب . وكان الناس قبل ابي محمد بن كلاب صنفين فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا .(108/49)
وهذا فاثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك ابو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وغيرهما وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر أحمد بهجره وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب واتباعه ثم قيل عن الحادث أنه رجع عن قوله وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين ورجع قول ابن كلاب وذكر ذلك في قوله تعالى ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) وأمثال ذلك .(108/50)
وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرمائي وعثمان بن سعيد الدرامي وغيرهما بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وان ذلك هو مذهب ائمة السلف والحديث من المتقدمين والمتأخرين وذكر حرب الكرمائي قول من لقيه من أئمة السلف كأحمد بن حنبل واسحق بن راهوية وعبدالله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وقال عثمان بن سعيد وغيره : أن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم ، وطائفة أخرى من السلفين كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب الصحيح وأبي بكر بن خزيمة وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء ويسمون ذلك فعلاً ونحوه لكن يمنعون عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء كأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن بطة وأمثالهما ومنهم من يوافق الأولين كأبي عبد الله بن حامد وأمثاله – ثم ذكر كلاماً – طويلاً إلى أن قال : وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد وإسحق وغيرهما وذكر معهما من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وغيرهم ما ذكر – إلى أن قال : وادركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أوطعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحق وإبراهيم بن مخلد وعبدالله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من اشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك إلى أن قال : وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه ، وله حد الله أعلم بحده والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله(108/51)
غيره والله تعالى سميع لا يشك ، بصير لا يرتاب ، عليم لا يجهل ، جواد لا يبخل حليم لا يعجل ، حفيظ لا ينسى ، يقظان لا يسهو رقيب لا يغفل ، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبضض ويبسط ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) إلى أن قال : ولم يزل منكلما عالما ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) اهـ .
والمقصود أن ذكر عن أئمة السلف في أفعال الله الاختيارية التي تتعلق بمشيئته وقدرته الحركة فليس لنا أن نعدل عن قولهم ونأخذ بمذاهب أهل البدع وآرائهم .(108/52)
وقال شيخ الاسلام أيضاً في العقل والنقل : وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف ( بنقص عثمان بن سعيد ، علي المريسي الجهمي العنيد ، فيما افترى على الله في التوحيد ) قال : وادعى المعارض أيضاً أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول هل من مستغفر هل من تائب هل من داع )) قال : وادعى أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش وبكل مكان من غير زوال لأنه الحي القيوم بزعمه من لا يزول ( قال ) فيقال لهذا المعارض وهذا أيضاً من حجج النساء والصبيان ، ومن ليس عنده بيان ، ولا لمذهبه برهان ، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان ، فمال بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويوقت من الليل شطره والاسحار ، أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار ، أو يقدر الامر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا (( هل من داع فأجيبه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فاعطيه ؟ )) فإن أقررت مذهبك لزمك أن تدعى أن الرحمة والامر هما اللذان يدعوان العباد إلى الاجابة والاستغفار بكلامه دون الله وهذا محال عند السفهاء فكيف عند الفقهاء ؟ قد علمتم ذلك ولكن تكابرون ؟ وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر ثم يرفعان لأن رفاعة راوية يقول في حديثه (( حتى ينفجر الفجر )) قد علمتم إن شاء الله تعالى أن هذا التأويل باطل ، ولا يقبله إلا ساهل ، وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منكم هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما شاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ، ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء ، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك . كل حي متحرك لا محالة كل ميت غير متحرك لا محالة . ومن يلتفت إلى(108/53)
تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ، ورسول رب العزة ؟ إذ فسر نزوله مشروعاً منصوصاً ، ووقت لنزوله وقتاً مخصوصاً ، ولم يدع لك ولاصحابك فيه لعباً ولا عويصاً . انتهى والله أعلم .
( ومنها ) ما ذكره الشارح في صفحة الثلاثين على قول الناظم
وكل ما يفعله العباد
لربنا من غير ما اضطرار ... من طاعة أو ضدها مراد
منه لنا فافهم ولا تمار
قال الشارح وكل ما أي فعل يفعله العباد من طاعة وهي متعلق المدح في العاجل ، والثواب في الآجل ، أو ضدها أي وكل ما يفعله من ضد الطاعة وهي المعصية يعني ما فيه ذم في العاجل ، وعقاب أو لوم في الآجل مراد لربنا تعالى داخل تحت أرادته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير انتهى .
فأقول اعلم وفقك الله تعالى أن الشارح والناظم اطلقا لفظ الارادة من غير تفصيل ولا بيان وهو كلام مجمل موهم من جنس ما تقدم من الالفاظ التي نبهنا عليها من كلام أهل البدع فإن الظاهر من هذا اللفظ الذي أطلقه الشارح والناظم إنما يراد به الارادة الكونية القدرية في المسألة تفصيل قد ذكره المحققون من أهل العلم لأن الارادة إرادتان إرادة كونية قدرية وإرادة دينية شرعية .(108/54)
وبيان ذلك بما ذكره شيخ الاسلام بن تيمية قدس الله روحه في منهاج السنة حيث قال ( الوجه الثالث ) طريقة الائمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم أن الارادة في كتاب الله نوعان إرادة تتعلق بالامر وإرادة تتعلق بالخلق فالارادة المتعلقة بالامر ان يريد من العبد فعل ما أمر به ، وأما إرادة الخلق فإن يريد ما يفعله هو فإرادة الامور هي المتضمنة للمجة والرضا وهي الارادة الدينية ، والارادة المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الارادة الكونية القدرية ، فالاولى كقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله ( يريد الله ليبين لكم ) إلى وقوله ( يريد الله ان يخفف عنكم ) وقوله ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) الآية وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) الآية الثانية كقوله تعالى ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام من يرد ان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) وقوله ( ولا ينفعكم نصحى أن أردت أن انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) ومن هذا النوع قول المسلمين : ما شاء الله وكان وما لم يشاء لم يكن ومن الاول كقولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله منه فإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مراداً للرب عز وجل بالاعتبار الاول والطاعة موافقة لتلك الارادة وموافقة للامر المستلزم لتلك الارادة فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعاً وحينئذ فالنبي يقول له أن الله يبغض الكفر ولا يحبه ولا يرضاه لك أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالايمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار . ثم ذكر كلاماً طويلاً في منهاج السنة في الجزء الثاني من المجلد الاول في صفحة اثنين وعشرين فمن أراد الوقوف عليه فيراجعه في محله .(108/55)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في موضع آخر وقد قسم الارادة أربعة أقسام فقال رحمه الله : ( الاول ) ما تلقت به الارادتان وهو ما وقع في الوجود من الاعمال الصالحة فإن الله تعالى ارادها إرادة دين وشرع فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع ولولا ذلك لما كان ( الثاني ) ما تعلقت به الارادة الدينية فقط وهو ما أمر الله به من الاعمال الصالحة فعصى ذلك الامر الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها لو وقعت ولم تقع ( الثالث ) ما تعلقت به الارادة الكونية فقط وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لما كانت ولما وجدت فإن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ( الرابع ) من أقسام الإرادة الذي لم تتعلق به هذه الارادة ولا هذه فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي انتهى .(108/56)
إذا تبين لك هذا فاعلم أن قول الناظم والشارح يوافق ما قالته القدرية الجبرية حين ردوا ما قالته القدرية النفاة لما أنكروا القدرو زعموا أن الأمر أنف فقابلهم أولئك بالقول بالجبر (1) وانهم لا يخرجون عن قدره وقضائه نظراً منهم إلى الأمر كائن بمشيئته الله وقدره وإن ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن وأنه تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته كما قال تعالى ( أنا كل شيء خلقناه بقدر – وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله – ولو شاء ربك ما فعلوه – وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ) ونحو ذلك من الآيات ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الايمان لا بد منه في حصول الايمان وبانكاره ضلت القدرية النفاة وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الاسلام لكن لا بد معه من الايمان بالارادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب الايمانية ودلت عليها النصوص النبوية وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه وذكروا الجمع بينهما وآمنوا بكلا من الاصلين فتفطن فهذا الموضع يزيل عنك اشكالات كثيرة والله سبحانه وتعالى اعلم .
( فصل )
ومنها ذكر الشارح في صفحة خمس وثلاثين على قول الناظم .
وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى
إلى آخره .
__________
(1) اقتصر المؤلف وفقنا الله وإياه على رد الجبرية على القدرية ولم يذكر مذهب أهل الحديث ومتبعي السلف في الرد على الفريقين للجمع بين النصوص المثبتة لافعال العبد بمشيئة الله تعالى إذ عليها مدار صحة التكليف وقد أثبته وأوضحه المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء الغليل بما لم يأت بمثله أحد ، وقول المؤلف وانهم لا يخرجون عن قدره إلخ يقوله الاثريون أيضا لا الجبرية وحدهم .(108/57)
…قال الشارح : وجاز للمولى جل جلاله – وهو رب العالمين – يعذب الورى أي الخلق من غير ما ذنب أي اثم ولا جرم هو بمعنى ما قبله وعطفه عليه لزيادة البيان جرى من العدم إلى قوله حتى إثابة العاصي وعقوبة المطيع إلى قوله لأنه تعالى لو عذبهم بعدله الخالص من شائبة الظلم لأنه تعالى تصرف في ملكه ، والعدل وضع الشيء في محله من غير اعتراض على الفاعل عكس الظلم – إلى آخر كلامه .
فأقول اعلم وفقك الله أن هذا الكلام الذي قاله الناظم ، والشارح يخالف ما قاله المحققون من أهل العلم ، بل هو من كلام أهل البدع الذين قابلوا باطلاً بباطل المخالفين لأئمة السلف رضوان الله تعالى عليهم . قال شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه بعد كلام له سبق : وهذه النصوص النافية للظلم تثبت العدل في الجزاء وأنه لا يبخس عاملاً عمله ، وكذلك قوله قيمن عاقبهم ( وما ظلمناهم ولن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ) وقوله ( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) بين أن عقاب المجرمين عدلاً لذنوبهم لا لأنا ظلمناهم بغير ذنب . والحديث الذي في السنن (( لو عذب الله أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم )) يبين ان العذاب لو وقع لاستحقاقهم ذلك لا لكونه بغير ذنب . وهذا يبين أن من الظلم المنفي من لم يذنب . وكذلك قوله ( وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلماً للعباد ) يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلماً بل لاستحقاقهم ذلك وأن الله لا يريد الظلم . والامر الذي لا يمكن القردة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته ، وإنما يكون المدح بترك الافعال إذا كان الممدوح قادراً عليها فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله وبذلك يصح قوله (( إني حرمت الظلم على نفسي )) وأن التحريم هو المنع .(108/58)
وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته فلا يصلح أن يقال حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي أو جعل المخلوقات خالقة ونحو ذلك من المجالات وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه إني أخبرت عن نفسي بأن ما لايكون مقدوراً لا يكون مني وهذا المعنى مما يتقين المؤمن أنه ليس مارد الرب وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء ولا ما يستفيده المستمع فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله لأنه حرمه على نفسه وهو سبحانه منزه مقدس عنه يبين ان ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك كقول بعضهم : الظلم وضع الشيء في غير موضعخ كقولهم : من اشبه ابه فما ظلم فما وضع الشبه غير موضعه . ومعلوم أن الله سبحانه حكم عدل لا يضع الاشياء الا مواضعها ، ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعا لذاته بل هو ممكن لكنه لا يفعله لانه لا يريده بل يكرهه ويبغضه إذ قد حرمه على نفسه .
وكذلك من قال : الظلم اضرار غير مستحق ، فان الله لا يعاقب أحداً بغير حق . وكذلك من قال هو نقص الحق ، وذكر أن اصله النقص كقوله ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً ) وأما من قال هو التصرف في ملك الغير ، فهذا ليس بمطرد ولا منعكس فقد يتصرف الانسان في ملك غيره بحق ولا يكون ظالماً ، وقد يتصرف في ملكه بغير حق فيكون ظالماً . وظلم العبد نفسه كثير في القرآن . وكذلك من قال: فعل المأمور خلاف ما أمر به ونحو ذلك . أتسلم صحة مثل هذا الكلام ؟ فالله سبحانه قد كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم فهو لا يفعل خلاف ما كتب ولا يفعل ما حرم . وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبهنا عليها فيه ، وغنما نشير إلى النكت .(108/59)
وبهذا تبين القول المتوسط وهو : أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه مثل أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها ويعاقب البرئ على ما لم يفعل من السيئات ويعاقب هذا بذنب غيره أو يحكم بين الناس بغير القسط ونحو ذلك من الأفعال التي ينزه الرب عنها لقسطه وعدله وهو قادر عليها ، وإنما استحق الحمد والثناء لانه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه . وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب فهو أيضا منزه عن افعال النقص والعيب وعلى قول الفريق الثاني ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلا ، والكتاب والسنة وإجماع سلف الامة وأئمتها يدل على خلاف إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى فمن أراد الوقوف عليه فهو في المجلد الاول من الفتاوى في صفحة اثنين وأربعين وثلاث مئة إذا تحققت ، هذا وتبين لك من شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً من عباده بغير ذنب لأنه نزه نفسه عن ذلك فلا يريده بل يكرهه ويبغضه لأنه حرمه على نفسه وغن كان قادراً عليه فتبين بهذا خطأ الناظم والشارح حيث توهما أن ذلك جائز بغير ذنب ولا جرم استحق به العقاب والعذاب فإن هذا هو حقيقة قول الفريق الثاني الذين قابلوا باطلاً بباطل حيث قالوا ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلاً .(108/60)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شفاء العليل في مناظرة جرت بين سني وجبري قال السني في جواب الجبري ، وصرحت بأنه يجوز عليه أن يعذب أشد العذاب لمن لم يعصه طرفة عين فإن حكمته ورحمته لا تمنع ذلك بل هو جائز عليه ولولا خبره عن نفسه بأنه لا يفعل ذلك لم تنزهه عنه وقلت عن تكليفه عباده بما كلفهم به منزلة تكليف الاعمى للكتابة والزمن للطيران عن فبغضت الرب إلى من دعوته إلى هذا الاعتقاد ونفرته عنه وزعمت أنك تقرر بذلك توحيده وقد قلعت شجرة التوحيد من أصلها وأما منافاة الجبر للشرائع فأمر ظاهر لاخفاء به فإن مبني الشرائع على الامر والنهي وأمر الآمر لغيره بفعل نفسه لا بفعل المأمور ونهيه عن فعله لا فعل المنهي عبث ظاهر فان متعلق الامر والنهي فعل العبد وطاعته ومعصيته فمن لا فعل له كيف يتصوران يوقمه بطاعته أو معصيته وإذا ارتفعت حقيقة الطاعة والمعصية ارتفعت حقيقة الثواب والعقاب وكان ما يفعله الله بعباده يوم القيامة من النعيم والعذاب أحكاماً جارية عليهم لمحض المشيئة والقدرة لا انها باسباب طاعتهم ومعاصيهم . بل هاهنا أمر آخر وهو أن الجبر مناف للخلق كما هو مناف للامر فان الله سبحانه له الخلق والامر وما قامت السموات إلا بعدله فالخلق قام بعدله وبعدله ظهر كما أن الامر بعدله وبعدله وجد ، فالعدل سبب وجود الخلق والامر وغايته فهو عليه الفاعليه الغائية والجبر لا يجامع العدل ولا يجامع الشرع والتوحيد انتهى .
والمقصود من هذا انه نفى تجويز عذاب الله عباده على ما لم يفعلوه من الذنوب والجرائم وقد نزه الله نفسه عن ذلك لأنه لا يريده بل يكرهه ويبغضه والله سبحانه وتعالى أعلم .(108/61)
وقال أيضاً رحمه الله في عدة الصابرين على قوله سبحانه ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً ) كيف يجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم كما يأتي إضاعة سعيهم باطلاً فالشكور لا يضيع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء وفي هذا رد لقول من زعم أنه يكلف عبده ما لا يطيقه ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته ، تعالى الله عن الظن الكاذب والحسبان الباطل علواً كبيراً فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله وذلك من لوازم هذه الصفة فهو منزه عن خلاف ذلك كما تنزه عن سائر العيوب والنقائص التي تنافي كماله وغناه وحمده انتهى .
وأما قول الشارح واستدل بقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام ( أن تعبهم فانهم عبادك ) فأقول هذه الآية لا تدل على ما توهمه الشارح من أنه جائز لله أن يعذب عباده من غير ذنب ولا جرم استحقوا به بل الآية تدل على خلافه كما تقدم بيانه مبيناً مفصلاً .(108/62)
وقال ابن القيم رحمة الله تعالى في مدارج السالكين على هذه الآية في صفحة مائتين واحدى عشر : وهذا من أبلغ الادب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والاحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيداً لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أنجس العبيد واعتاهم على سيدهم واعصاهم له لم يعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي احسان السيد إلى عبده ورحمته له فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الاجودين واعظم المحسنين احساناً عبيده لولا فرط عتوهم وإبائهم عن طاعته وكما استحقاقهم للعذاب وقد تقدم قوله ( إنك انت علام الغيوب ) أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم عذبتهم على علم منك لما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
( فصل )
( ومنها ) ما ذكره في القول السديد على قوله ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ) فقال ومعنى الايمان بالله أن تعتقد إنه هو الاله المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه ومعني الكفر بالطاغوت ان تعتقد بطلان عبادة غير الله إلى آخر كلامه .
فأقول اعلم وفقك الله أنه لا يكفي في الايمان بالله مجرد الاعتقاد بالقلب فقط فإن هذا هو مذهب الجهمية ومن تبعهم من أهل الكلام بل لا بد مع ذلك من مطق اللسان واعتقاد الجنان والعمل بالاركان فإن اعتقاد القلب وحده لا يكفي في النجاة بل هو مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة وأئمة الحديث وغيرهم .(108/63)
قال شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كتاب الايمان : ومن هذا الباب اقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الايمان فتارة يقولون هو قول وعمل وتارة يقولون هو قول وعمل ونية وتارة يقولون قول وعمل ونية وأتباع السنة وتارة يقولون باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وكل هذا صحيح فإذا قالوا قول وعمل فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً وهذا هو المفهوم من لفظ والكلام ونحو ذلك – إلى أن قال : والمقصود هنا ان من قال من السلف الايمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح ومن أراد أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب ومن قال قول وعمل ونية قال القول يتناول ذلك ومن زاد اتباع السنة فلان ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل وإنما أرادوا ما كان مشروعاً من الاقوال والاعمال ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولا فقط ، فقالوا بل هو قول وعمل ، والذين جعلوه أربعة فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبدالله التستري عن الايمان ما هو فقال قول وعمل ونية وسنة لأن الايمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق وإذا كان قول وعمل ونية بلا اتباع سنة فهو بدعة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة وههنا أصل آخر وهو أن حقيقة الايمان مركبة من قول وعمل قسمان قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الاسلام والعمل قسمان عمل القلب وهو نية وإخلاص وعمل الجوارح فإذا زالت هذه الأربعة زال الايمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الاجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة إلى آخر كلامه رحمه الله إذا المقصود بهذا التنبيه فمن أراد الكلام بتمامه فليراجعه هناك .(108/64)
وقال شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كشف الشبهات ما ذكره بقوله ولنختم الكلام عن شاء الله بمسئلة مهمة جداً – فذكر كلاماً ثم قال : فنقول لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فان احتفل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً فان عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما إلى أن قال : فان عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص إلى آخر كلامه وكذلك الكفر بالطاغوت لا يكفي في ذلك مجرد اعتقاد القلب فقط كما قال شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد :
باب ما جاء أن بعض هذه الامة يعبد الاوثان وقول الله تعالى ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) قال في المسائل في معنى الطاغوت ( الرابعة ) وهي من أهمها ما معنى الايمان بالجبت والطاغوت ؟ هل هو اعتقاد القلب أو هو موافقة أصحابها مع بعضها ومعرفة بطلانها ؟ انتهى
فإذا تبين هذا لك فاعلم أن اعتقاد بطلان عبادة غير الله لا يكفي في النجاة وحده بل لا بد مع ذلك من تكفيرهم والبراء منهم ومن دينهم والتصريح لهم بذلك وإظهار العداوة والبغضاء لهم كما قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ما ذكر شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب بقوله : أصل الاسلام وقاعدته أمران ( الاول ) الامر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك الموالاة فيه وتكفير من تركه ( الثاني ) الانذار عن الشرك في عبادة الله والتفليط في ذلك والمعاداة فيه وتكفير من فعله ن فذكر كلاماً طويلاً ثم قال رحمه الله تعالى .(108/65)
وقد وسم أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات فلا بد من تكفيرهم وأيضاً هذا هو مقتضى لا إله إلا الله الاخلاص فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكاً في عبادته كما في الحديث الصحيح (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )) فقوله وكفر بما يعبد من دون الله – تأكيد للنفي فلا يكون معصوم الدم والمال الا بذلك فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله فهذه الأمور هي تمام التوحيد لأن لا إله إلا الله قيدت في الاحاديث بقيود ثقال بالعلم والاخلاص والصدق واليقين وعدم الشك فلا يكون المرءا موحداً إلا باجتماع هذا كله واعتقاده وقبوله ومحبته والمعاداة فيه والموالاة انتهى .
ثم إني بعد ما حررت هذه الكلمات وقفت على ما ذكره في القول السديد أن أركان الايمان ثلاثة قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالاركان
فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإذا كان هذا هو الحق وتعتقد أنها أركان الايمان فكيف ساغ لك أن تذكر أن معنى الايمان بالله أن تعتقد أنه هو الاله المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه وقد ذكر شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات أنه لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً وأنت لم تذكر في معنى الايمان بالله في هذا الموضع إلا ركناً واحداً وهو الاعتقاد فقط وقد علمت أنه لا بد من الركنين الآخرين لأنه لا يكون الرجل مسلماً إلا بالقيام بهذه الاركان الثلاثة وقد تقدم أن مذهب الجهمية هو التصديق فقط وتقدم أقوال أئمة السلف في معنى الايمان فلا بد من المصير إلى ما ذكروه وقرروه وكذلك ما ذكرته في معنى الطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وقد كان من المعلوم أنه لا بد مع ذلك من تكفير من فعل الشرك والبراءة منه والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء فتأمل ذلك والله الموفق للصواب .(108/66)
ومنها ما ذكره في الكواكب في صفحة العشرين حيث قال في البصر ولا على سبيل تأثر حاسة
فأقول أعلم أن هذه اللفظة من جملة الالفاظ المخترعة المبتدعة التي لم ينطق بها السلف رضوان الله عليهم لا نفياً ولا إثباتاً فاعلم ذلك .
وذلك ما ذكره الشارح بقوله في السمع والبصر إنهما صفتان زائدتان على الذات وهذا القول الذي ذكره الشارح من أقوال أهل البدع كالاشاعرة وغيرهم وكما ذكره شيخ الاسلام عن ابن رشد وغيره وإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن السمع والبصر من الصفات اللازمة القائمة بذات الرب سبحانه وتعالى فكيف يجوز أن يقال إنهما صفتان زائدتان على الذات وهذا من أمحل المحال وأبطل الباطل فإن ما كان من الصفات زائداً على الذات لا يكون منها بل يكون مفارقاً لها ومن المعلوم أن ما كان مفارقاً للذات لا يكون من الصفات القائمة بذاته بل يكون مخلوقاً من مخلوقاته تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وقد قال الشيخ الامام عبدالله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في رده على الزيدية لما أثبت الصفات اللازمة القائمة بذات الله .(108/67)
قال الزيدي فإن ترد انها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الاشاعرة وهو أن يكون مع الله قدماء وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت ، قال الشيخ عبد الله في جوابه فيقال أهل السنة والجماعة يقولون إن الله تبارك وتعالى موجود كامل بجميع صفاته فإذا قال القائل دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولاً للذات المتضمنة لصفاتها ليس اسم الله اسما لذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها ولكن قول القائل غنه يلزم أن يكون مع الله قدماء ، تلبيس – فإن ذلك يشعران مع الله قدماء منفصلة عنه وهذا لا يقوله إلا من هو من أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة لأن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقاً له بوجود أو زمان أو مكان ويراد به ما أمكن العلم به دونه فالصفة لا تسمى غيراً له فعلى المعنى الاول يمتنع أن يكون معه غيره وأما المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطاً بصفات وأن يكون مستلزماً لصفات لازمة له وإثبات المعاني القائمة التي يوصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقاً وأما من جعل وجود المسلم هو وجود القدرة ووجود القدرة هو وجود الارادة فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا ممنتهي الاتحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ن ولا مخلص من هذا إلا باثبات الصفات ، مع نفي مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات – ثم ذكر كلاماً طويلاً تركناه خشية الاطالة .(108/68)
وقال المام أحمد في الرد على الزنادقة : فقالت الجهمية لنا – لما وصفنا الله : هذه الصفات أن زعمتم أن الله ونوره والله وعظمته وقدرته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا لا نقول عن الله لم يزل وقدرته ونوره ولكن لم يزل بقدرته وبنور لا متى قدر ولا كيف قدر ؟ وقالوا لا تكونوا موحدين أبداً حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول كان الله ولا شيء ، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس انما نصف غلها واحداً بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا : اخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم شيء واحد نخلة سميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد ، ولا نقول أنه كان في وقت من الاوقات ولا قدرة حتى خلق القدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ، ولا نقول أنه كان في وقت من الاوقات ولا علم له حتى خلق العلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً لا متى ولا كيف ، وقد سمى الله رجلاً كافراً اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ( ذرني ومن خلقت وحيداً ) وقد كان هذا الذي سماه الله وحيداً وله عينان واذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيداً بجميع صفاته تعالى وله المثل لا على هو بجميع صفاته إله واحد انتهى .
فتبين بما ذكره الامام أحمد أن الله سبحانه وتعالى إله واحد بجميع صفاته اللازمة القائمة بذاته ولم يقل عن هذه الصفات زائدة على ذاته كالسمع والبصر كما أن النخلة بجذوعها وكربها وليفها وسعفها وخوصها وجمارها نخلة واحدة هذه الصفات لها ولا يمكن في العقل ان السعف والليف زائدن على مسمى النخلة إذ جعل هذه المسميات من مسمى واحد وليس منها شيء زائد على ذاته والله أعلم .(108/69)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد بعد كلام سبق : حلوا لنا شبة من قال باتحادهما ليتم الدليل فانكم أقمتم دليلاً وعليكم الجواب عن المعارض فمنها أن الله وحده هو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة وللزم الا يكون له اسم في الازل ولا صفة لأن اسماءه صفات وهذا هو السؤال الاعظم الذي قاد متكلمي الاثبات إلى ان يقولوا الاسم هو المسمى فما عندكم في دفعه ؟
والجواب أن منشأ الغلط في هذا الباب من اطلاق الفاظ مجملة محتملة لمعنيين حق وباطل فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل الفاظها عليها ولا ريب أن الله تبارك وتعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال المشتقة اسماؤه منها فلم يزل واسمائه وهو إله واحد له الاسماء الحسنى والصفات العلى وصفاته واسماؤه داخلة في مسمى اسمه وان كان لا يطلق على الصفة وحدها انها اله يخلق ويرزق فليست صفاته واسماؤه غيره وليست هي نفس الاله . وبلاء القوم من لفظة الغير فإنها يراد بها معنيين أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار فلا يكون إلا مخلوقاً ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا جردت عنها . فإذا قيل علم الله وكلام الله غيره بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام كان المعنى صحيحاً ولكن الاطلاق باطل فإذا أريد أن العلم هو الكلام ( ؟ ) المغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بهما عن غيره كان باطلاً لفظاً ومعنى وبهذا أجاب أهل السنة والمعتزلة القائلين بخلق القرآن قالوا كلامه تعالى داخل في مسمى اسمه فالله تعالى اسم للذات الموصوفة بصفات الكمال ومن تلك الصفات صفة الكلام كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوق ولا يقال أنه غير الله فكيف يقال أن بعض ما تضمنه وهو اسمائه مخلوقة وهي غيره فقد حصحص الحق بحمد الله وانحسم الاشكال وان اسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه وكلامه غير مخلوق ولا(108/70)
يقال هو غيره ولا هو هو وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون اسماؤه تعالى غيره وهي مخلوقة ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسماؤه نفس ذاته ولا غيره وبالتفصيل تزول الشبهة ويتبين الصواب والحمد لله انتهى .
إذا تبين هذا فقد كان معلوماً بالاضطرار ان اسماء الله وصفاته من الله وإنها داخلة في مسمى اسمه لا مغايرة له ولا منفصلة عنه . وقال الشيخ عبد الله ابن شيخ الاسلام محمد أيضاً في رده الزيدية بعد كلام ذكره عن أهل البدع في لفظ الغير : ولهذا اطلق كثير من مثبتة الصفات عليها انها اغيار للذات وقالوا يقولون ( ؟ ) انها غير الذات ولا يقول انها غير الله فان لفظ الذات لا يتضمن الصفات بخلاف اسم الله فانه يتناول الصفات ولهذا كان الصواب على قول أهل السنة أن لا يقال في الصفات انها زائدة على اسم الله بل من قال ذلك فقد غلط عليهم ، وإذا قيل هل هي زائدة على الذات أم لا ؟ كان الجواب أن الذات الموجودة في نفس الامر مستلزمة للصفات فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات بل ولا يوجد شيء من الذوات مجرداً عن جميع الصفات بل لفظ تأنيث ( ذو ) ولفظ ( ذو ) مستلزم للاضافة وهذا اللفظ مولد ان يقال ذات علم وذات قدرة وذات سمع كما قال الله تعالى ( فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم ) ويقال فلانة ذات مال وجمال ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة وسمع وبصر رداً وعلى من نفى صفاتها عرفوا لفظ الذات وصار التعريف يقوم مقام الاضافة بحيث إذا قيل لفظ الذات فهو ذات كذا فالذات لا يكون إلا ذات علم قدرة ونحوه من الصفات لفظاً ومعنى وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم الصفات زائدة على الذات أنها زائدة على ما اثبته نفاة الصفات من الذات فانهم أثبتوا ذاتاً مجردة لا صفات لها فاثبت اهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر لا زيادة على نفس الله جل جلاله بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها(108/71)
ولا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات والمقصود هنا بيان بطلان كلام هذا المعترض .
إذا تأملت هذا فاعلم أن ما قاله محققو أهل السنة حيث قالوا أن الصفات زائدة على الذات إنما مرادهم بذلك انها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات فانهم أثبتوا ذاتاً مجردة لا صفات ومقصود أهل السنة انها زائدة على ما أثبته هؤلاء النفات فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر لا زيادة على نفس الله جل جلاله بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها ولا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات كما تقدم بيانه .
إذا تحققت هذا فتخصيص الشارح السمع والبصر بانهما صفتان زائدتان على الذات تخصبص لا أدري ما مقصوده بذلك وأهل السنة أطلقوا لفظ الصفات ولم يخصوا السمع والبصر فتأمل ذلك مع ان الاجمال والاطلاق في هذا الموضع وغيره تفصيل ولا تبيين لما أرادوه من إثبات الصفات الزائدة على ما ثبته النفاة من الذات يوهم من لا معرفة له بكلام أهل السنة رضوان الله عليهم أن المقصود بذلك انها زائدة على نفس الله جل جلاله وهذا من أبطل الباطل وأمحل والمحال وقد قال ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية
فعليك بالتبيين والتفصيل فالـ
كما أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... إطلاق والاجمال دون بيان
آراء والاذهان كل زمان
ثم لا يخفي عن المحب أن أهل السنة لم يقولوا أن الصفات زائدة على الذات فقط كما توهمه الشارح وإنما قالوا انها زائدة على ما أثبته النفاة من الذات لأنهم إنما أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات فتأمل ذلك والله أعلم .
وهذا آخر ما أردنا من التنبيه على هذه الورطات التي لا مخلص منها إلا باتباع مذهب السلف من أهل السنة المحضة الذين هم الاسوة وبهم القدوة في مسائل هذا الباب وغيره .(108/72)
إذا تحققت هذا فنحن لم نذكر في هذا التنبيه إلا ما ذكره أئمة الحنابلة وساداتهم الذين أخذوا بأقوال سلف هذه الأمة وأئمتها وهذا الذي ذكرناه عن الأئمة هو الذي ندين الله به وهو الحق والصواب ، الذي لا شك فيه ولا ارتياب ، وما خالقا فهو من كلام أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة . و ( الحمد لله الذي هدنا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين .(108/73)
تنوير الصدور
في
التحذير من فتنة القبور
{الجزء الثاني}
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
{الشبهة الثانية} أنهم استدلوا على جواز بناء المساجد على القبور بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في مسجد الخيف وقد ورد حديث يفيد بأنه قد قبر فيه سبعون نبياً فقد روى الطبراني بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً )) والجواب عن ذلك من وجوه :-
أحدها :- أن هذا الحديث فيه انقلاب على بعض الرواة, لأن أصل الحديث يقول (( وصلى في مسجد الخيف سبعون نبياً )) وهذا الحديث رواه الطبراني في الكبير والأوسط وقد حسن إسناده المنذري والألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة, فليس الحديث (( قبر سبعين نبياً )) بل (( صلى فيه سبعون نبياً )) فانتبه لهذا .
ثانيها :- أن الحديث الذي يقول (( قبر سبعين نبياً )) حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة, لأن فيه عبدان بن أحمد وهو الأهوازي وهذا من شيوخ الطبراني ولا توجد له ترجمة, ولأن في إسناده من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان, فقد قال فيه ابن حبان ( يغرب ) وكذلك إبراهيم بن طهمان, قال فيه ابن حبان ( أمره مشتبه, له مدخل في الثقات ومدخل في الضعفاء وقد روى أحاديث مستقيمة تشبه أحاديث الأثبات, وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات ) وقال فيه الحافظ في التقريب ( ثقة يغرب ) فهذا الحديث المذكور من الغرائب, إما من غرائب ابن شاذان وإما من غرائب ابن طهمان .(109/1)
ثالثها :- أن هذا الحديث بهذه الحالة كيف يكون معارضاً للأحاديث التي في أعلى درجات الصحة والتي تنهى عن اتخاذ القبور مساجد وكيف تترك دلالتها في صراحتها وصحتها من أجل هذا الحديث الغريب الضعيف؟ هذا لا يفعله إلا أهل الأهواء الذين يتركون الأدلة الواضحات المحكمات الصريحات إذا لم توافق أهواءهم ويجنحون إلى الاستدلال بالواهيات المحتملات الضعيفات والموضوعات والمتشابهات و إلا فلو أعطوا الأمر حقه وصدقوا مع أنفسهم لما تركوا أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد التي هي في أعلى درجات الصحة إلى مثل هذا الحديث المنقلب الواهي .
رابعها :- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن المعدوم لا حكم له فلو سلمنا صحة حديثهم هذا لما أمكن الاستدلال به لأنه لا أثر لهذه القبور ولا يستطيع أحد أن يحدد موضعها، فهي من جملة سائر القبور التي امتلأت بها هذه الأرض وحيث ليس هناك قبر مشاهد له أثر محسوس فإن الحكم في هذه الحالة الجواز فإن النهي إنما هو في حق من يتعمد بناء المسجد على هذا القبر المخصوص بقصد تعظيمه وصرف التعبد له .(109/2)
خامسها :- أننا نكاد نجزم أن هذه القبور لا وجود لها أساساً في مسجد الخيف وأن هذا الحديث أصلاً لا أساس له من الصحة وذلك لأن الذين تحدثوا عن تاريخ مكة وتحدثوا عن تاريخ مسجد الخيف نجدهم لم يتطرقوا إلى وجود مثل هذه القبور فطالما أن هذه القبور قد خفيت معالمها ودرست فإن الخطر الذي يخشى قد زال، ولأن مسجد الخيف في هذه الأزمنة قد بني بناية عظيمة وضخمة وهذه البناية الكبيرة العظيمة العالية تحتاج إلى تعميق الحفر في الأرض ومع ذلك لم يظهر لمن حفروه ولا مطلق الأثر لهذه القبور على كثرتها، لا يقال:- لعل الدود قد أكل أصحابها؟ لأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، ولم يعرف أحد بأن لهؤلاء الأنبياء أجساداً في هذا المكان وهذا يفيدك أن هذا الحديث واهٍ وأنه لا مستند لأهل الزيغ والضلال في الاستدلال به، ولكنها الأهواء التي تعصف بصاحبها .
سادسها :- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن المتشابه يرد إلى المحكم وحيث كان هذا الحديث الذي استدلوا به من المتشابه الذي ترد عليه احتمالات كثيرة في سنده ومتنه فإن الواجب علينا هو رده إلى المحكم الذي لا تلتبس دلالته فلما رددنا هذه المسألة إلى المحكم وجدنا أن الأدلة المحكمة تقضي قضاء جازماً لا يتطرق إليه مطلق الاحتمال بحرمة اتخاذ القبور مساجد, وأتحدى رجلاً من هذه الساعة إلى يوم القيامة أن يطعن في سند هذه الأحاديث أو متنها, فالواجب علينا أهل الإسلام أن لا نبقى مع المتشابهات بل الواجب علينا رد هذه المتشابهات إلى المحكمات حتى لا نكون ممن قال الله تعالى فيهم { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ...الآية } .(109/3)
سابعها :- أنه قد تقرر لنا سابقاً أن هذا الحديث الذي يستدلون به حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجة, وهو مع ضعفه مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة وقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الحديث الضعيف إذا خالف الحديث الصحيح فإنه حديث منكر, والمتقرر عندهم أن الحديث المنكر لا يستدل به ولا يستفاد منه شيء من الأحكام الشرعية, فبان لك بذلك إن شاء الله تعالى أن استدلال عشاق الوثنية بهذا الحديث باطل وأنه لا حجة لهم فيه والله يتولانا وإياك .(109/4)
{الشبهة الثالثة} من الشبه التي يستدل بها مجوزوا بناء المساجد على القبور أنهم قالوا:- إن إسماعيل - عليه السلام - وكذلك أمه هاجر قد دفنا في الحجر بجوار الكعبة ولذلك فإنه يقال له حجر إسماعيل نسبة لدفنه فيه هو وأمه ومستندهم في ذلك روايات ذكرها الأزرقي في أخبار مكة تفيد ذلك فإنه قال في كتابه المذكور ( فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفعه إبراهيم وإسماعيل, ودفنت في مكان الحجر ) وكذلك ما أورده السيوطي عفا الله عنه من أن قبر إسماعيل في الحجر, هكذا قالوا, وفي الحقيقة إن هذه المرويات الهالكة التالفة أوجبت لكثير من العوام وأنصاف المثقفين الفتنة وفتحت باباً للقبوريين للاستدلال بها على مذهبهم الهالك في جواز بناء المساجد على القبور ونقول في جواب ذلك أولاً:- إن مثل هذه المرويات التي تثبت ذلك لابد من البحث في أسانيدها فلما نظرنا إلى المرويات فإذا هي بلا أسانيد في غالبها وإنما هي كأخبار بني إسرائيل التي لا خطام لها ولا زمام, وبين رواتها ومن رووها عنهم مفاوز تنقطع فيها أكباد المطي, فهي واهيات وأخبار معضلات لا يصح منها شيء البتة, ولا نعرف عالماً من علماء الإسلام يصحح مثل هذه المرويات, وفي كتاب الأزرقي هذا مالا يرضاه علماء أهل الحديث وفحوله فإنه لا يهتم بالصحة في النقل فليس كل شيء من المرويات يوجد في كتابٍ من كتب الإسلام يكون صحيحاً محتجاً به بل لمعرفة الصحة والضعف طرق يعرفها علماء هذا الفن, وأما السيوطي فإنه يجمع ما هب ودب وله أيادٍ مشكورة ومؤلفات مشهورة لكنه يروي بعض الأشياء جزافاً ويغرف بالمغراف من غير تمييز ولا نظرٍ في الإسناد وهذه الرواية التي فيها إن إسماعيل قد قبر في الحجر هي من فلتاته وسقطاته القليلة و إلا ولا حق له في روايتها لأنها موضوعة منكرة باطلة لا أساس لها من الصحة، فليس هناك نقل صحيح يثبت أن هاجر وإسماعيل عليه الصلاة والسلام قد قبرا في الحجر، هذا ما لا يعرفه أهل الحديث البتة، وما(109/5)
أسهل باب الوضع والكذب على من لا يخاف الله ولا يتقيه, وأما ثانياً:- فأقول:- أفلا يستحي من يروي مثل هذه الواهيات الباطلات في معارضة الأحاديث الصريحات المحكمات الصحيحات, كيف تقبل نفس عالم أن يروي الموضوعات المنكرات في مخالفة الأحاديث القاضية بأن بناء المساجد على القبور من أعظم المنكرات وأكبر المحدثات, إن هذه القضية قد فصلتها الأحاديث الصحيحة الصريحة فلا داعي إلى اختلاق مرويات تكدر صفوها وتزاحمها في قلوب العوام, فالحق وجوب إطراح كل شيء يخالف مدلول هذه الأحاديث, وأما ثالثاً:- أن منهج الأنبياء السابقين تحريم بناء المساجد على القبور وأول من ارتكب ذلك مخالفين لأنبيائهم هم اليهود والنصارى ولذا لعنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما لعنهم إلا لفعلهم محظوراً في شريعتهم وهذا يدل دلالة أكيدة أن إسماعيل - عليه السلام - وغيره من أنبياء الله تعالى ممن جاؤوا قبله وبعده قد حذروا أممهم وأتباعهم من اتخاذ القبور مساجد فلا يمكن بحال أن يقبر إسماعيل في المسجد الحرام, وأما رابعاً:- أن الولد صنو أبيه ومن المعلوم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو سيد الحنفاء, وأنه عالم العلم الكامل بالشرك ووسائله, وإن من أعظم وسائل الشرك دفن الأموات في المساجد, فكيف بالله عليك ينسب هذا الفعل إلى إسماعيل الذي هو ابن سيد الحنفاء لاسيما وأن الروايات نسبت لإسماعيل أنه دفن أمه في الحجر بيده, فكيف يصدر ذلك الفعل من إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, إن من تدبر هذا يتبين له عظم الضلال في نسبت هذه المرويات الباطلة لإسماعيل - عليه السلام -, أقسم بالله العظيم أنها مرويات باطلة وإني أباهل على ذلك, وأما خامساً:- فلأن الحكم الشرعي يفتقر في ثبوته للأدلة الصحيحة الصريحة وحيث لم تصح هذه المرويات فلا يحل إثبات جواز بناء المساجد على القبور بها عند عالم يستحق هذا الوصف البتة، وأما سادساً:- فلأن البحث هنا في بناء المساجد على(109/6)
القبور التي لا تزال مراسمها واضحة ومعالمها بينة، وأما القبور الدارسة فإنه لا اعتداد بها، لأن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة وأما ما في بطن الأرض من القبور مما اختفت معالمه واندرست مراسمه فإنه لا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تتنزه عن مثل ذلك لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، قال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا } ولو كلفنا الناس إذا أرادوا أن يبنوا مسجداً في مكان أن يتيقنوا أنها أرض ما قبر فيها أحد من الأولين ولا من الأمم الغابرة لكان ذلك من تكليف ما لا يطاق وقد تقرر أن الحرج مرفوع عن هذه الأمة، وعلى كل حال فالمرويات في هذا الموضوع كلها موضوعة لا أساس لها من الصحة فلا حجة لأحد أن يستدل بها لأنها فقدت الصحة التي هي شرط الاستدلال والله يتولانا وإياك .(109/7)
{الشبهة الرابعة} الاستدلال بفعل أبي جندل لما بنى على قبر أبي بصير مسجداً وما أسمج هذه الشبهة وأبردها, لكنها عادة أهل الأهواء فإنهم لا يتحاشون من الاستدلال بما يرونه موافقاً لأهوائهم العفنة و أفهامهم المنتنة و لو كان من أوضع الموضوعات وأفرى الفرى وأضعف الضعيف وبيان ذلك أن يقال:- إن هذه القصة قد رواها البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده من غير زيادة ( وبنى على قبره مسجداً ) وكذلك أوردها ابن إسحاق في السير عن الزهري مرسلاً وليس فيها هذه الزيادة وكذلك رواها ابن جرير في تاريخه من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري بدون هذه الزيادة, فهذه الزيادة ضعيفة جداً لأنها لم ترد من طريق الثقات وقصاراها أن ابن عبدالبر في الاستيعاب ذكرها مرسلة, وكذلك ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة مرسلة بصيغة التعريض, فهي عندهم ضعيفة لا تقوم بمثلها الحجة فأصل القصة صحيح وهي أن أبا جندل قد دفن أبا بصير أما زيادة ( وبنى على قبره مسجداً ) فإنها لا أساس لها من الصحة, فمدار هذه الزيادة على الزهري في بعض الروايات فهي مرسلة إذا قلنا إن الزهري من صغار التابعين وأنه سمع من أنس, فهي على هذا من مراسيل التابعين الصغار وقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن مرسل التابعي ضعيف, وإذا لم يثبت كون الزهري قد سمع من أنس فهذه الزيادة معضلة وكيف ما كان الأمر فإنه لا تقوم بها الحجة لأنها إما مرسلة وإما معضلة والإعضال والإرسال سبب من أسباب الضعف, بل نحن لا نسلم أنها من مراسيل الزهري لأن كثيراً من الثقات رووا عين القصة عن الزهري ولم يذكروا هذه الزيادة ونظن أنها من رواية موسى بن عقبة كما صرح به ابن عبدالبر, ومن المعلوم أن ابن عقبة هذا لم يسمع أحداً من الصحابة, فهذه الزيادة أعني قوله ( وبنى على قبره مسجداً ) معضلة بل هي منكرة لأن هذه الزيادة على ضعفها بالإعضال أو الإرسال قد خالفت الأحاديث الصحيحة الصريحة القاضية بحرمة البناء على(109/8)
القبور لاسيما بناء المساجد كما تثبته هذه الزيادة المعضلة وقد تقرر في قواعد الإسناد أن الضعيف إذا خالف الصحيح فحديثه منكر, فبان لك بذلك أن هذه الزيادة منكرة معضلة ونكارتها وإعضالها وإرسالها يجعلنا نلقيها خارجاً عن كتب الهداية وأن نحذر منها وأن نبين حالها وأن لا نرضى البتة بوجودها في مثل هذه الكتب, ويقال أيضاً:- إننا نجزم جزماً أن هذه الزيادة باطلة لأنه يبعد جداً عن أحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبني مسجداً على قبر وقد رباه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يظن ذلك بآحاد العلماء فكيف بأحدٍ من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام, ويقال أيضاً:- سلمنا جدلاً أنها ثابتة فمع ثبوتها فإنه لا حجة فيها لأنها فعل صحابي قد خالف النص المرفوع الصحيح الصريح, وقد تقرر في القواعد الأصولية أن فعل الصحابي إذا خالف المنقول الصحيح الصريح فهو مردود عليه, لأن قوله ومذهبه لا يكون حجة إلا إذا لم يخالف نصاً ولم يخالفه صحابي آخر, فهذه الزيادة المنكرة الواهية لو سلمنا ثبوتها لما كان فيها حجة لما ذكرناه بل ولو سلمنا جدلاً أنها صحيحة فإن ذلك محمول على أول الإسلام وآخر الأمرين هو النهي لحديث جندب السابق وفيه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمسٍ يقول (( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) ولكن هذه الأجوبة التسليمية لا يصار إليها إلا إذا أبى الخصم التسليم بضعف هذه الزيادة فبان لك بذلك إن شاء الله تعالى أنه لا حجة مطلقاً بفعل أبي جندلٍ هذا لأنها زيادة منكرة وضعيفة ومرسلة ومعضلة أو باطلة لمخالفتها للنص المرفوع أو لأنها قد نسخت وانتهى العمل بها, وعلى كل حال فالاحتجاج بها باطل من كل الوجوه فبان لك وجه الحق وانتفت الشبهة والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .(109/9)
{الشبهة الخامسة} استدلالهم بالحال التي عليها الآن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه فإنه في داخل المسجد النبوي وهذا استدلال يجنحون إليه لاسيما إذا كان المناقش لهم من أهل هذه البلاد السعودية وذلك ليحجوه ويقطعوا قوله, فقالوا:- هاهو قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود في داخل المسجد النبوي, بل وهذا قبر صاحبيه أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما قد دفنا داخل المسجد أيضاً بجواره عليه الصلاة والسلام, فكيف تنكرون بناء المساجد على القبور وقبور خير هذه الأمة موجودة في هذا المسجد؟ فنقول:- لنا على ذلك عدة أجوبة :-(109/10)
الأول :- أن تعلم جزماً وقطعاً أنه - صلى الله عليه وسلم - ما دفن في المسجد وهذا لا يتطرق عندنا فيه أدنى أدنى أدنى شك البتة، وإنما دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته في حجرة عائشة رضي الله عنها وقد كانت الحجرة هذه التي دفن فيها هو وصاحباه رضي الله عنهما خارجة خروجاً كلياً عن المسجد والعلة التي من أجلها دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة أمران:- أحدهما:- لأنه الموضع الذي مات بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء تدفن في المكان الذي قبضت فيه أرواحهم، بدليل حديث رواه الترمذي عن أبي بكرٍ - رضي الله عنه - قال:- سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما نسيته فقال (( ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه ))"وهو حديث صحيح" ويؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها في حديث لها وفيه (( فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري ودفن في بيتي ))"رواه البخاري في صحيحه" فهذه هي العلة الأولى، وأما ثانياً:- فلأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين قد خافوا أن يتخذ قبره مسجداً وخافوا من افتتان العوام بعدهم به، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته (( قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ثم قالت:- ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً وهو في الصحيحين، وهذا معلوم بالتواتر أي أن العلم بأنه إنما دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها هو من المعلوم بالتواتر كما نص عليه ابن كثير وغيره، ومن المعلوم أن السنة هي الدفن في المقبرة مع سائر المسلمين إلا أن قبره - صلى الله عليه وسلم - له حكمه الخاص للعلة التي ذكرتها لك قبل قليل، فهذا الأمر الأول من الجواب يجب أن نقطع به قطعاً تاماً وأن نؤمن به إيماناً جازماً وخلاصة ذلك أن نقول:- إنه - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما لم(109/11)
يدفنوا في حدود مسجد المدينة وإنما دفنوا في حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها .
الثاني :- أي الجواب الثاني على أصل الشبهة:- أن تعلم بارك الله فيك وجعلك من أتباع شريعته وأنصار سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن عصر الصحابة كله قد انقضى والحال على ما هي عليه، أي أن الصحابة قد انقضى عصرهم وقبره - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه لا تزال خارجة عن المسجد، وأن مسجده - صلى الله عليه وسلم - لا يزال على حالته الأولى في مدة خلافة أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، لم يتغير فيه شيء لا في بنائه ولا حصل له توسعة البتة، ولكن لما كان عهد عمر رضي الله عنه وكثرت الفتوحات واتسعت رقعة الإسلام وكثر الداخلون فيه رأى - رضي الله عنه - وأرضاه أن المصلحة تقتضي توسعة المسجد، فاشترى البيوت المجاورة للمسجد إلا حجر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما حجرة عائشة فإنه قال كلمته المشهورة ( ليس لنا على ذلك سبيل ) فوسع المسجد وبناه بالمواد التي بنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل عمر - رضي الله عنه - شيئاً من حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء عهد عثمان - رضي الله عنه - وكثر المسلمون والوافدون إلى المدينة وضاق بهم المسجد زاد فيه على زيادة عمر - رضي الله عنه - إلا أنه لم يتعرض لحجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يحرك فيها شيئاً ولكنه - رضي الله عنه - مع التطور المعماري في عهده بنى المسجد وشيده ببناية عظيمة مبنى جدرانه بالحجارة المنقوشة والفضة وجعل عمده من حجارة منقوشه وسقفه بالساج، وقد أنكر عليه بعض الموجودين في عهده ولكن كان يحتج عليهم بكثرة المسلمين وبقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من بنى مسجداً لله بنى الله مثله في الجنة )) لكن المقصود أن عثمان - رضي الله عنه - لم يقرب حجرات النبي - صلى الله عليه وسلم - واستمر الحال على ما هو عليه في عهد علي - رضي الله عنه - وأرضاه، واستمر(109/12)
الحال كذلك إلى عهدهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم، فأنت تلاحظ هنا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما وسعوا المسجد تحاشوا إدخال الحجرات إلى المسجد لعلمهم - رضي الله عنهم - بأن لا سبيل إلى ذلك وكذلك سائر عهد الصحابة - رضي الله عنهم - ومن نسب إليهم إدخال شيء من حجرات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كذب وأعظم على الله الفرية، فهذان الجوابان مهمان جداً ولابد من فهمهما لأن ما يأتي بعدهما مبني عليهما وهما:- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدفن في المسجد أصلاً وإنما دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وأن القبر لم يدخل في المسجد طول عهد الصحابة - رضي الله عنهم - .(109/13)
الثالث :- أن تعلم بارك الله فيك أن الحجرة التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تدخل في المسجد إلا في عهد الوليد بن عبدالملك وذلك بعد موت الصحابة جميعاً فقد مات ابن عمر وابن عباس وأبو سعيد - رضي الله عنهم -، وقال أبو العباس ( بل بعد موت عامة الصحابة فلم يكن بقي في المدينة منهم أحد ) وقد كان الوليد بن عبدالملك مولعاً بعمارة المساجد وإعادة ترميمها، ولم يكن بقي من الصحابة إلا نفر قليل كأنس بن مالك لكنه كان بالبصرة وجابر بن عبدالله أيضاً كان بالمدينة وتوفي بها، وفعل الوليد هذا كان بعد وفاة جابر بنحو عشر سنين كما أفاده أبو العباس رحمه الله تعالى، والذي أريد إثباته هنا هو أن أول من تجرأ على إدخال الحجرة إلى المسجد هو الوليد بن عبدالملك في مدة توليه للخلافة، وقد اتفق جميع أهل الإسلام على ذلك ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك، وقد أمر الوليد بن عبدالملك عامله على المدينة عمر بن عبدالعزيز بأن يشتري هذه الحجرات ممن ورثوها بعد أهلها وأن يدخلها في المسجد وهذا لاشك خطأ من الوليد عفا الله عنه وزلة من زلات الأمراء، ولم يوفق للصواب في إدخاله الحجرات في المسجد، وقد اشتد نكير السلف الموجودين في عصره لما أدخل الحجرات في المسجد، كسعيد بن المسيب رحمه الله تعالى الذي هو سيد التابعين، وغيره من التابعين، بل إن الذين ورثوا الحجرات بعد أهلها أبوا أن يبيعوها للوليد مع دفعه الأثمان الكثيرة، ولكنهم رفضوا الرفض الكامل، ولكن قوة القهر والسلطان أجبرتهم على إخلائها قسراً فإن الوليد أمر بهدمها فوق رؤوس أصحابها إذا أبوا الخروج منها، وبدأت المعاول تهدم وأهلها فيها فلما رأوا أن لا محيص عن هدمها خرجوا منها, ونحن في هذا الزمن نشهد الله تعالى بأن ما فعله الوليد لا يجوز وهو من الأخطاء العقدية المخالفة للنصوص الصحيحة الصريحة القاضية بحرمة البناء على القبور أو رفع جدرانها, وإياك أن تغتر بقول المبتدعة لما قالوا:-(109/14)
إن الصحابة لم ينكروا فعل الوليد, ذلك لأن فعل الوليد هذا كان بعد موت عامة الصحابة فلم يكن بالمدينة إذ ذاك أحد منهم, كما قدمنا لك ذلك قبل قليل, وبعد ذلك أقول:- فهل بالله عليكم يا أهل الإسلام تترك النصوص الصحيحة الصريحة في هذه المسألة والتي لا يتطرق إليها احتمال أو شك ويترك ما عليه الخلفاء الراشدون وما نهجه سائر الصحابة رضوان الله عليهم ويستدل بفعل الوليد بن عبدالملك؟ هل يحتمل ذلك عاقل فضلاً عن كونه مسلماً, فضلاً عن كونه عالماً, لا والله هذا لا يكون أبداً, فإذا كان مذهب الصحابي واجتهاده لا يقبل إذا كان مخالفاً للنص, فكيف بفعل الوليد هذا الذي ثبتت مخالفته للنصوص الكثيرة مع أنه ليس من الصحابة؟ لاشك أنه مردود من بابٍ أولى, ثم انظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) فإن الأنبياء الذين بعثوا لليهود لم يرضوا بذلك وقد حذروا منه كثيراً ولكن الأتباع من اليهود هم الذين فعلوا بقبور أنبيائهم ذلك, فهل يترك ما عليه الأنبياء ويحتجوا بفعل الأتباع المخالفين لمنهج أنبيائهم؟ فكذلك حال هذه الأمة, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته بما لا مزيد عليه من اتخاذ قبره مسجداً وعيداً حتى لا يكون قبره وثناً يعبد ولكن وقعت المخالفة ممن جاؤوا بعده كما فعله الوليد هنا, فهل يترك هذا التحذير الشديد والنصوص القاطعة ويقدم عليها فعل الوليد؟ ويقال بجواز بناء المساجد على القبور استدلال بما فعله الوليد بن عبدالملك بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ أي عقل يفكر في هذا؟ وأي لسان يتجرأ على قول مثل ذلك؟ والمقصود من ذلك أنه لا حجة في فعل أحدٍ كائناً من كان إذا كان مخالفاً لما صح من الأدلة ففعل الوليد رد عليه, وتبقى دلالة النصوص الناهية عن اتخاذ القبور مساجد صريحة في النهي سالمة عن المعارضة, ونحن يوم القيامة سوف نسأل عن ماذا أجبنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لا(109/15)
ماذا أجبنا فلاناً وفلاناً قال تعالى { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } .
الرابع :- أن تعلم علم اليقين أن الوليد بن عبدالملك وعامله على المدينة ومن تولى إدخال الحجرات إلى المسجد قد أخذوا سائر الاحتياطات لإبعاد الناس عن القبر وعلى ستره عن الأعين وعلى عدم تمكين أحد أن يطوف به أو يصلي إليه أو يمسه بيده أو يقبله أو يدعو عنده, وذلك لأنهم جعلوا على القبر جداراً على شكل دائرة أو قريبة من الدائرة, ثم جعلوا على هذه الدائرة جدارين على شكل مثلث فهو قريباً بهذا الشكل
فلا يستطيع أحد أن يدخل إلى القبور الثلاثة ولا أن يصلي عندها ولا أن يدعو عندها, فلا يزال البيت على شكله وحيازته والمسجد لا يزال على وضعه والحمد لله وما يحصل من الناس الجهال إنما يكون في مسجد الرسول وليس عند القبر لأن القبر بعيد عنهم, ومصون عنهم ولا يرونه, وهذا تحقيق لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) فاستجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بهذه الجدران الثلاثة قال ابن القيم في النونية :-
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران(109/16)
يعني:- صار القبر داخل هذه الجدران الثلاثة فلا يرى أبداً وذلك صيانةً له عن الغلو فيه عليه الصلاة والسلام, ولا يستطيع أحد البتة أن يستقبل القبر لأنه إنما يستقبل الجدار لا القبر, قال الألباني رحمه الله تعالى ( فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد احتاطوا للأمر شيئاً ما, فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم )ا.هـ. ولا تزال الدولة السعودية وفقها الله تأخذ سائر الاحتياطات لإبعاد الناس عن القبر فزادت في سماكة هذه الجدران ورفعتها فوق ما كانت عليه ووظفت عدداً من أهل الحسبة للقيام عند هذه القبور الشريفة لتوجيه الناس وردع المبتدع منهم والإنكار على ما يفعل في المسجد قريباً من القبور من البدع والضلالات, وقد رأيناهم مراتٍ عديدة يطردون الواقفين قريباً من القبور للدعاء عندها, ولا تزال هذه الدولة التي بنيت على التوحيد تبذل قصارى جهدها في حماية هذه القبور وتوجيه الناس إلى ما هو الحق والصواب, فالقبر حتى بعد إدخاله في المسجد لا يستطيع أحد البتة الوصول إليه ولا الصلاة عنده ولا رؤيته ولا الدعاء عنده ولا مسه بيده ولا يُمَكًّنُ أحد من ذلك أصلاً, فلا يزال القبر في حماية ورعاية أهل التوحيد بتوفيق الله جل جلاله محفوظاً ومصوناً من بدع المضلين وقبوريات الوثنيين, ومهما فعل من البدع فإنما هي بدع تفعل من قِبل الجهلة في المسجد لا عند القبر, فإن قلت:- فلماذا لا يهدم ما على القبر ليكون خارج المسجد فأقول:- لقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, وإن الفتنة والمضرة والمفسدة التي تحصل في هذا الهدم وهذا الإخراج في هذا الزمان أعظم بكثير من مفسدة إبقائه على حاله الراهنة فإنه مع كثرة الجهل وانتشار البدعة ومعاداة أهل التوحيد لاسيما أهل هذه البلاد المباركة, فإنه لو تحركت معاول الهدم تهدم ما على القبر من البناء لثارت الفتن التي لا نهاية لها ولتكلم الرويبضة في(109/17)