6. قال التجاني: " وسألته - - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عنى ذكرا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر وأن تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم أن يرفع الله عنهم محاسبته على كل شيء وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولاعقاب في أول الزمرة الأولى وأن يكونوا كلهم معي في عليين في جوار النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقال لي - - صلى الله عليه وسلم - ضمنت لهم هذا كله ضمانة لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين " المرجع السابق 1/96 اهـ
7. قال التجاني: " ومن أخذ عنى الورد المعلوم الذي هو لازم للطريقة أو عن من أذنته يدخل الجنة هو ووالداه وأزواجه وذرياته المنفصلة عنه لا الحفدة بلا حساب ولا عقاب بشرط ألا يصدر منهم سب ولا بغض ولا عداوة وبدوام محبة الشيخ بلا انقطاع إلى الممات وكذلك مداومة الورد إلى الممات " المرجع السابق 1/98 اهـ
8. وفي جواهر المعاني:"وأخبره - - صلى الله عليه وسلم - بقوله عليه الصلاة والسلام بعزة ربي يوم الإثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيها من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من يراك في اليومين يكتب الملائكة اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك" المرجع السابق 1/98 اهـ
9. قال في جواهر المعاني:" قيل أن أبايزيد باسطه الحق في بعض مباسطاته فقال له يا عبد السوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة، فقال له وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحدك، فقال له: لا تفعل، فسكت " المرجع السابق 1/ 132و136 اهـ
10.في جواهر المعاني: " وورد في بعض الاخبار أن الله سبحانه وتعالى يوقف العبد بين يديه فيقول له: ما الذي جرأك على معصيتي حتى خالفت أمري ؟ أو ما هذا معناه، فيقول:
العبد رب ظننت أنك تغفر لي فيغفر له لحسن ظنه " المرجع السابق 2/227 اهـ(98/188)
11. وفيه أيضا:" أن يحي ابن أكثم وكانت حالته معروفة قال بعض من رآه في النوم: وسأله ما فعل الله بك فقال غفر لي، قال قلت له لماذا، قال لي سبحانه وتعالى: فعلت وفعلت وفعلت قال: قلت إلهي ما بهذا حدثت عنك قال: وبماذا حدثت عني قال: قلت، حدثني فلان عن فلان وذكرت الرواية إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - أنه - - صلى الله عليه وسلم - يقول:إن الله يستحيي من ذي الشيبة في الإسلام أن يعذبه أو ما معناه هذا، فقال صدق فلان وفلان وذكر الرواية ثم قال لي اذهب فقد غفرت لك " المرجع السابق 2/227ـ 228 اهـ
12. وفيه أيضا:" قال أبو نواس الشاعر المشهور وكانت حالته معروفة قال بعض الصالحين، رأيته في النوم بعد موته في حالة حسنة محمودة قال: قلت له ما فعل الله بك، قال: غفر لي فقلت بماذا، قال لي: بأبيات قلتها عند موتي...الخ " المرجع السابق 2/228 اهـ
13. قال التجاني: " كل أعمال الناس ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق فإنها فازت بالذكر دنيا وأخرى ولا يتصل بها إلا سعيد من الناس " كشف الحجاب ص 365 اهـ(98/189)
14. قال في الجواهر:" اطلعت على مارسمه من خطه ونصه: " أسأل من فضل سيدنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي وجميع ما ولد آبائي وأمهاتي من أبوي إلى الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة من جهة أبي ومن جهة أمي من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت عيسى ابن مريم من جميع الذكور والإناث والصغار والكبار وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أومعنوي من مثقال ذرة فأكثر وكل من نفعني بنفع حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر من خروجي من بطن أمي إلى موتي وكل من له علي مشيخة في علم أو قرآن أو ذكر أو سر من كل من لم يعادني من جميع هؤلاء أما من عادانى أو أبغضنى فلا وكل من أحبنى ولم يعادنى وكل من والاني واتخذني شيخا أو أخذ عني ذكرا وكل من زارني وكل من خدمني أو قضى لي حاجة أو دعا لي كل هؤلاء من خروجي من بطن أمي إلى موتي وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم ووالدي أزواجهم وكل من أرضعني وأولادهم وبناتهم ووالديهم ووالدي أزواجهم يضمن لي سيدنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ولجميع هؤلاء إلى أن نموت أنا وكل حي منهم على الإيمان والإسلام وأن يؤمننا الله وجميعهم من جميع عذابه وعقابه وتهويله وتخويفه ورعبه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة وأن تغفر لي ولجميعهم جميع الذنوب ما تقدم منها وما تأخر وأن تؤدي عني وعنهم جميع تبعاتنا وتبعاتهم وجميع مظالمنا ومظالمهم من خزائن فضل الله عز وجل لا من حسناتنا وأن يؤمنني الله عز وجل وجميعهم من جميع محاسبته ومناقشته وسؤاله عن القليل والكثير يوم القيامة وأن يظلني الله وجميعهم في ظل عرشه يوم القيامة وأن يجيزني ربي وكل واحد من المذكورين على الصراط أسرع من طرفة العين على كواهل الملائكة وأن يسقيني الله وجميعهم من حوض سيدنا محمد - -(98/190)
صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وأن يدخلني ربي وجميعهم جنته بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى وأن يجعلني ربي وجميعهم مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس ومن جنة عدن أسأل سيدنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بالله أن يضمن لي ولجميع الذين ذكرتهم فيه هذا الكتاب جميع ما طلبت من الله لي ولهم في هذا الكتاب بكماله ضمان يوصلني وجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب إلىكل ما طلبته من الله لي ولهم فأجاب - - صلى الله عليه وسلم - بقوله الشريف: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبدا إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في أعلى عليين وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانة لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام" جواهر المعاني 1/96ـ97 والدرة الخريدة 4/27-28 اهـ
15. قال التجاني لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم -:" إن كنت بابا لنجاة كل عاص مسرف على نفسه تعلق بي فنعم وإلا فأي فضل لي فقال - - صلى الله عليه وسلم - أنت باب لنجاة كل عاص تعلق بك " رماح حزب الرحيم 2/413 اهـ
16. وفي بغيةالمستفيد: " أن من جملة ما ذكره سيدنا - - رضي الله عنه - من فضل هذا الورد العظيم عن نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم أن كل من أخذه عن الشيخ أو عمن عنده الإذن الصحيح في التلقين يكون مقامه ومستقره من فضل الله تعالى في أعلى عليين بجوار سيد المرسلين وإمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ويغفر الله له تعالى بفضله من ذنوبه الكبائر والصغائر وتؤدي عنه التبعات من خزائن الرب المجيد القادر ولذلك كان آمنا من أن يروعه هول المحشر أو يؤلمه ضنك القبر وأزواجه وأولاده المنفصلون عنه دنية وكذا أبواه داخلون معه في هذا الخير الجزيل بفضل الله بشرط أن لا يصدر بغض من الجميع في هذا الشيخ الجليل وجانبه الأعز المنيع " بغية المستفيد ص 273 اهـ(98/191)
17. قال التجاني:" وسألته - - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عني وردا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر وأن تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة لا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقال لي النبي - - صلى الله عليه وسلم - ضمنت لك هذا ضمانا لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين " الجيش الكفيل بأخذ الثأر ص 214ـ 215 والدرة الخريدة 4/27 اهـ
18. قال في الرماح:" رأيت شيخنا التجاني - - رضي الله عنه - وأرضاه في واقعة من الوقائع وبيده حلة من نور وقال لي - - رضي الله عنه - وأرضاه وعنا به من رأى هذه الحلة دخل الجنة ثم ألبسني إياها - - رضي الله عنه - " الرماح 1 /360 اهـ
19. قال التجاني: " إن أصحابنا لا يدخلون المحشر مع الناس ولا يذوقون مشقة ولا يرون محنة من تغميض أعينهم إلى الاستقرار في عليين " المرجع السابق 2/425 اهـ
20. قال التجاني: " أخبرني سيد الوجود أن كل من أحبني فهو حبيب النبي - - صلى الله عليه وسلم - لا يموت حتى يكون وليا قطعا " المرجع السابق 2/421 اهـ
21. قال التجاني: " كل من أخذ وردنا وداوم عليه إلى الممات يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب هو والداه وأزواجه وذريته إن سلم الجميع من الإنتقاد " المرجع السابق 2/422 اهـ
22. قال التجاني: " قال لي سيد الوجود: أنت من الآمنين وكل من أحبك من الآمنين أنت حبيبي وكل من أحبك حبيبي وفقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأصحابك أصحابي وكل من أخذ وردك فهو محرر من النار " اهـ ؛ قال الفوتي قلت: ولهذا صار أهل طريقته صحابيين بهذا المعنى. المرجع السابق 2/421 اهـ
23. قال التجاني: " أن سيد الوجود قال له من نظر إلى وجهك غفر الله تعالى له " المرجع السابق 2/425 اهـ(98/192)
24. قال التجاني:" طائفة من أصحابنا لو اجتمع أكابر أقطاب هذه الأمة ما وزنوا شعرة من أحدهم " الإفادةالأحمدية ص 40 اهـ
25. قال التجاني:" هو - - صلى الله عليه وسلم - كفاني الحضور مع أصحابي عند الموت وعند السؤال " المرجع السابق ص 69 والدرة الخريدة 1/101-102 اهـ
26. قال التجاني في فضائل الفاتح لما أغلق:"ومن جملتها أيضا أن الله تعالى يعطيه ثواب جميع الخالائق ومن جملتها أيضا أن الله تعالى يعطيه ثواب سبعين نبيا كلهم بلغوا الرسالة " جواهر المعاني 1/100 اهـ وفي الدرة الخريدة (1/142)ما نصه: " قال التجاني: يعطي الله لأصحابنا ثواب الأنبياء قلت له ثواب الأعمال أو ثواب المرتبة؟ قال ثواب الأعمال والمرتبة "اهـ
27. قال التجاني:" لو أجتمع أهل السموات السبع وما فيهن والأرضين السبع وما فيهن على أن يصفوا ثواب الفاتح لما أغلق ما قدروا " المرجع السابق 1/109 اهـ
28. قال التجاني ما نصه:" وأما فضل وظيفة اليوم والليلة وهي لاإله إلا الله والله أكبر إلخ فمن ذكرها في الصباح ثلاثا لا يكتب عليه ذنب في ذلك اليوم ومن ذكرها في المساء ثلاثا كذلك لا يكتب عليه ذنب في تلك الليلة حتى يصبح " المرجع السابق 1/111 اهـ
29.قال صاحب بغية المستفيد:" ومن فضائل أصحاب سيدنا - - رضي الله عنه - ومآثار أهل طريقه التي اختصهم بها مولاهم ومزاياهم التي تفضل بها عليهم بجوده وكرمه وأولاهم ما أخبر به سيدنا - - رضي الله عنه - تبشيرا لهم وترجية وتأكيدا لنور إيمانهم وتقوية من أن مراتبهم يوم القيامة عند ربهم الملك القادر الفاعل بالإختيار أكبر من مقامات من عداهم من الأولياء المقربين الأبرار وذلك لما لحقهم بفضل الله تعالى وسابق عنايته من بركة أستاذهم الذي طابوا من طيبه وشرفوا بولايته " بغية المستفيد ص 276 اهـ(98/193)
30. قال التجاني:" شفعني الله في أهل عصري ومرة قالها فقال خليفته على حرازم - - رضي الله عنه - وزيادة عشرين سنة فأقر الشيخ - - رضي الله عنه - مقاله ذلك واستحسنه فظهر أنه مما ساره به قبل ذلك الزمان ثم استفاض بعد ذلك " المرجع السابق ص 220 والإقادة الأحمدية ص 69 اهـ
بهذه الأنقال الثلاثين يتبين أن أحمد التجاني إنما يربي أتباعه على الأمن من مكر الله إنطلاقا من عقيدته الخبيثة القائلة بوحدة الوجود إذ تقتضى أنهم الإله الخالق فلماذا يخافون العذاب ؟ ومن الذي سيعذبهم ؟ !
فاعرف مقامك في درك العلوم ولا
تعرض لمن خاض فيها شاسع الشقق
فأنت ويحك في وهد الحضيض فلا
تمدد يديك لمأوى فارق الأنق
ادعاء التجانية معرفة الغيب المطلق
قال مفتاح التجاني:
" وأما قول هذا الجاهل المغرض هل تعتقد أن التجاني يعلم الغيب المطلق حتى ما تخفي القلوب من أحوال أم تؤمن أن الله - { لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول - } واعتراضه على قول علي حرا زم في جواهر المعاني ج 1 ص153 - 154: " ومن كماله - - رضي الله عنه - - يعني الشيخ التجاني - ونفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهرت مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب وغيرها من إظهار مضمرات وإخبار بمغيبات وعلم بعواقب الحاجات وما يترتب عليها من المصالح والآفات وغير ذلك من الأمور الواقعات فيعرف أحوال قلوب الأصحاب وتحول حالهم وإبدال أعراضهم وانتقال أغراضهم وحالة إقبالهم وإعراضهم وسائر عللهم وأمراضهم ويعرف ما هم عليه ظاهرا وباطنا. اهـ وما نقل عن الرماح ج 1 ص 28 والدرة الخريدة ج 1 ص 219 وبغية المستفيد ص 226 مما هو مندرج فيما قاله علي حرازم هنا فالجواب عليه من خمسة أوجه:(98/194)
أولها: أنني لا أعتقد أن أحدا من الأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم من الملائكة والأولياء المقربين يعلم الغيب المطلق الذي هو العلم الإحاطي بحقائق ودقائق الكليات والجزئيات على الجملة والتفصيل وأعتقد أن الله يطلع الشيخ التجاني وغيره من الأولياء على الكثير من أحوال وضمائر الناس... الخ " اهـ ص38-39.
والرد عليه من أربعة أوجه:
الوجه الأول:
أعلم أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته أن هؤلاء التجانيين يدعون الغيب المطلق الذي استأثر الله بعلمه مثل ما يكون في المستقبل من أمور - { وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا - } [لقمان 34 ] بل بالغوا في شيخهم حتى جعلوه - { يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون - } [ القصص 69] بل - { يعلم السر وأخفي - } [طه 7 ].بل ادعوا أنه يعلم مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلمها إلا الله.
وإليك نصوصهم الصريحة في ادعاء علم الغيب.
1- قال علي حرازم ما نصه: وسألته - - رضي الله عنه - - يعني التجاني - في قوله تعالى - { وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو - } فأجاب - - رضي الله عنه - بقوله نفى الله العلم بالغيب عن الخلق بهذه الآية فلا يعلمها أحد سواه لكن العلم المنفي ما كان للخلق إليه طريق وطرق العلم إلى الخلق من أحد ثلاث: إما بحاسة من الحواس وإما بطريق السمع وتبليغ الخبر وإما بطريق الفكر وهو النظر في أمور معلومة يتوصل بالنظر فيها إلى العلم بأمور مجهولة فهذه الطرق هي المنفية عن الخلق وبقيت الطريق الرابع وهي ما يقذفه الله في قلب العبد بغير حاسة ولا واسطة ولا فكر ويسمى هذا بالعلم اللدني فإن هذا العلم غير منفي على الرسول ولا على غيره من النبيين والمرسلين يشهد بهذا قوله سبحانه وتعالى - { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضي من رسول - } قال المرسي أو صديق أو ولي " جواهر المعاني 1/166 اهـ أنظر كيف ادعى معرفة مفاتيح الغيب.(98/195)
2- قال في الرماح ما نصه: " وينبغي على المريد أن يعتقد في شيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة رماح حزب الرحيم1/28 اهـ فانظر كيف جعل الشيخ ربا يعلم - { ما تخفي الصدور - } .
3 - وفي الرماح ما نصه: " حكى القشيري في رسالته أن شقيقا البلخي وأبا تراب النخشى قدما على أبي يزيد وقدمت السفرة وشاب يخدم أبا يزيد فقال شقيق كل معنا يا فتى فقال أنا صائم فقال أبو تراب ولك أجر صوم شهر فأبي فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبويزيد دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب بعد مدة وقطعت يده بسرقة الرماح 1/ 338 اهـ
4 - وقال في بغية المستفيد: " وأما مكاشفاته - - رضي الله عنه - بمعنى إخباره بالأمر قبل وقوعه فيقع على وفق ما أخبر به فلا يكاد ينحصر ما حدث به الثقات عنه - - رضي الله عنه - وقد ذكر في الجامع أنه - - رضي الله عنه - كان كثيرا ما يستره بقوله قلبي يحدثني بكذا أو وقع في خاطري كذا فيخرج كما قال وذكر فيه أيضا ما يفيد أنه - - رضي الله عنه -كان يخبر بقدوم الغائب قبل أن يقدم فيكون ذلك وفق ما أخبر به وذكر من ذلك أنه أخبره مرة وهو معه في بلاد الصحراء بقدوم الأمير الظالم إذ ذاك فكان ذلك وأنه - - رضي الله عنه - أخبره مرة أخرى بخراب قرية قبل وقوعه فوقع وأنه أخبر مرة أخرى أيضا بقدوم بعض أصحابه فكان كما قال بغية المستفيد ص 246 والدرة الخريدة 1/64 اهـ(98/196)
5 - وقال أيضا ما نصه: " أن الخليفة المعظم سيدي علي حرازم - - رضي الله عنه - كان حين أراد التوجه إلى بيت الله الحرام يذكر لبعض الخاصة ممن يساره بالأمور أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - زوجه بنت بتونس وكان يصفها وربما ذكر اسمها واسم أبيها ثم لما سافر ووصل تونس حرسها الله كان ما أخبر به قال المحدث فلم نلبث أن جاء الخبر بأنه طلقها قال فكان يقع في باطني شيء من جهة تطليقه إياها وهو أخبر أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - زوجه بها قال وكان الشيطان لعنه الله كثيرا ما يكدر عليه وقته بالوسوسة في ذلك وخصوصا حين يطيب وقته قال لي فجلست يوما مع الشيخ - - رضي الله عنه - ولم يحضر معنا ثالث فطاب لي الوقت بمحادثة الشيخ - - رضي الله عنه - ولان القلب وخشعت الجوارح فلم أشعر حتى ألقي ذلك الخاطر ببالى وأشتغل به فكري وكدر على صفوي فرفع - - رضي الله عنه - بصره إلي وأدنى رأسه مني وقال لي كانت لا تصلي ولم يزد - - رضي الله عنه - على ذلك شيئا قال: فعلمت أن ذلك موجب لطلاقه إياها " المرجع السابق 248 اهـ
فانظر إلى هذه القصة المخترعة التي يهدف من خلالها الاستدلال على أن شيخه يعلم خفيات الضمائر وما توسوس به النفوس فلم يبق له إلا أن يدعي له الخلق - { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه - } [ ق 16 ].
ثم ليت شعرى كيف يأمره - - صلى الله عليه وسلم - بالزواج بهذه الكافرة التي لا تصلى ؟! وكيف يرغب هو عما اختار له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ؟!
6 - وقال في الدرة الخريدة: قلت لا مانع من كونه تعالى يطلع على غيبه بعض أصفيائه كما قال تعالى: - { فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارضى من رسول - } يعني أو ولي كما قال بعض العارفين والصحيح أنه لم ينقل من هذه الدار حتى أطلعه الله على مفاتيح الغيب فلتكن بعض خواص أمته كذلك بطريق الوراثة المحمدية. الدرة الخريدة 1/ 219(98/197)
فانظر إلى دعوى علم مفاتح الغيب مع قوله تعالى - { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو - } [ الأنعام 59 ].
7 – وفي بغية المستفيد: " ومن إخباره بالغيب عن طريق كشفه - - رضي الله عنه - إخباره بأمور لم تقع إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو التلويح فأخبر بالفتن التي وقعت بالقرب من وفاته في الغرب فكان الأمر وفق ما أخبر به وأخبر بالمسغبة العظيمة أعاذنا الله منها التي كانت بعد وفاته بنحو تسع سنين " بغية المستفيد ص 247 اهـ
8 - وفي كشف الحجاب ما نصه: " فمن ذلك ما بلغني عن أن سيدنا - - رضي الله عنه - قال له - - رضي الله عنه - بعد الاجتماع ما هذا التواني الذي فيك يا فلان حتى أنك لم تسارع للدخول في طريقتنا من أول وهلة مع أني مربيك وكفيلك قبل أن تلدك أمك ولقد كانت أمك حاملة بك فسقطت يوما على شيء كاد أن يثقب جننيها ويؤذيك في جسدك فتلقيتها برفق ولين فلم يؤثر ذلك في جسمك تأثيرا يؤدي إلى فساد الخلقة وتشويه الصورة بإذن الله تعالى وإذن رسوله - - صلى الله عليه وسلم - وإنما أصابك بعض الضرر في رأسك ودليل ذلك وجود أثر فيه وكان في رأس صاحب الترجمة حفرة " كشف الحجاب ص 172 اهـ
الوجه الثاني:
وأعلم أن ما يدعون لشيخهم من معرفة الغيب يكذبه الواقع وإليك أمثلة على ذلك:(98/198)
1 - تقول الكاهنة المشهورة لالة منانة المعروفة بشنيورة: " كنت يوما جالسة فأتانى مشاوريان فقالا لي قومي تكلمي السلطان فظننت السلطان مولانا سليمان وكان كثيرا ما يرسل إليها وتذهب إليه وكان يحبها محبة خاصة قالت فذهبت معهما حتى خرجنا على باب الفتوح أحد أبواب فاس فوجدت هناك المحلة فتقدمت إلى السلطان فلم أجده مولانا سليمان، وإنما وجدته سيد أحمد التجاني - - رضي الله عنه - ولم أعرفه من قبل قالت فصرت أتعجب مما رأيت ثم قال لي السلطان سيد أحمد التجاني ما تقولين أنت في دخول الطاعون إلى هذه المدينة فإنه لا بد من دخوله لهؤلاء الناس الذين اتصفوا بكذا وكذا وعد جملة فعال.
قال فلما سمعت منه ذلك قالت له إذا وقع الإجماع عليه من الأولياء الموجودين ولم يقدروا على حمل هذا البلاء فأنا ألقي الباس عن الناس فقال لها أو تقدري على ذلك وتتحملي به فقالت نعم فأمرها أن ترجع لمحلها فلما دخلت على باب المدينة سمعت من وراءها عمارة بارود فأصابتها فسقطت على وجهها وبقيت ساقطة حتى جاء الناس بالنعش وحملوها عليه حتى أوصلوها إلى محلها وكان الناس يسمعون البارود يتكلم فيها وهي تصيح في كل مرة إلى أن قضى الله برفع ذلك البلاء عن هذه البلد " كشف الحجاب 190 اهـ(98/199)
2 - وذكر صاحب كشف الحجاب أن جماعة من تلاميذ التجاني: " ارتحلوا إلى فاس قاصدين زيارة سيدنا - - رضي الله عنه - وكان سيدنا - - رضي الله عنه - في مرضه الذي توفي فيه وقد حصل لهم في طريق سفرهم مانع أخرهم عن الوصول حتى بعث سيدنا - - رضي الله عنه - إلى الولية الصالحة لالة منان شنيورة المتقدمة وسألها عن سبب تأخرهم فأخبرته بأن سبب ذلك أن الترك عمال تلمسان أخذوا إبلهم فارغة لقضاء بعض أغراضهم وقد ردوها لهم ولا بأس عليهم وعما قريب يدخلون لهذه البلدة ثم بعد أن دخلت قافلتهم بنحو عشرة أيام بعث لها وقال لها أنه يحب أن يرسل القافلة لمحلها فما تقولين فقالت إن بعثها قبل يومين أو ثلاثة فذاك وإن زاد على ذلك تقع لها عطلة بسبب موت السلطان فسأل صاحبه وأي سلطان تعنى ورده إليها وقال لها لم تتيسر لنا هذه المدة فأعادت قولها الأول فبقي سيدنا - - رضي الله عنه - يومين أو ثلاثة ثم توفي - - رضي الله عنه - فحضرت جنازته فقيل لها أليس قد قلت السلطان فقالت نعم هذا هو السلطان " كشف الحجاب 197 ـ 198 اهـ
هكذا ترى أن التجاني مولع بسؤال الكهان عن الغيب لأنه لا علم له به.
3 - ونقل في بغية المستفيد عن بعض علمائهم قال " حضرت مع والدي وكان ممن أخذ الطريقة في أول ظهورها عن سيدنا الشيخ جعلنا الله في حماه وكان قد طال عهده - - رضي الله عنه - برؤيته يعني والده المذكور فسأله الشيخ من أنت فقال له إن المشايخ يعرفون تلاميذهم بظهر الغيب ويحضرون معهم عند الموت في كلام ينحو منحى هذا فقال سيدنا - - رضي الله عنه - مجيبا له عند ذلك هو - - صلى الله عليه وسلم - كفاني الحضور مع أصحابي عند الموت وعند سؤال الملكين في القبر " بغية المستفيد 279 ـ 280 والدرة الخريدة 1/102 اهـ
فانظر كيف ألقمه هذا الرجل حجرا وأفحمه في دعواه علم الغيب.
الوجه الثالث:
وإذا علمت ادعاءهم علم الغيب فإليك بيان حكم مدعيه:(98/200)
قال الله تعالى - { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله - } [ النمل 65 ] و قال: - { وما كان الله ليطلعكم على الغيب - } [ آل عمران 179 ] وقال: - { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضي من رسول - } [ الجن 26 ] وقال: - { قل إنما الغيب لله - } [ يونس 20 ] وقال - { ولله غيب السماوات والأرض - } [ النحل 77 ] وقال - { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب - } [ الأنعام 50 ]وقال: - { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء - } [ الأعراف 188 ] وقال: - { قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض - } [ الكهف 26 ] وقال: - { إن الله عالم غيب السماوات والأرض - } [ فاطر 38 ] وقال: - { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو - } [ الأنعام 59 ] وقال: - { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت - } [ لقمان 34 ] وقال - - صلى الله عليه وسلم - (( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله )) صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالي: عالم الغيب الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الحديث رقم 7379.
وفي حديث جبريل أنه قال: متى الساعة فقال له - - صلى الله عليه وسلم -:(( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشرا طها إذا ولدت الأمة ربتها وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا النبي - - صلى الله عليه وسلم - إن الله عنده علم الساعة.. الآية )) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل... الحديث رقم 50(98/201)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول قل لا يعلم من في السماوات والأرض إلا الله " صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا...ح (7380) وصحيح مسلم مع شرح النووي 3/9 واللفظ له.
من أقوال العلماء في كفر مدعي علم الغيب:
1 - قال القرطبي: "فمن قال إنه ينزل الغيث غدا وجزم به فهو كافر أخبر عنه بأمارة أدعاها أم لا وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر - إلى أن قال - وأما من أدعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريب في كفره أيضا " تفسير القرطبي 7 /2-3 اهـ
2 - قال أبو حيان الأندلسي: " ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى التصوف أشياء من إدعاء علم المغيبات والإطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم من العلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب.. " البحر المحيط 4 /145 و436 و5/ 93 اهـ
3- قال ابن حجر:"وفي الآية - يعني - { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - } - رد على المنجمين وعلى كل من يدعي أنهه يطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك لأنه مكذب للقرءان وهم أبعد شيء من الارتضاء مع سلب صفة الرسلية عنهم " فتح الباري 3/3300 اهـ(98/202)
4- قال الشوكاني:" وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق - - صلى الله عليه وسلم - (( من أتى كاهنا أومنجما فقد كفر بما أنزل على محمد ))" فتح القدير 2/123 والحديث عند أحمد والحاكم وصححه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (768) اهـ
5- قال شارح الطحاوية: " والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك – إلى أن قال – وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع:
- نوع منهم أهل تلبيس وكذب وخداع الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له.
- أويدعي الحال من أهل المحال من المشايخ النصابين والفقراء الكاذبين والطرقية الماكرين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل " شرح الطحاوية ص504 اهـ
6- وقال أب ولد أخطور الشنقيطي: " وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله وهو كذلك لأن الخلق لايعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا " أضواء البيان 2/149 اهـ(98/203)
7- قال محمد رشيد رضا: " وإذا كان الله تعالى لم يؤت الرسل ما لم يؤت غيرهم من أسباب التصرف في المخلوقات ومن علم الغيب وكان كل من التصرف بالقدرة الذاتية وعلم الغيب خاصا به عزوجل يستحيل أن يشاركه غيره فيه فمن أين جاءت دعوى التصرف في الكون وعلم الغيب لمن هم دون الرسل منزلة وكرامة عند الله تعالى من المشايخ المعروفين وغير المعروفين حتى صاروا يدعون من دون الله تعالى لما عز نيله من الأسباب والسنن الإلهية " تفسير المنار 7/425 اهـ
الوجه الرابع:
لقد ذكرت لك يا مفتاح أربعة نصوص في هذه المسألة الأول من جواهر المعاني والثاني في الرماح والثالث في الدرة الخريدة والرابع في بغية المستفيد، ورددت بزعمك على الأول فقط ولم تستطع تأويل وتحريف الثلاثة الأخرى.
ومن قدمته نفسه دون غيره
رأى غيره التأخير ذاك التقدما
تقدمت للتصدير جهلا مؤخرا
ذوي الرأي والتصدير أن تتقدما
الفراسة ليست حجة شرعية:
قال مفتاح التجاني:
"خامسها أنه لما انقطع الوحي التشريعي بانتقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى أكرم الله أمته بأن أبقى لها ثلاثة أبواب مفتوحة للاطلاع على الغيب هي الفراسة والرؤيا والإلهام.
أما الفراسة فدليلها من القرآن قوله تعالى: - { إن في ذلك لآيات للمتوسمين - } قال السيوطي في الدر المنثور ج4 ص 103 ما لفظه:( أخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: - { إن في ذلك لآيات للمتوسمين - } قال هم المتفرسون وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبن السني وأبو نعيم معا في الطب وأبن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنورالله ثم قرأ - { إن في ذلك لآيات للمتوسمين - } ... " ثم ذكر شواهد هذا الحديث عن ثوبان وأنس وأبي الدرداء وأبي أمامة انظر ص 40 - 41 اهـ
والرد عليه من وجوه ثمانية:
الوجه الأول:(98/204)
الفراسة ليست وحيا ولا علما وإنما هي ظن وتخمين قال ابن الأثير وابن منظور في تعريف الفراسة: " ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس " النهاية في غريب الحديث 3/428 ولسان العرب 6/160 اهـ
الوجه الثاني:
أما الآية التي استدل بها فليست صريحة فيما قال وبيان ذلك:
- قال آبّ بن اخطور الشنقيطي " يبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك تحصل لهم بها الموعظة والإعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسله ويبين هذا المعنى في مواضع أخرى كقوله في العنكبوت - { ولقد تركنا فيها آية بينة لقوم يعقلون - } وقوله في الذاريات - { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم - } وقوله هنا - { إن في ذلك لآيات للمتوسمين - } وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط - { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - } كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء، وقوله - { المتوسمين - } أصل التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها يقال توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه أي علامته التي تدل عليه ومنه قول عبد الله بن رواحة - - رضي الله عنه - في النبي - - صلى الله عليه وسلم -:
إني توسمت فيك الخير أعرفه
والله يعلم إني ثابت النظر
وقال آخر
توسمته لما رأيت مهابة
عليه وقلت المرء من آل هاشم(98/205)
هذا أصل التوسم وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد فعن قتادة:" - { للمتوسمين - } أي المعتبرين " وعن مجاهد:" - { للمتوسمين - } أي المتفرسين " وعن ابن عباس والضحاك:" - { للمتوسمين - } أي للناظرين " وعن مالك عن بعض أهل المدينة:" - { للمتوسمين - } أي للمتأملين " ولا يخفى أن الإعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناهما واحد وكذلك قول ابن زيد ومقاتل:" - { للمتوسمين - } أي للمتفكرين " وقول أبي عبيدة:" - { للمتوسمين - } أي للمتبصرين " فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل وإطلاق التوسم على التأمل والنظر والإعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسم
أي المتأمل في ذلك الحسن .
وقول طريف بن تميم العنبري:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلي عريفهم يتوسم
أي ينظر ويتأمل " أضواء البيان 3/118 ـ 119 اهـ
- قال ابن كثير:" أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته كما قال مجاهد في قوله - { للمتوسمين - } قال المتفرسين وعن ابن عباس والضحاك للناظرين وقال قتادة للمعتبرين وقال مالك عن بعض أهل المدينة - { للمتوسين - } للمتأملين " تفسير ابن كثير 2/ 1554
- قال الشوكاني: " - { إن في ذلك - } أي في المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم - { لآيات - } لعلامات يستدل بها - { للمتوسمين - } للمتفكرين الناظرين في الأمر ومنه قول زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسم
وقال الآخر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلي عريفهم يتوسم
وقال أبو عبيدة:" للمتبصرين " وقال ثعلب:" الواسم الناظر إليك من قرنك إلى قدمك " والمعنى متقارب وأصل التوسم التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير " فتح القدير 3/138(98/206)
- قال الرازي " واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل المتفرسين وقيل الناظرين وقيل المتفكرين وقيل المعتبرين وقيل المتبصرين قال الزجاج حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته " التفسير الكبير 5/279 اهـ
- قال أبو السعود " - { إن في ذلك - } أي في ما ذكر من القصة - { لآيات - } لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق - { للمتوسمين - } أي المتفكرين المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيئ بسمته " تفسير أبى السعود 6/285 بحاشية التفسير الكبير. اهـ
الوجه الثالث:
أما الحديث الذي تعلق به (( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله )) فلا يصح بحال من الأحوال وإليك البيان:
ورد هذا الحديث عن أبي سعيد و أبي أمامة وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وثوبان رضي الله عنهم.
- أما حديث أبي سعيد فيرويه عمرو بن قيس عن عطية عنه قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فذكره، أخرجه البخاري في التاريخ الكبير(4/1/354) والترمذي(4/132) والطبري في تفسيره (14/31) وأبو نعيم (10/281 -282) والسلمي في طبقات الصوفية ص156 والخطيب في تاريخه(7/242) والعقيلبي في الضعفاء (396) وأبو الشيخ في الأمثال (127) وابن عساكر في تاريخ دمشق (4/337 /1-2) والمايليني في الأربعين الصوفية(3/1) من طرق عن عمرو بن قيس به وقال الترمذي " حديث غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه "
قلت: معلول بثلاث علل:
العلة الأولى: ضعف عطية وهو ابن سعد العوفي الكوفي قال أبو حاتم " يكتب حديثه ضعيف " وقال سالم المرادي " كان عطية يتشيع " وقال ابن معين " صالح " وقال أحمد " ضعيف الحديث " وكان هشيم يتكلم فيه وضعفه الثوري و النسائي وابن عدي والذهبي وقال ابن حبان" لا يكتب حديثه إلا على التعجب" انظر ترجمته في الكبير للبخاري 8/7 والميزان 3/79 وتهذيب التهذيب 5/591-592 والضعفاء للنسائي ص225(98/207)
العلة الثانية: تدليس عطية وهو شر أنواع التدليس فإنه يدلس تدليس التسوية قال أحمد:" بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنى بأبي سعيد فيقول قال أبو سعيد " قال الذهبي " يعني يوهم أنه الخدري " الميزان 3/79
وذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة من المدلسين وهم من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل وقال " ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح " تعريف أهل التقديس ص 130 اهـ
العلة الثالثة: الإرسال فالصواب إرساله لا وصله قال العقيلي بعد أن رواه من طريق سفيان بن عمرو بن قيس الملائي قال:" كان يقال فذكره، قال هذا أولى " الضعفاء للعقيلي ص396 وقال الخطيب:" وهو الصواب والأول وهم " تاريخ بغداد3/191 اهـ
- وأما حديث أبي أمامة فيرويه أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عنه به، أخرجه الطبراني وعنه أبو نعيم في الحلية(6/118) وابن عدي في الكامل(4/206) وابن نصر في الفوائد (2/229 /2) والخطيب في التاريخ (5/99) وابن عبد البر في الجامع (1/196) والضياء المقدسي في المنتقى من مسموعاته بمرو (32/2و127/2) من طرق.(98/208)
وهذا الحديث ضعيف علته أبو صالح عبد الله بن صالح فإنه كثير الغلط فاحش الغفلة قال صالح جزرة:" كان ابن معين يوثقه وهو عندي يكذب في الحديث "وقال النسائي:" ليس بثقة " وقال ابن المديني:" لاأروي عنه شيئا " وقال ابن حبان:" كان في نفسه صدوقا إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له وسمعت ابن خزيمة يقول كان له جار كان بينه وبينه عداوة كان يضع الحديث على شيخ أبي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ويرميه في داره بين كتبه فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به " وقال ابن عدي:" هو عندي مستقيم الحديث إلا أنه يقع في أسانيده ومتونه غلط ولا يتعمد " وقال أحمد بن حنبل:" كان أول أمره متماسكا ثم فسد بآخرة وليس هو بشيء يروي عن ليث عن ابن أبي ذئب ولم يسمع الليث من أبن أبي ذئب شيئا " انظر ترجمته في الكامل 4/206 والميزان2/337 وتهذيب التهذيب 5/256 -261 اهـ
وأما حديث أبي هريرة فيرويه أبو معاذ الصائغ عن الحسن عن أبي هريرة أخرجه أبو الشيخ ص 126 وابن بشران في مجلسين من الأمالي 210-211 وابن الجوزي في الموضوعات (2/ 329 - 330) وقال:" لا يصح أبو معاذ هو سليمان بن أرقم متروك"
قلت: هو واه شديد الضعف آفته سليمان بن أرقم قال أحمد:" لا يساوي حديثه شيئا " وقال ابن معين:" ليس بشيء، ليس يساوي فلسا " وقال عمرو بن علي:"ليس بثقة روى أحاديث منكرة " وقال:" وقال: محمد بن عبد الله الأنصاري كانوا ينهوننا عنه ونحن شبان " وذكر عنه أمرا عظيما وقال البخاري:" تركوه وقال أبو داوود:" متروك الحديث وقال أبو حاتم والترمذي وابن خراش وغير واحد:" متروك الحديث " وقال أبو زرعة:" ضعيف الحديث ذاهب الحديث " وقال الجوزقاني:" ساقط " وقال ابن عدي:" عامة ما يرويه لا يتابع عليه " وقال أبو أحمد الحاكم والنسائي:" متروك الحديث" وقال مسلم في الكنى:" منكر الحديث " انظر ترجمته في الكبير للبخاري 2/ 2 والميزان 2/154 وتهذيب التهذيبب 4/ 168 ـ 169 اهـ(98/209)
وأما حديث ابن عمر فيرويه فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عنه أخرجه ابن جرير في التفسير(24 - 32) وأبو نعيم في الحلية (4/ 94) وقال:" غريب من حديث ميمون لم نكتبه إلا من هذا الوجه ".
قلت: هذا الحديث شديد الضعف علته الفرات ابن السائب قال البخاري:" تركوه منكر الحديث " وقال ابن معين:" ليس بشيء " وقال الدارقطني وغيره:" متروك " وقال أحمد:" قريب من محمد بن زياد الطحان في ميمون يتهم بما يتهم به ذاك " قال النسائي وابن الجوزي:" متروك الحديث " انظر ترجمته في الكبير 7/ 130 والميزان 3/ 330 وضعفاء النسائي 226 والضعفاء الصغير للبخاري 98
وأما حديث ثوبان فيرويه سليمان بن سلمة ثنا مؤمل بن سعيد بن يوسف حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي قال حدثني وهب بن منبه عن طاووس عنه أخرجه ابن جرير (24/32) وأبو الشيخ في الأمثال 128 وطبقات الأصبهانيين (223-224) وأبو نعيم في الأربعين الصوفية (ق 62/ 1) والحلية (4/81).
قلت:" هذا الحديث منكر فيه ثلاث علل ".
أسد بن وداعة شامي من صغار التابعين ناصبي يسب قال ابن معين:" كان هو وأزهر الحراني وجماعة يسبون عليا وقال النسائي ثقة " الميزان 1/ 229
مؤمل بن سعيد قال فيه ابن أبي حاتم (4/1 /375) عن أبيه:" هو منكر الحديث وسليمان بن سلمة منكر الحديث ".
سليمان بن سلمة هو الخبائري تقدم قريبا قال ابن أبي حاتم:" هو منكر الحديث " وقال أيضا:" متروك لا يشتغل به " وقال ابن الجنيد:" كان يكذب ولا يحدث عنه " وقال النسائي:"ليس بشيء " وقال ابن عدي:" له غير حديث منكر " وقال الخطيب:" الخبائري مشهور بالضعف "، ذكر له الذهبي حديثا موضوعا انظر الكامل لابن عدي 3/ 293 و الميزان 2/ 164 ـ 165 ويكفي حديث ثوبان ضعفا أن السيوطي ضعفه وأقره المناوي في فيض القدير (1/186) ويتحصل مما تقدم أن قول من قال أنه حديث حسن ليس بحسن فإنه إن لم يكن حكم ابن الجوزي عليه بالوضع صحيح فهو واه شديد الضعف.(98/210)
وأما حديث أنس بن مالك بلفظ (( إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم )) أخرجه الطبراني في الأوسط (3086) والقضاعي (2/84) فليس شاهدا له لأنه يختلف عنه في اللفظ والمعنى ولأنه منكر مداره على أبي بشر المزلق عن ثابت عن أنس به وأبو بشر المزلق اسمه بكر بن الحكم التميمي جار حماد بن زيد قال أبو زرعة:" ليس بالقوي " قال الذهبي:" روى خبرا منكرا قاله أبو حاتم عن ثابت عن أنس عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن لله رجالا يعرفون الناس بالتوسم )) الميزان 1/ 353 " وقال ابن حجر:"صدوق فيه لين " التقريب 65 اهـ
وهكذا حكم عليه أبو حاتم الرازي والذهبي بأنه منكر والمنكر لا يعتبر به.
الوجه الرابع:
وأما القصص التي ذكرت في شأن الفراسة فلم تذكر لها أسانيد حتى ننظر في صحتها على أنه لا حجة في كلام البشر دون رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الخامس:
كثير من القصص التي ذكرت تتعلق بالتأمل في سنن الله الجارية في الكون والتي من خلالها يمكن الجزم ببعض الأمور المستقبلية كالجزم الآن بسقوط الحضارة الأمريكية.
الوجه السادس:
الفراسة ثلاثة أنواع:
أ - فراسة إيمانية وهي خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة مدارج السالكين3/ 360 .
قلت: فالفراسة خواطر وأفكار ظنية تخمينية وليست أدلة مقطوعا بها ولذلك لا تثبت بها الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين.
ب - فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت من العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة المرجع السابق 3/364 .
ج - الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخُلق لما بينهما من الأرتباط الذي اقتضته حكمة الله المرجع السابق 3/ 365 .
الوجه السابع:(98/211)
أما إقسام بعض الناس على أمور لم تقع فليس له علاقة بالفراسة وإنما هي من باب (( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره )) البخاري ح 2703 ومسلم ح 4374 .
الوجه الثامن:
لم يثبت أحد من السلف الصالح حكما شرعيا واحدا بالفراسة عكس ما تلهجون به معاشر الصوفية.
قال الشاطبي:" وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين مغصوب أو نجس أو أن هذا الشاهد كاذب أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو أو ما أشبه ذلك فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمم ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لزيد على حال فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة " الموافقات 2/ 184 اهـ
الإحتجاج بالرؤى والمنامات
قال مفتاح التجاني:
" أما الرؤيا فقد ثبتت بنص القرآن ومتواتر السنة وثبت العمل بمقتضاها فيهما أما القرآن فدليلها منه قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: - { يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين - } وقوله على لسان يعقوب عليه السلام: - { يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين - } ... إلخ " ص 44 اهـ
والرد عليه من واحد وعشرين وجها:
الوجه الأول:
هذه الآيات التي ذكرتها حول رؤيا الأنبياء وقياس غيرهم عليهم باطل لأنه قياس مع وجود الفارق لأن رؤيا الأنبياء وحي قال ابن القيم: " ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها " مدارج السالكين 1/123 .
الوجه الثاني:(98/212)
أنه لجهله إنما ذكر الآيات التي فيها رؤيا غير نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - وجهل الآيات التي فيها رؤياه - - صلى الله عليه وسلم - مثل - { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس - } [ الإسراء 60 ] وفي الآية الأخرى - { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله - } [ الفتح 27 ]ونحو ذلك.
الوجه الثالث:
كل الآيات التي ذكر هي في الأنبياء السابقين والخلاف في شرع من قبلنا معروف لأن الله تعالى يقول: - { ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا - } [ المائدة 48 ] أما الأحاديث فلم يذكر منها إلا اثنان:
حديث (( الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة )) وحديث (( لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات قال: الرؤيا الصالحة )) وهذا يدل على قصر باعه في علم الحديث.
الوجه الرابع:
الرؤيا الصالحة جزء من النبوة في حق الأنبياء فقط. قال أبو زرعة العراقي: " لا يتخيل من هذا الحديث أن رؤيا الصالح جزء من أجزاء النبوة فإن الرؤيا إنما هي من أجزاء النبوة في حق الأنبياء عليهم السلام وليست في حق غيرهم من أجزاء النبوة ولا يمكن أن يحصل لغير الأنبياء جزء من النبوة " طرح التثريب 8/214 اهـ
الوجه الخامس:
إنما المعنى أن الرؤيا الواقعة للصالح تشبه الرؤيا الواقعة للأنبياء التي هي في حقهم جزء من أجزاء النبوة فأطلق أنها من أجزاء النبوة على طريق التشبيه المرجع السابق. .
الوجه السادس:
قال الخطابي:"وإنما كانت من أجزاء النبوة في حق الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم لأن الأنبياء صلوات الله عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ثم قال وقال بعض أهل العلم معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة " معالم السنن للخطابي 4/129 اهـ(98/213)
ورجح ابن حزم هذا القول قال " وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل يتكلف " ورجحه أيضا ابن العربي " الفصل لابن حزم 3/ 190 وعارضة الأحوذي 9/125 اهـ
الوجه السابع:
الإجماع منعقد على أن الرؤيا لا تثبت الأحكام. قال العراقي:" قد يفهم من كون الرؤيا جزء من أجزاء النبوة ولم يذكر أنها جزء من الرسالة أنه لا يعتمد عليها في إثبات حكم وإن أفادت الاطلاع على غيب فشأن النبوة الاطلاع على الغيب وشأن الرسالة تبليغ الأحكام للمكلفين ويترتب على ذلك أنه لو أخبر صادق عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - في النوم بحكم شرعي مخالف لما تقرر في الشريعة لم نعتمده وذكر بعضهم أن سبب ذلك نقص الرائى لعدم ضبطه وقد حكي عن القاضي حسين أن شخصا قال له ليلة شك رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - وقال لي صم غدا أو نحو ذلك فقال له القاضي: قد قال لنا في اليقظة لا تصوموا غدا فنحن نعتمد ذلك أو ما هذا معناه " اهـ.
وحكى القاضي عياض الإجماع على عدم اعتماد المنام في ذلك. طرح التثريب 8/215
الوجه الثامن:
والرؤيا لا تكون لبيان الأحكام الشرعية بل للبشارة في الغالب قال - - صلى الله عليه وسلم -: (( لم يبق من النبوة إلا المبشرات )) قالوا: وما المبشرات: (( الرؤيا الصالحة )) الموطأ 2/957 والبخاري في التعبير باب المبشرات ح (6990 ) بنحوه
الوجه التاسع:
الرؤيا منها ما هو رحماني ومنها ما هو نفساني ومنها ما هو شيطاني قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - (( الرؤيا ثلاث:حدث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله )) البخاري في التعبير باب القيد في المنام (7017) بنحوه ومسلم برقم( 2263) متفق عليه واللفظ للبخاري وعليه فلا اعتبار إلا لنوع واحد منها.
الوجه العاشر:(98/214)
قال عبد العزيز بن ناصر الجليل: " ينبغي الحذر من تلاعب الشيطان بالناس في رؤيا المنامات فكم ضل أفراد بل أقوام بسبب الرؤيا في النوم فعطلت أحكام واتخذت مواقف بنيت عليه أعمال ما أنزل الله بها من سلطان بل واعتدي بسببها على معصومين كل ذلك بسبب رؤيا في النوم من ورائها الشيطان في غالب الأحيان وقد يبرم الشيطان كيده وألاعيبه مع ذريته في نشر رؤيا واحدة بين فئام من الناس حتى تتواطأ رؤياهم فلا يشكون بصدقها فيعملون بها ويبنون عليها مواقف وهذا حاصل مشاهد " هامش مدارج السالكين 1/124 اهـ
الوجه الحادي عشر:
قال الشاطبي: " وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون رأينا فلانا الرجل الصالح فقال لنا اتركوا كذا واعملوا كذا ويتفق مثل هذا كثيرا للمتمرسين برسم التصوف وربما قال بعضهم رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا " الإعتصام للشاطبي 1/189 اهـ
الوجه الثاني عشر:(98/215)
وقد كمل الدين بنزول - { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا - } [ المائدة 3 ] فلا يحتاج إلى رؤيا ولا غيرها ولا تقبل أيضا إن غيرت ما كان مستقرا في الشرع لو قال الشخص أنه رأى النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال الشاطبي: " وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضا لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر مخالف فمحال لأنه - - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائى النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئا من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول إن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقا لم يخبره بما يخالف الشرع " الاعتصام 1/191 اهـ
الوجه الثالث عشر:
قال محمد أفندي الرومي في كتابه الطريقة المحمدية حاكيا عن الصوفية: " وأنا إذا صدر منا مكروه أو حرام نبهنا بالنوم بالرؤيا فنعرف بها الحلال والحرام وإنما فعلنا مما قلتم أنه حرام لم ننه عنه في المنام فعلمنا أنه حلال قال: ونحو هذا من الترهات كله إلحاد وضلال إذ فيه ازدراء للشريعة الحنيفية والكتاب والسنة النبوية وعدم الاعتماد عليهما وتجويز الخطأ والبطلان فيهما العياذ بالله فالواجب على كل من سمع مثل هذه الأقاويل الباطلة الانكار على قائله والجزم ببطلان مقاله بلا شك ولا تردد ولا توقف ولا تلبث وإلا فهو من جملتهم فيحكم بالزندقة عليهم " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية 162 ـ 164 اهـ
الوجه الرابع عشر:
وقال عبد الغني النابلسي في شرحه لهذا الموضع: " وهذا القول من غلبة الجهل عليهم وفساد عقولهم لأنهم في أحكام شريعتهم يتكلون على ما يرونه في مناماتهم من الخيالات الشيطانية والوساوس النفسانية لعدم اعتنائهم بالحلال والحرام ورفضهم بالكلية لشرائع الإسلام " الحديقة الندية ص 162 اهـ(98/216)
الوجه الخامس عشر:
وأعلم أن رؤيا أهل الكفر والفسوق والعصيان لا تنسب إلى النبوة لقوله في الحديث (( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح )) قال القاضي أبو بكر بن العربي: " رؤيا المؤمن الصالح هي التي تنسب إلى أجزاء النبوة ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها قال وعندي أن رؤيا الفاسق لا تعد في أجزاء النبوة " عارضة الأحوذي 9/127 اهـ
قلت: وأي كفر وفسوق بعد القول بوحدة الوجود ومحبة الله للكفار وإنكار الوعيد وتفضيل كلام البشر على كلام خالق البشر.... إلخ
الوجه السادس عشر:
قال سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم: " وكذا من رأى النبي - - صلى الله عليه وسلم - في النوم يأمره وينهاه لا يجوز اعتماده وإن كان من رآه في النوم فقد رآه حقا وإن كان على غير صفته المعروفة في الدنيا عند الجمهور لعدم ضبط الرائى" نشر البنود 2/170 اهـ
الوجه السابع عشر:
قال آب بن أخطور الشنقيطي في معرض كلامه على الإلهام: " والحق فيه ما ذكره المؤلف من أنه ينبذ بالعراء أي يلغى ويطرح بالفضاء إذ لا يثبت الشرع إلا بدليل ومثل الإلهام ما لو رأى النبي - - صلى الله عليه وسلم - يامره أو ينهاه في النوم لأن النائم لا يضبط " نثر الورود 2/576 اهـ
الوجه الثامن عشر:(98/217)
الاحتجاج بالرؤيا بعد وفاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - طعن في كمال الدين واستدراك على رب العالمين قال الشوكاني: " ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا - - صلى الله عليه وسلم - قد كمله الله عز وجل وقال: - { اليوم أكملت لكم دينكم - } ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته - - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فيها بقول أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة فى أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت وإن كان رسولا حيا وميتا وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله - - صلى الله عليه وسلم - أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة " إرشاد الفحول ص 416 اهـ
الوجه التاسع عشر:
أن الرؤيا تحتاج إلى تعبير غالبا ولا يمكن أن يجزم بالتأويل الصحيح على سبيل القطع إلا بالنسبة للأنبياء قال العلامة رشيد رضا: " والرؤى صور حسية في الخيال تذهب الآراء والأفكار في تعبيرها مذاهب شتى قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التي عبرها يوسف عليه السلام ورؤياه هو في صغره " تفسير المنار 11/150 اهـ
الوجه العشرون:
قال الشاطبي: " ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر فرأى الحاكم في منامه أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال له لا تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ولا بشارة ولا نذارة لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة وكذلك سائر ما يأتى من هذا النوع " الموافقات 2/183-184 اهـ
الإلهام ليس حجة شرعية
قال مفتاح التجاني:(98/218)
" وأما الإلهام فدليله من القرآن قوله تعالى: - { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه - } قال القرطبي ج 13 ص 259 كان إلهاما قال وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية وقال ابن كثير ج 2 ص 78 الذى عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال - { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم من أهل القرى - } وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله على ذلك الإجماع...." إلخ ص 45
والرد عليه من ثمانية عشر وجها:
الوجه الأول:
كل ما قلته من كلام في هذا الموضوع فهو حول إثبات الإلهام وهذا لا نزاع فيه أصلا وإنما النزاع في الاحتجاج به لكنك عند ما لم تجد دليلا على حجيته لجأت كعادتك على ما لا علاقة له بالموضوع.
الوجه الثاني:
عامة أهل العلم على أن الإلهام ليس بحجة في دين الله قال العلامة تاج الدين السبكي " الإلهام إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر يخص به الله تعالى بعض أوليائه وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره خلافا لبعض الصوفية " جمع الجوامع في أصول الفقه ص 111 ؛ قلت وقد نقله القسطلاني محتجا به ومقررا له. المواهب اللدنية( 2/300 )
الوجه الثالث:
قال سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم في المراقي:
وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
وقال في الشرح: والإلهام إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة يخص به الله تعالى بعض أصفيائه وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان فيها وهذا هو معنى قولنا " وينبذ الإلهام " البيت نشر البنود ( 2/170 )
الوجه الرابع:(98/219)
قال الشيخ آبّ بن اخطور الشنقيطي في شرح هذا البيت: " يعني أن الإلهام ليس بحجة لعدم الثقة بإلهام من ليس معصوما فلا تؤمن دسيسة الشيطان فيه والنبذ الطرح والإلغاء والعراء الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر والإلهام إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال يخص الله به من شاء والحق فيه ما ذكره المؤلف من أنه ينبذ بالعراء أي يلغي ويطرح بالفضاء إذ لا يثبت الشرع إلا بدليل " نثر الورود شرح مراقي السعود ( 2/576 )
قال عند قول المصنف:
" لا يحكم الولي بلا بدليل من النصوص ومن التأويل
هذا البيت بين فيه المؤلف نبذ إلهام الأولياء بالعراء فبين أن معناه أنهم لا يحكمون أي لا يثبتون حكما من أحكام الله تعالى إلا بدليل من الأدلة الشرعية من نص صريح أو مؤول غير ذلك لانعقاد الإجماع على ان الأحكام الشرعية لا تعرف إلا بأدلتها وقد كان - - صلى الله عليه وسلم - ينتظر الوحي فيما لم يرد عليه فيه نص " المرجع السابق ( 2/577 )
الوجه الخامس:
وقد كان الأكثرون من الصوفية لا يحتجون بالإلهام حتى قال الشاذلي: " ضمنت لنا العصمة في الشريعة ولم تضمن لنا في الخواطر " نشر البنود (2/170 )
الوجه السادس:
قال صاحب الطريقة المحمدية: " وقد صرح العلماء بأن الإلهام ليس من أسباب المعرفة بالأحكام " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ص 164
الوجه السابع:
قال في شرح مرقاة الوصول: " إن إلهام النبي - - صلى الله عليه وسلم - وحي بأن يريه الله تعالى بنوره كما قال تعالى - { لتحكم بين الناس بما أراك الله - } وهو حجة منه لأمته يجب عليهم اتباعه بخلاف إلهام الأولياء فإنه لا يكون حجة على غيره. المرجع السابق ص 164
الوجه الثامن:
في شرح العقائد للتفتزانى: " والإلهام المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق " الحديقة الندية ص 164
الوجه التاسع:(98/220)
قال صاحب الحديقة الندية وهو من أكابر الصوفية: " فأعلم أن الإلهام ليس حجة عند علماء الظاهر والباطن بحيث تثبت به الأحكام الشرعية فيستغنون بذلك عن النقل من الكتاب والسنة، بل هو طريق صحيح لفهم معاني الكتاب والسنة عند المحققين من علماء الباطن بعد تصحيح العمل على مقتضى ما فهم بالاجتهاد من معاني الكتاب والسنة وإلا كان وسوسة شيطانية لا يجوز العمل به" المرجع السابق ص 165
الوجه العاشر:
ثم ما يلقى في قلب الملهم ليس محققا من كونه من عند الله تعالى قال ابن القيم: " فمن أين للمخاطب أن هذا خطاب رحماني أو ملكي ؟ بأي برهان أو بأي دليل ؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقي في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع " قيل لي وخوطبت " صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر ابن الخطاب - - رضي الله عنه - لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه " إني لأظن الشيطان - فيما يسترق من السمع - سمع بموتك فقذفه في نفسك " فمن يأمن القراء بعدك يا شهر " مدارج السالكين ( 1/114 )
الوجه الحادي عشر:
قال الشوكاني: " ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة " إرشاد الفحول ص 415
الوجه الثاني عشر:
إذا عرفت أن الإلهام ليس حجة شرعية فلا بد إذن لصاحبه من رده إلى كتاب الله وسنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال ابن حجر العسقلاني: " إن المحدث منهم إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له بل لا بد له من عرضه على القرآن فإن وافقه أو وافق السنة عمل به وإلا تركه ". فتح الباري ( 3/1670 )
الوجه الثالث عشر:(98/221)
أن كثيرا مما يسميه الصوفية إلهام إلهي إنما هو خطاب حالي نفسي قال شمس الدين ابن القيم في كلامه على الإلهام: " النوع الثالث خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدأ وإليها يعود وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه " مدارج السالكين ( 1/115 )
الوجه الرابع عشر:
لقد أثبت الطب النفسي المعاصر أن كثيرا مما تدعيه النصرانية والصوفية من الإلهامات أنه أمراض نفسية قال عبد العزيز بن ناصر الجليل: " وقد تكون أيضا نتاج مرض نفسي ألم بهذه النفوس فتخيلت ما لم يكن موجودا وهذا ما أثبته الطب النفسي المعاصر وأنه عرض من أعراض ما يسمى بانفصام الشخصية " المرجع السابق هامش ( 1/116 )
الوجه الخامس عشر:
واعلم أن الصوفية إنما يتشبثون بالإلهام لأنهم يجعلونه وسيلة إلى قولهم بوحدة الوجود قال ابن القيم: وحاصل هذا الإلهام أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الإتحادية القائلون بوحدة الوجود فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود " المرجع السابق ( 1/119 )
الوجه السادس عشر:
قال آب بن أخطور الشنقيطي: " وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث (( استفت قلبك وإن أفتاك وأفتوك )) لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام " أضواء البيان 4/124
الوجه السابع عشر:
قال الشاطبي: " فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع بل عدوا أنه من الشيطان " الموافقات 2/188 اهـ
الوجه الثامن عشر:(98/222)
لو قلنا بحجية الإلهام لكان حاكما على الشرع والشريعة حاكمة لا محكومة قال الشاطبي:" الثاني أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم أو تقييد إطلاق أو تأويل ظاهر أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكما عليها وصارت هي محكوما عليها بغيرها وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم منه " المرجع السابق 2/190 ـ 191
خرافة العلم اللدني حيلة لإلغاء الشرع
قال مفتاح التجاني:
" وأما قول هذا المعترض: هل يمكن أن تستغني عن الرسل وتأخذ العلم عن الله مباشرة مع أن الله يقول: - { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا - } الآية واعتراضه على ما نقله علي حرازم في جواهر المعاني ج 1 ص 12 عن الشيخ محيى الدين بن عربي أنه كتب إلى الشيخ فخر الدين الرازي صاحب التفسير رسالة يقول فيها " اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الرجل لا يكمل في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن من كان علمه مستفادا من نقل أو شيخ فما برح من الأخذ عن المحدثات إلى أن قال له فيها: وكان الشيخ الكامل أبو يزيد البسطامي - - رضي الله عنه - يقول لعلماء عصره " أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت " واعتراضه أيضا على قول الشيخ التجاني في جواهر المعاني ج 1 ص 153 قيل إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطاته فقال له يا عبد السوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة فقال له: وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد فقال لا تفعل فسكت " اهـ ص 48.(98/223)
إلى أن قال مفتاح التجاني: " ثالثها أن المحققين من فهماء العلماء وصلت عقولهم إلى أن العلم ينقسم إلى أربعة أقسام: علم الرواية وقد فاز به الحفاظ وعلم الدراية وقد فاز به الفقهاء وعلم النظر والقياس والاستنباط وقد فاز به المجتهدون وعلم المكافحة وهو العلم اللدني الذي يفيضه الله على قلوب أوليائه المقربين من غير واسطة مشهودة " اهـ ص 50
والرد عليه من اثنا عشر وجها:
الوجه الأول:
كل شيء في جواهر المعاني فهو كلام التجاني وهو ملزم به لأن على حرازم لما كتب أجازه التجانى بل تدعون معشر التجانيين أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أجازه واعتمده ونسبه إلى نفسه وهذا الكلام نقله في جواهر المعاني مقررا له ومستدلا به. قال في بغية المستفيد: " وبعد أن فرغ منه - يعني جواهر المعاني- أحضره بين يديه يعني التجاني - وأجازه في سائر ما فيه وكتب له بخط يده المباركة أوله وآخره بذلك في مسجد الديوان " بغية المستفيد ص 183 اهـ
وقال في بغية المستفيد أيضا: " ومما بلغنا في فضل هذا الكتاب عن سيدنا - - رضي الله عنه - أن سيد الوجود - - صلى الله عليه وسلم - نسبه إليه فقال فيه كتابي هذا وأنا ألفته " المرجع السابق اهـ
وفي كشف الحجاب " ولم يؤلفه - - رضي الله عنه - إلا بعد إذنه - - صلى الله عليه وسلم - له فيه " كشف الحجاب ص 71 اهـ
الوجه الثاني:(98/224)
لقد حذفت من وسط كلام صاحب جواهر المعاني ما فيه الحجة الدامغة عليك حيث حذفت بعد قوله: " فما برح الأخذ عن المحدثات... ما نصه: " وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفصيلها فإنه حظه من ربه عز وجل لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفنى الرجل فيها ولا يبلغ إلى حقيقتها ولو أنك يا أخى سلكت على يد شيخ من أهل الله عز وجل لأوصلك حضرة شهود الحق تعالى فتأخذ منه العلم بالأمور عن طريق الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر كما أخذه الخضر عليه السلام فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين وكان الشيخ الكامل أبو يزيد البسطامي..." جواهر المعاني 1/14 ـ 15 إلخ ما تقدم .
فانظر إلى الكذب والخيانة والخديعة التي وقعت فيها وإن تعجب فعجب قول شيخه الذي حذفه " فلا علم إلا ما كان عن كشف... إلى آخره. فهل يقول هذا مؤمن بالرسل والكتب ؟!!
العلم للرجل اللبيب زيادة
ونقيصة للأحمق الطياش
مثل النهار يزيد أبصار الورى
نورا ويعمى أعين الخفاش
الوجه الثالث:
وإليك أخي القارئ الكريم أمثلة على ادعائهم للوحي من نصوص كلام التجاني:
أ - قال التجاني: " الأمر العام الذي كان يأتيه عاما للأمة طوي بساط ذلك بموته - - صلى الله عليه وسلم - وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص فإن ذلك في حياته وبعد مماته دائما لا ينقطع " جواهر المعاني 1/103 اهـ
فانظر كيف جعل الشرع للعوام وجعل لهم شرعا خاصا بهم.
ب - قال التجاني: " وأما أصحاب باطن الألوهية وهم الصديقون فوحيه إليهم أن كشف لهم أحوال الغيب جهارا وأسمعهم سبحانه وتعالى لذة مساررته لهم لتبدي حقائق تلك الأسرار لكن وإن بلغوا ما بلغوا من وحي الله إليهم تقصر رتبتهم عن مرتبة الأقطاب كما أن الأقطاب وإن بلغوا ما بلغوا من وحي الله إليهم تقتصر مرتبتهم عن مرتبة النبيين عليه الصلاة والسلام " المصدر السابق 1/203- 204 اهـ(98/225)
ج - وقال التجاني: " ومن الوحي أيضا ما يكون بالنظر في مراتب الأسماء والصفات وما تستحقه من الخواص فيأخذ منها فيضا إلهيا ووحيا ربانيا يعلم به حكم الغيب وصريح الأمر الإلهي ومن الوحي ما يكون بطريق الورود يرد عليه الوارد في حضرته من عند الله تعالى في منزلة الرسول من عنده فيلقى إليه ما يلقى من التعريفات والأسرار والعلوم وكشف الغيوب وتحقيق الأمر " المصدر السابق 1/204 اهـ فانظر كيف جعلوا أنفسهم في الوحي في منزلة الرسول أليس هذا هو ادعاء النبوة بصريح العبارة يا عباد الله ؟
د - وقال التجاني: " اعلم أن عند الصديق بل عند كل صديق من العلم القطعي من عند الله بطريق الوحي التحقيقي بما أفاض عليه من العلوم وعرفه من حقائقها " المصدر السابق 1/ 215 اهـ
بهذه النصوص الصريحة يتبين لكل أحد ما هم عليه من ادعاء النبوة حيث يدعون الوحي إليهم وحصولهم على العلم من غير طريق رسول - - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الرابع:(98/226)
قال القرطبي قال شيخنا أبو العباس: " ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه الأحكام الشرعية فقالوا هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها الأنبياء والعامة وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم وقالوا وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسي من تلك الفهوم وقد جاء فيما ينقلون " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " قال شيخنا - - رضي الله عنه -: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب لأنه إنكار ما علم من الشرائع فإن الله تعالى قد أجرى سنته وانفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه وهم المبلغون عنه رسالتهم وكلامه المبينون شرائعه وأحكامه اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك كما قال تعالى: - { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير - } وقال تعالى: - { الله أعلم حيث يجعل رسالته - } وقال تعالى: - { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين - } إلى غير ذلك من الآيات وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق إلى معرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل فمن قال إن هنالك طريق أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حتى يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا - - صلى الله عليه وسلم - الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبي بعده ولا رسول وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله(98/227)
تعالى وأنه يعمل بمقتضاه وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة فإن هذا نحو ما قاله - - صلى الله عليه وسلم -:" إن روح القدس نفث في روعي.... " اهـ تفسير القرطبي 11/40 ـ41 وعنه الشنقيطي في أضواء البيان 4/ 123 ـ 124
الوجه الخامس:
قال البقاعي: " ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر من أولياء الشيطان بالاجماع فإن رسالته - - صلى الله عليه وسلم - عامة ودعوته شاملة " مصرع التصوف ص 24
الوجه السادس:
قال ابن حجر العسقلاني: " ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء أما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم... إلى أن قال نقلا عن أبي العباس القرطبي: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت وكذا قال آخر أنا آخذ عن قلبي عن ربي وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع ونسأل الله الهداية والتوفيق ". فتح الباري 1/351
الوجه السابع:(98/228)
قال القسطلاني: " وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم والفرق أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل قال نعم، ومحمد - - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الثقلين فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه. فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه وليشهد بشهادة الحق فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى وإنما هو من أولياء الشيطان وحلفائه ونوابه " المواهب اللدنية 2/492- 493
الوجه الثامن:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد - - صلى الله عليه وسلم - فهذا كافر ملحد وإذا قال أنا محتاج إلى محمد - - صلى الله عليه وسلم - في علم الظاهر دون علم الباطن أو علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى " مجموع الفتاوى 11/225 اهـ
قال أيضا: " ومن اعتقد أن في أولياء الله من لا يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل مثل من يعتقد أن في أمة محمد - - صلى الله عليه وسلم - من يستغني عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى فإن موسى لم تكن دعوته عامة بخلاف محمد - - صلى الله عليه وسلم - فإنه مبعوث إلى كل أحد فيجب على كل أحد متابعة أمره " مجموع الفتاوى 4 /318 اهـ
الوجه التاسع:(98/229)
قال القاضي عياض المالكي: "... أو من ادعى النبوة لنفسه أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة أو أنه يصعد إلى السماء ويدخل الجنة ويأكل من ثمارها ويعانق الحور العين فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي - - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر - - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين لا نبي بعده وأخبر عنه الله تعالى أنه خاتم النبيين وأنه أرسل كافة للناس؛ وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعا اجماعا وسمعا " انظر الشفاء 2/586-587 اهـ
الوجه العاشر:
قال محمد عليش المالكي: " ويكفر إن جوز اكتساب النبوة بتصفية القلب وتهذيب النفس والجد في العبادة لاستلزامه جوازها بعد سيدنا محمد - - صلى الله عليه وسلم - وتوهين ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم" منح الجليل شرح مختصر خليل 4/464 وانظر حاشية الدسوقي 4/269 والشرح الصغير للدردير 6/149 اهـ
الوجه الحادي عشر:
وقال الشربينى: " من نفى الرسل بأن قال لم يرسلهم الله أو نفى نبوة نبي أو ادعى النبوة بعد نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - أو صدق مدعيها أو قال النبوة مكتسبة أو تنال رتبتها بصفاء القلوب أو أوحى إليه ولم يدع النبوة... فقد كفر " مغني المحتاج 4/135 بتصرف وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/395 اهـ
الوجه الثاني عشر:(98/230)
قال محمد أفندي الرومي ممزوجا بكلام الشارح عبد الغني النابلسي الدمشقي ما نصه: " (فإن حصل لنا) بفتوى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - (قناعة) أي اكتفاء (فيها) أي فقد رضينا بها (وإلا) أي وإن لم يحصل لنا قناعة بذلك (رجعنا) في تلك المسألة (إلى الله تعالى بالذات) تأكيد لاسم الجلالة... (فنأخذ) حكم تلك المسألة التي اشكلت علينا (منه) سبحانه بلا واسطة أحد وهذا القول كفر أيضا لا محالة بالاجماع من وجوه الأول التصريح بعدم الدخول تحت أحكام الكتاب والسنة مع وجود شروط التكليف بذلك من العقل والبلوغ ووصول الدعوة والكون في دار الإسلام ومنها التصريح بعدم قبول قول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - إذا أفتاه في حكم من الأحكام وأنه مخير فيه إن شاء قبله وإن شاء رده ومنها دعوى تلقى الأحكام الشرعية من الله تعالى بلا واسطة نبي وذلك دعوى نبوة " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ص 158. اهـ
رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة مستحيلة عقلا وشرعا
قال مفتاح التجاني:
" وأما اعتراض هذا الجاهل المغرض على قول الشيخ التجاني - - رضي الله عنه - في جواهر المعاني ج 1 ص 114 " ثم أمرني بالرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته - - صلى الله عليه وسلم - عن فضلها؛ فالجواب عنه أن ما ثبت بنص القرآن ومتواتر السنة من لقي النبي - - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء ليلة أسري به ونصيحة موسى له بطلب التخفيف عن أمته ونصيحة إبراهيم الخليل له بأن يأمر أمته بالاكثار من الحوقلة أصل أصيل فيما يقع للأولياء الورثة المحمديين من الإجتماع بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة وأخذ العلوم عنه في حياته البرزخية " اهـ ص 51 .
والرد عليه من اثنا عشر وجها:
الوجه الأول:(98/231)
اعلم أن رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته لم يقل بها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أتباع التابعين ولا من بعدهم من الأئمة المجتهدين ولا أحد من المسلمين إلا ثلة قليلة من غلاة المتصوفة القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود فخالفوا اجماع الأمة خلفا عن سلف قال القاضي أبو بكر بن العربي: " ووغلا صالح فيه فقال كل الرؤيا والرؤية بعين الرأس حقيقة وهذا حماقة " عارضة الأحوذي 9/130
الوجه الثاني:
رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته مستحيل شرعا من عدة وجوه:
1 - أنه - - صلى الله عليه وسلم - قد مات فادعاء حياته بعد موته قبل البعث تكذيب لقوله تعالى: - { إنك ميت وإنهم ميتون - } [ الزمر 30 ] وقوله تعالى: - { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون - } [ الأنبياء 95 ].
2 - إذا كان يحيا لكل شخص ممن ادعى رؤيته فسوف يموت موتات كثيرة ويحيى عدة مرات وهذا مخالف لقوله تعالى - { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون - } [ البقر 28 ]. ولا يتعارض ذلك مع حياة الأنبياء في قبورهم فإن تلك حياة برزخية تختلف عن هذه الحياة الدنيوية وهي من الغيب والغيب لا يكيف قال العلامة محمد رشيد رضا: " والحق أن كل ما ورد في حياة الشهداء والأنبياء بعد الموت فهو من أخبار الغيب التي لا يقاس عليها ولا يتعدى فيها ما صح منها عن المعصوم باجماع علماء المسلمين " تفسير المنار 11/432 اهـ
3 – أنه قال في الحديث (( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة )) البخاري ح ( 6993 ) ومسلم ( 266) وقد رآه ملايين البشر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين في المنام ولم يدع أحد منهم أنه رآه في اليقظة فحمل الحديث على الرؤية في اليقظة في الدنيا يؤدي إلى تكذيب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وتلك غاية الكفر والإلحاد.(98/232)
قال ابن حجر العسقلاني: " ويعكر عليه أن جمعا جما رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف " فتح الباري 3/3124 اهـ
4 - القول برؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة والأخذ عنه بعد موته يستلزم وصفه - - صلى الله عليه وسلم - بالتقصير في نصح الأمة وتبليغها وإصلاح أمرها لأنه لم يأت لمحاصري دار عثمان فينهاهم كما لم يرشد الصحابة في وقعة الجمل وصفين وتركهم يتقاتلون ولو رأوه يقظة لتوقفوا عن ذلك وكذلك ما خرج لجيش بني أمية في وقعة الحرة فينهاهم إلى غير ذلك من الحوادث العظيمة والخطوب الجليلة.
الوجه الثالث:
القول برؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته مستحيل عقلا قال القرطبي: " وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانيين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من المعقول وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول " فتح الباري 3/3123 والمواهب اللدنية 3/399 اهـ
الوجه الرابع:
وأما تعلقه بحادثة الإسراء والمعراج فمردود من وجهين:
أ - الإسراء والمعراج كانا معجزتين للنبي - - صلى الله عليه وسلم - خاصة لا يقاس عليه غيره من الأنبياء أحرى من دونهم.
ب - أن هذه المسألة من باب العقائد وهي توقيفية لا يدخلها القياس.
الوجه الخامس:
وأما تعلقه بحديث (( من رآنى في المنام فسيراني في اليقظة )) تقدم قريبا وفي رواية (( فقد رآني )) البخاري ح ( 6994 ) و مسلم ح ( 2264 ) وفي رواية (( من رآني فقد رأى الحق )) البخاري ح (6996 ) ومسلم ح ( 2261 ).
فمردود من وجوه:(98/233)
أ - لا يمكن حمله على رؤيته يقظة في الدنيا لما تقدم من رؤية كثير من الناس له من عصر الصحابة إلى الآن في النوم ولم يره أحد منهم في اليقظة ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق المصدوق.
ب - قال ابن بطال قوله (( فسيراني في اليقظة )) يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها وخروجها على الحق " فتح الباري 3/3123 وقد رجح هذا الوجه ابن حجر العسقلاني فقال: " والذي يظهر لي أن المراد (( من رآني في المنام )) على أي صفة كانت فليستبشر ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله لا الباطل الذي هو الحلم " ورجحه ابن العربي في العارضة المرجع السابق 3/3125 وعارضة الأحوذي 9/131 . قلت ويؤيده رواية (( فقد رأى الحق )).
ج - وقال ابن التين " المراد من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون بهذا مبشرا لكل من آمن به ولم يره أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته قاله القزاز " المرجع السابق 3/3123 اهـ
د - وقيل معنى الحديث أنه يراه يقظة في الآخرة وفي هذا بشارة لرائيه بحسن الخاتمة وهذا قول الدماميني ونصره محمد الخضر الشنقيطي انظر فتح الباري 3/3124 والمواهب اللدنية 2/296 ومشتهي الخارف الجاني ص 93 وعون المعبود 7/249 وتؤيده رواية (( فسيراني )).
هـ - وقيل أنه على التشبيه والتمثيل ويدل على ذلك رواية (( لكأنما رآني في اليقظة )) مسلم ح ( 5920 ) وأبو داود ح ( 5023 ) وابن ماجه ح ( 3904).
و – وقيل إذا رؤي على الصفة التي كان عليها في حياته لا على صفة مضادة كحاله فإن رؤي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤية حقيقة فإن من الرؤيا ما يخرج عن وجهه ومنها ما يحتاج إلى تأويل وعبارة. إكمال المعلم بفوائد مسلم 7/219
الوجه السادس:
وأما ادعاؤه بأن رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته من باب الكرامة فباطل من وجوه:(98/234)
أ - أن الكرامة هبة من الله تعالى لمن يشاء من عباده الصالحين لا تطلب ابتداءا محموع الفتاوى 11/360 وأما هم فهذه المسألة هي غاية مطلوبهم حتى قال في الدرة الخريدة: " وأما الذي هو أفضل وأعز من دخول الجنة فهو رؤية سيد الوجود - - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة فيراه الولي اليوم كما يراه الصحابة رضي الله عنهم فهي أفضل من الجنة " الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة 1/84 اهـ
ب - أن الكرامة لا تدرك بالتعلم وهم يدعون أن رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - يقظة تدرك بتعلم رياضات وأذكار بصيفة مخصوصة ومن أمثلة ذلك قوله في بغية المستفيد ما نصه: " طريقتنا أن نكثر من الصلاة عليه - - صلى الله عليه وسلم - حتى نصير من جلسائه ونصحبه يقظة مثل أصحابه ونسأله عن أمور ديننا وعن الأحاديث التي ضعفها الحفاظ عندنا ونعمل بقوله فيها " بغية المستفيد ص 79. اهـ
قال الشيخ صنع الله الحلبي: " أما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيها ولا تحد ولا قدرة ولا علم كما في قصة مريم بنت عمران وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني " تيسير العزيز الحميد ص 198. اهـ
ج - أن الكرامة أمر خارق للعادة لا يخالف النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة ورؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته في الدنيا معارضة للشرع كما تقدم .
د - أن الكرامة لا تكون إلا نادرة ولا تتكرر غالبا أما أنتم تدعون كثرة هذه الرؤية المزعومة بل دوامها حتى قال شيخكم الاكبر أبو العباس المرسي: " لو حجب عني النبي - - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين " شرح المواهب اللدنية 5/300 ـ301 اهـ
الوجه السابع:
وأما من نسب إليه مفتاح القول برؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد وفاته فهم أربعة أنواع:(98/235)
أ - علماء افترى عليهم لم يقولوا بذلك بل بعضهم أنكره مثل ابن العربي فإنه قال إنها " غلو وحماقة " المواهب اللدنية 2/300 والعز ابن عبد السلام فإنه نقل كلام ابن الحاج في ذلك فقط ولم يقل به الحاوي للفتاوى 2/245 وابن الحاج فإنه قال فقط أنه لا ينكر على من يقول بها الحاوي للفتاوى 2/245 والقاضي شرف الدين البارزي فإنه نقلها عن غيره فقط ولم يقل بها المرجع السابق 2/245 ومنهم أبو عبد الله القرطبي فإنه إنما ادعي سماع الكلام ورد السلام ولم يدع الرؤية مطلقا المرحع السابق 2/247 ومنهم نور الدين فإنه ادعي أنه سمع رد السلام من القبر الشريف ولم يدع الرؤية أصلا المرجع السابق 2/248
. فأنظر إلى تعمد الكذب على العلماء نصرة لباطله.
ب - صوفيون يؤمنون بوحدة الوجود فلا غرو في دعواهم رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - لأنهم يعتقدون انه - - صلى الله عليه وسلم - حال في كل شيء من الكون.
قال التجاني: قوله " (الساري) معناه أنه - - صلى الله عليه وسلم - سار في جميع الموجودات كسريان الماء في الأشجار لا قيام لها بدونه وتلك السراية منه - - صلى الله عليه وسلم - في الموجودات لا مطمع للعقل في دركها ولا أن يحوم حول حماها فما وصل إليها أحد من خلق الله ولا عرف لها كيفية ولا صورة وكل الوجود في حجاب عن هذا الإدراك يعني إدراك السراية منه في الموجودات فما أدركتها أكابر الملائكة العالين ولا أكابر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يشموا لها رائحة فمن دونهم أحرى وأولى لا يذوق منها شيئا وغاية السريان أنه - - صلى الله عليه وسلم - لو فقد سريانه في ذاته من ذوات الأكوان لصارت محض العدم من ساعتها " جواهر المعاني 2/421 اهـ
ج - من ذكره مرتين ليكثر به العدد كأبي عبد الله الأسنوي هو نفس محمد بن يحي الأسنوي الحاوي 2/246 .(98/236)
د - الجماعة الرابعة قالت برؤية الروح أو الرؤية الحالية كالسيوطي حيث قال: " ليست الرؤيا البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره " الحاوي 2/249 اهـ
الوجه الثامن:
أعلم أن الصوفية القائلين برؤية الأنبياء يقظة إنما يقلدون النصارى فإنهم قد اشتهروا بذلك.
قال العلامة رشيد رضا: " إن الذين يتراءى لهم المسيح أو أمه عليهما السلام أو غيرهما من القديسين عندهم كثيرون ومن الرجال المشهورين بهذا في هذا الزمان رشيد بك مطران وهو وجيه سوري من بعلبك مشهور يقيم في أروبه ويكون غالبا في باريس فهو يرى أو يتراءى له مثال السيدة مريم العذراء في اليقظة كثيرا ويسألها عن كثير مما يشكل عليه فتجيبه وحدثني الأمير شكيب أرسلان عنه أنه سألها مرة عن نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - فأجابته مثنية عليه - - صلى الله عليه وسلم - ثناء عظيما لم أحفظه " وقرأت في جريدة مرآة الغرب العربية التي صدرت في نيويورك في مارس سنة 1933 م رسالة من عمان عاصمة إمارة شرق الأردن كتبت في 26 من كانون الثاني ( يناير ) سنة 1933 م (الموافق 29 رمضان سنة 1351 هـ ) ملخصها أن امرأة نصرانية في عمان اسمها حنة بنت إلياس غابى الملقب صهر الله متزوجة ولها أولاد وأخ فقيرة مشهورة بالتقوى عرض لها منذ سنة ونصف نزيف دموي عقب الولادة وأريد عمل عملية جراحية لها فأرشدت إلى التوجه أولا إلى الطبيب السماوي فدعت يسوع ليلا ثم ذهبت إلى الكنيسة بعد منتصف الليل لتصلي وهي في حال غيبوبة أو عقب رؤيا فرأت الكنيسة خالية وشاهدت في الهيكل شخصا يحيط به نور عظيم فاشتد خوفها ورعبها فدعاها وقال لها لا تخافي أنا المسيح فركعت على قدميه وقالت له اشفني يا سيدي فقال لها حسب إيمانك يكون لك فبرئت وقرر الأطباء بعد فحصها أنه لم تبق حاجة إلى العملية الجراحية فازدادت عبادة وتقوى. ولما كان اليوم(98/237)
الرابع من هذا الشهر ك 2 من يناير شعرت في منتصف الساعة الثالثة بعد نصف الليل بيد تهزها من الكتف ففتحت عينيها فإذا نور عظيم في الغرفة وفي وسط النور شخص ملاك يقول لها سيحدث ضيق عظيم في العالم ولكن لا تخافوا وستكون لكم هذه العلامة وكان بيده كأس فغمس اليد الأخرى في الكأس وبأصابعه الثلاثة وضع على جبينها علامة ثم تركها وقال اعطوا مجد الله فقامت وصارت تمجد الله بصوت عال فهب أهلها وقالوا لها ماذا جرى لك ؟ فقالت لم تروا النور وتسمعوا الصوت ؟ قالوا لا قالت جيئوني بالضوء فلما أحضروا القنديل رأوا في جبينها علامة طائر يشبه النسر صافا جناحيه ممتدا على طول جبينها وعرضه ( أي جبهتها ) وليس ماسا للحاجبين ولا شعر الرأس ولونه عنابي كالدم ورسمه متقن كأنه رسم فنان عظيم " تفسير المنار 11/437 ـ 438 اهـ
فهؤلاء النصارى هم سلفكم في هذه المسألة ما لكم سلف سواهم.
الوجه التاسع:
وأما احتفاله بأن السيوطي ألف في هذا الموضوع رسالة فتلك قاصمة ظهره لأن السيوطي على سعة اطلاعه وضخامة المكتبة المحمودية التي كان فيها لم يستطع أن يورد حديثا واحدا في المسألة لا صحيحا ولا ضعيفا ولا مرفوعا ولا موقوفا ولا مقطوعا مع حاجته الشديدة إليه، بل صرح الحفاظ أن هذه المسألة لم ير فيها أي حديث البتة.
منهم العلامة شمس الدين السخاوي خليفة الحافظ بن حجر قال: " لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة عليه - - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتت كمدا بعد ستة أشهر على الصحيح وبيتها مجاور لضريحه الشريف ولم ينقل عنها رؤيتة في المدة التي تأخرت عنه " المواهب اللدنية 2/297 اهـ
الوجه العاشر:
ثم هؤلاء الذين يدعون الرؤية إنما يرون صور الشياطين فتخدعهم لأنها تتمثل لهم في أي صورة جميلة وتقول أنها محمد - - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء قال العلامة أدييج الكمليلي:
وما ادعوا من أخذ هذا الورد
عن الرسول يقظة لا يجدي(98/238)
إذ لم تحقق في اللقاء الدعوى
ولم تنل كرامة بطغوى
ولم يرد عن النبي المصطفي
لقياه يقظة بنور ما انطفي
فصح أن يخاطب التجاني
شيطانه من جهة العدنانى مشتهي الخارف ص 108
وقال العلامة بدر الدين ابن الأهدل: " ومراتبهم في الرؤية متفاوتة وكثيرا ما يغلط فيها رواتها فقل ما تجد رواية متصلة صحيحة عمن يوثق به أما من لا يوثق به فقد يكذب وقد يرى مناما أو في غيبة حس فيظنه يقظة وقد يرى خيالا ونورا فيظنه الرسول وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز في هذا الباب " المواهب اللدنية 2/299 اهـ
قال العلامة محمد رشيد رضا: " والراجح عندنا أن أكثر المدعين لذلك أولو كذب وحيل وتلبيس وأن أقلهم يرون بعض الشياطين من جند إبليس ولا سيما شياطين الموتي وقرنائهم العارفين بأحوالهم " تفسير المنار 11/439 اهـ
قلت: من تمثل الشيطان للصوفية ما حدث لعبد القادر الجيلاني فقد رأى الشيطان في النوم فقال أنا ربك قد أبحت لك المحرمات فقال اخسأ يا لعين فقيل له بم عرفت أنه شيطان قال بقوله أبحت لك المحرمات وبقوله أنا ربك ولم يقل أنا الله شرح المواهب اللدنية 5/298 .
الوجه الحادي عشر:(98/239)
لو كانت هذه الرؤية حقا لسبقنا إليها خير القرون وأفضل هذه الأمة صحابة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - مع حاجتهم إليه - - صلى الله عليه وسلم - قال الآلوسي عند قوله تعالى: - { خاتم النبيين - } ما نصه: " إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة بعد موته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوعه في الصدر الأول وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحد منهم ادعي أنه رأى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة وأخذ عنه ما أخذ وكذلك لم يبلغنا أنه - - صلى الله عليه وسلم - ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال حيرته وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور يا ليتني كنت سألت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - عنه ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال عنه - - صلى الله عليه وسلم - نظير ما يحكي عن بعض أرباب الأحوال وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الإخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فأرشده إلى ما هو الحق فيه ؟ وقد بلغك ما عرى فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته - - صلى الله عليه وسلم - وما جرى في أمر فدك فهل بلغك أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - ظهر لها كما ظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين لها الحال وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه - - صلى الله عليه وسلم - لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه(98/240)
الصلاة والسلام لأحد من الصحابة وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعده مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذووا الأفهام " روح المعاني تفسير سورة الأحزاب الآية وخاتم النبيين 12/55-56
الوجه الثاني عشر:
قال ابن الجوزي: " وقد أشكل على الناس رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - وقوله (( من رآني في المنام فقد رآني )) فقال ظاهر الحديث أنه يراه حقيقة وفي الناس من يراه شيخا وشابا ومريضا ومعافى فالجواب أنه من ظن أن جسد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - المودع في المدينة خرج من القبر وحضر في المكان الذي رآه هو فيه فهذا جهل لا جهل يشبهه فقد يراه في وقت واحد ألف شخص في ألف مكان على صور مختلفة فكيف يتصور هذا في شخص واحد ؟ وإنما الذى يرى مثاله لا شخصه فيبقي (( من رآني فقد رآني )) معناه قد رأى مثالى الذي يعرفه الصواب وتحصل به الفائدة المطلوبة " صيد الخاطر 497 ـ498 اهـ
تفضيل صلاة الفاتح على القرآن الكريم ستة آلاف مرة
قال مفتاح التجاني:
" وأما اعتراضه على قول التجاني - - رضي الله عنه - في جواهر المعاني ج 1 ص 114: " فأخبرني - يعني النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أولا بأن المرة الواحدة منها - يعني صلاة الفاتح - تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة " فإن غاية ما يريده هذا الجاهل المغرض وأضرابه المعترضون على الشيخ التجاني في هذه المسألة قديما وحديثا هو أن يلزموه بالقول بتفضيل صلاة الفاتح على القرآن وذلك مندفع بأمور... إلخ " ص 58.
والرد عليه من أربعة وعشرين وجها:
الوجه الأول:(98/241)
اعلم أن هذه الصلاة المخترعة مبنية على أساس عقيدة الحلول وذلك أن معني الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق أنه - - صلى الله عليه وسلم - هو الإله المتصرف في الكون فلا يفتح فيه شيء من رزق أو تدبير إلا وهو - - صلى الله عليه وسلم - الذي يفتح ذلك وأعلق الله به صور تجلياته فهو آخر صورة تجلى فيها الله تعالى كما قال أحمد التجاني إذ قال:" معناه الفاتح لما أغلق من صور الأكوان فإنها كانت مغلقة في حجاب البطون وصورة العدم وفتحت مغاليقها بسبب وجوده - - صلى الله عليه وسلم - وخرجت من صورة العدم إلى صورة الوجود ومن حجابية البطون إلى نفسها في عالم الظهور إذ لولاه ما خلق الله موجودا ولا أخرجه من العدم إلى الوجود " جواهر المعاني 1/106
الرماح: " وكذا الخاتم لما سبق من صور التجليات الإلهية التي تجلى الحق سبحانه بصورها في عالم الظهور لأنه - - صلى الله عليه وسلم - أول موجود أوجده الله في العالم من حجاب البطون وصورة العماء الرباني ثم ما زال يبسط صورة العالم بعدها في ظهور أجناسها بالترتيب القائم على المشيئة الربانية جنسا بعد جنس إلى أن كان آخر ما تجلى به في عالم الظهور الصورة الآدمية على صورته - - صلى الله عليه وسلم - وهو المراد بالصورة الآدمية " رماح حزب الرحيم 2/458 اهـ
الوجه الثاني:
تفضيلكم صلاة الفاتح على القرآن الكريم صريح صراحة لا تقبل التأويل من ذلك:(98/242)
- نص التجاني الذي قطعته وبترت منه ما شئت قصد التشويش على القارئ وأنا أذكره بحروفه قال أحمد التجاني: " ثم أمرني بالرجوع - - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته - - صلى الله عليه وسلم - عن فضلها فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ثم أخبرني ثانيا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبيرا أو صغيرا ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار " جواهر المعاني 1/100 والدرة الخريدة 4/218 اهـ
فأي شيء أصرح من هذا ؟ وليتهم اكتفوا بتفضيلها على القرآن وحده لقد فضلوها على كل الكتب الإلهية.
- قال صاحب الرماح: " أما المرتبة الظاهرة في الفاتح لما أغلق مهما قرأها أحد بشرطها كتب الله له فيها أن يأخذ جميع تلك الأذكار من تسبيح وتهليل وتكبير وتحميد واستغفار وصلاة عليه - - صلى الله عليه وسلم - وقراءة القرآن وغيره من الكتب الإلهية كلها مثل التوراة والإنجيل مثلا من أول منشأ العالم إلى بروز تلك الصلاة من الذاكر وتجمع تلك الجمعية المذكورة وتتضاعف ستة آلاف مرة ثم تحسب ألسنة جميع المخلوقات من كل ما سوى الله تعالى وتتضاعف فيها تلك الجمعية بعد مضاعفتها ستة آلاف مرة " رماح حزب الرحيم 2/441
الوجه الثالث:
تفضيل صلاة الفاتح على القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية هو غاية الإستهزاء والاستخفاف بها بل لو أنهم قالوا بأن القرآن أفضل من صلاة الفاتح لكان في ذلك تنقيصا له كما قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ولا خلاف في أن سب القرآن والاستخفاف به كفر مخرج من الملة(98/243)
ا - قال قاضي القضاة عياض: " أعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه أو سبهما أو جحده أو خوفا منه أو آية أو كذب به أو بشيء منه أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفي ما اثبته على علم منه بذلك أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع " إلى أن قال " وكذلك إن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة أو كفر بها أو لعنها أو سبها أو استخف بها فهو كافر " الشفاء 2/1101 ـ 1105 باختصار.
ب - قال ابن نجيم: " ويكفر إذا أنكر آية من القرآن أو سخر بآية منه إلا المعوذتين ففي إنكارهما اختلاف والصحيح كفره " البحر الرائق 5/131
ج - وجاء في الفتاوي البزارية: " وادخال القرآن في المزاح والدعابة كفر لأنه استخفاف به " الفتاوى البزازية 3/338
د - وفي يتيمة الفتاوى: " من استخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر " تهذيب رسالة البدر الرشيد في المكفرات 22 ـ 23
هـ - كما حكم ابن قدامة بالكفر على من استهزأ بآيات الله. المغني 10/113
و - وقال البهوتي: " من جحد كتابا من كتب الله أو شيئا منه أو استهزأ بالله تعالى أو بكتبه أو رسله فهو كافر لقوله تعالى: - { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم - } . كشاف القناع 6/168 وانظر المبدع 9/171 اهـ
وقال تعالى - { وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين - } وقال تعالى - { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزؤا وغرتكم الحياة الدنيا - } [ الجاثية 34 ـ 35 ]
الوجه الرابع:
اعلم أنهم يدعون أن صلاة الفاتح من كلام الله ؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أ - قال الفوتي في الرماح أن من شروطها " أن يعتقد أنها من كلام الله " الرماح 2/139 اهـ(98/244)
وقال صاحب الدرة الخريدة: " وفي [د] ومن لم يعتقد أنها من كلام الله ل يصح له الثواب المذكور فيها يعني صلاة الفاتح … وفي [جع] والفضل المذكور في الياقوتة الفريدة لا يحصل لذاكرها إلا بشرطين الأول: الإذن والثاني: يعتقد الذاكر أن هذه الصلاة من كلام الله تعالى كالأحاديث القدسية وليست من تأليف مؤلف " الدرة الخريدة 4/128- 219 اهـ
قال صاحب بغية المستفيد عند شرح قول الناظم:
وفضلها يحصل مع شرطين
من ذاك إذن الشيخ دون مين
ثم اعتقاد أنها قد برزت
من حضرة الغيب لمن له سرت
قال: " وأشار بهذا إلى ما ثبت عن سيدنا - - رضي الله عنه - بأن الفضل المذكور يعني الخاص لا العام الذي هو مذكور في وردة الجيوب عن القطب سيدى محمد البكري - - رضي الله عنه - لا يحصل لذاكرها إلا بشرطين: الأول الإذن الصحيح من الشيخ - - رضي الله عنه - إذ هو - - رضي الله عنه - المأذون له من الحضرة المحمدية - - صلى الله عليه وسلم - في إبرازه والشرط الثاني إعتقاد المصلى أنها ليست من تأليف البشر وذلك لأن القطب البكري المذكور - - رضي الله عنه - توجه إلى الله تعالى مدة يسأله أن يمنحه صلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - فيها سر جميع الصلوات فنزلت عليه مكتوبة بقلم القدرة في صحيفة من نور " بغية المستفيد 375.
وقال أيضا: " فهي يعني الصلاة الشريفة المذكورة وردت من حضرة الحق تبارك وتعالى على طريق التعليم وفق ما قالوه في فاتحة الكتاب. اهـ المرجع السابق 376.
وقد اتفق العلماء على أن زيادة حرف واحد في كلام الله تعالى كفر فكيف بمن زاد هذه الصلاة المخترعة الطويلة:(98/245)
أ - قال ابن حزم في مراتب الإجماع: " واتفقوا أن الملائكة حق..... إلى أن قال: وأن كل ما في القرآن حق وأن من زاد فيه حرفا من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة أو نقص منه حرفا أو بدل منه حرفا مكان حرف وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادي متعمدا لكل ذلك عالما بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر " مراتب الإجماع ص 270 اهـ
ب – قال القاضي عياض:" وقد أجمع المسلمون على أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعته الدفتان من أول - { لحمد لله رب العالمين - } إلى أخر - { قل أعوذ برب الناس - } أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد - - صلى الله عليه وسلم - وأن جميع ما فيه حق وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا بكل هذا أنه كافر اهـ الشفاء 2/597
ج - قال ابن جزي: " لا خلاف في تكفير من نفي الربوبية أو الوحدانية " إلى أن قال: " أو قال بسقوط العبادة عن بعض الأولياء أو جحد حرفا فأكثر من القرآن أو زاده أو غيره " القوانين الفقهية ص 313 بتصرف
الوجه الخامس:
أما اشتراطهم الإذن في حصول الثواب المزعوم فإنه من أعاجيب الدنيا إذ لا يستأذن في أمور الإيمان إلا في دين فرعون - { قال آمنتم له قبل أن آذن لكم - } [ ] لأنه إن كان حقا ودينا فلا يحتاج فيه إلى إذن مخلوق وإن كان باطلا لم يزده الإذن إلا بطلانا ولكنها المتاجرة بالدين وحتى على حساب قوانين التجارة فحق الإبتكار للبكري لا للتجاني.
الوجه السادس:(98/246)
قوله أن المراد في كلام التجاني بالقرآن القراءة باطل منقوض بما تقدم في الرماح من قوله: " أن يأخذ جميع الأذكار من تسبيح وتهليل وتكبير وتحميد واستغفار وصلاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - وقراءة القرآن وغيره من الكتب الإلهية كلها مثل التوراة والإنجيل مثلا من أول منشأ العالم إلى بروز تلك الصلاة من الذاكر وتجمع تلك الجمعية المذكورة وتضاعف ستة آلاف مرة " انظر رماح 2/441
الوجه السابع:
قوله أن ما يقرأ ليس هو القرآن فلسفة مناقضة للكتاب العظيم والسنة وإجماع السلف قال الله تعالى: - { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله - } [ التوبة 06 ]
قال شارح الطحاوية: " وهو لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه من مبلغه عن الله والآية تدل على فساد قول من قال إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله فإنه تعالى قال: - { حتى يسمع كلام الله - } ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله والأصل الحقيقة ومن قال: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله أو حكاية كلام الله وليس فيها كلام الله فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالا " شرح الطحاوية ص 181 اهـ
الوجه الثامن:
وأما قوله " أن العدد كثيرا ما يرد في الكتاب والسنة ويكون غير مراد فيحمل على الغاية والمبالغة " .(98/247)
وهذا حجة عليه لأن مقتضى ذلك أن التجاني أراد الغاية والمبالغة في تفضيل الفاتح على القرآن ولم يرد حصر هذا العدد وهذا ما تقدم تصريح صاحب الرماح به حيث قال: " وتتضاعف ستة آلاف مرة ثم تحسب ألسنة جميع المخلوقات من كل ما سوى الله تعالى وتتضاعف فيها تلك الجمعية بعد مضاعفتها ستة آلاف مرة تتضاعف أيضا على عدد ألسن جميع العوالم من كل ماسوى الله تعالى ثم تتضاعف مضاعفة ثالثة على قدر مرتبة كل إنسان فإن من الألسن من ليس له من ذكره إلا مرة واحدة من كل لفظ وفيهم من له التضاعف مائة مرة كل كلمة من كل ذكر وفيهم من له عشرة آلاف وفيهم من له ألف ألف إلى عشرة آلاف ألف إلى مائة ألف ألف إلى ألف ألف ألف إلى ما وراء ذلك مما يكثر ذكره " الرماح 2/441 اهـ
الوجه التاسع:
وأما قوله " أن المزية وكثرة الثواب لا يستلزمان الأفضلية المطلقة " فنعم لكن المزية تقتضي الأفضلية من وجه على الأقل هذا يقضى أنه معترف بأن صلاة الفاتح أفضل من القرآن من بعض الأوجه وهذا كفر محض.
قال العلامة محمد الخضر الجكني: " فإن هذا استهزاء وتحقير لا تفضيل فلا يشك في كفر قائله وإنما كان تفضيل غير القرآن عليه كفرا لأن القرآن كلام الله تعالى وفضله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه فتفضيل كلام بعض المخلوقين عليه كتفضيل بعض المخلوقين على الله تعالى وكفر فاعل ذلك لا يشك فيه أحد " مشتهي الخارف ص 259
الوجه العاشر:
ما نقل عن التجاني من أن العاصي تكون صلاة الفاتح أفضل له من تلاوة القرآن حيث قال التجاني: " المرتبة الرابعة رجل يتلو القرآن سواء علم معانيه أو لم يعلم إلا أنه متجرئ على معصية الله غير متوقف على شيء منها فهذا لا يكون القرآن في حقه أفضل بل كلما ازداد تلاوة ازداد ذنبا وتعاظم عليه الهلاك " اهـ
والرد عليه من خمسة وجوه:(98/248)
أ - فهذا من أعظم الكفر البواح لأنه جعل تلاوة القرآن للعاصي المذنب ذنبا وهلاكا عظيما فانظر إلى هذا الاعتذار الذي هو أقبح من الذنب.
ب - بل العاصي المذنب لا علاج له إلا كتاب الله تعالى فهو الشفاء من أدواء الشبهات والشهوات - { قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمومنين - } .
ج - أن القرآن الكريم هو السبيل الوحيد لهداية هذا العاصي فكيف يكون هلاكا له ؟ قال تعالى - { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان - } [ ] وقال: - { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا - } وقال: - { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم - } [ ] وقال: - { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم - } [ ] وقال: - { قد جاءتكم بينة من ربكم وهدى ورحمة - } [ ] وقال - { لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون - } [ ] وقال: - { هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يومنون - } [ ] وقال تعالى: - { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يومنون - } [ ] وقال: - { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين - } [ ] وقال: - { طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمومنين - } [ النمل 01-02 ] وقال: - { الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين - } [ ] وقال: - { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون - } [ الجاثية 20].(98/249)
د - اعلم أن العاصي أحوج ما يكون إلى إقناع عاطفي ولا يكون ذلك إلا بترغيب القرآن وترهيبه ووعده ووعيده ولهذا حصر الله النذارة فيه قال تعالى: - { قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون - } [ الأنبياء 45 ] وقال: - { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ - } [ الأنعام 19 ] وقال: - { كتاب أنزلناه إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمومنين - } [ الأعراف 2 ] وقال: - { وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين - } [ الاحقاف 12 ] وقال تعالى: - { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب - } [إبراهيم 52 ].
هـ - أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه العاصي يشكو إليه حاله سواء أكان زانيا أو قاتلا أو غير ذلك ولم ينه أحدا منهم عن تلاوة القرآن بل كل الأوامر بالتلاوة في الكتاب والسنة عامة في العاصى وغيرهم قال تعالى: - { ورتل القرآن ترتيلا - } [ ] وقال: - { فاقرأوا ما تيسر من القرآن - } [ ] وقال: - { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث - } [ ] وقال - - صلى الله عليه وسلم -: (( اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه )) مسلم ح (1874) وقال: - - صلى الله عليه وسلم - ((أقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه... )) الخطيب وأبو جعفر النحاس في الوقف والإبتداء والسجزي في الإبانة ( انظر السلسلة الصحيحة 660 ) وقال: (( تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها )) متفق عليه: البخاري ح (5033) ومسلم ح (1844) والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة.
الوجه الحادي عشر:(98/250)
أن قوله هذا صد عن كتاب الله وصرف للناس عن قراءته وتدبر معانيه وداع إلى هجره فإذا كانت صلاة الفاتح لما أغلق وهي لا تتجاوز ثلاثة أسطر تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن فإن من يعتقد ذلك سينصرف عن قراءة القرآن إلى هذه الصلاة التي لا تتطلب منه وقتا ولا جهدا.
الوجه الثاني عشر:
هذه المقولة الشنعاء تتضمن صرف الناس عن الإسلام الصحيح المأخوذ من ينابيعه الصافية: الكتاب والسنة ليصبحوا فريسة لخرافات الصوفية وعقائدها انظر مصرع الشرك والخرافة لخالد محمد ص 523 الباطلة.
الوجه الثالث عشر:
قوله أنه ورد في الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل ما لم يرد في عمل آخر يعني القرآن الكريم لأنه هو الذي يدور البحث حوله هذا كفر وكذب محض لأنه ورد في فضل القرآن والثناء عليه وبيان علو منزلته ما يزيد على سبعين آية ولم يرد في الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - إلا آية واحدة.
الوجه الرابع عشر:
أما الأحاديث التي سردتها في فضل الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - فهي كلها مأخوذة من كتاب ابن القيم جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام من ص 5 إلى ص 56 فحذفت بعضها وذكرت البعض الآخر دون أن تشير إلى هذا الكتاب أدنى إشارة خوفا من تحسب من الوهابيين فالحمد لله الذي جعلك عالة عليهم أحببت أم كرهت.
على أن الأمانة العلمية تقتضي منك ألا تتنكر لمن أنت عالة عليه وتصرح بما سرقت من كتابه ونسبته إلى نفسك تشبعا بمالم تعط فهنيئا لك ثوبي زورك
وينسب إبداء المعاني لنفسه ليوهم أغمارا وإن كان سارقا
الوجه الخامس عشر:
صلاة الفاتح لا تدخل في عموم نصوص الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم -:(98/251)
أ - لأنها مبنية على عقيدة وحدة الوجود كما تقدم ذلك صريحا في شرح التجاني لها وإلا فما معنى " ناصر الحق بالحق " إذا علمت أنهم صرحوا بأن المقصود بالحق في اللفظين هو الله قال في الرماح: " قال - - رضي الله عنه - في شرح ياقوتة الحقائق أن الحق في اللفظين هو الله تعالى ومعناه أنه نصر الله تعالى بالله سبحانه نهض إلى نصرة الله تعالى حيث توجه إليه أمر الله تعالى بالنصرة له فنهض مسرعا إلى نصرة الله تعالى بالله تعالى " الرماح 2/459 والدرة الخريدة 4/201 اهـ
ب - لو كانت صلاة حقيقية لسبقنا إليها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وسائر السلف الصالح مع ما تدعون فيها من الفضل العميم الذي لا يمكن أن يفوت هؤلاء لو كان حقا.
ج - ليتكم سويتموها بالصلوات الإبراهيمية الثابتة ! لقد فضلتموها عليها وعلى كل الصلوات الأخرى قال التجاني: " قال لي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ما صلى علي أحد بأفضل من صلاة الفاتح لما أغلق " جواهر المعاني 1/109 والدرة الخريدة 4/202 اهـ
وهذا يستلزم أنه - - صلى الله عليه وسلم - علم الصحابة صلاة مفضولة وكتم عنهم الصلاة الفاضلة وهو كفر بواح ممن قاله.
د - أن الصحابة لم يستطيعوا اختراع صلاة مع علمهم بالشرع واللغة حتى جاء البكري فاخترعها بل بادر الصحابة بسؤاله - - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الصلاة عليه فقالوا: عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك…الحديث البخاري ح (3370) و( 4797 ) و(6357 ) ومسلم 2/4/ 125- 126 .
هـ - أنه - - صلى الله عليه وسلم - أجابهم بصيغة محددة ولم يقل لهم اخترعوا لأنفسكم ما شئتم من الصلوات أو نحوها من الألفاظ التي تدل على ذلك.
و - ثم لو سلمنا جدلا بدخولها في عموم الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - فليس في هذا ما يجعلها أفضل من القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية وجميع العبادات الأخرى.(98/252)
قال التجاني: " فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة " جواهر المعاني 1/101
اهـ
الوجه السادس عشر:
ومما يدل على أنهم يتعمدون الكذب على الله تعالى أنه قال بأن صلاة الفاتح من كلام الله وهي تبدأ بقوله " اللهم صل على سيدنا محمد " فهل محمد سيد لله تعالى الهدية الهادية ص 106 ؟!! بل هي عقيدة وحدة الوجود التي لا فرق فيها بين الخالق والمخلوق.
الوجه السابع عشر:
هذه الصلاة المفضلة على القرآن الكريم بدعة محدثة لم ترد كاملة في آية قرآنية ولا حديث نبوي صحيح أو ضعيف ولا أثر عن أحد من السلف الصالح ولا نقلت عن أحد من علماء الأمة الذين تدور عليهم الفتيا وبهذا يتبين بطلانها بإجماع أهل العلم في كل العصور.
الوجه الثامن عشر:
ومن العجب أن يتصور التجاني هذا القول وأن ينطق به لسانه مع معرفته أنه كذب على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وقد قال جمهور العلماء من اعتقد حل الكذب على النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر. انظر فتح الباري 1/342
وقد قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - (( لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار )) البخاري ح (106) ومسلم (01) وهو حديث متواتر.
الوجه التاسع عشر:(98/253)
ثم هو من الكذب على الله تعالى الذي هو كفر بإجماع العلماء انظر مشتهي الخارف ص 253 قال الله تعالى: - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله - } [ الأنعام 93 ] وقال: - { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون - } [ المائدة 103 ] وقال أبو حيان: " نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع " البحر المحيط 4/34 وقال تعالى: - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته - } [ الأنعام 21 ] وقال: - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه - } [ العنكبوت 68 ] وقال: - { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه - } [ الزمر 36 ] وقال: - { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون - } [ آل عمران 94 ] وقال: - { انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا - } [ النساء 50 ] وقال: - { قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون - } [ يونس 68 - 69 ] وقال: - { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم - } [ النحل 116 - 117 ].
الوجه العشرون:(98/254)
أن الكلام صفة من صفات الله الهدية الهادية 105 والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات فكما أن ذات الله لا تشبهها ذوات المخلوقين فإن كلام الله لا يشبهه كلام المخلوقين وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله فقال سبحانه: - { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا - } [ الإسراء 88 ] وقال ابن كثير: " نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن ياتوا بمثل ما أنزله على رسوله - - صلى الله عليه وسلم - لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ولو تعاونوا وتساعدوا وتظاهروا فإن هذا أمر لا يستطاع وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له ؟ " تفسير ابن كثير 3/1693
الوجه الواحد والعشرون:
وأما قولك: " وقد ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص 129 - 135 أربعين فائدة من فوائد الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - استخلصها من الأحاديث الواردة في فضلها " ثم سردها ص 84 - 76
قلت: ما علمناك إلا محاربا لشيخ الإسلام ابن القيم فلماذا تنقل عنه هذه الفوائد أما وجدت في التجانيين الذين يتلقون الوحي عن الله وعن الرسول يقظة من يستطيع جمع هذه الفوائد!!
الوجه الثاني والعشرون:
ما نقله من قول صاحب بغية المستفيد عن صلاة الفاتح: " وأنها وردت من الحضرة القدسية مكتوبة بقلم القدرة في صحيفة نورانية " ص 97.
والرد عليه من وجوه خمسة:
أ - خرافة باطلة وما سمعنا ذلك وقع لأحد من المسلمين وإنما يذكر هذا وأمثاله دجاجلة النصارى وأذنابهم من المتصوفة.
ب - لو وقع مثل هذا لذاع وانتشر وتواتر نقله لتوفر دواعي ذلك ولغرابته.(98/255)
ج - لم يرد في آية ولا خبر صحيح أن محمد - - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء نزلت عليه صحيفة نورانية فهل أنتم أقرب إلى الله عز وجل منهم أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟.
د - أن هذا محال لأن النور لا يمكن أن يجسم فتجعل منه صحيفة أو ورقة أو غير ذلك.
هـ - من أدراه أنها من عند الله ؟ ومن علمه بماذا كتبت هذه الصحيفة يا ترى ؟
ولا شك أن هذه خيالات شيطانية وخزعبلات خرافية لا تروج على عاقل يفهم الأمور وإنما غرهم بذلك الغرور.
الوجه الثالث والعشرون:
وأما ما نقل عن صاحب الدرة الخريدة أنه قال في صلاة الفاتح: " واعتقاد المصلي أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه وتعالى كالأحاديث القدسية " ص 98.
والرد عليه من وجوه ثلاث:
أ - هذا شيء لا يعقل ولا يصح في الشرع حيث لم يجعلها من الأحاديث القدسية وإنما هي تشبهها وليت شعري فيم تشبهها ؟!!
ب - هذا تناقض عجيب لأنه أخبر أنها نزلت في صحيفة من نور كتبها الله فيها وأنزلها على البكري ثم جعلها كالأحاديث القدسية وهي التي يرويها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - عن ربه وهذه لم يرويها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - عن ربه أصلا.
ج - هذا ادعاء للوحي بل ادعاء للنبوة حيث جعل نفسه في منزلة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - حيث أنه - - صلى الله عليه وسلم - يروي الأحاديث القدسية عن ربه وهو أيضا يرويها عن ربه.
الوجه الرابع والعشرون:(98/256)
قوله بأن الفاتح من كلمات الله المذكورة في قوله تعالى: - { قل لو كان البحر مدادا لكمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي - } [ الكهف 109] جهل عظيم بالفرق بين كلمات الله الشرعية وكلماته القدرية الكونية فكلماته الشرعية هي القرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية وكلمات الله الكونية القدرية فهي الواردة في هذه الآية وفي قوله تعالى: - { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا - } [ الأعراف 137] قوله - - صلى الله عليه وسلم -: (( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر )) أحمد 3/419 وابن السني 631 عن عبد الرحمن بن حنيش مرفوعا بسند صحيح. وهذه الكلمات لا حصر لها كما قال سبحانه: - { كل يوم هو في شأن - } [ الرحمن 29] ولأنه - { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون - } [ آل عمران 47] وقال تعالى: - { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله - } [ لقمان 27] فهذه كلمات الله الكونية أي المتعلقة بالخلق والرزق وتدبير الكون بأسره. انظر شرح الطحاوية ص 448 وأضواء البيان 4/151 وفتح القدير ( 3/318 ).
اتهام التجانية النبي - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان
قال مفتاح التجاني:
" وأما اعتراض هذا الجاهل المغرض على قول علي حرازم في جواهر المعاني ج 1 ص 119 " قلت لسيدنا - - رضي الله عنه - وهل كان سيد الوجود - - صلى الله عليه وسلم - عالما بهذا قلت لم يذكره لاصحابه رضوان الله عليهم أجمعين لما فيه من هذا الخير الذي لا يكيف قال: منعه أمران: الأول أنه علم بتأخر وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت " اهـ ص 104
الرد عليه من أكثرمن خمسين وجها ترجع إجمالا إلى تسعة عشر:
الوجه الأول:(98/257)
مثل هذا في الصراحة ما قال صاحب الجيش ونصه: " وسئل هل كان - - صلى الله عليه وسلم - عالما بفضل صلاة الفاتح لما أغلق ؟ فقال نعم كان عالما به قالوا: ولم لم يذكره لأصحابه ؟ قال: لعلمه - - صلى الله عليه وسلم - بتأخر وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت " الجيش ص 110 اهـ
وبهذا يتضح لك اتفاق التجانية على اتهام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان.
الوجه الثاني:
وأصرح من هذا، قول كبيرهم أحمد التجاني: " الأمر العام الذي كان يأتيه عاما للأمة طوي بساط ذلك بموته - - صلى الله عليه وسلم - وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص فإن ذلك في حياته وبعد مماته دائما لا ينقطع " ا هـ
الوجه الثالث:
وإذا اتضح لك أنهم واصفين للرسول - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان فأعلم أنه لا خلاف في أن ذلك كفر مخرج من الملة وقد أحسن العلامة محمد الخضر حين قال في الرد على كلام التجاني السابق " هذا الذي قاله زور عظيم وبهتان من أشنع ما يختلسه الشيطان من الإنسان يخرج قائله من دين الإسلام خروج السهم من الرمية بإجماع الأمة المعصومة من الإجتماع على الضلال والطغيان أعاذنا الله وجميع الإخوان من الزيغ عن الطريق المستقيم إلى طريق الخذلان " مشتهي الخارف الجاني ص 19 اهـ
الوجه الرابع:
وممن نقل الإجماع على ذلك الإمام ابن حزم إذ قال: " وأعلموا أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه ولو كتمهم شيئا لما بلغ كما أمر ومن قال هذا فهو كافر فإياكم وكل قول لم يبين سبيله ولا وضح دليله ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم - - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم " الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/116 اهـ(98/258)
الوجه الخامس:
قال القاضي عياض:" وكذلك من أضاف إلى نبينا - - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب فيما بلغه أو أخبر به أو شك في صدقه أو سبه أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبيا أو حاربه فهو كافر بإجماع " الشفاء 2/586 اهـ
الوجه السادس:
قال علي دخيل الله: " ومن اعتقد أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قد كتم شيئا مما أوحاه الله إليه فقد كفر لمخالفته لصريح القرآن والسنة المطهرة وإجماع الأمة " التجانية ص 165 اهـ
الوجه السابع:
قال الرازي: " أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول - - صلى الله عليه وسلم - أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضا فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإن لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها " التفسير الكبير 17/193 اهـ
الوجه الثامن:
لقد تولى الله الرد عليكم وعلى أمثالكم إذ شهد لرسوله - - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ في آيات كثيرة بأساليب متنوعة وإليك أمثلة منها:
- قال تعالى: - { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ - } [ آل عمران 20 ].
- وقال: - { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين - } [ المائدة 92 ].
- وقال: - { ما على الرسول إلا البلاغ - } [ المائدة 99 ].
- وقال تعالى: - { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ المبين - } [ الرعد 40 ].
- وقال: - { هذا بلاغ للناس ولينذروا به - } [ إبراهيم 52 ].
- وقال: - { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين - } [ النحل 35 ].
- وقال: - { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين - } [ النحل 82 ].
- وقال: - { وما على الرسول إلا البلاغ المبين - } [ النور 54 ].(98/259)
- وقال: - { فإن اعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ - } [ الشورى 48].
- وقال: - { إلا بلاغا من الله ورسالاته - } [ الجن 23 ].
- وقال: - { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - } [ المائدة 67 ].
- وقال: - { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - } [ فاطر 08].
- وقال: - { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا - } [ الكهف 06].
- وقال: - { فلعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين - } [ الشعراء 3 ].
فهل يمكن لمن يدعي الإسلام بعد هذه الآيات كلها أن يدعي أنه - - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من الدين ؟! - { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا - } .
الوجه التاسع:
إذا كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قد كتم صلاة الفاتح عن أبي بكر وعمر وسائر الصحابة فكيف تشيعونها أنتم بين النساء والأطفال وسوقة الناس ؟!
الوجه العاشر:
هذا الكلام الذي قاله التجاني يؤدي إلى أنه هو وأتباعه أفضل سائر الصحابة والتابعين وتابعيهم باحسان وكفى بقول يؤول إلى هذا ضلالا بطلانا.
الوجه الحادي عشر:
وأما احتجاج مفتاح التجاني على ما اتهم به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - من الكتمان بحديث ابن عباس قال لما اشتد بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: (( إيتوني بكتاب أكتب لكم فيه كتابا لا تضلوا بعده )) قال عمر إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - أشتد عليه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال: ((قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع )) فخرج ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه " اهـ ص 106
والرد عليه من وجوه:(98/260)
أ - أعلم أن الذي عليه أهل العلم من السلف قاطبة أن الذي أراد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب هو استخلاف أبي بكر الصديق. قال البيهقي: " وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه - - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر - - رضي الله عنه - ثم ترك ذلك إعتمادا على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال (( وارأساه )) ثم ترك الكتاب وقال:(( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )) أحمد 6/48- 106 ومسلم 7/110 وللبخاري نحوه 4/46- 47 و405-406 ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة. المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ص 1041
قال ابن حجر العسقلاني: " ويؤيده أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: (( ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمومنون إلا أبا بكر )) أخرجه مسلم وللمصنف معناه. أحمد 6/48- 106 ومسلم 7/110 وللبخاري نحوه 4/46- 47 و405-406 ومع ذلك فلم يكتب فتح الباري ص 345.
ب - تركه - - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الكتمان كما زعمت ولكن رفع أو قل نسخ حكم تعيين الخلفاء من بعده بسبب الإختلاف كما رفع تعيين ليلة القدر بسبب خصومة بين رجلين من المسلين قال النووي: " كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر له أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول النووي على مسلم (1041). " اهـ(98/261)
ج - أن الدين كمل بشهادة القرآن وهذا هو غاية تبليغه - - صلى الله عليه وسلم - قال النووي: " وأما كلام عمر - - رضي الله عنه - فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب - - صلى الله عليه وسلم - أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للإجتهاد فيها فقال عمر حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: - { ما فرطنا في الكتاب من شيء - } وقوله: - { اليوم أكملت لكم دينكم - } فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه " النووي على مسلم ص 1041 اهـ
د - أنه - - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد ذلك مدة وأوصاهم بعدة أمور فلو لم تنسخ هذه المسألة لأوصى بها شفويا كما أوصى بغيرها فعند البخاري في هذا الحديث: " وأوصى عند موته بثلاث: (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم )) ونسيت الثالثة صحيح البخاري ح (3053) و(3168) قيل هي الوصية بالقرآن وبه جزم ابن التين. وقال المهلب بل هو تجهيز جيش أسامة وقال عياض يحتمل أن تكون هي قوله (( لا تتخذوا قبري وثنا )).
وقال ابن حجر ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله (( الصلاة وما ملكت أيمانكم )) انظر الفتح ص 1923 .
هـ - قال ابن حجر العسقلاني: " وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ولبلغه لهم لفظا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك" فتح الباري ص 1923 اهـ(98/262)
قال البيهقي " لو كان مراده - - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لإختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى - { بلغ ما أنزل إليك - } كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث " النووي على مسلم ص 1041 اهـ
و - الحديث دليل على كمال الدين وبلوغه لكل الناس لأنه - - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على قوله " حسبنا كتاب الله " وأنتم لا تكتفون بذلك بل تزيدون من الإلهام والرؤيا ونحوه حتى قال قائلكم وهو أبو يزيد البسطامي لعلماء زمانه أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت وكان الشيخ أبو مدين - - رضي الله عنه - يقول لأصحابه إذا سمع أحدا منهم يقول أخبرني فلان لا تطعمونا القديد. بغية المستفيد ص 18
الوجه الثاني عشر:
وأما قوله: " وأيضا ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال: (( خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم )) قلت فلو كان تعيين ليلة القدر للصحابة مما أوجب الله عليه لعينها لهم ولما رفعت. ص 106
والرد عليه من وجوه:
أ - هذا لا علاقة له بالموضوع لأنه - - صلى الله عليه وسلم - نسي تعيينها ولم يكتمه عن العامة ويخبر به الخاصة لحديث مسلم أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال (( يأيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها...)) الحديث مسلم ح (2774)
ب - قال ابن حجر العسقلاني: " قوله (( فرفعت )) أي فرفع تعيينها عن ذكري هذا هو المعتمد هنا والسبب فيه ما أوضحه مسلم من حديث أبي سعيد في هذه القصة قال: (( فجاء رجلان يحتقان )) بتشديد القاف أي يدعي كل منهما أنه المحق (( معهما الشيطان فنسيتها )) فتح الباري ص 303 اهـ(98/263)
ج - أنه في إخفاء ليلة القدر حكمة بالغة وهي اجتهاد الناس في رمضان التماسا لها قال ابن حجر: " لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب لكونه سببا لزيادة الاجتهاد في التماسها وإنما حصل ذلك ببركة الرسول - - صلى الله عليه وسلم - " المرجع السابق 303 اهـ
د - لم يخبر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بليلة القدر أحدا من الناس حتى نقول بأنه قد خصه بهذا العلم بل أخفيت ليلة القدر عن جميع الناس وبهذا يتضح أنه لا حجة في هذا الحديث من قريب ولا من بعيد ولكن هذا الرجل كالغريق يتعلق بأي شيء ولو كان فيه حتفه.
الوجه الثالث عشر:
وأما احتجاجه بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - خص بعض الصحابة ببعض الأحكام الشرعية ومثل لذلك بجعله - - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين إلى آخره ص 107 فباطل من وجوه:
أ- أن الذي خص به هؤلاء الصحابة كخزيمة وغيره هو أمر تنفيذي أي أنه - - صلى الله عليه وسلم - استثناه من تنفيذ هذا الحكم عليه ولم يخصهم بشيء من الأمور التشريعية أصلا ولكن بعض الجهال قد لا يميزون بين الأحكام التنفيذية والأحكام التشريعية
ب - أن ما خص به النبي - - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء المذكورين ليس من علم معرفة الله وتوحيده وشرعه إذ هذا لا يجوز أن يخص به أحد دون أحد التجانية علي دخيل الله ص 157 .(98/264)
ج - أنه ما خصهم بعلم معين ولا خص به أقرب الناس إليه فعن أبي جحيفة - - رضي الله عنه - قال قلت لعلي ابن أبي طالب - - رضي الله عنه - : ( هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ) قال:( لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة ) قلت: ( وما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر ) متفق عليه وهذا اللفظ للبخاري البخاري في الجهاد باب فكاك الأسير( 3047 ) ولفظ مسلم عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطب علي ابن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة قال - وصحيفة معلقة في قراب سيفه - فقد كذب، فيها أسنان الإبل وشيئا من الجراحات... الحديث صحيح مسلم ح ( 1370 ).
د - هذه الدعاوى الباطلة بأن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قد خص بعض الناس بشيء من الوحي ليس لهم فيها سلف إلا الشيعة الرافضة الباطنية قال النووي في شرح الحديث السابق " هذا تصريح من علي - - رضي الله عنه - بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم أن عليا - - رضي الله عنه - أوصى إليه النبي - - صلى الله عليه وسلم - بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وأنه - - صلى الله عليه وسلم - خص أهل البيت بما لم يطلع غيرهم وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي - - رضي الله عنه - هذا " النووي صحيح مسلم ص 855 اهـ(98/265)
هـ - عن أبي الطفيل قال كنت عند علي بن أبي طالب فأتاه رجل فقال: ما كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - يسر إليك ؟ قال فغضب وقال ما كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - يسر إلي شيئا يكتمه الناس غير أنه حدثني بكلمات أربع قال: فقال: ما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال: قال: (( لعن الله من لعن والده ولعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الأرض )) رواه مسلم مسلم في الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله ( 1978) وفي رواية له عن أبي الطفيل سئل علي أخصكم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ قال: ما خصنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا قال فأخرج صحيفة مكتوب فيها (( لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من سرق منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن الله من آوى محدثا )) المصدر السابق
الوجه الرابع عشر:
وأما قوله: " أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - عليه كان يخص ببعض الأمور بعض الصحابة دون بعض والدليل على هذا ما في الصحيحين من قول أنس - - رضي الله عنه - أسر إلي النبي - - صلى الله عليه وسلم - سرا فما أخبرت به أحدا بعده ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به.(98/266)
وفيهما من قول عائشة رضي الله عنها إنا كنا أزواج النبي - - صلى الله عليه وسلم - جميعا لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي لا والله لا تخفى مشيتها من مشية رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فلما رآها رحب، قال مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدا فلما رأى حزنها سارها الثانية فإذا هي تضحك فقلت لها أنا من بين نسائه خصك رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - من بيننا ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - سألتها عما سارك قالت ما كنت لأفشي على رسول - - صلى الله عليه وسلم - سره فلما توفي قلت لها عزمت عليك بمالي عليك من الحق لما أخبرتني قالت أما الآن فأخبرتني قالت أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل سنة مرة وقد عارضني العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتق الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك قالت فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية قال يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة ) اهـ ص 108.
واحتجاجه مردود من وجوه:
أ - أما حديث أنس فالسر الذي فيه مما يختص بنسائه - - صلى الله عليه وسلم - وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه فتح الباري ص 2751 ومما يدل على ذلك رواية مسلم ( بعثني رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فابطأت على أمي... الحديث صحيح مسلم ح ( 2482 ) وفي مسند أحمد عن أنس ( فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك... الحديث
ب - فهذه الطرق تبين أنه - - صلى الله عليه وسلم - أرسله في بعض أموره الخاصة كشؤونه الأسرية وهذا لا علاقة له بكتمان شيء من شرع الله عن الأمة اثنا عشر قرنا ثم يخص به أمثالكم من المبتدعة المسترزقة.(98/267)
ج - أما حديث عائشة في قصة فاطمة الزهراء فلا حجة فيه أصلا لأن الأمور التي أسر بها - - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة رضي الله عنها لا علاقة لها بالناحية التشريعية التعبدية لأن الذي أسر إليها هو دنو أجله وأنها سيدة نساء الأمة.
د - ثم إن فاطمة قد ذكرت ما أسر به - - صلى الله عليه وسلم - إليها بعد وفاته وعلمه كل الناس فأين ذلك من اتهامكم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بكتمان صلاة الفاتح لما أغلق ثم زدتم على ذلك بادعاء أنها من كلام الله تعالى وأنها أفضل من جميع الصلوات بل ومن جميع العبادات. قال التجاني: " وإن صلاة الفاتح لما أغلق أفضل من جميع وجوه الأعمال والعبادات وجميع وجوه البر على العموم والإطلاق. جواهر المعاني 1/103.
الوجه الخامس عشر:
وأما احتجاجه على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - كتم بعض الشرع بحديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - حفظت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - جرابي علم أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم اهـ ص 108 فلا حجة لك فيه من وجوه:
أ - قال ابن حجر العسقلاني: " وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم كقوله ( أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ) يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية. لأنها كانت سنة 60 هـ " فتح الباري 1/348 اهـ
وهكذا تعلم أن العلماء متفقون على أن الوعاء المكتوم ليس مما يتعلق بالشرع أصلا.(98/268)
ب - وإنما قال بهذا التحريف الذي ذهبت إليه أضل الناس وهم الباطنية الملاحدة فجئتم تقتفون آثارهم تاركين هدي السلف الصالح - { بأس للظالمين بدلا - } قال العلامة ابن المنيّر: " جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا وذلك الباطن إنما حاصله الإنحلال من الدين قال وإنما أراد أبو هريرة بقوله ( قطع ) أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم " المرجع السابق اهـ
ج - أن أبا هريرة ما كان ليكتم شيئا من الشرع وهو القائل إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم يتلو: - { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى...-إلى قوله- الرحيم - } الحديث. صحيح البخاري ح ( 118 ) وصحيح مسلم ( 2492 ).
د - جهل ما كتمه أبو هريرة لا يضر المؤمن وليس مما يقرب إلى الله تعالى عكس صلاتكم المزعومة التي تفضلونها على القرآن وغيره من الكتب السماوية كما تقدم.
الوجه السادس عشر:
وأما قوله " وما فيه من قول أبي الدرداء لعلقمة أليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره يعني حذيفة ".
وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال أخبرني رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته عنه إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة اهـ ص 108
والرد عليه من وجوه:
أ - قال الحافظ:" والمراد بالسر ما أعلمه به - - صلى الله عليه وسلم - من أحوال المنافقين " فتح الباري ص 1688 اهـ
قلت دليل ذلك ما روى مسلم عن حذيفة قال قال النبي - - صلى الله عليه وسلم -: (( في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة ... )) وأربعة لم أحفظ ما قاله شعبة فيهم صحيح مسلم ح ( 7035 ) .(98/269)
ب - مما يؤيد ذلك أن عمر كان لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة لنهي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين وجهل المؤمن بأسماء المنافقين لا يضر. مجموعة الرسائل والمسائل ص 112 ـ 113
ج - أما ما أخبر به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - حذيفة من الفتن التي تكون بين يدي الساعة فقد أخبر به - - صلى الله عليه وسلم - كل الصحابة في درس عام في المسجد النبوي الشريف فعن حذيفة - - رضي الله عنه - قال:( قام فينا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه... الحديث ). صحيح مسلم ح ( 7263 ) وعن أبي زيد عمرو ابن أخطب قال صلى بنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ) وكلا الحديثين في صحيح مسلم المصدر السابق ح ( 7267 )
د - هذه التفاصيل المتعلقة بالفتن لا ينبني عليها حكم شرعي أصلا ومن جهلها لا يضر ذلك إيمانه.
الوجه السابع عشر:
وأما قوله: " وقد بوب البخاري في كتاب العلم من صحيحه فقال: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا وقال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. اهـ ص 109
والرد عليه من وجوه:
أ- هذه مغالطة مكشوفة لأن البخاري قال " كراهية أن لا يفهموا " ليبين أنها مسألة تدرج فقط فالمبتدئ في علم النحو لو ابتدأت له بكتاب سبويه لكان ذلك فتنة له وصدا له عن هذا العلم ولكن تبدأ له بالكتب الصغيرة ثم المتوسطة ثم الكبيرة وتقدم أسهلها عبارة وأقربها فهما ولهذا قال علي حدثوا الناس بما يفهمون... الأثر.(98/270)
ب - وأن هذا في المسائل التي لا يتعلق بها صحة عبادة المسلم ولا يضر جهلها في عقيدته قال ابن حجر: " وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود (ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) رواه مسلم وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب فتح الباري ص 353.
ج - أن المراد من ترك تحديث بعض الناس أي من لا يستطيع فهم ذلك الخبر أو من سيتأوله على ما يقوي به بدعته ومذهبه أي أن العبرة إنما هي بجلب المصلحة ودرء المفسدة قال ابن حجر العسقلاني: " وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب " المرجع السابق. اهـ
الوجه الثامن عشر:
وأما قوله أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - كان هديه أنه إذا أخبر أحدا من الصحابة بفضل كثير في مقابلة عمل يسير استكتمه عليه خشية أن يتكل الصحابة على ذلك العمل اليسير.
الرد عليه من وجوه:
أ- قوله "مقابل عمل يسير " ممنوع لأنه استدل عليه بحديث (( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار )) وهذا ليس عملا يسيرا لأنه يشمل كل الإسلام فالشرط الأول من الشهادتين في توحيد العبادة وإخلاصها له فتدخل فيه كل عبادة والشرط الثاني توحيده - - صلى الله عليه وسلم - في الإتباع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن المشكلة أنك لا تفهم معنى الشهادة وتظنها مجرد ألفاظ يترنم بها وتلحن في المناسبات.
ب - لو كان هديه - - صلى الله عليه وسلم - كتم هذه الأمور لما اطلعت عليها أنت وأمثالك من الجهلة الأغبياء بل حدث بذلك عدد جم من الصحابة حتى تواتر الخبر وأشتهر انظر الأزهار المتناثرة ص33 ونظم المتواتر ص49 .(98/271)
ج - في حديث أبي هريرة عند مسلم أنه أرسل أبا هريرة بنعله يبشر الموحدين بالجنة حتى بين له عمر أن الحكمة تقضي أن لا يفعل ذلك حتى لا يتكل الناس وقد ذكرت الحديث لأنك حاطب ليل تقرأ ما لا تفهم وتهرف بما لا تعرف.
د - وإنما لم يشعه النبي - - صلى الله عليه وسلم - بين العامة من أجل أن يغلبوا في الحياة جانب الخوف على الرجاء لا أنه كتمه - - صلى الله عليه وسلم - ولهذا أخبر به معاذ عند موته تأثما قال النووي: " ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علما يخاف فواته وذهابه بموته فخشي أن يكون ممن كتم علما وممن لم يمتثل أمر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ سنته فيكون آثما فاحتاط وأخبر بهذه السنة مخافة الإثم وعلم أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه عن الإخبار بها نهي تحريم " النووي على مسلم ص 114 اهـ
وقال ابن حجر: " ودل صنيع معاذ على أنه عرف أن النهي عن التبشير كان على التنزيه لا على التحريم وإلا لما كان يخبر به أصلا أو عرف أن النهي مقيد بالاتكال فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك وإذا زال القيد زال المقيد والأول أوجه " فتح الباري ص 353 اهـ
قال مفتاح التجاني:
" ثامنها أن قول التجاني - - رضي الله عنه - بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بهذا الفضل المتأخر عن عهد الصحابة رضي الله عنهم وأنه لم يذكره لهم لتأخره وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت لا إشكال فيه لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - ثبت في الصحيحين من حديث أنس أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة يوما ( لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ) وثبت فيهما من حديث أسماء بنت أبي بكر أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا قد رأيته حتى الجنة والنار ) وهذا الخبر المتأخر داخل في عموم قوله شيء في هذين الحديثين الصحيحين " ا هـ ص 112
والرد عليه من وجوه:(98/272)
ا - قوله أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بفضل الفاتح ولم يذكره للصحابة وهو تعريف الكتمان تماما ولا يشك مسلم في كفر من اتهم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ.
ب - وأما قوله " وعدم وجود من يظهره الله على يديه " صريح في تفضيل التجاني لاصحابه وأتباعه على الصحابة رضوان الله عليهم وهذا غاية الاستهزاء بالصحابة وسبهم واحتقارهم وهذا كفر بإجماع أهل الإسلام.
- قال القاضي عياض: " وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة... " الشفاء 2/1072 اهـ
- يقول السبكي: " إن سب الجميع بلا شك أنه كفر وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة ففيه تعرض إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - فلا شك في كفر الساب " فتاوي السبكي 2/575 اهـ
- وقال مالك رحمه الله " من شتم أحدا من أصحاب محمد - - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل وإن شتهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا " الشفاء 2/599 اهـ
- وسئل الإمام أحمد " عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة فقال ما أراه على الإسلام وسئل عمن يشتم عثمان فقال رحمه الله هذه زندقة " انظر السنة للخلال ص 493 اهـ
- قال الذهبي: " فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسوله الله - - صلى الله عليه وسلم - من ثنائه عليهم وبيان فضلهم ومناقبهم... " الكبائر للذهبي ص 285 اهـ
ج - كيف يتصور أحد أن يحمل أتباع التجاني ما عجز عن حمله ذلك الجيل الفريد الذي لم ير التاريخ مثله جيل الصحابة فهذا الكلام السخيف لو قيل لأسخف الناس أسخف ما شئت واجتهد لما استطاع أن يأتي بمثله.(98/273)
د - وأما قوله أن هذه الفرية السخيفة داخلة في عموم (( لا تسألوني عن شيء )) وحديث (( ما من شيء لم أكن رأيته )) فهذا هو غاية الجنون لأن المدعي تأليه الكواكب والأوثان سيقول إنها تدخل في عموم شيء وكفى بقول يؤول إلى تصحيح عبادة الأوثان وغيرها من سائر الضلال بطلانا.
هـ - والمعنى بقوله شيء أي مما يتعلق بالشرع لأنه - - صلى الله عليه وسلم - قد قال لهم (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )) كما في صحيح مسلم صحيح مسلم الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعا... ح ( 6126 ).
الوجه التاسع عشر:
ولقد أحسن العلامة أدييج بن عبد الله الكمليلي في رده عليكم في هذه المسألة حيث قال:
ونسبة الكتمان للنبي
تعد من مناكر البدعي
فورده صين عن الصحابة
فيما ادعى وخص بالاصابة
وذاك ينافي ما على الرسول
إلا البلاغ محكم التنزيل
واليوم أكملت لكم والمكمل
دين المخاطبين أو من يرسل مشتهى الخارف ص 71
ادعاء التجانية أن الكفار ينعمون في النار
قال مفتاح التجاني:
" وأما اعتراض هذا الجاهل المغرض على قول الشيخ التجاني في جواهر المعاني ج 1 ص 64 ولفظه ( وقد ذكر بعض أهل الحقائق أن بعض أحوال الرحمة في أهل النار من الكفار أنهم يغمى عليهم في بعض الأوقات فيكونون كالنائم لا يحسون بأليم العذاب ثم تحضر بين أيديهم أنواع الثمار والمآكل فيأكلون في غاية أغراضهم ثم يفيقون من تلك السكرة فيرجعون إلى العذاب...)" اهـ ص 114.
الرد عليه أكثر من أربعين وجها ترجع إجمالا إلى عشرين:
الوجه الأول:(98/274)
لم لم تذكر بداية الكلام أم حذفته لما فيه من الكفر الصريح إذ صرح بمحبة الله للكفار ورد صريح القرآن الكريم وإليك نص كلامه: " وقد استدل شيخنا - - رضي الله عنه - فيما ذكره في شرح هذه الآية المتقدمة من أن الكفار داخلون في حيطة محبة الله ورحمته بقوله سبحانه: - { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون - } قال - - رضي الله عنه - معناه فسأكتبها خالصة من العذاب للذين يتقون دلت الآية على أن خلق الله قسمان القسم المرحوم المعذب فقال سبحانه وتعالى: - { عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء - } وأما الصنف الثاني الذي هو مرحوم بلا عذاب فقال سبحانه وتعالى في حقهم - { فسأكتبها للذين يتقون - } وما ورد مما يناقض عموم الرحمة في قوله تعالى: - { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم - } فالرحمة في هذه الآية التي يئسوا منها هي الجنة فقط فإنها محرمة على كل كافر وليست الجنة هي غاية رحمة الله تعالى فإن رحمة الله تعالى لا تحيط بها العقول يرحم الكفار حيث يشاء وقد ذكر بعض أهل الحقائق... إلخ اهـ
الوجه الثاني:
هذا الكلام صريح في محبة الله للكفار وقد قدمنا الأدلة القطعية على كفر معتقد ذلك ولله الحمد.
الوجه الثالث:
مضمون هذا الكلام كما ترى هو الدعوة إلى الكفر وصد الناس عن الإسلام لأنه يقول لهم أنهم مرحومون منعمون في نارهم.
الوجه الرابع:
كلامه صريح في إنكار الوعيد وإنما يتخرج ذلك على عقيدتهم في وحدة الوجود فالكون كله مؤمنه وكافره هو الله ولهذا قال أبو يزيد البسطامي الذي هو أول من أدخل هذه الفكرة إلى المسلمين ما نصه: " ما النار ؟ لأستندن إليها غدا وأقول اجعلني فداءا لأهلها وإلا بلعتها ما الجنة ؟ لعبة صبيان ومراد أهل الدنيا " سير أعلام النبلاء 13/88 اهـ
الوجه الخامس:
واعلم أن إنكار الوعيد كفر مخرج من الإسلام إجماعا.(98/275)
أ - قال القاضي عياض: " وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواترا وكذلك من اعترف بذلك ولكنه قال إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى غير ظاهر وأنها لذات روحية ومعان باطنة كقول النصارى والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة" الشفاء 2/1077 اهـ
ب - وقال ابن حزم: " وأن ما في القرآن من أمور الجنة من أكل وشرب وجماع والحور العين والولدان المخلدين ولباس وعذاب في النار بالزقوم والحميم والأغلال وغير ذلك فكله حق... فمن خالف شيئا من هذا فقد خرج عن الإسلام لخلافه القرآن والسنة والإجماع " الدرة 221 بتصرف يسير اهـ
ج - ذكر ابن نجيم كفر من أنكر الجنة أو النار أو الحساب كما يكفر من انكر الوعد والوعيد. انظر البحر الرائق 5/129 فما بعدها
د - جاء في الفتاوي البزازية " أو أنكر وعدا أو وعيدا يكفر إذا كان الجزاء ثابتا بالقطع " 3/323 اهـ
هـ - قال الغزالي: " من زعم أن الجنة لذة روحية وأن النار شقاء نفسي...ثم قال: والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئا من ذلك لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها " فضائح الباطنية ص 153 بتصرف اهـ
و - قال الشربيني: " ويكفر إن أنكر الجنة أو النار أو الحساب أو العقاب أو أقر بها لكن قال المراد بها غير معانيها " مغني المحتاج 4/136 وانظر قليوبي وعميرة 4/175 والإعلام لابن حجر الهيتمي ص 357 ـ 374 اهـ
ز - وقال ابن تيمية: " وقد يقول حذاق هؤلاء من الاسماعيلية والقرامطة وقوم يتصوفون أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة... وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر المنكرون لأمره ونهيه ووعده ووعيده " مجموع الفتاوى 19/150 بتصرف اهـ(98/276)
ح - وذكر البهوتي أن مما يوجب الردة: السخرية بالوعد أو الوعيد. انظر كشاف القناع 6/170
ط - وقال ابن جزي: " لا خلاف في تكفير من نفى الربوبية أو الوحدانية... أو قال الثواب والعقاب معنويان " القوانين الفقهية 313 بتصرف اهـ
الوجه السادس:
انظر كيف يتلاعب بالقرآن ويحرفه كما يشاء ويصرفه عن ظاهره بغير برهان ولا شك أن هذا من التفسير بالرأي المذموم قطعا بل من الإستهزاء بالقرآن لأنه من جنس تأويل القرامطة والباطنية.
الوجه السابع:
قال الشيخ إبراهيم القطان:" فانظروا يا أمة محمد - - صلى الله عليه وسلم - ما في هذا من الكفر الصريح المكذب للقرآن العزيز بجعل رحمة الله تنال الكفار في الآخرة وقد قال تعالى: - { والذين كفروا بآياتات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي - } وقال تعالى - { كما يئس الكفار من أصحاب القبور - } . مخازي الولي الشيطاني الملقب بالتجاني ذيل مشتهي الخارف ص 605 اهـ
الوجه الثامن:
وقصره للرحمة على الجنة لا حجة عليه من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا أثارة عن أحد من علماء الإسلام وإنما هي من وحي الشيطان عليه وعلى شيخه ابن عربي.
الوجه التاسع:
أما قوله بتوقف العذاب عن أهل النار والتنعم فيها بأكلهم ما يشاؤون من الثمار والمآكل فقد بلغ الغاية في معارضة الوحي ومعاندته وإنكار المعلوم من الدين ضرورة.
- قال تعالى: - { ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع - } [ الغاشية 6- 7 ].
- وقال: - { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين - } [ الأعراف 50 ].
- وقال: - { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا - } [ النبأ 25 ].
- وقال: - { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم - } [ الدخان 44 ].
- وقال: - { فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين - } [ الحاقة 35-37 ].(98/277)
- وقال: - { إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما - } [ المزمل 12-13 ].
- وقال: - { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين - } [ الواقعة 51 - 56 ].
وقال: - { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار - } [ البقرة 174 ]
وقال: - { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا - } [ النساء 10 ].
الوجه العاشر:
وقد صرح أن الكافر مرحوم منعم كالمؤمن إلا أن المؤمن لا يسبق نعيمه عذاب عكس الكافر وهذه هي منزلة المؤمن الفاسق لأنه يعتقد أن الكل مؤمنون تبعا لعقيدة وحدة الوجود.
الوجه الحادي عشر:
وأما ادعاؤه تخفيف العذاب عن الكفار في بعض الأوقات فهو باطل لقوله تعالى: - { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال - } [ غافر 49-50 ] وقال: - { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور - } [ فاطر 36 ] وقال: - { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب - } [ النساء 56 ] وقال: - { كلما خبت زدناهم سعيرا - } [ الإسراء 97 ].
الوجه الثاني عشر:
قول مفتاح التجاني: " فقوله نضجت جلودهم ظاهرها أن الإحساس بالألم ينقطع في لحظة نضج الجلود ولذا قال تعالى بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب وقوله تعالى: - { كلما خبت زدناهم سعيرا - } فقوله - { كلما خبت - } ظاهر في تخفيف العذاب عن أهل النار حالة خبوها... " اهـ
وهذا باطل من وجوه:
أ - هاتين الآيتين صريحتين في استمرار العذاب للكافرين في النار وعدم تخفيفه أبدا وقد تضافرت الآيات القرآنية على ذلك وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن نفسه.(98/278)
- قال تعالى: - { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون - } [ البقرة 86 ].
- وقال: - { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - } [ البقرة 161 - 162 ].
- وقال: - { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - } [ آل عمران 87 - 88 ].
- وقال: - { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولاهم ينظرون - } [النحل 85 ].
- وقال: - { والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور - } [ فاطر 36 ].
- وقال: - { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تاتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال - } [ غافر 49 - 50 ].
- وقال: - { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق - } [ الحج 19 - 22 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة.
ب - أما الآية الأولى فهي صريحة في استمرار العذاب وعدم تخفيفه لحظة واحدة قال الرازي: " هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذا قوله - { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها - } يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى هلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه" التفسيير الكبير 3/239 اهـ(98/279)
ج - أن المعروف المشاهد أن تبديل الجلد إنما يكون مما تحته من اللحم فكلما احترق جزء من الجلد فالذي يليه من اللحم قد صار جلدا تلقائيا ويكون أضعف من الجلد الأصلي وأشد حساسية وتأثرا بالعذاب قال السدي: " أنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلد آخر " المرجع السابق اهـ
د - وقوله في الآية - { ليذوقوا العذاب - } صريحة جدا لأنها تدل على أنهم يحسون بالعذاب أبد الدهر كإحساسهم به لأول مرة وهو المعبر عنه بالذوق لأنه في الأول أشد عادة قال الرازي: قوله - { ليذوقوا العذاب - } أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للمعزوز أعزك الله أي أدامك على العز وزادك فيه وأيضا المراد - { ليذوقوا - } بهذه الحالة الجديدة العذاب وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه المرجع السابق 3/239 اهـ
وقال أبو السعود: " والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق ليس لبيان قلته بل لبيان أن إحساسهم بالعذا في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث أنه لا يدخله نقصان بدوام الملامسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو التنبيه على شدة تأثيره من حيث أن القوة الذائقة أشد الحواس تأثرا " المرجع السابق اهـ.
هـ - أما الآية الثانية فهي في معنى الآية الأولى لأن النار ما خبت إلا لنضج الجلود لأن ذلك هو وقودها - { وقودها الناس والحجارة - } - { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا - } وزيادة سعيرها بأن يبدل الله لهم جلودا غيرها قال أبو السعود:" - { كلما خبت زدناهم سعيرا - } أي كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه.
الوجه الثالث عشر:
وأما استدلال مفتاح على أن العذاب يخفف عن الكفار بين النفختين بقوله تعالى: - { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا - } .
فالرد عليه من وجوه:(98/280)
أ - هذه استدلال بكلام الكفار ولا حجة فيه لأنه لا يصدق في الحالة العادية فكيف إذا كانوا في ذلك الوقت الذي بلغت فيه قلوبهم حناجرهم وافئدتهم هواء بل هم سكارى من شدة هول الموقف العظيم قال الشوكاني: " - { من بعثنا من مرقدنا - } ظنوا لإختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما " فتح القدير 4/374 اهـ
ب - في استدلاله بهذه الآية تقديم لظن الكفار في حالة فزعهم وخوفهم على الكتاب والسنة واجماع أهل الإسلام قال عياض: " انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض " فتح الباري 9/176 اهـ
ج - أن المراد بالمرقد هنا المخرج قاله ترجمان القرآن عبد الله ابن عباس كما في البخاري عند تفسير هذه الآية . صحيح البخاري 6/29
د - أن المراد بالمرقد المضجع هو القبر لأن هذا هو معناه اللغوي قال في القاموس " وكمسكن المضجع " القاموس ص 257 وفي اللسان " ويحتمل أن يكون المرقد مصدرا ويحتمل أن يكون موضعا وهو القبر " لسان العرب 3/183
هـ - قال ابن كثير: " - { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا - } يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم - { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا - } وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد " تفسير ابن كثير 4/2370 ونحوه عند القرطبي 10/32 اهـ
ومن شدة خيانته في النقل وتحريفه للكلام حذف بداية كلام ابن كثير كله وبدأ بقوله " هذا لا ينفي ... إلخ
و - هذه الآية أجنبية على الموضوع الذي هو عذاب الكفار في النار والآية إنما هي فيما يتعلق بالنفخ في الصور والبعث فقام لجهله بالخلط بين هذا وذاك.
الوجه الرابع عشر:(98/281)
وأما قوله: " أن عرض آل فرعون في الدنيا على النار وهم في البرزخ فيه التخفيف البين بالنسبة لما هم صائرون إليه يوم القيامة قال تعالى - { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب - } اهـ 116.
والرد عليه من وجوه:
أ - لا علاقة للآية بموضوع تخفيف عذاب الكفار في نار جهنم وإنما تتحدث عن عذابهم البرزخي قبل أن يردوا إلى عذاب النار وبئس المصير.
ب - لا شك أن عذاب النار لا يقارن بأي عذاب آخر في الدنيا ولا في البرزخ وهذا لا يختلف فيه شخصان ولا تنتطح فيه عنزان.
ج - ما مثلك إلا كمن قال فرعون عذب في الدنيا بالغرق وغيره وهذا العذاب الدنيوي أشد منه عذاب النار في الآخرة فنقول لك هذا هروب من موضع النقاش إلى ما لا علاقة له بالموضوع.
الوجه الخامس عشر:
وأما قوله: " وإن في غلق أبواب النار في شهر رمضان لرفعا لعذابها عن جميع المعذبين في البرزخ بما في ذلك الكفار ا هـ ص 116
وهذا مردود من وجوه:
ا - هذا لا علاقة له بتخفيف عذاب الكفار في النار الذي ادعى شيخكم وقد عودتنا على هروبك من موضع النقاش عند ما تعوزك الحجة ويدمغك البرهان وهنا هربت إلى تخفيف العذاب في البرزخ حسب دعواك الباطلة.
ب - لا علاقة بين غلق أبواب النار وتخفيف عذاب أهل القبور لأنه لا يمتنع عقلا ولا شرعا أن يصلهم في قبورهم من حرها وسمومها مع غلق أبوابها.
ج - الظاهر أن الكافر يفتح له باب خاص به من النار ليس من أبوابها السبعة المعروفة -الله أعلم بكيفية ذلك الباب- لحديث البراء الطويل وفيه ( فينادي مناد من السماء أن كذب أفرشوا له من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها... ) الحديث انظر الحديث في أبي داود 2/ 281 والحاكم 1/37 ـ 40 والطيالسي ح ( 753 ) وأحمد 4/287، 288، 295، 296..(98/282)
قوله عند كل كافر ( افتحوا له بابا إلى النار ) يؤكد أنها ليست الأبواب السبعة إذ لو كانت هي لما أمر بفتحها بعد الكافر السابع لأنها مفتوحة أصلا وتحصيل الحاصل محال.
د - وإذا مات الكافر في رمضان فإنه سيقال ( افتحوا له بابا إلى النار ) وهذا صريح في أنها ليست الأبواب السبعة المغلقة في رمضان.
الوجه السادس عشر:
وأما ما نسب إلى شيخه من القول بتأبيد عذاب الكفار في النار وإلى شيخ الإسلام وابن القيم من القول بفناء النار.
فالرد عليه من وجوه:
أ- أن شيخك قصده بعذابهم غاية النعيم كما تقدم عنه أنه قال: " فيكونون كالنائم لا يحسون بأليم العذاب ثم تحضر بين أيديهم أنواع الثمار والمآكل فيأكلون في غاية أغراضهم "
ب - لا يمكن أن يقصد شيخك التجاني العذاب الحقيقي للكفار لأنه يعتقد أنهم الله لأنه هو الوجود المطلق عنده كما تقدم.
ج - لقد قال شيخك كما تقدم " وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبدوا غيري " فلا يمكن أن يعتقد مع هذا عذابهم وإنما يعتقد أنهم مرحومون رحمة عامة لا ينقصها إلا دخول الجنة ثم حول لهم نارهم إلى جنة يتنعمون فيها ولا يحسون بالعذاب.
د - أما ما نسبت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وشمس الدين ابن القيم فأثبت العرش ثم انتقش لأنك لم تعز شيئا من ذلك إلى شيء من كتبهما المعروفة مع كثرتها وإنما نسبته إلى حادي الأرواح فقط ولم ينسب ابن القيم هذا القول إلى شيخ الإسلام ولا إلى نفسه وعزوك ذلك إليه بالصفحة ( حادي الأرواح ص 249 - 252 ) ليفضحك الله على رؤوس الأشهاد وإنما عزاه إلى قوم لم يذكرهم أصلا.
يا ناطح الجبل العالي ليوهنه
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
وما أنت إلا:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل(98/283)
هـ - لو صح ما قلت عن الشيخين لكنا أول من ينكر عليهما لأننا لا نعتقد فيهما ولا فيمن هو أجل منهما من العلماء العصمة من الزلل والخلل خلافا لكم أنتم الذين تعتقدون أن شيخكم أخذ هذه الأمور عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - يقظة ولا يمكن أن تكون خطأ بل هي صواب عندكم.
الوجه السابع عشر:
كل الشبه الباطلة التي ذكرت تدور حول تخفيف العذاب على الكافرين لكنك لم تتطرق إلى نعيمهم في النار الذي نص عليه شيخك فيما نقلت عنه فشبهتك أخص من دعوى شيخك.
الوجه الثامن عشر:
قول التجاني هذا إنما أخذه عن ابن عربي الحاتمي فإنه قال إن أهل النار الذين يعذبون فيها من الكفار أنه تتحول طبيعتهم إلى طبيعة نارية فيتلذذون ويتنعمون في النار لموافقتها لطبيعتهم قال شارح الطحاوية "وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي " شرح الطحاوية 427 وحادي الأرواح ص 300 اهـ
وقال ابن عربي الحاتمي في كتابه الفصوص:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده
وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد
وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة لفظه
وذاك له كالقشر والقشر صائن فصوص الحكم لان العربي ص 93 ـ 94
الوجه التاسع عشر:
أن نص كلام التجاني أن الكفار يعذبون أولا ثم ينعمون بعد ذلك ولا يحسون بأليم العذاب وهذا هو نص كلام اليهود عليهم لعائن الله تعالى: - { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - } [ البقرة 80 - 81 ].
الوجه العشرون:(98/284)
حقيقة الأمر أنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا فلا بعث عندهم ولا نشور لأن كل شيء في الوجود هو الله تعالى وتقدس عما يقولون وقد صرح بهذا أحد أكابرهم وهو محمد الأمين بن سيدنا فقال: " لا بعث في الآخرة وإنما البعث الآن واستدل بقوله تعالى - { فهذا يوم البعث - } قال والإشارة بهذا تفيد القرب وحكاية هذا القول تغني عن رده.
قائمة المراجع
إحياء علوم الدين / أبو حامد الغزالي
الأدب المفرد / الإمام البخاري
الأذكار / الإمام النووي
إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول / محمد بن علي الشوكاني
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل / الألباني
الإستيعاب / ابن عبد البر
الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة / الملا علي القارئ
إسعاف ذوي الوطر شرح منظومة الأثر/ الأتيوبي
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن / محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي
الإعتصام / أبي إسحاق الشاطبي
الإعلام بقواطع الإسلام / لأحمد بن حجر الهيتمي
الأعلام لخير الدين الزركلي
الإفادة الأحمدية لمريد السعادة الأبدية / محمد الطيب بن محمد الحسني السفياني
اقتضاء الصارط المستقيم مخالفة أصحاب الحجيم / شيخ الإسلام ابن تيمية
إكمال المعلم بفوائد مسلم / القاضي عياض
الأم / الإمام الشافعي
الأمثال / أبي الشيخ
البحر الرائق شرح كنز الدقائق / ابن نجيم الحنفي
البحر المحيط / أبو عبد الله محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان
البداية والنهاية / الحافظ ابن كثير
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع / الشوكاني
بغية المستفيد بشرح منية المريد/ محمد العربي السائح الشرقي العمري
تاريخ ابن معين
تاريخ الإسلام / شمس الدين الذهبي
تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي
تاريخ دمشق / ابن عساكر
التجانية (دراسة لأهم عقائد التجانية على ضوء الكتاب والسنة ) / علي بن محمد الدخيل الله
التحبير في علم التفسير / الحافظ جلال الدين السيوطي(98/285)
تحفة الزائر في تاريخ الجزائر / محمد بن عبد القادر الجزائري
تحفة الذاكرين شرح حصن الحصين / الشوكاني
تدريب الراوي على تقريب النواوي / السيوطي
الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا / أبي القاسم الزياني
الترغيب والترهيب / الحافظ المنذري
التصوف الإسلامي تاريخه ومدارسه وطبيعته وأثره / أحمد توفيق العياد
التصوف بين الحق والخلق / محمد فهد سقفه
تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس / ابن حجر العسقلاني
تفسير ابن أبي حاتم
تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ) / أبو السعود
تفسير القرآن العظيم / الإمام إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي
التفسير القيم / شمس الدين ابن القيم
التفسير الكبير / الفخر الرازي
تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) / النسَفي
تفسيرالقرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار / الأستاذ محمد رشيد رضا
تقريب التهذيب / ابن حجر العسقلاني
تمييز الطيب من الخبيث / ابن الديبع
تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي (مصرع التصوف ) / براهان الدين البقاعي
تنزيه الشريعة / ابن عراق
تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني
تهذيب الكمال / الحافظ المزي
تهذيب رسالة البدر الرشيد / محمد بن إسماعيل الرشيد
التوصل إلى حقيقة التوسل / محمد نسيب الرفاعي
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد / سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
جامع البيان في تأويل القرآن / أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
جامع العلوم والحكم / أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله / أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري
الجامع لأحكام القرآن / أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي
الجامع للأصول / ابن الأثير
جمع الجوامع في أصول الفقه/ السبكي
جناية المنتسب العاني فيما نسبه بالكذب للشيخ التجاني / أحمد سكيرج
جواهر الرسائل/ إبراهيم انياس(98/286)
جواهر المعاني وبلوغ الأماني/ علي حرازم بن العربي برادة المغربي الفاسي
الجيش الكفيل لأخذ الثار ممن سل على الشيخ التجاني سيف الإنكار / محمد بن محمد الصغير الشنفيطي التيشيتي
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح / شمس الدين ابن القيم
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدرديري
الحاوي للفتاوي/ جلال الدين السيوطي
الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية / العلامة عبد الغني النابلسي الحنفي
حصول الاماني بتقريظ مشتهى الخارف الجاني
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / الحافظ أبو نعيم الأصبهاني
خريف الفكر اليوناني / عبد الرحمن البدوي
الدر المنثور في التفسير المأثور / الحافظ جلال الدين السيوطي
دراسات في الفلسفة اليوناية والعربية / إنعام الجندي
الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة / حمد فتحا بن عبد الواحد النطيفي
دلائل النبوة / الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي
دلائل النبوة / الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني
ديوان محمد بن أبنُ بن أحميدا
ذخائر الأغلاق شرح ترحمان الأشواق / ابن عربي
ذم الكلام / الهروي
الرد على القائلين بوحدة الوجود / الملا علي القاري
رشق السهام على ما في كلام المنكر على الشيخ التجاني من الأغلاط والأوهام / محمد فال (أباه ) ولد عبد الله
رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم / عمر ابن سعيد الفوتي الطوري
روح المعاني / الآلوسي
الروض الأنف/ عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي
رياض الصالحين / النووي
سلسلة الأحاديث الصحيحة / الألباني
سلسلة الأحاديث الضعيفة / الألباني
السلفية وأعلامها في موريتانيا / الشيخ الطيب بن عمر بن الحسين
السنة / ابن أبي عاصم
السنة / أبو بكر الخلال
سنن ابن ماجه
سنن أبي داود
سنن البيهقي
سنن الترمذي
سنن الدارمي
سنن النسائي
سير أعلام النبلاء /شمس الدين الذهبي
السيرة النبوية / أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري(98/287)
شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة / أبي القاسم اللالكائي
شرح الأذكار / ابن علان
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك / أحمد الدرديري
شرح الطحاوية / علي بن علي بن محمد بن أبي العز
شرح المواقف في علم الكلام / الإيجي
شرح المواهب اللدنية بالمنح المحمدية / أحمد بن محمد القسطلاني
شرح النووي على مسلم (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ) النووي
الشريعة / أبو بكر الآجري
شعب الإيمان / البيهقي
شعراء موريتانيا / محمد يوسف مقلد
الشفاء بتعريف حقوق المصطفى / للقاضي عياض بن موسى اليحصبي
شن الغارات على أهل وحدة الوجود ومعية الذات / محمد بن أبي مدين الديماني
الصارم المنكي في الرد على السبكي / ابن عبد الهدي
صحيح ابن خزيمة
صحيح البخاري
صحيح مسلم
الصوفية معتقدا ومسلكا / د.صابر طعيمة
صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان / محمد بشير السهسواني الهندي
صيد الخاطر / جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي
الضعفاء / الذهبي
الضعفاء الصغير / البخاري
الضعفاء الصغير / النسائي
الضعفاء / الدارقطني
الضعفاء / العقيلي
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق / الشيخ سليمان بن سحمان
طبقات ابن سعد
الطبقات الكبرى /الشعراني
طرح التثريب شرح التقريب / زين الدين العراقي وابنه ولي الدين أبو زرعة
عارضة الأحوذي / ابن العربي
العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ / صالح بن المهدي المقبلي
عمدة القاري شرح صحيح البخاري / العيني
عمل اليوم والليلة / النسائي
عمل اليوم والليلة / ابن السني
الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية العلمكيرية )
فتاوى السبكي
فتح الباري شرح صحيح البخاري / العسقلاني
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير / الإمام محمد بن علي الشوكاني
فتح المغيث شرح ألفية الحديث / السخاوي
الفصل في الملل والأهواء والنحل / أبي محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي
فصوص الحكم / ابن عربي الحاتمي(98/288)
فضائح الباطنية / الغزالي
الفوائد المجموعة في الأحديث الموضوعة / الشوكاني
فيض القدير شرح الجامع الكبير / عبد الرؤوف المناوي
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة /شيخ الإسلام ابن تيمية
القاموس المحيط / الفيروزبادي
حاشيتا القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين / قليوبي وعميرة
القوانين الفقهية / ابن جزي الكلبي
كاشف الألباس عن فيضة الختم أبي العباس / إبراهيم انياس
الكاشف / الذهبي
الكامل / ابن عدي
الكبائر / شمس الدين الذهبي
الكبير / البخاري
كتاب الوجود / محمود أبو الفيض المنوفي
مسند القضاعي
كشاف القناع عن متن الاقناع / منصور البهوتي
كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب / أحمد سكيرج
كشف الخفا ومزيل الألباس / العجلوني
الكفاية في قوانين الرواية /الخطيب البغدادي
لسان العرب / ابن منظور
لسان الميزان / ابن حجر
الله ذاتا وموضوعا / عبد الكريم الخطيب
المبدع في شرح المقنع / ابن مفلح
مجابي الدعاء / ابن أبي الدنيا
المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين / أبو حاتم ابن حبان البستي
مجلة الأزهر
مجلة الحكمة
مجلة الرسالة
مجلة الفتح
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي
مجموع الرسائل والمسائل / شيخ الإسلام ابن تيمية
مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية
محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين / فخر الدين الرازي
مخازي الولي الشيطاني المدعو التجاني الجاني / الشيخ إبراهيم القطان
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين / ابن القيم
المدخل إلىمعرفة الصحيح / الحاكم أبو عبد الله
مراتب الإجماع / ابن حزم
المستدرك على الصحيحين / الحاكم أبو عبد الله
مسند أبي داود الطيالسي
مسند أبي يعلى الموصل
مسند الإمام أحمد بن حنبل
مسند الفردوس / الديلمي
مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني /محمد الخضر بن ميابا الجكني
مصباح الزجاجة / البصيري
مصرع الشرك والخرافة / خالد محمد(98/289)
مصنف ابن أبي شيبة
معارج القبول شرح سلم الأصول / حافظ حكمي
معجم الطبراني الأوسط
معجم الطبراني الصغير
معجم الطبراني الكبير
المعجم الفلسفي / د. جميل صليبا
معرفة علم الحديث/ الحاكم
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج /الخطيب الشربيني
المغني / ابن قدامة
المقصد الأحمد في التعريف بسيدنا أبي عبد الله أحمد / أبي محمد عبد السلام بن الطيب القادري الحسيني
منح الجليل شرح مختصر خليل / محمد عليش المالكي
منية المريد في آداب وأوراد الطريقة التجانية / بابا الشنقيطي العلوي
الموافقات في أصول الأحكام / الشاطبي
الموضوعات / ابن الجوزي
موطأ الإمام مالك
ميدان الفضل والإفضال في شم رائحة جوهرة الكمال / عبيدة بن محمد الصغير الشنقيطي
ميزان الإعتدال في نقد الرجال / أبو عبد الله أحمد بن عثمان الذهبي
نثر الورود شرح مراقي السعود / محمد الأمين الشنقيطي
نشر البنود شرح مراقي السعود / سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج / الرملي
النهاية في غريب الحديث / ابن الأثير
الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية / د. محمد تقي الدين الهلالي
هذا هو الإسلام / فاروق الرملوجي
الوسيط في تراجم أدباء شنقيط / أحمد بن الأمين الشنقيطي
وفاء الوفاء / السمهودي
الياقوتة الفريدة في الطريقة التجانية / محمد فتحا عبد الواحد محمد النطيفي
المقدمة 1
الرد على مقدمة مفتاح 3
الرد على شبهات المتوسلين بالجاه: أولا من القرآن الكريم أربع آيات 3
الآية الآولى 3
الآية الثانية 5
الآية الثالثة 7
الآية الرابعة 8
ثانيا من السنة: 10
أ- الأحاديث الصحيحة: 10
- حديث توسل عمر بالعباس 10
- أحاديث الشفاعة الكبرى 11
ب- الأحاديث الضعيفة والموضوعة: 12
الأول: حديث الأعمى 12
الثاني: حديث أبي سعيد: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك … 15
الثالث: حديث بلال بنحو حديث أبي سعيد 17
الرابع: حديث أبي أمامة بنحوه 17(98/290)
الخامس:حديث ابن عباس: الكلمات التي تلقى آدم 18
السادس:حديث أنس: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي 18
السابع: حديث أنه كان يستشفع بصعاليك المهاجرين … 19
الثامن: حديث: لما اقترف آدم الخطيئة … 19
التاسع: توسلوا بجاهي … 21
العاشر : " إذا أعيتكم الأمور " 22
الحادي عشر:" لولا عباد ركع " 23
الثاني عشر: " إذا انفلتت دابة أحدكم " 23
الثالث عشر: " إذا أضل أحدكم شيئا " 24
الرابع عشر: " اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك " 25
الخامس عشر: حديث ابن عباس في حفظ القرآن 26
السادس عشر: قال داود عليه السلام: أسألك بحق آبائي 27
السابع عشر : حديث مالك الدار خازن عمر قال أصاب الناس قحط " 28
الثامن عشر: حديث عام الفتق 29
التاسع عشر: قصة الأعرابي الذي قال: " اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك " 29
العشرون: قصة الأعرابي الذي قال: " أتيناك العذارء يدمى لبانها " 30
الواحد والعشرون: قصة سواد بن قارب 31
الثاني والعشرون: مرثية صفية 32
الثالث والعشرون:قصة العتبي 33
الرابع والعشرون:قصة وبن الزبير وابن عمر ومصعب وعبد الملك عند الكعبة 34
الخامس والعشرون:" عن ابن عباس أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد " 35
السادس والعشرون: دعاء الشافعي عند قبر أبي حنيفة 36
السابع والعشرون:قصة مالك مع أبي جعفر المنصور 37
الشبه العقلية 38
الشبهة الأولى: قياس الخالق على المخلوق 38
الشبهة الثانية: التوسل لا مانع منه وإن لم يثبت 38
الشبهة الثالثة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح 39
الشبهة الرابعة: قياس التوسل على التبرك 39
نص محاكمة التجانية الشهيرة في مدينة بوتلميت 40
قصيدة ولد ابنُ في الرد على التجانية 41
قصيدة محمد بن حبيبا 42
قصيدة محمد عبد الله بن أحمذي 43
أرجوزة أدييج الكمليلي في الرد على التجانية 44
ردود العلامة باب بن الشيخ سيديا 45
قصيدة محمد محمود بن أحمذي 46
ردود محمد بن أبي مدين عليكم 47(98/291)
أرجوزة الشيخ أحمد بن حبيب الرحمن 49
ردود العلامة آب ولد أخطور 50
أرجوزة ابن بدح في الرد عليكم 50
رد العلامة محمد رشيد رضا عليكم 52
رد العلامة بخيت المطيعي 52
قصيدة محمد ناصر السنة 53
قصيدة محمد مولود ولد أحمد فال المباركي 54
أكثر من عشرة أمثلة من تحريفات مفتاح وتلبيساته 57
الرد على قواعد مفتاح في الجرح والتعديل 59
المؤلفات في مصطلح الحديث 59
علاقة التجانية بالنصرانية 63
خدمة التجانية للمستعمر الفرنسي 64
احتقار التجاني لكل الأولياء 65
الرد على دفاع مفتاح التجاني عن شيخه 67
عزوه للحديث الضعيف بصغة الجزم 67
اعترافهم بقتل وسجن ومحاكمة أسلافهم من ضلال المتصوفة 69
من الحالات التي تجوز فيها الغيبة 71
ضعف حديث جابر وأبي طلحة عند أبي داود 72
ترجمة التجاني مغالطات مكشوفة 73
التجاني يفضل نفسه على كل الأنبياء والأولياء 73
التجاني منسوب إلى أخواله " بنو توجين " 75
التجاني يزوِّر العملات 75
جواهر المعاني مسروق من كتاب المقصد الأحمد 75
التجاني يشهد على نفسه بالجهل وأنه ما شم رائحة الإسلام..................77-78
تكفير أكثر من خمسين عالما لابن عربي الحاتمي 79
تعقيبات على ترجمة البكري 91
ملاحظات على ترجمة البسطامي 95
مفتاح يحذف من كلام الذهبي في ترجمة البسطامي 95
مفتاح التجاني يمدح رسالته في تصحيح حديث الضرير 97
أكثر من عشرة أمثلة على أغلاطه وأخطائه في هذه الرسالة 97
رمتني بدائها وانسلت 100
مفتاح التجاني ينكر أن الإيمان بالله وكتابه ورسوله من قواعد الإسلام 101
التضايق من السؤال علامة للعجز عن الجواب 103
التجانية تقول بأن كل الكفار لا يعبدون إلا الله وإن عبدوا الأوثان في الظاهر 103
ابن عربي يدافع عن الكفار 104
تسمية أهل السنة حشوية هي علامة زنادقة المبتدعة 104
علاقة التجانية بالفلسفة 104
الكلام على وحدة الوجود 107
الرد على قول التجانية بأن الله يحب الكفار ويحبونه 113(98/292)
دفاع التجانية عن عبدة الأوثان 115
مفتاح يحذف من كلام شيخه ما فيه حجة عليه 116
مفتاح يشير من غير قصد إلى جهل شيخه التجاني 117
التجلي عند التجانية هو وحدة الوجود 118
مفتاح يبتر من كلام شيخه التجاني ما سوى فيه بين الرسول والكافر 121
اعتذار مفتاح عن شطحات البسطامي بأنه كان فاقدا للوعي والتمييز 121
ابن عربي والتجاني وانياس يصرحون بأن البسطامي قال تلك الشطحات
في حال الوعي وكمال العقل 122
الكفر الصريح المتكرر صاحبه لا يتأول له 124
حذف مفتاح التجاني من كلام ابن عربي ما هو صريح في وحدة الوجود 126
هروب مفتاح التجاني من وحدة الوجود إلى وحدة الشهود 127
مشاييخ الصوفية يفضلون أنفسهم على الأنبياء 127
تفسير قوله تعالى: - { هو الأول والآخر والظاهر والباطن … - } الآية 127
تفسير قوله تعالى: - { كل شيء هالك إلا وجهه … - } الآية 128
تفسير قوله تعالى : - { ذلك بأن الله هو الحق … - } الآية 130
تفسير قوله تعالى : - { يمحو الله ما يشاء ويثبت … - } الآية 131
الرد على تعلقه بحديث من عادى لي وليا 132
الرد على تعلقه بحديث "كان الله ولم يكن شيء قبله " 134
الرد على تعلقه بقول الشاعر : ألا كل شيء ما خلا الله باطل 135
رد ابن القيم والذهبي والغزالي على وحدة الشهود 135
كلام عبيدة بن محمد الصغير حول وحدة الوجود 137
حكم القائلين بوحدة الوجود 138
المحظورات المترتبة على القول بوحدة الوجود 143
دعوة التجانية إلى الأمن من مكر الله 145
مفتاح يحذف من كلام شيخه ما هو حجة عليه 145
ثلاثون نصا من كتب التجانية تدعو إلى الأمن من مكر الله 146
ادعاء التجانية معرفة الغيب المطلق 152
التجاني يسأل الكاهنة سنيورة عن الغيب 155
الآيات والأحاديث الدالة على اختصاصه تعالى بالغيب المطلق 156
من أقوال العلماء في كفر مدعي علم الغيب 158
عجز مفتاح عن الرد على ثلاثة نصوص حول علم الغيب 159
الفراسة ليست حجة شرعية 160(98/293)
الآية ليست صريحة في هذا الموضوع 160
الحديث الذي استدل به طرقه كلها ضعيفة 162
أنواع الفراسة 166
الإحتجاج بالرؤى والمنامات 168
رؤيا غير الأنبياء ليست بحجة شرعية إجماعا 168
الإلهام ليس بحجة عند أهل العلم 174
الإلهام وسيلة إلى القول بوحدة الوجود 176
ادعاء العلم اللدني حيلة لإلغاء الشرع 178
نصوص التجاني في ادعاء الوحي 179
رد أهل العلم على ذلك 180
ادعاء التجانية رؤيته يقظة بدعة صوفية 184
رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة مستحيلة شرعا 184
رؤية النبي - - صلى الله عليه وسلم - يقظة مستحيلة عقلا 185
الرد على تعلقه بحديث من رآني في المنام فسيراني في اليقظة 185
الرد على ادعائه أن هذه الرؤية من باب الكرامة 186
من نسب إليهم مفتاح هذه الرؤية أربعة أنواع 187
ادعاء التجانية رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - يقظة تقليد للنصارى 188
رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - يقظة لم ترد في آية ولا حديث 189
تفضيل صلاة الفاتح على القرآن الكريم ستة آلاف مرة 192
معنى صلاة الفاتح هو وحدة الوجود 192
نصوص كتبهم الصريحة في تفضيل صلاة الفاتح على القرآن وغيره من الكتب المنزلة192
تفضيل شيء على القرآن يعتبر استهزاء به والمستهزئ به كافر 193
ادعاؤهم أن صلاة الفاتح من كلام الله 194
من زاد حرفا في كلام الله فهو كافر 195
الرد على شبهة: أن ما يقرأ هو معنى كلام الله فقط 195
الرد على شبهة : أن العدد يرد لمجرد التكثير 196
الرد على شبهة : أن المزية لا تستلزم التفضيل 196
الرد على شبهة :أن صلاة الفاتح أفضل في حق العاصي من تلاوة القرآن 196
الرد على شبهة :أن ما ورد في فضل الصلاة على النبي - - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما
ورد في فضل القرآن 198
مفتاح يسرق الأحاديث من جلاء الأفهام لابن القيم 198
كيف تكون صلاة الفاتح كلام الله وهي مبدوءة ب"اللهم صل على سيدنا محمد "؟!199
تفضيلهم صلاة الفاتح على جميع الصلوات 199(98/294)
تفضيلهم صلاة الفاتح على عبادة الجن والإنس والملائكة 199
صلاة الفاتح لا توجد كاملة في حديث صحيح ولا ضعيف 200
خطورة الكذب على الله ورسوله 200
تفضيل كلام على كلام الله كتفضيل شيء على الله 200
ادعاؤهم أن صلاة الفاتح جاءت في صحيفة من نور مكتوبة بقلم القدرة 201
ادعاؤهم أن صلاة الفاتح من كلام الله كالأحاديث القدسية 201
مفتاح لا يفرق بين الكلمات الشرعية والكلمات الكونية 202
اتهام التجانية لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان 203
من اتهمه - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان فهو كافر إجماعا 203
الآيات الشاهدة له - - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ 204
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بحديث " ايتوني بكتاب اكتب لكم
كتابا لا تضلوا بعده" 205
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بحديث رفع تعيين ليلة القدر 207
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - خص بعض الصحابة ببعض الأحكام 208
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بحديث أنس " أسر إلي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -" .209
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بحديث الجرابين 210
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بأن حذيفة كان صاحب السر 210
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بقول البخاري باب من خص بالعلم قوما211
الرد على استدلال مفتاح على كتمانه - - صلى الله عليه وسلم - بأنه - - صلى الله عليه وسلم - إذا أخبر أحدا بأجر كثير
على عمل قليل استكتمه 212
ادعاء التجاني صلاحية أصحابه لتحمل ما عجز عنه أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - 214
حكم انتقاص الصحابة واحتقارهم 214
ادعاء التجانية أن الكفار ينعمون في النار 216
حذف مفتاح لبداية كلام شيخه بسبب ما فيه من الكفر البواح 216(98/295)
انكار الوعيد كفر 217
الرد على ادعائه أكل أهل النار ما يشتهون من الثمار والمآكل 218
الرد على ادعائه تخفيف العذاب عن أهل النار 219
الرد على استدلاله على تخفيف العذاب عن الكفار بآيتين 219
الرد على استدلاله على تخفيف العذاب عن الكفار بين النفختين 220
الرد على استدلاله على تخفيف العذاب عن الكفار بعرض آل فرعون
على النار في الدنيا 221
مفتاح ينسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم القول بفناء النار كذبا وبهتانا 222
سلف التجانية في هذه المسألة هو ابن عربي 223
إنما انكرت التجانية عذاب الكفار لاعتقادهم وحدة الوجود 224
فهرس المراجع 246
صورة الصفحة الأولى من خطبة كتاب المقصد الأحمد انظر ملحق كتاب التجانية لعلي بن محمد الدخيل الله
الصورة الصفحة الثانية من خطبة كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة الثالثة من خطبة كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة الرابعة من خطبة كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة 154 من كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة (155) من كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة (156) من كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة (157) من كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة (158)من كتاب المقصد الأحمد
صورة الصفحة الأولى من خطبة كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة الثانية من خطبة كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة الرابعة من خطبة كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة الخامسة من خطبة كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة السادسة من خطبة كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (105) كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (106) من كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (107) من كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (108) من كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (109) من كتاب جواهر المعاني
صورة الصفحة (110) من كتاب جواهر المعاني(98/296)
بناء الإنسان في الفكر الصوفي الإسلامي قراءة أوليّة في الأدب الصوفي (135 - 142)
محمد سعيدي
جامعة مستغانم
غير مجد في هذا البحث الموجز التطرق إلى تعاريف التصوف وتتبع مفاهيمه، فهي كثيرة ومتشعبة وقد تتشعب بتشعب المدارس الصوفية وتتعدد بتعدد الرجال الصوفية في المدرسة الواحدة وقد استقلت بحوث ضافية بهذه المهمة1. ولكن تمت مقدمات لابد منها أضعها بين يدي القارئ ونحن بصدد تبيان تجليات بناء الإنسان في المنظومة الصوفية :
1- إن نفرا من الأدباء، والشعراء منهم بصفة أخص، حسبوا التصوف تمسكا بالرموز واستعارة لأسماء وألقاب كبار الصوفية فراحوا يحشدونها تباعا وهم لا يزيدون أن يلتحفوا مسوحا من الثقافة الصوفية الإسلامية لا غير، ولا يعيشون تجارب ولا يتذوقون وُجدا أو بتعبير آخر فإنهم يميلون إلى استثمار المعجم الصوفي ولا يتجاوزونه، فتغدو صوفيتهم مصطنعة وذابلة غير ذات إشعاع. وكثيرا ما تتجرد تلك المضامين الصوفية الحقّة عند هؤلاء الشعراء من مدلولها الصوفي ذي المنبت الإسلامي المثقل بالرموز والظلال الإسلامية.
فليس من التصوف في شيء تلك الكتابات الذاتية والتهويمات الوجدانية التي تطفح بها إبداعات أدبية، شعرية ونثرية معاصرة يكتب أصحابها تحت تأثيرات نفسية مختلفة يستجيبون فيها لذواتهم ولنوازعهم وميولهم.(99/1)
وأعتقد أن الحكم النقدي الذي أطلق في العصر الحديث على جمع من الشعراء بكونهم "شعراء متصوفين" أو "شعراء ذوي نزعات واتجاهات صوفية"، لا يستند على فيض دراسة ولا يقوم على تحليل موضوعي مستفيض ولم يسلك نهج الاستقراء للإبداعات العربية والإسلامية والموازنة بينها وبين غيرها من الإبداعات العالمية، وهناك "حقيقة هامة لابد للدارسين في حقول الآداب العربية والفلسفية من أن يعرفوها هي أن النقد القديم استثنى التراث الصوفي من الدراسات الفنية ولا تزال هذه النظرة سائدة حتى الآن إلا في القليل النادر"2. فنحن بحاجة ماسة إلى دراسات جادة وجديدة تمحق الاختلاف بين النقاد حول المصطلحات الأدبية والعلمية والمعرفية بعامة وتنير سبيل الباحثين والدارسين بغية وضع الأمور في نصابها وقوالبها3. ففي الكثير من الدراسات النقدية المعاصرة يكتنف مصطلحَ "أدب التصوف" الكثيرُ من الغموض والإبهام حتى أضحى بعض الدارسين يلصقه عبثا بكل مبدع غارق في ذاتيته هائم في خياله. وإذا كان "التصوف يحلق بجناحين أحدهما الفلسفة والثاني الأدب بل إنه يمكن القول بأن التصوف أقرب إلى الأدب من إلى الفلسفة"4 فمن الحيف والقصور إذن أن يظل حبيس الأحكام الانطباعية بلا تفسير موضوعي وبلا سبر لأغواره الفكرية والفنية والرمزية ومن الشطط أن يخلط الدارسون والباحثون شعراء صوفيين بآخرين يحسبون على التصوف…
ولنأخذ - على سبيل المثال - الشعر الصوفي والشعر الرومانسي ومدى الاشتباه، إن لم نقل الاضطراب الذي قد يقع فيه غير قليل من النقاد في تفسير التجربة الشعرية وما يلحقها من إبداع شعري صوفي أو رومانسي، كلٌّ على حدة، وإلحاقهما بتياريهيا أو باتجاهيهما أو بمدرستيهما بسبب ما يحيط هذين الشعرين من تشابه ولاسيما في جانب الصور و الأخيلة5. ومع ذلك يبقى الشعر الرومانسي هو غير الشعر الصوفي، فالأول استجابة للذات نحو الذات، أما الثاني فهو استجابة للسمو نحو السمو، للذات نحو العلو.(99/2)
2- يجب الوقوف موقف الدارسين المحللين أمام تلك الآراء المتناثرة في بطون كتب المستشرقين، ولا نسلم بموضوعيتها بله صحتها، فلقد كان للمستشرقين اليد الطولى في إبداء الكثير من النظريات والآراء النقدية حول تراثنا الإسلامي، ومنه التصوف... آراء أقل ما يقال عنها إنها لا تستند إلى الدراسة الشمولية التي تقوم على المنهج العلمي سبيلا، وعلى الموضوعية وسيلة وكانوا سببا في توجيه الفكر الإسلامي وجهة تتباين والأصول الإسلامية. ولا عجب فقد قام نفر من هؤلاء المستشرقين بتأليف "دائرة المعارف الإسلامية"، وفيها من الآراء والأخطاء ما لا يخفى على دارس منصف وما تزال هذه الآراء تسري عند تلامذتهم من الغربيين والعرب على حد سواء ممن تأثروا بهم إلى حد النقل الحرفي من كتبهم ومن هؤلاء المستشرقين نجد آربري, جب, مرجيلوت, نيلكوس من إنجلترا، وجولد تسهير من المجر وغيرهم.
3- غير صحيح تلك المبالغات التي مفادها أن التصوف الإسلامي يستمد أصوله من مؤثرات خارجية, أجنبية عنه ونحن إذ لا تنكر التأثير والتأثر بين الثقافات الإنسانية فإنا - في مجال التصوف - نقف موقف ريبة من هذا الرأي. فالتصوف مقامات "والمقام هو قيام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من المجاهدات والرياضات والعبادات"6 والصوفي المسلم لم يجاوز في كل مقاماته حدود القرآن وسيرة الرسول (ص)، فمقامات الزهد والحب والتوكل والتوبة والذكر وغيرها تجد في القرآن الكريم والحديث الشريف مرتكزاتها، فهما الاثنان منبتها. وإن رابعة العدوية وهي شهيدة العشق الإلهي كانت أول من نادت في شعرها بحب الله بعيدا عن طمع في جنة أو خوف من نار، ولما تعلن عقيدة الحب في تقربها وتبتلها لله بقولها.
عرفت الهوى مذ عرفت هواك
وقمت أناجيك يا من ترى
أحبك حبين حب الهوى
فأما الذي هو حب الهوى
وأما الذي أنت أهل له
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... وأغلقت قلبي عمن سواك
خفايا القلوب ولست أراك(99/3)
وحبا لأنك أهل لذاك
فشغلي بذكرك عمن سواك
فكشفك للحجب حتى أراك
ولكن لك الحمد في ذا وذاك
فلم تكن تحتاج في حبها هذا إلى اكثر من آيتين. الأولى، هي قوله تعالى : "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"7. والثانية، هي قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"8. ولنقس على مقام الحب كل المقامات الصوفية فلا حياد فيها عن القرآن الكريم.
4- إن الأدب الصوفي على كثرته وثرائه يحتاج اليوم، وأكثر من ذي قبل إلى آليات قراءة ومناقشة وتحليل وغربلة بغية فك رموزه وتصفيته من شوائب علقت به على مر العصور. ذلك أن القراءة المتباينة والمتناقضة للنص الواحد قد جرّت ويلات على كبار الصوفية، فالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي هو شيخ العارفين وإمام الصوفيين عند نفر من النقاد والدارسين. وهو على العكس من ذلك خارج عن جادة الصواب وينعت بأبشع النعوت عند آخرين.
والحلاج كذلك، هو الولي، التقي، النقي، الورع، عند أقوام. وهو نفسه الزنديق الملحد عند أقوام آخرين. والغريب أننا واجدون النص الواحد عند هؤلاء الصوفية الأقطاب يكون محل تفسير وتأويل بغير ضوابط منهجية فتنجرّ من وراء ذلك أحكام نقدية متباينة.9
ثانيا، بناء الإنسان : معنى البناء : ورد في لسان العرب لابن منظور: البَنْيُ نقيض الهدم. بنى البَنَّاءُ البناء بنيا وبناء وبِنًى. وقد تكون البناية في الشرف. يقول الشاعر العربي :
متى يبلغ البنيان تمامه ... إذا كنت تبنيت وغيرك يهدم
وبنى الرجلَ : اصطنعه. يقول الشاعر :
يبني الرجالَ وغيره يبني القرى ... شتان بين قرى وبين رجال10(99/4)
معنى الإنسان عند الصوفية : يذكر الجرجاني تعريفا شاملا للإنسان بقوله : "الإنسان هو الحيوان الناطق.. والإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية، والكونية الكلية، والجزئية. وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية، فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمى بأم الكتاب، ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ، ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه، وإن النفس الكلية قلب العالم الكبير كما أن النفس الناطقة قلب الإنسان، وكذلك يسمى العالم بالإنسان الكبير".11
وقد شاع عند المتصوفة مفهوم الإنسان الكامل والمقصود به الرسول (ص). يقول الشيخ الجيلي في كتابه الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، وفي الباب الستين الذي يعنونه "بالإنسان الكامل وأنه محمد (ص) وأنه مقابل للحق والخلق"12 ويقول "اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوليه إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى الآبدين فاسمه الأصلي الذي هو له محمد وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين..."13
ومن هذه المعاني اللغوية للبناء والمفاهيم الصوفية للإنسان، يمكن أن نستخلص أن الإنسان كيان ووجود قابل لأن يُصطنع ويُبنى لبنة لبنة، وجزءا جزءا. وكما ينمو جسده ذاتيا فإن روحه قابلة للسمو إن هو تعهدها بالرعاية والسقاية شأنها شأن الجسد، سواء بسواء. كما أن محور عملية البناء في الوجود بأكمله هو الإنسان.
ففي الوظائف الثلاثة : الخلافة والعمارة والعبادة يكون الإنسان هو قطب الراحة الذي عليه مدار هذه الوظائف العظمى. إذن ليس غريبا أن يكون أدب الصوفية كله وبلا استثناء منصبّا على الإنسان بغية بنائه.(99/5)
5- تجليات البناء : إن أهم مرتكز يستند عليه الصوفية في بناء الإنسان هو الروح وتهذيب النفس. فالإنسان روح وجسد متكاملان، إلا أنه لم يُكرَّم إلا بعد النفخ بالروح : "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ,فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين..."14
وأهم ما يقاس به الإنسان الفرد والجماعة الإنسانية في مساعيها الحضارية هو روحانياتها، وإرثها الروحي ولذلك كان الشاعر العربي يصدر عن رؤية كونية لما قرر هذه الحقيقة قبل قرون فقال :
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته
أقبل على النفس واستكمل فضائله ... أتطلب الربح فيما فيه خسران
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان15
وأول ما يسعى إليه الصوفية في أدبهم هو تبيان سبيلهم وإجلاء الغموض الذي قد يكتنف نهجهم فيعرّفون التصوف. يقول أحدهم :
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه
ولا صياح ولا رقص ولا طرب
بل التصوف أن تصفو بلا كدر
وأن تُرى خاشعا لله مكتئب ... ولا بكاؤك إن غنى المغنون
ولا اضطراب كأن قد صرت مجنون
وتتبع الحق والقرآن والدين
على ذنوبك طول الدهر محزونا16
وأكتفي بهذين النموذجين الشعريين على سبيل الاستشهاد والتمثيل وما يقتضيه مقام المداخلة. لكني أكاد أجزم أن الأدب الصوفي كله شعر ونثره يتجه هذا الاتجاه، حيث الدعوة إلى الإصلاح والتربية وإعلاء شأن العقل الإنساني إلى أسمى مراتبه حتى امتزاجه بالنقل في أرقى منزلته.
ولما يلتحم الشعر الصوفي بنثره، يتكون لدينا ديوان أدبي طافح بالمبادئ السامقة الرفيعة، التي تعد تفسيرا عمليا للقواعد الإسلامية التي تنبثق من القرآن الكريم والسنة الشريفة. ففي الأبيات السالفة الذكر يتحدد مفهوم التصوف عند أصحابه على أنه تقوى ووفاء وعفة وصفاء وعلم واقتداء...، وما هي إلا خلال بانية تؤسس للأخلاق باعتبارها جوهر الحضارة.(99/6)
وجماع القول وصفوته، فإن التصوف وما يحتويه من أدب : شعره ونثره، وما يزخر به من ابتهالات وأدعية ومدائح وتوجيهات، ونصائح يعد بحق رافدا من روائد الثقافة الإسلامية في كل أبعادها، الدينية والفنية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وغيرها من القيم التي ترمي إلى بناء الإنسان. والأدب الصوفي أدب رساليّ، لم يُقل أو يُنظم لذاته بل لغاية سامية هي إعلاء الإنسان إلى مستوى عقيدته، فيكون فاعلا حضاريا في خلافته لربه وعبادته لخالقه وتعميره لأراضه.
الهوامش :
1- ينظر على سبيل المثال : د. عبد الرحمان بدوي : تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى القرن الثاني، الكويت، وكالة المطبوعات، ط. 2، 1978، ص 5 وما بعدها.
2- محمد بن عبد الجبار النفري : المواقف والمخاطبات، تح، آرثر أربي، تقديم وتعليق د. عبد القادر محمود، مصر، الهيئة المصرية للكتاب، 1985، ص 11
3- من المحاولات الجادة في هذا المجال ما كتبه د. محمد مفتاح في كتابه : "دينامية النص" وفي الفصل الربع منه الذي يحمل عنوان "سيرورة النص الصوفي". إذ إنه يبين أركان أربعة لكل كتابة : 1- الغرض المتحدث عنه، 2- المعجم التقني، 3- كيفية استعماله، 4- المقصدية، حتى يقال عنها إنها كتابة صوفية أو غيرها... ينظر، د. محمد مفتاح : دينامية النص، بيروت المركز الثقافي العربي، ط. 2، 1990، ص 129
4- محمد بن عبد الجبار النفري : المواقف والمخاطبات، مرجع سابق، ص 13
5- لابد من الإشارة عند التفريق بين المصطلحات، وتسمية الإبداع باسمه، ما قام به د. محمد مندور من تسمية الأدب المهجري بالأدب المهموس، على الرغم من النفحات الروحية التي تكسوه فتجعله قريبا من الأدب الصوفي، ولكنه لم يجرؤ على وسمه بهذه الصفة بل جعله أدبا مهموسا. ينظر، د. محمد مندور: في الميزان الجديد، تونس، مؤسسة ع. بن عبد القادر، ط. 1، 1988، ص 77 وما بعدها.(99/7)
6- ينظر، د. عبد المنعم الحفني : معجم مصطلحات الصوفية، بيروت، دار المسيرة، ط. 2، 1987، ص 248
7- سورة آل عمران، الآية : 31
8- سورة المائدة، الآية : 54
9- ينظر، الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي : ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، تح، خليل عمران المنصور، بيروت، دار الكتب العلمية، ط. 1، 2000، ص 35-36
10- ينظر، لسان العرب لابن منظور، مادة : بني، ومادة : هدم.
11- علي بن محمد الشريف الجرجاني : كتاب التعريفات، بيروت، مكتبة لبنان، 1985، ص 39-40
12- ينظر، الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي : الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر، تح، أبو عبد الرحمان صلاح بن محمد بن عويضه، بيروت, دار الكتب العلمية, ط. 1، 1998، ص 207. ينظر كذلك، د. عبد الرحمان بدوي : الإنسان الكامل في الإسلام.
13- المصدر نفسه، ص 210
14- سورة الحجر، الآية 29
15- البيتان للشاعر أبى الفتح البستي، ينظر د.عمر فروخ : تاريخ الأدب العربي، ج.3، بيروت, دار العلم للملايين، ط.4، 1984، ص 49
16- ينظر، د.عبد المنعم خفاحي : الأدب في التراث الصوفي مصر, القاهرة، دار غريب للطباعة، ص 25-26(99/8)
كتاب
تبرئة الشيخين الامامين
من تزوير اهل الكذب
******
من تأليف
العالم العامل ، والاستاذ الفاضل ، الشيخ سليمان بن سحمان
من علماء نجد الاعلام
أثابه الله تعالى ونفع به
آمين
****
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له آله الأولين والآخرين ، وقيوم السموات والأرضين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
( أما بعد ) فاني قد وقفت سنة الف وثلاثمائة وثلاثين بعد الهجرة النبوية على منظومة وشرحها تنسب إلى الأمير محمد بن اسمعيل الصنعاني رحمه الله تعالى أرسلها إلينا بعض الاخوان وهي بقلم محمد بن حسين بن محسن الانصاري اليماني فلما تأملتها علمت يقينا أنها موضوعة مكذوبة على الامير محمد بن اسمعيل الصنعاني وذلك ان اعترضه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بذلك اعتراض جاهل يتمعلم يصان عنه كلام الامير محمد بن اسمعيل الصنعاني لعلو قدره ن وعظم فضله وامامته ، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها ، فكيف يجوز ان ينسب إليه مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الادلة الشرعية ، والاحكام المعلومة النبوية ؟ وهل يقول مثل هذا الاعتراض الا جاهل فلو لم يكن عن الامير محمد قول يناقض هذا لعلمنا أنه لا يقوله لأنه يناقض ما ذكره في ( تطهير الاعتقاد ) وفي غيره من كتبه .
وقد بلغني ان الذي وضع هذا النظم وشرحه رجل من ولد ولده وهو اللائق به لعدم معرفته ورسوخه في العلم فاستعنت الله على رد أفكه وعدوانه وكذبه وظلمه وبهتانه ، ليعلم الواقف عليها براءة الامير محمد بن اسمعيل منها وانها موضوعة مكذوبة عليه .(100/1)
قال شارح النظم لما بلغت هذه الابيات نجداً وصل غلينا بعد أعوام من بلوغها رجل عالم يسمى الشيخ مربد بن أحمد التميمي كان وصوله في شهر صفر عام ست وسبعين ومائة والف وأقام لدينا ثمانية أشهر وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه وفار تنافي عشرين من شوال سنة رجع إلى وطنه وصل من طريق الحجاز مع الحجاج وكان من تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي وجهنا إليه الابيات وأخبرنا ببلوغها ولم يأت بجواب عنها وكان قد تقدم في الوصول غلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها من سفك الدماء ونهب الأموال وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الامة المحمدية في جميع الاقطار إلى آخره .(100/2)
( والجواب ) أن نقول قد كان من المعلوم عند الخاص والعلم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد نشأ يفي أناس قد اندرست فيهم معالم الدين ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد إلا بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى وأما الاكثرون فعاد المعروف بينهم منكراً والمنكر معروفاً ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير ففتح الله بصيرة شيخ الاسلام بتوحيد الله الذي بعث الله به رسله وأنبياءه فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له وما حرم الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه فقال لهم ما قاله المرسلون لاممهم ( أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) فحجب كثيراً منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه ونشأوا عليه من الشرك والبدع فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى توحيد ربهم وطاعته ولمن استجاب له وقبل دعوته وأصغى إلى حجج الله وبيناته كحال من خلا من أعداء الرسل كما قال تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً ) وقال تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )(100/3)
إذا تحققت ما ذكرته لك من حال الشيخ رحمه الله تعالى ودعوته إلى توحيد الله بأنواع العبادة وترك عبادة ما سواه وما كان عليه أهل نجد قبل دعوته إلى دين الله ورسوله فاعلم ان هذا الرجل الذي يسمي مربد بن أحمد رجل من أهل حريملا لا يعرف بعلم ولا دين ولا كان من تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ولم يكن له قدم صدق في هذا الدين ولا معرفة له بل كان ممن شرق بهذا الدين لما أظهره الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكان قد ألف ما كان عليه قومه من الشرك بالله من دعاء الاولياء والصالحين وغير ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية وداخله بعض الحقد والحسد فأوجب له ذلك تلفيق ما موه به من الأكاذيب والترهات على الشيخ محمد رحمه الله وفر إلى صنعاء لما دخل اهل نجد في دين الله ولم يكن له في نجد مساعد على هذه الاكاذيب وكذلك الرجل الاخر المسمى بعبد الرحمن النجدي لم يكن من أهل العلم والدين ولا يعرف له نسب ينتمي إليه بل كان من غوامض الناس الخاملين وقد انقرض عصر الدرعية وبعده بأعوام لم نسمع لهذين الرجلين بخبر ولم نقف لهما على أثر وكان قد دخل أهل اليمن في ولاية المسلمين وعرفوا صحة هذا الدين ولم يشتهر هذا النظم عن الامير محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله ولا هذا الشرح ولا ثبت هذا الرجوع عنه (1) ولا ظهر ولا اشتهر في تلك المدد المديدة والسنين العديدة ، حتى جاء هذا المزور فوضع هذه المنظومة وجعل عليها هذا الشرح اللائق به ، فلله الحمد وله المنة حيث كان نظامه واعتراضه بهذه المثابة ، التي لم تكن على طريق الحق والاصابة ، بل كان مبناه على شفا جرف هار من الاكاذيب والترهات ، التي لا يصغى إليها إلا القلوب المقفلات ، ولا يغتر بها إلا أهل الجهالات والضلالات
__________
(1) اشار في هذا وما قبله إلى القصيدة التي كان الامير مدح فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عصره وأرسلها إليه ومطلعها * سلام على نجد ومن حل في نجد * كما سيأتي .(100/4)
( افمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ومن جملة هذه الاكاذيب ما ذكره عن عبد الرحمن النجدي من الاوضاع التي لا تجدي أن شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يسفك الدماء وينهب الاموال ويتجارى على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفير الامة المحمدية في جميع الاقطار وهذا كله كذب وسيأتي الجواب عن ذلك إن شاء الله تعالى.
( فصل )
وأما قوله فبقي معنا ترد فيما نقل الشيخ عبد الرحمن النجدي حتى وصل الشيخ مربد بن احمد وله نباهة ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم وحقق لنا أحواله إلى آخر ما قال .
( فالجواب ) أن يقال قد كان من المعلوم أن هذا الرجل كما وصفنا حاله أولاً أنه لا يوثق بنقله ولا يعول عليه لنقصان دينه وعقله ، فأما ما ذكر من تكفيره لأهل الايمان وقتلهم ونهبهم فكذب وبهتان ، وزور وعدوان ، فلم يكفر رحمه الله إلا عباد الاوثان من دعاة الاولياء والصالحين وغيرهم ممن أشرك بالله وجعل له أنداداً بعد اقامة الحجة ووضوح المحجة وبعد أن بدوه بالقتال فحينئذ قاتلهم وسفك دماءهم ونهب أموالهم ومعه الكتاب والسنة واجماع سلف الامة وأئمتها وقد وافقه الامير محمد بن اسماعيل على ذلك وأقره عليه .
( واما قوله ) وحقق لنا أحواله وأفعاله وأقواله .(100/5)
( فالجواب ) أن يقال قد تقرر عند الخاصة والعامة أن ما ذكره هذا المفتري من حال الشيخ وأفعاله وأقواله إذا تأملها المنصف تحقق يقينا أنه لا حقيقة لها وغنما هي كسراب بقية يحسبه الظمآن ماء حتى إذا ما جاءه لم يجده شيئاً ، وقد ظهر كذب هذا وأظهر الله هذا الدين وبلغ مشارق الارض ومغاربها وانتشرت هذه الدعوة فلم تبق ارض إلا وقد بلغتهم وأقروا بها ودخلوا في دين الله وعرفوا صحة هذا الدين وأنه على ما كان عليه السلف الصالح والصدر الاول في الفروع والاصول ؛ ولكن هؤلاء الملاحدة ينفرون الناس عن الدخول فيه ( يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) واظهره الله وهو كارهون ، وحيل بين القوم وبين ما يشتهون ( وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ) .
( وأما قوله ) فرأينا أحوال عرف من الشرع شطراً ولم يمعن النظر .(100/6)
( فالجواب ) ان يقال هذا قول جاهل ( جهله ) مركب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهل يقول عاقل فضلاً عن العالم انه عرف احوال الشيخ ورآها وهو لم يذكر مما عرف ولا مما رأى شيئاً يخالف كتاب الله وسنة رسوله أو كلام العلماء فبماذا عرفها ورآها ؟ أبخير هؤلاء الزنادقة المفترين الذين لا يعول على قولهم ونقلهم رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ أم عرف ذلك من رسائل الشيخ ومصنفاته ؟ فإن كان عرفها من رسائل الشيخ ومصنفاته فهلا ذكرها بلفظها في هذا الاعتراض حتى يتبين للمنصف صدقه أو كذبه ، وهل هو من أهل العلم الراسخين أو من الجهلة المتمعلين ؟ فهذه كتب الشيخ ومصنفاته موجودة معلومة ليس فيها ولله الحمد والمنة شيء مما ذكره هؤلاء الزنادقة ( الذين يصدون عن سبيل الله من امن به ويبغونها عوجا ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ) ولا آمن أن يكون هذا الرجل المسمى مربداً قد ادخل في رسائل الشيخ التي زعم أنه اتاهم بها من الكذب والزور ما هو اللائق بعقله ودينه والله عند لسان كل قائل وقلبه ، وهو المطلع على نيته وكسبه وحسبنا الله ونعم الوكيل .(100/7)
نعم قد ذكر هذا المعترض ما نقله الشيخ محمد رحمه الله عن شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتال أهل الردة وإنهم لم يفرقوا بين ما نعي الزكاة وغيرهم ولا بين المقر بها والجاحد لها بل سموهم كلهم أهل الردة ، وكذلك ذكر إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيدو على قتله ، وإجماع التابعين على كفر الجعدين درهم وعلى قتله وعلى كفر العبيدين ملوك مصر وقتالهم وزعم أن هذا كله لا إجماع فيه ، وزعم أن من فعل كما فعل أهل الجاهلية من كفار قريش وغيرهم من دعاء الانبياء والأولياء والصالحين والالتجاء إليهم والاستغاثة بهم وطلب الشفاعة منهم أن كفره كفر عمل لا يخرج من الملة وانهم قد آمنوا بالله ورسوله لا تباح دماؤهم وأموالهم كما ستقف على كلامه إن شاء الله تعالى .
( وأما قوله ) ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ويدله على العموم النافعة ويفقهه فيها .
( فالجواب ) أن يقال أما الهداية فبيد الله تعالى لا يملكها أحد سواه وقد قال رحمه الله في رسالته إلى محمد بن عبد الله بن عبد اللطيف وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة ولله الحمد والمنة وبه القوة بل أقول ( انني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) ولست ولله الحمد ادعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين اعظمهم مثل ابن القيم أو الذهبي أو ابن كثير أو غيرهم ، بل ادعو إلى الله وحده لا شريك له وادعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها أول أمته وآخرها – إلى آخرها فهو ولله الحمد على صراط مستقيم . وقد بذل الجد والجهد في الدعاء إليه .
وأما أسباب الهداية من القراءة على العلماء والرحلة في طلب العلم وغير ذلك من الاسباب فقد ذكر علماء نجد طرفاً منهم الشيخ أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى قال في تاريخه ما ملخصه :(100/8)
(( وكان مولده رحمه الله سنة خمس بعد المائة والالف من الهجرة النبوية في بلد العيينة من أرض نجد ونشأ بها وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر وكان حاد الفهم سريع الادراك والحفظ يتعجب أهله من فطنته وذكائه ، وبعد حفظ القرآن اشتغل وجد في الطلب وأدرك بعض الأرب قبل رحلته لطلب العلم وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس . قال أخوه سليمان وكان والده يتعجب من فهمه ، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه ، ووالده مفتي تلك البلاد وجده مفتي البلاد النجدية ، آثاره وتصنيفه وفتاواه تدل على علمه وفقهه وكان جده إليه المرجع في الفقه والفتوى ، وكان معاصراً للشيخ منصور البهوي الحنبلي خادم المذهب اجتمع به بمكة . وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للإمامة ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام ، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام ، وبادر إلى قضاء فريضة الاسلام ، وأداء فريضة الاسلام ، وأداء المناسك على التمام ، ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وأقام بها قريباً من شهرين ن ثم رجع إلى وطنه قرير العين ، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الامام أحمد رحمه الله ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم ، وذاق حلاوة التحصيل والفهم ، وزاحم العلماء الكبار ورحل إلى البصرة والحجاز مراراً واجتمع بمن فيها من المشايخ والعلماء الاخيار ، وأتى إلى الاحساء وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء فسمع وناظر وبحث واستفاد ، وساعدته الاقدار الربانية بالتوفيق والامداج ، وروي عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني وأجازه من طريقين وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالاولية كتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم (( الراحمون يرحمهم الرحمن فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )) وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى(100/9)
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا اراد الله بعبده خيراً استعمله )) قالوا كيف يستعمله ؟ قال (( يوفقه للعمل الصالح قبل موته )) وهذا الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله . وطالت إقامة الشيخ ورحلته إلى البصرة وقراً بها كثيراً من الحديث والفقه والعربية وكتب من الحديث والفقه واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات وكان يدعو إلى توحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه ويستدل عليه ، ويظهر ما عنده من العلم وما لديه ، وكان يقول ان الدعوة كلها لله لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه ، وربما بمجلسه اشارات الطواغيت أو شيئاً من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم ويلجئون إليهم في المهمات ن وكان ينهى عن ذلك ويزجر ، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر ، ويختبر أن محبة الاولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين ، وأما دعوى المحبة والمودة مع المخالفة لسنته ولطريقته فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند النظر والحقيقة ن ولم يزل على ذلك رحمه الله .
ثم رجع إلى وطنه ووجد والده قد انتقل إلى بلد حريملا فاستقر فيها ، يدعو إلى السنة المحمدية ويبديها ن ويناصح من خرج عنها ويفشيها ، حتى رفع الله شأنه ورفع ذكره ، ووضع له القبول ، وشهد له بالفضل ذووه من أهل المعقول والمنقول ن وصنف كتابه المشهور ( بالتوحيد ) وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد ، وقرأ عليه هذا الكتاب المفيد ، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد ، وشاعت نسخه في البلاد ، طار ذكره في الغور والانجاد ، وفاز بصحبته واستفاد ، من جردالة – وسلم من الاشرار والبغي والفساد ، وكثر بحمد الله محبوه وجنده وصار معه عصابة من فحول الرجال ، وأهل السمت والكمال ، يسلكون معه الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق )) .(100/10)
فهذا بعض ما ذكره علماء وقته من حاله وأقواله وأفعاله وقراءته ورحلته لطلب العلم ومزاحمته للعلماء والمشايخ الكبار . فأين هذا من قول هؤلاء الزنادقة الجهلة الذي لا يعرفون بعلم ولا فضيلة ولا دين بل كان حظهم من ذلك الصد عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً وحسبنا الله ونعم الوكيل .
واما قوله بل طالع بعضاً من مؤلفات الشيخ أبي العباس ابن تيمية ومؤلفات تلميذه ابن القيم الجوزية وقلدهما من غير اتقان مع أنهما يحرمان التقليد .
( فالجواب ) أن نقول نعم قد طالع الشيخ رحمه الله مؤلفات شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وأسام ثاقب فكره في رياض تلك المؤلفات ، وورد من غير معين تلك الحياض الصافيات ، فازداد بها علماً وإيماناً ، وتحقيقاً وإتقاناً ، وأما دعوى التقليد لهما فلا حقيقة لذلك بل كان مقتدياً بهما ومتبعا لهما على ما أوضحا من الدليل من الكتاب والسنة وأقوال سلف الامة ، ونعم المقتدي بهما فانهما كانا على الصراط المستقيم .
وقوله ولما حققت لنا أحواله ورأينا في الرسائل أقواله .
( فنقول ) لم تتحقق على الحقيقة أحواله ، ولم تر بعين البصيرة ما في تلك الرسائل من أقواله ، اللهم إلا أن يكون هذا الرجل قد أدخل فيها مالاً ينبغي مما يصدق نزويره وبهتاته ، فاغتر بها من أصغى إلى هذيانه وعدوانه ، فلا مانع من ذلك لما انطوى عليه من عداوة أهل الاسلام وارادة التنفير والصد عن سبيل الله وليس ببدع ولا مستنكر من هؤلاء الزنادقة .
وأما قوله وذكر لي أنه أنما أعظم شأنه بوصول الابيات التي وجهناها إليه .(100/11)
( فأقول ) لا جرم ان هذا القول لا يقول ه الامير بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله ولا يليق بحاله وجلالته وامامته وورعه وزهده وأنه لا يتشبه بما لم يعط فإن هذا الاكان ولا يكون ن وقد رفع الله قدر الشيخ بما علمه من العلم وما حباه من العقل ووضع له القبول في قلوب الناس قبل أن تصل إليه هذه المنظومة وهذه المقالة من هذا الشارح تدل على قلة عقله وعدم علمه ورغبته فيما عند الله فإنه إنما قال هذا ليترفع به ويتكثر به وهذا ليس من شأن العلماء العاملين والأئمة المحققين .
وأما قوله فإنه تعين نقض ما قدمناه وحل ما أبرمناه .
( فالجواب ) أن نقول وهذا مما يدل على أن هذا الكلام ليس من كلام الامير محمد بن إسماعيل فإنه كلام متناقض ينقضض آخره أوله لأنه ذكر في آخر النظم أنه لم يرجع عما قاله أولاً وأنه الحق وانما أنكر القتل والنهب وتكفير المسلمين وهذه الدعوى تخالف ما قاله في أول نظمه وتنافيه فعلمنا قطعا أن هذا النظم والشرح مكذوب موضوع عليه .
( وأما قوله ) ولما أخذ علينا الشيخ مربد ذلك تعين علينا لئلا نكون سببا في شيء من هذه الامور التي ارتكبها ابن عبد الوهاب المذكور كتبت أبياتاً وشرحتها إلى آخره .
( والجواب ) ان نقول وهذا أيضاً من نمط ما قبله فإنا قد بينا أولاً أن دعوة الشيخ رحمه الله إلى دين الله ورسوله ودخول الناس في هذا الدين أفواجاً حتى بلغ مشارق الارض ومغاربها لم تتوقف على ما ذكره في هذه الأبيات التي أثنى بها على الشيخ محمد رحمه الله وإنما استفاد هو منها ثناء المسلمين عليه بموافقته على الحق فإنه ذكر فيها أنه لم يكن معه على هذه الطريقة أحد ولم يتابعه فيها أهل بلده ووطنه بل كلهم مخالفون له فكيف يجوز مع ذلك أن يقول بما قال ولا حقيقة له وهذا مما يرزي به ولو كان ما ذكر حقاً وصدقاً فالله المستعان .
( وأما قوله ) واكثرت من النقل عن ابن القيم وشيخه لأنهما عمدة الحنابلة .(100/12)
( فالجواب ) ان يقال كان الرجل المفتري على العلماء ما لم يقولوه يعرض بأن في كلام ابن القيم وشيخه شيخ الاسلام ابن تيمية ما يخالف ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويرد عليه وهذا كذب فإنه ليس في كلام الشيخ محمد رحمه الله ما يخالف ما قالاه وغنما يتكثر هذا بما ليس عنده وما لا حقيقة له ليوهم من لا علم له بمدارك الاحكام وكلام الائمة الاعلام انه قد أخذ على الشيخ محمد في كلامه ما يخالف كلام الشيخين والله عند لسان كل قائل وهو المطلع على نيته وكسبه .
( قال ) المعترض فيما زور على الامام الامير محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
ظننت به خيراً وقلت عسى عسى
فقد خاب فيه الظن لا خاب نصحنا
وقد جاءنا من أرضه الشيخ مربد
وقد جاء من تأليفه برسائل
ولفق في تكفيرهم كل حجة
تجاري على اجرا دما كل مسلم
وقد جاءنا من ربنا في براءة
فاخواننا سماهم الله فاستمع ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
نجد ناصحاً يهدي الانام ويستهدي
وما كل ظن للحقائق لي يهدي
فحقق من أحواله كل ما يبدي
يكفر أهل الارض فيها على عمد
تراها كبيت العنكبوت لدى النقد
مصل مزك لا يحور عن العهد
براءتهم من كل كفر ومن جحد
لقول الآله الواحد الصمد الفرد
( والجواب ) ومن الله نستمد الصواب .
ألا قل لذي جهل تهور في الرد
وفاه بتزوير وافك ومنكر
وزور نظما للامير محمد
لعمري لقد أخطأت رشدك فاتئد
وقد صح ان النظم هذا تقول
وما كان هذا النظم منظوم عالم
ولكنه جهل صريح مركب
وها أنا ذا أبدي مخازيه جهرة
لتعلم أن الفدم هذا مزور
يخالف ما قال الامير محمد
فازرى به من حيث يحسب أنه
وحسبك من هذا ضلالا وفرية
فجاء على تزويره بدلائل
إذا صح ما قلنا لديك فقوله
رجوع عن الحق الذي هو ذاكر
إلى الغني من كفر وشرك وبدعة
فلو صح هذا وهو لا شك باطل
لكان لعمري ضحكة وتناقضا
فدونك ما ابدى من المدح والثنا
( ففي واسألي عن عالم حل سوحها(100/13)
( محمد الهادي لسنة أحمد
( لقد انكرت كل الطوائف قوله
( وما كل قول بالقبول مقابل
( سوى ما أني عن ربنا ورسوله
( وأما أقاويل الرجال فإنها
( لقد سرني ما جاءني من طريقه
( وقد جاءت الاخبار عنه بأنه
( وينشر جهلاً ما طوى كل جاهل
( ويعمر أركان الشريعة هادماً
( أعادوا بها معني سواع ومثله
( وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
( وكم عقروا في سوحها من عقيرة
( وكم طائف حول القبور مقبل
فهذا هو المعروف من حال شيخنا
وسار مسير الشمس في كبد السما ولم يبق أرض ليس فيها مجدد
فقل للذي أبدى خزاية جهله
أعد نظراً فيما توهمت حشنه
ودعنا من القول المزور والهذا فقد وافق الشيخ الامام محمد
وظن به خيراً وقد كان أهله
وقد جاءهم من أرضه متهوك
ففاه ببهتان وافك مزور
وقد جهل ذا جهل وليس بعالم
وظن طريق الرشد غيا بزعمه
واعمهه نور الهدى حين ما بدا
فما غرهم من جهله وافترائه
إلى أن تولى ذلك العصر وانقضى
فساغ لديهم زخرف القول وارتضوا
وقد زعم المأفون أن رسائلاً
يكفر فيها الشيخ من كان مسلماً
ولفق في تكفيرهم كل حجة
وذا فرية لا يمتري فيه عاقل
وقد كان في الاعراض ستر لجهله
ليخدع مأفونا ومن كان جاهلاً
فما كفر الشيخ الامام محمد ولا قال في تلك الرسائل كلها
ولكنما تكفيره لمن اعتدى
ويدعو سوى الرحمن جل جلاله
وينسك للأموات بل يستغيثهم
وذلك اشراك به لاتخاذه
من الحب والتعظيم والخوف والرجا
فان كان عباد القبور لديكمو
وهم كل اهل الارض والكل مسلم
وما قد تلي من آية في ضلالهم
ملفقة ليست لديكم بحجة
فما فوق هذا من ضلال وفرية
( وقد انكرت كل الطوائف قوله
كما قاله أعني الامير محمداً
وقالوا كما قد قلتموه تحكماً
( تجاري على أجرا دما كل مسلم
ثكلتك هل هذا كلام محقق
فجرتم وجرتم بالاكاذيب والهذى
كقولك في منظوم مينك فرية
( وقد جاءنا عن ربنا في براءة
( فاخواننا سماهم الله فاستمع
أقول تأمل لا أبالك نصها
فقيها البيان المستنير ضياؤه
ولكن أهل الزيغ في غمراتهم(100/14)
وآذانهم صم عن الحق والهدي
أليست لمن تابوا من الكفر والردى
وصلوا وزكوا واستقاموا على الهدى
فأين الدليل المستفاد بانهم
فما كفر الشيخ الامام محمد
ومن لم يتب من كفره وضلاله
وأجرى دماهم طاعة وتقربا
فما كل من صلى وزكى موحداً
وعدعنا من التمويه فالحق واضح
الا فأرونا يا ذوي الغي والهوي
وجيئوا بتطهير اعتقاد لسيد
نقابل ما قلتم بما في كتابه
لكي تعلموا ان الامير محمداً
وتستيقنوا ان الاكاذيب هذه
ويعلم أهل العلم بالله انكم
لكي تطمسوا أعلام سنة أحمد ... وأظهر مكنونا من الغي لا يجدي
وظلم وعدوان على العالم المهدي
وحاشاه من افك المزورذي الجحد
فلست على نهج من الحق مستبد
تقوله هذا الغبي على عمد
تقي نقي بالهدى للورى يهدي
ومنشئه عن منهج الرشد في بعد
وانقض ما يبديه بالحق والرشد
وأن الذي أبداه من جهله المردى
وقرر في ( التطهير ) تقرير ذي نقد
أشادله بيتا رفيعاً من المجد
على البعدا فضلاً عن الاب والجد
تعود على ما قال بالرد والهد
(( رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ))
عن السلف الماضين من كل ذي رشد
الى غير ذا من كل أفعال ذي الطرد
وزور وبهتان من الناظم المبدي
لما قال في منظومة عن ذوي المجد
وما قال في ذم المخالف والضد
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد)
فياحبذا الهادي وياحيذا المهدي )
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد )
ولا كل قول واجب الطرد والرد )
فذلك قول جل ياذا عن الرد )
تدور على قدر الادلة في النقد )
وكنت أرى هذى الطريقة لي وحدي)
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدى )
ومبتدع منه فرافق ما عندي )
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد)
يغوث وود بئس ذلك من ود )
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد )
أهلت لغير الله جهراً على عمد )
ومستلم الاركان منهن باليد )
ودعوته للخلق بالحق والرشد
وطبق من غرب البلاد إلى الهند
على أثره يقفو ويهدي ويستهدي
وأبرز منظوما خليا من الرشد
فإنك لم تنطق بحق ولا رشد
ومن افكك الواهي ومن جهلك المردى(100/15)
وصح له عنه خلاف الذي تبدى
وكان على حق وبالحق يستهدى
جهول يسمى مربداً وهو ذو جحد
وكان عن التحقيق والحق في بعد
وقد انكر التوحيد للواحد الفرد
وقد الف المأفون كفرانه المردي
وفر إلى صنعا وفاه بما يبدي
زخارف ما ابداه ذو الزور والحقد
وجاء اناس بعدهم من ذوي الطرد
من الظلم والعدوان أقوال ذي الجحد
أتاهم بها فيها التجاوز للحد
وفي زعمه كل الانام على عمد
تراها كبيت العنكبوت لدى النقد
على أنه زور من القول مستبدي
ولكنه ابدى مخازيه عن قصد
وليس على نهج من الحق والرشد
جميع الورى حاشاه من قول ذي الطرد
بتكفير أهل الأرض من كل مستهدي
وحاد عن التوحيد بالجعل للند
ويرجوه بل يخشاه كالنعم المسدي
ويندب من لا يملك النفع للعبد
مع الله مالوها شريكاً بما يبدي
ومن كل مطلوب من الله بالقصد
هم المسلمين المؤمنين ذوي الرشد
وما منهمو من كافر جاعل الند
ومن سنة للمصطفى خير من يهدي
وتلك كبيت العنكبوت لدى النقد
يجيء بها اهل العناد ذوو الطرد
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد )
وقد كان ذا علم عليما بما يبدي
وهمطا وخرطا لا يفيد ولا يجدي
مصل مزك لا يحول عن العهد )
كعالم صنعا ذي الدراية والنقد
ووضع مجالات على العالم المهدني
عليه بما تبديه من جهلك المردى
براءتهم من كل كفر ومن جحد )
لقول الاله الواحد الصمد الفرد )
تجد منهلا عذبا الذ من الشهد
لمن كان ذا قلب شهيد وذا رشد
وفي غيهم لا يرعوون لمن يهدي
وأبصارهم عن رؤية الحق كالرمد
ولم يشركوا شيئاً بمعبودنا الفرد
فهم إخوة في الدين من غير مارد
إذا لم يتوبوا لم يكونوا ذوي جحد
سوى من دعا الاموات من ساكن اللحد
واشراكه بالسيد الصمد الفرد
إلى الله في قتل الملاحدة الله
فأبد دليلاً غير ذا فهو لا يجدي
وليس به لبس لدى كل مستهد
كلاماً سوى هذي الاكاذيب مستبعد
امام محق ذي الدراية والنقد
وما قاله في الاحتجاج على الضد
بريء من المنظوم والشرح والرد
ملفقة لفقتموها على عمد
بذلتم على تلفيقها غاية الجهد(100/16)
بتزوير افاك جهول وذي حقد
( فصل )
ثم قال في شرحه لما ذكر من الابيات المتقدم ذكرها وقد أوجبناه عليها : قال الله تعالى في المشركين ( فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فاخوانكم في الدين ) فقولنا براءتهم أي براءة كل مسلم مصل مزك .
( فالجواب ) ان نقول قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى لما تبين في اظهار هذا الدين والدعوة اليه قد كان اهل عصره ومصره في تلك الازمان قد اشتدت غربة الاسلام بينهم وعفت أثار الدين لديهم وانهدت قواعد الملة الحنيفية وغلب على الاكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية وانطمست اعلام الشريعة في ذلك الزمان وغلب الجهل والتقليد والاعراض عن السنة والقرآن وشب الصغير وهو لا يعرف من الذين إلا ما كان عليه اهل تلك البلدان وهرم الكبير على ما تلقاه عن الاباء والاجداد ، اعلام الشريعة مطموسة ونصوص التنزيل واصول السنة فيما بينهم مدروسة ، وطريقة الاباء والاسلاف مرفوعة الاعلام ، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة قد خلعوا ربقة التوحيد والدين وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعليق على غير الله من الاولياء والصالحين والاوثان والاصنام والشياطين وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون ، ومن بحر الاجاج شاربون ، وبه راضون ، وغليه مدى الزمان داعون ، قد اعشتهم العوائد والمألوفات ، وحبستهم الشهوات والارادات عن الارتفاع الى طلب الهدى من النصوص المحكمات والآيات البينات ، يحتجون بما رووه من الآثار الموضوعات والحكايات المختلفة والمنامات ن كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات ، وكثير منهم يعتقد النفع في الاحجار والجمادات ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الاوقات ( نسوا الله فانساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون * الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم كفروا بربهم يعدلون * قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم(100/17)
والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله ما لا تعلمون )
( فأما بلاد نجد ) فقد بالغ الشيطان في كيدهم وجد ، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب ، وبدعونه رغبا ورهباً بفصيح الخطاب ، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج ، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج ، وكذلك عند قبر يزعمون انه قبر ضرار بن الازور ، وذلك كذب ظاهر وبهتان ومزور ، وكذلك عندهم نخل فحال ، يبتابه النساء والرجال ن ويفعلون عنده أقبح الفعال والمرأة إذا تأخر عنها الزواج ، ولم ترغب فيها الازواج ، تذهب إليه فتضمه بيدها وتدعوه برجاء وابتهال وتقول : يا فحل الفحول : اريد زوجاً قبل الحول ، وشجرة عندهم تسمى الطرفية أغراهم الشيطان بها وأوحى اليهم التعلق عليها وانها ترجى منها البركة ، ويعقلون عليها الخرق ، لعل الولد يسلم من السوء وفي أسفل بلدة الدرعية غار في الجبل يزعمون أنه انفلق من الجبل لامرأة تسمى بني الامير اراد بعض الناس أن يظلمها ويضير ، فانغلق الغار ، ولم يكن له عليها اقتدار ، وكانوا يرسلون الى هذا المكان من اللحم والخبز ما بقتات به جند الشيطان – وفي بلدتهم رجل يدعي الولاية يسمى تاج ، يتبركون به ويرجون منه العون والافراج وكانوا يأتون غليه ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه ، فتخافه الحكام والظلمة ويزعمون ان له تصرفا وفتكاً بمن عصاه وملحمة ، مع أنهم يحكون عنه الحكايات الشنيعة ، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة ، وهكذا سائر بلاد نجد على ما وصفنا من الاعراض عن دين الله والجحد لاحكام الشريعة والرد .(100/18)
ومن العجب ان هذه الاعتقادات الباطلة ، والمذاهب الضالة ، والعوائد الجائزة ، والطرائق الخاسرة ، قدفشت وظهرت ، وعمت وطمت ، حتى بلاد الحرمين الشريفين فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاثة عند نزول المصائب ، وحلول النوائب ، وكانوا له في غاية التعظيم ، ولا ما يجب عند البيت الكريم ، فلو دخل سارق أو غاصب أو ظالم قبر أحدهما لم يتعرض له أحد لما يرون من وجوب التعظيم والاحترام والمكارم ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف وكذلك عند قبر خديجة رضي الله عنها يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عنه من مسلم يرجو الله والدار الآخرة فضلاً عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة ن وفيه من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات وسوء الافعال ، ومالا يقره أهل الايمان والكمال ، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنهما يفعل عنده من الامور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين ، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين ن وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين ، منها وقوف السائل عند القبر متضرعاً مستكيناً ، وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستعيناً وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمت تحت ذاك المشهد والبنينة وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالاسواق : اليوم على الله وعليك يا ابن عباس فيستمدون منه الرزق والغوث وكشف الضر والبأس وذكر محمد بن حسين النعمي الزبيدي رحمه الله أن رجلاً رأى ما يفعل في الطائف من الشعب الشركية والوظائف فقال : أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس فقال له بعض من يترشح للعلم : معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله فانظر إلى هذا الشرك الوخيم والغلو الذميم المباين للصراط المستقيم ووازن بينه وبين قوله ( وإذا سألك عبادي عني(100/19)
فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان ) وقوله جل ذكره ( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً ) وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد يعبد الله فيها فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم والايمان ن وكذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام هو من هذا القبيل ، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل . وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده وهو القبر يزعمون انه قبر حواء ، وصفه لهم بعض الشياطين ، وأكثروا في شأنه الافك المبين ، وجعلوا له السدنة والخدم وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من النهي عن تعظيم القبور والفتنة بمن فيها من الصالحين . وكذلك مشهد العلوية بالغوا في تعظيمه وتوقيره وخوفه ورجائه . وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم وذلك في سنة عشر ومائتين وألف فهرب إلى مشهد العلوي مستجيراً ولائذاً به مستغيثاً فتركه أرباب الاموال ولم يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه في مدة سنين ن فنعود بالله من تلاعب الفجرة والشياطين .(100/20)
واما بلاد مصر وصعيدها وأعمالها فقد جمعت من الامور الشركية ، والعبادات الوثنية والدعاوي الفرعونية ، ما لايتسع له كتاب ، ولا يدنو له خطاب ، لاسيما عند مشهد أحمد البدوي وأمثاله من العتقدين في المعبودين فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية والتصريف في الكون بالمشيئة والقدرة التامة ما لم ينقل مثله عن أحد بعد الفراعنة والنماردة ، وبعضهم يقول يتصرف في الكون سبعة وبعضهم يقول أربعة وبعضهم يقول القطب يرجعون اليه وكثير منهم يرى ان الامور شورى بين عدد ينسبون اليه فتعالى الله عما يقول الظالمين علواً كبيراً ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) .
وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات والفواحش والمفاسد ما لا يمكن حصره ولا يستطاع وصفه واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات ما لا يصدر عمن له أدنى مسكة وحظ من المعقولات ، فضلاً عن النصوص والشرعيات ، وكذلك ما يفعل في بلدان اليمن ، جار على تلك الطرائق والسنن ففي صنعاء وبرع والمخا وغيرهما من تلك البلاد ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه ن ولا يمكن الوقوف على غايته وكشفه ، وناهيك بقوم استخفهم الشيطان وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم ، ولا يهمل الحقوق والمظالم وفي حضرموت والشحر وعدن ويافع ما تستك عن ذكره المسامع يقول قائلهم : شيء لله يا عيدروس شيء لله يا محبي النفوس – وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان وخلع زبقة الايمان ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن من ذلك رئيسهم المسمى بالسيد لقد أتوا من طاعته وتعظيمه وتقديمه وتصديره والغلو فيه بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والاسلام والانحياز إلى عبادة الاوثان والاصنام ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله … وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) .(100/21)
وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام فيها من تلك المشاهد والنصب والاعلام ما لا يجامع عليه أهل الايمان والاسلام من اتباع سيد الانام وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية والتلطف بتلك الاحوال الوثنينة الشركية – وكذلك الموصل وبلاد الاكراد ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد – وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان وعندهم مشهد الحسين قد اتخذه الرافضة وثناً بل ربا مدبراً وخالقاً ميسراً وأعادوا به المجوسية وأحيوا به معاهد اللات والعزى وما كان عليه أهل الجاهلية – وكذلك مشهد العباس ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر ن فإنهم افتتنوا بهذه المشاهد رامضتهم وسنتهم وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد وبالجملة فهم شر تلك الامصار وأعظمهم نفوراً عن الحق واستكباراً والرافضة يصلون لتلك المشاهد ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد وقد صرفوا من الاموال والنذور لسكان تلك الاجداث والقبور ما لا يحصل عشر معشاره للملك العلي الغفور ، ويزعمون ان زيارتهم لعلي وأمثاله أفضل من سبعين حجة لله تعالى وتقدس في مجده وجلاله ، ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والاحترام ، ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للاله الحق والملك العلام . ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولدية ، غير أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) وكذلك جميع قوى الشط والمجرة على غاية من الجهل والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرفضية والاحداث المجوسية والمقامات الوثنية ، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية . فمن اطلع على هذه الافاعيل وهو عارف بالايمان والاسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل ، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل ، خرجوا عن مقتضى القرآن والدليل . وتمسكوا بزخارف الشيطان ، وأحوال الكهان ، وما شابه هذا(100/22)
القبيل . وازداد بصيرة في دينه ، وقوى بمشاهدة ايمانه ويقينه ، وجد في طاعة مولاه وشكره ، واجتهد في الانابة إليه ومداومة ذكره ، وبادر إلى القيام بوظائف أمره ، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره ، فليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا .
إذا تحققت ما ذكرته له أيها المنصف من حال أهل تلك الازمان وما هم عليه من الشرك بالله من دعاء الصالحين الاولياء والاستغاثة بهم لتفريج الكربات واغاثة اللهفات وإزالة الشدات ومعافاة أولي العاهات والبليات وإخلاص الدعاء لهم في جميع الطلبات إلى غير ذلك من أنواع العبادات فما وجه الاستدلال بقوله تعالى ( فان تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) على عدم تكفيرهم وقتالهم ونهب أموالهم إن كان يرى أن ما صدر من اهل تلك الازمان ممن أخذ ماله فيئاً وغنيمة هو الشرك الاكبر وعبادة الاصنام وهو صريح الرد على الله وعلى رسله وعلى أئمة الدين وان ما دعا اليه الشيخ وقرره وبينه هو توحيد رب العالمين ، الذي جاءت به الرسل . ونزلت به الكتب . وانهم قاموا أشد القيام في رده واطفائه وقاتلوا على ذلك بعد قيام الحجة واعتراف كثير منت علمائهم بانه الحق وانه دين الله فلا حرج حينئذ ولا إثم في أخذ تلك الاموال فيئاً وغنيمة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وعملاً بدينه وشرعه وان كان ما عليه من اخذت أموالهم من عبادة الصالحين والشرك بالله والاعراض عن دينه وقتال اهله ومعاداة من قام به وهو الاسلام وهو الحق وهم مصيبون في ذلك على بينه من الله فالذم على من حكم على أموالهم بهذا الحكم والعيب له وتجهيله يتجه ولا يعاب فالكلام في الاصل الذي تفرع عنه أخذ الاموال وجعلها فيئاً وحينئذ فالمعترض بهذا لا يرى أن عبادة الصالحين ودعاءهم والتوكل عليهم والذبح وتسويتهم بالله في الحب والخوف والرجاء والتعظيم شرك وضلال يبيح الاموال والدماء بعد قيام الحجة فلذلك عرض بأخذ(100/23)
الاموال وسفك الدماء بل ولا يرى ما كانت عليه البوادي من ترك دين الله والاعراض عما جاءت به الرسل وانكار البعث والرجوع في الدماء والاموال إلى ما حكمت به أسلافهم وعشائرهم مع الاستهزاء الصريح بدين الله ورسله مكفراً مبيحاً للقتال والمال . وشبهة الضال واخوانه من قبل انهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ويصلون ويزكون ، والعلماء يكفرون بدون هذا من المكفرات ويرون ان أموال هؤلاء المرتدين فيء لا يختلفون في ذلك والله المستعان . نعم قد كان من بعض هؤلاء من دخل في الاسلام وبايع على ذلك ثم ارتد على عقبيه ونكث عهد الله وميثاقه وقاتل المسلمين وخرج عن طاعتهم فقاتلوه على ذلك لقوله تعالى ( وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر انهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) .
( فصل )
قال الناظم
وقد قال خير المرسلين نهيت عن ... فما باله لم يننه الرجل النجدي
فالجواب ان نقول
وقولك في منظوم مينك ضلة
(( وقد قال خير المرسلين نهيت عن
أقول نهم هذي الاحاديث كلها
وليس بها الحمد لله حجة
فمنصوصها في ترك من أظهر الهدى
فدلت على ترك لمن كان مظهراً
فيجري لهم حكم الظواهر جهرة
فان أظهر الكفر الذي هو مبطن
وليس على الاطلاق ما أنت مطلق
فقدهم خير المرسلين محمد
لانهمو لم يحضروا في جماعة
ولولا الذراري والنساء معللا
وما كان هم المصطفى بضلالة
وقد قتل الفاروق من ليس راضياً
ولم ينهه المعصوم عن قتل مثله
كما برأ من قتل خالد
فقالوا صبأنا قاصدين حقيقة
فأنكر هذا المصطفى ووداهمو
ولم ينته عن قتل من كان خارجاً
وهم انما فروا عن الكفر فاعتدوا
ويحقر أصخاب النبي صلاتهم
خلا أنه لم يأخذ المال منهو
فما قتل الشيخ الامام محمد
ولكنما تكفيره وقتاله
فقاتل من قددان بالكفر واعتدى
عن المسلمين الطائعين لربهم
وهب أن هذا قول كل منافق
(( فما كل قول بالقبول مقابل
ولا تلق للفساق سمعك واتئد
وما مربد في قوله بمصدق(100/24)
فهذى تصانيف الامام شهيرة ... وليسا وتمويها على الأعين الرمد
فما باله لم ينته الرجل النجدي ))
مدونة مروبة عن ذوي النقد
على ترك مرتد عن الدين ذي جحد
وباطنه في الاعتقاد على الضد
من الدين اركانا فتدرأ عن حد
وباطن ما يخفى إلى الواحد الفرد
فليس له عاصم موجب يجدي
ففي ذاك تفصيل يبين لذي الرشد
باحراق من صلى وذاك على عمد
وقد فرضت عينا على كل مستهد
لا حرقهم فيما فباؤا بما يرى
ولا باطل لكن بحق وعن رشد
بحكم النبي المصطفى كامل المجد
ولا عابه في قتله ثم عن عمد
جذيمة لما أخطؤا باذلو الجهد
بذلك أسلمنا ولم يدر بالقصد
جميعاً فخذ بالعلم عن كل مستهد
عليه علي بل اباد ذوي اللد
وكانت صلاة القوم في غاية الحد
مع القوم من حسن الاداء مع الجهد
ولم يجرمنا في خطاء ولا عمد
لملتزم الاسلام ممن على العهد
لعباد أوثان طغاة ذوي جحد
وكف اكف المسلمين ذوي الرشد
ولم يشركوا بالواحد الصمد الفرد
يصد عن التوحيد بالجد والجهد
فحقق إذا رمت النجاة لما تبدي ))
ففيه وعيد ليس يخفى لذي النقد
فقد كان زند يقالدي كل مستهد
مدونة معلومة لذوي الرشد(100/25)
قال المعترض في شرحه لابياته اخرج احمد والشافعي في مسنديهما من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلاً من الانصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (( أليس يشهد أن لا إله إلا الله )) فقال الانصارى بلى يا رسول الله ولا شهادة له ، قال (( أليس يشهد أن محمداً رسول الله )) قال بلى ولا شهادة له قال (( أليس يصلي )) قال بلى ولا صلاة له قال (( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم )) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي قال يا رسول الله اتق الله وفيه فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال (( لا لعله أن يكون يصلي )) فقال خالد فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني لم أؤمر أن انقب عن قلوب الناس ولا أشق قلوبهم )) وفي الحديث الآخر (( نهيت عن قتل المصلين )) فجعل المصلين صلى الله عليه وسلم اقامة الرجل الصلاة ما نعه عن قتله وانه نهاه الله عنه .(100/26)
( فالجواب ) أن يقال سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه ( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) اين إيراد هذه الاحاديث مما نحن فيه فان الشيخ رحمه الله تعالى لم يقاتل الاعلى أصل الاسلام ، والتزام مبانيه العظام ، ومن نقل عنه أنه قاتل على غير ذلك فقد كذب وافترى . على أن بعض العلماء يرى القتال على ترك الواجبات فكيف بما اجمع عليه سلف الامة وأئمتها ؟ وقد كان أهل نجد قبل ظهور هذه الدعوة المحمدية على غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة لا يستريب في ذلك عاقل ولا يجادل فيه عارف كانوا على غاية من الجهالة في أمر دينهم جاهلية يدعون الصالحين ن ويعتقدون في الاشجار والاحجار والغيران يطوفون بقبور الاولياء ويرجعون الخير والنصر من جهتها ، وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالة الصوفية ما يرون انه من الشعب الابمانية والطريقة المحمدية وفيهم من اضاعة الصلوات ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور ، فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده وكبت الطواغيت والملحدين ن والزم من ظهر عليه من البوادي وسكتن القرى بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى ، وكفر من أنكر البعث واسترب فيه من أهل الجهالة والجفا ، وأمر باقام الصلاة وايتاء الزكاة وترك المنكرات والمسكرات ، ونهى عن الابتداع في الدين ، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الاصول والفروع ومسائل الدين ن حتى ظهر دين الله واستعلن واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن وقام قائم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وحددت الحدود الشرعية ، وعزرت التعازير الدينية ن وانتصب علم الجهاد قاتل لاعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد ، حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وجمع الله القلوب بعد بعد شتاتها ن وتألفت بعد عدوانها ، وصاروا بنعمة الله إخواناً فاعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور ، ما(100/27)
لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور ن وفتح الله عليهم الاحساء والقطيف ، وفهر سائر العرب من عمان إلى مصر ، ومن اليمن إلى العراق ، ودانت لهم عربها وأعطوا الزكاة ، فاصبحت نجد تضرب اليها أكباد الابل في طلب الدنيا والدين ن وتفتخر بما نالها من العز والنصر والاقبال كما قال عالم الاحساء وشيخها
لقد رفع المولى به رتبة العلى
تجربة نجد ذيول افتخارها ... بوقت به يعلي الضلال ويرفع
وحق لها بالالمعي ترفع
وهذا في أبيات لا نطيل بذكرها ولا ينكر ما قررناه الامكابر في الحسيات ومباهت في الضروريات ، يرى أن عبادة الصالحين ودعاءهم والتوكل عليهم وجعلهم وسائط بينه وبين الله مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ن وأنه هو الاسلام . والمقصود أن هؤلاء المعارضين قلبوا الحقائق وعكسوا القضية وأرادوا بهذا تنفير الناس عن دين الله والصد عن سبيله بما لفقوه من هذه الاكاذيب التي موهوا بها على خفافيش البصائر وزعموا أن الشيخ رحمه الله يقاتل اهل الاسلام وينهب أموالهم وهم يصلون ويزكون وهم قد بايعوا على الاسلام وهجروا ما كانوا عليه من الشرك بالله والكفر به . وهذا من الكذب والافتراء . ويستدل بهذه الاحاديث الواردة في المنافقين ومن المعلوم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل من المنافين علا نيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له بأنهم ( اتخذوا أيمانهم جنة – وانهم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالوا ) فعلم أن من ظهر الاسلام والتوبة من الكفر قبل ذلك منه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( إني لم أؤمر أن انقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم )) لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال (( أليس يشهد أن لا إله إلا الله )) قال بلى قال (( أليس يصلي )) قال بلى قال (( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم )) فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل من(100/28)
أظهر الاسلام من الشهادتين والصلاة وأن ذكر بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالاته إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد تبين ذلك حين قال (( لا يتحدث الناس ان محمداً يقتل أصحابه )) وقال (( إذاً تر عدله أنوف كثيرة بيثرب )) فانه لو قتلهم بما يعلم من كفرهم لا وشك أن يظن الظان أنه انما قتلهم لاغراض واحقاد قصد الاستعانة بهم عل الملك كما قال (( أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم )) وان يخاف من يريد الدخول في الاسلام أن يقتل مع اظهاره الاسلام كما قتل غيره وقد كان أيضاً يغضب قبيلته وأناس آخرون فيكون ذلك سبباً للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم اناس صالحون وأخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي .
قال أصحابنا ونحن الآن إذا حققنا مثل ذلك كففنا عن القتل كما قرر هذا شيخ الاسلام في الصارم المسلول .
فإذا تبين لك هذا علمت ان الاستدلال هذا المعترض بهذه الاحاديث التي ذكرها في المنافقين على ترك مقاتلة من كفر بالله وأشرك به من دعاة الاولياء والصالحين والاحجار والاشجار وطواغيت البوادي الذين يحكمون بأسلاف طواغيتهم وعاداتهم الجاهلية لاجل انهم يصلون ويزكون استدلال باطل ، وهل هذا الاقلب للحقائق ، ولبس للحق بالباطل بهذه الشقائق ، وهذا مما لا يخفى على الامير محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله فتبين أن هذا مما زوره عليه من لا يعرف دين الاسلام من دين أهل الكفر بالله من عباد الاوثان والاصنام .
قال الناظم
وقال لا ما أقاموا الصلاة في ... أناس أتوا كل القبائح عن قصد
فالجواب من النظم أن يقال
وقولك أيضاً في الائمة انهم
فقال له بعض الصحابة سائلا
(( فقال لهم لا ما أقاموا صلاتهم ))(100/29)
أولئك قوم مسلمون أئمة
ولم يشركوا بالله جل جلاله
ولكنهم قد أخروها لفسقهم
ومسألة الانكار بالسيف جهرة
وفيها فساد بالخروج عليهمو
فماذا على الشيخ الامام محمد
ولكن على الكفر البواح الذي به
فايراد ذا في ضمن هذا تعنت ... أناس أتوا كل القبائح عن قصد
نقاتلهم حتى يفيئوا إلى القصد
نهى عن قتال القوم فاسمع لما أبدى
أتوا بمعاص منكرات ولا تجدي
ولم يتركوها قاصدين على عمد وعدوانهم أو للكاسل في الجد
تجر أموراً معضلات وقد تردي
بأنكر مما أنكروه من الجند
إذا لم يقاتل من ذكرت بما تبدى
أباح دماء القوم من كل ذي جحد
ولبس وإيهام على الاعين الرمد
قال الشارح للأبيات المزورة : إشارة إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يستعمل عليكم فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع )) فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم فقال (( لا ، ما صلوا )) انتهى .
وفي رواية (( ما أقاموا الصلاة )) فقولنا وقال لهم لا ضمير قاله ( ؟ ) صلى الله عليه وسلم والحديث اشرنا إليه بما ترى كما في قولنا في البيت نهيت عن ، ففي البيتين من علم البديع الاكتفا.
( فالجواب ) أن يقال وهذا أيضاً من نمط ما قبله فان شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب لم يقاتل الائمة ويخرج عليهم من أجل تأخيرهم الصلوات ولا غير ذلك من الامور التي ارتكبوها من الظلم والعدوان وغير ذلك مما لا يخرجهم من الملة وإنما قاتل على اصل الاسلام ومبانيه العظام كما قدمنا بيان ذلك مما لا فائدة في إعادته فالاستدلال على ترك قتال الائمة لأجل انهم يصلون على ترك قتال من عبد غير الله واتخذ من دون الاولياء يدعونهم ويستغيثون بهم ويتوكلون عليهم ويذبحون لهم ويلجئون إليهم في المهمات والملمات ويطلبون منهم قضاء الحاجات وإغاثة اللهفات إلى غير ذلك مما صرفه المشركون لغير فاطر السموات من المغالطة والتمويه وحسبنا الله ونعم الوكيل .(100/30)
( واما قوله )
أبن لي أبن لي لم سفكت دماءهم
وقد عصموا هذا وهذا بقول لا
... ولم ذا نهبت المال قصداً على عمد
إله سوى الله المهيمن ذي المجد
( وقوله ) في الشرح إشارة إلى ما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم علي الله )) وأخرجه الاماء أحمد رحمه في مسنده وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم علي الله )) فأخبر صلى الله عليه وسلم ان الناس إذا آمنوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة حرمت دماؤهم وأموالهم وأما قوله إلا بحق الاسلام فالمراد به ما أباحه الاسلام في الدماء من قتل نفس مؤمنة بغير حق ومن زنى وهو محصن ومن ارتد عن الاسلام وقطع يد السارق وقتل الساعي في الارض فساداً أو نحو هذا وما أباحه من الاموال كأخذ الزكاة .
فالجواب على ما قاله في نظمه أن نقول
وقولك في مزيور ما أنت ناظم
(( ابن لي ابن لي لم سفكت دماءهم
(( وقد عصموا هذا وهذا بقول لا
أقول نعم خذ في الجواب أدلة
فمن كان صلى وزكى ولم يجيء
فدعواك في قتل ونهب تحكم
ومن بدل الاسلام يوماً بناقض
وكالمنع عن بذل الزكاة فحكمه
إذا قاتلوا بغيا اماما أرادها
ولو شهدوا أن لا إله سوى الذي
فما عصمتهم من صحابة أحمد
وسموهمو أهل ارتداد جميعهم
وما فرقوا بين المقر وجاحد
وليس علينا من خلاف مخالف
أولئك أصحاب النبي محمد
ومن بعدهم ممن يخالف لم يكن
وهم في جميع الدين أهدى طريقة
وأيضاً بنو القداح قد كان أمرهم
واجمع أهل العلم من كل جهبذ(100/31)
وقد أظهروا لفظ الشهادة جهرة
وقد ابطنوا للكفر لكن تظاهروا
فلما أبانوا بعض أشياء خالفوا
فمن كان هذا حاله فهو كافر
وذاك باجماع الصحابة كلهم
وأما البغاة الخارجون فحكمهم
نقاتلهم حتى يفيؤا إلى الهدى
ومهما يقل فينا العدو فانهم
فما كان معروفاً من الدين واضحاً
على قتل مرتد وأخذ لماله
فما فرقوا بين المقر وجاحد
واجماع أهل العلم من بعد عصرهم
وغيلان بل كفروا لعبيدين والذي
وكل كفور من ذوي الشرك والردى
وما لفق الاعداء من قتل مسلم
فمحض أكاذيب وتزوير آفك ... كأنك قد أفصحت بالحق والرشد
ولم ذا نهبت المال قصداً على عمد ))
إله سوى الله المهمين ذي المجد ))
تدل على غير المراد الذي تبدى
بما ينقض الاسلام من كل ما يردي
وزور وبهتان وذلك لايجدي
لذلك بالكفران والجعل للنسد
كأحكام مرتد عن الدين ذي جحد
وذا قول أصحاب النبي ذوي الزهد
على العرش من فوق السموات ذي مجد
ولكنهم قد قاتلوهم على عمد
واجماعهم حتم لدى كل مستهد
كما هو معلوم لدى كل ذي نقد
لمن هم حماة الدين بالجد والجهد
فهم قدرة للسالكين على القصد
يقاربهم هيهات ما الشوك كالورد
وأقرب للتقوى وأقوم في الرشد
شهيراً ومعروفاً لدى كل ذي نقد
على كفرهم والحق في ذاك مستبد
وان رسول الله أفضل من يهدي
بما أظهروا للناس ما ليس بالمجدي
بها الشرع باؤا بالخسارة والطرد
حلال دم والمال ينهب عن قصد
وهذا باجماع الهداة ذوي الرشد
إذا خرجوا أو قاتلونا على عمد
ولا نأخذ الاموال نهباً كما تبدي
يقولون معروفاً وآخر لا يجدي
كاجماع اصحاب النبي ذوي الرشد
ومانع حق المال من غير ما جحد
ولا بين مرتد إلى الجعل للند
على قتل جهم والمريسي والجعد
على رأى جهم في اللتجهم والجحد
فتكفيرهم عنا صحيح بلا رد
ونهبة أموال تجل عن العد
وظلم وعدوان وذلك لا يجدي(100/32)
( وأما ما ذكر ) في شرحه من الاحاديث المرفوعة فهو حق ولكن الشأن كل الشأن فيمن أتى بما يناقضها ومن المعلوم أنه قد اجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والاثبات قال القاضي عياض : اختصاص عصمة المال والنفس ممن قال لا إله إلا الله تعبير عن الاجابة إلى الايمان وان المراد بذلك مشركو العرب وأهل الاوثان فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره انتهى ملخصاً .
فان كان هذا المعترض بهذه الاحاديث يرى أن ما قدمناه من حال الشيخ مع أهل نجد وغيرهم ممن عدل بالله سواه واشرك به غيره ممن صرف خالص حق الله للأنبياء والاولياء والصالحين والاحجار والاشجار وغير ذلك مما قد أوضحنا فيما تقدم انه ليس بشرك ولا كفر مخرج من الملة فهذا ما عرف الاسلام العاصم للدم والمال ولا عرف الكفر المبيح لذلك وان كان يرى انه كفر يخرج من الملة وان كانوا مع ذلك يشهدون أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله ويصلون ويزكون فما الواجب لهذا الشنآن والاعتراض بما لا حقيقة له .
فإذا تحققت هذا فالشيخ رحمه الله لم يقاتل من قاتل من أهل نجد وغيرهم إلا من أقام على كفره وجد في اطفاء نور الله وانكاره توحيده ومن جحد البعث من بواديهم واعرابهم ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل على الايمان بالله ورسله ووجوب الكفر بما عبد من دونه فالخصومة في الاصل الاصيل وحسبنا الله ونعم الوكيل .(100/33)
وقد ظهر واشتهر عند الخاص والعام براءة الشيخ من تكفير المسلمين وقتلهم ونهب أموالهم وانما قتاله وتكفيره لمن كفر بالله واشرك به وان دعوته إلى طاعة الله ورسوله ويصرح بأن من عرف الاسلام ودان به فهو المسلم في أي زمان ومكان ويشهد الله كثيراً في رسائله ويشهدا ولي العلم من خلقه أن أعداءه جاؤه عن الله او عن رسوله بدليل يرد شيئاً من قوله ويحكم بخطئه فيه ليقبلنه على الرأس والعين ويترك ما خالفه أو عارضه وهذا معروف عنه بحمد الله وإنما يرميه بمثل هذا البهت وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والايمان جسراً يتوصل منه ويعبر إلى ما انطوى عليه وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم وترك القبول منهم والاستغناء بما نشأ عليه اهل الضلال واعتادوه من العقائد الضالة والمذاهب الجائرة كهذا الرجل الذي يسمى مربد بن أحمد وكذلك عبد الرحمن النجدي فاز هذين الرجلين قد شرقا بدين الله ورسوله لما ظهر ودخل فيه الناس افواجاً فغاظهما ذلك لما ألفاه واعتاداه من العقائد الضالة وبغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته إلى حمد التويجري بعد كلام سبق : بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان وإنما نكفر من أشرك بالله في الاهيته بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك وكذلك نكفر من حسنة للناس أو أقام الشبة الباطلة على إباحته وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها وقاتل من انكرها وسعى في إزالتها والله المستعان انتهى المقصود منه .(100/34)
وقال في رسالته إلى السويدي البغدادي : وما ذكرت أني أكفر جميع الناس الامن اتبعني وازعم أن انكحتهم غير صحيحة ! فيا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل وهل يقول هذا مسلم او كافر أو عارف أو مجنون ؟ - إلى أن قال – وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسل ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه ومادى من فعله فهذا هو الذي اكفره وأكثر الامة ولله الحمد ليسوا كذلك انتهى .
فإذا اعلمت هذا وتحققته فقول هذا المعترض في ديباحة شرحه أنه قدم إليه عبد الرحمن النجدي برسائل جمعها ابن عبد الوهاب في وجه تكفير أهل الايمان وقتلهم ونهبهم وقوله في النظم
وقد جاء من تأليفه برسائل
... يكفر اهل الارض فيها على عمد
علمت أن هذا كذب وبهتان وزور يريدون به الصد عن سبيل الله ويبغونها عوجا ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
وقال رحمه الله في رسالته للشريف : واما الكذب والبهتان مثل قولهم أنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدره على إظهار دينه وإنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ومثل هذا واضعاف اضعافه وكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به عن دين الله ورسوله وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لا جل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله او لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) .(100/35)
فإذا كان هذا كلام الشيخ رحمه الله فيمن عبد الصنم الذي على القبور إذا لم ييسر له من يعلمه ويبلغه الحجة فكيف يطلق التكفير لجميع أهل الارض ويقاتلهم على ذلك وينهب أموالهم وهل بتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا إليه ؟ بل لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الامة بل ولا عن أهل السنة والجماعة منهم وجميع أقواله في هذا الباب أعني ما دعا إليه من توحيد الاسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات مجمع عليه عند المسلمين لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم وعدل عن منهاجهم كالجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور ، بل قوله مما أجمعت عليه الرسل واتفقت عليه الكتب كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاؤا به وقصدوه . ولا يكفر إلا على هذا الاصل بعد قيام الحجة المعتبرة فهو في ذلك على صراط مستقيم متبع لا مبتدع وهذا كتاب الله وسنة رسوله وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف مشهور مقرر في كتبهم في حكم من عدل بالله وأشرك به وتقسيمهم للشرك إلى أكبر وأصغر فالحكم على المشرك الشرك الاكبر بالكفر مشهور عند الامة لا يكابر فيه إلا جاهل لا يعرف ما الناس فيه من أمر دينهم وما جاءت به الرسل وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم وحكى الاجماع عليها وإنها من ضروريات الاسلام كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن عقيل وصاحب الفتاوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي ومحمد ابن إسماعيل الصنعاني ومحمد بن علي الشوكاني وغيرهم من أهل العلم .(100/36)
إذا تمهد هذا فالذي أوجب للشيخ محمد رحمه الله سفك دمائهم ونهب أموالهم ما ارتكبوه من الاحداث التي أحدثوها الاسلام في مما قد أوضحناه فيما تقدم بيانه وقد درج على ذلك أهل العلم في كل زمان وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم بابا مستقلاً في حكم أهل الاحداث التي توجب الردة وسماه أكثرهم باب الردة وعرفوا المرتد بأنه الذي يكفر بعد اسلامه وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها وان صلى وصام وزعم أنه مسلم وقال الشيخ عثمان الحنبلي صاحب حاشية المنتهي في عقيدته : تتمة الاسلام الاتيان بالشهادتين مع اعتقادها والتزام الاركان الخمسة إذا تعينت وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ومن جحد ما لا يتم الاسلام بدونه أو جحد حكماً ظاهراً أو أجمع على تحريمه أو حله إجماعاً قطعياً أو ثبت جزماً – كتحريم لحم الخنزير – أو حل خمر ونحوهما كفر ، أو فعل كبيرة وهي ما فيها حد قي الدنيا أو وعيد في الآخرة أو داوم على ضغيرة وهي ما عدا ذلك فسق انتهى .
وبما ذكرناه يتبين لكل منصف أن كل مالفقه هؤلاء الجهلة من دعوى تكفير الامة وسفك دمائهم ونهب أموالهم كذب وزور وبهتان وأنه ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) .
( فصل )
( وأما قوله ) في نظمه
وقال ثلاث لا يحل بغيرها
وقال علي في الخوراج انهم
ولم يحفر الاخدود في دار كندة ... دم المسلم المعصوم في الحل والعقد
من الكفر فروا بعد فعلهم المردي
ليحرقهم فافهم إذا كنت تستهدي
وجوابه أن يقال
وقولك تمويها والزام مفتر ... بما لم يكن منا بفعل ولا عقد
والبيتين قبله
أقول نعم هذا هو الحق والهدى
ولم نتجاوز في الامور جميعها
ولكن أطعت الكاشحين ومينهم
بأنا قتلنا واستبحنا دماءهم
وحاشا وكلا ما لهذا حقيقة
... ونحن على ذا الامر نهدي ونستهدي
نحمد ولي الحمد منصوص ما تبدي
تزوير بهتان على العالم المهدي
وأموالهم هذى مقالة ذي الحقد(100/37)
وليس له أصل يقرر في نجد
( وأما قوله ) في شرح البيت الاول : اشارة إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (( لا يحل دم امريء مسلم إلا باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق )) أخرجه الشيخان بألفاظ وهذا هو الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله (( إلا بحق الاسلام )) .
( والجواب ) أن نقول وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه ولم نتجاوز ولله الحمد والمنة نص الحديث فما وجه الاستدلال به على ما لم يكن ولم يصدر إلا بأكاذيب زنادقة شبهوا بها على عباد الله ونفروا بها عن الدخول في دين الله خفافيش البصائر الذين هم اتباع كان ناعق لم يلجؤا إلى علم وثيق وأيضاً فإن الزكاة حق المال كما قاله صديق الامة ووافقه على ذلك جميع الصحابة وسيأتي الكلام على ذلك في محله إن شاء الله تعالى .
( وأما قوله ) في شرح البيت الثاني إشارة إلى ماروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الخوارج : أكفارهم ؟ فقال من الكفر فروا ، فقيل فما هم ؟ قال هم إخواننا بالامس بغوا علينا . فلم يكفر الخوارج مع تكفيرهم له وقتلهم لعباد الله وتكفيرهم لمن ليسوا على بدعتهم من عباد الله وللعلماء فيهم أقوال واسعة مستوفاة في فتح الباري .(100/38)
( والجواب ) أن يقال قد ثبت هذا عن علي رضي الله عنه وهو الحق الذي ندين الله به وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه إلا كما يعود السهم إلى فوقه )) ومع ذلك نقاتلهم كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث وهم يقولون لا إله إلا الله ويشهدون أن محمداً رسول الله ويصلون ويزكون حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم فلم تعصمهم لا إله إلا الله ولا فعل الصلاة ولا بذل الزكاة لمروقهم من الدين ولما أحدثوا من البدعة وقتالهم أهل الاسلام فكان هذا من الادلة على قتال من أحدث حدثا يوجب قتاله حتى يرجع عن ذلك وأن كان يقول لا إله إلا الله ويصلي ويزكي فليس كل من صلى وزكى ينفعه قول لا إله إلا الله كما أنها لا تنفع المنافقين وقد هم صلى الله عليه وسلم بغزو بني المصطلق لما منعوا الزكاة وكان الرجل كاذباً عليهم حتى أنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) الآية .
( وأما قوله ) في شرح البيتين بعده من احراق علي رضي الله عنه للغلاة الذين غلوا فيه وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ فحق لأنهم ادعوا فيه الالهية فاستتابهم على ثلاثة أيام فلما لم يتوبوا خدلهم الاخاديد عند باب كندة فقذفهم فيها ، وكلام أهل العلم فيها معروف مشهور وهذا من الادلة أيضاً على كفر من أحدث حدثاً في الاسلام يخرجه من الملة ويبيح قتله وإن كان مع ذلك يقول لا إله إلا الله ويصلي ويزكي .
( وأما قوله ) فاعجب لجعل ابن عبد الوهاب فعل علي رضي الله عنه دليلاً له على قتله المسلمين المصلين المزكين الموحدين ذكره في رسالته دليلاً على قتله عباد الله ونهبهم .(100/39)
( فالجواب ) أن نقول لاما جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فعل علي رضي الله عنه دليلاً له على قتل المسلمين المزكين الموحدين حاشا وكلا بل هذا من الكذب والظلم والعدوان الذي لا يستجيزه ولا يحكيه عن شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب من يؤمن بالله واليوم الآخر وإنما جعله دليلا على كفر من غلا في نبي من الانبياء أو ولي من الاولياء وجعل فيه نوعاً من الآلهية ، والرسالة التي أشار إليها هذا المعترض معروفة مشهورة والكلام الذي ذكره فيها الشيخ محمد شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونحن نسوقه بلفظه لتعلم أن هذا جاهل مزور ولم يعرف كلام الشيخ رحمه الله في رسالته لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم .(100/40)
قال (( فإذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الاسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم فيعلم أن المنتسب إلى الاسلام والسنة قد يمرق أيضاً من الاسلام في هذه الازمنة وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول ( قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ) وعلي بن أبي طالب حرق الغالية فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء . وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه فكل من غلا في نبي او رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الآلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو أجبرني وأنافي حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب والاقتل فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه آلهة أخرى ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعي أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة قال تعالى ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة . ثم ذكر رحمه الله آيات ثم قال : وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزلت به الكتب قال تعالى لقد ( بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى ( وما ارسلنا من(100/41)
قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل ما شاء الله وشئت قال (( اجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده )) ونهى عن الحلف بغير الله وقال (( من حلف بغير الله فقد كفر – أو – اشرك )) وقال في مرض موته (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا ، وقال اللهم (( لا تجعل قبري وثنا يعبد )) وقال (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) ولهذا اتفق أئمة الاسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها وذلك لأنه من أكبر أسباب عبادة الاوثان وتعظيم القبور ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لاركان البيت فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه ، قال تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء ) الآية ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه وأعظم آية فيه آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال صلى الله عليه وسلم (( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )) والاله هو الذي تألهه القلوب عبادة له ورجاء له وخشية واجلالا انتهى كلامه رحمه الله .(100/42)
فهذا كله كلام شيخ الاسلام ابن تيمية ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته لما ارتد أهل حريملا وكان مربد بن أحمد من أهل حريملا وهو الذي غر هؤلاء بأكاذيبه وبهتانه وصدقه من تصدى لانشاء هذه المنظومة وشرحها والامير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله لا يذكر مثل هذا الكلام السامج المتناقض وينسب كلام شيخ الاسلام إلى الشيخ محمد رحمه الله مع ما فيه من التدليس والتلبيس وحذف ما يعود عليه بالهدم والرد . واستدلال شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكذلك الشيخ محمد رحمه الله بأن من غلا في نبي كعيسى أو ولي كعلي بن أبي طالب أو رجل صالح كالشيخ عدي ابن مسافر وغيرهم أنه كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل من أوضح الواضحات وأدل الدلائل على كفر من غلا كغلو هؤلاء فإن الاله هو الذي تألهه القلوب محبة وأجلالاً وتعظيماً وحباً ورجاء وخوفاً ودعاء واستغاثة واستعانة وتوكلا وخشية ورغبة ورهبة إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي لا تصلح إلا لله فمن صرف منها شيأ لغير الله فقد أشرك ذلك الغير في عبادة الله شاء أم أبي وأن سمى ذلك تشفعاً وتوسلاً ، فإن الحقائق لا تتغير بتغير اسمائها والشيخ رحمه الله إنما قاتل وكفر هذا الضرب من الناس بعد بلوغ الحجة وإقامتها عليهم وإن كانوا مع هذا يتلفظون بالشهادتين ويصلون ويزكون فإنها لا تنفعهم مع الكفر بالله والاشراك به سواه والله المستعان .
( فصل )
قال الناظم
وقد قلت في المختار أجمع كل من
على كفره هذا يقينا لأنه
... حوى عصره من تابعي ذوي رشد
تسمى نبياً لا كما قلت في الجعد
والجواب أن نقول
واعجب من هذا التهور كله
وابديت جهلا في نظامك والذي
كقولك عن بحر العلوم محمد
(( وقد قلت في المختار أجمع كل من
(( على كفره هذا يقينا لأنه
(( فذلك لم يجمع على قتله ولا
أقول لعمري قد نجارى بك الهوى
ويعلم هذا بالضرورة أنه
واوردت همطا لا يسوغ لعالم
وتنقض ما ابرمته بتهور
وحققت في المختار ما قال شيخنا(100/43)
على كفره لما تنبا وبعده
على أن ذا الاجماع عن مثل مصعب
وكالفاجر الحجاج من كان ظالما
وأن أولاء القوم ليسوا بحجة
وطلاب ملك لالدن ولا هدى
فعن مثلهم لا يستجيز محقق
فناقض ما قد قال في النظم أولا
وما هكذا يحكي ذوو العلم والهدى
واغفل ذكر التابعين ذوي التقى
ليوهم ذا جهل غبيا بأنما
فقل للغبي الفدم لو كنت منصفا
لما حدت عن نهج الائمة كلهم
ووالله ما أدري علام نسبت ما
إلى الشيخ والشيخ المحقق لم يقل
ولكن حكى اجماع كل محقق
كما هو معلوم لدى كل عالم
وقولك في الجعد بن درهم إنه فذا فرية لا يمتري فيه عارف
على خالد القسري إذ كان عاملاً
فاجماع أهل العلم من بعد قتله
وقد شكروا هذا الصنيع لخالد
وما أحد في عصر خالد لم يكن
وأحسن قصد رامه خالد الرضى
وقد ذكر ابن القيم الثقة الرضى
وذلك لا يخفى على كل عالم
واظهر هذا القول بل كان داعياً
فدعنا من التمويه فالحق واضح
وما كان قصداً سيئاً قتل خالد
كما قلته ظنا وافكا وفرية
فنال به شكراً وفوزاً ورفعة ... مقالك في همط وخرط على عمد
شرحت به المنظوم من جهلك المردي
امام الهدى المعروف بالعلم والنقد
حوى عصره من تابعي ذوي رشد ))
تسعى نبياً لاكما قلت في الجعد ))
سوي خالد ضحى به وهو عن قصد))
إلى جحد معلوم من الدين مستبد
باجماع أهل العلم من كل مستهد
حكايته في شرح منظومك المردي
يعود على ما قلت بالرد والهد
باجماع أهل العلم من كل ذي نقد
تناقض ما حققت بالهد والرد
وكابن الزبير الفاضل العلم الفرد
وعبدالملك الشهم ذي العلم والمجدى
وليسوا ذوي علم وليسوا ذوي رشد
وارباب دولات ودنيا ذوي حقد
حكاية اجماع يقرر عن عمد
بما قاله في الشرح بالهمط ذوي اللد
ولا من له عقل وعلم بما يبدي
خلاصة أهل العلم في الحل والعقد
حكاية اجماع الائمة لا يجدي
خلياً من الاعراض والعل والحقد
وجئت بهذر لا يفيد لدى النقد
تلفقه من جهلك الفاضح المردي
باجماع اعيان الملوك ولا الجند
من السلف الماضين من كل ذي مجد(100/44)
ولو كنت ذا علم لا نصفت في الرد
على قتله لم يجمع الناس عن قصد
وفيه من الاغضاء ما ليس بالمجدي
لمروان هذا قول من ليس ذا نقد
على إنه مستوجب ذاك بالحد
كما هو معلوم لدى كل مستهد
يرى قتله بل قرروا ذاك عن قصد
بذلك وجه الله ذي العرش والمجد
على ذاك اجماع الهداة ذوي الرشد
فقد قال بالكفر الصريح على عمد
ولا شك في تكفيره عن ذوي النقد
واجماع أهل العلم كالشمس مستبد
لجعد عدو الله ذي الكفر والجحد
على أنه قد غار لله من جعد
فنرجوا له الزلفى إلى جنة الخلد
قال المعترض في شرحه فمن العجب استدلاله بقتل المختار بن أبي عبيد الثقفي وانه اجمع التابعون مع بقية الصحابة على قتله ووجه التعجب من أن المختار طالب ملك فغلب على الكوفة ونواحيها وكان عبدالله بن الزبير قد ادعى الخلافة لنفسه بمكة وغلب على الحجاز واليمن وبعث أخاه مصعباً إلى العراق ليأخذها له فقتل مصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد كما قتل بعد ذلك عبد الملك مصعب بن الزبير وقتل الحجاج عبد الله بن الزبير فهؤلاء أقوام طلاب ملك ودنيا ولا يستدل بافعالهم عاقل ولا يقال في أفعالهم أجمع الناس على فلان منهم وإلالزمه أن أجمع الناس على قتل عبد الله بن الزبير بل هؤلاء أقوام يسفكون الدماء لطلب الملك فانعالهم دولية فليس لعاقل ولا عالم أن يجعل أفعالهم قدوة إلى آخره .
( والجواب ) أن يقال قد ثبت اجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيدة ومن اتبعه ووافقت في النظم على إجماعهم على كفره وقتله ثم نقضت ذلك في الشرح غير متعجب ولا قول مصيب وذلك أن المختار طالب ملك فغلب على الكوفة ونواحيها وعبدالله بن الزبير رضي الله عنه على زعمك طالب ملك فبعث أخاه مصعب إلى الكوفة فاخذها وقتل المختار بن أبي عبيد ومراد هذا الجاهل المركب أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه لم يقتل المختار لاجل كفره ولاجل أنه ادعى النبوة وانما قتله لاجل طلب الملك وهذا كذب وافتراء وقلة حياء .(100/45)
وملخص القصة في ذلك أنه لما مات معاوية بن يزيد ولم يستخلف احدا فتغلب على الحجاز عبدالله بن الزبير وعلى دمشق واعمالها مروان بن الحكم وبايع أهل خرسان سالم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة وبايع أهل البصرة عبد الله بن الحارث بن نوفل المعروف ببسة وأمه هند بنت أبي شعيب فأقام فيهم أربعة أشهر ثم لزم بيته ثم خرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة وخرج بنو محوز في الاهواز وفارس وغير ذلك ثم استفحل امرا بن الزبير بالحجاز وما والاها وبايعه الناس بعد موت يزيد بيعة عامة هناك واستناب على المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير وأمره باجلاء بني أميه فاجلاهم فدخلوا إلى الشام وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة منتشرة يطول استقصاوها غير انهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحواً من أربعة أمراء من بينهم ثم اضطربت أمورهم ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لانفسهم فكتب إلى أنس بن مالك ليصل بهم وبايعه عبد الله بن جعفر وعبدالله بن علي بن أبي طالب وبعث إلى ابن عمر وابن الحنفية وابن عباس ليبايعوه فأبا عليه وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا امام وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الانصاري على الصلاة وابراهيم بن محمد بن طلحة بن عبدالله على الخرج واستوثق له المصران جميعاً وارسل إلى مصر فبايعوه واستناب عليها عبد الرحمن بن جحد وأطاعت له الجزيرة وبعث على البصرة الحارث بن عبدالله بن ربيع وبعث إلى اليمن فبايعوه وإلى خرسان فبايعوه وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايعه وبايعه النعمان بن بشير بحمص وبايع له زفر بن عبدالله الكلابي بقنسرين وبايع له نائل بن قيس بفلسطين ثم اختلف الامر على ابن الزبير واجتمع أهل الشام على مروان ثم في سنة ست وستين وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذ بثأر الحسين بن علي فيما يزعم(100/46)
والمقصود أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه عامة أهل مكة والمدينة والعقد ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم عن طاعته والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الاسلام وواجباته فلما خرج المختار ابن أبي عبيد وادعى أنه يأخذ بثأر الحسين فاجتمع عليه خلق كثير لذلك ثم لما ادعى النبوة ارسل إليه عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً في جيش كثيف فقتله وقد أجمع المسلمون على كفره ولم ينقل عن أحد من العلماء أنه توقف في كفره وقتله وإذا أجمع التابعون مع بقية الصحابة على ذلك وقتله أحد الاعيان المشهورين بالفضل والعلم والدين والعبادة فأي طعن في ذلك على قاتله ون كان طالب ملك إذا كان قد خرج عن طاعته وشق العصا وفارق الجماعة وادعى النبوة . وأي طعن على من تقل اجماع العلماء على ذلك وهو معروف مشهور في كتب أهل العلم ولا يطعن بهذا إلا جاهل مركب وله في ذلك شيء من الاغراض النفسانية ، والاهواء العصبية ، فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب . وأما قتل عبد الملك ابن مروان لمصعب بن الزبير وقتل الحجاج لعبد الله بن الزبير فظلم وعدوان وهؤلاء طلاب ملك ودنيا والشيخ رحمه الله لم يذكر إجماع هؤلاء التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار وقتله فذكر هؤلاء الملوك وادخالهم في كلام الشيخ رحمه الله تعنت وتحكم وإيهام ولبس للحق بالباطل ليوهم من لا معرفة لديه أنه لم يجمع على كفر المختار وقتله إلا هؤلاء الملوك ليتوجه الطعن على الشيخ بذلك ولا يقول هذا إلا من أعمي الله بصيرة قلبه .
( وأما قوله ) وإلا لزمه أن أجمع الناس على قتل عبد الله بن الزبير .(100/47)
جوابه أن يقال هذا تفريع فاسد على تأصيل باطل فان المختار ابن أبي عبيد ادعى النبوة وزعم أنه يوحى إليه فاجمع التابعون مع بقية الصحابة على كفره وعلى قتله . وأما عبد الله بن الزبير فهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أفضل أهل زمانه ومن العلماء العاملين . وقد اشتهر بالعلم والدين والصلاح ، وله من الفضائل المأثورة والمحامد المشهورة والعبادة والجهاد في سبيل الله ما لا يحصى ولا يدرك له حد ولا أقصى فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس وافسده لأن المختار مجمع على كفره وعلى قتله لادعائه النبوة وعبد الله بن الزبير قد ثبتت له الولاية بالغلبة وبايعه أهل الحل والعقد فقتله الحجاج ظلماً وعدواناً والحجاج من أظلم الناس وافجرهم والمختار من كفر الناس وقاتله من أفاضل التابعين فالقياس فاسد والاعتبار كاسد والله المستعان .
وأما قوله المعترض المخلط الذي لم يأت الامر من بابه ، ولا أقرأ الحق في نصابه ، إذ لا فكرة ثاقبة ، ولا رواية صائبة وقولنا لا كما قلت في الجعد إشارة إلى قوله في رسالته أنه أجمع التابعون ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم هذا كلامه في رسالته فادعى الاجماع على قتل جعد كما ادعاه على قتل المختار وهو كله باطل فإنه لم يجمع المسلمون على قتل الجعد .(100/48)
( فالجواب ) أن يقال لهذا جاهل الاحمق نعم الشيخ رحمه الله في رسالته اجماع التابعين ومن بعدهم على كفر الجعد بن درهم وقتله كما ذكر ذلك أهلا العلم وادعى الاجماع على ذلك كما ادعاه على كفر المختار بن أبي عبيد وقتله ولا يشك في ذلك من له أدنى المام باجماع العلماء وما قاله أهل العلم في ذلك ودعواه أن هذا باطل كلام من لا يعقل ما يقول فهلا ذكر أحداً من العلماء قال ذلك وانكره ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ولو قال ذلك أحد كان قوله مردوداً مخالفاً لما أجمع عليه أئمة السلف رحمهم الله وقد ذكر أهل السنة على قتل الجعد وعلى كفره شمس الدين بن قيم الجوزية وقد ذكرت في نظمك انه الاوحد الذي أتى بنفيس القول في كل ما يبدي فمن نفيس ما يبدي رحمه الله تعالى في قوله في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية
ولا جل ذا ضحى بجعد خالد الـ
إذ قال إبراهيم ليس خليله
شكر الضحية كل صاحب سنة ... ـقسري يوم ذبائح القربان
كلا ولا موسى الكليم الدان
لله درك من أخي قربان
فذكر رحمه الله إجماع أهل السنة على استحسان قتل خالد للجعد وأن جميع أهل السنة شكروه على هذا الصنيع واخبر أن قتله لأجل أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما فقتله لأجل ذلك لا لأجل شيء من المقاصد التي يرميه بها من قل نصيبه من العلم والدين وأنه إنما قتله لغير ذلك من المقاصد السيئة وإذا أجمع أهل السنة على قتله فماذا عسى أن يكون قاتله من عمال بني أميه أو من غيرهم إذا حسن قصده والحامل على ذلك الغيرة لله من كفر هذا الملحد المفتري على الله فليس علينا من تحامل هذا المعترض إذ جعل ذلك مطعنا بأن قاتله قد كان عامل مروان فان هذا لا يذكره من له علم وفضل ودين وحاشا لله أن يكون هذا الكلام الساقط المتناقض كلام الامير محمد بن إسماعيل الصنعاني فإنه لا يليق بمنصه وجلالته وإمامته في الدين وعلوم قدره .(100/49)
وأما ما ذكره من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه في المنهاج من حال الجعد بن درهم وقتل خالد له فقد ذكر في الرسالة الحموية أن أصل مقالة التعطيل إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الاسلام من أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وإنما استوى بمعنى استولى ونحو ذلك أول من ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الاعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الاعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أرض حران وكان قبلهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم إلى آخر كلامه رحمه الله ولم يذكر رحمه الله أنه يجمع الناس على قبله كما ذكر هذا المعترض بل قرره وذكر أنه أول من أظهر مقالة التعطيل وإنه إنما أخذ هذه المقالة من اليهود والفلاسفة والصابئين فما وجه الاستدلال بكلام شيخ الاسلام على ما يدعيه من عدم الاجماع على قتله وشيخ الاسلام لم يذكر ما يدل على مطلوبه بل ذكر ما يناقضه ويدل على كفره ووجوب قتله اللهم إلا ما استراح إليه هذا المعترض من كلام شيخ الاسلام من أن الجعد كان معلم مروان فكان ماذا وهذا لا يستدل به عاقل فضلاً عن العالم والله المستعان .
( وأما قوله ) فهذا الذي قتل الجعد عامل من عمال نبي أمية قتله من غير مشاورة عالم من علماء الدين فكيف يقول ابن عبد الوهاب أنه قتل باجماع التابعين فأين الحياء من رب العالمين في نسبة الاجماع لهذا الفعل إلى التابعين وهو فعل عامل الجبارين .(100/50)
( والجواب ) أن يقال لهذا الجاهل الذي ينطق بما لا يعقل قد كان خالد بن عبد الله القسري من عمال بني أمية وقد غضب لله وغار من كفر عدو الله الجعد بن درهم حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى تكليماً فقتله غضباً لله وغيره وحمية فأقر على ذلك وشكره عليه جميع أهل السنة فكان إجماعاً ولا يلزم من ذكر الاجماع على مسألة او قصية أو فتوى أن يبعث إلى جميع ويشاورهم على فعلها ولا يكون إجماعاً إلا ما كان كذلك وهذا لم يقله أحد من العلماء بل الذي ذكر أهل العلم أن الصحابي أو الواحد من العلماء إذا قال قولا أو قضى بقضيته فانتشرت وظهرت ولم يكن لها مخالف من الصحابة أو فعل ذلك أحد من التابعين ولم يعرف له مخالف أن ذلك إجماع وقد اشتهر قتل خالد بن عبد الله القسري لجعد عدو الله ولم ينكره أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء ولم يعرف في ذلك مخالف فكان إجماعاً والطرق التي يعرف بها الاجماع القطعي معروفة عند أهل العلم مقررة في محلها لا تخفى على مثل شيخنا فإذا احتج بالاجماع قبل منه وأخذ عنه فإن القول ما قالت حزام ولا يقدح في مثل حكاية الاجماع على قتل الجعد الارجل مغموص بالنفاق قد غاظه وأمضه ما فعل أمراء الاسلام من قتل أعداء الله ورسوله وقد اقره على ذلك وشكره عامة علماء أهل السنة وأما تعليله بأن من عمال الجبارين فهو تعليل بارد . وأما علم هذا المفتون أن أكثر ولاة أهل الاسلام من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبد العزيز وما شاء الله من بني أمية قد وقع منهم ما وقع من الجرأة والحوادث العظام والخروج والفساد في ولاية أهل الاسلام ومع ذلك فسيرة الائمة الاعلام والسادة تاعظام معروفة مشهورة لا ينزعون يداً من طاعتهم فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الاسلام وواجبات الدين واضرب لك مثلا بالحجاج بن يوسف الثقفي وقد اشتهر أمره في الامة بالظلم والغشم والاسراف في سفك الدماء وانتهاك حرمات الله وقتل من قتل من سادات(100/51)
الامة كسعيد بن جبير وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف واستباح الحرمة وقتل ابن الزبير مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة وبايعه أهل مكة والمدينة واليمن وأكثر سواد العراق والحجاج نائب عن مروان ثم عن ولده عبد الملك ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان ولم يبايعه أهل الحل والعقد ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد له فيما يسوغ طاعته فيه من أركان الاسلام وواجباته وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الاسلام ويكمل به الايمان وكذلك من في زمانه من التابعين كابن المسيب والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم التيمي واشباههم ونظرائهم من سادات الامة واستمر العمل على هذا بين علماء الامة من سادات الامة وأئمتها يأمرون بطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله مع كل إمام براً وفاجر كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهرا بالسيف لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين فقتلوا خلقاً كثيراً وجما غفيراً من بني أمية وامرائهم ونوابهم وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق وقتلوا الخليفة مروان حتى نقل أن السفاح قتل في يوم واحد ثمانين من بني أمية ووضع الفرض على جثتهم وجلس عليها ودعا بالمطاعم والمشارب ومع ذلك فسيرة الائمة كالاوزاعي ومالك والزهري والليث ابن سعد وعطاء بن أبي رباح مع هؤلاء الملوك لا تخفي على من له مشاركة في العلم واطلاع والطبقة الثانية من أهل العلم كأحمد بن حنبل ومحمد ابن اسمعيل ( البخاري ) ومحمد بن إدريس ( الشافعي ) وأحمد بن نوح وإسحق ابن راهوية وإخوانهم وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وانكار الصفات ودعوا إلى ذلك وامتحنوا فيه فقتل من قتل كمحمد بن نصر ومع ذلك فلا يعلم أن أحدا منهم نزع يدا من طاعة ولا رأي الخروج ، والمقصود أنه إذا فعل من عمال هؤلاء الملوك(100/52)
الظلمة أمرا يحبه الله ورسوله يجب على كل مسلم إعانته عليه وحضه على فعل ما أمر الله به ورسوله وكان فيه اعزاز الاسلام وأهله وقمع الشرك وأهله ومحق آثار البدع وأهلها ومن أحدثها فإنه لا يعاب على فعل ما أمر الله به ورسوله لكونه عاملا من عمال الظلمة الجبارين فكيف إذا أقره على ذلك كافة علماء السنة وشكروه على هذا الصنيع فلا يعيب بهذا إلا رجل جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ولا يعيب على الشيخ محمد رحمه الله بنقل اجماع أهل السنة على ذلك إلا معتوه مصاب في عقله مغموص بالنفاق والله المستعان .
وأما قوله فلذلك قلنا
فذلك لم يجمع على قتله ولا ... سوى خالد ضحى به وهو عن قصد
على أن ابن عبد الوهاب خالف إمامة الامام أحمد بن حنبل في دعوى الاجماع فإن أحمد يقول من ادعى الاجماع فهو كاذب ولذلك قلنا
وقد أنكر الاجماع أحمد قائلا
روى ذلك ابن القيم الا وحد الذي ... لمن يدعيه قد كذبت بلا جحد
أتى بنفيس العلم في كل ما يبدي
فالجواب أن يقال
ودعواك في الاجماع انكار أحمد
يرون أمورا محدثات ويذكروا
فانكره لا مطلقا فهو قد حكى
كما ذكر ابن القيم إلا وحد الذي
على قتل جعد في قصيدته التي وفيها حكى الاجماع في غير موضع
وقد كان من سادات أصحاب أحمد
وقد ذكرا الاجماع بعض ذوى النهى
وذلك لا يخفى لدى كل عالم
فما وجه هذا اعتراض بنفيه ... فذاك لأمر قد عناه من الضد
على ذلك الاجماع من غير ما نقد
على بعض ما يرويه إجماع من يهدي
أتى بنفيس العلم في كل ما يبدي
ابان بها شمس الهداية والرشد
وفي غيرها من كتبه عن ذوي النقد
ويحكي من الاجماع اقوال ذي المجد
فسل عنه أهل الاصابة من نجد (؟)
ففي كتب الاجماع ذاك بلا عد
وقد كن معلوما لدى كل مستهد
قال الشارح لابياته(100/53)
قال محمد ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية في كتابه أعلام الموقعين في الجزء الاول في أثناء كلامه وصار من لا يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال هذا خلاف الاجماع وهذا هو الذي أنكره أئمة الاسلام وعابوا من ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه فقال الامام أحمد في رواية ابنه عبد الله من ادعى الاجماع فهو كاذب انتهى بالفاظه وهذا ينقله أحد الائمة من أهل أصول الفقه الحنبلي فنقله ابن الحاجب في مختصر المنتهي وغيره وقال ابن حزم في شرحه المحلى أن من ادعى الاحاطة بالاجماع كذب وإذا عرفت هذا عرفت أن الشيخ محمد بن عبد والوهاب كذب بنص إمامه(100/54)
( والجواب) أن يقال لهذا الجاهل الاجماع الذي نفاه الامام أحمد كذب من ادعاه الاجماع الذي يدعيه أهل البدع مما يخالف الكتاب والسنة فأما ما وافق الكتاب والسنة فحاشا وكلا كما قال ابن القيم رحمه الله فيما نقله عنه حيث قال وصار من لا يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالكتاب والسنة قال هذا خلاف الاجماع وهذا هو الذي أنكره أئمة الاسلام وعابوه من كل ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه . فأي دليل فيما نقلته على من يحكي اجماع أهل السنة والجماعة وإنما عابوا وكذبوا دعوى من ادعى ما يخالف والسنة وقد كان من المعلوم بالضرورة أن أهل العلم والائمة الراسخين يحكمون ويحتجون به لأنفسهم وينصرون به أقوالهم وقد جمع ابن هبيرة وابن حزم مسائل الاجماع مرتبة على أبواب الفقه وحكوها من أنفسهم و لأنفسهم وفي كتب الفقه كالاقناع والمغني والفروع والمقنع من ذكر الاجماع والاحتجاج ( به ) ما لا يخفىة على صغار الطلبة والطرق التي يعرف بها الاجماع القطعي معروفة عند أهل العلم مقررة في محلها لا تخفى على مثل شيخنا فإذا احتج بالاجماع قبل منه وأخذ عنه فإن القول ما قالت حزام . ومن الطرق التي يعرف بها الاجماع كون الحكم معلوماً بالضرورة من دين الاسلام فإذا عرفت هذا علمت يقينا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخالف امامه لأن نص إمامه أحمد رحمه الله فيمن حكى إجماعاً يخالف الكتاب والسنة وقد حكى الامام أحمد رحمه الله الاجماع على أن هذه الآية وهي قوله ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) إنها نزلت في الصلاة وحكى ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين قول الامام الشافعي رحمه الله : اجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنا من كان وقد كان من المعلوم عند أهل العلم أن الاجماع هو الاصل الثالث وأن الامة لا تجتمع على ضلالة وما أظن أن هذا الكلام يصدر من مثل الامام(100/55)
محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله لأن هذا الكلام الذي نقله عن ابن القيم في الاعلام لا يدل على ما ادعاه من نفي الاجماع مطلقاً فكيف يحتج به هذا الرجل وهو لا يدل على مقصوده بشيء من الدلالات والله أعلم وحسبنا الله ونعم الوكيل .
( فصل )
وإما قوله
كدعواه في أن الصحابة أجمعوا
لمن لزكاة المال قد كان مانعاً ... على قتلهم والسبي والنهب والطرد
وذلك من جهل بصاحبه يردي
فالجواب أن يقال
وقولك فيما قاله الشيخ حاكياً
(( وذلك في أن الصحابة أجمعوا
(( لمن لزكاة المال قد كان مانعاً ))
جوابك عما قد ذكرت مفصلاً
حكى ذاك عن شيخ الوجود أخي التقي
وذاك أبو العباس أحمد ذو النهى ... على ذلك الاجماع من غير ما جحد
على قتلهم والسبي والنهب والطرد ))
نعم قد ذكرنا في الجواب وفي الرد
فرده تجد طعما ألذ من الشهد
أمام الهدى السامي إلى ذروة المجد
وفي ذاك ما يكفي لمن كان ذا رشد
قال الشارح لأبياته(100/56)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته عن الشيخ ابن تيمية أنه قال في الكلام على كفر ما نعي الزكاة : والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجودها أو جاحد لها ؟ هذا لم يعهد من الصحابة والخلفاء بل قال الصديق والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها فجعل المبيح للقتل مجرد المنع لا جحد الوجوب (1) وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن يخلوا بها ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي قتل مقاتلهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم اهل الردة وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم ان ثبته الله عند قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم انتهى ما نقله ابن عبد الوهاب عن ابن تيمية ثم قال فتأمل كلامه في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي ذراريهم وأولاده عند منع الزكاة انتهى ثم قال ومن أعظم ما يجلو الاشكال في مسألة التكفير والقتال لمن قصده اتباع الحق اجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وادخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم
__________
(1) جحد الوجوب من اصطلاح المتأخرين الذي خالفوا فيه اللغة واستعمال القرآن وأصل الجحد والجحود رد الشيء ونفيه مع اعتقاده والعلم به فجحود ما جاء به الرسول كله أو بعضه عبارة عن عدم الاذعان والاتباع له فيه قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) وقال في طواغيت قريش ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ولا ينفي المسلم وجوب الشيء من الدين إلا إذا جهل وجوبه فإذا أعلم به أقر وأذعن . ومانعوا الزكاة المذكورون لم يكونوا كذلك بل أبوا الاذعان والانقياد في ركن من أركان الاسلام وذلك عين رده فالاسلام هو الاذعان والانقياد وبالفعل كما هو مقرر في كتب العقائد . وكتبه محمد رشي رضا .(100/57)
وفعلهم فيهم ما صح عندهم وهو أول قتال وقع في الاسلام على من ادعى أنه من المسلمين انتهى .
( قلت ) لا أدري كيف هذا النقل فالذي قاله القاضي عياض الحصبي العلامة المالكي في شرحه لمسلم المسمى بالاكمال وقال غيره من علماء السنة وفحول الرجال إن الذين خالفوا الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثة أصناف صنف عادوا إلى عبادة الاصنام وصنف اتبعوا مسيلمة والاسود العنسي وكل واحد منهما ادعى النبوة قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق مسيلمة أهل اليمامة وجماعة من غيرهم وصدق الاسود أهل صنعاء وجماعة غيرهم فقتل الاسود قبل وفاته صلى الله عليه وسلم وبقي بعض من أمن به فقاتلهم عمال أبي بكر رضي الله عنه وأما مسيلمة فجهز إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه الجيوش وكان أميرهم خالد بن الوليد فقلتوا مسيلمة بعد حرب شديدة وصنف ثالث استمروا على الاسلام إلا أنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم وهذا معروف في البخاري وغيره وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل بكفر من منع الزكاة وأنه بمنعه أياها ارتد عن الاسلام أذلو كان هذا رأيه وأنهم كفار لم يطالبهم بالزكاة بل يطالبهم بالايمان والرجوع ولقال لعمر لما ناظره أنهم كفار بل قال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وهو صريح أن قتالهم لمنعهم الزكاة ولذا قال والله لو منعوني عناقاً الحديث وهذا في صحيح البخاري وغيره وإنما قاتلهم الصديق رضي الله عنه لما أصروا على منعها ولم يعذرهم بالجهل لأنهم نصبوا القتال فبعث اليهم من دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم ولم يكفرهم ثم اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تقسم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو لا تقسم أموالهم ولا تسبى الذرية كالبغاة فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى الاول وذهب عمر إلى الثاني ووافقه غيره بعد خلافته وأرجع إلى من كان سباهم أبو بكر(100/58)
وارجع إليهم أموالهم كما ذكره بسنده العلامة أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد قال الحافظ ابن حجر واستقر الاجماع على رأي عمر رضي الله عنه وقال ان تسمية هؤلاء أهل الردة تغليباً مع الصنفين الاولين والافليسوا بكفار انتهى وبه عرفت ما في نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن ابن تيمية وانه مخالف لما في الصحيحين ولما قاله العلماء وأنه لا إجماع على تكفير مانعي الزكاة ولا على سبي ذراريهم ولا على نهب أموالهم فدعواه الاجماع من الصحابة باطلة بل ليس في الصحابة من كفر مانع الزكاة ولذا قلنا أن دعواه في الاجماع على قتل الجعد بن درهم كدعواه الاجماع من الصحابة على ما ذكر وزدناه إيضاحاً بقولنا اهـ .
فالجواب أن نقول(100/59)
ما نقله هذا المعترض عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ثابت عنه لكنه أسقط من كلام شيخ الاسلام قوله في مانعي الزكاة فكفر هؤلاء وادخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة وهذا يهدم أصله فلذلك حذفه وما نقله الشيخ عن شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه ووضريحه معروف مشهور عنه لا يستريب فيه عارف وهو الحق الصواب الذي ندين الله به كما هو معروف في السير والتواريخ وغيرها ولا عبرة بقول هذا المعترض وتشكيكه في هذا النقل فيما لا شك فيه فان عدم معرفته باجماع العلماء على قتل المختار ابن أبي عبيدة ونسبة ذلك إلى أعيان الملوك الذي لا يصلحون لذكر الاجماع وقوله ومقصوده بذلك ان الشيخ يحكي الاجماع عن مثل هؤلاء فلا يعول على نقله ولا يلتفت إليه مع أن الشيخ لم ينقل إلا إجماع التابعين مع بقية الصحابة وكذلك دعواه أن الاجماع لم ينعقد على قتل الجعد بن درهم وقد ذكر ذلك ابن قيم الجوزية في الكافية الشافية عن كافة أهل السنة وانهم شكروه على هذا الصنيع ثم لم يكتف بما ذكره من الخرافات حتى عمد إلى ما هو معلوم مشهور في السير والتواريخ وغيرها من كتب أهل العلم من اجماع الصحابة رضي الله عنهم على تكفير أهل الردة وقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم وإحراق بعضهم بالنار والشهادة على قتلاهم بالنار وإنهم لم يفرقوا بين الجاحد والمقر بل سموهم كلهم أهل الردة لأجل أن القاضي عياض ومن بعده ممن خالف الصحابة وحكم يمفهومه ورأيه مما يعلم أهل العلم من المحققين الذين لهم قدم صدق في العالمين أن هذا تحكم بالرأي فإن من أمعن النظر في كلام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله علم وتيقن صحة ما قاله وموافقته لصريح كلام الصحابة واجماعهم فإن الشهادة على قتلاهم بالنار واستباحة أموالهم وسبي ذراريهم من أوضح الواضحات على ارتدادهم مع ما ثبت من تسميتهم أهل الردة جميعاً ولم يسيروا مع مانعي الزكاة بخلاف سيرتهم مع بني(100/60)
حنيفة وطليحة الاسدي وغيره من أهل الردة ولم يفرقوا بينهم ومن نقل ذلك عنهم فقد كذب عليهم وافترى ودعوى أن ابا بكر رضي الله عنه لم يقل بكفر من منع الزكاة وانهم بمنعهم إياها لم يرتدوا عن الاسلام دعوى مجردة فأين الحكم بالشهادة على أن قتلاهم في النار هل ذاك إلا لأجل ارتدادهم عن الاسلام بمنع الزكاة ولو كان الصحابة رضي الله عنهم لا يرون أن ذلك ردة وكفراً بعد الاسلام لما سبوا ذراريهم وغنموا أموالهم ولساروا فيهم بحكم البغاة الذين لا تسبى ذراريهم وأموالهم ولم يجهزوا على جريحهم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم اخشى لله واتقى من أن يصنعوا هذا الصنيع بمسلم ( ممن ) لا يحل سبي ذراريهم وأخذ اموالهم وهل هذا إلا غاية الطعن على الصحابة وتسفيه رأيهم وما اجمعوا عليه وتعليله بأنه لو كان يرى أنهم كفار لم يطالبهم بالزكاة بل يطالبهم بالايمان والرجوع تعليل بارد لا دليل عليه فانهم لم يكفروا ويرتدوا بترك الايمان بالله ورسوله وسائر اركان الاسلام وشرائعه فيطالبهم بالرجوع إلى ذلك وإنما كان ارتدادهم بمنع الزكاة وأدائها والقتال على ذلك فيطالبهم باداء ما منعوه واركان الاسلام فلما لما ينقادوا لذلك وقاتلوا كان هذا بسب ردتهم وعمر أجل قدرا ومعرفة وعلماً من أن يعارض أبا بكر أو يقره على خلاف الحق فغنه لما ناظره أبو بكر وأخبره أن الزكاة حق المال قال عمر فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق .(100/61)
وقد كان من المعلوم أن جحد الصلاة أو تركها تهاوناً وأصر على ذلك أنه كافر . فلذلك قال أبو بكر والله لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فمن جحد الزكاة ومنعها كان كمن جحد الصلاة وامتنع عن فعلها (1) وبذلك تعرف عمق علم الصحابة وأنهم ابر هذه الامة قلوباً واعمقها علما وأقلها تكلفاً ، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه ولاظهار دينه .
وأما دعواه أن أبا بكر دعاهم إلى الرجوع فلما أصروا قاتلهم ، ولم يكفرهم فدعوى مجردة وتحكم بلا علم فأين ادخالهم في أهل الردة وسبي نسائهم وذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار لولا كفرهم وارتدادهم فإنهم لو كانوا مسلمين عندهم لما ساروا فيهم سيرة أهل الردة.
__________
(1) وحجتهم عليه قوله تعالى في الكفار الذين يقاتلون ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) وكتبه محمد رشيد رضا .(100/62)
وشيخ الاسلام رحمه الله من أعلم الناس بأحوال الصحابة وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره وكان إليه المنتهى في ذلك . قال الامام الذهبي في معجم شيوخه : هو شيخنا وشيخ الاسلام وفريد العصر علما ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويراً إليهاً ، وكرماً ونصحاً للأمة ، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته وخرج ونظر في الرجال والطبقات وحصل ما لم يحصله غيره وبرع في تفسير القرآن وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال وخاطر وقاد إلى مواضع الاشكال ميال واستنبط شيئاً لم يسبق إليها وبرع في الحديث وحفظه فقل من يحفظ ما يحفظ من الحديث مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين واتقن العربية أصولاً وفروعاً ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين ورد عليهم ونبه على خطئهم وحذر منه ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين وأوذي في الله تعالى من المخالفين وأخيف في نصره السنة المحفوظة حتى أعلى الله مناره وجمع قلوب اهل التقوى على محبته والدعاء له وكبت أعدائه وهدى به رجالا كثيراً من أهل الملل والنحل وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً وعلى طاعته وأحيى به الشام بل الاسلام بعد أن كان ينثلم خصوصاً في كائنة التتار وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت بعيني مثله وأنه ما رأى هو مثل نفسه لما حنثت انتهى . وقال ابن الوردي في تاريخه وقد عاصره ورآه : وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفته بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به وهو عجباً في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهي في عزوه إلى الكتب الستة والمسند حيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث ولكن الاحاطة لله تعالى غير أنه يغترف فيه من بحر وغيره من الائمة يغترفون من السواقي وأما التفسير(100/63)
فسلم له ( قال ) وله الباع الطويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الاربعة ، وقد خالف الاربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة وبقي سنين يفتى بما قام الدليل ( عليه ) عنده ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية .
وكان دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يديمها ، لا يداهن ولا يحابي ، محبوباً عند العلماء والصلحاء والامراء والتجار والكبراء انتهى ملخصاً .(100/64)
وإذا كانت هذه حاله عند أهل العلم بالحديث والجرح والتعديل وأنه كان إليه المنتهي في هذه الحقائق علماً وعملاً ومعرفة واتقاناً وحفظاً وقد جزم بإجماع الصحابة فيما نقله عنهم في أهل الردة تبين لك أنه لم يكن بين الصحابة خلاف قبل موت أبي بكر رضي الله عنه ولم يعرف له مخالف منهم بعد أن ناظرهم ورجعوا إلى قوله ولو ثبت خلافهم قبل موت أبي بكر وبعد الغلبة على أهل الردة كما زعم ذلك من زعمه لذكر شيخ الاسلام ولم يجزم بإجماعهم على كفر مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وقد اختلفوا ، هذا ما لا يكون أبداً وسيأتي كلامه في المنهاج قريباً إن شاء الله تعالى . وإنما ارجع عمر إلى من كان سباهم أبو بكر أموالهم وذراريهم بعد أن أسلموا ورجعوا إلى ما خرجوا عنه تطبيقاً لقلوبهم ورأياً رآه ولم يكن ذلك ابطالاً لما أجمع عليه الصحابة قبل ذلك كما ارجع رسول الله عليه وسلم إلى هوازن ذراريهم لما أسلموا تطييبا لقلوبهم وكما رأى رضي الله عنه أن لاتباع أمهات الاولاد كما رأى أن لا تجتمع ذمية ومؤمنة تحت رجل وكما رأى في الطلاق بلفظ واحد أن يجيزه عليهم عقوبة لما تتايعوا في الطلاق المحرم ولم يطلقوا للسنة فاجازه عليهم عقوبة وتأديبا لهم . ولم تجمع الامة على كل ما ذكرنا بل لم يزل الخلاف واقعاً بين الامة كما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في الهدي النبوي وفي إغاثة اللهفان وفي أعلام الموقعين .(100/65)
والمقصود أن ما ذكره هذا المعترض من عدم الاجماع لا يصح وأن ذلك إن كان صدر من عمر رضي الله عنه فهو رأي رآه بعد أن دخلوا في الاسلام وأما قول ابن حجر أن تسمية هؤلاء اهل الردة تغليباً مع الصنفين الاولين وإلا فليسوا بكفار انتهى فهذا تأويل منه وليس بأبشع ولا أشنع مما تأولوه في الصفات وقد ثبت ذلك في الكتاب والسنة لأنهم رأوا ذلك مستحيلاً في عقولهم . وإذا كان صدر منهم ذاك في صفات رب العالمين وتأولوها بما لا يليق بجلال الله وعظمته فكيف لا يتأولون ما صدر من الصحابة مما يخالف آراءهم وتحيله عقولهم وقد بينا ما في ذلك من الوهم والغلط على الصحابة بمجرد ما فهموه ورأوا أنه الحق .
وإذا ثبت الاجماع عن الصحابة بنقل الثقات فلا عبرة بمن خالفهم وادعى الاجماع على ما فهمه وليس ما نقله عنهم بلفظ صريح يدل على تكفيرهم وإنما بدعاوي مجرد عن الدليل ولم يخالف الشيخ محمد رحمه الله ما في البخاري وإنما ذكر ذلك عياض من عند نفسه بمجرد مفهومه من الحديث والمخالف له ينازعه في ذلك الفهم كما قدمناه ولم يزل الخلاف واقعاً بين الامة والحق مع من وافق الدليل من الكتاب والسنة واجماع سلف الامة وما نقله الشيخ محمد عن شيخ الاسلام ابن تيمية لم يكن مخالفاً لما في الصحيحين بل كان موافقاً لهما وقد ثبت اجماع الصحابة كما ذكر ذلك العلماء في السير والتواريخ كما ثبت إجماع التابعين مع بقية الصحابة على قتل المختار وعلى كفره وكما أجمع العلماء على كفر الجعد بن درهم وعلى قتله وقد ظهر عدم علمك ومعرفتك بالاجماع ونقله فلا نسلم لك صحة ما نقلته لعدم علمك وإدراكك الامور على ماهي عليه .
( فصل )
…وأما قوله
فقد كان أصناف العصاه ثلاثة ... كما قد رواه المسندون ذوو النقد
…وقد جاهد – الي آخره
…فالجواب آن نقول
وقولك فيما قاله الشيخ حاكيا
( فقد كان أصناف العصاة ثلاثة
( وقد جاهد الصديق اصنافهم ولم
أقول لعمري ما أصبت ولم تسر
فسيرته مع صحب احمد كلهم(100/66)
فكفر من قد آمنوا بطليحة
مسلمية الكذاب والكل كافر
وطائفة قد اسلموا لكن اعتدوا
فنازعه الفاروق فيهم معللا
فآب الي ما قد رآه واجمعوا
وسموهم آهل ارتداد جميعهم
ولا بين من يدعو مع الله غيره فان
نت ذا علم فعن صحب احمد
وآلا فدعنا من خلاف مخالف
فما غيرهم اهدي طريقا ولم يكن
ومن رد إجماع الصحابة بالذي
فما ذاك الا من سفاهة راية
فما صح بعد الاجتماع اختلافهم
ودعنا من التأويل فهو ضلالة
وقد كت قبل الآن احسب انه
كقولك اذ سموهمو آهل ردة
فلما تأملت النظام وجدته
فلم تعرف الكفر المبيح لقتلهم
ولم تعرف الإسلام حقا وكونه
فيا آيها الغاوي طريقة رشده
وصدق ما بعتاده من توهم
أفق عن ملام لا آبا لك لم يكن
فنفيك للإجماع ليس محققا
جوابك عما قد ذكرت مفصلا
حكي ذاك عن شيخ الوجود آخى التقي
و ذاك آبو العباس احمد ذو النهي ... علي ذلك الإجماع من غير ما جحد
كما قد رواه المسندون ذوو النقد )
يكفر منهم غير من ضل عن رشد )
علي منهج الصديق ذي الرشد والمجد
مقررة معلومة عند ذي النقد
وبالأسود العنسي ذي الكفر والجحد
سوي ألا سدي لما أناب الي الرشد
بمنع زكاة المال قصدا علي عمد
فناظره الصديق ذو الجد والجهد
جميعا علي قتل الغواة ذوي الطرد
وما فرقوا بين المقر وذي الجحد
كما هو معلوم لدي كل مستهد
ابن ذلك التفريق بالسند المجدي
لاجماع أصحاب النبي ذوي الرشد
يقاربهم تالله ما الشوك كالورد
يراه الحلوف القاصر ون علي عمد
ونقصانه في الدين والعقل والعقد
وكيف وقد كانوا جميعا ذوي رشد
فليس له فينا مساغ ولا مجدي
توهم صدق المفتري من ذوي الحقد
لذلك تغليبا وذا ليس بالمجدي
مع الشرح في غي وبغي علي عمد
وسبي ونهب المال من غير ما رد
لهم عاصما من كل ما كان قد يردي
ثكلتك من غاو قفي اثر ذي الحقد
بلبس وتمويه وهمط بلا رشد
بحق ولا صدق ولا قول ذي نقد
نعم قد ذكرنا في الجواب وفي الرد
فردة تجد طعما ألذ من الشهد
أمام الهدي السامي الي ذروة المجد(100/67)
وفي ذاك ما يكفي لمن كان ذا رشد
…( قال الشارح ) وقد عرفت مما حققناه معني البيتين وتيقنيت آن لا إجماع من الصحابة الا علي كفر مسيلمة والعنسي وعلي قتالهم 0 واما ما نعو الزكاة فلم يكفرهم أحد من الصحابة ولا اجمعوا علي سيء ولا نهب بل رد عمر رضي الله عنه ذلك والشيخ محمد نقل ذلك مستدلا بها علي كفر من لديه من المسلمين وغير من لديه واباحة الدماء والأموال وهذا جهل لا يخفي علي الجهال فضلا عن العلماء والعقال 0
…( والجواب ) آن يقال لهذا الجاهل المركب الذي لا يدري ولا يدري انه لا يدري قد عرفنا وقد كان من المعلوم انهم اجمعوا علي ذلك وانهم سبوا زراريهم وغنموا أموالهم 0 وتحققنا عدم علمك ومعرفتك بالإجماع واذا جهلت وتحامقت بنفيك الإجماع علي كفر المختار بن عبيد والجعد ابن درهم وهو اشهر عند آهل السنة والجماعة من نار علي علم وواضح من الشمس في نحر الظهيرة فكيف لا تنفي إجماع الصحابة علي كفر ما نعي الزكاة وسبي زراريهم وغنيمة أموالهم وقد كان من المعلوم انهم اجمعوا علي ذلك وانهم سبوا زراريهم وغنموا أموالهم وشهدوا علي قتلاهم بالنار كما هو مذكور مشهور في كتب آهل العلم وقد قدمنا ما فيه الكفاية 0
…( واما قوله ) والشيخ محمد نقل ذلك مستدلا بها علي كفر من لديه من المسلمين وغير من لديه الي آخر 0
…( فالجواب ) آن يقال نعم نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ذلك مستدلا به علي كفر من ارتد عن الإسلام بعد الدخول فيه فانهم كانوا قبل دعوة الشيخ علي الكفر بالله والإشراك به من دعاء الأولياء والصالحين والأحجار آبو بكر حسين بن غنام رحمه الله في تاريخه قال في أثناء كلامه :(100/68)
وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم ؛ والكل علي تلك الأحوال مقيم ، وفي ذلك الوادي مسيم ( حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) وقد مضوا قبل بدو نور الصواب يأتون من الشرك بالعجاب ، وينسلون إليه من كل باب ، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب ويدعونه لتفريج الكرب بفصيح الخطاب ، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب ( قل أتتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض ؟ سبحانه وتعالي عما يشركون ) وكان ذلك في الجيلة مشهورا ، وبقضاء الحوائج مذكورا 0 وكذلك قربوه في الدرعية يزعمون آن فيها قبورا ، اصبح فيها بعض الصحابة مقبورا ، فصار حظهم في عبادتها موفورا ، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون ،( أإفكا آلهة دون الله تريدون ) ؟ وكان آهل تلك التربة اعظم في صدورهم من الله خوفا ورهبة ، و أفخم عندهم رجاء ورغبة ، فذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدون ( ويقولون آنا وجدنا آباءنا علي آمة وآنا علي آثارهم مهتدون ) وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر ، ما لا يعهد مثله ولا يتصور ، ويزعمون آن فيه قبر ضرار بن ألا زور ، وذلك كذب محض وبهتان مزور ، مثله لهم إبليس وصور ، ولم يكونوا به يشعرون ، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحال ، يأتونه النساء والرجال ، ويغدون عليه بالبكور والآصال ، ويفعلون عنده اقبح الفعال ، ويتبركون به ويعتقدون وتأنيه المرآة إذا تأخرت عن الزواج ، ولم تأتها لنكاحها الأزواج ، وتقول : يا فحل الفحول ، أريد زوجا قبل آن يحول الحول هكذا صح عنهم القول ( وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون ) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان وإعتاق ، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق ، ويعلقون فيها إذا ولدت المرآة ذكرا الخرق لعلهم عن الموت يسلمون 0 وفي اسفل الدرعية غار كبير يزعمون آن الله تعالي فلقه في الجبل لامرأة تسمي بنت الأمير ، أراد بعض الفسقة آن يظلمها فصاحت ودعت الله فانفلق لها الغار بأذن العلي الكبير ،(100/69)
وكان الله تعالي لها من ذلك السوء مجير ، فكانوا يرسلون الي ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون ) 0
…ثم ذكر في جميع قري نجد من ذلك ما لا يحصي ولا يعد ؛ وكذلك في الحرمين وفي سواد العراق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق الأرض ومغاربها واستفاض ما كان عليه آهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته الخلق الي التوحيد لله وعبادته وترك عبادة ما سواه فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق وجاهد في الله من آبي الدخول في دين الإسلام ، حتى دخلوا في دين الله أفواجا وقد شهد بذلك الخاص والعام ، واقر به الموافق والمخالف فالحق ما شهدت به الأعداء 0
وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخا لبعض المؤرخين من النصارى في سنة وثلاثمائة و آلف ما نصه :
( نجد بعد الرسالة )(100/70)
…ومن بعد آن بعث الحكيم صلي الله عليه وسلم بالهدي والحق وانتشر الدين الإسلامي في هاتيك الربوع عم بلاد نجد من جملة ما عم فصار أهلها علي هذه الطريقة المثلي بيد آن الحوادث التي طرأت علي قادة الآمة من بعد آبى بكر وعمر رضي الله عنهما شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فاوهملوها ، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى آن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت آهل نجد عن الإمعان في حقائق دينهم فمرت عليهم السنين الطويلة وهم يحبون في الأيمان والاعتقاد الي آن وصل الحال الي درجة اصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف عليها والاعتقاد بأهلها النفع والضر الي غير ذلك مما لاهل العراق فيه اليوم النصيب الأوفر والحظ الأكبر رغما عن انتشار العلم فيه وبقي آهل نجد في هذه الحالة وليس لهم سوي الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينا ودنيا وأخرى وليس لهم من الدين الحق الا الاسم وذلك الي زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب 0
( نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب )(100/71)
نشا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده عبد الوهاب بن سليمان فرباه احسن تربية ولقنه العلم هو بنفسه وكان والده حينئذ قاضيا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد ابن احمد المعمري ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر شديد الشوق الي العلم وطلبه حدثته نفسه بان يسير في طلب العلم الي بلاد أخرى فحج ثم سار الي المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب ( العذاب الفائض في علم الفرائض ) والشيخ محمد حياة السندي المدني فاقام عند هما مدة ثم رجع الي نجد ومن هناك سار الي البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم ثم حاول المسير الي الشام فمصر ولكن صده عارض في الطريق فرجع أدراجه الي بلاده حاملا من زاد العلم ما لم يتيسر لاحد غيره في وقته ثم ذهب لرؤية والده وكان يؤمئذ في حر يملا وسبب تحول الوالد الي هذه البلاد هو انه في غياب الشيخ محمد توفي الله الأمير عبد الله وخلفه في الأمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان عن القضاء و أقام مكانه احمد بن عبد الله ابن عبد الوهاب ورحل عبد الوهاب القاضي الي حريملا ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف الخرافات والبدع والأضاليل ، وشعر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين ، واخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه 0
( هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا )(100/72)
كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع الي أمير ولا الي أمارة بل كانت كوره تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى فاتفق يوما آن الشيخ زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة علي سوء الأخلاق فعمد هؤلاء الي أهانته بل الي قتله و أرادوا إتمام الآمر بالفعل فساروا إليه ليلا وتسوروا الجدار وبينما هم في هذا الفعل اذ صاح صائح في المحلة فظن هؤلاء المفسدون آن الصياح عليهم فهربوا وكفاه الله شرهم ولما أسفر الصباح رحل الي بلدة العينية وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض علي زمام الأمارة من بعده عثمان ابن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب والإكرام التام وهناك اخذ يبث حقائق التوحيد والأمير عثمان بتعاهده بحفظ حياته ونصره علي أعدائه 0(100/73)
( حكاية الشجرة والقبة ) وقد طلب الشيخ من الأمير آن يقطع شجرة كانت تعبد في البلدة وان يهدم قبة زيد بن الخطاب رضي الله عنه فتمنع الأمير وبعد ألح الشيخ عليه و أقنعه فآذن له في الآخر ثم طلب إليه آن يسير هو أيضا معه فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس ولما وصلوا الي المحل المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل من اخطر الأعمال التي آتاها الشيخ فلما فعل الشيخ هذا الفعل الاول اشتهر آمره ، ونبه ذكره ؛ فبلغ خبره أمير الاحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وباس شديد فبعث الي عثمان بن محمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه آن لم يطرد الشيخ من بلاده فآذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب آن يسافر الي حيث يريد فاختاره الشيخ الذهاب الي بلدة الدرعية فسار وستر الشيخ عثمان معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الرعية فحل ضيفا عند عبد الله بن عبد الرحمن ابن سو يلم أحد أعيانها ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا علي مبدآه استحثنوه و أحبوه ثم أرادوا آن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود لينزله ضيفا عنده فتخوفوا ففارضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق الجميع علي تحقيق ما في الأمنية فتم الآمر وذلك آن الأمير لما دخل قصره وقابل زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الآمر مع زوجة الأمير وأشاروا عليه بإكرامه واحترامه فسار إليه برجله ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به الي قصره فاختفي به احسن الاحتفاء واعزه وقام مؤيدا لدعوته بكل قوته فاخذ الناس يغدون الي الدرعية أفواجا أفواجا فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع يكاتب بلدان نجد وقراها ويدعوها الي طريق الحق وما لبث أياما قلائل الا واصنعت له القبائل ودانت له اغلب البلدان وما زالت الأمارة في امتداد واتساع حتى أصبحت دولة بني ال سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة زمامها في آخر(100/74)
أيامها الي ثروة ومد نظر في السياسة لغدت اليوم من اعظم الدول الإسلامية قوة وسطوة ورهبة ولامتدت أمراؤهم الي بلاد شاسعة الا انه دهمها ما لم يدر في خلد أصحابها فأنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها فاحتالوا علي الفتك بها فاوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين ال سعود وبين الحكومة العثمانية وللحال اتقدت تلك النار الحامية نار الحروب والمضاعفات والزحفات المتكررة فأضرت بالطرفين ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد علي القوم الآخر في فرصة أخرى والله ولي التوفيق ، وهو نعم الرفيق انتهي 0
…وقال الشيخ ملا عمران صاحب لينجه رحمه الله تعالي في ردة علي من اعترض علي الشيخ رحمه الله بنحو مما اعترض به هؤلاء الجهلة المفترون بعد كلام اسبق
الشيخ شاهد بعض آهل جهالة
تاجا وشمسانا ومن ضاهاهما
يرجون منهم قربة وشفاعة
ورأى لعباد القبور تقربا
ما أنكر القراء والأشياخ ما
بل جوزوه وشاركوا في آكله
فاتاهم الشيخ المشار إليه بال
يدعو همو لله آن لا يعبدوا
فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا
ما قاله آباؤنا أيضا ولا
آنا وجدنا جملة الآباء علي
فالشيخلما آن رأي ذا الشان من
نادا همو يا قوم كيف جعلتموا
قالوا له بل آن قلبك مظلم ... يدعون أصحاب القبور الهمد
من قبله او تربة او مشهد
ويؤملون كذاك آخذا باليد
بالنذر والذبح الشنيع المفسد
شهدوا من الآمر الذي لم يحمد
من كان يذبح للقبور ويفتدي
صح المبين وبالكلام الجيد
الا المهين ذا الجلال السرمدي
الا عجيب عندنا لم يعهد
أجدادنا آهل الحجا والسؤدد
هذا فنحن بما وجدنا نقتدي
آهل الزمان اشتد غير مقلد
لله أندادا بغير تمدد
لم تعتقد في صالح متعبد
الي آن قال
لو انصفوا لرأوا له فضلا علي
ودعوا له بالخير بعد مماته
لكنهم قد عاندوا وتكبروا
ورموه بالبهتان والإفك الذي
كمقالهم وهو للمتابع قاطع
حاشا وكلا ليس هذا شانه
قالوا له اشقي الورى مع كونه
وهمو يرون الشمس ظاهرة لهم(100/75)
قالوا له يا كافرا يا فاجرا
قالت قريش قبلهم للمصطفي
قالوا يعم المسلمين جميعهم
بل كل من جعل العديل لربه
قالوا له غشاش آمة احمد
هل قال الا وحدوا رب السما
وتمسكوا بالسنة البيضا ولا
هذا الذي جعلوه غشا وهو قد
من عهد آدم ثم نوح هكذا
وكذلك الخلفاء بعد نبيهم
منهاجهم هذا عليه تمسكوا
عجبا لمن يتلو الكتاب ويدعي
ويقول للتوحيد غشا آن ذا
ويجدد الإسلام والأيمان معترفا
ما ذنبه في الناس الا انه
ما صح عهد ثقيف لما عاهدوا
ما اللات الا كان عبدا صالحا
لما توفي عظموا لضريحه
اذ كان حيا قادرا قاموا باط
واذا تواري عنهمو في لحده ... اظهار ما قد ضيعوه من اليد
ليكافؤه علي وفاق المرشد
ومشوا علي منهاج قوم حسد
هم يعملون به ومنهم يبتدى
بدخول جنات وحور خرد
بل انه يرجو بها لموحد
ينهي عن الأنداد للمتفرد
لكن اعمي القلب ليس بمهتد
ما ضره قول العداة الحسد
ذا ساحر ذا كاهن ذا معتد
بالكفر قلنا ليس ذا بمؤكد
ونهي فصد فذاك كالمتهود
وهو النصيح بكل وجه يبتدى
وذروا عبادة ما سوي المتفرد
تتننطعوا بزيادة وتردد
بعثت به الرسل الكرام لمن هدي
تتري الي عهد النبي محمد
والتابعون وكل حبر مهتد
من كان مستنا بهم فليقتد
علم الحديث مسلسلا في المسند
خطر علي من قال فليشهد
بان الشيخ خير مجدد
هدم القباب وتلك سنة احمد
الا بهدم اللات لو لم يعبد
لت السويق لطائف متعبد
كصنيع عباد القبور النكد
عام له وبكسوة وتفقد
جعلوه ندا للإله انسيد
……الي آن قال
عجبا لهم لو كان فيهم منصف
من حيث آن الاتباع موافق
قالوا صبأتم نحوه قلنا لهم
ما بيننا نسب نميل به ولا
لكنها شمس الظهيرة قد بدت
فان اعتراكم في الذي قد قاله
فزنوا بميزان الشريعة قوله
ولئن وجدتم جافيا او فاسقا
قد زل يوما او هفا لا تنسوا
فالآهل والأصحاب ماذا ضرهم
من بعد ذاك الاجتماع علي الهدي
ماذا يضر السحب نبح الكلب آم
ثم الصلاة علي النبي محمد
والآهل والأصحاب جمعا كلما ... لرأي المحب محمدا لمحمد(100/76)
للحب في نص الكتاب الأمجد
الحق شمس للبصير المهتدي
حسب يقربنا له بنودد
لذوي البصائر فاهتدي من يهتدي
شك وريب واختلاف يبتدى
تجدوه حقا ظاهرا للمقتدي
او جاهلا في العلم كالمتردد
هفواته لجناب ذاك المرشد
من بعدهم تكدير صافي المورد
ظهروا ذوو فرق و أنكر تبدد
ماذا يضر الصحب سب الملحد
أزكى الورى أصلا و أطيب محتد
قد ذب عن ذا الدين كل موحد
…انتهي
…وقال الشيخ محمد بن احمد الحفظي صاحب رو جال من قري عسير
الحمد حقا مستحقا ابدا ... لله رب العالمين سرمدا
…الي آن قال
مصليا علي الرسول الشارع
في البدء والختم واما بعد
حركني لنظمها الخير الذي
لما دعا من المشارق
وبعث الله لنا مجددا
شيخ الهدي محمد المحمدي
فقام والشرك الصريح قد سري
لا يعرفون الدين والتهليلا
الا اسأميها وباقي الرسم
وكل حزب فلهم وليجه
وملة الإسلام والأحكام
دعا الي الله وبالتهليلة
مستضعفا وماله من ناصر
في ذله وقلة وفي يده
كأنها ريح الصبا في الرعب
قد إذ كرتي درة لعمر
ولم يزل يدعو الي دين النبي
يعلم الناس معاني اشهد
محمد نبيه وعبده
آن تعبدوه وحده لا تشركوا
ومن دعا دون الإله أحدا
آن قلتمو نعبدهمو للقربة
وربنا يقول في كتابه
هذى معاني دعوة الشيخ لمن
فانقسم الناس فمنهم شارد
ما بين خفاش وبين جعل
وبعد ما استجيب لله فمن ... واله وصحبه والتابعي
فهذه منظومة تعد
قد جاءنا في آخر العصر القذى
بآمر رب العالمين الخالق
من ارض نجد عالما مجتهدا
الحنبلي الأثرى الاحمدي
بين الورى وقد طغي واعتكرا
وطرق الإسلام والسبيلا
والأرض لا تخلو من آهل العلم
يدعونه في الضيق للتفريجة
في غربة و أهلها أيتام
يصرخ بين اصهر القبيلة
ولا له مساعد موازر
مفهمة تغنية عن مهندة
والحق يعلو بجنود الرب
وضرب موسى بالعصا للحجر
ليس الي نفس دعا او مذهب
آن لا اله غير فرد يعبد
رسوله اليكمو وقصده
شيأ به والابتداع فاتركوا
آشرك بالله ولو محمدا
او للشفاعات فتلك الكذبة
هذا هو الشرك بلا تشابه(100/77)
عاصره فاستكبروا عن السنن
مخاصم محارب معاند
شاهت وجوه آهل هذا المثل
جادل في الله تردي وافتتن
…قلت ومن القسم الذين شردوا عن الدين وخاصموا وحاربوا وعاندوا وبذلوا الجد والاجتهاد ، في التكذيب والزور والفساد ، مر بدين احمد وعبد الرحمن النجدي وهما اللذان اكثرا من البهت والهذيان ، واغتر بقولهما وبهتانهما آهل البغي والعدوان ، ومن داخله الغل والحقد والحسد ، وطغي علي قلبه من ذلك ما أوجب له الكمد والنكد ، فنعوذ بالله من رين الذنوب ، وانتكاس القلوب 0
…ثم قال رحمه الله
ومن أجاب داعي الله ملك
والسابقون الالون السادة
هم الغيوث والليوث والشنف
فاقبلوا والناس عنه أدبروا
حفوا به كأسود العرائن
وابن سعود كابي أيوب
قال اذهبوا فانتمو سيوم
وقام فاروق الزمان المؤتمن
فسار في الناس كسيرة الاشج
يسوس بالآثار والقران
يدعو الي الله بحزب غالب
ونفسه لله والنفيس
وبعده قام الأمام البارع
وهو الهزبر الضيغم العدل الولي
كم زع بالقران والسلطان
وفي العراقين له رعود
واليمن الميمون كالحجاز
والحرمين وهي المطهرة
بالرفق يدعوهم وبالتعطف
ولم يكن في نزعه من ضعف
فلم أر من عبقري يفري
وهكذا من يبتدى بنفسه
فانه يطاع لا محالة ... ومن تولي معرضا فقد هلك
آل سعود الكبراء القادة
ونصرة الإسلام والشم والآنف
وعرفوا من حقه ما أنكروا
وكم وكم لله من ضنائن
محمد الربيل واليسوب
وجندري قبله حيزوم
عبد العزيز من ومن ومن
ودوخ البر وخاض للثبج
علي طريق العدل والإحسان
مجاهدا بالأربع المراتب
والصدق للقلوب مغناطيس
بآمر رب العالمين الوازع
سعود مخ الرأس قلب الهيكل
من فارس والروم والزنجان
ومصر من صولته مرعود
دولخها بالقهر والمغازي
قد أصبحت بعدله معطرة
ومن آبى يطره بالمشرفي
وشاهد الواقع فيه يكفي
فريه من أمراء العصر
مجاهدا في يومه و أمسه
في خارج بيعا بلا إقالة(100/78)
…الي آخر كلامه رحمه الله والمقصود بذلك هذا ما ذكره هذا المعترض علي الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث ذكر آن الشيخ محمدا نقل ذلك مستدلا به علي كفر من لديه من المسلمين وغير من لديه واباحة الدماء والأموال وهنا جهل لا يخفي علي الجهال فضلا عن العلماء والعقال انتهي
…وقد عرفت مما أسلفناه من كلام العلماء من كل قطر ما كان عليه آهل نجد وغيرهم من الكفر بالله وعبادة الأولياء والصالحين والأشجار والأحجار والغيران وغير ذلك مما قد أوضحناه وبيناه فمن زعم آن ما كان عليه آهل نجد وغيرهم مما ذكر ليس بكفر ولا شرك وانهم مع هذه الأفعال مسلمون وان من دعاهم الي التوحيد وعبادة الله وترك ما كانوا عليه من الشرك وجا هدهم علي ذلك انه كفر ونهب أموال وسفك دماء بغير حق فما عرف الإسلام الذي يعصم الدم والمال ولا عرف الكفر المبيح لذلك فكان هو الجاهل المركب الذي لا يدري ولا يدري آته لا يدري وحسبنا الله ونعم الوكيل 0(100/79)
ونذكر هاهنا أيضا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تميمة قدس الله روحه في منهاج السنة علي قول الرافضي ( الخلاف السادس في قتال مانعي الزكاة ) قاتلهم آبو بكر واجتهد عمر في أيام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم و أطلق المحبوسين – فهذا من الكذب الذي لا يخفي علي من عرف أحوال المسلمين فان مانعي الزكاة اتفق آبو بكر وعمر علي قتالهم بعد آن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن آبى هريرة رضي الله عنه آن عمر قال لآبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم " أمرت آن أقاتل الناس حتى يشهدوا آن لا اله الا الله و أنى رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم الا بحقها وحسابهم علي رسول الله ، فقال آبو بكر : آلم يقل الا بحقها وحسابهم علي الله فان الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا يؤدونها الي رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم علي منعها 0 قال عمر فو الله ما الا آن رأيت الله قد شرح صدر آبى بكر للقتال فعرفت انه الحق 0 وفي الصحيحين تصديق فهم آبى بكر عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال " أمرت آن أقاتل الناس حتى يشهدوا آن لا اله الا الله و أنى رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم الا بحقها " فعمر وافق آبا بكر علي قتال آهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة واقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب منهم ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا علي عهد آبى بكر رضي الله عنه فكيف يموت وهم في حبسه 0 و أول حبس في الإسلام اتخذ بمكة : اشتري عمر من صفوان ابن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبي آبو بكر نساءهم وزراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فانه قد يكون موافقا علي جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلي الله(100/80)
عليه وسلم علي هوازن سبيهم بعد آن قسم المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أنى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم 0 و آهل الردة قد اتفق آبو بكر وعمر وسائر الصحابة علي انهما يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لانه جائز انتهي 0
…فتبين بما ذكره شيخ الإسلام آن الصحابة اجمعوا علي قتالهم وانهم سموهم كلهم آهل الردة وانه لم يكن بين عمر وبين آبى بكر خلاف بعد رجوع عمر الي موافقة آبى بكر مع سائر الصحابة وان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يخالف ما في الصحيحين كما زعم هذا المعترض الجاهل والله اعلم 0
…فتبين بما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كذب من ادعي آن الصحابة اختلفوا في آهل الردة وانهم جعلوهم ثلاثة أصناف وصرح انهم سموهم كلهم آهل الردة وانهم سبوا نسائهم وزراريهم وانه لم يكن بين آبى بكر وعمر خلاف وان رد عمر رضي الله عنه السبي والأموال إليهم انه كما رد النبي صلي الله عليه وسلم سبي هوازن إليهم بعد آن صح إسلامهم ولكن هذا المعترض جاهل بمدارك الأحكام ، وما عليه أئمة الإسلام ، والله المستعان 0
*******
…قال المعترض في أبياته ولذلك قلنا
وهذا لعمري غير ما آنت فيه من
فانهم قد بايعوك علي الهدي
وقد هاجروا ما كان من بدع ومن
فما لك في سفك الدماء قط حجة
وعامل عباد الله باللطف وادعهم
ورد عليهم ما سلبت فانه
ولا بأناس حسنوا لك ما تري
يريدون نهب المسلمين واخذ ما
فراقب اله العرش من قبل آن تري
نعم واعلموا أنى آري كل بدعة
( ولا تحسبوا أنى رجعت عن الذي
( بلى كل ما فيه هو الحق إنما تجا
( وتفكير آهل الأرض لست أقوله
( وها آنا أبرا من فعالك في الورى
( ودونكما مني نصيحة مشفق
( وتغلق أبواب الغلو جميعه
( وهذا نظامي جاء والله حجة ... تجاريك في قتل لمن كان في نجد(100/81)
ولم يجعلوا لله في الدين من ند
عبادة من حل المقابر في اللحد
خف لله و أحذر ما تسر وما تبدي
الي فعل ما يهدي الي جنة الخلد
حرام ولا تغير بالعز والجد
فما همهم الا الإناث مع النقد
بأيديهم من غير خوف ولا حد
صديقا فلا شيء يفيد ولا يجدي
ضلالا علي ما قلت في ذلك العقد
تضمنه نظمي القديم الي نجد )
ريك في سفك لدماء ليس من قصدي )
كما قلته لا عن دليل به تهدي )
فما آنت في هذا مصيب ولا مهدي )
عليك عسي تهدي لهذا وتستهدي )
وتأتى الأمور الصالحات علي قصد )
عليك فقابل بالقبول الذي ابدي )
…والجواب آن يقال
أقوال لعمري ما أصبت ولم تكن
فقد كان شيخ المسلمين محمدا
فسار علي منهاج سنة احمد
وما قاتل الشيخ الأمام محمد
ينادون زيدا والحسين وخالدا
وقد جعلوا لله جل جلاله
وقاتلهم لما آبوا وتمردوا
فعمن آخذت الزور مما نظمته
اعن مربد من فر عن دين احمد
وقد هاضه بل غاضة و أمضه
وقد ألف المالفون ما كان قومه
ولما استجابوا واستقاموا علي الهدي
ففر وابدي ترهات وضلة
عن الدين والتقوي ذوي الإفك والردي
فقولك عمن فر عن دين احمد
فانهمو قد بايعوك علي الهدي
تهور أفاك وتزوير مبطل
فما بايعوا بعد الضلال علي الهدي
من الزور والبهتان ليس بثابت
ولا هجروا ما كان من بدع ومن
فلو آمنوا بالله من بعد غيهم
لما سفكت تلك الدماء وقتلوا
ولكنهم في غيهم وضلالهم
نعم كان منهم من أجاب تزندقا
الي الكفر والإشراك بالله جهرة
فخاف من المولي عقوبة تركهم
وعامل آهل الحق باللطف والذي
وقد قام يدعوهم الي الله برهة
وعاملهم باللطف والرفق داعيا
فلما آبوا واستكبروا وتمردوا
احل بهم ما قد احل نبيه
الي ان انابوا واستجابوا واذعنوا
فالوا به عزا ومجدا ورفعة
وقولك : فاردد ما نهبت ، تحكم
ايرجع اموالا ابيحت بكفرهم
اهذا حرام ويل امك او اتي
فلو ان ما تحكي من الزور كائن
وما عز شمس الدين في نصرة الهدي
ولا باناس حسنوا البغي بالهوي
كما قلته فيما تهورت قائلا(100/82)
وما قلتمو بالمبين من هذيانكم
يريدون نهب المسلمين واخذ ما
ثكلتك هل هذي مقالة عالم
ايرجع اموالا الي كل من دعا
ينادون زيدا طالبين برغبة
وتاجا وشمسانا ومن كان يدعي
ويدعون اشجارا كثيرا عديدة
وغارا وقد اوت اليه يزعمهم
وقد رام منها فاسق ان يريدها
فكان لها المولي مجيرا وعاصما
وفحال نخل يختلفن نساؤهم
اذا لم تلد ولم تزوج ليعطها
وكل قري نجد بهن معابد
فان كان هذا ليس عندك مخرجا
لانهمو قد امنوا بمحمد
ولا اعتقدوا فيمن دعوه بانه
ولكنهم قوم اتوا بجهالة
فزين للجهال ان ذوي التقي
لهم شفعاء ينفعون وانهم
فمن اجل هذا كان هذا اعتقادهم
ولكن اولا القوم ليسوا كمن مضي
فما الاوليا والصالحون لديهم
فهذا مقال الفدم لادر دره
وكان لعمري سامجا متناقضا
فلست علي نهج من الدين واضحا
وان كان هذا غاية الكفر والردي
فما بال هذا الطعن ويحك جهرة
وترميه بالبهتان والزور زاعما
فهلا نصحت اليوم نفسك مزريا
لتنجو في يوم عظيم عصبصب
فانك قد اوغلت في الشر قائلا
وكل الذي قد قلت في الشيخ فرية
واعجب شيء قاله بعد هدره
( ولا تحسبوا اني رجعت عن الذي
( بلي كل ما فيه هو الحق انما
اقول نعم كل الذي قال اولا
وكل الذي قد قال في النظم اولا
لمن كان ذا قلب خلي من الهوي
ولم يبد ردا او رجوعا عن الذي
الي ان تقضي ذلك العصر كله
وتصديق ذا ان الذي قال لم يكن
لمن بايعوا طوعا علي الدين والهدي
وقد هجروا ما كان من بدع ومن
اذا تم هذا واستبان لمنصف
فصح يقينا ان هذا تقول
ولا حسد قد غامر الغي قلبه
وابصر في منظومه متاملا
وما قاله في الشرح من هذيانه
تيقن ان الشيخ كان علي الهدي
فما جاء هذا الوغد فيما هذي به
ولكن بتزوير وتاليف جاهل
وجاء ببرهان واقوم حجة
وان كان هذا النظم والشرح ثابتا
واعني به البدر المنير محمدا
وصدق اهل الغي في هذيانهم
وكان له في ذاك نوع من الهوي
فليس بمعصوم ولا شك انه
وعوقب بالهذر الذي قال حيث لم
وناقض ما قد قاله في اعتقاده(100/83)
وقد شاع عن النظم عنه وشرحه
فلا غر و من هذا ولا بدع بل له
وماذا عسي لو قال ما قال جهرة
وانكر اهل العلم من كل جهبذ
فقد رد صديق عليه وقد راي
وانصف لما قال بالحق والهدي
ورد الاباطيل التي قد اتي بها
وقد خالفت ما قاله كل عالم
وقد قال قوم من ذوي الغي والردي
وقد زعموا ان الامام محمدا
ويقتلهم من غير جرم تجبرا
ومن لم يطعه كان بالله كافرا
وقد اجلبوا من كل اوب ووجهة
فبادوا وما فادوا وما ادركوا المني
واظهره المولي علي كل من بغي
واظهر دين الله بعد انطماسه
وساعده في نصرة الدين والهدي
وقد نال مجدا اهل نجد ورفعة
باظهار دين الله قسرا ودعوة
وقام بهذا الامر من بعد من مضي
وقد جاهدوا اعداء دين محمد
لكي يطمسوا اعلام سنة احمد
وقد جهدوا في محو اعلامه العلي
فما نال من عاداهمو من ذوي الردي
ونال ذو الاسلام عزا ورفعة
فلا زال تاييد الاله يمدهم
وازكي صلاة يبهر المسك عرفها
واصحابه والال مع كل تابع ... علي منهج ينجيك عن زورك المردي
علي المنهج الاسني وكان علي المرشد
ومنهج أصحاب النبي ذوي المجد
سوي آمة عادوا عن الحق والقصد
ومن كان في الأحداث من ساكن اللحد
نديدا تعالي الله عن ذلك الغد
وقد شردوا عن دعوة الحق للضد
وسطرته في الرق جهرا علي عمد
وقد أشرقت أنواره في ربي نجد
تلألؤ نور الحق من كوكب الرشد
عليه من الإشراك والجعل للند
تضايق لما لم يجد من له يجدي
يصد بها آهل الغواية واللسد
وهيهات قد بان الرشاد لذي النقد
بتزويره أفكار وبهتا علي عمد
ولم يجعلوا لله في الدين من ند
تجاري به الاهوواء الحسد المردي
وقاتلهم حاشا وكلا فما تبدي
وليس له اصل فدع عنك ما يردي
عبادة من حل المقابر في اللحد
وتابوا عن الإشراك بالصمد الفرد
بلا حجة هذا من الكذب المردي
وطغيانهم لا يهتدون لمن يهدي
وحاد أخيرا عن موافقة الرشد
فقاتلهم عمدا وقصدا لذا القصد
علي كفرهم حتى يفيئوا لما يبدي
يحيد عن الإسلام بالصارم الهندي(100/84)
من الدهر لا يألوا اجتهاد بما يجدي
الي فعل ما يهدي الي جنة الخلد
عن الدين واستعدوا عداه ذوي جحد
بمن كفروا بالله من كل ذي طرد
لمن قام يدعوهم الي منهج الرشد
ودان لهم بالدين من صد عن جهد
ثكلتك هل تدري غوائل ما نبدي
اليهم وهل هذي مقاله ذي نقد
بذلك وحي مستبين لذي رشد
لكان حراما لا يباح ولا يجدي
تغززه بالجاه والعز والجد
وهمهم اخذ الاثاث مع النقد
بما لم يقل اهل الدراية من نجد
كقولك تمويها علي الاعين الرمد
بايديهمو من غير خوف ولا حد
تقي نقي عارف او اخي رشد
سوي الله معبودا من الخلق لا يجدي
ومن كان في الاحداث من ساكن اللحد
ولا يته الجهال من غير ما عد
لعمري واحجارا تراد لذا القصد
هنالك بنت للامير علي جهد
بسوء فعاد الغار منغلق السد
فيدعونه من اجل ذاك ذو واللد
اليه باهداء القرابين عن عمد
بنين وزوجا عاجلا غير ذي صد
كثير بلا حد يحدو لا عد
من الدين من ياتي به من ذوي الجحد
عليه صلاة الله ماحن من رعد
اله مع الرحمن ذي العرش والمجد
وغرهم الشيطان ذو الغدر والطرد
من الصلحا والاولياء ذوي الرشد
يضرون هذا قوله عن ذوي اللد
كما اعتقد الكفار من قبل في الند
فقد اثبتوا التوحيد للواحد الفرد
بالهة حاشا فليسوا ذوي جحد
كما هو معلوم من الشرح مستبد
فتبا لمن يبدي من الغي ما يردي
ولست بذي علم ولست بذي رشد
واديان عباد القبور ذوي الجحد
علي من محا تلك المعابد من نجد
بانك ذو نصح وتهدي وتستهدي
عليها ومستعد عليها بما تبدي
من الافك والبهتان في العالم المهدي
بما ليس معلوما لدي كل من يهدي
بلا مريه والحق كالشمس مستبد
وتلفيقه زورا من القول لا يجدي
نضمنه نظمي القديم الي نجد )
تجاربك من سفك الدما ليس من قصدي
هو الحق والتحقيق من غير مارد
يعود علي القول المزور بالهد
فقد عاش عصرا بعدما قال في العقد
تقدم او طعنا با ضاع ذي الحقد
ولم يشتهر ما قيل من كل ما يبدي
ولا صار هذا القتل والنهب في نجد
ولم يجعلوا لله في الدين من ند(100/85)
عبادة من حل المقابر في اللحد
خلي الاغراض ليس بذي حقد
علي الحبر بحر العلم ذي الفصل والنقد
وصار به غل علي كل ذي رشد
مقاصد ما قد رامه بالذي يبد
وتلفيقة ما لا يفيد ولا يجدي
وكان علي نهج قويم من الرشد
بحق وتحقيق لدي كل ذي نقد
ولو كان ذا علم لا نصف في الرد
تدل علي ما قاله في الذي يبدي
عن السيد المشهور بالعلم والرشد
ووافق اهل الزيغ والطرد والجحد
بما قاله نظما ونثرا من الرد
وداخله شيء من الحسد المردي
بذلك قد اخطا وجاء بما يردي
يكن بصواب مستقيم ولا يجدي
وما قاله فيما تقدم في العقد
وساغ لدي قوم كثير ذوي حقد
بذلك امثال كثير بلا عد
فقد كان قد اخطا وحاد عن الرشد
عليه امورا خالها الحق عن قصد
مقالته الشنعاء فاحسن في الرد
وجاء ببرهان يلوح لذي النقد
والفها في شرح منظومة المردي
محق ويدري الحق ليس بذي لدي
كما قاله هذا البمرج عن قصد
يكفر اهل الارض طرا علي عمد
وياخذ اموال العباد بلا حد
الي غير هذا من خرافات ذي اللد
وصالوا باهل الشرك من كل ذي حقد
وابوا وقد خابوا وحادوا عن الرشد
عليه وعاداه بلا موجب يجدي
واعلي له الاعلام سامية المجد
ائمة عدل مهتدون ذوو رشد
بال سعود واستطالوا علي الضد
الي الله بالتقوي وبالصارم الهندي
بنوهم وقد ساروا علي منهج الحمد
وقد جرهم قوم طغاة الي نجد
ويعلوا بها اهل الردي من ذوي الجحد
واطفاء انوار له غاية الجهد
مناهم فباؤا بالخسارة والطرد
ومجدا بنصر الدين والكسر للضد
بنصر واسعاف علي كل ذي حقد
علي السيد المعصوم افضل من يهدي
وتابعهم والتابعين علي الرشد
( فصل )(100/86)
…اذا تحققت ما قدمت لك من النظم والنثر في الرد علي هذا المزور الذي وضع هذه الاكاذيب من النظم والشرح علي السيد الامام محمد ابن اسماعيل الصنعاني رحمه الله وتبين لك ما في كله من الخطا والكذب والزور والبهتان والظلم والعدوان وان هذا الكلام لا يليق بجناب السيد محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله فانه كلام جاهل متناقض والسيد اجل قدرا من ان يتكلم بمثل هذا الكلام البارد السامج فعلم هذا المزور دليل النظم الاول بابيات ذكر فيها احكام الكفر وتقسيمه فذكر في القسم الذي لا يخرج عن الملة قوله0(100/87)
…" قلت ومن هذا كفر من يدعو الاولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جداراتها وينذر لها شيئا من ماله فانه كفر عمل لا اعتقاد فانه مؤمن بالله وبرسوله صلي الله عليه وسلم وباليوم الاخر لكن زين لهم الشيطان ان هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقدوا ذلك جهلا كما اعتقده اهل الجاهلية في الاصنام لكن هؤلاء يثبتون التوحيد لله لا يجعلون الاولياء الهة كما قاله الكفار انكارا علي رسول الله صلي الله عليه وسلم لما دعاهم الي كلمة التوحيد اجعل الالهة الها واحد فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة وقالوا في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك 0 فاثبتوا للاصنام شركة مع رب الانام ، وان كانت عبادتهم الضالة قد افادت انه لا شريك له تعالي لانه اذا كان يملكه وما مالك فليس شريكا له تعالي بل مملوك فعباد الاصنام جعلوا لله اندادا واتخذوا من دونه شركاء وتارة يقولون الشفعاء يقربونهم الي الله زافي ، بخلاف جهلة المسلمين الذين يعتقدون في اوليائهم النفع والضر فانهم مقرون بالوحدانية وافربادة بالالهية وصدقوا رسله فالذي اتوه من تعظيم الاولياء كفر عملي لا اعتقادي ، فالواجب هو وعظهم ، وتعريفهم جهلهم ، وزجرهم ولو بالتعزير كما امرنا بحد الزاني والشارب والسارق من اهل الكفر العملي كما قدمنا في الابيات الاصلية حيث قلنا * وكم هتفوا عند الشدائد باسمها * وكما قلنا * وكم عقروا في سوحها من عقيرة* وكما قلنا * وكم طائف حول القبور مقبل * الي اخرها فهذه كلها قبائح محرمة من اعمال الجاهلية فهو من الكفر العملي فقد ثبت ان هذه الامة تفعل امورا من امور الجاهلية فهو من الكفر العملي كحديث " اربع في امتي من امور الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب ، والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحه " اخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابي مالك الاشعري فهذه من الكفر العملي لا يخرج بها الامة عن الملة بل هم مع(100/88)
اتيانهم بهذه الخصلة الجاهلية اضافهم الي نفسه فقال من امتي ( فان قلت ) الجاهلية تقول في اصنامها أنهم يقربونا إلى الله زلفى كما تقوله القبوريون ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبور أيضاً ( قلت ) لا سواء فإن القبوريين مثبتون التوحيد لله تعالى بالالهية قاتلون إنه لا إله إلا هو ولو ضربت عنقه على أن يقول إن الولي إله مع الله لما قالها ، بل عنده اعتقاد جهل أن الوالي لما أطاع الله من اطاعته كان له عنده تعالى جاه به يقبل شفاعته ويرجو نفعه لا أنه إله مع الله بخلاف الوثني ، فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعماً أن وثنه إله مع الله ويسميه ربا والها كما قال يوسف - عليه السلام - ( أرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار ) فسماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل - عليه السلام - هذا ربي في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتاً متكلما على خطائهم حيث يسمون الكواكب أربابا وقال ( أجعل الآلهة إلها واحداً ) وقال قوم إبراهيم - عليه السلام - ( من فعل هذا بآلهتنا ؟ أأنت فعلت هذا بألهتنا يا إبراهيم ) فقال إبراهيم - عليه السلام - مستفهما ( أإفكاً آلهة دون الله تريدون ) ومنها تعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الالهية ولا الربوبية كما توهمه من توهم من قوله ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ؟ من خلق السموات والارض ليقولن الله خلفهن العزيز العليم * قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله ) فهذا اقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما لا انه اقر بتوحيد الالهية لانهم يجعلون اوثانهم الهة وارباباكما عرفت فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الاولياء النفع والضر مع توحيد الله والايمان به وبرسله واليوم الاخر فانه كفر عمل فهذا تحقيق بالغ وايضاح لما هو الحق من(100/89)
غير افراط ولا تفريط " الي اخر كلامه 0
…( الجواب ) ان يقال سبحان من طبع علي قلوب هؤلاء الجهلة حتي قلبوا الحقائق ، وارتكبوا الاحموقة من الشقاشق فضلوا واضلوا عباد الله وهذا الرجل الذي بلغ هذه الاكاذيب قد جاء بها شوهاء شمطاء لم تمتشط ولم تنتقب وظن من سفاهة رايه وقلة عمله وتحقيقه ومعرفته بدين الاسلام الذي بعث الله به رسله ولنزل به كتبه ان هذا هو التحقيق البالغ وايضاح الحق من غير افراط ولا تفريط وهو كلام متناقض مخالف للكتاب والسنة واجماع سلف الامة وائمتها ومخالف لكلام السيد الامير محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله مناقض له كما سنذكره ان شاء الله قريبا ولولا ان هذا النظم وشرحه انتشر واشتهر انه من كلام الامير محمد بن اسماعيل الصنعاني وصدق به من كان في قلبه زيغ وعنده عداوة لاهل الاسلام الحنفاء لما رفعنا به راسا لكن تعين علينا نصر الحق وبيانه والسعي في ابطال ماموه به هذا المبهرج علي خفافيش البصائر وليعلم كل من نظر فيه براءة السيد الامير محمد بن اسماعيل من هذا الكلام الباطل المتناقض السامج البارد بذكر ما يناقضه ويرده ويبطله مما هو الحق والصواب الموافق لصريح السنة والكتاب من كلام السيد في تطهير الاعتقاد قال رحمه الله تعالي 0
فصل(100/90)
…" اذا تقرر عندك ان المشركين لا ينفعهم الاقرار بالله تعالي مع اشراكهم في العبادة ولا يغني عنهم من الله شيئا وان عبادتهم هي اعتقادهم انهم ينفعون ويضرون وانهم يقربون من الله زلفي وانهم يشفعون لهم عند الله تعالي فينحرون لهم النحائر وطافوا بهم ونذر النذور عليهم وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم ويسجدون لهم ومع هذا كله هم مقرون لله بالربونية وانه الخالق ولكنهم لما اشركوا في عبادته جعلهم مشركين ولم يعتد باقرارهم هذا لانه نافاه فعلهم فلم ينفعهم الاقرار بتوحيد الربونية فمن شان من اقر لله بتوحيد الربونية ان يفرده بتوحيد العبادة فاذا لم يفعل ذلك فالاقرار الاول باطل فقد عرفوا وهم في طبقات النار وقالوا ( تالله ان كنا لفي ضلال مبين * اذ نسويكم برب العالمين ) مع انهم لم يسووهم له من كل وجه ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين لكن علموا ان صاروا في النار في قعر جهنم ان خلط الاقرار من ندرات الشرك وعدم توحيد العبادة صيرهم كمن سوي بين الاصنام وبين رب الانام قال تعالي ( وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون ) اى ما يقر اكثرهم في اقراره بالله وبانه خلقه وخلق السموات والارض الا وهو مشرك بعبادة الاوثان بل سمي الله تعالي الرياء في الطاعات شركا مع ان فاعل الطاعات ما قصد بها الا الله تعالي وانما اراد تطلب المنزلة في الطاعة في قلوب الناس فالمرائي عبد الله تعالي لا غيره لكنه خلط العبادة بطلب المنزلة في قلوب العباد فلم تقبل له عبادة وسماها شركا كما اخرجه مسلم من حديث ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " انا اغني الشرك عن الشرك من عمل عملا اشرك معي فيه غيري تركته وشركه " بل سمي تعالي التسمية بعبد الحارث شركا كما قال تعالي ( فلما اتاهما صالحا جعلا له شريكا فيما اتاهما ) فانه اخرج احمد ابن حنبل والترمذي من حديث سمرة انه قال صلي الله عليه وسلم لما حملت حواء وكان لا يعيش لها ولد طاف بها(100/91)
ابليس وقال لا يعيش لك ولد حتي تسميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك وحي من الشيطان وامره فانزل الله الايات وسماه شركا وكان ابليس يسمي بالحارث والقصة في الدار المنثور وغيره "
فصل
…" قد عرفت من هذا كله ان من اعتقد في شجر او حجر قبر او ملك او حي او ميت انه ينفع او يضر وانه يقرب الي الله او يشفع عنده في الحاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل الي الرب تعالي الا مارود من حديث فيه مقال في حق نبينا صلي الله عليه وسلم بخصوصة او نحو من ذلك فانه قد اشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الاوثان فضلا عن ان ينذر بما له او ولده لميت او حي يطلب بذلك ما لا يطلب الا من الله تعالي من الحاجات من عافية مريضة او قدوم غائبة ونيله لاي مطلب من المطالب فان هذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عبادة الاصنام والنذر بالمال علي الميت ونحوه والنحر علي قبره والتوسل به وطلب الحاجات منه هو بعينه الذي كان يفعله الجاهلية والجاهلية انما يسمون ما يعبدونه وثنا وصنما وهؤلاء يسمونه وليا وقبرا ومشهدا والاسماء لا اثر لها ولا تغير المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية فمن شرب الخمر واسماها ماء ما شرب الا خمرا 0 وقد ثبت في الاحاديث انه ياتي اقوام يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم قد اتي طوائف من الفسقة يشربون الخمر ويسمونها نبيذا واول من سمي ما فيه غضب الله وعصيانه بالاسماء المحبوبة عند السامعين ابليس لعنه الله فانه قال لابي البشر ادم - عليه السلام - ( يا ادم هل ادلك علي شجرة الخلد وملك لا يبلي ) فسمي الشجرة التي نهي الله ادم عن قربها ( شجرة الخلد ) غروراله وقد لبس عليه بالاسم الذي اخترعه لها كما سمي اخوانه المقلدون له الحشيشةبلقمة الراحة وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من اموال عباد الله ظلما وعدوانا ادبا فيقولون ادب القتل ادب السرقة ادب التهمة – بتحريف اسم الظلم(100/92)
الي الادب – كما يحرفونه في بعض المقبوضات الي اسم النفاعة وفي بعضها الي السياسة وفي بعضها ادب المكابيل والموازين وكل ذلك عند الله ظلم وعدوان كما يعرفونه من شم رائحة الكتاب والسنة وكل ذلك ماخوذ عن ابليس وكل قوم لهم رجل ينادونه فاهل العراق والهند عبد القادر واهل الطائف ومكة يا ابن عباس واهل مصر يا رفاعي وفي كل قرية اموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر وهو فعل المشركون في الاصنام كما قلنا في الابيات النجدية
اعادوا بها معني سواع ومثله
وقد هتفوا عند الشدائد باسمائها
وكم نحروا في سوحها من بحيرة
وكم طائف عند القبور مقبل
اعادوا بها معني سواع ومثله
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... يغوث وود بئس ذلك من ود
كما يهتف المضطر بالصمد القرد
اهلت لغير الله جهرا علي عمد
ومستلم الاركان منهن باليد
يغوث وود بئس ذلك من ود
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
اهلت لغير الله جهرا علي عمد
…" فان قلت هؤلاء القبوريون يقولون نحن لا نشرك بالله عز وجل ولا نجعل له ندا والالتجاء الي الاولياء والاعتقاد فيهم ليس بشرك قلت نعم يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم ولكن هذا جهل منهم بمعني الشرك فان تعظيمهم الاولياء ونحرهم النحائر لهم شرك والله تعالي يقول ( فصل لربك وانحر ) أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظروف ويقول ( فلا تدعوا مع الله احد ) الي اخر كلامه رحمه الله تعالي 0
( فصل )
…ولنختم الجواب بما هو اوضح من الواضحات واصرح الدلائل والبينات علي بطلان دعوي من اعتبر الالفاظ دون الحقائق بما ذكره شيخنا شيخ الاسلام الامام وعلم الهداة الاعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن في ( فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد ) الذي الفة شيخ الاسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالي 0(100/93)
…قوله باب من تبرك بشجر او حجر ونحوهما كبقعة او قبر ونحو ذلك أي فهو مشرك قوله وقول الله تعالي ( افر ايتم اللات والعزي ومناه الثالثة الاخري ) الايات
…ثم ذكر كلام المفسرين من اهل العلم عليها ثم قال رحمه الله تعالي فمطابقة الاية للترجمه من جهة ان عباد هذه الاوثان انما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستغاثة بها والاعتماد عليها وحصول ما يرجونه ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك فالتبرك بقبور الصالحين كاللات وبالاشجار والاحجار كالعزي ومناه من جملة فعل اولئك المشركين مع تلك الاوثان فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر او حجر او شجرة فقد ظاهر عباد هذه الاوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك علي ان الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم اعظم مما وقع من اولئك فالله المستعان "
…ثم قال رحمه الله تعالي قوله عن ابي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم الي حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها ويتوطون اسلحتهم يقال لها ذات انواط فمرر بالسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات انواط كما لهم ذات انواط قال " الله اكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسي ( اجعل لنا الها كما لهم الهة قال انكم قوم تجهلون ) لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه ابو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن ابي سعيد وابي هريرة قاله الترمذي وقد رواه احمد وابو يعلي وابن ابي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والطبراني بنحوه(100/94)
…قال رحمه الله قوله وللمشركين سدرة يعكفون عندها العكوف هو الاقامة علي الشيء في المكان ومنه قول الخليل - عليه السلام - ( ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون ) وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركا بها وتعظما لها وفي حديث عمر وكان يناط بها السلاح فسميت ذات انواط وكانت تعبد من دون الله قوله وينوطون بها اسلحتهم أي يعقلونها عليها للبركة ( قلت ) ففي هذا بيان ان عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك وبهذه الامور الثلاثة عبدت الاشجار ونحوهما 0
…قوله اجعل لنا ذات انواط قال ابو السعادات سالوه ان يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك وانواط جمع نوط وهي مصدر سمي به المنوط ظنوا ان هذا الامر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به والا فهم اجل قدرا من يقصدوا مخالفة النبي صلي الله عليه وسلم قوله فقال النبي صلي الله عليه وسلم " الله اكبر" وفي رواية " سبحان الله " والمراد تعظيم الله تعالي وتنزيهه عن هذا الشرك باي نوع كان مما لا يجوز ان يطلب او يقصد به غير الله وكان النبي صلي الله عليه وسلم يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيما لله وتنزيها له اذا سمع من احد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربونية والالهة قوله إنها السنن بضم السين أي الطريق قوله قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسي ( اجعل لنا الها كما لهم الهة ) فشبه مقالتهم هذه بقول بني اسرائيل بجامع ان كلا طلب ان يجعل له ما ياله اليه ويعبده من دون الله وان اختلف اللفظان فالمعني واحد فتغير الاسم لا يغير الحقيقة ففيه الخوف من الشرك وان الانسان قد يستحسن شيئا يظنه يقربه الي الله وهو ابعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه
…ولا يعرف الحقيقة الا من عرف ما وقع في هذه الازمان من كثير من العلماء والعباد مع ارباب القبور من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها ويحسبون انهم علي شيء وهو الذئب الذي لا يغفره الله(100/95)
…قال الحافظ ابو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل الشافعي المعروف بابن ابي شامه في ( كتاب البدع والحوادث ) ومن هذا القسم ايضا ما قد عم الابتلاء به من تزبين الشيطان للعامة بتخليق الحيطان والعمد واسراج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك انه راي في منامه بها احدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالي وسننه ويظنون انهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا الي ان يعظم وقع تلك الاماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينه دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينه الحمي خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونه خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من اصلها فما اشبهها بذات انواط الواردة في الحديث انتهي 0
…وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره ابي شامة ثم قال فما اسرع اهل الشرك الي اتخاذ الاوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون ان هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فان النذر عبادة وقربة يتقرب بها المنذور له وسياتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " وفي هذه الجملة من الفوائد ان ما يفعله من يعتقد في الاشجار والقبور والاحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ولا يغتر بالعوام والطعام ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالي يقع في هذه الامة فاذا كان بعض الصحابة ظنوا ان ذلك حسنا وطلبوه من النبي صلي الله عليه وسلم حتي بين لهم ان ذلك كقول بني اسرائيل ( اجعل لنا الها كما لهم الهة ) فكيف لا يخفي علي من هو دنهم في العلم والفضل باضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد باثار النبوة ؟ بل خفي عليهم عظائم الشرك في الالهية والربونية فاكثروا فعله واتخذوه قربة 0(100/96)
…وفيها ان الاعتبار في الاحكام بالمعاني لا بالاسماء ولهذا جعل النبي صلي الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني اسرائيل ولم يلتفت الي كونهم سموها ذات انواط فالمشرك مشرك وان سمي شركه ما سماه كمن يسمي دعاء الاموات والذبح لهم والنذور ونحو ذلك تعظيما ومحبة فان ذلك هو الشرك وان سماه ما سماه وقس علي ذلك انتهي ما ذكره شيخنا رحمه الله في فتح المجيد 0
…فتامل رحمك الله قوله فشبه مقالتهم هذه بقول بني اسرائيل بجامع ان كلا طلب ان يجعل له ما يالهة ويعبده من دون الله وان اختلف اللفظان فالمعني واحد فان تغير الاسم لا يغير الحقيقة ( وقوله ) بعد ذلك وفيها ان الاعتبار في الاحكام بالمعاني لا بالاسماء ولهذا جعل النبي صلي الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني اسرائيل ولم يلتفت الي كونهم سموها ذات انواط فالمشرك مشرك وان سمي شركه ما سماه كمن سمي دعاء الاموات والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيما ومحبة فان ذلك هو الشرك وان سماه ما سماه 0
ثم تامل ما ذكره المعترض بقوله ( فان قلت ) الجاهلية يقولون في اصنامها انهم يقربونهم الي الله زافي كما يقول القبوريون ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقول القبوريون ايضا ( قلت ) لاسواء فان القبوريون يثبتون التوحيد لله تعالي بالهيته قائلين انه لا اله الا هو ولو ضربت عنقه علي ان يقول ان الولي اله مع الله لما قالها بل عنده اعتقاد وهو ان الولي لما اطاع الله من اطاعه (1) كان له عنده جاه به يقبل شفاعته ويرجو نفعه لا انه اله مع الله بخلاف الوثني فانه امتنع عن قول لا اله الا الله حتي ضربي عنقه زاعما ان وثنه اله مع الله ويسميه ربا والها الي اخر كلامه 0
__________
(1) كذا في الاصل وظاهرة ان كلمة ( من اطاعه ) زائدة لا معني لها ولا حاجة اليها هنا 0(100/97)
…فاعتبر هذا المعترض الجاهل المركب الاسماء دون الحقائق متعلق بتسمية اهل الجاهلية من عباد الاصنام والاوثان اصنامهم واوثانهم التي يعبدونها مع الله الهه واربابا ولم يعتبر معاني هذه الاسماء وحقائقها فان الاله هو الذي تالهه القلوب محبه واجلالا وتعظيما وخوفا ورجاء ودعاء واستغاثة واستعانه وذبحا ونذرا وتوكلا وانابة وخشية ورهبة ورغبة فاذا تاله العبد غير الله بنوع من هذه الانواع فدعاه مع الله او استغاث به او استعان به او خانه او رجاه مع الله او طلب منه ما لا يقدر عليه الا الله او ذبح له او نذر له او توكل عليه او صرف له من هذه العبادة شيئا فقد تالهه وعبده من دون الله وان لم يسم ذلك المعبود المالوه الها وربا (1)
__________
(1) السبب الصحيح لتسمية عرب الجاهلية كل شيء مما ذكر الها هو انهم اهل اللغة وهذا معني الاله في لغتهم فلا يشترط في مفهوم لفظ الاله في اللغة العربية ان يكون هو الخالق او المدبر للخلق بل هذا يدخل في مفهوم اسم الله ولذلك دعاهم الرسول كما دعا سائر الرسل اقوامهم ( ان لا تعبدوا الا الله ما لكم من اله غيره ) واما جهلة المسلمين الذين اتخذوا الهه مع الله تعالي فلم يسموها الهه لجهلهم باللغه كجهلهم بالشرع فظنوا ان الاسلام انما ينهي عن تسميه غير الله الها واما عبادة غيره كدعاء الموتي والنذر لهم وتقريب القرابين والطواف بقبورهم وغير ذلك فلا ينافي التوحيد عندهم اذا سمي توسلا او استشفاعا مثلا وقد ينكرون كون اعمالهم هذه تسمي عبادة لجهلهم باللغة والشرع وبالتاريخ ايضا فان شرك جاهلية العرب والشرك الذي سري الي اهل الكتاب كان جله ومعظمه من النوع وكذا شرك قوم نوح من قبلهم كما رواه البخاري عن ابن عباس " - رضي الله عنه - " ولذلك قلت منذ اكثر من ربع قرن ان مشركي المسلمين الجغرافيين قد جنوا علي الدين واللغة العربية ومشركي الجاهلية حافظوا علي لغتهم فسموا كل شيء باسمه لانهم اهل اللغة 0 وجملة القول ان معني الاله في اللغة المعبود مطلقا ولذلك سمي القرآن تلك المعثوذات الهه في قوله تعالي ( فما اغنت عنهم الهتهم التي يدعون من الله من شيء ) وقوله ( فراغ الي الهتهم ) الخ واما كلمة التوحيد وما في معناها فهي لبيان الواجب في الاسلام لا الواقع في الخارج كقوله تعالي ( ان الحكم الا لله ) وقول اهل الحق لا حكم الا لله 0(100/98)
وسواء عتقد التاثير منه او لم يعتقد فان الحقائق لا تتغير بتغير الاسماء كما انه صلي الله عليه وسلم لم يلفت الي قول من قال اجعل لنا ذات انواط كما لهم ذات انواط بل شبه طلبتهم هذه بقول بني اسرائيل لموسي ( اجعل لنا الها كما لهم الهه ) فالاعتبار بالحقائق والمعاني لا بالاسماء وهذا الكلام الذي ذكره هذا المعترض هو قول الكفار من اهل الجاهلية سواء بسواء ومن جهله وعدم علمه واطلاعه وتحقيقة قوله في اخر كلامه :
…ومن هنا نعلم ان الكفار غير مقرين بتوحيد الالهيه ولا الربونيه كما توهمه من توهمه من قوله ( ولئن سالتهم من خلقهم ليقولون الله ) وقوله ( ولئن سالتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم * قل من يرزقكم من السماء والارض – الي قوله – ليقولن الله ) فهذا قرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما الي اخره 0 فزعم هذا الجاهل ان الكفار غير مقرين بتوحيد الربونيه وانما اقروا بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما وهذا عنده ليس بتوحيد الربونيه فهل بعد هذا الجهل جهل ينتهي اليه ؟ وهل سمعت ايها الموحد باسمج من هذا الكلام ؟ وقد تقدم من كلام السيد الامير محمد ابن اسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد ما يبطل كلام هذا المزور المفتري ويناقضه 0 وبذلك تعلم وتتحقق قطعا ان هذا النظم وشرحه موضوع مكذوب عليه والله اعلم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلي الله علي اشرف المرسلين وامام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلي اله واصحابة وجميع التابعين وسلم تسليما كثيرا الي يوم الدين والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله 0(100/99)
تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد
بقلم محمد بن ناصر الدين الألباني
الطبعة الرابعة
المكتب الإسلامي
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
…إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }(1)، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً }(2)، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما }(3).
أما بعد ، فقد كنت طبعت آخر سنة (1377) هجرية رسالة بعنوان " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد " ، وكانت نسختي الخاصة من هذه الطبعة طيلة هذه المدة في متناول يدي ، كلما عثرت على فائدة زائدة تناسب موضوعها علقتها عليها ، رجاء ضمها إليها عند إعادة طبعها مزيدة ومنقحة ، وبذلك توفر عندي زيادات كثيرة هامة ، ولما طلب مني الأستاذ الافضل زهير الشاويش صاحب المكتب الاسلامي أن أقدمها إليه ليجدد طبعها ، افتقدتها فلم أجدها ، ولما يئست منها أرسلت إليه نسخة أخرى استعرتها من بعض أصحابي لتطبع كما هي على قاعدة : " ما لا يدرك كله ، لا يترك جله " ، وبينما كان أخي الاستاذ زهير الشاويش يعد العدة لطبعها ، إذ عثرت عليها بفضل الله تعالى وكرمه ، فبادرت بإرسالها إليه ، بعد تهذيبها وتهيئتها للطبعة الثانية .
__________
(1) سورة البقرة ، الآية 132 .
(2) سورة النساء ، الآية 1.
(3) سورة الأحزاب ، الآية 70.(101/1)
…ولما كان لتأليف الرسالة المذكورة يؤمئذ ظروف خاصة وملابسات معينة ، اقتضت الحكمة أن يكون أسلوبها على خلاف البحث الهادئ ، والاستدلال الرصين ، ذلك أنها كانت رداً على أناس لم تعجبهم دعوتنا إلى الكتاب والسنة ، على منهج السلف الصالح ، وخطة الأئمة الأربعة وغيرهم ممن اتبعوهم باحسان ، فبادؤونا بالتأليف والرد ، وليته كان رداً علمياً هادئاً ، إذن لقابلتهم بأحسن منه ولكنه لم يكن كذلك ـ مع الأسف ـ بل كان مجرداً عن أي بحث علمي ، مملئاً بالسباب والشتائم وابتكار التهم التي لم تسمع من قبل لذلك ، لم نر يؤمئذ أن من الحكمة السكوت عنهم ، وتركهم ينشرون رسائلهم بين الناس ، دون أن يكون لدى هؤلاء مؤلف يكشف القناع عما فيها من الجهل والتهم ، { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة }(1) لذلك كان لا بد من الرد عليهم بأسمائهم .
…وعلى الرغم من أنني لم أقابل اعتداءهم وافتراءهم بالمثل ، فقد كانت الرسالة على طابعها العلمي رداً مباشر عليهم ، وقد يكون فيها شئ من القسوة أو الشدة في الأسلوب في رأي بعض الناس الذين يتظاهرون بامتعاظهم من الرد على المخالفين المفترين ، ويودون لو أنهم تركوا دون أن يحاسبوا على جهلهم وتهمتهم للأبرياء ، متوهمين أن السكوت عنهم هو من التسامح الذي قد يدخل في مثل قوله تعالى { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }(2) وينسون أو يتناسون أن ذلك مما يعينهم على الاستمرار على ضلالهم وإضلالهم للأخرين ، والله عزوجل يقول { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }(3) وأي أثم وعدوان أشد من اتهام المسلم بما ليس فيه ، بل بخلاف ما هو عليه ! ولو أن بعض هؤلاء المتظاهرين بما ذكرنا أصابه من الاعتداء دون ما أصابنا لسارع إلى الرد ، ولسان حاله ينشد :
ألا لا يجلهن أحد علينا ……فنجهل فوق جهل الجاهلين
…
__________
(1) 1 سورة الأنفال الآية 42 .
(2) 2 سورة الفرقان الآية 63 .
(3) 3 سورة المائدة الآية 2.(101/2)
…أقول على الرغم من ذلك : فإنني لأرى أن طبع الرسالة من جديد على وضعها السابق ليس من ورائه فائدة تذكر ، لذلك كان لابد من حذف بعض التعليقات ، وتعديل قليل من العبارات ، مما يهذب من أسلوبها ويتناسب مع طبعتها الجديدة ، ولا ينقص من قيمتها العلمية ، وبحوثها المهمة .
…وقد كنت ذكرت في مقدمة الطبعة الأولى أن موضوع الرسالة ينحصر في أمرين هامين جداً :
…الأول : حكم بناء المساجد على القبور .
…الثاني : حكم الصلاة في هذه المساجد .
وإني آثرت البحث فيهما ، لأن بعض الناس خاضوا فيهما بغيرعلم ، وقالوا ما لم يقله قبلهم عالم ، لا سيما وأكثر الناس لا معرفة عندهم فيه مطلقاً ، فهم في غفلة عنه ساهون ، وللحق جاهلون ، ويدعمهم في ذلك سكوت العلماء عنهم ـ إلا من شاء الله وقليل ما هم ـ خوفا من العامة ، أو مداهنة لهم في سبيل الحفاظ على منزلتهم في صدورهم ، متناسين قول الله تبارك وتعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أؤلئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }(1) وقوله صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " .(2)
__________
(1) 1 سورة البقرة آية 159.
(2) 2 حديث حسن ، أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (296 ) والحاكم (1 / 102) وصححه ، ووافقه الذهبي .(101/3)
…وكان من نتيجة هذا السكوت وذلك الجهل ، أن آل الأمر إلى ارتكاب كثير من الناس ما حرم الله تعالى ولعن فاعله ، كما سيأتي بيانه ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد ! بل صار بعضهم يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك ! فترى كثيراً من محبي الخير وعمارة منهم ، ينفق أموالآ طائلة ليقيم لله مسجداً ، لكنه يعد فيه قبراً ، يوصي أن يدفن فيه بعد موته ! وآخر مثال أعرفه على ذلك ـ وعسى أن يكون الأخير إن شاء الله هذا المسجد الذي هو في رأس شارع بغداد من الجهة الغربية بدمشق ، وهو المعروف ب" مسجد بعيرا " ، وفيه قبره ، وقد بلغنا أن الأوقاف مانعت في دفنه أول الأمر ، ثم لا ندري الأسباب الحقيقية التي حالت بينها وبين ما أرادت ، ودفن " بعيرا " في مسجده بل في قبلته ! وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وهو المستعان على الخلاص من هذه المنكرات وأمثالها ! .
ومنذ أيام قليلة توفي أحد المفتين من الشافعية ، فأراد ذووه ان يدفنوه في مسجد من المساجد القديمة شرقي دمشق ، فمانعت الأوقاف أيضاً في ذلك فلم يدفن فيه ، ونحن نشكر الأوقاف على هذه المواقف الطيبة ، وحرصها على منع الدفن في المساجد ، راجين الله تبارك وتعالى ، أن يكون الحامل لها على هذا المنع هو رضاء الله عزوجل واتباع شريعته ، ليس هو اعتبارات أخرى من سياسية أو اجتماعية أو غيرها ، وأن يكون ذلك بداية طيبة منها في سبيل تطهير المساجد من البدع والمنكرات المزدحمة فيها! لا سيما ووزير الأوقاف فضيلة الشيخ الباقوري له مواقف كريمة ، في محاربة كثير من هذه المنكرات وخصوصاً بناء المساجد على القبور ، وله في هذا الموضوع كلام مفيد سيأتي نقله في المكان المناسب إنشاء الله تعالى .
…ومن المؤسف لكل مؤمن حقاً أن كثيراً من المساجد في البلاد السورية وغيرها لا تخلو من وجود قبر أو أكثر فيها ، كأن الله تبارك وتعالى أمر بذلك ولم يلعن فاعله ! فكم تحسن الأوقاف صنعاً لو حاولت بحكمتها تطهير هذه المساجد منها .(101/4)
…ولست أشك أن ليس من الحكمة في شئ مفاجأة الرأي العام بذلك ، بل لا بد من إعلامه قبل كل شئ ، أن القبر والمسجد لا يجتمعان في دين الإسلام ، كما قال بعض العلماء الأعلام ، على ما سياتي ، وأن اجتماعهما معاً ينافي إخلاص التوحيد والعبادة لله تبارك وتعالى ، هذا الإخلاص الذي من أجل تحقيقه تبنى المساجد ، كما قال تعالى { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا}(1) .
…أعتقد أن بيان ذلك واجب لا مناص منه ، ولعلي اكون قد وفقت للقيام به في هذه الرسالة ، فقد جمعت فيها الأحاديث المتواترة في النهي عن ذلك ، وأتبعتها بذكر مذاهب العلماء وأقوالهم المعتبرة ، التي تدل على ذلك ، وتشهد في الوقت نفسه على أن الأئمة رضي الله عنهم كانوا أحرص على اتباع السنة ودعوة الناس إلى اتباعها ، والتحذير من مخالفتها ، ولكن صدق الله العظيم القائل : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً}(2).
…وهذه فصول الرسالة :
الفصل الأول : في أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد .
الفصل الثاني : في معنى اتخاذ القبور مساجد .
الفصل الثالث : في أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر .
الفصل الرابع : شبهات وجوابها .
الفصل الخامس : في حكمة تحريم بناء المساجد على القبور .
الفصل السادس : في كراهة الصلاة في المساجد المبنية على
القبور .
الفصل السابع : في أن الحكم السابق يشمل جميع المساجد إلا
المسجد النبوي .
وفي تضاعيف هذه الفصول ، فصول اخرى فرعية ، تضمنت فوائد هامة نافعة إنشاء الله تعالى .
وقد سميت الرسالة :
( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد )
ذلك ما كنت كتبت في مقدمة الطبعة الأولى .
…وإني لأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع المسلمين بهذه الطبعة أكثر من سابقتها ، وأن يتقبلها مني وسائر عملي الصالح قبولاً حسناً ، ويجزي القائم على طبعها خيراً . دمشق في 23ـجمادى الأولى ـ سنة 1392هـ
__________
(1) 1 سورة الجن آية 18.
(2) 1 سورة مريم آية 59 .(101/5)
……………… محمد ناصر الدين الألباني
……الفصل الأول
أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد .
…1ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه :
…"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
قالت : فلولا ذاك أبرز(1) قبره غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً (2).
__________
(1) 1 أي كشف قبره صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل ، والمراد دفن خارج بيته ، كذا في " فتح الباري " .
…فائدة : قول عائشة هذا ، يدل دلالة واضحة على السبب الذي من أجله دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ، ألا وهو سد الطريق على من عسى أن يبني عليه مسجد ، فلا يجوز والحالة هذه أن يتخذ ذلك حجة في دفن غيره صلى الله عليه وسلم في البيت ، يؤيد ذلك أنه خلاف الأصل ، لأن السنة الدفن في المقابر ، ولهذا قال ابن عروة في " الكوكب الدري" (ق188/ 1 تفسير 548):
…" والدفن في مقابر المسلمين أعجب إلى أبي عبد الله ( يعني الإمام أحمد ) من الدفن في البيوت ، لأنه أقل ضرراً على الأحياء من ورثته ، وأشبه بمساكن الآخرة ، وأكثر للدعاء له والترحم عليه ، ولم يزل أصحابه والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحارى .
…فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم قبر في بيته ، وقبر صاحبه معه ؟ قلنا : قالت عائشة : إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجداً ، ولآن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع ، وفعله أولى من فعل غيره ، وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك ولأنه روي : " يدفن الأنبياء حيث يموتون " وصيانة لهم عن كثرة الطراق ، تمييزاً له عن غيره " .
(2) 2 رواه البخاري (3/156و198 و8/114 ) ومسلم (2/76 ) وأبو عوانة (1/399) وأحمد (6/80 و121و255) والسراج في "مسنده " (3/48 /2) عن عروة عنها .
…وأحمد (6/146 و252 ) والبغوي في " شرح السنة " (ج1ص415) طبع المكتب الإسلامي عن سعيد بن المسيب عنها .
…وسنده صحيح على شرط الشيخين .(101/6)
…ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها رضي الله عنهما ، فأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال :
لما أئتمروا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائل : ندفنه حيث كان يصلي في مقامه ! وقال أبو بكر : معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد ، وقال الاخرون : ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه من المهاجرين ، قال أبو بكر : إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق ، وحق الله فوق حق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن أخرجناه ( الأصل : أخرناه ) ضيعنا حق الله ، وإن أخفرناه (!) أخفرنا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : فما ترى أنت يا أبا بكر ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه ، قالوا : فأنت والله رضي مقنع ، ثم خطوا حول الفراش خطاً ، ثم احتمله على والعباس والفضل وأهله ووقع القوم في الحفر يحفرون حيث كان الفراش (1) .
2ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
…"قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (2) .
3و4 ـ عن عائشة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة (3)
__________
(1) 1 قال ابن كثير : وهو منقطع من هذا الوجه ، فإن عمر مولى غفرة مع ضعفه لم يدرك أيام الصديق . كذا في ( الجامع الكبير ) للسيوطي (3/147 /1ـ2 ) .
(2) 2 رواه البخاري (2/422) ومسلم وأبوعوانة أبو داود (2/71 ) وأحمد (2/284و366و396و453و518) وأبو يعلى في " مسنده " (278/1) والسراج والسهمي في " تاريخ جرجان " (349) وابن عساكر (14/367/2) عن سعيد بن المسيب عنه ، ومسلم أيضاً عن يزيد بن الأصم عنه . وأخرجه عبدالرزاق في " مصنفه " (1/406/ 1589) من الوجه الأول عنه ، ولكنه أوقفه .
(3) 3 ثوب خز أو صوف معلم . كذا في " النهاية " .
قلت : والمراد هنا الثاني ، لأن الخز هو الحرير كما هو المعروف الان وهو حرام على الرجال كما هو ثابت في النسة خلافاً لمن يستحله ممن لا يقيم للسنة وزناً !.(101/7)
له ، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول : " لعنة الله
على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . تقول عائشة يحذر مثل الذي صنعوا " (1) .
…قال الحافظ ابن حجر : "وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحل من ذلك المرض ، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى ، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم " .
قلت : يعني من هذه الأمة ، وفي الحديث الآتي (6) التصريح بنهيهم عن ذلك ،
فتنبه .
…
…5ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها : مارية ـ وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة ـ فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: [ فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ] فقال :" أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ، ثم صوروا تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله [ يوم القيامة ] " (2).
…قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري " :
__________
(1) 1 رواه البخاري (1/422و6/386و8/116) ومسلم (2 /67) وأبو عوانة (1/399) والنسائي ( 1/115) والدارمي (1/326) وأحمد (1/218و6/34و229و275) وابن سعد في "الطبقات " (2/258 ) . ورواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 /406/1588) عن ابن عباس وحده .
(2) 2 رواه البخاري (1/416و422) ومسلم (2/66 / ) والنسائي (1/115) وابن أبي شيبة في " المصنف " (4/140طبع الهند) وأحمد (6/51 طبع المكتب الإسلامي ) وأبو عوانة في " صحيحه " (1/400ـ401) والسياق له وابن سعد في " الطبقات " (2/241) والسراج في " مسنده " (48/2) وأبو يعلى في " الطبقات " (ق .220/2) والبيهقي (4/80 ) والبغوي (2/415ـ416) .(101/8)
" هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين ، وتصوير صورهم فيها ،كما يفعله النصارى ، ولا ريب أن كل واحدج منهما محرم على انفراده ، فتصوير صور الآدميين يحرم ، وبناء القبور على المساجد بانفراده يحرم ، كما دلت عليه نصوص أخر ، يأتي ذكر بعضها ، قال ": والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها ، ولم يكن لها ظل ، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها ، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام ، وهو من جنس عبادة الأوثان ، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة ، وتصوير الصور للتأسي برؤيتها أو للتنزه بذلك ، والتلهي محرم ، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره ، وأنه تعالى ليس كمثله شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى " .
ذكره في " الكواكب الدراري " ( مجلد 65/82/2) .
قلت : ولا فرق في التحريم بين التصوير اليدوي والتصوير الآلي والفوتوغرافي ، بل التفريق بينهما جمود وظاهرية عصرية ، كما بينته في كتابي " آداب الزفاف " ( ص106ـ116الطبعة الثانية طبع المكتب الإسلامي ) .
6ـ عن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول :
" قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء ، وإني أبراء (1) إلى الله أن يكون لي فيكم
__________
(1) 1 أي امتنع من هذا وأنكره ، والخليل هو المنقطع إليه ، قيل : هو مشتق من الخلة ، بفتح الخاء وهي الحاجة ، وقيل : من الخلة بضم الخاء وهي تخلل المودة في القلب ، فنفى صلى الله عليه وسلم أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله تعالى . " شرح مسلم " للنووي .(101/9)
خليل ، وإن الله عز وجل قد اتخذني خليلاً كما تخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً ، لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا [ وإن ] من كان قبلكم [ كانوا ] يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " (1) .
…7ـ عن الحارث النجراني قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول :
…" ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " (2) .
…عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه : " أدخلوا علي أصحابي " .
…فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافريّ (3) ، [ فكشف القناع ] فقال : " لعن الله اليهود [ والنصارى ] اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(4)
…9ـ عن أبي عبيدة بن الجراح قال : آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم :
…
__________
(1) 1 رواه مسلم (2/ 67ـ 68) وأبو عوانة (1/ 401) والسياق له والطبراني في " الكبير " (1/84/2) ورواه ابن سعد (2/240) مختصراً دون ذكر الإخوة واتخاذ الخليل .
وله عنده (2/241) شاهد من حديث أبي أمامة ، وله شاهد ثان أخرجه الطبراني عن كعب بن مالك بسند لا بأس به كما قال ابن حجر الهيتمي في " الزواجر " (1/120) وضعفه الحافظ نور الدين الهيثمي في " مجمع الزوائد " (9/45) .
(2) 2 ـرواه ابن أبي شيبة (ق2/ 83/2 و ط2/ 376 ) وإسناده صحيح على شرط مسلم .
(3) 3 ـبرود باليمن منسوبة إلى معافر وهي قبيلة باليمن . " نهاية " .
(4) 4 ـ رواه الطيالسي في مسنده (2/113من ترتيبه ) وأحمد ( 5/204) والطبراني في " الكبير " (ج1ق 22/ 1) ، وسنده حسن في الشواهد ، وقال الشوكاني في " نيل الأوطار" (2/114) "سنده جيد" ! وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 2/27) " رجاله موثقون " .(101/10)
…" أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أن شرار الناس الذي اتخذوا ( وفي رواية : يتخذون ) (1) قبور أنبيائهم مساجد " (2) .
…10 ـ عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لعن الله ( وفي رواية : قاتل الله ) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (3)
__________
(1) 1 وبين الروايتين فرق ظاهر ، فالرواية الأولى تعني ناساً تقدموا ، وهم اليهود والنصارى كما في الأحاديث المتقدمة ، والرواية الأخرى تعني من يسلك سبيلهم من هذا الأمة ويؤيدها الأحاديث (6، 7، 12) .
(2)
2 ـرواه احمد ( رقم 1691، 1694) والطحاوي في " مشكل الآثار " (4/13) وأبو يعلى (57/1) وابن عساكر (8/367/2) بسند صحيح ، وقال الهيثمي في " المجمع (5/325) :
" رواه أحمد بأسانيد (الأصل بإسنادين ) ، ورجال الطريقين منها ثقات متصل إسنادها ورواه أبو يعلى " .
قلت : وفي هذا الكلام نظر ظاهر ، لأن مدار الطرق الثلاث التي أشار إليها على إبراهيم بن ميمون عن سعد بن سمرة ، إلا أن الطريق الثالث أدخل بعض الرواة بينهما إسحاق بن سعد بن سمرة وهو وهم كما بينه الحافظ في " التعجيل " ثم إنه ليس فيه " واعلموا أن شرار الناس …) !
…ثم هذا الحديث ذكره الهيثمي في مكان آخر (2/ 82) نحوه وقال :
…
…" رواه البزار ورجاله ثقات " . وله شاهد مرسل عن عمر بن عبد العزيز مرفوعاً نحوه . رواه ابن سعد (2/ 254 ) .
(3)
3 ـ رواه أحمد (5/184، 186) ورجاله ثقات غيرعقبة بن عبدالرحمن هو ابن أبي معمر وهو مجهول كما في " التقريب " ولا تغتر بقول الهيتمي (2/27) : " رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال موثقون " ما فعل الشوكاني ، فإنه قال (2/114) " وسنده جيد " وذلك لأن قوله " موثقون " دون قوله " ثقات " فإن قولهم " موثقون " إشارة منهم إلى أن بعض رواته ليس توثيقه قوياً فكأن الهيثمي يشير إلى أن عقبة هذا إنما وثقه ابن حبان فقط وأن توثيق ابن حبان غير موثوق به والله أعلم
وكون توثيق ابن حبان لا يوثق به مما لا يرتاب فيه المتضلعون في هذا العلم الشريف ، وقد فصلت القول في ذلك في ردي على رسالة " التعقب الحثيث " للشيخ عبدالله الحبشي وقد نشر في التمدن الإسلامي في مقالات متتابعة ، ثم نشر في رسالة مستقلة تحت عنوان " الرد على التعقب الحثيث " فراجع (ص18ـ 21) . على أن قول القائل في حديث ما " رجاله ثقات " أو " رجاله رجال الصحيح " ، فليس معناه أن إسناده صحيح كما بينته في غير هذا الموضع ، فانظر مثلاً " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (طج2ص5ـ طبع المكتب الإسلامي ) ، لكن الحديث صحيح لشواهده المتقدمة(101/11)
.
…عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا تجعل قبري وثناً(1) ، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(2)
__________
(1) 1 " قال ابن عبد البر : الوثن الصنم ، يقول : لا تجعل قبري صنماً يصلى ويسجد نحوه ويعبد ، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبلهم ، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم ، واتخذوها قبلة ومسجداً ، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها ، وذلك الشرك الأكبر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه ، وأنه مما لا يرضاه ، خشية عليهم من امتثال طرقهم ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار ، وكان يخاف على أمته اتباعهم ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم على جهة التعبير والتوبيخ " لتتبعن سنن الذين كانوا من قبلكم حذوا النعل بالنعل ، حتى إن أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه ؟".
كذا في " فتح الباري " لابن رجب (65/90/2) من " الكواكب " .
(2) 2 رواه أحمد (رقم 7352) وابن سعد (2/241ـ242) والمفضل الجندي في " فضائل المدينة " (66/1) وأبو يعلى في " مسنده " (312/1) والحميدي (1025) وأبو نعيم في " الحلية " (6/382و7/317) بسند صحيح .
…وله شاهد مرسل رواه عبدالرزاق في " المصنف " (1/406/1587) وكذا ابن أبي شيبة (4/141) عن زيد بن أسلم . وإسناده قوي .
…وأخر اخرجه مالك في " الموطأ " (1/185) وعنه ابن سعد (2/240ـ241)عن عطاء بن يسار مرفوعاً . وسنده صحيح ، وقد وصله البزار عنه عن أبي سعيد الخدري وصححه ابن عبدالبر مرسلاً وموصولاً فقال :" فهذا الحديث عند من قال بمراسيل الثقات ، وعند من قال بالمسند ، لإسناد عمر بن محمد له ، وهو ممن تقبل زيادته " .انظر " تنوير الحوالك " للسيوطي .
…وفيما قاله ابن عبدالبر في عمر هذا نظر ، فقد قال الحافظ ابن رجب في " الفتح" :
…" خرجه من طريقه البزار " وعمر هذا هو ابن صبهان ، جاء منسوباً في بعض نسخ البزار ، وظن ابن عبد البر أنه عمر بن محمد العمري ، والظاهر أنه وهم ، وقد روي نحوه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة بإسناد فيه نظر " .(101/12)
.
…12ـ عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم احياء ، ومن يتخذ القبور مساجد"(1).
…13ـ عن علي بن أبي طالب قال :
" لقيني العباس فقال : يا علي انطلق بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا من الأمر شئ وإلا أوصى بنا الناس ، فدخلنا عليه ، وهو مغمى عليه ، فرفع رأسه فقال : " لعن الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد " . زاد في رواية : " ثم قالها الثالثة " .
…فلما رأينا ما به خرجنا ولم نسأله عن شئ (2) .
…
__________
(1) 3 رواه ابن خزيمة في " صحيحه " (1/92/ 2) وابن حبان (340و341) وابن أبي شيبة في " المصنف " (4/140 طبع الهند ) وأحمد ( رقم 3844و4143) والطبراني في " المعجم الكبير " (3/77/1) وأبو يعلى في " مسنده " (257/1) وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1/142) بإسناد حسن ، وأحمد أيضاً (رقم 4342) بسند آخر حسن بما قبله ، والحديث بمحموعهما صحيح وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " (1311) و" الإقتضاء " (ص185) :" وإسناده جيد " وقال الهيثمي (2/27) :" رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن " .
…وفي اقتصاره في عزوه على الطبراني وحده قصور ظاهر ، مع أنه في المسند في ثلاثة مواضع منه كما أشرنا إليهما آنفاً !
…والشطر الأول من الحديث رواه البخاري في صحيحه (13/15) معلقاً .
(2) رواه ابن سعد (4/28) وابن عساكر (12/172/2) من طريقين عن عثمان ابن اليمان نا أبو بكر ابن أبي عون أنه سمع عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن جده أو قال : عن ابيه ، أو عن جده قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول :
قلت : هذا إسناد حسن لولا أنني لم أعرف أبا بكر هذا ، ولم يورده الدولابي وأبو أحمد الحاكم في " الكنى " .(101/13)
…14ـ عن أمهات المؤمنين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : كيف نبني قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أنجعله مسجداً ؟ فقال أبو بكر الصديق : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) .
……
** *** * *** **
………الفصل الثاني
… معنى اتخاذ القبور مساجد
…
لقد تبين من الأحاديث السابقة خطر اتخاذ القبور مساجد ، وما على من فعل ذلك من الوعيد الشديد عند الله عز وجل ، فعلينا أن نفقه معنى الاتخاذ المذكور حتى نحذره ، فأقول :
الذي يمكن أن يفهم من هذا الاتخاذ ، إنما هو ثلاث معان :
الأول : الصلاة على القبور ، بمعنى السجود عليها .
الثاني : السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء .
الثالث : بناء المساجد عليها ، وقصد الصلاة فيها .
أقوال العلماء في معنى الاتخاذ المذكور
…وبكل واحد من هذه المعاني قال طائفة من العلماء ، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم .
…أما الأول ، فقال ابن حجر الهيتمي في " الزواجر " (1/ 121) :
……" واتخاذ القبر مسجداُ معناه الصلاة عليه ، أو إليه "
…فهذا نص منه على أنه يفهم الاتخاذ المذكور شاملاً لمعنيين ، أحدهما الصلاة على القبر .
…وقال الصنعاني في " سبل السلام " (1/214) : " واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها ، أو بمعنى الصلاة عليها ".
…قلت : يعني أنه يعم المعنيين كليهما ، ويحتمل انه أراد المعاني الثلاثة ، وهو الذي فهمه الإمام الشافعي رحمه الله ، وسيأتي نص كلامه في ذلك ، ويشهد للمعنى الأول أحاديث :
__________
(1) رواه ابن زنجويه في " فضائل الصديق " كما في " الجامع الكبير " (3/147/1) .(101/14)
…الأول : عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور ، أو يقعد عليها ، أو يصلى عليها " (1) .
…الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تصلوا إلى قبر ، ولا تصلوا على قبر "(2) .
…الثالث : عن أنس : أن النبي 3 رواه ابن حبان (343) .
صلى الله عليه وسلم نهى عن اار ـ وسئل عن الصلاة وسط القبور ـ قال : ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فعلنهم الله تعالى " (3).
…وأما المعنى الثاني : فقال المناوي في " فيض القدير " حيث شرح الحديث الثالث المتقدم :
__________
(1) 1 رواه أبو يعلى في " مسنده " (ق 66/ 2) وإسناده صحيح ، وقال الهيثمي (3/61) : " ورجاله ثقات " .
(2)
2رواه الطبراني في " المعجم الكبير" (3/145/ 2) وعنه الضياء المقدسي في " المختارة " عن عبدالله
كيسان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً ، وقال المقدسي :
وعبدالله بن كيسان قال فيه البخاري : منكر الحديث ، قال أبو حاتم الرازي ضعيف ، وقال النسائي
ليس بالقوي " إلا أني لما رأيت ابن خزيمة والبستي أخرجا له أخرجناه " .
…قلت : لكن الحديث صحيح ، فإن له عند الطبراني (3/ 150 / 1) طريقاً آخر ، خيراً من هذه عن ابن عباس ، علقه البخاري في " التاريخ الصغير " (ص 163) ، وشطره الأول له شاهد من حديث أبي مرثد ، يأتي قريباً .
(3) 4 رواه عبدالرزاق (1591) وهو مرسل صحيح الإسناد ، وموضع الشاهد منه أن عمراً استشهد بالحديث على النهي عن الصلاة بين القبور ، فد على أنه يعني المعنى المذكور .(101/15)
…" أي اتخذوها جهة قبلتهم ، مع اعتقادهم الباطل ، وإن اتخاذها مساجد ، لازم(1) لاتخاذ المساجد عليها كعكسه ، وهذا بين به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم . قال القاضي ( يعني البيضاوي ) : لما كانت اليهود يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم ، ويجعلونها قبلة ، ويتوجهون في الصلاة نحوها ، فاتخذوها أوثاناً لعنهم الله ، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه … " .
…قلت : وهذا معنى قد جاء النهي الصريح عنه فقال صلى الله عليه وسلم :
……" لا تجلسوا على القبور ، و لا تصلوا إليها " (2)
__________
(1) 1 يعني : يلزم من السجود إليها بناء المساجد عليها ، كما يلزم من بناء المساجد عليها السجود إليها وهذا امر واقع مشاهد .
(2) رواه مسلم ( 3/62) وأبو داود (1/71) والنسائي (1/124) والترمذي (2/154) والطحاوي في " شرح
المعاني " (1/296) والبيهقي (3/435) وأحمد (4/135) وابن عساكر (2/1512 و152/ 2) من حديث
أبي مرثد الغنوي ، وقال احمد :" إسناده جيد " .
وقول الشيخ سليمان حفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمهم الله ف) في حاشيته على " المقنع
(1ـ125) :" متفق عليه " . وهم منه .
…ثم عزاه (ص281) لمسلم وحده ، فأصاب : وله [ على علمه وفضله ] من مثل هذا التخريج أوهام كثيرة جداً ، يجعل الاعتماد عليه في التخريج غير موثوق به ، وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة الأخرى تنبيهاً لطلاب العلم ونصحاً لهم ، وإنما الدين النصيحة .
…1ـ قال "ص20" روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تنتفعوا من الميتة بشئ ، رواه الدارقطني بإسناد جيد ".
…قلت وهو حديث ضعيف ، وفي الصحيح ما يعارضه ، وعزوه للدراقطني وهم لم أجد من سبقه إليه .
…2ـ قال "ص28" لقوله صلى الله عليه وسلم : " من استنجى من ريح فليس منا " رواه الطبراني في " معجمه الصغير "
…قلت وليس هذا في " المعجم " وأنا أخبر الناس به ـ والحمد لله ـ فإني خدمته ، ورتبته على مسانيد الصحابة وخرجت احاديثه ووضعت فهرساً جامعاً لأحاديثه .
…ثم إن الحزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر ، لأنه من رواية أبي الزبير عن جابر ، كما أخرجه الجرجاني (272) وغيره ، وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه .
…3ـ قال "ص 29 " قال النبي صلى الله عليه وسلم : لخلوف فم الصائم …. " رواه الترمذي .
…قلت : وهو " صحيح البخاري " و " صحيح مسلم " !!(101/16)
.
…قال الشيخ علي القاري في " المرقاة " (2/372) معللاً النهي :
…" لما فيه من التعظيم البالغ كأنه من مرتبة المعبود ، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظم ، فالتشبه به مكروه ، وينبغي ان تكون كراهة تحريم ، وفي معناه بل أولى منه الجنازة الموضوعة ( يعني قبلة المصلين ) ، وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها " .
…قلت : يعني في صلاة الفريضة وهذا بلاء عام قد تعداه إلى بلاد الشام والأناضول وغيرها ، وقد وقفنا منذ شهر على صورة شمسية قبيحة جداً تمثل صفاً من المصلين ساجدين تجاه نعوش مصفوفة أمامهم فيها جثث جماعة من الأتراك كانوا ماتوا غرقاً في باخرة .
…وبهذه المناسبة نلفت النظر إلى أن الغالب من هديه صلى الله عليه وسلم هو الصلاة على الجنائز في " المصلى " خارج المسجد ، ولعل من حكمة ذلك إبعاد المصلين عن الوقوع في مثل هذه المخالفة التي نبه عليها العلاّمة القاري رحمه الله .
…ونحو الحديث السابق ما روى ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال :
…"كنت أصلي قريباً من قبر ، فرآني عمر بن الخطاب ، فقال : القبر القبر . فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول : القمر !"(1) .
…وأما المعنى الثالث : فقد قال به الإمام البخاري ، فإنه ترجم للحديث الأول بقوله " باب ما يكره من اتخاذ القبور مسجداً على القبور " .
__________
(1) 1 رواه أبو الحسن الدينوري في " حزء فيه محالس من أمالي أبي الحسن القزويني (ق 3/1) بإسناد صحيح ، وعلقه البخاري (1/437فتح ) ، ووصله عبدالرزاق ايضاً في " مصنفه " (1/404/ /1581) وزاد : " إنما أقول القبر : لا تصل إليه ".(101/17)
…فقد أشار بذلك إلى أن النهي عن اتخاذ القبور مسجداً يلزم منه النهي عن بناء المساجد عليه ، وهذا أمر واضح ، وقد صرح به المناوي آنفاً ، وقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث : " قال الكرماني : مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجداً ، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر ، ومفهومها متغاير ، ويجاب بأنهما متلازمان ، وإن تغاير المفهوم ".
…وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها في آخر الحديث الأول :
…" فلولا ذاك أبرز قبره ، غير انه خشي أن يتخذ مسجداً " .
…إذ المعنى فلولا ذاك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها ، لجعل قبره صلى الله عليه وسلم في أرض بارزة مكشوفة ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك خشية أن بينى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة .
…ويؤيد هذا ماروى ابن سعد (2/241) بسند صحيح عن الحسن وهو ( البصري ) قال : ائتمنروا (1) أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقال عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعاً رأسه في حجري إذ قال : قاتل الله أقواماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قبض في بيت عائشة .
قلت : هذه الرواية ـ على إرسالها ـ تدل على أمرين اثنين :
أحدهما : أن السيدة عائشة فهمت من الاتخاذ المذكور في الحديث انه يشمل المسجد الذي قد يدخل فيه القبر ، فبالأحرى أن يشمل المسجد الذي بني على القبر .
الثاني : أن الصحابة أقروها على هذا الفهم ، ولذلك رجعوا إلى رأيها فدفنوه صلى الله عليه وسلم في بيتها .
فهذا يدل على أنه لا فرق بين بناء المسجد على القبر ، أو إدخال القبر في المسجد ، فالكل حرام لأن المحذور واحد ، ولذلك قال الحافظ العراقي :
__________
(1) 1 أي تشاوروا .(101/18)
" فلو بنى مسجداً يقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة ، بل يحرم الدفن في المسجد ، وإن شرط ان يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفة وقفه مسجداً (1) .
قلت : وفي هذا إشارة إلى أن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام ، كما تقدم ، ويأتي .
ويشهد لهذا المعنى الحديث الخامس المتقدم بلفظ :
" أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ... أولئك شرار الخلق …) .
فهو نص صريح في تحريم بناء المسجد على قبور الأنبياء والصالحين ؛ لأنه صرح أنه
من أسباب كونهم من شرار الخق عند الله تعالى ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه " (2)
__________
(1) 1 نقله المناوي في " فيض القدير " (5/274) وأقره .
(2) 1 رواه مسلم (3/62) والسياق له ، وابن أبي شيبة (4/134) والترمذي (2/155) وصححه واحمد (3/339ـ399) .
…واعلم ان حديث جابر هذا في النهي عن النباء على القبر حديث صحيح ، لا يرتاب في ذلك ذو علم بطرق التصحيح والتضعيف ، فلا تغتر باعلال الكوثري له في " مقالاته " (ص159 ) بان " فيه عنعنة أبي الزبير " فإن ابن الزبير قد صرح بالتحديث عند مسلم وكذا احمد ، وما أعتقد أن هذا يخفى على الكوثري ، ولكن يفعل ذلك عمداً شأن أهل الأهواء قديماً وحديثاً ، يضعفون الأحاديث الصحيحة إذا كانت عليهم ، ويصححون الأحاديث الضعيفة إذا كانت لهم ! والكوثري هذا مشهور بذلك عند أهل العلم ، وقد بينت شيئاً من هذا في " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السئ في الأمة " (الأحاديث 23و24و25) فليراجع من شاء التأكد مما نقول ، ويأتيك مثال آخر في هذا الكتاب .
…ويؤيد صحة الحديث أنا أبا الزبير لم يتفرد به ، بل تبعه سليمان بن موسى عند أحمد وغيره ، ولما صححه الترمذي قال : " وقد روي من غير وجه عن جابر " وتابعه أيضاً أبو نضرة عند ابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد " (10/201 /1) .
…وله شاهد عن أم سلمة عند أحمد ، وآخر عند أبي سعيد كما في " الكواكب الدراري " (ق86ـ87تفسير 548) .(101/19)
.
…فإنه بعمومه يشمل بناء المسجد على القبر ، كما يشمل بناء القبة عليه ، بل الأول أولى بالنهي ، كما لا يخفى .
فثبت أن هذا المعنى صحيح أيضاً يدل عليه لفظ ( الاتخاذ ) ، وتؤيده الأدلة الأخرى .
…أما شمول الأحاديث للنهي عن الصلاة في المساجد المبنية على القبور فدلالتها على ذلك أوضح ، وذلك لأن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها ، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه ، مثاله إذا نهى الشارع عن بيع الخمر ، فالنهي عن شربه داخل في ذلك ، كما لا يخفى ، بل النهي عن من باب أولى .
…ومن البين جداً أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصوداً بالذات ، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصوداً بالذات ، بل ذلك كله من أجل الصلاة فيها ، سلباً أو إيجاباً ، يوضح ذلك المثال الآتي : لو أن رجلاً بنى مسجداً في مكان قفر غير مأهول ، ولا يأتيه أحد للصلاة فيه ، فليس لهذا الرجل أي أجر في بنائه لهذا المسجد ، بل هو عندي آثم لإضاعة المال ، ووضعه الشئ في غير محله ! .
…فإذا أمر الشارع ببناء المساجد فهو يأمر ضمناً بالصلاة فيها ، لأنها هي المقصودة بالبناء ، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور ، فهو ينهى ضمناً عن الصلاة فيها ؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضاً ، وهذا بين لا يخفى على العاقل إن شاء الله تعالى .
…
ترجيح شمول الحديث للمعاني كلها وقول الشافعي بذلك
…وجملة القول : أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة ، فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال بذلك الإمام الشافعي رحمه الله ، ففي كتابه " الأم " (1/ 246) ما نصه :(101/20)
…" وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى ، أو يصلى عليه ، وهو غير مسوى ( يعني أنه ظاهر معروف ) أو يصلى إليه ، قال وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء ، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . قال : وأكره هذا للسنة والآثار ، وأنه كره ـ والله تعالى أعلم ـ أن يعظم أحد من المسلمين ، يعني يتخذ قبره مسجداً ، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده " .
…فقد استدل بالحديث على المعاني الثلاثة التي ذكرها في سياق كلامه ، فهو دليل واضح على أنه يفهم الحديث على عمومه ، وكذلك صنع المحقق الشيخ على القارئ نقلاً عن بعض أئمة الحنفية فقال في " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1/45) :
…" سبب لعنهم : إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم ، وذلك هو الشرك الجلي ، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء ، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود ، أو لتضحية الشرك الخفي . كذا قاله بعض الشراح من أئمتنا ، ويؤيده ما جاء في رواية : يحذر ما صنعوا " .
…قلت : والسبب الأول الذي ذكره وهو السجود لقبور الأنبياء تعظيماً لهم وإن كان غير مستبعد حصوله من اليهود والنصارى ، فإنه غير متبادر من قوله صلى الله عليه وسلم : " اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فإن ظاهره أنهم اتخذوها مساجد لعبادة اله فيها على المعاني السابقة تبركاً بمن دفن فيها من الأنبياء ، وإن كان هذا أدى بهم ـ كما يؤدي بغيرهم ـ إلى وقوعهم في الشرك الجلي ذكره الشيخ القارئ .
………… *********
الفصل الثالث
اتخاذ المساجد على القبور من الكبائر(101/21)
…بعد أن تبين لنا معنى الاتخاذ الوارد في الأحاديث المتقدمة ، يحسن بنا أن نقف قليلا عند هذه الأحاديث لنتعرف منها حكم الاتخاذ المذكور ، مسترشدين في ذلك بما ذكره العلماء حوله فأقول :
…إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورة لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور يحرم ، بل كبيرة من الكبائر ، لأن اللعن الوارد فيها ، ووصف المخالفين بأنهم من شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى ، لا يمكن أن يكون في حق من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى .
…
مذاهب العلماء في ذلك
وقد اتقفت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك ، ومنهم من صرح بأنه كبيرة
وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك :
1ـ مذهب الشافعية انه كبيرة
…قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في " الزواجر عن اقتراف الكبائر
(1/120) :
" الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون
اتخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً ، والطواف بها ، واستلامها ، والصلاة إليها ".
ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها ، ثم قال ( ص111):
" [ تنبيه ] : عد هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية ، وكأنه
أخذ ذلك مما ذكرته من الأحاديث ، ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح ، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه ، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ، ففيه تحذير لنا كما في رواية : " يحذر ما صنعوا " أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك ، فيلعنوا كما لعنوا ، ومن ثم قال أصحابنا : تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً ، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام ، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت ، فقال بعض الحنابلة :
" قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادة لله ولرسوله صلى(101/22)
الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله ، للنهي عنها ثم إجماعاً ، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها ، واتخاذها مساجد ، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك ، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ، ويجب المبادرة لهدمها ، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار ، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه نهى عن ذلك ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة ، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ، ولا يصح وقفه ونذره . انتهى " .
…هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي ، وأقره عليه المحقق الآلوسي في " روح المعاني " (5/31) ، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين ، وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة :
…" والقول بالكراهة محمول على غير ذلك "
كأنه يشير إلى قول الشافعي " وأكره أن يبنى على القبر مسجد .. " الخ كلامه الذي نقلته بتمامه فيما سبق (ص27) ، وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في " التهذيب " وشرحه " المجموع " ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث المتقدمة ، مع أنها صريحة في تحريم ذلك ، ولعن فاعله ، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر ، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول ب( الكراهة ) مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها ؟!(101/23)
…أقول هذا ، وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية ؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني ، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر ، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه ، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين ، فقد قال تعالى { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان }(1) وهذه كلها محرمات ، فهذا المعنى ـ والله اعلم ـ هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم " وأكره " ، ويؤيده انه قال عقب ذلك :" وإن صلى إليه أجزأه ، وقد أساء" فإن قوله " أساء " معناه ارتكب سيئة ، أي حراماً ، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضاً ، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء ) بعد أن نهى عن قتل الأولاد ، وقربان الزنى ، وقتل النفس وغير ذلك : ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً )(2) أي محرماً .
…ويؤكد أن هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم ، إلا ما دل الدليل على أنه لمعنى آخر ، كما صرح بذلك في رسالته " جماع العلم " (ص125) ونحوه في كتابه " الرسالة " (ص343) ، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم كما سبق ؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي ، لا سيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " كما تقدم فلا غرابة إذن إن صرح الحافظ العراقي ـ وهو شافعي المذهب ـ بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم والله أعلم .
__________
(1) 1 سورة الحجرات الآية 7.
(2) 1 سورة الإسراء ، الآية 38.(101/24)
…ولهذا نقول : لقد اخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجة أن صرح بكراهة ذلك والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه ! قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( 1/47ـ48) :
…" نص الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنى ، ولم يقل قط أنه مباح ولا جائز ، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم ، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله } وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه . . . ) (1) إلى قوله }ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . . )(2) إلى قوله }ولا تقف ما ليس لك به علم {(3)
إلى آخر الآيات ثم قال :} كل ذلك كان سيئه عند ركب مكروهاً{ (4) وفي الصحيح " أن الله عزوجل كره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال " . فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم ، وتركه أرجح من فعله ، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحاديث ، فغلط في ذلك ، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة ، أو لفظ لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على المعنى الاصطلاحي الحاديث !".
…وبهذه المناسبة نقول:
__________
(1) 1 سورة الإسراء ، الآية 23.
(2) 2 سورة الإنعام , الآية 151.
(3) 3 سورة الإسراء ، الآية 36.
(4) 4 سورة الإسراء ، الآية 38 .(101/25)
…إن من الواجب على أهل العلم ، أن ينتبهوا للمعاني الحديثة التي طرأت على الألفاظ العربية التي تحمل معاني خاصة معروفة عند العرب ، هي غير هذه المعاني الحديثة ، لأن القرآن نزل بلغة العرب ، فيجب أن تفهم مفرادته وجمله في حدود ما كان يفهم العرب الذين أنزل عليهم القرآن ، ولا يجوز أن تفسر بهذه المعاني الاصطلاحية الطارئة التي اصطلح عليها المتأخرون ، و إلا وقع المفسر بهذه المعاني في الخطأ ، والتقول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من حيث يشعر ،و قدقدمت مثلاً على ذلك لفظ ( الكراهة ) ، وإليك مثالاً آخر :
لفظ ( السنة ) : . فإنه في اللغة الطريقة وهذا يشمل كل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور فرضاً كان أو نفلاً ، وأما اصطلاحاً فهو خاص بما ليس فرضاً من هديه صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز أن يفسر بهذا المعنى الاصطلاحي لفظ ( السنة ) الذي ورد في بعض الأحاديث الكريمة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " . . . وعليكم بسنتي . . . " وقوله صلى الله عليه وسلم " . . . فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، ومثله الحديث الذي يورده بعض المشايخ المتأخرين في الحض على التمسك بالسنة بمعناها الاصطلاحي وهو :" من ترك سنتي لم تنله شفاعتي " ، فأخطأوا مرتين .
…الأولى : نسبتهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم و لا أصل له فيما نعلم .
…الثانية : تفسيرهم للسنة بالمعنى الاصطلاحي ، غفلة منهم عن معناها الشرعي ، وما أكثر ما يخطئ الناس فيما نحن فيه بسبب مثل هذه الغفلة !
ولهذا أكثر ما نبه شيخ الإسلاوم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله على ذلك ، وأمروا في تفسير الألفاظ الشرعية بالرجوع إلى اللغة لا العرف ، وهذا في الحقيقة أصل لما يسمونه اليوم ب" الدراسة التاريخية للإلفاظ " .(101/26)
ويحسن بنا ان نشير إلى أن من أهم أغراض مجمع اللغة العربية في الجمهورية العربية المتحدة في مصر " وضع معجم تاريخي للغة العربية ، ونشر بحوث دقيقة في تاريخ بعض الكلمات ، وما طرأ على مدلولاتها من تغيير " كما جاء في الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون ذي الرقم (434) (1955) الخاص بشأن تنظيم مجمع اللغة العربية (انظر " مجلة المجتمع " ج8ص5) . فعسى أن يقوم المجمع بهذا العمل العظيم ، ويعهد به إلى أيد عربية مسلمة ، فإن أهل مكة أدرى بشعابها ، وصاحب الدار أدرى بما فيها ، وبذلك يسلم هذا المشروع من كيد المستشرقين ، ومكر المستعمرين .
2ـ مذهب الحنفية الكراهة التحريمية
…والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة في كتابه " الآثار" (ص45) :
…" لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر ، ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجداً " .
…والكراهة عن الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم ، كما هو معروف لديهم ، وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم كما يأتي .
…3ـ مذهب المالكية التحريم
…وقال القرطبي في تفسيره ( 10/38) بعد أن ذكر الحديث الخامس :
" قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد ".
4ـ مذهب الحنابلة التحريم
ومذهب الحنابلة التحريم أيضاً كما في " شرح المنتهى " (1/353) وغيره ، بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور ، ووجوب هدهما ، فقال ابن القيم في " زاد المعاد " (3/22) في صدد بيان ما تضمنته غزوة تبوك من الفقه والفوائد ، وبعد أن ذكر قصة مسجد الضرار الذي نهى الله تبارك وتعالى نبيه أن يصلي فيه ، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم هدمه وحرقه قال :(101/27)
…" ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها ، مسجد يصلى فيه ، ويذكر اسم الله فيه ، لما كان بناؤه ضرراً وتفريقاً بين المؤمنين ، ومأوى للمنافقين ، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام(1) تعطيله ، إما بهدم أو تحريق ، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له ، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار؛ فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك ، وأوجب ، وكذلك محال المعاصي والفسوق ، كالحانات ، وبيوت الخمارين ، وأرباب المنكرات ، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر ، وحرق حانوت رويشد الثقفي (2) وسماه
__________
(1) 1 قلت : مفهوم هذا أن ذلك لا يجب على غير الإمام ، ومثله من ينوب عنه ، وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح ، لأنه لو قام به غيره لترتب على ذلك مفاسد وفتن بين المسلمين قد تكون أكبر من المصلحة التي يراد جلبها .
(2) 2 روى الدولابي في " الكنى " (1/189) عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف قال : رأيت عمر أحرق بيت رويشد الثقفي حتى كأنه جمرة أو حمة وكان جارنا يبيع الخمر . وسنده صحيح . ورواه عبدالرزاق عن صفية بنت ابي عبيد كما في " الجامع الكبيرة " (3/204/1) وأبو عبيد في " الأموال " (ص 103) عن ابن عمر ، وسنده صحيح أيضاً .(101/28)
فويسقاً ، وحرق قصر(1) سعد لما احتجب عن الرعية ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة (2) ، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك (3) . ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ، ولا قربة ، كما لم يصح وقف هذا المسجد ، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره ، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معاً لم يجز ، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز ولا تصح الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعنه من اتخذ القبر مسجداً ، أو أوقد عليه سراجاً (4)
__________
(1) 1 يعني باب القصر ، والقصة رواها عبد الله بن المبارك في " الزهد" (179/ 1) من " الكواكب الدراري " تفسير (575ورقم 513ـ 528ط) وأحمد (رقم 390) بسند رجاله ثقات .
(2) 2 متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وهو مخرج في " صحيج أبي داود " (557و558) ( تنبيه ) : إن حديث الجمعة حديث آخر من رواية ابن مسعود مرفوعاً ، أخرجه مسلم دون البخاري .
(3) 3 قلت : هذا وإن كان هو المعقول ، لكن السند بذلك لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه أبا معشر نجيح المدني وهو ضعيف لسوء حفظه ، بل حديثه هذا منكر كما بينته في " تخريج المشكاة " (1073) التحقيق الثاني .
(4) يشيير إلى حديث ابن عباس " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه أبو داود وغيره ، ولكنه ضعيف السند ، وإن لهج بذكره كثير من السلفيين ، فالحق أحق أن يقال وأن يتبع ، وممن ضعفه من المتقدمين الإمام مسلم فقال في " كتاب التفصيل " :
" هذا الحديث ليس بثابت ، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه ، ولا يثبت له سماع من ابن عباس " .
…نفله ابن رجب في " الفتح " كما في " الكواكب " (65/82/1) .
…وقد بينت ضعف هذا الحديث في " الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السئ في الأمة " رقم (225) وقد ذكرت هناك أن الحديث صحيح لغيره ، إلا اتخاذ السرج ، فإنه منكر لم يأت إلا من هذا الطريق الضعيف .
…وقد وقفت الآن على خطأ فاحش حول هذا الحديث ، فجاء في كتاب "القول المبين " لأحد أفاضل العلماء المعاصرين السلفيين ما نصه (ص 79) :
= " وهذا الحديث وإن كان في إسناده عند أصحاب السنن مقال ، فإن إسناده عند الحاكم خال من هذا المقال ، لأن طريق الحاكم غير طريقهم " !
قلت : والحديث مدراه عند الحاكم وغيره على أبي صالح عن ابن عباس ، وقد قال الحاكم عقبه (1/374) :
" أبو صالح هو باذام ولم يحتجا به " .
قلت : وهو ضعيف عند جمهور الأئمة ، ولم يوثقه إلا العجلي وحده كما قال الحافظ في التهذيب " ، والعجلي معروف بتساهله في التوثيق كابن حبان ولم نجد للحديث طريقاً آخرى لنشد عضده به بعد مزيد البحث عنه .
…ولعل المشار إليه ، عني بكلامه بعض الشواهد التي ذكرتها هناك لكن هذه ليس فيها ذكر السراج أصلاً ، فهو وهم على وهم .(101/29)
فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه وغربته بين الناس كما ترى !".
…فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة ، من تحريم بناء المساجد على القبور . وقد اتفاق العلماء على ذلك اعلم الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم ، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد سئل رحمه الله بما نصه :
" هل تصح الصلاة على المسجد إذا كان فيه قبر ؛ والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا ؟ وهل يمهد القبر ، أو يعمل عليه حاجز أو حائط ؟ فأجاب :
الحمدلله ، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ؛ فإني أنهاكم عن ذلك " . وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيّر ، إما بتسوية القبر ، وإما بنبشه إن كان جديداً ، وإن كان المسجد بني على بعد القبر ، فإما أن يزال المسجد وإما تزال صورة القبر ، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل ، فإنه منهي عنه " كذا في الفتاوى له (1/107/ ، 2/192) .
وقد تبنت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه ، فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنص على عدم جواز الدفن في المسجد ، فليراجعها من شاء في " مجلة الأزهر " (ج112ص501و503) (1)
وقال ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص52) :
" يحرم الإسراج على القبور ، واتخاذ القبور المساجد عليها ، وبينها ، ويتعين إزالتها ، ولا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين ".
ونقله ابن عروة الحنبلي في " الكواكب الدراري " (2/244/1) وأقره .
__________
(1) 1 وفي المجلة نفسها مقال آخر في تحريم البناء على القبورمطلقا فانظر ( مجلد سنة 1930ص359وـ364) .(101/30)
وهكذا نرى أن العلماء كلهم اتفقوا على ما دلت عليه الأحاديث من تحريم اتخاذ المساجد على القبور ، فنحذر المؤمنين من مخالفتهم ، والخروج عن طريقتهم ، خشية أن يشملهم وعيد قوله عز وجل }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا{ (1)
و} إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {(2) .
………********
…… الفصل الرابع
……شبهات وجوابها
قد يقول قائل : إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور ، فهناك أمور كثيرة تدل على خلاف ذلك وإليك بيانها :
…أولاً : قوله تعالى في سورة الكهف } قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً {(3) ، وجه دلالة الآية على ذلك : أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى ، على ماهو مذكور في كتب التفسير ، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم ، وشريعة من قبلنا شرعية لنا إذا حكاها الله تعالى ، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة .
…ثانياً : كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف ، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وسلم في مسجده !
…ثالثاً : صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قبر سبعين نبياً كما قال صلى الله عليه وسلم !
…رابعاً: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام ، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلى فيه .
خامساً : بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في " الاستيعاب " لابن عبد البر .
سادساً: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبورمساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور ، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين ، فزال المنع !
…
الجواب عن الشبهة الأولى :
__________
(1) 2 سورة النساء الآية 115.
(2) 3 سورة ق ، الآية 37 .
(3) 1 سورة الكهف ، الآية 21.(101/31)
…أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه :
…الأول : أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة (1) منها قوله صلى الله عليه وسلم : " اعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي . . . (فذكرها ، وآخرها ) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة "(2) .
…فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا !
الثاني :
هب أن الصواب قول من قال : " شريعة من قبلنا شريعة لنا " فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وهذا الشرط معدوم هنا ، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن
البناء المذكور كما سبق ، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا .
…
الثالث :
لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا :} لنتخذن عليهم مسجداً { فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين ، وعلى التسليم فليس فيها انهم كانوا مؤمنين صالحين ، متمسكين بشريعة نبي مرسل ، بل الظاهر خلاف ذلك ، قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري في شرح البخاري " (65/280) من "الكواكب الدراري" (3) "حديث لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
__________
(1) 1 انظر إن شئت المطولات من كتب علم الأصول وخاصة " الإحكام " لابن حزم .
(2) 2 أخرجه البخاري ومسلم ، وهو مخرج في " إرواه الغليل " (رقم 285) .
(3) 1 مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق ، وهو كتاب عظيم جداً جمع نفائس نادرة من كتب العلماء المتقدمين ورسائلهم التي لم يطبع أكثرها فيما علمت ، وأنا الان في صدد إخراج هذه الكتب والرسائل في فهرس خاص أضعه لمجلدات هذا الكتاب الموجودة في المكتبة وفي غيرها إن وفقت لذلك . ثم تم الاستخراج المذكور من مجلدات المكتبة ، فعسى الله أن يوفق للإطلاع على غيرها واستخراج ما فيها من الكنوز(101/32)
…" وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث ، وهو قول الله عزوجل في قصة أصحاب الكهف :} قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً { فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور ، وذلك يشعر بان مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى " .
…وقال الشيخ علي بن عروة في " مختصر الكوكب " (10/207/2) تبعاً للحافظ ابن كثير في تفسيره (3/78) :
" حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين(1) :
…أحدهما : أنهم المسلمون منهم .
…والثاني : أهل الشرك منهم .
…فالله أعلم ، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا ، وقد رُويّنا عن عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده ، فيها شئ من الملاحم وغيرها ".
…إذا عرفت هذا ، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه ، وقال العلامة المحقق الآلوسي في " روح المعاني " (5/31)
…" واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها ، وجواز الصلاة في ذلك ! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي ، وهو قول باطل عاطل ، فساد كاسد فقد روي. . .)
…ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة ، وأتبعها بكلام الهيتمي في " الزواجر" مقراً له عليه ، وقد نقلته فيما سبق ، ثم نقل عنه في كتابه " شرح المنهاج " ما نصه :
…" وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية ، حتى قبة الإمام الشافعي عليه
__________
(1) 1 قلت وحكاهما أيضاً ابن الجوزي في تفسيره " زاد المسير " (5/123ـ طبعة المكتب الإسلامي ) دون أن يرجح أحدهما على عادته .(101/33)
الرحمة ، التي بناها بعض الملوك ، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة ،فيتعين
الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح ." انتهى .
ثم قال الإمام الآلوسي :
…" لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن صلاة أو نسيها ".(1)
__________
(1) 1 قلت : هذا الحديث صحيح مخرج على الصحيحين فلا يحن تصديره بقوله " روي " لأنه يدل على الضعف في اصطلاح العلماء كما بينته في " صلاة التروايح " (ص63ـ64) فتنبه .
…ثم إن الحديث مخرج عندي في " صحيح أبي داود " (461) و(الإرواء) (263) .(101/34)
، الحديث ثم تلا قوله تعالى }وأقم الصلاة لذكري{2، وهو مقول لموسى عليه السلام ، وسياقه الاستدلال ، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأثنى بآية }وكتبنا عليهم { ، والكرخي على جريه بين الحر والعبد ، والمسلم والذمي(1) بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل ، إلى غير ذلك ، لأنا نقول : مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا ، لكن لا مطلقاً ، بل إنْ قص الله تعالى علينا بلا إنكار [فإنكار] رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل (2) . وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور ، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع ، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أبنيائهم مساجد ، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها ، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك ، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم ، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده .
…ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين ، كما روي عن قتادة .
…وعلى هذا لقائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور ، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده ، وكف التعرض لأصحابه ، فلم يقبل الأمراء منهم ، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد .
__________
(1) 2سورة طه ، الآية 14.
(2) 4 لقوله صلى الله عليه وسلم " … فان ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ". وهو حديث صحيح وإن رغم أنف صاحب "الأضواء " ! انظر " المشكاة " بتخرجي (163) .(101/35)
…وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول : إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه ، الملعون فاعله ، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم ، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي فهم فيه ، كنسبة النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ، ويكون قوله } لنتخذن عليهم { على هذا الشاكلة قول الطائفة ( ابنوا عليهم ) .
…وإن شئت قلت : إن ذلك الاتخاذ كان على كهف فوق الجبل الذي هو فيه ، وفيه خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى علي كهفهم مسجداً ، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم ، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل(1) .
__________
(1) 1 يشير إلى ما ذكره في أول الصفحة الأولى من الصفحتين المشار إليهما وهو قوله :
…" وعن الحسن أنه اتخذ ( يعني المسجد) ليصلى فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا ".
…قال الآلوسي :
…" وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولاً وإليه ذهب بعضهم ، بل قيل : إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره . ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شئ بالخرافات ".(101/36)
…وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة ، معولاً على الاستدلال بهذه الآية ، فإن ذلك في الغواية غاية ، وفي قلة النُهى نهاية ! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها ، وبنائها بالجص والآجر ، وتعليق القناديل عليها ، والصلاة إليها ، والطواف بها ، واستلامها ، والاجتماع عندها ، في أوقات مخصوصة ، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة ، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً ، وجعله إياهم في توابيت من ساج ، ومقيساً لبعض على بعض ! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل .
…ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسل في قبره عليه السلاة والسلام ـ وهو أفضل قبر على وجه الأرض ـ والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له ، والسلام عليه ، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك ، والله سبحانه يتولى هداك ".(101/37)
…قلت : وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم ، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين(1) لكن من وجه آخر مبتدع مغاير بعض الشئ لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه "
__________
(1) 1 هو الشيخ أبو الفيض أحمد الصديق الغماري في كتبابه المسمى " إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور "! وهذا الكتاب من أغرب ما ابتلى به المسلمون في هذا العصر ، وأبعد ما يكون عن البحث العلمي النزيه ، فان المؤلف يدعي ترك التقليد والعمل بالحديث الشريف ! فقد التقيت به منذ بضعة أشهر في المكتبة الظاهرية ، وظهر لي من الحديث الذي جرى بيني وبينه أنه على معرفة بعلوم الحديث ، وأنه يدعو للاجتهاد ، ويحارب التقليد ، محاربة لا هوادة فيها ، وله ذلك بعض المؤلفات كما قال لي ، ولكن الجلسة كانت قصيرة لم تمكني من أن أعرف اتجاهه في العقيدة ، وإن كنت شعرت من بعض فقرات حديثه انه خلفي صوفي ، ثم تأكد من ذلك بعد أن قرأت له هذا الكتاب وغيره ، حيث تبين لي أن يحارب أهل التوحيد ، ويخالفهم في عقيدتهم مخالفة شديدة ، ويقول البدعة الحسنة ، وينتصر للمبتدعة ! ولم يستفد من دعواه الاحتهاد إلا الانتصار للاهواء وأهلها ، ما يفعل مجتهدوا الشيعة تماماً! وإن شئت دليلا على ما أقول ، فحسبك برهاناً على ذلك هذا الكتاب " . . . المقبور" ! فإن قبر كل الأحاديث المتواترة في تحريم البناء المساجد على القبور الذي قال به الأئمة الفحول بلا خلاف يعرف بينهم ، فهو والحق يقال : جرئ ، ولكن في محاربة الحق ! كيف لا وهو يرد كل ما ذكرناه من الأحاديث واتفاق الأئمة دون أي حجة ، اللهم إلا اتباع المتشابه من النصوص كآية الكهف هذه شانه في ذلك شأن المبتدعة في در النصوص المحكمات بالمتشابه ، نعوذ بالله من الخذلان وسيأتيك من كلامه بعض الأمثلة الأخرى على ما ذكرنا ، والله المستعان .(101/38)
…" والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا ، وعدم رده عليهم "!
قلت هذا الاستدلال باطل من وجهين :
…الأول : أنه لا يصح أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم ، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم ، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك ، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك ، وهذا هو الأقرب ؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً ، كما سبق من كلام ابن رجب وابن كثير وغيرهما ، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل
إنكاراً ، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت
عليه إقراراً كما لا يخفى ، ويؤيده الوجه الآتي :
…الثاني : أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين ، الذين يكتفون بالقرآن فقد ديناً ، و لا يقيمون للسنة وزناً ، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين ، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور :" ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وفي رواية :" ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".(1)
…فهذا الاستدلال عندهم ــــ والمستدل يزعم أنه منهم ! ـــ باطل ظاهر البطلان ، لأن الرد الذي نفاه ، قد وقع في السنة المتواترة كما سيق ، فكيف يقول : إن الله أقرهم ولم يرد عليهم ، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأي رد أوضح وأبين من هذا ؟! .
وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة ؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام :} يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات {(2) يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) 1 حديث صحيح كما تقدم .
(2) 2 سورة سبأ الآية 13.(101/39)
وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى ، وهي الاستدلال بآية الكهف (1)والجواب عنها وعن ما تفرع منها .
الجواب عن الشبهة الثانية :
وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم ، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه !
…والجواب : أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم ، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته في التي كانت بجانب مسجده ، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد ، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ، ولا خلاف في ذلك بينهم ، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة ، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً ، كما سبق بيانه في حديث عائشة وغيره ( ص9ـ10) ، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه سولم إليه ، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة ، فصار القبر بذلك في المسجد(2) ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لم توهم بعضهم ، قال العلامة الحافظ محمد ابن عبد الهادي في " الصارم المنكي " (ص 136) :
__________
(1) 3 وانطر ص( 40)
(2) 1 تاريخ ابن جرير (5/22ـ223) وتاريخ ابن كثير (9/74ـ75)(101/40)
…" وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك ، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة ، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبدالله ، وتوفي في خلافة عبدالملك ، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين ، والوليد تولى سنة ست وثمانين ، وتوفي سنة ست وتسعين ، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (1)
__________
(1) 2 قلت وإنما لم يسم الحافظ ابن عبدالهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين ، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم ، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبد الهادي مدارها على مجاهيل ، وهم عن مجهول ! كما هو ظاهر ، فلا حجة في شئ من ذلك ، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد ، وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بينه الحافظ لكن يعكر عليه ما رواه أبو عبدالله الرازي في مشيخته (218/1) عن محمد بن الربيع الحيزري :" توفي سهل بن سعد بالمدينة هو ابن مائة سنة وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . لكن الجيزري هذا لم اعرفه ثم هو معضل ، وقد ذكر مثله الحافظ بن حجر في " الإصابة " (2/87) عن الزهري من قوله فهو معضل أيضاً أو مرسل ، ثم عقبه بقوله :" وقيل قبل ذلك ، وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية " ، وجزم في " التقريب " أنه مات سنة 88 فالله أعلم .
وخلاصة القول أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحداً من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه ، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل ، فما جاء في شريح مسلم " (5/13ـ14) أن ذلك كان في عهد الصحابة ، لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة ، وبمثلها لا تقوم حجة ، على أنها أخص من الدعوى ، فإنها لو صحت إنما تثبت وجود واحد من الصحابة حينذاك ، لا ( الصحابة ) .
…وأما قول بعض من كتب في هذه المسألة بغير علم :
…" فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم منذ وسعه عثمان رضي الله عنه وأدخل في المسجد ما لم يكن منه ، فصارت القبور الثلاثة محاطة بالمسجد لم ينكر أحد من السلف ذلك ".
…فمن جهالاتهم التي لا حدود لها ـ ولا أريد أن أقول : إنها من افتراءاتهم ـ فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان في عهد عثمان رضي الله عنه ، بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كما سبق ، أي بعد عثمان بنحو نصف قرن ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون ذلك لأن عثمان رضي الله عنه فعل خلاف ما نسبوا إليه ، فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز من الوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها ، فلم يوسع المسجد من جهة الحجرات ، ولم يدخلها فيه ، وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً ، بل أشار هذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديث المتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريباً .
…وأما قولهم :" ولم ينكر أحد من السلف ذلك ".
…فنقول : وما أدراكم بذلك ؟! فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شئ يمكن أن يقع ولم يعلم ، كما هو معروف عند العلماء ، لأن ذلك يستلزم الإستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى ، وما قيل حول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها ، وأنى لمثل هذا البعض المشار إليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا ، ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لما وقعوا في تلك الجهالة الفاضحة ،
= ولو جدوا ما يحملهم على أن لا ينكروا ما لم يحيطوا بعلمه ، فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (75ج9 ) بعد أن ساق قصة إدخال القبر النبوي في المسجد :
" ويحكي أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً ".
…وأنا لا يهمني كثيراً صحة هذه الرواية ، أو عدم صحتها ، لأننا لا نبني عليها حكماً شرعياً ، لكن الظن بسعيد بن المسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير ، أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ، لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاة بينة ، وخاصة منها رواية عائشة التي تقول :" فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً "
فما خشي الصحابة رضي الله عنهم قد وقع ــ مع الأسف الشديد ـ بإدخال القبر في المسجد ، إذ لافارق بين أن يكونوا دفنوه صلى الله عليه وسلم حين مات في المسجد ـ وحاشاهم عن ذلك ـ وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبره في المسجد بتوسيعه ، فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كما سبق ، فهل اللائق بمن يعترف بعلمه وفضله وجرأته في الحق أن يظن به أنه أنكر على من خالف الحديث الذي هو رواته ، أم أن ينسب إليه عدم إنكاره ذلك ، كما زعم هؤلاء المشار إليهم حين قالوا " لم ينكر أحد من السلف ذلك "
والحقيقة أن قولهم هذا يتضمن طعناً ظاهراً ـ لو كانوا يعلمون ـ في جميع السلف ، لأن إدخال القبر إلى المسجد منكر ظاهر عند كل من علم بتلك الأحاديث المتقدمة وبمعانيها ، ومن المحال أن ننسب إلى جميع السلف جهلهم بذلك ، فهم ، أو على الأقل بعضهم يعلم ذلك يقيناً ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من القول بأنهم أنكروا ذلك ، ولو لم نقف فيه على نص ، لأن التاريخ لم يحفظ لنا كل ما وقع ، فكيف يقال : إنهم لم ينكروا ذلك ؟اللهم غفرا .
…ومن جهالتهم قولهم عطفاً على قولهم السابق :
…وكذا مسجد بني أمته دخل المسلمون دمشق من الصحابة وغيرهم والقبر ضمن المسجد لمن ينكر أحد ذلك "!
…إن منطق هؤلاء عجيب غريب ! إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجوداً في عهد منشئه الأول الوليد بن عبد الملك ن فهل يقول بهذا عاقل ؟! كلا لا يقول ذلك غير هؤلاء ! ونحن نقطع ببطلان قولهم ، وأن أحداً من الصحابة والتابعين لم ير قبراً ظاهراً في مسجد بني أمية أو غيره ، بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط ( وعاء كامل ) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام ، مكتوب عليه : هذا رأي يحيى عليه السلام ، فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال : اجعلوا العمود الذي فوقه مغيراً من الأعمدة ، فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس . رواه أبو الحسن الربعي في فضائل الشام (33) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه ( ج2ق9 /10) وإسناده ضعيف جداً ، فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة ، وقال الذهبي " متروك " . ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني لما أخرجه الربعي وبن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سئل أين بلغك رأس يحى بن زكريا ؟ قال : بلغني أنه ثم ، وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي ، فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة .
=…وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحى عليه السلام فلا يمكن أن إثباته ، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً ، وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق ، كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج1ص 41ـ 1482) تحت عنوان " رأس يحيى ورأس زكريا" فليراجعه من شاء .
…ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك ، سواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك ، بل لو تقينا عدم وجوده في كل من المسجدين ، فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة ، لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى عل الظاهر ، لا الباطن كما هو معروف ، وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء ، وأشد ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد ، كما هو الحال في مسجد حلب ، ولا منكر لذلك من علمائها !.
…واعلم أنه لا يجدي في رفع المخالفة أن القبر في المسجد ضمن مقصورة كما زعم مؤلفوا الرسالة ، لأنه على كل حال ظاهر ، ومقصود من العامة وأشباههم من الخاصة بما لا يقصد به إلا الله تعالى ، من التوجه إليه ، والاستغاثة به من دون الله تبارك وتعالى ، فظهور القبر هو سبب المحذور كما سيأتي عن النووي رحمه الله .
…وخلاصة الكلام أن قول من أشرنا إليهم أن قبر يحيى عليه السلام كان ضمن المسجد الأموي منذ دخل دمشق الصحابة وغيرهم لم ينكر ذلك أحد منهم إن هو إلا محض اختلاق .(101/41)
، وقد ذكر أبو زيد عمر بن
شبة النميري ، في " كتاب أخبار المدينة " مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه
عمن حدثوا عنه أن ابن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة بالساج ، وماء الذهب ، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل القبر فيه ".
…يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما إدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة ، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه ، وهو مخالف أيضاً لصنيع عمر وعثمان حين وسعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه ، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه ، ولئن كان مضطراً إلى توسيع المسجد ، فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة ، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عنه بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة ، بل قال " إنه لا سبيل إليها "(1) فأشار رضي الله عنه إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد .
__________
(1) 1 انظر " طبقات ابن سعد " (4/21) و " تاريخ دمشق " لا بن عساكر (8/478/2) وقال السيوطي في " الجامع الكبير " (3/272/2) : وسنده صحيح إلا أن سالماً أبا النضر لم يدرك عمر ، و" وفاء الوفاء " للسمهودي (1/343) و " المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية " للعلامة محمد سلطان العصومي رحمه الله تعالى (ص43) وهو مؤلف رسالة هداية السلطان ‘إلى بلاد اليابان " التي ادعى أحد الدكاترة أنها ليست له ، وإنما لبعض إخواننا! مع أنني تناولتها منه هدية مطبوعة حين زرته في مكة في حجتي الأولى سنة 1368هـ .(101/42)
…ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين ، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئاً ما ، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم ، قال النووي في " شرح مسلم " (5/14) :
…
" ولما احتاجت الصحابة (1) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون ، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله ، لئلا يظهر في المسجد(2)
__________
(1) 2 عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت كما تقدم (ص58ـ59) فتنبه .
(2) في هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يزيل المحذور ، كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب ، ولهذا نص أحمد على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى قبر ، حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر ، كما سيأتي ، فكيف إذا كان القبر في قبلة المسجد من الداخل ودون جدار حائل ؟ ومن ذلك تعلم أن قول بعضهم :
…" إن الصلاة في المسجد الذي به قبر كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بني أمية لا يقال إنها صلاة في الجبانة ، فالقبر ضمن مقصورة مستقل بنفسه عن المسجد ، فما المانع من الصلاة فيه ".
…فهذا قول لم يصدر عن علم وفقه ! لأن المانع بالنسبة للمسجد الأموي لا يزال قائماً وهو ظهور القبر من وراء المقصورة ، والدليل على ذلك قصد الناس للقبر والدعاء عنده وبه والاستغاثة به من دون الله ، وغير ذلك مما لا يرضاه الله ، والشارع الحكيم إنما نهى عن بناء المساجد على القبور سداُ للذريعة ومنعاً لمثل هذه الأمور التي تقع عند هذا القبر كما سيأتي بيانه ، فما قيمة هذه المقصورة على هذا الشكل المزخرف ، إنما هي نوع آخر من المنكر الذي يحمل الناس على معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم صاحب القبر بما يجوز شرعاً ، مما هو مشاهد معروف ، وسبقت الإشارة إلى بعضه .
…ثم ألا يكفي في إثبات المانع أن الناس يستقبلون القبر عند الصلاة قصداً وبدون قصد ، ولعل أولئك المشار إليهم وأمثالهم يقولون : لا مانع أيضاً من هذا الإستقبال لوجود فاصل بين المصلين والقبر ألا وهو نوافذ القبر وشبكته النحاسية فنقول لو كان هذا المانع كافياً في المنع لما أحاطوا القبر النبوي الشريف بجدار مرتفع مستدير ولم يكتفوا بذلك بل بنو جدارين بمنعون بهما من استقبال القبر . ولو كان وراء الجدار المستدير ! وقد صح عن ابن جريج أنه قال : قلت لعطاء : أتكره أن تصلي في وسط القبور ؟ أو في مسجد إلى قبر ؟ قال : نعم ، كان ينهى عن ذلك أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (1/404) . فإذا كان هذا التابعي الجليل ( عطاء بن أبي رباح ) لم يعتبر جدار المسجد فاصلاً بين المصلى وبين القبر وهو خارج المسجد ، فهل يعتبر فاصلا النوافذ والشبكة والقبر في المسجد ؟!
…فهل في هذا ما يقنع أولئك الكاتبين بجهلهم وخطئهم ، وهجومهم على القول بما لا علم لهم به ؟ لعل وعسى !
…وأما المسجد النبوي الكريم ، فلا كراهة في الصلاة فيه خلافاً لما فتروه علينا ، وسيأتي تفصيل القول فيه في " الفصل السابع " إن شاء الله تعالى .
…على أني لا أريد أن يفوتني أن أنبه القراء الكرام على أن أولئك الكاتبين يعترفون بكلمتهم السابقة في أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر غير محاط بمقصورة أنها صلاة مكروهة لانتفاء العلة التي من أجلها نفوا الكراهة عن الصلاة في مسجد بني أمية بزعمهم ، فهل لهم أن يجهروا للناس باعترافهم هذا ؟ أم هو شئ اضطرهم إلى القول به التهرب من معارضة الأحاديث السابقة علناً وإن كانوا لا يدعون الناس إلى العمل به لغاية لا تخفى على العقلاء ؟!(101/43)
، فيصلي إليه العوام ، ويؤدي إلى المحذور ، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا ، حتى يتمكن أحد من استقبال القبر ".
ونقل الحافظ ابن رجب في " الفتح " نحوه عن القرطبي كما في " الكوكب " (65/91/1) ، وذكر ابن تيمية في " الجواب الباهر " (ق9/2):
" أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سُد بابها ، وبني عليها حائط آخر ، صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيداً ، وقبره وثناً ".
…قلت : ومما يؤسف له أن هذا البناء قد بني عليه منذ قرون ـ إن لم يكن قد أزيل ـ تلك القبة الخضراء العالية ، وأحيط القبر الشريف بالنوافذ النحاسية والزخارف والسجف ، وغير ذلك مما لا يرضاه صاحب القبر نفسه صلى الله عليه وسلم ، بل قد رأيت حين زرت المسجد النبوي الكريم وتشرفت بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 1368هـ رأيت في أسفل حائط القبر الشمالي محراباً صغيراً ووراءه سدة مرتفعة عن أرض المسجد قليلاً ، إشارة إلى أن هذا المكان خاص للصلاة وراء القبر! فعجبت حينئذ كيف ضلت هذه الظاهرة الوثنية قائمة في عهد دولة التوحيد! أقول هذا مع الاعتراف بأنني لم أر أحداً يأتي ذلك المكان للصلاة فيه ، لشدة المراقبة من قبل الحرس الموكلين على منع الناس من يأتوا بما يخالف الشرع عند القبر الشريف ، فهذا مما تشكر عليه الدولة السعودية ، ولكن هذا لا يكفي ولا يشفي ، وقد كنت قلت منذ ثلاث سنوات في كتابي " أحكام الجنائز وبدعها " (208من أصلي ):(101/44)
…" فالواجب الرجوع بالمسجد النبوي إلى عهده السابق ، وذلك بالفصل بينه وبين القبر النبوي بحائط ، يمتد من الشمال إلى الجنوب بحيث أن الداخل إلى المسجد لا يرى فيه أي محالفة لا ترضى مؤسسه صلى الله عليه وسلم ، اعتقد أن هذا من الواجب على الدولة السعودية إذا كانت تريد أن تكون حامية التوحيد حقاً ، وقد سمعنا أنها أمرت بتوسيع المسجد مجدداً ، فلعلها تتبنى اقتراحنا هذا ، وتجعل الزيادة من الجهة الغربية وغيرها ، وتسد بذلك النقص الذي سيصيبه سعة المسجد إذا نفذ الاقتراح ، أرجو أن يحقق الله ذلك على يدها ، ومن أولى بذلك منها ؟)
…ولكن المسجد وسع منذ سنتين تقريباً دون إرجاعه إلى ما كان عليه في عهد الصحابة ، والله المستعان .
…
…الجواب عن الشبهة الثالثة
…وأما الشبهة الثالثة ، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبياّ !
…فالجواب : أننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد ، ولكننا نقول : إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبياً لا حجة فيه من وجهين :
…الأول : أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه ، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به ، قال الطبراني في " معجمه الكبير " (3/204/2) : حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان ، نا أبو همام الدلال ، نا إبراهيم بن طمهان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ :" في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً ".
…وأورده الهيثمي " المجمع " (3/298) بلفظ :
…" . . . قُبِرَ سبعون نبياً " وقال :" رواه البزار ورجاله ثقات ".
وهذا قصور منه في التخريج ، فقد أخرجه الطبراني أيضاً كما رأيت .(101/45)
…قلت : ورجال الطبراني ثقات أيضا غير عبدان بن أحمد وهو الأهوازي كما ذكر الطبراني في " المعجم الصغير " (ص136) ولم أجد له ترجمة ، وهو غير عبدان بن محمد المروزي وهو من شيوخ الطبراني أيضاً في " الصغير " (ص136) وغيره ، وهو ثقة حافظ له ترجمة في " تاريخ بغداد " (11/135) و " تذكرة الحفاظ " (2/230) وغيرها .
…لكن في رجال هذا الإسناد من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان ، قال فيه ابن حبان في " الثقات " :" يغرب " .
…وإبراهيم بن طمهان ، قال فيه ابن عمار الموصلي : ضعيف الحديث مضطرب الحديث ".
…وهذا على إطلاقه وإن كان مردوداً على ابن عمار ، فهو يدل على أن في حديث
ابن طهمان شيئاً ، ويؤيده قول ابن حبان في " ثقات أتباع التابعين " ( 2/1):
" أمره مشتبه ، له مدخل في الثقات ، ومدخل في الضعفاء ، وقد روى أحاديث مستقيمة تشبه أحاديث الأثبات ، وقد تفر عن الثقات بأشياء معضلان ، سنذكره إن شاء
الله في كتاب الفصل بين النقلة إن قضى الله سبحانه ذلك ، وكذلك كل شئ توقفنا في أمره
ممن له مدخل في الثقات ".
ولذلك قال فيه الحافظ ابن حجر في " التقريب" :" ثقة يغرب " وشيخ منصور ـ(101/46)
وهو ابن المعتمر ـ ثقة ، وقد روى له ابن طهمان حديثاً آخر في مشيخته (244/ 2)(1) ، فالحديث من غرائبه ، أو من غرائب ابن شاذان (2)
__________
(1) 1 مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق .
(2) ثم رأيته قد توبع ، فقد وقفت على إسناد البزار للحديث في " زوائده " (ص 123ـ مصورة المكتب الإسلامي ـ) فإذا هو يقول : حدثنا إبراهيم عن المستمر العروقي ثنا محمد ثنا إبراهيم بن طهمان به ، وقال البزار " تفرد به إبراهيم عن منصور ، ولا نعلمه عن ابن عمر باحسن من هذا إسناداً ". وهذه متابعة لا بأس بها ، العروقي بالقاف ـ صدوق يغرب كما في التقريب ". فالعهدة في الحديث على ابن طهمان ، وجرى الهيثمي على ظاهر إسناده ، فقال في " زوائد البزار " :" قلت : هو إسناد صحيح ". ولعل قوله السابق " ورجاله ثقات " أدق لما ذكرنا من الغرابة ، ذلك لأن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الصحة ، كما لا يخفى على من مارس هذه الصناعة ، لأن عدالة الر واة وثقتهم شرط واحد من شروط الصحة الكثيرة ، بل إن العالم لا يلجأ إلى هذه الكلمة معرضاً عن التصريح بالصحة ، إلا لأنه يعلم أن في السند مع ثقة رجاله علةى تمنع من القول بصحته ، أو على الأقل لم يعلم تحقق الشروط الأخرى فيه ، فلذلك لم يصرح بصحته ، وهذه مسألة مهمة طالما غفل عنها المبتدئون في هذا العلم الشريف وغيرهم ، ولذلك نبهت عليها في مقدمة " تمام المنة على فقه السنة للسيد سابق "
…هذا ولو كنت متحتجاً بما ليس صواباً عندي لا حتججت على تصحيح بعض المعاصرين المقلدين للحديث بأن السيوطي ضعفه بالرمز إليه بالضعف في " الجامع الصغير " وقع ذلك في النسخة المطبوعة بمطبعة بولاق بمصر ، وفي النسخة التي عليها شرح المناوي وفي نسخة خطية في المكتبة الظاهرية (2329ـ عام) وغيرها ، ولكن لا أثق برموز ( الجامع الصغير ) لأسباب ذكرتها في المقدمة المذكورة آنفاً ، ثم في مقدمته كتابي " صحيح الجامع الغير وزياداته " و " وضعيف الجامع الصغير وزياداته " ( وقد تم طبعهما في المكتب الإسلامي ولكن على الرغم من ذلك ، فالتضعيف وارد عليهم ، لأنهم لا تحقيق عندهم ، بل هم مقلدون في كل شئ باعترافهم ، فغالب الظن أنهم يعتدون بتلك الرموز وعليه فالتضعيف المذكور حجة عليهم إن أنصفوا ".(101/47)
.
…وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما فقال :" قُبِر " بدل " صلى " لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث ، فقد أخرج الطبراني في " الكبير (3/1551) بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً :
" صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً . . . ) الحديث ، وكذلك رواه الطبراني في
" الأوسط " (1/119/2ـزوائده) (1) وعنه المقدسي في " المختارة" (249/2) والمخلص في "
الثالث من السادس من المخلصيات " (70/1) وأبو محمد بن شيبان العدل في " الفوائد" (2/222/2) وقال المنذري ( 2/116) :
…" رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن ".
ولا شك في حسن الحديث عندي ، فقد وجدت له طريقاً اخرى عن ابن عباس ،
رواه الأزرقي في " أخبار مكة " (ص35) عنه موقوفاً عليه ، وإسناده يصلح للإستشهاد به، كما بينته في كتابي الكبير " حجة الوداع " ( ولم ينجز بعد ).
ثم رواه الأزرقي (ص38) من طريق محمد بن إسحاق قال : حدثني من لا أتهم عن عبدالله بن عباس به موقوفاً . فهذا هو المعروف في هذا الحديث ، والله أعلم .
وجملة القول أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته ، فإن صح فالجواب عنه
من الوجه الآتي وهو :
الثاني : أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف ، وقد عقد
الأزرقي في تاريخ مكة ( 406ـ 410) عدة فصول في وصف مسجد الخيف ، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزة ، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر ، فإذا ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة ، فلا محظور في الصلاة فيه البتة ، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد ، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه
سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور
الظاهرة والمشرفة! .
…
الجواب عن الشبهة الرابعة
__________
(1) 1 مخطوط ناقص الأول والآخر محفوظ في المكتبة الظاهرية ، ومنه نسخة كاملة في مكتبة الحرم المكي .(101/48)
وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد
الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه ، فالجواب :
لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (1) ، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه اسماعيل عليهما السلام ، ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه ن ومن زعم خلاف ذلك ، فقد ضل ضلالاً بعيداً ، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم ، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به .
فإن قيل : لا شك فيما ذكرت ، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك ، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر ؟
…
فالجواب : كلا ثم كلا ، وهاك البيان من وجوه :
…الأول : أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن اسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام ، ولم يرد شئ من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب السنة ، ومسند أحمد ،ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها ضعيفاً بل موضوعاً عند بعض المحققين (2)، وغاية ما وري في ذلك من آثار معضلات ، بأسانيد واهيات موقوفات ، أخرجها الأزرقي في " أخبار مكة " (ص39و219و220) ، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (3)
__________
(1) 1 وقد خرجت بعض الأحاديث الواردة فيذلك في " إرواء الغليل " (971و1129) .
(2) 1 نقل السيوطي في " التدريب " عن ابن الجوزي " قال :
" ما أحسن قول القائل : إذا رأيت الحديث يباين العقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول ، فاعلم أنه موضوع . قال : ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة ".
…كذا في الباعث الحثيث " ( ص85من الطبعة الثانية ).
(3) 2" انظر إحياء المقبور " (47ـ48) .
ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثارالواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته(1) لا للتعظيم له والتوجه نحوه ! وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز ، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ، ولهذا رد المناوي احتجاج المفسر المشار إليه بقوله :
…" لكن خبر الشيخين كراهة (!) بناء المساجد على القبور مطلقاً ، والمراد قبور المسلمين خشية أن يعبد فيها المقبور لقرينة خبر : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ".
…وقال الصنعاني في " سبل السلام " (2/214) معتقباً عليه أيضاً :
…" قوله : ( لا لتعظيم له ) يقال : قصد التبرك به تعظيم له ، ثم أحاديث النهي مطلقة ، و لا دليل على التعليل بما ذكر ، والظاهر أن العلة سد للذريعة ، والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان ، الذين يعظمون الجمادات ، التي لا تنفع ولا تضر ، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير ، الخالي عن النفع بالكلية ، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله ، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر ".
…قلت : وقولهن " الملعون فاعله " يشير إلى حديث ابن عباس الذي بينت ضعفه فيما سبق ( ص 43) ، فتنبه .(101/49)
. ونحو ذلك ما أورد السيوطي في " الجامع " من رواية الحاكم في " الكنى " عن عائشة مرفوعاً بلفظ :
" إن قبر إسماعيل في الحجر".
الوجه الثاني : أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة و لا بارزة ، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى ، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد ، فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين ، وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله الله تعالى ، فقال في " مرقاة المفاتيح " (1/456) بعد أن حكى قول المفسر الذي أشرت إليه في التعليق :
" وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب ، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبياً ".
قال القاري :
" وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح
الاستدلال ".
وهذا جواب عالم نحرير ، وفقيه خريت ، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفاً ، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة ، وأن ما في بطن الأرض من القبور ، فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر ، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم ، لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء ، كما قال تعالى :} ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا { . قال الشعبي :
" بطنها لأمواتكم ، وظهرها لأحيائكم "(1)
ومنه قول الشاعر :
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
……فأين …القبور …من …عهد… عاد؟
خفف… الوطأ …ما أظن اديم
… الأرض … إلا من هذه الأجساد…
سر إن استطعت في الهواء رويداً
……لا اختيالا على رفات العباد
__________
(1) 1 رواه الدولابي (1/129) عنه ورجاله ثقات .(101/50)
… ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه ، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد ، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة ، حتى ولو كانت مزورة ! لا عند القبور المندرسة ، ولو كانت حقيقة ، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين ، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بينا سابقاً ، فلا يجوز التسوية بينهما ، والله المستعان .
…
الجواب عن الشبهة الخامسة :
…أما بناء أبي جندل رضي الله عنه مسجداً على قبر أبي بصير رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فشبهة لا تساوي حكايتها! ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبينا بطلانها! والكلام عليها من وجهين :
…الأول : رد ثبوت البناء المزعوم من أصله ، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به ، ولم يروه أصحاب " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " وغيرهم ، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من " الاستيعاب " (4/21ـ23) مرسلاً ، فقال :
…" وله قصة في المغازي عجيبة ، ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب . ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية ، قال :
…ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسلت قريش في طلبه رجلين ، فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :(101/51)
العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً . فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين ، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان! فاستله الآخر ، وقال : أجل والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت ، فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد وفر الاخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد بعده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعراً ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول . فجاء أبو بصير ، فقال يا رسول الله قد والله وفى الله ذمتك : قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويل امه مسعر جرب ، لو كان معه أحد " فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير . . . وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظاً وأكمل سياقا قال : . . . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين ، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل ، وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وصلى عليه ، وبنى على قبر مسجداً ". …(101/52)
…قلت : فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار انه تابعي صغير ، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه ، وإلا فهي معضلة ، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة ، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله :" وبنى على قبره مسجداً " لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري ، ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه ، بل هو من رواية موسى بن عقبة ، كما صرح به ابن عبد البر ، لم يجاوزه ، وابن عقبة لم يسمع أحداً من الصحابة ، فهذه الزيادة أعني قوله " وبنى على قبره مسجداً " معضلة(1)
__________
(1) 1 ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه ساق (ص44) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر ، غير أن المؤلف حذف من كلامه " وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر " ووصل رواية عبد الرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبد الرزاق عن الزهري ، وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد!
…ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في " تاريخ ابن عساكر " (8/ 334/1) رواه بإسنادين عن عنه عن ابن شهاب مرسلاً ومعضلاً بلفظ : " وجعل عند قبره مسجداً " وهذا اللفظ ـ لو صح ـ أٌقل مخالفة ، لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر ، بل عنده وشتان ما بينهما ، وليس فيه أيضاً أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد فتأمل .(101/53)
، بل هي عندي منكرة ، لأن القصة رواها البخاري في " صحيحة " (5/351ـ371) وأحمد في " مسنده " ( 4/328ـ331) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال : أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة ، وكذلك أوردها ابن إسحاق في " السيرة " عن الزهري مرسلاً كما في " مختصر السيرة " لابن هشام (3/331ـ339) ، ووصله أحمد (4/323ـ326) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة ، وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه (3/271ـ285) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة ، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة ؛ لإعضالها ، عدم رواية الثقات لها . والله الموفق .
…الوجه الثاني : أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة ، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين :
…أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره .
…ثانيا:أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره ، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم ، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق ، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم ـ على فرض صحته ـ عند التعارض وهذا بين لا يخفى ، نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى !.
الجواب عن الشبهة السادسة
…وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلة ، وهي خشية الافتتان بالمقبور ، وقد زالت ، فزال المنع !!
…لا أعلم أحداً من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة ، إلا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الآحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها ، فقال ما نصه ( ص81ـ 19) :(101/54)
…" وأما النهي عن بناء المساجد على القبور ، فاتفقوا على تعليله بعلتين : إحداهما أن يؤدي إلى تنجيس المسجد(1) . . . وثانيهما وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر ، لأنه إذا وقع بالمسجد ، وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح ، لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ، ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه ، إذا كان في قبلة المسجد ، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك ".
…ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي ، وقد تقدم نصه في ذلك ( ص43ـ44) ، ثم قال المؤلف المشار إليه (ص20ـ21) :
…" و العلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين ، ونشأهم على التوحيد الخالص ، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى ، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف (!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها ، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين ". !
…قلت : والجواب : أن يقال : أثبت العرش ثم انقش !
…أثبت أولا أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي ، ثم أثبت أنها قد انتفت ، ودون ذلك خرط القتاد .
…أم الأول ، فإن لا دليل مطلقاً على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط ، نعم من الممكن أن يقال : انها بعض العلة ، وأما حصولها بها فباطل ، لأن من الممكن أيضاً أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى ، كما تقدم في كلام الفقيه الهيتمي ، والمحقق الصنعاني ، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً ، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد .
__________
(1) 1 قلت : وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن ، ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء أن أجسادهم لا تبلى كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف تنجس الأرض بهم !!(101/55)
وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين الخ . فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه :
…الأول : أن الزعم بني على أصل باطل ، وهو أن الإيمان بأنه الله هو المنفرد بالخلق ، والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى ، وليس كذلك ، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية ، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى :} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله{(1) ، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً ، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة ، وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار ، بقولهم فيما حكاه الله عنهم!} أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشئ عجاب{(2) . ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله ، وترك الدعاء والذبح لغير الله ، وغير ذلك مما خاص بالله تعالى من العبادات ، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به ، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية ، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وإفراد الله بذلك ، وهذا مفصل في غير هذا الموضوع .
فإذا تبين هذا نعلم أن الإيمان الصحيح غير راسخ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية ، ولا أريد أن أبعد بالقارئ الكريم في ضرب الأمثلة ، فحسبي هنا أن أنقل ما ذكره المؤلف الذي نحن في صدد الرد عليه ، فإنه قال بعد أسطر من كلامه السابق (ص21ـ22):
__________
(1) 1 سورة لقمان الآية 25.
(2) 2 سورة ص الآية 5.(101/56)
" ونراهم ( يعني العامة) يحلفون بالأولياء ، وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك . . . فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هو كفر صراح في حق مولانا عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه . . . فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر ، مولانا عبد السلام ابن مشيش رضي الله عنه أنه الذي خلق الدين والدنيا ! ومنهم من قالـ والمطر نازل بشدة : يا مولانا عبدالسلام الطف بعبادك ! فهذا كفر!.. . ".
قلت : فهذا الكفر أشد من كفر المشركين ، لأن هذا فيه التصريح بالشرك في توحيد الربوبية أيضاً ، وهو مما لا نعلم أنه وقع من المشركين أنفسهم ! وأما الشرك في الألوهية فهو أكثر في جهال هذه الأمة ـــ ولا أقول عوامهم! ـــ فإذا كان هذا حال المسلمين اليوم وقبل اليوم ، فكيف يقول هذا الرجل :
" وقد انتفت العلة برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين . . ."؟!
…وإذا كان يريد ب"المؤمنين" الصحابة رضي الله عنهم ، فلا شك أنهم كانوا مؤمنين حقاً ، عالمين بحقيقة التوحيد الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الشريعة الإسلامية شريعة عامة أبدية ، فلا يلزم من انتفاء العلة ـــ ولو ثبت ــــ بالنسبة إليهم أن ينتفي الحكم بالنسبة لمن بعدهم ، لأن العلة لا تزال قائمة ، والواقع أصدق شاهد على ذلك .
…الوجه الثاني :(101/57)
علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته ، بل في مرض موته ، فمتى زالت العلة التي ذكرها ؟ إن قيل : زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم ، لأن القول بذلك يستلزم ـ بناء على ما سبق من كلامه ـ أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عنهم ، وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم ، وهذا مما لا أتصور أحداً يقول به لوضوح بطلانه . وإن قيل : زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ، قلنا : وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته ؟! ويؤيده :
…الوجه الثالث : أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة ، كالحديث (12) .
…الوجه الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجداً ، كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها في الحديث (4) ، فهذه خشية إما أن يقال : إنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم ، أو على من بعدهم ، فإن قيل بالأول ، قلنا فالخشية على من بعدهم أولى ، وإن قيل بالثاني ، وهو الصواب عندنا ، فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم ، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم ، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بين . ويؤيده :
…الوجه الخامس : أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه ، مما يستلزم بقاء العلة السابقة ، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال ، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها ، وهذا بيّن لا يخفى والحمدلله ، وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا :(101/58)
…1ـ عن عبدالله بن شرحبيل بن حسنة قال : رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور ، فقيل له ، هذا قبر أم عمرو بنت عثمان ! فأمر به فسوي (1) .
…
2ـ عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب :
ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته(2) .
__________
(1) 1 رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (4/138) وأبو زرعة في " تاريخه " (66/2،121/2) (*) بسند صحيح عن عبدالله هذا ، وقد أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/2/81ـ82) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً .
(*) مخطوطان قيمان ، الأول محفوظ بعض مجلداته في المكتبة الظاهرية ، ويوجد منه نسخة تامة في غيرها . والآخر منه نسخة مصورة في المجمع العلمي العربي بدمشق .
(2) رواه مسلم (3/61) وابو داود (3/70) والنسائي (1/285) والترمذي (2/153ـ 154) والبيهقي (4/3) والطيالسي (1/168) وأحمد (رقم 741ـ1064) .
==…وله طرق عند الطيالسي وأحمد ( رقم 657و658و889و1175و1176و1177و1238و1283) وابن أبي شيبة (4/139) والطبراني في " الصغير " ص 29".
ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما ثبت في السنة من مشروعية رفع القبر شبراً أو شبرين ، حتى يتنميز فيصان عن أن يهان ، لأن المراد به تسوية ما رفع عليه من البناء ، وإن قيل بخلافه قال الشيخ علي القارئ في " المرقاة " (2/372) في شرح الحديث : " ( قبراً مشرفا) هو الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصباء أو محسومة (!) بالحجارة ليعرف ولا يؤطأ ، ( إلا سويته) في الأزهار : قال العلماء : يستحب أن يرفع القبر قدر شبر ويكره فوق ذلك ويستحب الهدم ، وفي قدره خلاف ، قيل إلى الأرض تغليظاً ، وهذا أقرب إلى اللفظ أي لفظ الحديث من التسوية ".
…وكذا في تحفة الأحوذي " 2/154) نقلاً عن المرقاة".(101/59)
ولما كان هذا الحديث حجة واضحة على إبطال ما ذهب إليه الشيخ الغماري في كتابه المشار إليه سابقاً حاول التقصي منه من طريقين :
الأول : تأويله حتى يتفق مع مذهبه!
والآخر : التشكيك في ثبوته! فقال (ص57):
…" فلا بد من أحد أمرين : إما أن يكون غير ثابت في نفسه ، أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد ".
قلت : أما ثبوته فلا شك فيه ، لأن له طرقاً كثيرة بعضها في " الصحيح " كما سبق ، ولكن أصحاب الأهواء لا يتلزمون القواعد العلمية في التصحيح والتضعيف ، بل ما كان عليهم ضعفوه ، ولو كان في نفسه صحيحاً ، كهذا الحديث (1) وما كان لهم صححوه أو مشوه ولو كان في نفسه ضعيفاً ، وسيأتي لذلك بعض الأمثلة الأخرى والله المستعان .
…وأما تأويله ، فقد ذكر له وجوهاً واهية أقواها قوله :
…" إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق ، لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر ، وعلى استحباب رفعه قدر شبر "
…قلت : العجب ممن يدعي الاجتهاد ويحرم التقليد كيف يصرف الأحاديث ويتأولها حتى تتفق مع أقوال الأئمة بزعمه ، بينما الاجتهاد الصحيح يقتضي عكس ذلك تماما! على أن الحديث لا ينافي الاتفاق المذكور ، لأنه خاص بالقبر المبني عليه فحينئذ يسوى بالأرض كما سبق عن الأزهار ، واتفاق الأئمة إنما هو في الأصل الذي ينبغي أن يراعى حين دفن الميت فيرفع قليلاً ، فهذا لا يعنيه الحديث كما أفاده القارئ رحمه فيما تقدم نقله قريباً في الحاشية (ص73) .
ثم نقل الغماري في تأويل الحديث عن الشافعية أنهم قالوا :
__________
(1) 1 وكذلك فعل بعض غلاة الشيعة في كتابه " كشف الارتياب " (ص366 فصرح فيه بتضعيف الحديث من طريق مسلم! وطعن في رجاله وكلهم ثقات ، وكذلك غمز من صحته الكوثري الجهمي في " مقالاته " (ص159) ، وهكذا ترى أهل الأهواء ـ على اختلاف مذاهبهم ـ يتتابعون على رد الحديث الصحيح بأوهى الشبه اتباعاً لأهوائهم ، ونعوذ بالله تعالى من الخذلان!.(101/60)
…" لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث ".
…قلت : لو سلم هذا فهو دليل على الغمار لا له لأنه لا يقول بوجوب تسطيحه ، بل يقول باستحباب رفعه بدون حد وباستحباب البناء عليه قبة أو مسجد
…ثم قال الغماري في الجواب الأخير عن الحديث:
…" وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية ، وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة رضي الله عنهم بدليل ذكر التماثيل معها ".
…قلت : في بعض طرق الحديث عند أحمد أن بعث علي رضي الله عنه إنما كان إلى بعض نواحي المدينة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فهذا يبطل ما ادعاه من أن الإرسال كان إلى بلاد الكفار .
…ثم إن موضع الشاهد من الحديث إنما هو بعث علي أبا الهياج إلى تسوية القبور ، وكان رئيس الشرطة ، ففيه دليل واضح على أن علياً وكذا عثمان رضي الله عنهما في الأثر المتقدم ـ كانا يعلمان هذا الحكم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم خلافاً لما زعمه الغماري .
…3ـ عن أبي بردة قال : أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر ، ولا تجعلوا في لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب ، ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أنبي برئ من كل حالقة ، أو سالقة ، أو خارقة (1) ، قالوا أو سمعت فيها شيئاً؟ قال : نعم ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
…4ـ عن أنس : كان يكره أن يبنى مسجد بين القبور(3).
__________
(1) الحالقة ) هي التي تحلق شرها عند المصيبة ، _ ( السالقة ) : التي ترفع صوتها ، ـ (الخارقة ) : التي تخرق ثيابها عند المصيبة .
(2) 2 أخرجه أحمد (4/397) وإسناده قوي .
(3) 3 رواه ابن أبي شيبة (2/185) ورجاله ثقات رجال الشيخين ، ورواه أبو بكر ابن الاثرم كما في " فتح الباري" لابن رجب (65/81/1 من الكواكب ) .
4ـ رواه ابن أبي شيبة (4/134) بسند صحيح عنه .(101/61)
…5ـ عن إبراهيم أنه كان يكره أن يجعل على القبر مسجداً(1) .
…وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام ، وهو تابعي صغير مات سنة (96) ، فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة ، ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرن بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم ، فمتى نسخ؟!.
…6ـ عن المعرور بن سويد قال :
…" خرجنا مع عمر في حجة حجها ، فقرأ بنا في الفجر } ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل {(2) و } لإيلاف قريش {(3) ، فلما قضى حجه ورجع والناس يتبدرون ، فقال : ما هذا ؟ فقال : مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هكذا هلك أهل الكتاب ، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيها الصلاة ، فليصل ، ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل " (4).
…7ـ عن نافع قال :
…" بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت ".(5)
__________
(2) 1 سورة الفيل ، الاية1.
(3) 2 سورة قريش الآية 1.
(4) 3 رواه ابن أبي شيبة (2/84/1) وسنده صحيح على شرط الشيخين .
(5) قلت : رواه ابن أبي شيبة أيضا(2/73/2) ورجاله ثقات كلهم لكنه منقطع بين نافع وعمر فلعل الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
…ثم استدركت فقلت : يبعد ذلك كله ما أخرجه البخاري فيه " صحيحه ـ الجهاد" من طريق أخرى عن نافع قال : قال ابن عمر رضي الله عنهما :
…" رجعنا من العام المقبل : فما اجتمع اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها ، كانت رحمة من الله ". يعني خفاءها عليهم . فهو نص على أن الشجرة لم يتبق معرفة المكان يمكن قطعها من عمر ، فدل ذلك على ضعف رواية القطع الدال عليه الانقطاع الظاهر فيها نفسها ومما يزيدها ضعفا ما روى البخاري في " المغازي " من " صحيحه " عن سعيد بن المسيب عن أبيه ====
قال : " لقد رأيت الشجرة ، ثم أتيتها بعد ، فلم أعرفها ".
…ومن طريق طارق بن عبد الرحمن قال :
…" انطلقت حاجاً ، فمررت بقوم يصلون ، قلت : ما هذا المسجد قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب ، فضحك فقال : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسو الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها . وفي رواية : فعميت علينا فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها! وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم !
…أقول ، ولئن كنا خسرنا هذه الرواية المنقطعة كشاهد فيما نحن فيه من البحث بعد التأكد من ضعفها ، فقد كسبنا ما هو أقوى منها ، مما يصلح دليلاً لما نحن فيه ، وهو حديث المسيب هذا ، وحديث ابن عمر : فقد قال الحافظ في شرحه إياه :
…" والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم الأمر إلى اعتقاد أن لها قوة نقع أو ضر ، كما نراه الان مشاهداً فيما هو دونها ، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله :" كانت رحمة من الله "، أي كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تعالى ".
…قلت : ومن تلك الأشجار التي أشار إليها الحافظ شجرة كنت رأيتها من أكثر من عشر سنين شرقي مقبرة شهداء أحد خارج سورها ، وعليها خرق كثيرة ، ثم رأيتها في موسم السنة الماضية (1371هـ ) قد استأصلت من أصلها ، والحمدلله ، وحمى المسلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى .(101/62)
…
…8ـ عن قزعة قال سألت ابن عمر : آتي الطور ؟ فقال : دع الطور ولا تأتها ، وقال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد(1)
…9ـ عن علي بن حسين :
…أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه ، (كذا الأصل ) فيدخل فيها فيدعو ، فدعاه فقال :
ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم "(2) .
__________
(1) 1 رواه ابن أبي شيبة أيضا(2/83/2) والأزرقي في " أخبار مكة " (ص304) وإسناده صحيح ، وروى أحمد ( 6/8) وأبو يعلى وابن منده في " التوحيد " (26/1،ـ2) مثله عن ـ أبي بصرة الغفاري وهو صحيح أيضاً ، خرجته في "سلسة الأحاديث الصحيحة " أواخر المائة الثالثة ، وفي " إررواء الغليل " رقم (970) .
(2) 1 ـ أخرجه ابن أبي شيبة أيضا (2/83/2) وعنه أبو يعلى في " مسنده " (ق32/2) وإسماعيل القاضي في كتاب " فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " ، الحديث 20 من طبع المكتب الإسلامي ، ورواه الضياء ي " المختارة " (1/154) من طريق أبي يعلى والخطي في " الموضح " (2/30) .
وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم ، إلا أن أحدهم ـــ وهو علي بن عمر مستور ، كما قال الحافظ في " التقريب " ".(101/63)
ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً وابن خزيمة في " حديث علي ابن حجر" (ج4/ رقم 48) وابن عساكر (4/217/1)(1) من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح ، قال : فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، [ وصلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني ] "(2).
10ـ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني (3)
حيثما كنتم"(4) .
__________
(1) ـــ هذا والمصادر المذكورة قبله كلها مخطوطات ، وغالبها في المكتبة الظاهرية ، ومكتبة الأوقاف في حلب
(2) 3 ــ قلت وأخرجه عبد الرزاق أيضاً في " مصنفه " ( 3/577/ 6694) وسهيل هذا أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2/1/24) وذكر له عنه ، روايين أحدهما محمد بن عجلان وهو الراوي لهذا الحديث عنه عند ابن أبي شيبة ، والآخر سفيان الثوري ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا ، وله راو ثالث وه إسماعيل الراوي لهذا عنه عند ابن خزيمة وهو إسماعيل بن علية وهذه فائدة غزيزة لا تجدها في كتب الرجال فقد روى عنه ثلاثة من الثقات ، فهو معروف غير مجهول . والله أعلم .
(3) ـ قوله " تبلغني " هذا الحديث وغيره مما تقدم صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لا يسمع صلاة المصلين عليه ، فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعها فقد كذب عليه ، فكيف حال من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم يسمع غيرها ؟!.
(4) 1 رواه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) بسند حسن ، ورواه أبو يعلى في " مسنده " (4/1597) ، مصورة الكتب من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب بسند فيه نظر .(101/64)
…11ـ ورأى ابن عمر فسطاطاً(1) على قبر عبد الرحمن فقال : " انزعه يا غلام فإنما يظله عمله "(2) .
…12ـ عن أبي هريرة أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً(3).
…13ـ وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر (7/96/2) مثله عن أبي سعيد الخدري(4) .
…14ـ عن محمد بن كعب قال : هذه الفساطيط التي على القبور محدثة(5)
…15ـ سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه : إذا ما مت ، فلا تضربوا على قبري فسطاطاً(6).
…16ـ عن سالم مولى عبدالله بن علي بن حسين قال :
…أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال :
" لا ترفعوا قبري على الأرض "(7) .
…17ـ عن عمرو بن شرحبيل قال :
…" لا ترفعوا جدثي ـ يعني القبر ـ فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك "(8) .
…
__________
(1) 2 السفطاط بيت من شعر في " اللسان " وفي " الكواكب الدراري " ( ق 87/1تفسير 548) : " وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط
(2) 3 رواه البخاري تعليقاً (2/98) .
(3) رواه عبدالرزاق (3/418/6129) وابن أبي شيبة 4/135 ، والربعي في " وصايا العلماء " (141/2) وابن سعد (4/338) وإسناده صحيح .
(4) 5 وإسناده ضعيف ، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح .
(5) 6 رواه ابن أبي شيبة أيضاً ورجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات ، قال أبو حاتم وأبوزرعة :" لا أعرفه " كما في " الجرح والتعديل " (1/464/ـ465.
(6) 7 رواه ابن سعد (5/142) .
(7) 1 رواه الدولابي (1/134ـ 135) ورجاله ثقات غير سالم هذا فهو مجهول كما قال الذهبي في " الميزان " والحلي الشيعي في " خلاصة الأقوال " ( ص 108)
(8) 2 رواه ابن سعد (6/108) بسند صحيح .(101/65)
واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها ، فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما ينبئ عن تعظيم القبور تعظيماً يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال ، مثل بناء المساجد والقباب على القبور ، وضرب الخيام عليها ، ورفعها أكثر من الحديث المشروع ، والسفر والاختلاف إليها(1) ، والتسمح بها ، ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك ، فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم ، وذلك يدل على أنهم كانوا جميعاً يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع ، ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله فيما سبق ، بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة ، فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر ، كما لا يخفى ، وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهراً ، أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك ، مثل رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفاً ، فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى ، وذلك لوجهين :
…الأول : أن بناء المساجد على القبور أشد جرماً من رفع القبور وضرب الخيام عليها ، لما ورد من اللعن على البناء ، دون الرفع والضرب المذكور .
…الثاني : أن المفروض في أولئك السلف الفهم والعلم ، فإذا ثبت عن أحد منهم النهي عن شئ هو دون ما نهى عنه الشارع ، ولم ينقل هذا النهي عن أحدهم ، فنحن نقطع بأنه ينهى عنه أيضاً ، حتى ولو فرض عدم بلوغ النهي إليه لأن نهيه عما هو دون هذا يستلزم النهي عنه من باب أولى ، كما لا يخفى .
…فثبت أن القول بانتفاء العلة المذكورة وما بني عليه كله باطل ، لمخالفته نهج السلف الصالح رضي الله عنهم ، مع مصادمته للأحاديث الصحيحة ، والله المستعان .
…
…
…
…
__________
(1) 3 الاختلاف إليها أي : إكثار التردد لزيارتها ، وهذا مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل قبري عيداً ".(101/66)
…(101/67)
تحذير العباد من شفاء الفؤاد
عبد الكريم بن صالح الحميد
قام بصفه ونشره
[أبو عمر الدوسري]
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرجيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين القائل: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإنه ظهر هذه الأيام كتاب اسمه ((شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد)) لمحمد علوي مالكي اسمه على الحقيقة ((شقاء الفؤاد)) محشو بالشرك والغلو والإطراء والبدع والضلالات. وحيث أنه لا يسعنا السكوت عن مثل هذا كتبت هذا المختصر معذرة إلى الله ورجاء أن ينفع الله به.
ومما ينبغي أن يعلم أنه سبق لهذا الضال كتب غير هذا الكتاب مثل كتابه الذي سماه ((الذخائر المحمدية)) واسمه على الحقيقة ((الخسائر المالكية)) زعم فيه أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقاليد السموات والأرض وأن له أن يُقطع أرض الجنة وأنه يعلم الغيب وأشركه مع ربه في النفع والضر والتصرف في ملكوت السموات والأرض وأن ليلة مولده أفضل من ليلة القدر وغير ذلك من الشركيات والبدع والضلالات والذي وصل إلي بعض ما في كتابه.
وفي هذا الكتاب ذكر قصائد فيها الشرك الأكبر مقراً لها داعياً للعمل بها.
قال الضال تحت عنوان ((زيارة نبوية)): وقد وفدت عليك زائرا وبك مستجيراً وجئتك مستغفرا.
وقال: فها أنا في حضرتك وجوارك ونزيل بابك وذكر قصيدة فيها:
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له ... إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي
ضيف ضعيف غريب قد أناخ بكم ... ومستجير بكم يا سادة العرب
يا مكرمي الضيف يا عون الزمان ويا ... غوث الفقير ومرمى القصد والطلب
هذا مقام الذي ضاقت مذاهبه ... وأنتم في الرجاء من أعظم السبب
الجواب: هذه زيارة شركية وتسميتها نبوية من أعظم المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(102/1)
وقائل هذا الكلام ومعتقده قد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم رباً وإلهاً ولم يرض به نبيا ورسولاً.
وإنما جرّه إلى ذلك الغلو الذي نهى الله عنه بقوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } الآية ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إياكم والغلو بالدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)).
فقوله: وبك مستجيراً يقال له: النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله ليعه في حياته ((قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً)) فكيف بعد موته فهذا شرك وقد قال صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة: ((لا أغني عنك من الله شيئا)).
وهذا القبوري الضال يقول: يملك أهل القبور الضر والنفع ويغنون عن الله.
واستجارة المخلوق بالمخلوق واستغاثته به كاستجارة واستغاثة الغريق بالغريق بل أعظم من ذلك.
وقد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } الآية ليبين لنا لا يخرج عن طور البشرية والمثلية لنا لئلا نعتقد فيه ما لا يصلح له ولا يقدر عليه ولا يليق إلا بربنا عز وجل سواء في الحياة وبعد الممات من حيث أننا وهو مخلوقان مربوبون لا نملك لأنفسنا ولا يملك بعضنا لبعض نفعا ولا ضرا في الحياة ولا بعد الممات.(102/2)
أما ما خصه الله به من كرامته بنبوته ورسالته وما شرفه به وعظمه ورفع به قدره وذكره فهذا لا يوجب إخراجه صلى الله عليه وسلم من طور العبودية إلى مقام معبوده سبحانه بل هو عدو من فعل به ذلك فهذا منا قض لأصل دينه يتبرأ ممن فعل به ذلك يوم القيامة قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } فهذه الآية عامة فيمن أشرك مع الله غيره بدعاء مسئلة أو عباده أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله لكن المراد هنا قوله تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } . فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحق من يكفر بشرك من أشركه مع إلهه الحق الذي بعثه لمحق هذا الشرك ومعاداة أهله والبراءة منهم.
تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ } ولم يقل: واستغفروا الرسول وهذا يقول: جئتك مستغفرا. فقاتل الله عباد القبور حيث غيروا دين الله وبدلوه.
أما قوله:
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له ... إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي
نفى أن يكون له ملاذا ألا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد نسي ربه وصرف عبودية قلبه لغيره. والعياذ واللياذ والالتجاء كل هذا عبودية لا تصلح لمخلوق فتأمل ما يفعل الغلو بأهله.
وقوله:
يا مكرمي الضيف يا عون الزمان ويا
... غوث الفقير ومرمى في الطلب(102/3)
النبي صلى الله عليه وسلم له الكمال وهو في الذروة العليا من جميع خصال الإيمان ومكارم الأخلاق وقد أمر بإكرام الضيف وهو أولى بفعل ما يأمره به وترك ما ينهى عنه من غيره وقد كان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم فما بال عباد القبور يطلبون منه إكرام الضيف بعد موته؟ ثم إن هذا الضيف مستحق للإهانة لا للكرامة حيث جاء إلى المخلوق ميت ورفعه إلى منزلة خالقه وجعله عون الزمان وغوث الفقير ولا ملاذ له هو فأسقط حق الإله لعبده.
أما قوله:
هذا مقام الذي ضاقت مذاهبه.
فمقام من ضاقت مذاهبه ليس قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه ومن يقول ((ادعوني أستجب لكم)).
وإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح ليه شأني كله ولا تكلني إلا نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك)) فكيف يصلح هو شأن غيره ويفرج ضيقه وهو يسأل ربه ذلك ضيقه وهو يسأل ربه ذلك لعلمه أنه لا يستطيعه لنفسه فضلا عن غيره ويسأل ربه ألا يكله إلى نفسه طرفة عين لعلمه أنه لو وكل إلى نفسه لهلك.
وقوله:
وأنتموا في الرجاء من أعظم السبب.
الرجاء أحد أركان العبادة الثلاثة وهي: الحب والخوف والرجاء وتعليقه بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك.
وذكر قصيدة من سماه: ((الإمام الطريري)). قال فيها:
فالآن ليس سوى قبر حلك به
... منجي الطريد وملجاء كل معتصم
نفى عما سوى فبر النبي صلى الله عليه وسلم إنجاء الطريد وإلجاء المعتصم فما الذي أبقاه لله عز وجل هذا الضال المضل.
أما علم هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم يتبرأ من شركهم هذا ويعاديهم من أجله أعظم العداوة؟
أما نفى عن نفسه ما هو أقل من ذلك؟ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: أجعلتني ندا بل ما شاء الله وحده. وقال لا بنته فاطمة: لا أغني عنك من الله شيئا.(102/4)
لقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده ولطفا بهم وإحسانا لتتجه قلوبهم إليه وتتعلق به وحده دون من سواه فأبى الظالمون إلا كفورا. وبعثه لمحق هذا الشرك وإبطاله وأوحى إليه قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } .
ثم قال:
هذا عطاؤك فاغمرنا بمنهله ... فقد مددنا أكف الفقر والعدم
إنما تمد الأكف لخالقها الذي يقول: { فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ } أما من تعلق بغير الله فقد أساء الظن بربه فمن جزائه أن يوكل إلى من تعلق به لأن من تعلق شيئا وكل إليه.
ثم قال:
وإن رمتنا الخطايا وسط مهلكة ... فأنت ملجأ خلق الله كلهم
كذب القبوريون وافتروا على الله وعلى رسوله فملجأ الخلق كلهم هو إلهم الحق يبحانه وقد قال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي لا ملجأ قاله: مجاهد وقتاده والسدي.
وقال تعالى: { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } قال ابن جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل من أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله.
وهو صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: لا ملجأ منك إلا إليك فكيف يكون هو ملجأ خلق الله كلهم؟
وذكر صلاة تقال عند زيادة النبي صلى الله عليه وسلم وملم للحبيب علي بن محمد الحبشي.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد أول متلق لفيضك الأول.. هذا اعتقاد الفلاسفة يقرر هذا الطاغوت حيث أنهم يعتقدون أن النبوة فيض فاض على روح النبي صلى الله عليه وسلم يوضحه قوله بعد ذلك: صلاة نشهدك بها من مرآته ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته قائمين لك وله بالأدب الوافر. مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن والظاهر..(102/5)
فالفلاسفة يعتقدون أن الزائر إذا زار قبر من يعظمه يوجه همته إلى المزور لينعكس على روحه من فيضه ونوره وهذه هي الزيارة الشركية والشيطان يريد من بني آدم هذا التعلق والتوجه بالهمة والقصد لعلمه أن العبد ينقطع بذلك عن ربه لأن هذا لا يصلح إلا له. أما المدد الباطن الذي هو هداية القلوب وصلاحها فقد نفاه الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ومن علم مناسبة نزول هذه الآية الكريمة تبين له الأمر على جليته خلاف ما يعتقده هؤلاء الدجاجلة فمناسبة نزولها حرص النبي صلى الله عليه وسلم الشديد على هداية عمه أبي طالب وذلك عند موته والقصة مشهورة والشاهد فيها أنه لم يقدر على هداية عمه فكيف يطلب منه المدد الباطن ولا يعارض هذا قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فهذه الهداية المثبتة له هي هداية البيان والدلالة والإرشاد وهي أيضا لأتباعه. أما التأثير في القلوب فلله وحده سواء في الهداية والإضلال وغير ذلك، والمدد الظاهر أيضا يطلب ممن ((يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن)) والنبي صلى الله عليه وسلم ما دلنا على نفسه لا بالمدد الظاهر ولا الباكن بل نهانا أن نلتفت إلى غير خالقنا فقال: ((وإذا استعنت فاستعن بالله)).
ويوضح ما ذكرته أيضا من أنه يقرر معتقد الفلاسفة قوله في هذه الزيارة السابقة: اللهم اكشف عني حجب الأغيار. اللهم أفض على روحي ما أفضته على روح الكامل من هذه الأمة. وهب لي زهدا كزهد الكامل وورعا كورعه وعلما كعلمه ونورا كنوره وفهما كفهمه وإقبالا كإقباله.
لقد فضل الله نبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء فكيف يطلب هؤلاء الضلال مقامه ولم يبق إلا أن يقولوا: ونبوة مثل نبوته.(102/6)
وهو صلى الله عليه وسلم يدعو أمته للإقتداء به والتأسي ويعلم أنهم لن يقاربوا مقامه فضلا أن يكونوا مثله في هذه الأمور ولم يأمر أمته بمثل هذا فهو من الاعتداء في الدعاء، فقوله: ما أفضدته على روح الكامل هو مذهب الفلاسفة حيث أن النبوة هندهم فيض فاض على روح النبي.
وذكر زيارة نبوية بزعمه للشيخ القشاش وفيها:
السلام عليكم يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا باطن السلام عليك يا ظاهر.
هذه أسماء الرب- عز وجل- كما قال تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ((أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء)).
فالذي يسمى بها النبي صلى الله عليه وسلم محاد لله ولرسوله وهو أضل من حمار أهله حيث لم يفرق بين أسماء ربه عز وجل وأسماء نبيه. وقال تحت عنوان ((استشعار رد السلام)):
ينبغي للزائر أن يردد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بأدب ولطف وذل واستكانه لعل الله أن ييسر له سماع جواب سلامه الشريف شهادة و إلا فيؤمن به غيبا وإن لم يسمعه)).
أقول: هنا مسألة ينبغي التنبه لها وهي أن بعض الناس قد يكذب هؤلاء بما يزعمون أنهم يسمعونه من الأصوات أو قد يرونه من الأشخاص عند القبور وكذلك عند الأصنام فيكون ذلك فتنة ولهم لأنهم يرون ويسمعون أشياء حقيقة بل وتقضى لهم بعض الحوائج فإذا كذبهم أحد بذلك ازدادوا تمسكا بشركهم. والصحيح أن هذا يحصل للمشركين من سماع الأصوات وقضاء بعض الحاجات وقد يرون أن القبر قد انشق فخرج منه صورة المقبور وكل هذا وأعظم منه يحصل عند القبور والأصنام وهو الشيطان يفعل ذلك ليزيدهم فتنة إلى فتنتهم وضلالا إلى ضلالهم وقد قال أبي بن كعب: مع كل صنم جنيه وقال ابن عباس: في كل صنم شياطين تكلم السدنة.(102/7)
ومن هنا ضل أهل الإشراك. فلا يكذبون بذلك لكن يقال لهم: الشطان فعل هذا ليضلكم عن ربكم: ذكر هذا علماؤنا رحمهم الله.
وقوله:
و إلا فيؤمن به غيبا وإن لم يسمعه. تأكيد للأمر وتوثيق ولقد اجتهد هؤلاء في إضلال الخلق ومع هذا فحزب الله هم الغالبون.
وقد قال تعالى: { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } .
وقال تحت عنوان الزيارة والشفاعة.
واستغاثة الناس يوم القيامة بالنبي صلى الله عليه وسلم لما كانت هي أعظم الاستغاثات لشدة كربهم وطول موقفهم وقتئذ ولظهور فضله صلى الله عليه وسلم على سائر الخلائق ولدلالة ذلك على جواز الاستغاثة به ونفعها بعد مماته لوقوعها في حياته الدنيوية والأخروية.
الاستغاثة به بغير الله شرك أكبر. ولما قال بعض الصحابة: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. يعنون عبد الله بن أبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله. رواه الطبراني.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كره أن يستعمل هذا اللفظ في حقه وإن كان مما يقدر عليه في حياته فكيف بمن يستغيث به بعد موته فيما لا يقدر عليه إلا الله. وحتى إذا جاز التقسيم بالنسبة للحي بأن يستغاث به فيما يقدر عليه فهذا منتف إطلاقا عن الميت فلا يقال: يستغاث به يقدر عليه لأنه لا يقدر على شيء.
وقال تحت عنوان: الزيارة النبوية والشعر:
وسنذكر في هذا الحديث جملة من غرر القصائد النبوية والمدائح المحمدية التي يستحسن أن تقال أمام المواجهة النبوية وفي حضرة الزيارة المحمدية.
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي ... مالي سواك ولا ألوي على أحد
أنت نور الهدى في كل نائبة ... وأنت سر الندى يا خير معتمد
وأنت حقا غياث الخلق أجمعهم ... وأنت هادي الورى لله ذي المدد(102/8)
قطع الله دابرك أيها المشرك النجس حيث حرفت خالص حق الله إلى عباده. كيف تجرأت أن تقول: خذ بيدي ومالي سواك ولا ألوي على أحد ولو شممت للتوحيد رائحة لعلمت أن هذا لا يصلح إلا لله فالموحد لا يلوي على أحد غير ربه- عز وجل- والنبي صلى الله عليه وسلم شدد القول وغلظ على ما هو أقل من ذلك بكثير توحيدا لربه وتعظيما وإجلالا فهو أعدى أعدائك حيث نقضت أصل دينه.
ثم قال:
إني إذا سامني ضيم يروعني ... أقول يا سيد السادات يا سندي
كن لي شفيعا إلى الرحمن من زللي ... وافن علي بنا لا كان في خلدي
وانظر بعين الرضا لي دائما أبدا ... واستر بفضلك تقصيريمدىالأبد
واعطف علي بعفو منك يشملني ... فإني عنك يا مولاي لم أحد
هكذا يصنع الغلو الممقوت بأهله ولو خاطب بهذا ربه عز وجل لكان خيرا له فقد صرف مخ العبادة الذي هو الدعاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا سيد السادات يا سندي وطلب منه الشفاعة وهذا كله شرك.
وذكر قصية منها:
توجه رسول الله في كل حاجة ... لنا ومهم في المعاش وفي القلب
هذا هو دين أهل الشرك وذلك باتخاذهم الأنبياء والصالحين وسائط بينهم وبين الله كما يكون مع ملوك الدنيا حيث يتوسط الوجيه عندهم في الرغبة والرهبة وهو من أقبح التشبيه لأن الرب عز وجل ليس كالمخلوق الذي يحتاج إلى من يخبره بحاجة من يحتاج إليه فهو سبحانه بكل شيء عليم ولا بحاجة من يستدر رحمته فهو أرحم الراحمين ولا بحاجة من يحضه على الجواد والكرم فهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
وأخيرا فهذا الذي قدر الله لنا من الرد على هذا القبوري الضال الداعي إلى الشرك والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد.
وحيث أنه لم يصل إلى كتابه كاملا فكان الرد على ما وصل إلي.(102/9)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران].
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء].
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب].
أما بعد :
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد :
فقد فطر الله العباد على عبادته وتعظيمه قال تعالى :{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم](103/1)
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...)) فالفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الإسلام ، أي: فطرهم الله على عبادته خوفا وتعظيما وخضوعا ورضا وحبا له سبحانه ، وقال تعالى :{أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} [إبراهيم] ، وقال تعالى :{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة]، وقال تعالى :{وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس]، فصرحت الآيتان أن الناس كانوا على التوحيد ثم طرأ عليهم الشرك بدليل قوله : {فاختلفوا} وفي الحديث القدسي الذي عند مسلم وفيه : قال الله : ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ... فأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) فقد استمر الناس على عبادة الله وحده لا يشركون به إلى زمن نوح ظهر فيهم الشرك . وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (كان بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) رواه ابن جرير في "تفسيره" والحاكم (2/546) وقال : صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي ، وقد صحح هذا القول غير واحد من العلماء . وما جاء عن ابن عباس أن الناس كانوا كفارا عشرة قرون حتى بعث نوح فرواية ضعيفة لا يعتمد عليها بل هي توافق قول الفلاسفة أن الأصل في الناس الشرك.(103/2)
وقد ذكرنا في بعض فصول الكتاب أن نشأة القبورية كانت من عند قوم نوح عندما عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. ولقد بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - والبشرية على الشرك بشتى أنواعه ، فدعا إلى توحيد الله حتى طهر الجزيرة من الشرك والخرافة . قال تعالى :{إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} [النصر]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة ولكن بالتحريش بينهم)) رواه مسلم عن جابر . بل لقد حصل اليأس للكفار من رجوع الصحابة إلى الشرك والجاهلية . قال تعالى :{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} [المائدة]، وقد حصل في عصرنا أن قام أهل التوحيد في أرض الحرمين بتطهير بلادهم من الشركيات فطهرت وصارت أنقى بلاد الجزيرة.
وهذا يدلنا على أن الشرك متى وجد من يقاومه انتهى بإذن الله ، ولهذا قال تعالى :{ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} [إبراهيم]، فالمعركة قائمة بين أهل التوحيد وبين أهل الشرك من شياطين الجن والإنس . أما شياطين الجن فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) رواه مسلم عن عياض بن حمار.
وأما شياطين الإنس فقد قال الله فيهم : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام]، فسيوف الحق تعمل في أهل الشرك والخرافة أعظم مما تعمله السيوف في الرقاب ولكن إذا كان الضارب ما هرا ، والسيف بتارا، فتسلح أيها المسلم بالحجج والبراهين لمواجهة جراثيم الشرك واستنصر الله فإنه خير الناصرين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(103/3)
وقد قمت بكتابة هذه الرسالة . أسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وكتب : أبونصر /محمد بن عبدالله الإمام
اليمن ـ معبر ـ في 13/12/ 1424هـ
الفصل الأول
خطر الإشراك بالله
اعلم أخي المسلم: أن أعظم ذنب يرتكبه العبد هو الشرك بالله ، وقد تكاثرت الأدلة على هذا من القرآن والسنة النبوية قال بعض العلماء : (إن القرآن كله إنما هو في التوحيد والتحذير من الشرك والكفر وتوابعهما).
ومن المعلوم أن الأدلة إذا تضافرت في أمر من الشر دلت على بشاعته ، وإليك بعض الأدلة على ذلك:
قال تعالى :{ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [الحج] فالشرك مهلك لصاحبه .
وقال تعالى :{وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان]، فالشرك أفجرالفجور، وأظلم الظلم، وأنكر المنكر، وأقبح القبائح.
وقال تعالى :{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما مادون ذلك لمن يشاء} [النساء]، فالمشرك لا تلحقه المغفرة أبد الآبدين إذا مات ولم يتب إلى الله من الشرك.
وقال تعالى :{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة].فالشرك أنجس النجاسات المعنوية .
وقال تعالى مخاطبا لرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - :{لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر]، وقال تعالى مخبرا عن أنبيائه ورسله :{ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام].فأي شيء أضر على المسلم من أن يحبط الله عمله .
وقال تعالى :{إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة]. فالشرك يمنع من دخول الجنة .(103/4)
الشرك ما نع من النصر والتمكين والعز والسيادة في الدنيا ، قال تعالى :{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} [النور].
فانظر كيف بين الله أن الإيمان والأعمال الصالحة تكون بترك الشرك بالله ، فلا خطر على عزنا وسيادتنا أعظم من الشرك.
رفع الأمان من المجتمعات التي فيها الشرك بالله ، قال تعالى :{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام]، والظلم هنا هو الشرك ، بدليل ما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن بعض الصحابة قالوا: يارسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: (( ليس كما تعنون ألم تسمعوا قول لقمان لابنه وهو يعظه :{يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان].
وقال تعالى :{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [آل عمران ].
وقال تعالى :{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم].فالشرك يهدد العالم بالدمار .
الشرك يبيح دم صاحبه وعرضه لأهل التوحيد ، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) متفق عليه من حديث ابن عمر.(103/5)
11- المشرك يكفر به معبوده يوم القيامة ، قال تعالى :{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم]، وحتى إبليس يوم القيامة يكفر بأتباعه ، قال تعالى :{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم]. أي: في الدنيا.
أيها القارئ الكريم: هذه نبذة مختصرة من الأدلة رأيت أن أكتفي بها .
فالشرك منبع للكفر والرذائل ألا ترى أن انتشارالسحرة والمنجمين والكهان, وكذا انتشار الزنا ووسائله يكون بسبب وقوع الناس في الشركيات .
وهناك بعض الكتب النافعة في بيان الشرك والتحذير منه مثل كتاب "تيسير العزيز الحميد"و"فتح المجيد" وبقية كتب أئمة الدعوة .
خوف الأنبياء والرسل على أنفسهم
وعلى أتباعهم من الوقوع في عبادة الأصنام
قال تعالى :{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [إبراهيم ]، فإذا كان إبراهيم إمام الموحدين يخاف على نفسه من الشرك فمن ذا الذي يأمن على نفسه بعد إبراهيم من الشرك؟ وإذا كان هذا الخوف حاصلا عند نبي الله إبراهيم وهو رسول معصوم فكيف بمن ليس بمعصوم؟ وإبراهيم يخاف على بنيه من الوقوع في عبادة الأصنام وهما إسماعيل وإسحاق نبيان.(103/6)
وليس الصنم هنا مقصورا على الأحجار والأشجار وإنما تميل النفس قبل هذا إلى عبادة الصالحين ، وعبادتهم لهم هي الصنمية الكبرى، وقال تعالى عن يعقوب :{أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} [البقرة]، فيعقوب عليه السلام يخاف على أولاده من الشرك إلى آخر لحظة من أنفاسه ، ولهذا يوجه إليهم سؤالا متعلقا بالتوحيد ونفي الشرك ، ألا وهو {ما تعبدون من بعدي} فكانت إجابتهم دالة على معرفتهم بالتوحيد والشرك، وهذا هو المطلوب أن يعرف المسلم التوحيد وما يضاده ، وفي هذا دلالة على ثباتهم على التوحيد ومحاربتهم للشرك ، وهذا هو المطلوب.
وقد خاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته أنواعا من الشرك ، وإليك بيانها:
روى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء...)) صححه الألباني ، فهذا الحديث أفاد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاف على أمته شركا خفيا وهو الرياء.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم...)) رواه الطبراني ، وقد جاء عند ابن عساكر وابن عبد البر من حديث أبي محجن، وقد جاء عن أنس وهو صحيح. وفي هذا الحديث خوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته من شرك التنجيم ، وهو منتشر الآن بكثرة في وسط أمة الإسلام، وهو نوع من السحر.(103/7)
بل لقد عظم خوف نبينا - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تقع في شرك القبور ، ولهذا كثر تحذيره من ذلك عند الموت مستعملا في ذلك أشد أنواع التحذير من لعن اليهود والنصارى، ودعا - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى التخلص من الشرك الذي هو أخفى من دبيب النمل ، فقد روى الإمام أحمد والطبراني في "الأوسط" و"الكبير" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل)) فقال رجل ما شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك فيما لا نعلمه)) وقد جاء من حديث أبي بكر عند أبي يعلى وابن السني والحديث قابل للتحسين.
وخوفه - صلى الله عليه وسلم - على أمته من الشرك دليل على وقوعه فيها, وكذا إخباره بوقوعه, وتحذيره منها دليل على وقوعه، ويلزم القبوريين القائلين بعدم وجود الشرك في عصرنا أن يقولوا إن الرسول تخوف على أمته من شيء ونهى عنه ولا وجود له ، وهذا فيه تكذيب له ، فليحذروا من هذا الانحراف الخطير.
أساس الشرك في الأمم الغلو في قبور الصالحين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"17/460: (والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين أولهما: تعظيم قبور الصالحين وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدعها الآدميون ، وهو شرك قوم نوح).(103/8)
وقال الألباني رحمه الله في كتابه " تحذير الساجد"ص(150) : (إن من المهم جدا أن يعلم المسلم كيف طرأ الشرك على المؤمنين بعد أن كانوا موحدين؟ لقد ورد عن جماعة من السلف روايات كثيرة في تفسير قول الله تعالى : {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} أن هؤلاء خمسة ودا ومن ذكر معه كانوا عبادا صالحين فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن يعكفوا على قبورهم ثم أوحى إلى الذين جاءوا من بعدهم أن يتخذوا لهم أصناما ، وزين لهم ذلك بأن ادعى لهم على أن يذكروهم فيقتدوا بأعمالهم الصالحة، وأوحى إلى الجيل الثالث أن يعبدوهم من دون الله وأوهمهم أن آباءهم كانوا يفعلون ذلك...).
قلت: إن إثبات أصل الشرك في القبورية أمر لا يحتاج أن يختلف فيه اثنان لأن المتتبع لتاريخ البشرية من بعد قبورية قوم نوح إلى بعثة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يجد أن عبادة القبور هي الأساس ، وما عبدت الأشجار والأحجار إلا تبعا لها، وإليك لمحة تاريخية مختصرة:
الفلاسفة : صرح الرازي قائلا : (إن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات ، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض) انظر "جهود علماء الحنفية" ص(41).
الهنود : ذكر صاحب كتاب "المنار" 3/220 قال : (في (نبارس) في الهند قبر آدم أبي البشر وزوجه وأمه، وجميعها تعبد بالطواف حولها والتمسح بها وبذل الأموال والنذور...) اهـ بتصرف.فيا ترى من أين جاءت أم آدم ؟!!(103/9)
البوذية : تعبد (بوذا), ومعنى بوذا عندهم العالم ، وله تسمية أيضا (يسكيا) أي : المعتكف ، وقد ترك زوجته وانصرف إلى الزهد والتقشف ودعا إلى تخليص الإنسان من آلامه ، والبوذية تعبد بوذا وتعتقد أنه ابن الله ، وقد عملت له التماثيل العظيمة ، والمعابد الكبيرة وتصلي له وتعتقد أنه سيدخلها الجنة، وأنه يتحمل جميع أخطائهم ، وأنه ينزل عليه الوحي آخر عمره, فقالت البوذية ما هذا بشر إن هو إلا إله عظيم.
اليهود والنصارى: لقد كثر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وتقدم ذكرها، وحذر أمته من ذلك. وبما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن اليهود والنصارى عرفنا أنهم شر القبورية.
العرب: كانت في الجاهلية تعبد الأصنام وهذا أمر معروف, ومما يدل على أن العرب كانوا يعبدون القبور ما جاء من حديث بريدة عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " فقد علل العلماء أن النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام كانت من باب الخوف على المسلمين من التأثر بما كانت عليه الجاهلية من عبادة القبور، ومن باب سد ذريعة الشرك، ولما شرع لهم ذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية النسائي : ((ولا تقولوا هجرا)) أي: فحشا وأفحش الفحش الشرك بالله.
فالقبورية في أوساط المسلمين تعد وارثة لأصحاب الديانات المذكورة هنا ، وهذا جزاء من لم يهتد بهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يصير عرضة لأتباع شياطين الجن والإنس الأولين منهم والآخرين ، فبئست الوراثة هذه، وبئس الوارثون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أول من أسس عبادة القبور في أمة الإسلام(103/10)
اعلم أخي المسلم : أن الإسلام جاء بمحاربة الشرك والوثنية بكل أصنافها، وما مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وحارب الشركيات، حتى قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة ولكن بالتحريش بينهم)) رواه مسلم عن جابر .
واستمرت أمة الإسلام في عافية من هذه الشركيات مدة من الزمن، وقد كان عصر السلف (الصحابة والتابعين وأتباع التابعين) هو أزكى العصور وأتقاها وبعد انقراض عصر السلف بمدة ظهر دعاة الخرافة والأوهام، وكان أول من باشر تأسيس عبادة القبور هم الباطنية حين قامت دولتهم في مصر، وفي بلاد المغرب، فأقاموا المآتم والمزارات، وبنوا المشاهد والقباب، وهم أول من أسس ضريح الحسين في مصر وهو من الكذب الصراح لأن الحسين قتل في كربلا ، ولا دليل على نقله بل هذا كذب باتفاق .
وسنوا بدعة الموالد، مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين، ومولد الخليفة منهم كما في كتاب "موالد الأولياء في مصر"ص(43)، ولكن الباطنية لم يستطيعوا أن يتوسعوا كثيرا، فقد كانت الشركيات تكاد أن تكون محصورة في الأماكن التي للباطنيين عليهاسلطة، لأن الناس كانوا متنكرين للباطنيين، ولكثرة المناوئين لهم من المسلمين ، ولا يخفى عليك أن الباطنية فرق كثيرة في ظاهر الأمر وهم في الحقيقة يرجعون إلى أصول متفقة على هدم الإسلام من أساسه، ولهذا حكم علماء المسلمين على الباطنية بأنهم أكفر من اليهود والنصارى لأنهم عمدوا إلى هدم الإسلام من أساسه، فقد كانوا في منتهى الزندقة والنفاق، وقد استمرت دولة العبيديين الباطنيين في مصر من عام (358-567).
انظر "البداية والنهاية" لابن كثير، و"تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري، وخطط المقريزي".
أعداء الإسلام يحرصون على نشر الدعوة القبورية(103/11)
يذكر المؤرخون أن القائد الفرنسي (نابليون) كان يحضر حفلات (المولد) ويشهد حلقات الذكر مع المتصوفة ، وفعل مثل هذا ـ فيما بعد ـ المندوب السامي البريطاني، يقول الدكتور فروخ : (ومن أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يغدقون الجاه والمال على الصوفية فرب مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقة من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقه من حلقات الذكر ويقضي هنالك زيارة سياسية تستغرق الساعات ، أليس التصوف الذي على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم ؟) نقلا من كتاب "الألوهية في العقايد الشعبية"ص(36-37).
قلت: ولما استتب الأمر للشيوعية في المحافظات الجنوبية اليمنية بدأت الشيوعية تحارب القبورية, ففوجئنا بترك القبورية تمارس الشركيات والخرافات, فأخبرنا أن زعماء الروس وجهوا اللوم للشيوعيين في البلاد لماذا يحاربون هؤلاء وهم لا يشكلون خطرا عليهم بل يشغلون الناس بالموالد والحضرات بحيث لا يلتفتون إلى مبادئ الأعداء ولا إلى إصلاح أحوال المسلمين .
وذكر الدكتور موسى الموسوي في كتابه "الشيعة والتصحيح"ص(99) قائلا : (ولكن الذي لا شك فيه أن ضرب السيوف على الرؤوس, وشج الرأس حدادا على الحسين في يوم العاشر من محرم تسرب إلى إيران والعراق من الهند إبان الاحتلال الانجليزي لتلك البلاد، وكان الانجليز هم الذين استغلوا جهل الشيعة وسذاجتهم وحبهم الجارف للإمام الحسين فعلموهم ضرب القامات على الرؤوس, وحتى إلى عهد قريب كانت السفارة البريطانية في طهران وبغداد تمول المواكب الحسينية التي كانت تظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة).
قلت: هذا النقل يكفي للتدليل عند المنصفين والعقلاء أن دعاة القبورية جرثومة خبيثة في أوساط المسلمين تسعى لتدمير الأمة الإسلامية من كل الجهات، من جهة العقيدة والعبادة والسياسة والاقتصاد، وغير ذلك.
خطط أعداء الإسلام في المحافظة على الأصنام والأوثان باسم الآثار(103/12)
مما نجم في عصرنا بشكل واسع جدا وبصورة جديدة قضية تعظيم الآثار ، وقضية تعظيم الآثار جاءتنا من قبل اليهود والنصارى, ومرادهم بالآثار ما خلفته الأمم السابقة من آثار ، ويدخل في ذلك الأصنام والأهرام والأوثان والضرائح والمشاهد والقباب، وقد حرص أعداؤنا أن يحيوا هذه الجاهلية في أوساط المسلمين عموما، فلا تجد دولة مسلمة إلا وهي تطالب بالاعتناء بالآثار, على تفاوت في فهم الاعتناء بالآثار وما هذا إلا استجابة لما تدعو إليه دول الكفر من يهود ونصارى وغيرهم, وقد جعلت منظمات تقوم بذلك, فمثلا عندنا في اليمن قامت منظمة اليونسكو بفتح مدارس باسم الآثار ، وقد تكلمنا عن شيء من ذلك في رسالة مستقلة, وقد استغل اليهود والنصارى قضية إحياء الآثار التي في بلاد المسلمين لأغراض كثيرة أهمها:
التجسس على المسلمين ومعرفة أحوالهم بدقة, حتى إنهم في بعض الأوقات يقومون بتحديد البيوت والأنهار والزراعة.
التعرف على مناجم الذهب والفضة وغير ذلك من الكنوز الأرضية في البلاد.
إحياء عبادة الأصنام والأوثان باسم أنها حق الآباء والأجداد وأنها حضارتهم.
إحياء النعرات الجاهلية من فرعونية، وفينقية، وكنعانية، وسبئية، وشعوبية، وبابلية، وحميريه , وغير ذلك، فأصبح كل بلد يفاخر البلد الآخر بمجده العريق على حد زعمه ، ولا يخفى على المسلم اللبيب ماذا يعمل هذا في أمة الإسلام من تفريق وتمزيق لا حدود له.
الوصول إلى تحصيل المال: وهذا واضح إذ أن أماكن الآثار يدعى الناس إلى زيارتها ويعمل الدعايات العريضة لذلك، ومن ذلك ما ذكره عبد القدوس الأنصاري : (أن الحجر الذي جلس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد بني ظفر رآه في خزانة زجاجية عالية بمدخل دار الكتب المصرية ، وعلم من المدير العام أن شخصا نقله من المدينة إلى مصر وباعه للدار بثمن كبير) "آثار المدينة المنورة"ص(131).(103/13)
الحصول على الجاه والشرف بطريقة مزورة، ألا ترى أنهم ينسبون أشياء إلى أشخاص فيحصل لهم جاه وشرف وهي دعايات كاذبة وما أكثرها.
الوقوع في الاختلاط بين النساء والرجال حال زيارة الآثار وحال التوظيف، وأنت تلاحظ أنهم قد جعلوا قضية الآثار تابعة لوزارة السياحة ، وصارت الدول الإسلامية تعتني بالآثار بما لم يكن معروفا ، وما هذا إلا استجابة لأعداء الإسلام فلعنة الله على اليهود والنصارى .
أصناف دعاة القبورية والخرافة في الأمة الإسلامية
لا يخفى عليك أيها المسلم الكريم أن أصناف دعاة القبورية كثيرة ولكني سأذكر أبرزهم وأخطرهم وهم قسمان:
شياطين الجن
شياطين الإنس
أما شياطين الجن فقد قال الله في كتابه الكريم :{ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ]، وقال تعالى :{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام]، وقال تعالى :{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون}[يس]، وقال تعالى :{إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء]، ومهما خفي على المستجيبين لشياطين الجن الخطر فسيظهر ذلك الخطر يوم القيامة، قال تعالى :{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم].(103/14)
فاتضح من هذه الآيات أن كل عبادة صرفت لغير الله فهي في الحقيقة للشيطان، وإن كان العابد قصد غير الشيطان كالأنبياء والمرسلين والملائكة، وغيرهم، لأن الشيطان هو الذي زين هذه العبادة لأصحابها ودعاهم إليها، وأما غيره من الصالحين والحيوانات والجمادات فلم تدع إلى عبادتها قط, والعبد إذا أطاع الشيطان في عبادة غير الله فقد عبد الشيطان حقيقة لأنه نفذ ما دعاه إليه الشيطان ودفعه إليه. وهذا الصنف هو أساس للأصناف الأخرى التي شاركت في صرف العبادة لغير الله عز وجل.
وأما شياطين الإنس فهم صنفان:
الصنف الأول: الداخلي وهم :
السحرة
الكهان
المنجمون
وهؤلاء الأصناف يتعاملون مع شياطين الجن مباشرة، قال تعالى :{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام]، وقال تعالى :{ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله} [الأنعام]، وقال تعالى :{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}[الشعراء]، فالسحرة والمنجمون والكهان داخلون في آية الاستمتاع دخولا أوليا لأن الاستمتاع بالجن الكفار تحقق لهم حيث إن شياطين الجن كانوا يحترمونهم ويخبرونهم وينفذون أوامرهم، أما بقية الكفار والضلال من الإنس فلم يستمتعوا بشياطين الجن ظاهرا، وإذا أردت أن تعرف مدى ما قام به السحرة والمنجمون والكهان من نشر الشركيات فانظر غير مأمور "فتح المنان في جمع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجان".(103/15)
4- المبتدعة القبورية الضلال، وهؤلاء القبورية متفاوتون قلة وكثرة، وقوة وضعفا في نشر الشركيات، فذاك يدعو إلى شد الرحال إلى الضرائح، وذاك يدعو إلى الطواف حولها والسجود عندها والذبح والنذر لها، وذاك يدعو إلى طلب المدد والغوث منها، وذاك يذهب يقيمها بنفسه، وذاك وذاك.
الصنف الثاني : الخارجي :
ألا وهم الكفار من مجوس، ويهود، ونصارى، وهنود، وغيرهم، ذكر صاحب كتاب "مصادر التلقي عند الصوفية" أن الصوفية تلقت شركياتها من اليهود والنصارى، والمجوس، والهنود، انظر ص(106-107) وقد بسط أمثلة توضح ذلك لا يتسع المقام لذكرها، ولو سألنا باختصار من أين جاءت إلينا القبورية بجميع أنواعها؟ لما كان هناك إلا جواب واحد أنها من عند غير المسلمين، وأنها ما دخلت على هؤلاء المفتونين إلا عند أن تلقوا من أعدائهم وتقاربوا معهم وقرءوا كتبهم , ومن أسباب انتشار الشركيات في أمة الإسلام ما يلي :
وجود الأئمة المضلين في وسط أمة الإسلام ، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)) رواه أحمد والطبراني عن أبي الدرداء، وهو صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا من الناس ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) فالأئمة المضلون يتصدرون للفتوى والتأليف والمناظرة والردود على علماء السلف, ويحركون الدعوة إلى أباطيلهم وخرافاتهم ويتزعمون فرقا وأحزابا ، وتارة دولا وشعوبا، فكيف لا يخاف الرسول - صلى الله عليه وسلم -على أمته من الواحد من هؤلاء فكيف إذا كانوا أكثر من ذلك اللهم سلم سلم .(103/16)
وجود علماء النفاق في وسط الأمة الإسلامية ، عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) رواه أحمد ، وقد جاء عن عمران بن حصين وهو عند الطبراني والبيهقي في "الشعب" وهو صحيح.
فعلماء النفاق والزندقة يعمدون إلى هدم الإسلام من أساسه لأنهم لا يريدون الإسلام ، وهم الذين يعملون مع الجهات التي تسعى إلى محاربة الإسلام والمسلمين من الخارج كاليهود والنصارى والمجوس ، ومن الداخل كالحكام المنحرفين والأئمة المضلين ، ويظهرون لكل جهة وجها يتناسب معها ، وعلماء النفاق كثيرا ما يكونون حريصين على إبقاء الأمة على انحرافها بطرق شتى وأساليب متنوعة. فلو سلمت الأمة من هذين الصنفين لكانت بخير وعلى خير ، ولكن أنى لها أن تسلم مع وجود هؤلاء ، فالواجب على أمة الإسلام أن تتعرف على علماء الكتاب والسنة السالكين على ما كان عليه سلفهم الصالح ، وإلا فهي ألعوبة بين أيدي العابثين .
رضوخ كثير من أمة الإسلام للجهل بدين الله: من المعلوم أنه يجب على أمة الإسلام أن تتعلم دين الله ولابد ، لأن المنتسب إلى شيء لا بد أن يكون أعلم به من غيره, ولكن مع الأسف الشديد لم تجعل الأمة المسلمة نصب عينها تعلم دينها, ولا تنسى أن الجهل عدو الرسل والرسالات السماوية ، قال ابن عيينة رحمه الله : (العلم بمنزلة الإسلام والجهل بمنزلة الكفر) ولا تسأل عما فعله الجهل بأمة الإسلام حين استسلمت له . روى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن نقضا الصلاة)) فتعلمي الإسلام أيتها الأمة المقهورة حتى تكوني بإذن الله منصورة ، وإذا كانت الأمة تنقض الصلاة التي هي أظهر أركان الإسلام فمن باب أولى أن تنقض ما كان أخفى منها من الشرك وغيره .(103/17)
جهل الأمة بمؤامرة أعدائها عليها خصوصا اليهود والنصارى، لا يخفى أن الإسلام دين حيطة وحذر ويقظة ، وأهله كذلك لأنهم يعلمون أن عدوهم شاهر سيفه ولكن مع الأسف أن عددا من المسلمين ليس بالقليل له ثقة كبيرة بأعداء دينه وحسن ظن بهم وبسبب ذلك دخل على الأمة من مبادئ أعدائها وضلالهم الكثير, ومن أوائل ذلك دخول السحر والتنجيم وما لحق بهما.
وبقيت أسباب ليس هذا محل ذكرها كسكوت بعض العلماء عن هذه الشرور, وضعف مقاومة بعضهم لذلك ، وعدم اعتنائهم بجمع كلمتهم وتوحيد صفهم على الحق والله المستعان.
غلاة الشيعة يتلقون الدعوة القبورية
لما أقيمت دولة غلاة الشيعة على أيدي (بني بويه) في العراق وإيران باسم الخلافة العباسية، قام معز الدولة أحمد بن بويه سنة (352) بإصدار منشور حاسم يأمر الناس قاطبة بارتداء ملابس الحزن, وإغلاق الأسواق وإيصاد الحوانيت, وتحريم البيع والشراء, وتعطيل المطابخ والمطاعم، وأمر أن يكون النوح شاملا للرجال والنساء، فتخرج النساء مرسلات الشعور، ملطخات الوجوه، مشققات الثياب، صارخات، نادبات متوجهات إلى قبر الحسين. انظر "البداية والنهاية"8/204 واستمر هذا الأمر من قبل الرافضة في العراق وإيران، إقتداءا بأول مؤسس لهذا الفعل الشنيع أحمد بن بويه كلما أتيحت لهم فرصة، وتوسع أكثر في عهد قيام الدولة الصفوية وانتشر في بلاد فارس وما تبعها في الرفض إلى أيامنا هذه، وأما ضرب الأكتاف بالسلاسل في يوم عاشوراء وشج الرؤوس والرمي بالحجارة فهذا حصل مؤخرا، انظر كتاب "الشيعة والتصحيح"ص(99).
تنبيه: ذكر اليعقوبي في "تاريخه" (أن عبد الملك بن مروان بنى قبة الصخرة في بيت المقدس ودعا الناس أن يحجوا إليها) هذا مجمل القصة، وهذه القصة لا أساس لها من الصحة للأمور التالية:
لا نعلم من ذكرها إلا اليعقوبي ، والمؤرخين لم يذكروها مع أنها قضية تستدعي التناقل لها وتكلم العلماء والمؤرخون عليها، وهذا كاف في ردها.(103/18)
اليعقوبي من أعيان الرافضة فقد ذكره العاملي في كتابه "أعيان الشيعة" وكان ميالا إلى العلويين، وكان يكره العرب ويتعصب للموالي. وهذه كافية في تضعيف القصة حيث إن اليعقوبي غير مأمون .
من المعلوم أن الرافضة بينهم وبين بني أمية عداء شديد وقد حملهم هذا العداء على الكذب كثيرا على بني أمية للتشويه بهم، والطعن فيهم، فلا يستبعد أن هذه القصة من هذا الباب.
الصوفية تنشر الدعوة القبورية
لقد تلقت القبورية أفكارها من عدة جهات، وإليك ذكر بعض منها باختصار:
من ذلك : التلقي عن رهابنة النصارى، قال إبراهيم بن أدهم : (تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت يا سمعان: منذ كم أنت في صومعتك؟ قال: منذ سبعين ـ إلى أن قال : ـ فإنهم يأتون كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة، فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد) قال إبراهيم بن أدهم : (فوقع ذلك في قلبي) وانظر كيف صارت القبورية تحدد زيارة سنوية لأقطابها وأغواثها وضرائحها، فهذا التصريح واضح أن القبورية استفيدت من الرهبان رجال الديانة النصرانية، وعلى سبيل المثال قضية المولد فإنه أخذ من النصارى تشبها بهم. والمولد الذي أخذته القبورية من النصارى هو مولد المسيح ـ عليه السلام ـ ولكن انظر إلى إقامة الموالد عند القبورية فقد ملئت الدنيا بالموالد لمئات الأقطاب، والأوتاد، وغيرهم من دجاجلة القبورية، وانظر إلى قضية ادعاء القبورية أن أقطابها يرون الله عيانا في الدنيا، يتجلى لهم كما تجلى للجبل، فإن هذا مأخوذ من النصارى فإنهم ينسبون إلى المسيح عليه السلام أنه قال : (أجيعوا أكبادكم واعروا أجسامكم لعل قلوبكم ترى الله) وقد استدل بهذه المقولة عن المسيح أبو طالب الصوفي صاحب كتاب "قوت القلوب".(103/19)
ولما بدأ غلاة الشيعة ببناء القباب والمشاهد والمساجد على القبور تبعتهم الصوفية. وإليك مثالا واحدا وهو قبر معروف الكرخي الذي تسميه القبورية خصوصا قبورية الصوفية (الترياق المجرب) فإن معروف الكرخي بنى له مسجدا في مقبرة وسمي بمسجد الجنائز فلما توفي دفن في هذا المسجد في بغداد ، وقد كان معروفا بوقوعه في بدع ومنها عدم الزواج، واتخاذ الزوايا, وبناء المسجد على المقبرة، وهذا هو أول تلق عن الشيعة من قبل الدعوة القبورية، واتخذت القبورية المذكورة قبر معروف الكرخي منبعا للبدع والخرافة من بناء المساجد على القبور، وبناء المشاهد، والتوجه إليها، وتحري العبادة عندها وغير ذلك، واهتمت القبورية الصوفية بقبر معروف الكرخي في وسط القبورية الشيعية في بغداد على مرور الزمان، وبالمسجد الذي فيه القبر، فكم تجديد! وكم زخرفة للمسجد!, وبنيت منارة عظيمة للمسجد في القرن السادس للهجرة، ودفن في مسجد معروف الكرخي الأمير علي بن الخليفة الناصر لدين الله العباسي ، مما يدلك على أن المسجد للصوفية . انظر كتاب معروف الكرخي.
مزاعم دعاة القبورية في الأولياء
أخي الكريم: لقد قسم القرآن الكريم الأولياء إلى قسمين:
أولياء الرحمن.
أولياء الشيطان.(103/20)
أما أولياء الرحمن : فقد قال تعالى :{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} [يونس]، وقال تعالى :{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة]، وقال تعالى :{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة].
وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...)) فهذه بعض صفات أولياء الرحمن وقد أشبع هذا الموضوع شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"ننصح باقتنائه والاستفادة منه, وإليك الكلام على مزاعم القبورية في الأولياء :
تفريخ الأولياءعند القبورية
أيها القارئ الكريم : لا يخفاك أن دعاة الوثنية استعملوا الكلمة العظيمة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية وهي (أولياء الله) لتفريخ معبودات من دون الله كثيرة، قد لا يتصور في الخيال، ولا يخطر بالبال، وأجدني مضطرا إلى سرد قائمة فيها ضرائح من أنواع وأصناف من الجن والإنس والحيوانات وغير ذلك:(103/21)
1- بناء قباب ومساجد على قبور باسم الصحابة ومن تبعهم وغيرهم كذبا وزورا، كما تقدم .
تفريخ الأولياء عن طريق جعل الميت الواحد له عدة مشاهد يجتمع الناس حوله، وعلى سبيل المثال الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فإنه يدعى أنه مقبور في كربلاء ولكن مصر مملوءة بالمشاهد الحسينية، وقد ذكر ابن تيمية كما في "المجموع" 27/485-486 قائلا : (فقد حدثني طائفة من الثقات عن الشيخ/ أبي عبد الله محمد بن علي الغنوي المعروف بابن دقيق العيد ، وطائفة عن الشيخ/ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي ، وطائفة عن الشيخ/ أبي محمد بن القسطلاني ، وطائفة عن الشيخ/أبي عبد الله محمد القرطبي صاحب "التفسير" و"شرح أسماء الله الحسنى" ، وطائفة عن الشيخ/عبد العزيز الديريني, كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه ، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثني من هؤلاء أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول : (إنه كذب، وإنه ليس فيه الحسين ولا غيره)، والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال : (إن فيه نصرانيا) بل القرطبي والقسطلاني ذكرا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما، وبينا فيها أنه كذب، كما ذكره أبو الخطاب بن دحية، وابن دحية هو الذي بنى له الكامل دار الحديث الكاملية. وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات، وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه بل هو الإجماع من هؤلاء. ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم) ومشاهد الحسين منتشرة في بلاد الأعاجم بكثرة كإيران وباكستان والهند وغير ذلك، وهناك مشاهد لرأسه رضي الله عنه كما يوجد مشهد في سفح جبل (الجوشن) في غرب حلب ، وتوجد أربعة في أماكن يزعمون أن فيها رأس الحسين .
الأول: دمشق
الثاني: الحنانة بين الكوفة والنجف.
الثالث: بالمدينة عند أمه فاطمة رضي الله عنها .(103/22)
الرابع: في كربلاء ، ذكر هذا صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(288) والمشاهد التي بنيت باسم رأس الحسين رضي الله عنه كثيرة، ومعلوم أن هذا حصل من قبل الباطنية والرافضة ، وهم تجار الكذب قديما وحديثا، وليس تفريخ الأولياء عن طريق افتراء أكثر من ضريح للشخص متوقفا على الحسين بن علي رضي الله عنهما بل قد حصل هذا في غيره، (كالسيد الأربعين وأما أولاد عنان فهم يملؤون الأرض ) نقلا عن كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(28) ولا يخفى عليك أن هذه القبور المتكاثرة المتباعدة للشخص الواحد زيادة في الدجل وإمعان في المكر والخدع للمسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تفريخ الضرائح عن طريق وصية باني المسجد أن يدفن فيه. لقد قام دعاة الدجل والخرافة بمطالبة أهل الخير ببناء المساجد ثم بمطالبتهم أن يوصوا بدفنهم فيها إذا ماتوا حتى صار الرجل يبني المسجد من أجل أن يدفن فيه، وقال دعاة البدع والضلالات إنك إذا دفنت في المسجد صرت من الأولياء وقرأنا عليك الفاتحة وذكرناك مع الأولياء, ولهذا كثرت الضرائح في المساجد ، فلا يجوز أبدا الوصية بذلك, ولايجوز التنفيذ لها بحال, والله المستعان .
تفريخ أولياء عن طريق دفن الحكام والأمراء والملوك في المساجد، وهذا يحصل بكثرة وغالب ما يكون من باب التزلف إلى الحكام من قبل القبورية، وأكثر ما يكون هؤلاء الحكام من أهل الظلم والجور، وسنذكر مجموعة من الضرائح لأئمة الجور عند ذكرنا للضرائح التي كانت تعبد في اليمن.
تفريخ الضرائح التي تعبد من دون الله عن طريق ادعاء القبورية أنها رأت في المنام أن فلانا يطالب بضرب المقامات له وإقامة المشاهد، وعلى سبيل المثال القبورية التي في مصر ادعت أنها رأت الحسين بن علي رضي الله عنهما يظهر لها ويقول : ابنوا لي هنا مشهدا.(103/23)
انظر ما قاله البسيوني المصدر السابق ص(28) وما أكثر ما بنيت ضرائح باسم الرؤيا المنامية, وادعاء هذه الرؤيا سهل جدا على أصحاب الدجل والمرتزقة، وإن كان الواحد قد رأى رؤيا فليعلم أنها رؤيا شيطانية لا يجوز قبولها فضلا عن تنفيذها.
تفريخ الضرائح عن طريق ادعاء رؤية النور في المكان الفلاني. ادعاء أحد القبورين أنه رأى في المكان الفلاني نورا, فلا بد أن يكون ذلك المكان فيه ولي, فلا بد
من بناء قبة له ومشهد من أجل أن يتبرك به، كما حصل ذلك كثيرا ، ومن ذلك ما تقدم ذكره في قبر النبي أيوب عليه السلام .
7- تفريخ الأولياء عن طريق تقديس المجانين، قد تستغرب أخي المسلم من هذا البند ولكنه حقيقة, ففي مصر وغيرها يقدسون المجانين ويكرمونهم لأنهم يدعون أن عقولهم محبوسة في السماء مستغرقة في التقوى، ولهذا يبقى بدون رقيب في شهواته، قال الشاعر الصوفي في هذا الصنف:
هم معشر حلوا النظام وخرقوا السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز يسجد على أبوابه العقل
وقد أخطأ بعض رواة الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)) فغيرت لفظة (فقراء) إلى لفظة (البله) ولفظة البله من جهة سندها ضعيفة لأنها من طريق مصعب بن ماهان وفيه ضعف، وفيها أحمد بن عيسى الخشاب وله مناكير.
وأما من جهة متنها فكأنها من وضع الزنادقة، ومن المعلوم في ديننا أن الجنون سبب لرفع التكليف عن المجانين, فانظر إلى الدجل القبوري كيف يفضلون المجانين على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واعتبر بما كان مشهورا في اليمن حيث يدعي الدجالون أنهم رأوا الخضر فإذا سئلوا كيف هو؟ فيذكرون أنه لابس ثيابا ممزقة متسخة، وإذا سئلوا أين رأيتموه؟ قالوا: في المزبلة، وقد ذكر لنا بعض الإخوة أن الأهدل الذي ضريحه في لواء إب كان مجنونا.(103/24)
8- تفريخ الأولياء عن ادعاء القبورية أن الأولياء يسكنون في الآبار والكهوف وقمم الجبال، وغير ذلك، فقد ذكر البسيوني في كتابه "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(27) أن نمر بن سرحان عد ما يزيد على (583) بئرا في فلسطين تقدس لأن المشهور عندهم أن الأولياء يسكنونها ويسكنون في غار حراء وفي جبل الزيتون في لبنان، كما ذكر ذلك البسيوني في المصدر نفسه, كما يسكنون وراء البحر المحيط، وفي قمم الجبال.
9- تفريخ الأولياء عن طريق ادعاء القبورية للكرامات. إن باب ادعاء الكرامات عند أصحاب الدجل باب واسع جدا يستوعب أنواعا من الكفر والشرك وأنواعا من الفساد بل يأتي على الإسلام من أساسه . وإليك ما قاله البسيوني في كتابه "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(44) قال : (والقارئ للطبقات الكبرى للشعراني يجد صورا بالغة السوء لسلطان المتصوفة وما كان يحدث منهم من رذائل وكبائر تحت شعار الكرامات، حتى إن الناس فقدوا كرامتهم معهم، ويتحدث الشعراني ـ وهو من الغلاة المنحرفين المخرفين ـ عن الصوفية الذين تحرروا من أوامر الدين ونواهيه في العصرين المملوكي والعثماني، فالخواص والمتبولي والدشطوطي كانوا لا يقيمون الصلاة أبدا وغيرهم كان يفعل الفاحشة على ملأ من الناس ، وكانت فرق الأحمدية والبرهانية والقادرية وما إليها لا تلتزم أوامر الدين فتهمل الصلاة وترتكب الفاحشة, كما يعرض الشعراني في طبقاته ص(39) صورة مزرية لنفوذ المتصوفة الكبار على المريدين والأتباع بعد أن فرضوه على السلاطين أنفسهم فخضعوا لأصحاب الولاية المزعومة وآمنوا بدجلهم واستحالوا في أيديهم أداة هدم بصورة يعوزها العقل وينقضها الحس بالذوق السليم.(103/25)
أخي الكريم : لا يخفاك مدى حرص زنادقة الصوفية على انتشار هذه المفاسد بل يفتخرون بهاويوصون بها عند موتهم لكي تعمل عند الضرائح بعد مماتهم, وهي عندهم كرامات ويا ويل من حذر منها أو طعن فيهم, وعلى سبيل المثال أحمد البدوي : الذي بلغ الشرك عند ضريحه عنان السماء لو قرأت في كتاب "الطبقات الكبرى" للشعراني الوثني لوجدت أمورا كفرية وقد نقل أخونا العلامة شمس الدين السلفي في كتابه الفذ "جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية" نبذة كبيرة من ذلك 2/741-752 ومن ذلك قول البدوي: ( أنه يرعى الأسماك في البحار والوحوش في القفار قال وأحميهم من بعضهم بعضا ألا أستطيع أن أحمي من يحضر مولدي) وادعاؤه للعلم والقدرة المطلقة أمر ملئت به الكتب ، وهناك من يقول : إن احمد البدوي خرافة ولا يوجد شخص في القبر الذي يعبد في مصر، وإذا قرأت مقدمة كتاب "شمس المعارف" وهو كتاب كفر وشرك باتفاق العلماء لوجدت مجموعة كثيرة من الزنادقة قد وافقوا على تأليف هذا الكتاب باسم أنهم من أهل الكرامات.
فاحذر أن تقبل الكرامات إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة, وعلى يدي علماء الحديث الذين فضحوا أصحاب الجهالات باسم الكرامات, وأكرم الكرامات الاستقامة على دين الله قال تعالى: {ألا إن أو لياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون{ [يونس] .
10-تفريخ أولياء من اليهود والنصارى والمجوس والأقباط والهندوس .(103/26)
أخي المسلم: لقد هان على بعض المسلمين دينهم حتى صار من السهل عليهم أن يعبدوا ضرائح الكفار ، وقد تستبعد أن يحصل من بعض المسلمين التوجه إلى قبور وضرائح دفن فيها كفار قائلا: إذا كان الإسلام يحارب توجه المسلمين إلى قبور الأنبياء والصالحين فكيف يهون على هؤلاء أن يذهبوا إلى عبادة قبور الكافرين، ولقد ذكر صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(29) قال : (فعندنا قبر أبي حصيرة ذلك الولي اليهودي الذي انكشف انتماؤه لليهود ـ فقط ـ بعد أن بدأ اليهود يترددون على قبره في عمق الدلتا) وقال في نفس المصدر : (كما رأيت المسلمين في بعض المناسبات يرسمون الصليب على جباه المحسودين والمرضى, ويذهبون إلى الكنيسة ليستخرج لهم القسيس جنيا استعبد أحدهم...) وفي المصدر نفسه ذكر (أن بعض المسلمين في الهند يعبدون ضريحا من الهندوس عباد البقر) وفي المصدر نفسه ص(30) (وفي مصر يقصد المصريون المسلمون والنصارى على السواء كنيسة (سانتا تريزا) بشبرا للتبرك وقضاء الحاجات) ، وفي ص(31) ذكر زيارة بعض المسلمين للضريح القبطي (العجايبي) بمنطقة (المنيا) وفي إحدى قرى المنيا يذهب المسلمون إلى ضريح (أبي ناعون) وهو من الأصنام الفرعونية، المصدر نفسه.(103/27)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "المجموع" 27/460 قائلا : (وكذلك بدمشق الجانب الشرقي مشهد يقال إنه قبر أبي بن كعب وقد اتفق أهل العلم على أن أبي لم يقدم دمشق وإنما مات بالمدينة فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني وهذا غير مستبعد فإن اليهود والنصارى هم السابقون في تعظيم القبور والمشاهد...) وذكر بعض المؤلفين العصريين أن (بوذيا) كان يعبد في الهند ثم تحول إلى ولي ، وفي السودان عملت قبة على قبر الشيوعي (يانغ تشي تشنغ) في مدينة (ودمدتي) وفي الجزائر ضريح يعبده المسلمون ثم اكتشف أنه قبر مسيحي وجدوا عليه الصليب في قبره ، وقد تقدم ذكر تحويل قبر نصراني في مصر إلى مشهد للحسين بن علي رضي الله عنهما. ولو تتبعنا هذا لطال بنا المقام ولكن ما ذكر فيه الكفاية.
تفريخ أولياء من الكلاب والحمير والخنازير وسائر الحيوانات.
إن عباد القبور لا يعافون شيئا بل يجعلون لهم أصناما من أحقر أنواع الحيوانات كالكلاب والحمير . قال صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية" : (العقلية العامية استباحت طواف حمار سيدي عبد العالي...).
وقال : (رأيت بعيني قبر كته شاه) الكلب البنغالي ص(29) وفي ص(22) قال : (وقد حدثت عن حمير وكلاب يطاف حولها) وقال أيضا : (رأيت بنفسي في بنجلاديش (دكا) مزارا لكلب يدعوه العامة هنالك (كته شاه) وهناك أيضا ضب وتمساح وسلحفاه تعد من الأولياء. وذكر بعض المؤلفين العصريين أنه يوجد مقام الشيخ خنيزير( بالقرب من عمان وأصله خنزير بري قتله صياد . وذكر صاحب كتاب " الانحرافات العقدية والعلمية" (ص300) أن البلدية في مصر عزمت على نقل ضريح من إحدى الطرق ففوجئت أن القبر فيه عظام حمار. وذكر غير واحد من المؤلفين العصرين أنه يوجد حية في مصر تنسب إليها المعجزات وتعبد بكل أنواع العبادات.
تفريخ أولياء من الأشجار. لا يخفى على من له اطلاع على أحوال المسلمين(103/28)
أن هنالك أشجارا يعتقد أهلها ولايتها ويقبلون عليها بالموالد وأنواع من الشركيات، قال صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية" ص(126) : (وأهم النباتات التي يعتقدون ولايتها هي الأشجار الضخمة وأجذاع النخل فإن هذه لو رأوها يقبلونها مثل تلك الشجرة التي تدعى الشيخة خضرة فإن الزائر يجدهم يتبركون بها ويقبلونها فضلا عن ترك أثرهم عليها معلقا بمسمار كما أن كل شجرة غليظة الساق يطلقون عليها سيدي الأربعين ، وأغلب هذه الأشجار من الجميز وكثيرا ما يقومون بعمل موالد لهذه الأشجار، وقال أيضا : (وفي مصر شجرة عتيقة في جهة المطرية يجئ إليها الناس مسلمين ونصارى ويتبركون بها وهي المسماه شجرة العذراء، وذكر أمثلة أخرى لا يتسع هذا المختصر لبسطها.
تفريخ الأولياء عن طريق ادعاء أثر من آثار بعض الصالحين كحذاء أو عمامة، أو راية، أو مكان جلس فيه، أو نظرة نظرها، أو حجرة حملها، أو شجرة استظل تحتها فهذه تعظم بدعوى أنها أولياء، وعلى سبيل المثال ما ذكره الشيخ/ المجذوب قال : (إن في اللاذقية حظيرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي...لا تزال حتى اليوم تزار وتبخر) انظر "الانحرافات العقدية" وكالحجرة النبوية المزعومة في حلب ، المصدر السابق ص(278) وكالخرقة الصوفية التي تدعيها الصوفية، وغير ذلك.(103/29)
تفريخ الأولياء عن طريق استخدام الزار الموطئ للرذيلة، الزار هو شيطان من شياطين الجن كثيرا ما يستخدم الزار مع النساء، وهذا الزار هو الموطئ للرذيلة، يقوم هذا الزار بالتسلط على المرأة فيأتي أهلها الحمقى والجهال إلى ساحر من السحرة فيخبرهم أن الزار يطلب التحكيم، وطريق التحكيم هي أن يؤتى بمزمر وتقوم ترقص المرأة أمام الرجال وتحصل منها حركات غريبة من تكشف وتقلب أمام الحاضرين، والشيطان الذي فيها هو الذي يجعلها تصل إلى هذه الأحوال ، فيتخاطب الساحر مع الشيطان فيتكلم الشيطان قائلا: أنا الخادم لفلان ابن فلان ويذكر الساحر الذي أرسله ، أما العوام الحمقى فالساحر عندهم من أولياء الله أو من الأقطاب، أو أو...فينطقه الساحر قائلا : ماذا تطلب؟ فيطلب الزار ـ شيطان من الجن ـ أن يذبح له في رأس السنة مثلا، أو أن تتزين له المرأة بأنواع من الزينة، أو تزور فلانا الساحر في كذا وكذا ، إلى غير ذلك، فيقوم الساحر من باب الدجل ويدعي أن الشيطان قد حكم واحتكم ويجعله في خرقة أو حديد أو...ويقال إن الجني فيها محبوس، هذه هي حقيقة الزار، ويصير هذا الجني مطاعا محترما تنفذ مطالبه رغبة أو رهبة، ويصير وليا لأنه خادم للقطب أو الساحر ، وقد كانت هذه الجريمة منتشرة في اليمن وغيرها ولكنها قلت مؤخرا بحمد الله.
تفريخ أولياء عن طريق الأحجار، لقد سفه بعض المسلمين عقولهم حتى بلغ بهم الأمر إلى عبادة الأحجار، وإليك ذكر مجموعة من الأحجار التي حازت عند الجهال ما لا يقدر عليه إلا الله، قال صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية"ص (130) :
حجر البحر : إذا استصحبه إنسان يركب البحر أمن الغرق.
حجر القمر: إذا علق على شجرة أثمرت وينفع من الصرع.
حجر المطر: إذا وضع في الماء تتغيم السماء وتمطر وربما يقع البرد والثلج.
حجر رقوس: إذا تختم به الإنسان زال عنه الهم والحزن.
حجر سبج: من لبس شيئا منه يأمن من العين.(103/30)
حجر سنليس: من استصحب منه شيئا ولو وزن قيراط أو أقل لم يظفر به عدوه أبدا ولا يغلبه.
حجر فرسلوس: إذا علقه إنسان لم يزل يتكلم بالحكمة مادام عليه ولا ينسى ذكر الله تعالى ليلا ولا نهارا، وينفع من عين السوء.
حجر مغناطيس: إذا وضع في مكان بطل عنه السحر وهربت منه الشياطين.
حجر مراد: تتبع الشياطين حامله ويعلمونه بما يريد.
حجر يشب: من استصحبه لم يغلبه في الحرب أحد ولا يحاجه أحد .
وفوق قبة البدوي حجر يدعى أن به أثرا لقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يوجد حجر يقدس في الجاهلية في نابلس بفلسطين فلما قوي الجهل في الأمة أطلق عليه (قبر الشيخ العمود).
وهذه الأحجار قد يطلق عليها الأحجار الكريمة.
وعلى كلٍ حذار حذار من الاعتماد على شيء من الأحجار باسم أنها كريمة ، فكل هذا من الخرافة.
تفريخ الأولياء عن طريق بناء قبة وضرائح ليس فيها شيء . فالقاعدة عند العوام إلا من رحمه الله هي (تحت كل قبة شيخ) فمن يسعى لجعل الدنيا مملؤة بالأولياء فلا يعجزه عن أن يقوم ببناء على هيئة قبة ويعمل لها شيئا من النورة والطلاء فتصير وليا، وإذا داوم هو مدة على التسريج والتبخير فذلك الختم على وجود ولي ، وعلى سبيل المثال قبة ابن علوان في يافع العليا (المنارة) كانت تعبد، وقد هدمت، مع العلم أن ابن علوان دفن في يفرس قريب من تعز ،ثم أخرج الإمام أحمد بن يحي حميد الدين رفاته من ذلك المكان وذهب به إلى تعز فوضعه في مكان مجهول كما قام بهدم القبر وتغيير أبواب المسجد كان هذا سنة 1362هـ ولا يزال السدنة يدجلون على الناس أن ابن علوان ما يزال في ضريحه . والأمثلة على هذه بالعشرات بل بالمئات. ويا ويل الناس المجاورين للولي المزعوم إن لم يقوموا بالزيارات والذبح والنذر، وما إلى ذلك من الشركيات، بل لقد استطاع أعداء الإسلام عن طريق تفريخ الضرائح أن يستعمروا بعض البلدان عن طريق تفريخ أولياء لا وجود لهم ، وإليك مختصر ما ذكر عنهم :(103/31)
قال الشيخ أحمد الباقوري وهو يتحدث عن الوسائل التي يريد أن يستخدمها العدو لاستعمار البلاد التي يريد قال : (وأخيرا اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحة وقباب على مسافات في هذا الطريق فأقبل الناس على القباب والضرائح، ظنا منهم أن فيها أولياء . نقلا من كتاب "تحذير الساجد..." ص(162-163).
ومن خلال هذا الإيضاح يتضح لكل ذي عينين أن أولياء القبورية يختلفون تماما عن أولياء الله .
وخلاصة الكلام: أن قضية تفريخ الأولياء على مستوى العالم الإسلامي قضية لا حدود لها فهي في ازدياد وهي مثل حال الجاهلية قبل الإسلام، فقد كان الجاهليون كلما استحسنوا شيئا عبدوه سواء كان شجرا أو حجرا أو غير ذلك، قال أبو رجاء العطاردي : (كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به) أخرجه البخاري في صحيحه 8/ رقم 4376 كتاب المغازي .
وهؤلاء كلما استحسنوا شيئا قالوا هو ولي.
فالله المسؤول أن ينصر هذه الأمة على محاربة الشرك والخرافة ، فمحاربتهم أهم من محاربة اليهود والنصارى.
أخي الكريم : أريد أن أنبهك على ما تخلعه الصوفية من ألقاب على من تسميهم أولياء ومن ذلك الأقطاب والأغواث والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء إلى غير ذلك من هرائهم , وأما منازلهم عند الصوفية فبعضهم بمنزلة جبريل وبعضهم بمنزلة إسرافيل وبعضهم وبعضهم ...إلى آخر تراهاتهم .
تنبيه : وقد قام بحشد تراهات الصوفية حول أوليائهم المدعو يوسف بن إسماعيل النبهاني في ((جامع كرامات الأولياء )) .
دعاة القبورية شوهوا بالإسلام(103/32)
لقد شوهت الفرق القبورية بالإسلام عند كثير من أعداء الإسلام شعوبا ودولا، قال صاحب كتاب "التوحيد في مسيرة العمل الإسلامي"ص(70) : (ومن هذه الأضرار أن كثيرا من غير المسلمين لما رأوا أفعال القبورية واعتقاداتهم وتصرفاتهم في هذه الموالد مع مشاركة بعض المنتسبين إلى العلم لهم في هذه الاحتفالات ممن لبسوا العمائم أساءوا الظن بدين الإسلام، وقالوا: لا خير في دين يأمر بهذا ويشرعه لأهله).
وقال الدكتور موسى الموسوي في كتابه "الشيعة والتصحيح"ص(99) وهو يتكلم عما يجري عند ضريح كربلا : (وقد قيل أن ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي في عهد الاحتلال الإنجليزي للعراق عندما زار لندن للتفاوض مع الإنجليز لإنهاء عهد الانتداب قال له الإنجليز : نحن في العراق لمساعدة الشعب العراقي كي ينهض بالسعادة وينعم بالخروج من الهمجية، ولقد أثار هذا الكلام ياسين الهاشمي فخرج من غرفة المفاوضات غاضبا غير أن الإنجليز اعتذروا منه بلباقة ثم طلبوا منه بكل احترام أن يشاهد فيلما وثائقيا عن العراق, فإذا به فيلم من المواكب الحسينية في شوارع النجف وكربلا والكاظمية تصور مشاهد مروعه ومقززة عن ضرب الهامات بالسلاسل وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له: هل أن شعبا مثقفا له من المدنية حظ قليل يعمل بنفسه هكذا؟).(103/33)
قلت: قد وجد المستشرقون بغيتهم في كتب القبورية وأحوالها فأخذوا يطعنون في الإسلام طعنا مباشرا بسبب ما وجدوه من أفعال بشعة باسم التدين والحب للصالحين، وهاهو أحد المستشرقين الإنجليز يجعل هذه الضرائح مثل أفعال اليهود ألا وهو صاحب كتاب "المصريون المحدثون" قال (ص167-168) : (ويحمل المسلمون ـ وبخاصية المصريون -على اختلاف مذاهبهم ـ ما عدا الوهابيين ـ للأولياء المتوفين احتراما وتقديسا لا سند لهم في القرآن أوالأحاديث أكثر مما يحملون للأحياء منهم، ويشيدون فوق أغلب قبور الأولياء المشهورين مساجد كبيرة جميلة وينصبون فوق قبور منهم أقل شهرة منهم بناءا صغيرا مبيضا بالكلس ومتوجا بقبة ... إلى أن قوله: وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون كما كان يفعل اليهود بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبييضها وزخرفتها وتغطية التركيبة أو التابوت أحيانا بغطاء حديد, وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياء كما كان يفعل اليهود). نقلا من"تحذير الساجد"ص(160-161).
وفود جماهير الناس إلى الضرائح
من المعلوم أن الضرائح المشهورة تحدد لها الموالد والزيارات للوفود عليها إما في السنة مرة أو مرتين أو أكثر، وعند موعد الزيارة للضريح الفلاني تحشد الحشود مما لا يتصوره متصور، وإليك بعض التقريرات والمعلومات:
ذكر البسيوني في كتابه "الألوهية في العقائد الشعبية" نقلا عن محمد الغزالي ، قال الغزالي : (لقد اهتمت حكومة انجلترا بالحالة الدينية في مصر فكان مما طمأنها على إيمان المصريين أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا، ذلك العام، والذين زاروا الضريح ليسوا مجهولين لدي، فطالما أفد رسميا لوعظهم فكنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر بالكلام ، ولو دعوا لواجب ديني صحيح لفروا نافرين وإن كانوا أسرع إلى الخرافة من الفراش إلى النار).(103/34)
قلت: إذا كان هذا عند قبر واحد من الضرائح المشهورة في مصر فكم سيكون عدد الذين يذهبون عند كل الضرائح المصرية فقط وهي ألف ضريح، فكيف بجميع الضرائح في أنحاء العالم الإسلامي؟. وهناك شعوب أكثر سكانا من مصر وأكثر توجها إلى الضرائح منها.
تنبيه: الغزالي رجل منحرف , وقد رد عليه جماعة من العلماء وطلاب العلم ومن تلك الردود : كتاب " كشف الغزالي من السنة وأهلها ونقد بعض آرائه" للشيخ ربيع بن هادي المدخلي وغيرها من الكتب .
وهذا الأديب عبد الله بن خميس يقول في كتابه "شهر في دمشق"ص(67) وهو يتحدث عما يحدث عند قبر زينب بنت علي بن أبي طالب قال : (فلقد وجدت سوادا كثيرا من الناس ملأ قبة القبر ثم البناء المحيط بالقبة ـ وما أكبره ـ ثم الفضاء والشجر المحيط بالقرية التي فيها القبر، ووجدت المقاهي والمطاعم والسيارات تغدو وتروح على حساب الزوار، ووالله ما شبهت هذا الجمع الغفير الذي يموج بعضه في بعض إلا بالناس حول الكعبة ويا بعد ما بين المظهرين)
وذكر صاحب كتاب "التوحيد ومسيرة العمل الإسلامي"ص(52) قائلا : (ومن هذه القبور قبر ما يسمى (السيد الدسوقي) فقد شارك في الاحتفال السنوي الذي يقام احتفاء بذكرى مولده عام 1403هـ 1982م نحو مليون شخص).
قلت: لو جئنا إلى كثير من الأقطار الإسلامية لوجدنا حشودا مثلما ذكرنا في مصر وسوريا، وقابل بين هذه الجماهير الغفيرة من المسلمين التي تتوجه إلى الضرائح وبين ما ذكره أحد الكُتّاب النصارى حول الزيارة للكنيسة الكبرى الرومانية التي فيها قبر بطرس، فقد قال : (إنه يقصدها نحو مائة ألف شخص في أيام الأعياد الكبيرة للعبادة) نقلا من كتاب "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" هامش ص(182) .
دعاة الشرك والوثنية يربطون الناس بضرائحهم(103/35)
إن دعاة الشرك والخرافة يحاولون قطع الناس عن ربهم قطعا كليا ، فيربطونهم بالضرائح خصوصا عند الشدائد والنوائب ، ويقنعونهم على أن العبادة لله لا تزكو ولا تصفو إلا إذا جعل مبد ؤها أو نهايتها إلى الضرائح ومن ذلك:
التوبة، من يريد أن يتوب يقال له: إذهب إلى قبر الشيخ الفلاني، ويعتكف عليه عكوف أهل التماثيل، كما ذكر ذلك صاحب كتاب "جهود علماء الحنفية" وهو كتاب عظيم نافع في بابه2/1208-1209.
الحج إلى القبور، ربط دعاة الشرك والخرافة المسلمين الذين يريدون الحج إلى بيت الله الحرام بالحج إلى المشاهد ، وصنفوا في ذلك كتبا ومنها "مناسك حج المشاهد" وهو لابن النعمان القبوري حتى قال قائلهم : (وحق النبي الذي تحج إليه المطايا) فجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله الحرام، وكثير من هؤلاء القبورية من يكون أعظم قصده في الحج الوصول إلى قبر النبي . انظر كتاب "جهود علماء الحنفية"ص(1209).
ج – الاستئذان من صاحب الضريح عند إرادة فعل شيء مهم. إن دعاة القبورية يظهرون للسذج من المسلمين أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن من أصحاب الضرائح، وعلى سبيل المثال ما ذكره عبد الحميد الشايف أنه ما أخرج كتاب "المهرجان" لا بن علوان حتى استأذن من ابن علوان, وابن علوان هو أحد كبار دعاة الصوفية .
وأيضا ذكر صاحب كتاب "قصص لا تثبت"3/215-216 أن عبد الحليم محمود قال : (استأذنت أحمد البدوي في تأليف كتابٍ في مدحه).
وذكر الشعراني الملحد في "طبقاته الكبرى" (أنه ما دخل على امرأته حتى تعاون معه أحمد البدوي). انظر2/744 من كتاب "جهود علماء الحنفية".
نبذة عن حج القبورية إلى الضرائح
فهذا ابن النعمان المغربي حج إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحج إلى بيت الله الحرام ، وألف كتابه "مصباح الظلام " انظر كتاب "جهود علماء الحنفية" (2/1210،1051) وجعل هذا الكفر من مناقب هذا الوثني ، ويقولون : (بحق من تحج إليه المطايا)(103/36)
وقال الصيادي الرفاعي : (قبر النبي أفضل من الكعبة والكرسي والعرش والجنة) وقد تقدم ، وهذا ابن سبعين قيل عنه : (البيوت المحجوجة ثلاثة مكة وبيت المقدس والبيت الذي في الهند) أنظر "جهود علماء الحنفية" 2/1210-1211.
والبيت الذي في الهند صنم يعبد . وابن سبعين من كبار ملاحدة القبورية . ذكر بعضهم في ترجمته أنه كان يسخر من الطائفين بالبيت الحرام ويقول: (كأنهم حمير حول المدار ولو طافوا بي كان طوافهم أفضل من طوافهم بالبيت)
ولقد بلغ الغلو في الحج إلى الضرائح عند القبورية مبلغا لا يتصوره عقل ، ذكر صاحب كتاب "جهود علماء الحنفية" 2/1212 قائلا : (ويقول أحد المريدين لآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع ؟ فقال له أشاور الشيخ ، فقال له أي الشيخ : لو بعت كنت مغلوبا) , ومنهم من يقول : (من طاف بقبر الشيخ سبعا كان كحجة) ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال : (كل خطوة إلى قبره كحجة ويوم القيامة لأبيع بحجة) وذكر صاحب كتاب "بدع الاعتقاد" أن السخاوي رحمه الله قال : (حج في هذا العام إلى قبر أحمد البدوي من مكة والشام وحلب أكثر ممن حج إلى بيت الله الحرام).(103/37)
فانظر إذا كان حجاج البدوي أكثر من حجاج بيت الله الحرام وحجاج بيت الله يأتون من مشارق الأرض ومغاربها فكيف بالحج إلى الضرائح المشهورة في كل بلدة؟ ولم تسلم الديار اليمنية من هذا السفه فلقد كان قبر الهادي المدفون في صعدة يحج إليه ، فلقد ذكر لنا بعض الآباء الكبار في السن أنهم كانوا إذا أرادوا حج بيت الله الحرام يبدءون بالطواف على قبر الهادي ويصلون ركعتين ويتمسحون بتراب قبره تشبيها للضريح بالكعبة، وبعد ذلك يتوجهون إلى بيت الله ، وكانوا يحجون إلى مسجد الجند ويدعون أنه حج المساكين ، وليس عندهم في ذلك برهان من الله ولا من رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن عندهم من الكذب حديث نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ((من ذهب إلى مسجد الجند في أول جمعة من رجب فهو حجه)) والحديث مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد ذكر ابن الحاج في "المدخل" وهو من أصحاب القرن السابع (أن من الناس من كانوا يحجون إلى صخرة بيت المقدس)، وقد اشتهرت قضية تقديس الحج ، والمراد بالتقديس الذهاب إلى ضرائح معينة كقبر أبينا إبراهيم عليه السلام بعد الحج لغرض إتمام الحج، ولم يتوقف الحج إلى الضرائح بل صار إلى الجبال والأشجار والأحجار كما يحصل هذا في مصر وفي غيرها ، والمقام يطول لو بسطنا ذلك.
تنبيه : هناك فرق تحج إلى القبور إلا أنها أكفر من اليهود والنصارى ومنها:
الفرقة اليزيدية التي تعبد الشيطان في العراق فهي تحج إلى (وادي لاش) في العراق.
البهائية الإيرانية تحج إلى ضريح مؤسسها (الميرزا الحسين بن علي).
القاديانية تحج إلى مدينة القاديان وهو مؤسس الجماعة المذكورة ، وكل هذه الفرق لا تمت إلى الإسلام بصلة بل هي أكفر من اليهود والنصارى.
ما يجري عند الضرائح من أنواع الفساد(103/38)
لقد تقدم لك أخي القارئ ماذا يحصل من أنواع الشركيات والكفريات عند الضرائح التي تزار خصوصا المشهورة منها، ولكن لا يغيب عن أذهاننا ماذا يحصل أيضا من نشر أنواع الفساد والإجرام، وإليك ماذا يحصل عند بعضها :
اختلاط النساء بالرجال: وهذا أمر لا ينكر وجوده أحد ، ومن المعلوم أن من دواعي الفجور اختلاط النساء بالرجال، ولا يخفاك أن البقاء يستمر عند الضريح لمدة قد تكون يومين أو ثلاثا، أو أسبوعا. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) متفق عليه من حديث أسامة.
تبرج النساء: وهذا داع آخر للفجور، قال العلماء : (إذا اجتمع الاختلاط والتبرج فقرينهما الزنا) قال الله تعالى :{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب].
الإتيان بالراقصين والمطربين: وهذه من الأصوات الملعونة والأفعال القبيحة. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة)) رواه البزار عن أنس ، وهو حسن. ويقع هذا المنكر في الليل ، ويجتمع الفساق وأرباب الفجور، ويقع التصفيق والتصفير والتكسر، فكيف إذا كانت القبورية تقوم بنفسها بالأغاني والرقص حتى الوقوع على الأرض؟! وكيف إذا كانت القبورية تفضل هذا على قراءة القرآن من سبعة أوجه؟!، كما قرر ذلك المقدس عندهم أبوحامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" 2/325-328.
تنبيه: كتاب "إحياء علوم الدين" كتاب مليء بطوام البدع والشركيات.(103/39)
الزنا في ليالي المولد بركة: إن الموالد والحضرات استعملت للمتاجرة بالأعراض، وهذا يدركه من له إلمام بما يجري في أيام الموالد، وهاهو أحد دجاجلة القبورية وهو الشعراني يقول : (وكان الشيخ علي وحيش ...يقيم عندنا في المحله في خان بنات الخطا وكان كل من خرج أي: بعد افتراق الفاحشة ، يقول له : قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج فيشفع فيه) نقلا من كتاب "الصوفية الوجه الآخر" ص(61) وقد ذكر أحمد بن منصور أقوال المؤرخين في الزنا واللواط الذي يحدث عند ضريح (الإنبابي) قائلا : (وأما ما يحكى من الزنا واللواط فكثير لا يحصى حتى أرسل الله عليهم ريحا في تلك كادت تقلع الأرض بمن عليها...)
ويا ويل من تكلم على هذه الفواحش والمنكرات, فإن دعاة القبورية يهددونه بأن صاحب الضريح سينزل عليه صواعق من العذاب، ذكر الشعراني في "طبقاته الكبرى" قال : (إن شخصا أنكر حضور مولد البدوي لأجل ما فيه من الشرك والكفر والفجور فسلب الإيمان من قلبه، فطلب من البدوي أن يرد له إيمانه، فاشترط عليه أن لا يعود إلى الإنكار على ما يرتكب من الفسق والكفر والفجور ، فقال المنكر: نعم إلى أن قال البدوي : ما يرتكبونه من الكفر والفسوق والفجور عند المولد قال ذلك واقع عند الطواف بالكعبة ولا يمنع أحد منه ، ثم قال البدوي : وعزة ربي ما عصى أحد في مولدي سواء كان كفرا أو شركا أو زنا أو غيرها من الفسوق أو الفجور إلا تاب وحسنت توبته).(103/40)
قلت: انظر أخي القارئ: ما في هذا القول من ادعاء علم الغيب الذي اختص الله به نفسه, فإنه لا يعلم من يتوب ومن لا يتوب إلا الله، وانظر: ما في هذا الكلام من الجرأة على تثبيت الإجرام وأيضا أنى لهؤلاء الفسقة أن يتوبوا وهم يتقربون بهذا الزنا؟ بل أنى لهم أن يتوبوا وقد صار وا واثقين أن صاحب الضريح قد شفع لهم عند الله وشفاعته مقبولة عندهم بلا شك؟ وانظر إلى الكذب في قوله : (إن هذا يحصل عند الطواف بالكعبة) فدعاة القبورية يهددون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأنواع من العقوبات، ومن السهل عليهم أن يعملوا له السحر أو يسلطوا عليه الفسقة والأشرار أو يفتروا عليه عند الحكام، عاملهم الله بما يستحقون.
شرب الخمور في الإجتماعات عند الأولياء والأقطاب: وقد كثر إنكار العلماء لهذا وسطروا هذا في مؤلفاتهم التي تحدث عما يجري عند الضرائح، ومنهم الشيخ/ عبدالرحمن الوكيل في كتابه "هذه هي الصوفية" (ص160-161)، وصاحب كتاب "الصراع بين الحق والباطل"ص(49-50) والبسيوني في كتابه "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(96-98) ومما لا يتصوره عقل ما ذكره الكاتب أحمد بن منصور وهو يتحدث عن الجرائم التي تحصل عند ضريح (الإبنابي) قائلا : (وإن فيه من الفساد ما لا يوصف حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة…)(103/41)
أكل أموال الناس بالباطل ،ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "المجموع"27/459 قائلا : (حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان وكان أحدهما قد اتخذ قبرا تجبى إليه أموال ممن يزوره, وينذر له من الضلال, فعمد الآخر إلى قبر وزعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبدالرحمن بن عوف, وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة) وقال الشوكاني رحمه الله في "الدر النضيد"ص(27) : (وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر, ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه مكسبا ومعاشا) وقال صاحب كتاب"بدع الاعتقاد"ص(267) : (ويكفي أن تعلم أن ما كان يصل إلى ضريح الجيلاني في السنة من أموال الزائرين يفوق ما كانت تنفقه الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين في السنة الواحدة أضعافا مضاعفة) والأموال التي يغدق بها على أصحاب الضرائح على أنواع :
الهدايا.
الأوقاف: هناك من يوقف الأموال الطائلة على أصحاب الضرائح، وهناك أموال تأتي من وزارة الأوقاف في بعض الدول والشئون الاجتماعية ، ولا أعلم دولة تدعم الضرائح بالأموال وتقذف عليها مثل ما كانت تقوم به الدولة العثمانية مؤخرا من الدعم القوي, لأنها قامت على الدعوة القبورية.
الصدقات: فأصحاب اليسار والوجاهة يقذفون بالأموال الطائلة على سدنة الضرائح بطريق سري وجهري, وأموال عينية ونقدية.
النذور: كثيرا ما ينذر المتعلقون بالضرائح من كريم أموالهم ليقدموها في رأس كل سنة.(103/42)
هـ- أموال شكر: يحصل من بعض المتعلقين بعبادة الضرائح أنه يتحقق له شيء فيقدم كذا وكذا من الأموال للضريح الفلاني شكر ا على ما تم له ونجح فيه، وهذا يكون حاصلا من طبقات كثيرة في المجتمع ، فقد ذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية" ص(351) أن في المغرب لما تولى السلطان الحسن بن محمد المتوفى سنة 1311هـ مقاليد الحكم في بلاده سارع إلى تقديم الذبائح إلى الضريح الإدريسي.
وعلى كل:ٍ الأموال التي تقدم لأصحاب الضرائح جعلت السدنة الذين حول القبورية وأسرهم ومن له صلة بهم أغنياء, يصل إليهم من الأموال الفاخرة والمتنوعة الشيء الكثير حتى قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات
وقال كاتب عصري وهو يتحدث عن الأموال التي تنفق على سدنة ضريح الجيلاني : (وينفقون الأموال على خدمته وسدنته وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض لصاروا أغنياء...) فلا غرابة أن نقول إن من أعظم أسباب اختراع الضرائح والدعوة إلى عبادتها هو الحصول على المال. وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : ((إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) رواه الترمذي عن كعب بن عياض وهو صحيح.
وما أشبه ما يفعله دعاة القبورية بأحبار اليهود والنصارى ، قال تعالى :{إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} [التوبة]، وما أشبه دعاة القبورية بأصحاب (صكوك الغفران) لأصحاب الجرائم بمقابل مال يقدمه أصحاب الجرائم.(103/43)
6 – ترك الصلوات: إن الحاضرين عند الموالد والحضرات القبورية الغالب عليهم أنهم لا يؤدون الصلاة ، إما لأنهم يعتقدون أن صاحب الضريح يتحمل ذلك كما قال صاحب كتاب "معارج الألباب..."ص(177) حاكيا عن بعضهم : (إن رجلا سأل من فيه مسكة عقل فقال : كيف رأيت الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه:لم أر أكثر منه إلا في جبل عرفات إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة ولا صلوا مدة الأيام فريضة، فقال السائل: قد تحملها عنهم الشيخ), وإما أنهم لا يهمهم أمر الصلاة، وكلا الأمرين حاصل فإن هناك من دعاة القبورية من يدعي أن صاحب الضريح يتحمل جميع الجرائم التي تحصل عند زيارته من الزوار، وهناك من يشغل الحاضرين بترهات الموالد والحضرات والرقص وغير ذلك حتى لا يدركوا الصلاة ولا يهمهم أمرها.
استغلال كثير من الحكومات عبادة الضرائح لأمور كثيرة ومنها:
تنفيذ السياسة الحكومية لاستعباد البلاد أو إفسادها، وقد تقدم أن ذكرنا عند كلامنا على تفريخ الأولياء أن بعض الدول الكافرة قامت ببناء ضرائح على الطرقات لتحمي تلك الطرق من تسلط اللصوص.
وأيضا ذكر صاحب كتاب "التصوف بين الحق والخلق"ص(211-212) قال : (إن فرنسيا أسلم وتنسك وصار إماما لمسجد كبير في القيروان بتونس, فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها وطلبوا من الإمام أن يستشير صاحب القبر الذي في المسجد لأنهم يعتقدون فيه, فدخل الضريح ثم خرج مهولا عليهم بما سينالهم من المصائب قائلا : (إن الشيخ ينصحكم بالتسليم, فسلموا لعدوهم فاجتاح بلادهم). وأيضا ذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(351) قائلا : (إن الدولة العثمانية تقيم حفلة (تقليد السيف) وهي حفلة تقام كلما ارتقى سلطان, فيذهب من آل عثمان إلى عرش أجداده ونودي سلطانا, فيذهب السلطان إلى جامع أبي أيوب الأنصاري ويصلي عند ضريحه ركعتين, ويقلد سيف عمر بن الخطاب ويتوج) اهـ بتصرف .
فهذا الفعل فيه استمداد الشرعية من أصحاب الضرائح.(103/44)
تفرض بعض الدول على السدنة ودعاة القبورية حصة مالية سنوية تدفع لها مقابل أنها تشجع وتساعد على إقامة الموالد والحضرات, كما يحصل هذا من الدولة المصرية, فإنها تأخذ في الحصة الواحدة تسعة وثلاثين في المائة كما ذكر ذلك بعض المؤلفين العصريين.
تقوم بعض الدول ببناء القباب أو تجديدها أو توسيع المساجد التي فيها ضرائح من أجل أن تكتسب من القبورية الثناء عليها بالعدل, وحب الخير, والحرص على الأولياء, ويعرفون في أوساط الناس بأنهم حماة الإسلام، ومن أجل التوجه إلى الدعايات الانتخابية.
كثيرا ما تستغل الدول الدعوة القبورية لمحاربة أهل التوحيد وضربهم ، والله المستعان.
هـ- فتح باب الجنة ، يحكى أن وزير أوقاف لإحدى الدول الإسلامية اشتكى لرئيس دولته عجز الميزانية في وزارته, فاتفق الرأي على إيجاد باب الجنة يفتتح دخوله الأعيان والرؤساء, ثم تباع التذاكر للسواد الأعظم من جهلة المسلمين على أن من دخل هذا الباب فقد دخل الجنة) ذكر هذا بعض الكتاب العصريين.
وبقيت مفاسد وشرور تتحقق عن طريق عبادة الضرائح, وما ذكرناه فيه الكفاية.
ذكر بعض معتقدات القبورية في الضرائح
إن الفرق القبورية تنسب إلى الضرائح التي تتبرك بها أنواعا من الدعايات المكذوبة لكي يزداد تعلق الجهال والحمقى بها والإقبال على عبادتها، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
قبر الحسين بن علي بن أبي طالب المزعوم أنه في كربلا ، يقول القبوريون لمن يزور هذا الضريح المزعوم ما قاله شاعرهم:
وفي حديث كربلا والكعبة لكربلا بان علو الرتبة
وهذا البيت واضح أن قائله يفضل كربلا على الكعبة .
ويقول شاعر رافضي آخر مادحا كربلا :
هي الطفوف فطف سبعا بمغناها فما لمكة معنى مثل معناها
أرض ولكنها السبع الشداد لها دانت وطأطأ أعلاها لأدناها
نقلا من كتاب " كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار" (ص87).(103/45)
قول الصيادي في قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : (ولما حج الرفاعي عام وفاته وزار قبر النبي الذي هو أفضل من الجنة بل من العرش والكرسي) وينسب ذلك البيت إلى الأعرابي وهو:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
3- ذكر العيدروس في كتابه "تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر"ص(76) وهو يتكلم عن قبور أقطاب آل با علوي، قال: (وروي عن بعض الصالحين أنه قال لرجل من أهل تريم: أتعرف الفريط الأحمر والجبل الأحمر؟ فقال له: نعم, فقال له : تحته روضة من رياض الجنة) أي روضة من رياض الجنة في القبور، بل ذكر في نفس الصفحة أن الشيخ فضل بن عبد الله قال : (ثلاث ترب محولات بترابهم الجنة، تربة تريم، وتربة الهجرين، وتربة غيل أبي سودان).
وهذه دعوة إلى تعظيم التربة وأكلها تبركا بها، واعتقاد الشفاء فيها، وانظر إلى ما وصلت إليه القبورية في كربلا وغيرها من بقاع الأرض من تعظيم التربة الحسينية فيسجدون على تلك التربة، وفي بعض الأوقات يأكلونها معتقدين الشفاء فيها بل ويوصون أن تدفن معهم التربة الحسينية، رجاء بركتها.
وانظر إلى ما قالته القبورية في حضرموت في شأن النهر الموجود بجانب الضريح المنسوب إلى النبي هود فقد قالوا: (إن ذلك النهر من الجنة) فالأنهار والأشجار والأحجار والآثار تصير من الجنة لوجود قبر من القبور التي تريد القبورية عبادتها، ويصير ماؤها من الكوثر، ولقد ذكر صاحب كتاب "علماء الحنفية"2/1208 قال : (ومنهم من يستقبل القبر ويصلي إليه مستدبرا الكعبة ويقول : القبر قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة.(103/46)
وذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(350) عن بعضهم ما معناه : (أن مؤذن مسجد قبة الإمام الشافعي استقبل القبر واستدبر الكعبة عند الأذان مع حضور مجموعة من علماء الأزهر فقال قائل: لم لم يستقبل القبلة ؟ فقال أحدهم: إنه يستقبل ضريح الإمام). كما ذكر أن الصوفية لا ينكرون على من استقبل قبر الإمام في صلاته).
الضرائح والقباب والمشاهد إله من تقرب إليها
لقد دلت الأدلة العامة على أن كل معبود سوى الله هو إله من عبده ، وسواء كان المعبود بشرا أو ملكا أو حيوانا أو جمادا, وسواء كان معبودا حسيا أو معنويا، والإله هو المعبود ، والتأله: التعبد، والتعبد يقوم على الحب والتعظيم والخضوع للمحبوب, فمن أحب غير الله مثل الله أو أشد فقد جعل ذلك إلها له. قال تعالى :{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم]، وقال تعالى :{أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون} [النمل]، وقال تعالى :{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية]، فكل من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد جعله إلهه، وكل طائع لهواه عابد له, أفلا يكون من باب أولى من صرف أنواعا من العبادات لأصحاب الضرائح يكون قد اتخذهم آلهة؟ وقال تعالى عن موسى أنه قال للسامري :{وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا} [طه] ، فسماه موسى إلها للسامري . وروى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((تعس عبد الدينار تعس عبدالدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش))
انظر كيف يصير المسلم عبدا للخرقة والدينار والدرهم عند ما يتعلق قلبه بهن حبا وتعظيما؟ فكيف بمن تعلق قلبه بمخلوق يرجو منه النفع ودفع الضر؟ وكيف بمن ذهب يصرف أنواعا من العبادات التي اختص الله بها نفسه للرفات؟ أفلا يكون عبدا لها؟ وهي إلهه من باب أولى.(103/47)
وجاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : ((ما شاء الله وشئت يارسول الله فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده)) رواه أحمد 1/347،283 وابن السني في "عمل اليوم والليلة"ص(314) والنسائي في "الكبرى" وهو حسن.
انظر إلى خطر الشرك فإذا كان المسلم يقع في الشرك ويصير النبي - صلى الله عليه وسلم - ندا لله بمجرد اللفظ, فكيف بمن يطالب بالمدد من الأموات ويعتقد دفعهم للملمات ، وتصريفهم لأمور الكون؟ وانظر إلى ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ما قال بعض الصحابة : يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)) رواه الترمذي4/475-476 وأحمد 5/218والطيالسي وابن أبي شيبة وعبدالرزاق والطبراني من حديث أبي واقد الليثي وهو صحيح، فإذا كان تعليق السلاح على الشجرة تبركا بها يجعلها إلها لمن فعل ذلك, فكيف بمن يخاف ويذبح وينذر ويتمرغ عند أعتاب الضرائح ؟.
وقال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"1/55 : (فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين عبدت غيره من الآلهة التي يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم فأشركت بالله بعبادة غيره واستعانته, فتعبد غيره وتستيقن به لجهلها بسعادتها التي تنالها بعبادة خالقها والإستعانة به...)
وقال العلامة ابن باز رحمه الله : (ومن العقائد المضادة للحق ما يعتقده بعض الباطنية وبعض المتصوفة من أن من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير ويتصرفون في شئون العالم ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأنداد وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم)انظر"الإتمام بشرح العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام"ص(167).
تواجد شياطين الجن عند الضرائح التي تعبد من دون الله(103/48)
أيها القارئ قد تحصل عند الضرائح التي تعبد من دون الله أمور عجيبة يستغلها دعاة القبورية لتقوية أباطيلهم ، ويدعون أنها من الكرامات التي قد منحها صاحب الضريح ، فمن أجل هذه التلبيسات رأيت أن أطرق هذا الدجل بما يكشف حقيقته ، ويظهر زيفه، ويوضح عيبه ، إذ أنه يتعلق بموضوعي هذا, قال صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(330) يقول السملالي : (فائدة أخبرني صاحبنا الفقيه أبو سرحان المغازي رحمه الله أن بعض الأولياء اجتمع بالشيخ أبي العباس البستي فقال له الشيخ: إذا أتيت لضريح بصدقة فاجعلها ذبيحة لأن الروحانيين من الجن ملازمون للضريح وهم ينتفعون بدم الذبيحة وظلفها دون غيرها فإنه لا يحصل لهم منها كبير فائدة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتكلم عن تلبيس الشياطين على القبوريين (وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهون ، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك ، أو يظن أن الله تعالى صور ملكا على صورته فعل ذلك ، ويقول أحدهم : هذا سر الشيخ وحاله وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك المستغيث به كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها ، والأصنام لها شياطين كانت تتراءى للسدنة أحيانا وتكلمهم أحيانا، قال أبي بن كعب : (مع كل صنم جنية ) وقال ابن عباس : (في كل صنم شيطان تتراءى للسدنة فتكلمهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب). "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (326-327).(103/49)
وقال أيضا في كتاب "النبوات"ص(414-415) وهو يتكلم عن الذي يتكلم معه الجن ويظن أنه ملك : (ولهذا يقول من يقول منهم: لكل ولي خضر, وإنما هو جني معه ، والذين يدعون الكواكب تتنزل عليهم أشخاص سموها روحانية الكواكب وهو شيطان ينزل عليه لما أشرك ليغويه كما تدخل الشياطين في الأصنام ، وتكلم أحيانا بعض الناس ، وتتراءى للسدنة أحيانا ولغيرهم أيضا، وقد يستغيث المشرك بشيخ له غائب فيحكي الجني صوته لذلك الشيخ حتى يظن أنه سمع صوت ذلك المريد مع بعد المسافة بينهما, ثم إن الشيخ يجيبه فيحكي الجني صوت الشيخ للمريد حتى يظن أن شيخه سمع صوته وأجابه, وإلا فصوت الإنسان يمتنع أن يبلغ مسيرة يوم أو يومين ، وقد يحصل للمريد من يؤذيه فيدفعه الجني ويخيل للمريد أن الشيخ دفعه ، وقد يضرب الرجل بحجر فيدفعه عنه الجني ثم يصيب الشيخ بمثل ذلك بقوله إني اتقيت عنك الضرب ، وهذا أثره فيّ، وقد يكونون يأكلون طعاما فيصور نظيره الشيخ ويجعل يده فيه ويجعل الشيطان يده في أولئك حتى يتوهم المريد أن يد الشيخ امتدت من الشام إلى مصر وصارت في ذلك الإناء).(103/50)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا كما في "مجموعة الرسائل والمسائل"1/135 : (وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق وكان له صنم يعبده ، قال فقال لي : هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه ، فأنكرت ذلك فقال لي : إن كان يأكل أنت تموت, فقلت نعم, قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر, فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك, فقلت لهذا الشيخ : أنا أبين لك سبب ذلك, ذلك التتري كافر مشرك ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك ، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة لأمثالك فالتتري وأمثاله سود وأهل الإسلام المحض بيض ، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض, فأعجب هذا المثل من كان حاضرا).(103/51)
وقال أيضا وهو يتحدث عمن يلبس عليهم الجن (ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل, يحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت, ولا يبيت بالمزدلفة ولا يطوف طواف الإفاضة, ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء ، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به ، فإنه مثل هذا الحج ليس مشروعا ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين ، ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل ...وقد جرت هذه القضية لبعض من حمل طائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج فقال هل كتبتموني؟ قالوا أنت لم تحج كما حج الناس ، أنت لم تتعب ولم تحرم ، ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب عليه الناس ما حصل للحجاج ، وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ) اهـ من "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" .
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية "9/359 قال : قال ابن أبي خيثمة : (وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء, وكان يقول لهم اخرجوا حتى أريكم الملائكة, وكان ينقر هذه الرخامة التي في المقصورة فتسبح...) والحارث هذا هو ابن عبد الرحمن الدمشقي الكذاب الذي ادعى النبوة وصلبه عبد الملك بسبب ذلك.(103/52)
ومما يزيد الأمر وضوحا لدى القارئ أن من المستدرجين من قبل شياطين الجن يفرقون بين من تأتي إليهم الجن عرضا لا طلبا ، قال صاحب كتاب "منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية"ص(184) وهو يتكلم عن الذين معهم جن خدام قال : (فتقول السادة المذكورون خدمتهم الجن عرضا لا طلبا, ومن تكلمنا عليهم طالبون على استخدامهم ) ومعنى عرضا أن يأتي الجن من أنفسهم يخدمون الشخص ، وعلى سبيل الافتراض أن الجن يخدمون هؤلاء عرضا فهذا محرم في الإسلام لأن الجن لا يخدمون إلا بمقابل ، والمقابل لا بد أن يكون تحقيقا لمطالبهم, وهم يطالبون كثيرا بعبادتهم ، وهذا شرك ، ومما يدل على امتناع قبول خدمة الجن أنه لم يحصل قط أن استخدمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، مع العلم أنهم قد جاءوا إليه وتكلموا معه ، ولم يحصل أن الصحابة استخدموا الجن ولا حتى في المباح فاتضح من هذا أن شياطين الجن لعبوا بعباد القبور حتى صاروا في غاية من الضلال والزيغ .
وذكر ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"1/169: (قال الجيلاني: كنت مرة في العبادة فرأيت عرشا عظيما وعليه نور فقال لي: يا عبد القادر أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك ، قال فقلت له : أنت الله الذي لا إله إلا هو إخسأ يا عدو الله فتمزق ذلك النور وصار ظلمة وقال: يا عبد القادر نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك...ولقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلا ، فقيل له : كيف علمت أنه شيطان ؟ قال : بقوله لي : حللت لك ما حرمت على غيرك ، وقد علمت أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تنسخ ولا تبدل ، ولأنه قال : أنا ربك ولم يقدر أن يقول : أنا الله لا إله إلا أنا...)
تنبيه : عبدالقادر الجيلاني لم يكن من دعاة الشرك والخرافة فيما أعلم, ولكنه وقع في بدع التصوف التي كانت أساسا للدعوة إلى الشرك والخرافة ، وقد نسبت أشياء كثيرة خرافية إلى الجيلاني وهي من باب الكذب والافتراء عليه ومنها المبالغ فيها.(103/53)
ومن خلال هذه القصة تدرك مايقوم به شياطين الجن الذين لا يحصيهم إلا الله من إضلال هذا الصنف ، وما أسرع ما يتأثر طالبوا الكرامات بما يدعو إليه شياطين الجن ، وإليك مثالا واحدا :
ذكر ابن تيمية كما في "مجموعة الرسائل الكبرى" قائلا : (لما دخل (هولاكو) ملك المشركين بغداد رأى ابن السكران شيخا محلوق الرأس على صورة شيخ من مشائخ الدين والطريقة آخذا بفرس (هولاكو) قال فلما رأيته أنكرت هذا واستعظمت أن يكون شيخ من شيوخ المسلمين يقود فرس ملك المشركين لقتل المسلمين فقلت يا هذا ...أوفعلت هذا بأمر ؟ فقال نعم بأمر ، فسكت ابن السكران وأقنعه هذا الجواب وكان هذا لقلة علمه بالفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، وظن أن ما يؤمر به الشيوخ في قلوبهم هو من الله وأن من قال حدثني قلبي عن ربي ...هو كذلك, وهو أضل ممن ادعى الاستغاثة بالأنبياء وأنه يحتاج إلى واسطتهم) اهـ بلفظه . وابن السكران هذا من عباد القبورية.
ذكرالأدلة القاطعة بتحريم اتخاذ القبور مساجد
قال الله تعالى :{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن]، وقال سبحانه :{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} [النور]، وقال تعالى :{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة]، ووجه الدلالة من هذه الآيات أن المساجد بنيت لعبادة الله وحده.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت : (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) متفق عليه.(103/54)
وعنها وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة فإذا اغتم كشفها وهو يقول : ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) (يحذر مما صنعوا) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتها في أرض الحبشة فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقال : ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)) متفق عليه.
وعن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول : ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
والأدلة على هذا كثيرة واكتفينا بما ذكرنا خشية الإطالة .
تضمنت هذه الآيات والأحاديث المذكورة أمورا مهمة ومنها:
أ- أن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد سنة يهودية ونصرانية، فمن فعل ذلك من المسلمين فقد أحيا سنتهم.
ب- وقوع من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد في اللعن، {ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا }.
ج- المتخذون لقبور الأنبياء والصالحين مساجد ومشاهد يصيرون من شرار الناس في الدنيا والآخرة، فليسوا من الأخيار الأبرار.
د- الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الأحاديث محذرا بأنواع من أساليب التحذير.
معنى اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد
اعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) تتضمن ثلاثة معان :
1- اتخاذها ببناء المساجد عليها: ومن المعلوم من ديننا بالضرورة أن هذا الاتخاذ محرم قطعا.(103/55)
اتخاذها بالصلاة والعبادة عندها وإن لم يبن عليها: وهذا محرم في دين الله، والأدلة على ذلك كثيرة خاصة وعامة، ومن الأدلة الخاصة :
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) رواه مسلم.
ب- في حديث أبي سعيد الخدري عند أبي يعلى ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبور وأن يصلى عليها)).
ج- عن أبي مرثد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)) رواه مسلم .
د- عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تتخذوا بيوتكم قبورا صلوا فيها)) رواه أحمد وهو صحيح، وقد جاء عن ابن عمر.
فهذه الأحاديث واضحة لا يتوقف مسلم منصف عن قبول الحكم المنصوص فيها ألا وهو تحريم قصد القبور بشيء من العبادات أيا كان نوعها
ومن أنواع الاتخاذ في العبادة أن يصلي إلى القبر أي: يكون القبر أمامه، وهذا منهي عنه كما تقدم في حديث أبي مرثد , والنهي هنا للتحريم
ومن أنواع الاتخاذ المنهي عنه الصلاة على القبر نفسه، فقد روى الطبراني من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) وهو قابل للتحسين.
3- اتخاذها بإدخال القبر في المسجد.(103/56)
أخي القارئ : لا يخفى عليك ما ابتلي به بعض المسلمين من منكر عظيم وهو دفن بعض الأموات في المساجد وقد يكون هذا بوصية من الميت، وهنا لا يجوز التنفيذ للوصية والحال هذه، وقد يكون من قبل بعض الناس وكلا الحالتين محرمة حيث يصير هذا الميت مع الأيام معبودا لأن الناس يقولون ما دفن هنا إلا وله شأن. ومن البلاء العظيم والشر المستطير أن يبني بعضهم مسجدا لغرض أن يدفن فيه، فهذا خذلان من الله، وسعي من هذا الباني إلى عبادة نفسه عن طريق بناء مسجد له، فالواجب تحذير أهل الخير من هذا الشر المستطير. فلا فرق في الخطر عندي بين إدخال القبر المسجد أو بناء المسجد على قبر إذ أن المؤدى واحد ألا وهو الوقوع في الإشراك بالله ولو بعد حين.
تنبيه : بناء القباب والمشاهد على القبور لا يجوز لما في ذلك من الدعوة إلى عبادتها والصلاة عندها, مع أن بناء القباب والمشاهد قد جاءت الأدلة بتحريمه ، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب : ((لا تدعن قبرا مشرفا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها)) رواه مسلم .
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ينهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليه)) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبور وأن يقعد عليها...)) رواه ابن ماجه وأبو يعلى.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبر أو يجصص)) رواه أحمد.
فهذه الأحاديث واضحة في معناها لا نحتاج إلى شيء أعظم من حاجتنا إلى تطبيقها كما طبقها السلف.(103/57)
أخي المسلم : لا فرق عندي بين من يبني مسجدا على قبر أويبني عليه قبة ومشهدا لأن القباب لها ذرائع إلى الخرافة والشرك, ألا ترى أن العوام لا يرون أولياء الله إلا من بنيت على قبره قبة، فلو وجد ميت في مسجد وما عليه قبة وإنما هو قبر عادي فلا يلتفت العوام إليه غالبا، أما إذا عملت له القبة فلا تسأل عن الفتن الحاصلة بسبب ذلك، وكلما كبرت القباب أو كثرت حول ضريح من الضرائح كلما عظمت منزلة ذلك المدفون في قلوب المفتونين بالقبور، وكلما زينت واعتني بها أكثر كلما فتن الناس بها أعظم، ولقد ذكر الشوكاني رحمه الله أن أحد العوام جاء إلى ضريح أحمد بن الحسين الملقب بأبي طير فدخل على القبة وهي مسرجة والبخور تفوح والستور مرخاه ، فقال عند وصوله : (أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين) اهـ من الدر النضيد .
وعلى هذا وجود القباب والمشاهد في بعض الأحايين أكثر ضررا وأعظم فسادا من القبر الذي يبنى عليه مسجد .
والصور الثلاث التي ذكرتها كلها محرمة بل هي من الكبائر عند كافة أهل العلم، ولا عبرة بمن خالف ذلك ممن ابتلي بالبدع .
ومن حكمة الله العظيمة تحريم اتخاذ القبور مساجد ومشاهد لما يلي :
استئصال شأفة الوثنية بكل أنواعها، وسيأتي ذكر أنواع الوثنيات المتعلقة بالأشجار، والأحجار، والحيوانات، والشمس، والقمر، والنار، والفئران وما إلى ذلك التي سبب عبادتها بل أصل عبادتها عبادة ضرائح الأنبياء والمرسلين ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)) رواه أحمد وغيره بسند صحيح.
الترفع عن تعظيم الرفات لأن شرف الذكر بشرف الأعمال لا بوجود الجثث، ولهذا أخفيت قبور كثير من الصحابة عمن بعدهم، وهم الذين لا يدانيهم من جاء من بعدهم في علو مرتبتهم، وكمال صلاحهم فلو كان تعظيم الرفات له وجه في الشريعة المحمدية لكان الصحابة أولى بذلك من غيرهم بل لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق بذلك .(103/58)
سد أبواب الذرائع المؤدية إلى الوقوع في الشركيات والخرافات، لأن أمة الإسلام ما تزال معرضة للوقوع في الشركيات كلما وجدت وسائله وأسبابه، وهذا لا ينكره أحد لكثرة وقوعه .
هدي الصحابة رضي الله عنهم في هدم
الضرائح والقباب والمشاهد
قد تقدم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه بعث أبا الهياج الأسدي بما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا صورة إلا طمسها)) رواه مسلم .
وجاء عند ابن أبي شيبة في "مصنفه"4/138 عن عبد الله بن شرحبيل بن حسنة قال: ( رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له هذا قبر أم عمرو بنت عثمان فأمر به فسوي) ورجال هذا الأثر ثقات.
وجاء عن أبي بردة قال : (أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي...ولا تجعلوا على قبري بناء...) أخرجه أحمد وغيره وسنده قوي.
وعن أنس قال : (كان يكره أن يبنى مسجد بين القبور) رواه ابن أبي شيبة، ورجاله ثقات.
وجاء عند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن المعرور بن سويد قال : (خرجنا في حجة حجها عمر فقرأ بنا في الفجر {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و {لإيلاف قريش} فلما قضى حجه ورجع الناس يبتبدرون فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل)
ورأى ابن عمر فسطاطا على قبر ابن عبدالرحمن فقال: (انزعه فإنما يظله عمله) الفسطاط بيت من الشعر، رواه البخاري تعليقا.
وأوصى أبوهريرة رضي الله عنه (أن لا يضربوا على قبره فسطاطا) رواه ابن أبي شيبة وعبدالرزاق وإسناده صحيح. وجاء مثله عن أبي سعيد الخدري عند ابن عساكر.(103/59)
أخي القارئ هذه الآثار تدل دلالة واضحة على أن الصحابة كانوا يكرهون بل يمنعون أن يزاد في رفع القبر على المأذون به شرعا ويهدمون ما زاد على القدر المشروع، وما هذا منهم إلا تطبيق لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فانظر إلى عملهم هذا الموافق للأحاديث التي سردناها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تدرك جيدا أن الذين يجوزون البناء على القبر زيادة على شبر لم يكونوا مقتدين بسلفهم الصالح, لأن العبرة بما فهمه السلف وعملوا به فهم الذين عصمهم الله من الابتداع والضلال، وإذا كان موقف الصحابة ما رأيت من زجر وتحذير عن الزيادة في البناء على القبور فمن باب أولى أن موقفهم أشد في التحذير من بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد، ولا شك أنهم لا يتأخرون عن هدمها ولم يحصل هذا في عهد السلف وإنما كانوا يهدمون ما كان من بقايا الجاهلية .
فهذه سيرة الصحابة رضوان الله عليهم في هدم الضرائح, وعلى هذا سار التابعون لهم بإحسان .
فعن محمد بن كعب قال : (هذه الفساطيط التي على القبور محدثة) رواه ابن أبي شيبة .
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه : (إذا مت فلا تضربوا على قبري فسطاطا) رواه ابن سعد .
وأوصى محمد بن علي قال : (لا ترفعوا قبري على الأرض) رواه الدولابي.
وعن عمرو بن شرحبيل قال : (لا ترفعوا جدثي ـ يعني القبر ـ فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك).
قلت: فهذه الآثار عن التابعين في الجملة صالحة للإحتجاج بها وهي تدل على أن التابعين سلكوا المسلك السديد ألا وهو العمل با لأحاديث التي فيها النهي والتحذير من البناء على القبور زيادة على المشروع .
حرص السلف على إخفاء القبور التي يخشى أن تعبد إذا عرفت(103/60)
لم يكن السلف الصالح أبدا يهتمون بإظهار قبر مسلم زيادة على شبر، ومن خافوا أن يعبد قبره بعد مماته غيبوا قبره عن الناس ، وهذه قضية تاريخية نطقت بها كتب التاريخ والسير، وقد تقدم بالسند الصحيح إلى أبي العالية وهو يتحدث عن جثة (دانيال) وأن مجموعة من الصحابة وجدوا جثته فأرسلوا إلى عمر فأمرهم أن يغيبوا قبره فحفروا مجموعة من القبور في النهار ودفنوه في أحدها في الليل وسووا تلك القبور كلها)
وما فعله الصحابة الكرام بـ (دانيال) عملوه مع غيره ، ولهذا تجد أكثر قبور الصحابة الذين ماتوا في غير مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا وجود لها من ذلك الحين ، وإن وجدت بعض أصحاب السير يذكرون مكانا ما لقبر فلان فهو من باب الظن والتخمين, واعتبر بما فعلوه في قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقد غيبوا قبره لأنه قد عبد وهو حي فكيف لا يعبد إذا ظهر قبره ؟ومع هذا كثيرا ما يدعي أهل الباطل أن قبر علي رضي الله عنه في مكان كذا وكذا، فغلاة الشيعة يدعونه في مكان كذا ، وقبورية الصوفية يدعونه في مكان كذا وكذا ، وبعض الباطنية يدعون أنه في السحاب والرعد صوته ، وبعضهم يدعون أنه في القمر ، وبعضهم يدعون أنه في الشمس إلى آخر تراهاتهم .
وهكذا السلف غيبوا قبر معاوية في الشام ، وقبر حذيفة بن اليمان ، وقبر أبي عبيدة بن الجراح، وقبر سعد بن أبي وقاص ، وقبر النعمان بن مضر ، وقبر خالد بن الوليد ،وقبر جعفر بن أبي طالب ، وقبر الضحاك بن سفيان الكلاعي، وقبر عبد الله بن رواحة، وغيرهم كثير من قادة الإسلام، وفاتحي الدنيا .(103/61)
وعلى كلٍ فعل السلف هذا يدلنا دلالة واضحة على بعد نظرتهم وقوة إدراكهم، إذ أنهم لم يروا أن التعظيم للأخيار والأبرار وحملة رسالة الإسلام يكون ببناء القباب والمشاهد والمساجد على قبورهم، وإنما يكون بمعرفة قدرهم وجلالة أعمالهم التي سعدت بها الأمة ، وعظمة تمسكهم بهذا الدين وحسن بلائهم فيه، وهذا يجعلنا نجزم يقينا أن الذين يبنون القباب على القبور ويشيدون الضرائح لم يكونوا إلا متبعين لصناديد الكفرة ، فلو كانوا مهتدين ما فارقوا رسولهم وأصحابه أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، فخاب وخسر من ظن أنه سيسبق السلف
سد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك
هذا الفصل من أنفع الفصول لمن يهمه منابذة الشرك وسد ذرائعه والذرائع التي سدها الشرع كثيرة, وسأذكر منها ما تيسر :
الأولى : الغلو في الصالحين : إن الغلو في الصالحين أعظم ذريعة للوصول والوقوع في الشرك بالله في مجالات شتى , بل هذا هو أساس الشرك بالله كما سبق بيانه .
الثانية : زيارة القبور على غير هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - :فإن هذه الزيارة تشتمل غالبا على المعاصي والبدع والشركيات, فلانجاة من هذه المخالفات إلا بالحرص على أن تكون الزيارة للمقابر على منهاج النبوة.
الثالثة : اتخاذ بعض القبور عيدا :فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)) رواه أبو داود وهو صحيح .
فالتجمع عند بعض القبور ما بين الحين والآخر تعاون على نشر الشرك .
الرابعة: الصلاة إلى القبور أو عليها : فقد تقدم النهي عن ذلك لأنه يؤدي إلى الخلل في العبادة وهو ذريعة إلى البدع والشرك .(103/62)
الخامسة : تحري الدعاء عند القبور : فزيارة القبور من أجل الدعاء عندها وسيلة عظيمة من وسائل الشرك, ولم يرد عن أحد من السلف أنه أتى قبر نبي أو ولي ليدعو الله عنده, بل إن الدعاء عند الضرائح ينافي الإخلاص في العبادة والحب والتعظيم والتوكل والإنابة والخشية والخشوع, فالله الله في اجتناب الدعاء عند الضرائح .
السادسة :اتخاذ القبور مساجد :إن اتخاذ القبور مساجد من صنائع اليهود والنصارى التي ألحقت بهم اللعنة واشتد عليهم غضب الله كما سبق سرد الأحاديث الدالة على ذلك .
السابعة : البناء على القبور : هذه الذريعة أعم من التي قبلها لأن البناء على القبور يشمل بناء القباب والمساجد والمشاهد, فيا لله كم أنفقت من أموال لإحياء هذه الوثنية .
الثامنة : شد الرحال إلى آثار الصالحين : إن السفر إلى قبور الصالحين للتبرك بها عادة من عادات الجاهلية , نجانا الله من ذلك .
فلا يجوز شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام, والمسجد النبوي, والمسجد الأقصى للأدلة الدالة على ذلك .
التاسعة : التبرك بما لم يرد شرعا : إن اجتناب التبرك بكل ما منع الإسلام التبرك به هو سبيل الخلاص من أنواع الشركيات, ومن ذلك التبرك بشجر أو حجر أو مسجد أو غير ذلك, فالواجب إزالة كل شيء يتبرك به وهو غير مشروع واستئصال جذوره.
العاشرة : تحري العبادة في الأماكن التي عبدت من دون الله . لأن أداء العبادة فيها داع لإحياء الشرك في ذلك المكان .
الحادية عشر: القراءة في الكتب التي ترغب في بدع القبورية, فالقراءة في كتب الضلال سبب في إفساد كثير من المسلمين . وما كثر تأليف هذه الكتب إلا بسبب كثرة الإقبال على قراءتها .
فلا عافية لأفراد المسلمين وجماعاتهم وشعوبهم وحكامهم إلا بالابتعاد عن كتب أهل الضلال والإلحاد .وواجب على من عرفها أن يحذر منها .(103/63)
الثانية عشر : تلقي العلم على أيدي دعاة القبور . إن من أعظم أسباب فساد المتعلمين تعلمهم على أيدي المنحرفين في المعتقد أوالعبادة, فلا بد من الحرص على اختيار المعلم الصالح لأن التعلم على أيدي علماء التوحيد سبب لأمان العقل من الشكوك التي تؤدي إلى الحيرة والاضطراب, وسبب لأمان القلب من الزيغ والانحراف وسبب للمحافظة على الفطرة من الفساد .
الثالثة عشر : التشبه بالكفار في عقائدهم أو عباداتهم :
(الناس على دين ملوكهم)
هذه المقولة مشهورة عند الناس, ومعناها أن الشعوب غالبا ما تتأثر بأعمال زعمائها إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
قال ابن كثير في "البداية والنهاية"9/186 : (كانت همة الوليد بن عبد الملك في البناء وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل ماذا بنيت ؟ ما ذا عمرت ؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل كم تزوجت ؟ ما ذا عندك من السراري ؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن والصلاة والعبادة وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول كم وردك ؟ كم تقرأ كل يوم ؟ ماذا صليت البارحة) اهـ .
فمداومة الأمراء والملوك على أعمال تخالف الشرع تكون داعية على سير الناس على ذلك, فيا ويل من سن للناس سنة سيئة فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أو زارهم شيء)) رواه مسلم عن جرير, وهنيئا لمن سن في الإسلام سنة حسنة فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده)) فالدول المذكورة هنا أحدثت أسوأ السنن السيئة ألا وهي نشر الشرك والخرافة فقبلها المجتمع إلا من رحمه الله .
فتصور كم من أوزار يتحملها من سن هذه البدع ؛ لأنه تفسد بفساده شعوب وأمم, وغالبا يدوم أمر البدع على ممر القرون .(103/64)
فيا ويل من كانت البدع زاده إلى الآخرة فانظر: إلى ما آلت إليه تلك البدع التي أحدثها الملوك والسلاطين في ربوع البلاد . فلا حول ولا قوة إلا بالله فهل من توبة وإنابة إلى رب العالمين ؟؟!.
الأسلحة التي يقاوم بها المسلمون الشرك والخرافة
إن الناظر إلى حال أمة الإسلام ببصيرة ليدرك مدى حاجتها إلى الذب والدفاع عنها بكل ما أوتي من وسائل شرعية ,وأهم ما يجب على المسلم والمسلمة ابتعادهم عن الشرك ودواعيه ولا يحصل هذا إلا بأمور ومنها :
تعلم التوحيد على أيدي أهله فهو أول واجب وآخر واجب كما هو معلوم وكيف لا يكون كذلك , وقد بعث الله جميع الأنبياء بالدعوة إلى تحقيق هذا الأصل العظيم .؟
اجتناب أنواع الشرك: لأن عبادة الله عز وجل لا تتحقق إلا بتجنبه ولا يتحقق للعبد تجنبه إلا بمعرفة أنواعه .
معرفة دعاة التوحيد والرجوع إليهم: قال تعالى : }فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
اقتناء الكتب النافعة :
ولا بد للمسلم أن يكون متوكلا على الله معتمدا عليه مسلما لقضاء الله وقدره عالما بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
ذكر بعض القادة الذين هدموا الضرائح
أخي الكريم: نستطيع أن نثبت شهادة التاريخ الإسلامي لقادة الفتح أنهم هدموا القباب والمشاهد والأصنام من طريقين:
الطريقة الأولى: طريق عامة مجملة وهي دليل قوي إذ أنه من المعلوم أنه ما من بلدة دخلها الإسلام إلا وكانت فيها الأصنام والمشاهد التي تعبد من دون الله، وهذا الأمر حق لا يستطيع أن ينكره أحد ، فالجزيرة العربية كانت مملوءة بذلك وسائر بلاد العالم، فإذا تقرر هذا وضع سؤال ألا وهو أين ذهبت تلك الأصنام والمشاهد إذ أن اختفاءها لم يكن إلا عند مجيء الإسلام؟(103/65)
فالجواب: الذي لا يحاد عنه هو (أن قادة الفتح الإسلامي هدموها) ولم لا يكون هذا؟ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل إلى القبيلة التي فيها وثن يعبد من دون الله بمجموعة من أصحابه ليهدموه ، وهكذا سار الأمر في عهد الخلفاء الراشدين ، وهكذا استمر بعدهم, فتقرير هذا الأمر يجعلنا نجزم أن الفاتحين الإسلاميين طهروا البلدان التي فتحوها من عبادة غير الله.
الطريقة الثانية: التاريخ الإسلامي حافل بذكر القيام بهدم الأصنام والضرائح ، ونذكر هنا بعض القادة الذين قاموا بهدم الأصنام:
الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ذكر ابن خلدون في "المقدمة" أن هارون الرشيد (عزم على هدم إيوان كسرى فشرع في ذلك حتى أدركه العجز).
الخليفة العباسي المأمون قام بضرب الأهرام الفرعونية التي في مصر بالمنجنيق ولكنها لم تؤثر فيها إلا يسيرا جدا ، ذكر هذا ابن بطوطة في "رحلته"ص(36).
الخليفة العباسي المعتصم قام بهدم الصنم الكبير الذي بناه الملك (كاوس) في مدينة فرغانة من مدن خراسان ، كان هذا الصنم يقال له : المدبر الأعظم، واسمه (كاوسات).(103/66)
السلطان محمود بن سبكتكين القائد المحنك فاتح الهند ، ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" 12/24 في حوادث سنة 418هـ (أن السلطان محمود دخل الهند وأنه كسر الصنم الأعظم المسمى (يومنات) وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة وأعظم ، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد ، وكان عليه من الأوقاف عشرة ألاف قرية ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالا ، وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه ، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات ، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم ، وكان يعوقه طول المفاوز ، وكثرة الموانع والآفات ، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده وكثرة الهنود في طريقه والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة في تجشم ذلك في جيشه وأن يقطع تلك الأهوال إليه فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة فمن اختارهم لذلك سوى المتطوعة فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن ونزلوا بساحة عباده فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة قال: فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا، وقلعنا هذا الوثن ، وأوقدنا تحته النار) وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم فقال : حتى أستخير الله عزوجل فلما أصبح قال : إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه نودي يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إلي من أن يقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا فعزم فكسره.
الخليفة العباسي المهدي ، هدم في خلافته الصنم الذي بناه (سابورب أروشيخه) وكان هذا الصنم في بلاد الروم على خليج القسطنطينية. كما في "مروج الذهب..." للمسعودي 2/246.(103/67)
القائد قرقوش أحد قادة السلطان صلاح الدين الأيوبي قام بهدم أصنام كثيرة في مصر كما ذكر ذلك المقريزي في "الخطط".
الملك الناصر محمد بن قلاوون قام بهدم الصنم الذي كان في مصر في قصر الشمع وقطعه أعتابا وقواعد لما بنى الجامع الجديد على بحر النيل، ولم يبق لهذا الصنم أثر. ذكر هذا صاحب "بدائع الزهور"ص(51).
ذكر المسعودي في "المروج"2/45 قال : (وفي وسط مدينة (جور) من أرض فارس (بنيات) كانت تعظمه الفرس يقال له الطربال ، خربه المسلمون).
ومن رحمة الله بهذه الأمة أنه لا يخلو عصر من آمرين بمعروف وناهين عن منكر من علماء ودعاة وحكام وقضاة في جميع الأمور, ومن ذلك القيام بهدم الضرائح والقباب المشيدة, فنسأل الله أن يكثر من هؤلاء الغيورين على الأسلام وأهله .
الفصل الثاني : قواعد وفوائد تتعلق بعامة القبور
أخي الكريم رأيت من المهم أن أذكر قواعد وفوائد تتعلق بعامة القبور وأثني بعد ذلك بذكر قواعد وفوائد تتعلق بقبور الأنبياء عليهم السلام، وهذه القواعد والفوائد نابعة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأقوال السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان من أئمة الهدى، وهذه القواعد والفوائد تقرب للقارئ الكريم ضبط المسائل , وسرعة فهمها , وسهولة إدراكها.
القاعدة الأولى:
(لا يجتمع مسجد وقبر في الإسلام)
والأدلة على هذه القاعدة كثيرة، قال الله تعالى :{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} [الجن].
وتقرير الاستدلال بهذه الآية الكريمة يكون بالآتي:
أن لفظ (المساجد) عام يشمل ويتناول بعمومه كل مسجد.
لفظ (لله) يفيد الاختصاص والحصر، فتبين من هذا أن من خواص المسجد أن يكون خالصا لله في بنائه الحسي والمعنوي، فمن بنى مسجدا من أجل تعظيم فلان الصالح الحي أو الميت , أو على قبر فلان الصالح , أو بجانبه تعظيما أو إكراما واحتراما لذلك الصالح فقد جانب الإخلاص لله وحده.(103/68)
وقوله : { فلا تدعوا مع أحداً } دليل على وجوب إبقاء المساجد لعبادة الله وحده ، ومن المعلوم أن من دواعي عبادة غير الله جعل المساجد على القبور , أو إدخال القبور في المساجد , أو التقريب بين الاثنين، فدلت الآية الكريمة بأولها وآخرها على تحريم الجمع بين القبر والمسجد، وستأتي الأدلة من السنة النبوية الناطقة بتحريم هذا تحريما قطعيا.
القاعدة الثانية :
(أساس الشرك بناء قبة أو مسجد على قبر تعظيما له).
اعلم أخي المسلم أن الباني على قبور الموتى مسجدا أو قبة يعرض نفسه للوقوع في الشرك، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : قال الله تعالى : ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم عن أبي هريرة.
ولا يخفى على من له أدنى فقه في الدين أن بناء المساجد من أعظم الأعمال التي يتقرب بها إلى الله، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) متفق عليه من حديث عثمان رضي الله عنه , وفي حديث عمرو بن عبسة قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من بنى لله مسجدا يذكر الله فيه بنى الله له مثله في الجنة)) رواه أحمد وغيره.
فمتى قصد بالبناء التعظيم لميت من الأموات فقد أشرك مع الله غيره ؛ لأن بناء المساجد عبادة , والعبادة لا تكون إلا لله، فمتى صرفت لغيره وقع فاعل ذلك في الشرك , نسأل الله السلامة .
تنبيه: لا فرق بين أن يبنى مسجد على قبر أو يدخل القبر في المسجد .
القاعدة الثالثة :
(من بنى قبة أو مسجدا على قبر دون تعظيمه وقع في البدعة)(103/69)
من المهم بمكان أن يعلم المسلمون أن بناء مسجد على قبر أو قبة مع الجهل بتحريم ذلك أمر مبتدع في الإسلام، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة، وعند مسلم بلفظ (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) وهذا الحديث عند بعض أهل العلم نصف الإسلام ؛ لأنه بين أن جميع أعمال العباد الظاهرة لا بد أن تكون موافقة للشرع، فمتى خرجت عن موافقة الشرع كانت من الإحداث في الدين ، وهذا هو الابتداع في الإسلام.
والابتداع في بناء المساجد أو المشاهد على القبور يعد متابعة لطريقة اليهود والنصارى فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) وهذا البناء مدعاة للشرك .
القاعدة الرابعة :
(الحكمة من إظهار القبور العبرة والدعاء لأهلها)
أخي المسلم لقد تقرر في الشريعة الإسلامية جواز رفع القبر عن الأرض مقدار شبر، وهذا الارتفاع يستوي فيه قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم، وتقرر أن الحكمة من ذلك الاعتبار والدعاء للأموات المسلمين، وليس التعظيم لها. روى ابن حبان والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع قبره عن الأرض قدر شبر)) وهو صحيح وعليه العمل عند أهل العلم كافة.
القاعدة الخامسة :
(يجب هدم كل بناء على القبور إذا زاد على شبر)
أخي المسلم : لا يخفى عليك أن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد أوجبا على المسلمين أن يلتزموا بالقدر الشرعي عند دفن الميت، وهو أن لا يرتفع القبر أكثر من شبر , فما زاد على ذلك وجب هدمه سواء أكان على قبر نبي أو صالح أو طالح، وإليك الأدلة علىذلك:
روى مسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج الأسدي : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها))(103/70)
وروى مسلم أيضا من حديث ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي , ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يأمر بتسويتها)).
وأحاديث النهي عن البناء على القبور والتجصيص لها وما كان في معنى ذلك دالة على تحريم البناء على القبور .
تنبيه: المراد بتسوية القبور مازاد على الشبر لا إلصاقها بالأرض جمعا بين الأحاديث الدالة على شرعية ارتفاع القبر مقدار شبر، والدالة على تسويته.
القاعدة السادسة :
(بناء المساجد أوالقباب على القبر ليس دليلا على صلاح الباني ولا المبني عليه)
أخي المسلم : إنه من المؤسف جدا أن يصل الجهل بأهله من المسلمين إلى أن يظنوا أن الإسلام يحب ويستحسن بناء المساجد والمشاهد على القبور فالإسلام يحارب هذا، ومن يقوم به. فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ أي مرض الموت ـ ذكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة فذكرت أم سلمة وأم حبيبة ـ وقد هاجرتا إلى الحبشة ـ من حسنها وتصاويرها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)) والأحاديث بهذا المعنى كثيرة .
القاعدة السابعة :
(اقتضت المصلحة الشرعية تغييب القبور التي يخشى أن تعبد من دون الله)
لا يخفى على من تتبع أحوال السلف الصالح وقرأ سيرهم ما قام به الصحابة الكرام من تغييب القبور خشية أن تعبد من دون الله، ومن ذلك ما فعله الصحابة الذين فتحوا (تستر) عندما وجدوا رجلا ميتا على سرير (الهرمزان) عند رأسه مصحف، وقالوا للصحابة : هذا (دانيال) , فقام الصحابة وحفروا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان الليل دفنوه وسووا القبور كلها لتعمية أمره على الناس.(103/71)
القصة ذكرها ابن إسحاق، وابن أبي شيبة وابن كثير وغيرهم، وقد قال ابن كثير سندها صحيح إلى أبي العالية.
القاعدة الثامنة :
(عبادة الأشجار والأحجار والناروالشمس والقمر وغير ذلك إنما حصلت
بعد حصول شرك القبور)
أيها المسلم لا يخفى عليك أن أول شرك حدث في الأرض هو شرك عبادة الضرائح, ومنه تفرعت أنواع الشركيات التي لا تحصى ولا تعد, وانظر كم المدة الزمنية بين قوم نوح الذين كانوا يعبدون الصور والضرائح وبين قوم إبراهيم الذين عبدوا الكواكب وعبدوا ما ينحتون, وأيضا من المشاهد أن الأشجار والأحجار والتراب والمياه التي بجانب القبر الذي يعبد من دون الله تنال تعظيما وعبادة بسبب قربها من الضريح الفلاني, وعلى سبيل المثال ما يجري عند الضريح الذي يسمى قبر النبي هود زعموا, فإنهم يجعلون ماء النهر الذي بجانبه مثل نهر الكوثر الذي في الجنة فاتضح من هذا أن استئصال شرك القبور اعلام بانتهاء ما لحق به .
القاعدة التاسعة :
(العبرة بالقبور الظاهرة).
اعلم أخي المسلم أن القبور التي تبنى عليها أحكام شرعية هي القبور الظاهرة، وأما التي في بطن الأرض فلا يثبت عليها حكم شرعي من حيث الظاهر لأن الأرض كلها مقبرة الأحياء. قال تعالى :{ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وامواتا} [المرسلات]، ويستوي في هذا الأنبياء وغيرهم لأن القبر الظاهر هو الذي يترتب على وجوده مفسدة إذا انتهكت حرمته بأي نوع من أنواع الانتهاك المذموم .
وهذه القاعدة مهمة بحيث لا يحتج علينا محتج بالقبور المندرسة على جواز اتخاذ القبور مساجد.
قواعد وفوائد تتعلق بقبور الأنبياء :
لقد ذكرت فيما سبق قواعد عامة تشمل الأنبياء وغيرهم من البشر, وسأذكر هنا قواعد خاصة تتعلق بموت الأنبياء والرسل ودفنهم من أجل أن يسهل على القارئ رد دعاوى دعاة الشرك.
القاعدة الأولى :
(الأنبياء والرسل يدفنون حيث يموتون)(103/72)
والدليل على هذه القاعدة ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما قبض الله نبيا قط إلا دفن حيث قبض روحه)) فقال الصحابة لأبي بكر بعد اختلافهم في دفن رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: أنت والله رضي مقنع ثم خطوا حول الفراش خطا...)) أخرجه أحمد وعبد الرزاق في مصنفه والترمذي والطبراني، وقد أعل بالانقطاع, ولكن له طرق يتقوى بها فهو صالح للاحتجاج، وقد رواه ابن سعد في الطبقات موقوفا بسند صحيح وله حكم الرفع، ويقويه أيضا فعل الصحابة جميعا رضي الله عنهم فهو إجماع منهم، ويقويه أيضا قول عائشة رضي الله عنها بعد أن ذكرت حديث:((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) قالت : (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) فالحكمة واضحة من كون الأنبياء يدفنون حيث يموتون ولا ينقلون إلى مقابر المسلمين خشية أن يعبدوا من دون الله.
وهذه القاعدة ترد على كل من ادعى دفن نبي في غير موضع موته, وما أكثر هذا كما ستراه في الكلام على قبور الأنبياء .
القاعدة الثانية :
(الأنبياء والرسل كانت بعثتهم في الجزيرة العربية والوطن العربي)
ظهر لي من خلال ما ذكره الله في كتابه العزيز ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - في سنته أن الأنبياء والرسل يبعثون في الوطن العربي, ومن ادعى خلاف هذا فعليه البرهان .
القاعدة الثالثة :
(لا يعرف مكان قبر نبي قط إلا قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - )
هذه القاعدة أطلقها مالك رحمه الله, قال شيخ الإسلام ابن تيمية :(...وحكي الإنكار عن مالك وأنه قال : ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ) "مجموع الفتاوى" (27/444)(103/73)
وقال العلامة الجزري :(لا يصح تعيين قبر غير نبينا عليه السلام نعم سيدنا إبراهيم عليه السلام في تلك القرية لا بخصوص تلك البقعة) اهـ ذكر هذا المعلمي في كتابه "عمارة القبور"، وقد ذكر ابن تيمية أن عبد العزيز الكناني قال : (كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح منها شيء إلا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -)"مجموع الفتاوى"(27/446)
قلت: معرفة هذه القاعدة ينسف تلك الدعايات الكثيرة التي فيها الجزم بمعرفة مجموعة كبيرة من قبور الأنبياء، وسيأتي بيان عدم صحة تعيين قبور الأنبياء بالتفصيل إن شاء الله.
القاعدة الرابعة :
(لا يمكن عودة الأنبياء والرسل إلى الدنيا بعد موتهم)
إن مما ابتلي به دعاة القبورية الاعتقاد أن الأنبياء بعد موتهم يجولون ويصولون في أوساطنا، وقد لهج بهذه العقيدة الخرافية دعاة القبور والخرافة، ولهذا يقولون في موالدهم وحضراتهم : ( مرحبا بك يا محمد مرحبا، مرحبا يا نور عيني مرحبا، مرحبا جد الحسيني مرحبا), ومنهم من يدعي أنه يرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اليوم أكثر من سبعين مرة يقظة لا مناما، ومنهم من يدعي أن الأنبياء يحضرون جنائز الصالحين، ومنهم، ومنهم، وهذه شبهة باطلة يدحضها الحق المبين من قول رب العالمين. قال تعالى مخاطبا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - :{إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} [الزمر] فوضحت الآية أن بعث نبينا بعد موته إنما يكون إلى عرصة القيامة. وقال الله :{كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} [الأنبياء] وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)) فنبينا وكذا موسى وبقية الأنبياء عليهم السلام لا يخرجون من قبورهم إلا إلى عرصة القيامة.
القاعدة الخامسة :(103/74)
(رؤية الأنبياء يقظة وهم في الحياة البرزخية خاص بمن شاء الله من الأنبياء)
من المعلوم قطعا أن رسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورأى مجموعة من الأنبياء في بيت المقدس، ورأى مجموعة في السماوات السبع، وهذه الرؤية خاصة بنبينا وبمن شاء الله من الأنبياء، فادعاء أن الأولياء ينظرون في اليقظة إلى الأنبياء وهم في قبورهم دعوى باطلة عرف بها القبوريون, فقد قال عفيف الدين اليافعي القبوري : (الأولياء ترد عليهم أحوال يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موسى في قبره...) "الحاوي" للسيوطي، وكيف لا تكون الدعوة باطلة وهي عارية من الأدلة القرآنية والسنة النبوية؟!، ولم يدع هذا أحد من السلف , ولم يقل ذلك أئمة الهدى من بعد السلف، بل يحذرون من ذلك أشد تحذير.
القاعدة السادسة :
(حياة الأنبياء قي قبورهم حياة برزخية لا صلة لها بحياة الأحياء على الأرض)
إن عقيدة أهل السنة والجماعة في حياة الأنبياء والمرسلين بعد مماتهم أنها حياة برزخية لا صلة لهم بما يجري عند الأحياء من أحوال، وهذا لا خلاف فيه عند المسلمين إلا ما حصل عند القبورية من أنها تعتقد أن الأنبياء والمرسلين وهم في قبورهم يتفرغون لكشف البلاء والتحرك في أقطار الأرض، وهذا الاعتقاد ينافي تماماحياتهم وهم في أوساط أقوامهم، فكيف يمكن أن يكون هذا صحيحا وهم في حياتهم البرزخية، وهي حياة خاصة؟!فاعتقاد القبوريين لهذه العقيدة فيه مزاحمة لربوبية الله ومنازعة لألوهيته.
القاعدة السابعة :
(لا يوجد دليل يثبت أن نبيا واحدا دفن في مسجده)(103/75)
أخي المسلم إن الذي يقرأ في بعض كتب التاريخ يجد أنها تذكر أن أنبياء دفنوا في مساجدهم كإسماعيل ونوح وشعيب وغيرهم, مع العلم أن هذا محرم في جميع الشرائع السماوية, فكل الشرائع السماوية جاءت بالتوحيد وبمحاربة الشرك، ولا يشك أحد له بصيرة بالتوحيد ويعرف خطورة الشرك أن من أعظم أسباب الوقوع في الشرك وجود قبور الأنبياء والصالحين في المساجد. ألا يستحي الذين يدعون أن بعض الأنبياء دفنوا في مساجدهم
القاعدة الثامنة :
(اختص الله الأنبياء والرسل ببقاء أجسادهم بعد مماتهم)
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وهذه خصوصية لهم لا يشاركهم فيها غيرهم. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((...إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء)) رواه أبو داود والبيهقي وهو صحيح.
القاعدة التاسعة :
(حياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الشهداء)
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن حياة الأنبياء في قبورهم أكمل وأجل من حياة الشهداء، فقد قال تعالى في الشهداء : {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران], وقال أنس : (لقد أنزل الله قرآنا في أهل بئر معونة الذين قتلوا غدرا {بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه} ثم نسخت هذه الآية ، والحديث متفق عليه.
وفي حديث ابن مسعود عند مسلم وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الشهداء : ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح حيث شاءت من الجنة ثم تأوي إلى تلك القناديل)) فهذه حياة شهداء المعارك في سبيل الله في البرزخ، وحياة الأنبياء أجل منها. قال الله تعالى :{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}[النساء] .
وقد علم من الأدلة الشرعية أن درجة الأنبياء والرسل أعلى الدرجات.(103/76)
ومن كمال حياتهم أنهم يصلون في قبورهم، روى أبو يعلى والبزار وأبو نعيم وابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) وفي حديث أبي هريرة عند مسلم ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى قائما يصلي، ورأى عيسى قائما يصلي، ورأى إبراهيم قائما يصلي، وحانت الصلاة فصلى بهم - صلى الله عليه وسلم - )) ومن حديث أنس عند مسلم (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى عند الكثيب الأحمر قائما يصلي)) وهذه صلاة نعيم لا تكليف
القاعدة العاشرة :
(اختص الله نبينا بمن يبلغه صلاة وسلام أمته عليه)
ومن الخصائص التي اختص الله بها نبينا نصا وغيره من الأنبياء احتمالا تبليغهم بعض طاعات الأحياء، روى أبوداود والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي والحاكم وابن خزيمة والبيهقي من حديث أوس بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي...)) وهو صحيح.
ومن حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته)) أخرجه الحاكم والبيهقي وهو صحيح بما قبله. ومن حديث أبي هريرة مرفوعا وفيه ((...وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أحمد وأبوداود والبيهقي في "حياة الأنبياء" وهو حسن. ومن حديث أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مامن أحد يسلم علي إلا رد الله روحي حتى أرد عليه السلام)) رواه أبوداود والبيهقي وأحمد والطبراني وهو حديث حسن. ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) رواه النسائي وأحمد وابن حبان والحاكم وعبدالرزاق وهو حديث صحيح.(103/77)
فهذه الأحاديث المتضافرة تدل بمنطوقها ومفهومها على أن الأنبياء بعد موتهم لا يعلمون الغيب، فحياة الأحياء هي من جملة علم الغيب بالنسبة للأموات لأنهم قد انتقلوا إلى حياة أخرى. فالقبورية التي تدعي أن الأنبياء يعلمون في قبورهم أحوال أممهم هذا من أبطل الباطل، والذي يظهر أن القبورية تتوصل من خلال هذا الزعم الباطل إلى الغاية التي تريدها ألا وهي أن أقطابها وأوتادها يعلمون الغيب بعد مماتهم، وسنذكر أمثلة على هذا في محلها.
القاعدة الحادية عشر :
(اختص الله الأنبياء بتخييرهم في الانتقال إليه وبالبقاء في الدنيا)
لا يخفى عليك أيها المسلم أن من إكرام الله لأنبيائه ورسله أنه لا يميتهم حتى يخيرهم, وهذه من الخصائص لهم، وإليك البرهان :
روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الصحابة فقال : ((خير الله عبدا بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله)) وهو يعني بالعبد نفسه.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرض موته : ((اللهم في الرفيق الأعلى)) فعلمت أنه خير فاختار.
وجاء في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحدث عن مجيء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه وفيه: ((فلطم موسى ملك الموت فقال ملك الموت: يارب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فقال الله لملك الموت: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد؟ فضع يدك على متن ثور فما توارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة قال: ثم مه قال: ثم الموت قال: فالآن رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)) .
القاعدة الثانية عشر :
(جميع الأنبياء والرسل توفاهم الله في عصرهم الذي بعثهم فيه
ولم يبق أحد منهم على وجه الأرض)(103/78)
لقد دل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن الأنبياء ماتوا في عصرهم الذي بعثهم الله فيه. قال الله مخاطبا نبيه الكريم :{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} [الأنبياء]، فالآية الكريمة تشمل عامة الأنبياء من قبله، وهذا أمر مقطوع به، بل الأنبياء داخلون فيها دخولا أوليا لأن الله يخاطب نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - مبينا له أن إخوانه الأنبياء قد ماتوا ولم يبق أحد منهم على وجه الأرض، وقد دلت أدلة نصية في السنة النبوية الصحيحة ليس هذا محل ذكرها على موت بعضهم, كموت موسى وداود وسليمان, ومن الخرافة أن يعتقد أن بعض الأنبياء لم يموتوا كالخضر عليه السلام, ومن أصحاب هذه العقيدة الفاسدة من يعتقد وجوده إلى الآن، وهؤلاء هم حملة الفكر الخرافي, وقد اغتر بعض العلماء بأحاديث وآثار تثبت حياة الخضر، ولو أنهم رجعوا إلى أهل الحديث الذين غربلوا هذه الأحاديث وبينوا أنها باطلة لا يصح منها ولا حرف واحد لكان خيرا لهم، وإليك ما قاله الحافظ ابن حجر قال رحمه الله: (ولا يثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قص الله من خبرهما, وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل...).
وهناك من يعتقد أن أصحاب الكهف أنبياء ولم يموتوا إلى الآن ولن يموتوا إلا عند قيام الساعة، والحق أنهم ليسوا أنبياء، وليسوا باقين بل ماتوا، وسيأتي هذا في محله.
تنبيه: عيسى قد توفاه الله وفاة منام لا وفاة انتقال، قال الله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء]، وهذا هو الراجح، وهذه الوفاة خاصة بعيسى عليه السلام.
القاعدة الثالثة عشر :
(لا وجود لشيء من آثار الأنبياء المتعلقة بذواتهم)(103/79)
من المعلوم أنه لا يتبرك بذوات الأشخاص إلا بذات نبينا, فيتبرك بعرقه وريقه وشعره على حسب ما دلت عليه الشريعة، إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه لم يبق شيء من تلك الآثار في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم -, وغيره من الأنبياء من باب أولى, وأما ما يدعى من وجود شعرات للرسول - صلى الله عليه وسلم - في عاصمة الخلافة العثمانية حتى قيل إنها ثلاثة وأربعون شعرة, وفي أماكن غير ذلك فهذا مما لا يسلم به لأن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - قد افتقدت وانقطعت أخبارها كما جزم بذلك المحققون.
وكذلك ما يزعمه بعض الناس من أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على صخرة بيت المقدس، وأثر قدم موسى على مسجد قبلي دمشق فذلك باطل, وما يزعمه أصحاب الخرق أن عندهم خرقة الصوف التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها فتلك خرافة يلعب بها أصحابها على الحمقى من المريدين. والواجب علينا أن نتبع ما جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
القاعدة الرابعة عشر :
(لا يمكن أن يثبت قبر أي نبي إلا ببرهان من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - )
من المعلوم أن ادعاء وجود قبر أي نبي تبنى عليه أحكام، بل وجوده له علاقة كبيرة بمعتقد المسلمين، وإذا كان كذلك فلا بد من البرهان من الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه القاعدة سنطالب بالإلتزام بها في إثبات قبر أي نبي , وإذا صح ذكر الأثر إلى الصحابي أن قبر النبي الفلاني في مكان كذا وكذا فلا يكفي هذا في إثبات قبر ذلك النبي لأنه يبقى الحكم عليه أنه من الإسرائيليات التي لا خطام لها ولا زمام .
القاعدة الخامسة عشر :
(لا اعتماد على أخبار أهل الكتاب عن قبور الأنبياء)
من المعلوم أن كتب أهل الكتاب مليئة بذكر قبور الأنبياء, وهي مما لا يعتمد عليها, ومن المؤسف أن عباد القبور يجعلون ما ذكرته هذه الكتب من المسلم به فما أعظم جنايتهم على الإسلام وأهله .
القاعدة السادسة عشر :(103/80)
(لم يجعل الله هداية الخلق متعلقة بقبور الأنبياء)
لا يخفى على المسلم العاقل أن عباد القبور يجعلون هداية الناس وصلاحهم بالتوجه إلى الضرائح ومنها ضرائح الأنبياء والرسل, وهذا يوقع الناس في الشركيات , ولهذا حرم الإسلام شد الرحال إلى أي قبر بما في ذلك قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
ذكر الأدلة على عدد الأنبياء والرسل
اعلم أخي المسلم أننا نؤمن جملة بكل نبي بعثه الله, فنؤمن أن الله قد بعث أنبياء وأرسل رسلا. قال تعالى :{ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} [النساء]، وقال تعالى :{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر]، وقال تعالى :{ثم أرسلنا رسلنا تترى} [المؤمنون]، وقال تعالى :{وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر]، وأما تحديد عددهم فهذا لا يكون إلا بوحي من الله , وقد جاء من حديث أبي أمامة أن رجلاقال: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال : (( ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا )) أخرجه ابن حبان14/69وابن مندة في التوحيد 2/141 رقم 571 وقال : هذا إسناد صحيح على شرط مسلم والجماعة إلا البخاري .(103/81)
وأما الإيمان بالأنبياء والرسل مفصلا فهذا لا يكون إلا بمن سماهم القرآن أو سمتهم السنة النبوية المطهرة، ومن ذلك ما ذكره الله في سورة النساء، قال تعالى :{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما} [النساء] وفي سورة الأنعام قال سبحانه :{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين}[الأنعام] وإدريس في سورة مريم وهود وصالح في كثير من السور، والخضر في سورة الكهف, فما ورد من ذكر أسماء أنبياء ورسل لم يذكروا في القرآن وصحيح السنة لا نسلم بذلك ولا نؤمن بصحتة .
أحاديث وآثار
في قبور الأنبياء لا يصح منها شيء
أخرج الطبراني في "معجمه الكبير" عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا)) ولا يثبت بهذا اللفظ, والثابت ما جاء عن ابن عباس بلفظ ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا))
أخرجه الطبراني في"الأوسط" 1/119 وقد حسنه المنذري والألباني رحمهما الله .
وأخرج عبدالرزاق 5/120 والفاكهي عن عبد الله بن ضمرة قال: (من تحت رجلي إلى الركن إلى المقام إلى زمزم تسعة وتسعون نبيا) وهو عند الأزرقي في "أخبار مكة"وفيه زيادة (جاءوا حجاجا فقبروا هناك فتلك قبورهم غور الكعبة) وعبد الله بن ضمرة هو السلولي تابعي لم يوثقه معتبر فهو مجهول الحال , وأيضا ذكر ابن حجر في "التهذيب" أن عبد الله بن ضمرة يروي عن كعب الأحبار فلا يستبعد أنه أخذه من كعب.(103/82)
وأخرج ابن عساكر64/217عن شمر بن عطية قال : (قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا) وسند هذا الأثر ظاهره الصحة إلى شمر وهو تابعي, فهو مرسل والمرسل من قسم الضعيف .
وأخرج ابن عساكر في "تاريخه" كما في "الدر المنثور"4/323 عن عبد الله بن سلام قال : (بالشام من قبور الأنبياء ألف قبر وسبعمائة قبر) وهذا الأثر فيه ابن شجاع وهو كذاب، وفيه انقطاع فإن مكحولا لم يسمع من عبد الله بن سلام .
وقال علامة الشام محدث العصر الألباني رحمه الله في كتابه العظيم "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد"ص(108-111) : (إنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب الستة ومسند أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها من الدواوين المعروفة، وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفا بل موضوعا عند بعض المحققين، وغاية ما في ذلك آثار معضلات بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في "أخبار مكة" فلا يلتفت إليها, وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات) اهـ .
قلت: وهذا كلام رصين جدير الأخذ به، والمحققون من أهل العلم على هذا القول.(103/83)
وأخرج ابن عساكر 2/410 عن كعب قال : (بطرسوس من قبور الأنبياء عشرة وبالمصيصة خمسة وهي التي تغزوها الروم في آخر الزمان...وبالثغور وأنطاكية قبر حبيب النجار، وبحمص ثلاثون قبرا، وبدمشق خمسمائة قبر، وببلاد الأردن مثل ذلك) وهذا الأثر ضعيف لأن فيه محمد بن عمارة بن الخطاب وهو مجهول، وفيه محمد بن أحمد بن إبراهيم وهو مجهول أيضا، وفيه انقطاع، أضف إلى هذا أنه من الإسرائيليات التي لا خطام لها ولازمام؛ وقد جاء عند ابن عساكر أيضا بلفظ (وبالثغور وبسواحل الشام من قبور الأنبياء ألف قبر، وببلاد الأردن مثل ذلك، وبفلسطين مثل ذلك، وببيت المقدس ألف قبر، وبالعرش عشرة، وقبر موسى بدمشق) والأثر ضعيف جدا لأن فيه ابن شجاع وهو كذاب، وفيه علل أخرى.
وذكر الفيروز آبادي في "القاموس" في مادة (غور) وهو يتكلم عنها : (قيل بها قبر سبعين نبيا منهم عزير ويوشع) وهذا الأثر بدون سند، وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : (بلغني أن الرملة قبر فيها سبعون نبيا ماتوا بعد لقمان كلهم أخرجهم بنو إسرائيل فألجؤوهم إلى الرملة وأحاطوا بهم فماتوا كلهم جوعا فتلك قبورهم بين المسجد والسوق).
فمن أين لابن أدهم وغيره هذا ؟ اللهم إلا أن يكون من الإسرائيليات وهي غير مقبولة .
ذكر قبور الأنبياء جملة وتفصيلا
قبر أبينا آدم عليه السلام لا يصح فيه شيء .
لقد جاءت آثار تارة ترفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتارة تذكر موقوفة ومنها:
* ما جاء عن أبي بن كعب موقوفا عليه عند أحمد والحاكم, وهذا الأثر موقوف على أبي بن كعب, وفي إسناده علي بن ضمرة السعدي وهو مجهول الحال ولم يوثقه معتبر, وقد تفرد بهذا الأثر, ويخشى أنه من الإسرائيليات, وقد جاء مرفوعا ولا يصح لأن الحسن البصري يرويه مرفوعا عن أبي ولم يسمع من أبي.(103/84)
* ومنها عن أنس عند الدارقطني والحاكم وفيها (أن الملائكة نزلت وكفنت آدم ودفنته وقالت الملائكة : (هذه سنتكم يا بني آدم) وفيه مبارك بن فضالة وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث, وهو موقوف على أنس, وقد أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح إلى ثابت البناني وهو تابعي, فالأثر صحيح عنه ولعله من الإسرائيليات .
* وقد جاءت آثار فيها بيان مكان قبره، أخرج الدارقطني في "سننه" عن ابن عباس وفيه (صلى جبريل بالملائكة على آدم ودفن في مسجد الخيف...) وهذا الأثر فيه عبدالرحمن بن مالك بن مغول وهو متروك. كذا قال الدارقطني.
* وجاء عند ابن عساكر وابن سعد كما في "الدر المنثور" 3/334 إلا أن السند فيه الكلبي وهو كذاب، وأبو صالح ضعيف.
* وجاء عند أبي الشيخ عن مجاهد أيضا إلا أنه لم يصح إلى مجاهد لأنه مسلسل بالكذابين.
* وأخرج أبو الشيخ في "العظمة" عن خالد بن معدان ( أن آدم لما توفي حمله مائة وخمسون رجلا من الهند إلى بيت المقدس ودفنوه بها وجعلوا رأسه عند الصخرة...) وفيه مجاهيل, وأعظم من هذا أنه من الإسرائيليات .
فخلاصة الكلام أنه لا يعلم مكان قبر آدم، وهذا نقطع به، ويعتبر أن ادعاء قبره في مكان كذا تقول بدون علم.
تنبيه: ذكر صاحب كتاب "المنار" 3/220 أنه رأى في الهند ضرائح تعبد من دون الله ومنها ضريح آدم وزوجه وأمه مع العلم أنه ليس لآدم عليه السلام أم، ولكن هكذا الجهل يعمل بأصحابه.
تنبيه آخر : كان اشتهر أن قبر أمنا حواء في جدة، ولهذا ذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية" 304 (أن شريف مكة عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز اعترضت القناصل (الأجنبية) في جدة على هدم قبر أمنا حواء بحجة أن حواء أم لجميع الناس وليست أما للمسلمين فقط ) فادعاء أن قبر حواء في جدة من الادعاءا ت الباطلة، وهدم القبر المزعوم أنه لحواء والحمد لله .
قبر النبي نوح عليه السلام .
قال ابن عساكر 62/240: (يقال إن قبر نوح في القاع، ويقال في مكة )(103/85)
وفي المجلد نفسه ص(288) عن عبد الرحمن بن سابط (إن قبر نوح ...بين زمزم وبين الركن والمقام).
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" 1/137 نقلا عن ابن سابط: (إن قبر نوح بالمسجد الحرام)
قلت: ابن سابط تابعي فمن أين له هذا ؟ هذا على اعتبار أنه صح إلى سابط .
ومن المتأخرين من يذكر أنه ببلدة بالقاع تعرف اليوم بكرك نوح.
قلت: الكرك مدينة في عصرنا تقع في المملكة الأردنية. أنظر كتاب "شمال الحجاز"1/187.
قلت: اعتماد المؤرخين على إثبات قبر نوح ليس له دعامة يقوم عليها, وإنما هي أخبار تاريخية لا خطام لها ولا زمام، وقد تقدم أن إثبات قبر أي نبي لا يمكن أن يكون إلا ببرهان من الله أو من صحيح سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قبر هود عليه السلام :
أما قبر النبي هود فقد كتبت فيه رسالة خاصة بعنوان "إخبار الوفود بحكم زيارة قبر النبي هود" وجعلت الكلام عليه مثالا لما يجري عند قبور من يقال عنهم أنهم أنبياء من شركيات وخرافات وبدع عن طريق عباد الضرائح، ومثلت بقبر هذا النبي لأن الصوفية تجزم بأن قبره في حضرموت في مكان اختاروه هم. وبينا بطلان هذا .
قبر نبي الله صالح عليه السلام :
جاء عند ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط (أن صالحا عليه السلام دفن بين زمزم وبين الركن والمقام).
قلت: وابن سابط تابعي ولا يستبعد أنه تلقاه من رواة الإسرائيليات.
وأخرج أبو الشيخ عن وهب بن منبه (أن صالحا ومن معه ماتوا بالحرم فتلك قبورهم غربي الكعبة) ذكره السيوطي في "الدر" 3/99 ووهب مشهور برواية الإسرائليات,(103/86)
وقد تقدم تحديد المكان الذي كان فيه قوم صالح وهو الحجر, وإذا كان لا يوجد دليل يثبت به قبر صالح عليه السلام في قومه فمن الصعب جدا قبول الأخبار الشائعة أنه في غير الحجر، فهناك من يدعي أن قبر صالح عليه السلام في اليمن في حضرموت الداخل، وهناك مزار لذلك الضريح وإن كان قد خف جدا في أيامنا، وهناك ضريح في محافظة (الضالع) يقال إنه قبر النبي صالح، وهناك وهناك، وكلها كذب.
قبر نبي الله إبراهيم عليه السلام :
اشتهر عند المؤرخين أن إبراهيم خليل الرحمن مدفون في فلسطين في مكان اسمه (مدينة الخليل) قال ابن تيمية رحمه الله : (وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف ـ قلت : مدينة الخليل ـ هو قبره وأنكر ذلك طائفة) اهـ من "مجموع الفتاوى" 27/444 وقال في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" 2/188
:(وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم الخليل مسدودة لا يدخل إليها أحد إلى حدود المائة الرابعة فقيل إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في منامها فنقبت لذلك، وقيل إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك...)
وقال ابن كثير 1/164: (فقبره وقبر ولده إسحاق في المربعة التي بناها سليمان بن داود ببلدة حيرون وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا تلقي بالتواتر أمة بعد أمة وجيل بعد جيل من زمن بني إسرائيل إلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا , فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم).
وعلى كلٍ: لا يوجد دليل يعتمد عليه أن قبر إبراهيم الخليل في المدينة المذكورة، ومجرد إثبات ذلك تاريخيا لا يسوغ لنا قبول ذلك، فلا يثبت مكان قبر إلاببرهان .
تنبيه آخر : ذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية والعلمية"ص(311)
عن بعضهم: (أن إبراهيم الخليل عليه السلام اغتسل في جرن أسود في حمام الواساني في حلب , والناس لا يزالون يتبركون بهذا الماء في الحمام المذكور ويدعون أنهم يجدون الشفاء خصوصا النساء). اهـ(103/87)
وهذا الادعاء من جراب الدجالين لا بارك الله فيهم .
6- قبر نبي الله لوط عليه السلام :
في "تاريخ دمشق" 50/326 عن الزهري أنه قال : (لما عذب الله قوم لوط لحق لوط بإبراهيم حتى قبضه الله إليه) وهذا الأثر فيه إسحاق بن بشرة وهو متروك، وهناك أثر عن السدي لا يصح.
7- قبر نبي الله شعيب عليه السلام :
ذكر السمعاني أنه قبر في (حطين) بـ (فلسطين).
وقال النووي: (هذا مشهور في بلادنا، وعلى قبره بناء، وكذا ذكر غير واحد أنه في (حطين) وهو يزار ويعبد من دون الله)، وهذه مجرد أقوال لا تقوم بها حجة, وقد تقدم أنه لا يثبت قبر نبي بمكان ما إلا ببرهان .
وذكر وهب بن منبه أن شعيبا مدفون في مكة غربي الكعبة بين دار الندوة وبين سهم، وهذا من الإسرائيليات إذ أن وهبا كان مشتغلا بذلك.
وذكر بعضهم أن للنبي شعيب مقاما في الشام يسمى (مقام النبي شعيب) يستحيل على البدو من سكان تلك الجهات أن يحلف أحدهم كاذبا بحق شعيب...).
وجاءت آثار أن شعيبا عليه السلام مدفون في المسجد الحرام بين زمزم والركن والمقام ولكن من أين لهم هذا ؟
وجاء عند الأزرقي في "أخبار مكة" قال محمد بن سابط : (كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت فمات بها نوح وهود وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر) ومحمد بن سابط ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 7/283وقال: (لا أعرفه) والأثر بدون سند , وإذا صح السند إليه فمن أين له هذا ؟
وهناك من يدعي أن قبر النبي شعيب في اليمن في مكان يسمى جبل حضور وعرف بجبل النبي شعيب، وهذا الجبل خارج صنعاء غربا وهو أرفع جبل في اليمن، وقد وضع ضريح في هذا الجبل باسم النبي شعيب، ويزار وتقع الشركيات عنده إلى الآن. عجل الله بهدم هذا الضريح فهو كذب بلا شك.
قبر نبي الله إسماعيل عليه السلام :
لقد جاءت آثار تدل على أن قبر إسماعيل في الحجر, ولا يصح منها شيء وهي كالتالي :(103/88)
* عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن قبر إسماعيل في الحجر)) عزاه السيوطي في "الجامع" إلى الحاكم في "الكنى" وذكره الألباني في ضعيف الجامع .
* عن كعب الأحبار قال : (قبر إسماعيل ما بين زمزم والركن والمقام) أخرجه عبد الرزاق والفاكهي, وهذا الأثر فيه إعضال حيث إن ابن جريج قال : (بلغني عن كعب) وابن جريج من أتباع التابعين، فالساقط أكثر من واحد، فلم يصح هذا إلى كعب الأحبار فلا ينسب إليه, ولو صح إليه لكان من الإسرائيليات إذ كعب الأحبار مشتغل بذلك.
* عن ابن عباس قال : (في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وشعيب في الحجر مقابل الركن الأسود) وهذا الأثر فيه محمد بن السائب الكلبي وهو كذاب، وفيه أبو صالح باذام وهو ضعيف, فلم يصح هذا إلى ابن عباس فلا ينسب إليه.
ومما يدل على عدم وجود قبر إسماعيل في الحجر أن الكعبة بنيت والرسول - صلى الله عليه وسلم - موجود ولم يقل أخرجوا قبور الأنبياء، وكذا بنيت في عهد بعض الصحابة ولم يحصل قط أن ادعوا أن قبرا موجودا عندها، أيضا بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإسماعيل أكثر من ألفي سنة, فمن الصعب إثبات قبر إسماعيل هكذا إلا بوحي من الله ولا وحي، وأيضا لو كان إسماعيل مدفونا عند الكعبة لوجدوا جثته كما هي لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء , ولتناقل الناس ذلك.
وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أن وفاة إسماعيل وإسحاق كانت في الشام، وعزاه إلى ابن سعد وابن عساكر والزبير بن بكار. وفيه الكلبي وهو كذاب كما سبق .
فخلاصة الكلام: أنه لا يوجد دليل من القرآن ولا من السنة النبوية ولا صح عن أحد من الصحابة أن قبر إسماعيل في المسجد الحرام.
9-قبر نبي الله إسحاق عليه السلام :(103/89)
ذكر السيوطي في "الدر" 2/347 أن قبر إسحاق عليه السلام بالشام، وعزاه إلى ابن عساكر وابن سعد والزبير بن بكار من قول الكلبي، والكلبي قد تقدم أنه كذاب، ولعله تلقاه من الإسرائيليات .
وعند ابن عساكر وابن أبي حاتم عن قتادة (أن إسحاق عليه السلام مات بفلسطين).
قلت: قتادة تابعي فلعله تلقاه عن رواة الإسرائيليات، وهناك آثار أخر عن بعض التابعين وأتباع التابعين تشير إلى أن قبر إسحاق في فلسطين أيضا، وسيأتي ذكر بعضها مع ذكر يعقوب .
10- قبر نبي الله يعقوب عليه السلام :
أخرج أبو الشيخ عن ثابت البناني (أن يعقوب عليه السلام دفن مع آبائه إبراهيم وإسحاق). وثابت تابعي.
وأخرج أحمد في "الزهد" عن مالك بن دينار (أن يعقوب دفن مع أبيه إسحاق وجده إبراهيم في أرض كنعان).
وجاءت آثار عن بعض التابعين (أن يعقوب دفن مع أبيه إبراهيم وإسحاق) فيا ترى من أين لهم هذا إذا صحت الأسانيد إليهم ؟
وجاء عند ابن جرير الطبري في تفسيره للآية الكريمة من سورة يوسف {رب قد آتيتني من الملك} عن السدي قال : (لما حضر الموت يعقوب أوصى إلى يوسف أن يدفنه عند إبراهيم وإسحاق) وهذا الأثر فيه عدة علل، ففيه أسباط بن نصر وهو ضعيف، وفيه العنقزي وسفيان بن وكيع وفيهما ضعف.
قبر نبي الله أيوب عليه السلام :
من المعلوم أنه من أنبياء بني إسرائيل، وقد كانوا في الشام، وهناك من يقول إنه دفن في الروم، فقد ذكر ابن عساكر في "تاريخه"10/78 عن ابن عباس (أن نبي الله أيوب مات بأرض الروم على دين الحنيفية) وهذا الأثر لا يصح إلى ابن عباس حيث إنه مسلسل بالمتروكين والضعفاء، ففيه إسحاق بن بشر وهو تالف، وجويبر وهو متروك، والضحاك بن مزاحم لم يسمع من ابن عباس، وعلى هذا فلا ينسب الأثر إلى ابن عباس لأن هذا من باب الكذب عليه رضي الله عنه.(103/90)
ومن العجائب أن قبرا في جبل خارج صنعاء شرقا , يقع هذا الجبل بين بني حشيش وبني الحارث ونهم, هذا الجبل يسمى بجبل النبي أيوب، وفي رأسه قبر وقد بني على القبر مسجد يقال للقبر : ( قبر النبي أيوب) .
ويقع القبر في وسط المسجد، وهذا القبر يؤتى إليه من بعض الأماكن اليمنية، ويؤتى إليه من الدول خارج اليمن كمصر، وباكستان، والهند، والعراق، وتركيا، وفي المسجد صورة المحراب الذي كان يتعبد فيه أيوب، وفيه صورة ثدي المرأة، وفي مؤخرته اكتشف قريبا قبر زوجة أيوب، واسمها (رحمه) وبجانب ذلك الجبل نهر وأشجار فقالوا هو الماء الذي أمر الله أيوب أن يركض برجله ويغتسل فيه.
وهذه المعلومات أخذتها من الرسول الذي أرسلته ليتقصى الحقائق، فأخبره بها إمام مسجد قبر النبي أيوب، وقد سأل أخونا المرسَلْ إمام المسجد كيف عرفوا أن قبر النبي أيوب عليه السلام في هذا الجبل؟ فأجاب: (أن رجلا من عنس هاجر واستقر في بلادهم ثم رأى سراجا في الليل في رأس الجبل فجاءه آت في ثلاث ليال يقول له : إن هذا المكان الذي فيه النور فيه قبر النبي أيوب، فاذهب وابن مسجدا , وإن لم تفعل قتلت أولادك، فذهب الرجل العنسي وأخبر بذلك فقاموا وتساعدوا معه في بناء المسجد) اهـ.
وهكذا تضلل شياطين الجن والإنس المسلمين، إذ أن الرؤيا المنامية المذكورة من قبل الشيطان، ولا بد,كيف لا وفيها التهديد بقتل أولاد الرائي إن لم يفعل.
والسراج الذي شاهده الرجل في رأس الجبل هو من قبل شيطان من الجن أودجال من الإنس ، وقد عمل هذا كثيرا.
قبر النبي داود عليه السلام :(103/91)
روى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((كان داود النبي فيه غيرة شديدة فخرج ذات يوم وأغلقت الدار فجاء داود فإذا رجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنع مني الحجاب، فقال داود : أنت والله ملك الموت، مرحبا بأمر الله فرمل داود إلى مكانه حيث قبضت روحه حتى فرغ من شأنه...)) وهذا الحديث ضعيف, وهو ظاهر في أن داود عليه السلام دفن في داره, ولا معرفة لموضع داره، ولو عرف لكان غير مقدور على معرفة مكان قبره, هذا على افتراض صحة الحديث. ويقال: دفن داود في دمشق، قال ابن تيمية : (هذا كذب) "مجموع فتاوى" 27/491 وذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية" ص(281) (أن نبي الله داود عليه السلام له مزار في (قضاء كلز) من أعمال حلب في سوريا، وله مزار في غرب صيدا بلبنان فيا لله العجب من هذه الأقاويل والأباطيل التي أضلت خلقا كثيرا.
13- قبر نبي الله سليمان عليه السلام :
روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسبيريهما والحاكم في "مستدركه" 4/402 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (كان سليمان نبي الله إذا قام في مصلاه رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول ما اسمك؟ فتقول: كذا وكذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول لكذا وكذا، فإن كانت لدواء كتب، وإن كانت لغرس غرست فبينما هو يصلي يوما إذ رأى شجرة نابتة بين يديه فقال لها : ما اسمك؟ قالت: الخرنوب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب أهل هذا البيت، قال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب، قال: فنحتها عصا، فتوكأ عليها، قال: فأكلتها الأرضة فسقط فخر فوجدوه ميتا حولا فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين، وكان ابن عباس يقرؤها هكذا, فشكرت الجن الأرضة فكانت تأتيها بالماء حيث كانت).(103/92)
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو غريب بمرة من رواية عبيد الله ابن وهب عن إبراهيم بن طهمان فإني لا أجد عنه غير رواية هذا الحديث الواحد ، وقد رواه سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير فوقفه على ابن عباس .
وقال الحافظ ابن كثير: في رفعه غرابة ونكارة والأقرب أن يكون موقوفا...إلخ) .اهـ من التفسير .وبما أن الحديث لا يصح فلا يدرى أين موضع قبر سليمان .
قبر نبي الله يونس عليه السلام :
يقال : إن قبره في جامع محافظة (نينوى) في العراق، وهو يزار من أنحاء العراق، بل ومن تركيا، وإيران، وذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(281-282) أن له ضريحا في بلدة (حلحول) بفلسطين...وثالث في (غار بضبعة) قرب نابلس بفلسطين) وكل هذا كذب من جعبة القبورية.
قبر نبي الله زكريا عليه السلام :
أخرج ابن عساكر في "تاريخه"19/56 حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزكريا حين أسري به: (( أخبرني عن قتلك كيف كان؟ـ وفي القصة ـ فلما أن تخوفت من بني إسرائيل هربت فعرضت لي شجرة فنادتني فقالت: إلي وانصدعت لي, فدخلت فيها فالتأمت وبقي طرف ردائي خارجه من الشجرة, فقال إبليس لبني إسرائيل: شقوا الشجرة بالمنشار فشققت مع الشجرة بالمنشار))
هذا الحديث ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" وقال : ( هذا سياق غريب جدا وحديث عجيب ورفعه منكر).
قلت: الحديث فيه أكثر من علة، ويكفي أنه من طريق إسحاق بن بشر أبي حذيفة البخاري وهو كذاب ، انظر "الميزان".
وجاء عن وهب بن منبه أنه قال : (إن زكريا مات موتا) وذكر بعضهم أن قبر زكريا داخل المسجد في مدينة حلب،فموضوع قبره وقبر غيره من الأنبياء يحتاج إلى دليل من الكتاب أو من صحيح السنة ولا دليل .
قبر نبي الله يحيى عليه السلام :
يقال: إن قبر نبي الله يحيى بالشام في (سوق الحمدية) داخل المسجد، هذا مشهور عند أهل سوريا، إلا أنه لا دليل عليه.(103/93)
وذكر قتادة (أن يحيى قتل بدمشق) كما في "الدر المنثور" 3/94 وقتادة تابعي يتوقع أنه تلقاه عن أهل الكتاب .
وروى ابن عساكر64/218 عن زيد بن واقد أنه قال: (رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق يخرج من تحت ركن من أركان القبلة التي تلي المحراب فكانت البشرة على حالها لم تتغير) وفي بعض الروايات : (أن الوليد بن عبد الملك لما كان يبني مسجد دمشق وقالوا: هذا رأس يحيى فقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة) وهذا الأثر ذكره الألباني رحمه الله وقال : ( إسناده ضعيف جدا), وعلى فرض صحته إلى زيد بن واقد فلا يفيدنا أن ذلك أمر حقيقي لما يعارضه مما هو أقوى منه. فإن القبر الذي في مسجد دمشق باسم أنه قبر يحيى لم يبن إلا بعد مدة من انقراض عصر السلف، وذكر صاحب كتاب "الانحرافات العقدية"ص(278-279) وهو يتحدث عن زكريا قال : (فإن له مزارا آخر في (صيدا) جنوب لبنان في قمة جبل يشرف على البلد والبحر.
وعلى كلٍ فهذا الاختلاف كاف في أن قبر يحيى عليه السلام لا يدرى أين هو، ولا يمكن الجزم بذلك بمجرد آثار جاءت عن بعض السلف إذ أننا قدمنا أنه لا حجة إلا في كتاب الله وما صح من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل قول خرج عن ذلك فهو مردود، والله المستعان.
قبر نبي الله إلياس عليه السلام :
ذكر بعضهم أنه في اليمن ولا حقيقة لذلك وقد جاءت أحاديث وآثار تدل على أن إلياس لا يزال حيا وأنه يلتقي بالخضر كل عام . ولم يصح منها شيء . انظر "المقاصد الحسنة"ص (21-22) للسخاوي و"الزهر النضر في نبأ الخضر" للحافظ ابن حجر.
18- قبر نبي الله إدريس عليه السلام :(103/94)
روى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس سأل كعبا عن معنى قول الله : {ورفعناه مكانا عليا} فقال: (أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني رافع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم فأحب أن تزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال : إن الله أوحى إليّ كذا وكذا فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى ازداد عملا, فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدرا فكلم ملك الموت في الذي كلمه إدريس فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري، قال ملك الموت فالعجب بعثت أقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك فذلك قول الله تبارك وتعالى : {ورفعناه مكانا عليا}لكن كعبا راوية للإسرائيليات .
وذكر ابن جرير عن مجاهد قوله : {ورفعناه مكانا عليا} قال: (إدريس رفع فلم يمت كما رفع عيسى)، وهذا التفسير عن مجاهد من طريق ان أبي نجيح عن مجاهد ولم يسمع منه التفسير وقد جاء من طريق أخرى وهو ضعيف أيضا.
وجاء أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى :{ورفعناه مكانا عليا} قال: (رفع إلى السماء السادسة فمات فيها) وهذا الأثر مسلسل بالسلسلة العوفية وهي سلسلة ضعيفة.
وجاء عن ابن مسعود (أن إدريس هو إلياس) والأثر إلى ابن مسعود فيه عبيده بن ربيعه وهو لين.
فهذه الآثار التي فيها أن إدريس قد رفع مأخوذة من الإسرائيليات, فيبقى أمره على الأصل وهو أنه مات كما يموت غيره من الأنبياء ولا يدرى أين قبره .
قبر نبي الله يوسف عليه السلام :(103/95)
جاء حديث وآثار مفادها أن قبر يوسف كان في مصر ثم نقل ، ومن ذلك ما رواه الحاكم في "مستدركه" عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((...إن موسى أراد أن يسير ببني إسرائيل فضل عن الطريق فقال له بنو إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف أخذ علينا مواثيق أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قال: وأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما تدري إلا عجوز بني إسرائيل, فأرسل إليها فقال: دليني على قبر يوسف فقالت: لا والله لا أفعل حتى أكون معك في الجنة, وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالت فقيل له: اعطها حكمها, فأعطاها حكمها, فأتت بحيرة فقالت : انضبوا هذا الماء فلما نضبوا قالت: احفروا هاهنا فلما حفروا إذا عظام يوسف فلما أقلوها من الأرض فإذا الطريق مثل ضوء النهار))
قال الحاكم : (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" : (هذا حديث غريب جدا والأقرب أنه موقوف) لذا ذكره شيخنا مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه "أحاديث معلة ظاهرها الصحة"
وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة من قوله كما في "الدر"، وأخرجه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس من قوله كما في "الدر". والكلبي متهم، وأبو صالح ضعيف .
وقد ذكر ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز (أن موسى احتمل يوسف من مصر ليدفنه مع آبائه إسحاق ويعقوب) وجاء هذا عن عروة بن الزبير.
فمن أين لهما هذا ؟اللهم إلا أن يكون من الإسرائيليات وهذا باعتبار صحته إليهما .
فاتضح من هذا أنه لا يدرى أين قبر النبي يوسف .
وقد ذكر بعضهم مرجحا أن يوسف دفن في نابلس وهي تبعد عن بيت المقدس مائة كيلو متر تقريبا . ولا أساس لهذا من الصحة.
قبر نبي الله وكليمه موسى عليه السلام :(103/96)
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لما جاء ملك الموت إلى موسى سأل الله موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطور عند الكثيب الأحمر)) والكثيب هو الرمل المجتمع.
فهذا الحديث لا يفيد تعيين مكان قبر موسى عليه السلام, وإنما يفيد أنه قريب من بيت المقدس، وكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عند الكثيب الأحمر)) لا يفيد التعيين أيضا لأن الكثيب لا شك أنه كبير، ولهذا لم يكن قوله عليه الصلاة والسلام : ((عند الكثيب الأحمر)) كافيا في تعيين قبره . ولهذا قال : ((لو كنت هناك لأريتكم قبره)) ويستفاد من هذا الحديث أن بني إسرائيل لا يعلمون قبر موسى حقيقة، وما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من قبل الله، وهذا يؤيد ما ذكرناه في إحدى القواعد أنه لا يمكن إثبات قبر نبي إلا ببرهان من الله أو من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال الحسن البصري : ( لو علمت بنوا إسرائيل قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله) وهذا الذي ذكرناه يدلك على أن ما يقوله أحبار أهل الكتاب لا يعتمد عليه ، وما ذكره ابن عساكر16/182 عن كعب الأحبار (أن قبر موسى في دمشق) لم يثبت إلى كعب فإنه من طريق ابن شجاع وهو كذاب، وفيه انقطاع لأن مكحولا لم يسمع من كعب.
تنبيه: ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاقتضاء" 2/163 (أنه يوجد في مسجد قبلي دمشق يسمى مسجد القدم ـ أي: أثر قدم موسى عليه السلام ـ قال وهذا باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى دمشق ولا ما حولها).
قبر نبي الله هارون عليه السلام :(103/97)
قال الحسن البصري : ( لو علمت بنو إسرائيل قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله) وذكر صاحب كتاب "مجلة الشرق" في كلامه على المزارات في شرقي الأردن : (أن هناك مقاما يقال له مقام النبي هارون) وهو من المقامات التي تعبد من دون الله).
قبر نبي الله يوشع بن نون عليه السلام :
من المعروف أنه من أنبياء بني إسرائيل والتصريح باسمه يوشع قد جاء عند أحمد 2/325 والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" ص(1069, 1070) والخطيب 7/34-35وهو المذكور في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -((غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : (لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها ، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، أو رجل اشترى خلفات وهو ينتظر ولادها000)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.وأما مكان قبره فلا دليل عليه .
وذكر إحسان إلهي ظهير في كتابه "البريلوية عقائد وتاريخ" ص(75) قائلا : (ومقام النبي يوشع نال إكراما من قديم الزمان لما وجد فيه من الخوارق...)
المختلف في نبوتهم
هناك أنبياء اختلف العلماء في نبوتهم, فسأذكرهم وأرجح ما ظهر لي بالدليل، ولن أناقش هنا من اختلف في نبوتهم إلا من ذكره القرآن والسنة، أما من اختلف في نبوته ولم يذكر في القرآن ولا في السنة فلن أذكره هنا لأن هذا الاختلاف لا يعتد به .
وإليك بيان ذلك :
الخضر: والذي عليه جمهور العلماء أنه نبي، وعندهم أدلة على هذا الإثبات من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ليس هذا محل بسطها، ويكفي في ذلك قوله تعالى عن الخضر :{وما فعلته عن أمري} [الكهف] وأما القائلون بعدم نبوته فهم على قسمين:
أ ـ قسم قالوا: هذا من باب الاجتهاد، وهؤلاء يؤجرون لأنهم علماء، والعالم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
ب-قسم قالوا: بعدم نبوته وأنه ولي من أولياء الله، وأرادوا بذلك الخروج عن الشريعة كخروج الخضر عن شريعة موسى، وهؤلاء هم دعاة الضلال والزندقة.(103/98)
أما موته :فقال الحافظ ابن القيم في المنار المنيف ص(69-72): قال أبو الفرج ابن الجوزي : والدليل على أن الخضر ليس بباق في الدنيا أربعة أشياء :
القرآن والسنة وإجماع المحققين من العلماء , والمعقول .
أما القرآن فقوله تعالى }وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد{ فلو دام الخضر كان خالدا.
وأما السنة : فذكر حديث ((أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو اليوم عليها أحد )) متفق عليه .
وأما إجماع المحققين من العلماء فقد ذكر عن البخاري وعلي بن موسى الرضا أن الخضر مات.
وأما الدليل من المعقول : فمن عشرة أو جه... ثم سردها) اهـ
والأدلة التي استدل بها القائلون بحياة الخضر لا يثبت منها شيء، كما صرح بذلك أهل الحديث كالحافظ ابن القيم وابن حجر وصاحب " أسنى المطالب"
وغيرهم، فعدم ثبوت دليل من القرآن والسنة على بقاء حياة الخضر كاف في عدم حياته، ولله در الإمام أحمد بن حنبل حيث قال ردا على من قال إن الخضر لم يمت : (...وما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان).
وأيضا المصرون على عدم مماته هم دعاة القبورية فهم يجزمون بذلك، ولهم في ذلك غرض خطير ألا وهو أن الولي على حد زعمهم قد يعيش في أوساط الناس، ولا يعرفه إلا آحادهم كما أن الخضر ـ على حد زعمهم ـ موجود في أوساط الناس، ولا يراه أكثر الناس، وإن رأوه لا يعرفه إلا آحادهم، والحكايات التي تتحدث عن بقاء الخضر كثيرة ، ولكنها خرافات، ومن غرضهم الخطير أنهم يزعمون أن الخضر قد شرب من عين ماء الحياة، وعلى عقيدتهم من شرب منها لا يموت بل يعيش، ولو قلنا لهم أين العين التي فيها هذا الماء ؟لما قدروا على إثباتها، ولو قلنا لهم أين الدليل على أن الخضر شرب منها؟لما وجدوا دليلا واحدا من القرآن والسنة.(103/99)
وأما الذين يدعون رؤيته فقد أجاب على هذه الحكايات ابن الجوزي رحمه الله قال في كتابه "الموضوعات" 1/197-198: (انتشر الأمر إلى أن جماعة من المتصفين بالزهد يقولون : رأيناه وكلمناه فواعجبا ألهم علامة يعرفونه بها؟!، وهل يجوز لعاقل أن يلقى شخصا فيقول الشخص أنا الخضر فيصدقه).
وأما قبره فعلى كلام القبوريين لم يمت، وهو كلام باطل ولكن لم أهتد إلى ادعاء موضع قبره، وقد ذكر بعض المؤلفين العصريين أن له مقام بعنوان (مقام الخضر الأخضر) في بادية البلقاء الأردن، ومقامه يعبد من دون الله. وقد ذكر صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية" ص(29-30) ما لفظه: (ومن الأولياء الذين يعظمهم المسلمون والنصارى في فلسطين الخضر...إلى قوله: ولا يزالون في الأردن يتوسلون به لتسهيل الولادة قائلين: يا الله يا سيدي الخضر ـ يا الله يا سيدي أبو العباس تفرجها).
ذو القرنين:
أخرج الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((...وما أدري ذا القرنين نبيا كان أم لا؟...)) والحديث جاء مرفوعا كما ترى، وقد جاء مرسلا, ورجح البخاري الإرسال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الرد على البكري: (...وأما ذو القرنين المذكور في القرآن فهو من أهل الإيمان والتوحيد وقد اختلف في نبوته والصحيح أنه لم يكن نبيا..)
تبع: اختلف في نبوته، والصحيح أنه كان مسلما على ملة إبراهيم ولم يكن نبيا فقد جاء من حديث سهل بن سعد الساعدي عند أحمد والطبراني، ومن حديث ابن عباس عند الطبراني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم))
لقمان :(103/100)
لا دليل على نبوته, وأما قوله تعالى :{ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان] فلا دليل فيها البتة على نبوته؛ لأن الله يؤتي الحكمة من يشاء من خلقه وإن كانوا غير أنبياء، قال تعالى :{يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة] ولم يذكر الله لقمان باسم النبوة ولا مع الأنبياء.
وأما قبره فقد ذكر صاحب كتاب "البيان" 3/51 أن قبره في قرية (صرفند) ظاهر مدينة الرملة من أعمال فلسطين، وعلى قبره مشهد. وقال قتادة : (قبره بالرملة) وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : (بلغني أن قبر لقمان ما بين مسجد الرملة وسوقها).
وهذا إن صح عن قتادة وابن أدهم فهو من الإسرائيليات .
5- مريم بنت عمران : اختلف في نبوتها، والجمهور على أنها غير نبيه، وهو الحق، وقال بعض العلماء إنها نبية ، واستدلوا بأدلة إلا أنها غير صريحة كمثل قوله تعالى :{يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران]، وأدلة القائلين بعدم نبوتها أظهر كقوله تعالى :{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} فقد جعل الله في هذه الآية مريم في مرتبة الصديقية والآية وردت لبيان أعلى منزلة نالها عيسى ومريم المدعى فيهما الألوهية، ومما يدلك على أنها غير نبيه أن الله قرن ذكرها مع آسية بنت مزاحم كما في آخر سورة التحريم, وكذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ((كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية)) متفق عليه من حديث أبي موسى. وقرن ذكرها بزوجته خديجة وبنته فاطمة كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة ليس هذا محل بسطها.
وأما قبر مريم فلم يثبت في ذلك شيء، وما أخرجه ابن عساكر (2/411) عن ابن عباس قال : (…ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التي فيها مريم بنت عمران والحواريون فليأت مقبرة الفراديس ـ وهي مقبرة دمشق ـ قبور جماعة من الصحابة الأخيار) فلا يثبت فإن مكحولا لم يسمع من ابن عباس، وفيه علي بن شجاع وهو كذاب.(103/101)
أصحاب الكهف: الصحيح الذي لا ينبغي خلافه أن أصحاب الكهف ليسوا بأنبياء وإن كان بعض العلماء قال إنهم أنبياء إلا أنه لا دليل على ذلك، بل بعض العلماء ينقل الإجماع على عدم نبوتهم، وغاية ما من الله به عليهم أن قال : {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم} [الكهف]، وكان من أمرهم أن طلبوا من الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، وقد فعل، ولما اشتد الإيذاء لهم توجهوا إلى الكهف، ولو كانوا أنبياء لاستمروا مواجهين لقومهم؛ ومن المجازفة القول بأنهم لم يموتوا ولن يموتوا إلا عند قيام الساعة، وأنهم سيكونون أنصارا لعيسى عليه السلام عندما ينزل.
وإليك بعض الآثار التي استدل بها أصحاب هذا القول:
روى أبو نعيم وغيره عن عوف بن مالك قال غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ الحديث ـ وفيه أنه قال : ((لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم حاجا ومعتمرا ويجعل الله حوارييه أصحاب الكهف والرقيم فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا)) والحديث ضعيف جدا لأنه من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو وقد قال فيه علماء الجرح والتعديل: (ركن من أركان الكذب), وفي صحيح مسلم في شأن نزول عيسى وحجه وليس فيه ذكر أصحاب الكهف, وجاء عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((أصحاب الكهف أعوان المهدي)) أشار السيوطي في "الدر" إلى أن هذه الرواية أخرجها ابن مردوية ـ يعني في تفسيره ـ وتفسيره مفقود ويستبعد جدا أن تكون صحيحة وليس ببعيد أن تكون مأخوذة من أهل الكتاب.
وما جاء عن بعض السلف كمحمد بن كعب القرضي كقوله : (في الكتب المنزلة إن أصحاب الكهف يكونون في حوارييه وأنهم يحجون معه) إذا صح عنه فهو من الإسرائيليات.(103/102)
وأما تحديد موقع كهفهم فلم يحدد ذلك القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة، وإذا كان التحديد لم يرد في القرآن ولا في صحيح السنة فمن المسلم به أن تحديد مكانهم غير مقدور على الجزم به, فهناك روايات إسرائيلية تقول إنهم في تركيا في الأناضول، وهذه الآثار لا يعتد بها لأنها من الأسرائيليات .
ومن المفسرين من قال: (إنهم في الشام)، وقامت جهات مختصة بالبحث عن موقعهم فقررت أنهم في الأردن في قرية (الرجيب) واعتمد هذا رسميا من قبل الدولة الأردنية، وهي قرية قريبة من العاصمة، ويعتبر البحث عن موقعهم من الفضول، وربما قد يكون له آثار سيئة.
ومن الكذب أن يقال: إن أصحاب الكهف في اليمن في يافع السفلى (رصد) ولقد مررت على مكان اسمه (السعدية) فرأيت سبع قباب فسألت عن أمر هذه القباب فقال لي إخوة: (يزعمون أن هذه قبور أهل الكهف)، فقلت: هذا كذب بلا مرية، لأن المفسرين قديما وحديثا لم يذكروا أن أهل الكهف في اليمن، وطريقة القبورية انتحال الكذب من أجل نشر الخرافة، ويقال: إن أصحاب الكهف في موضع آخر في اليمن, وكل هذا لا يصح .(103/103)
الأسباط: اختلف في نبوة الأسباط فمن قائل إنهم أنبياء ومن قائل إنهم ليسوا بأنبياء, وقد حقق القول في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في "جامع المسائل" المجموعة الثانية ص (297-299) حيث قال : (الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا أنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا عن أصحابه خبر بأن الله تعالى نبأهم . وإنما احتج به من قال إنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة والنساء} والأسباط{ وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب , والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته , كما يقال فيهم أيضا (بنو إسرائيل) وكان في ذريته الأنبياء فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسرائيل... إلى أن قال: والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر وقال تعالى: }ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما{ فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل , كل سبط أمة لا أنهم بنوه الاثناعشر, بل لامعنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطا فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس؛ ومن قال الأسباط أولاد يعقوب لم يرد أولاده لصلبه بل أراد ذريته, كما يقال بنو إسرائيل وبنو آدم, فتخصيص الآية ببنيه لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى, ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا, والصواب أيضا أن كونهم أسباطا إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة ومن حينئذ كانت فيهم النبوة , فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا يوسف . ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال }ومن ذريته داوود وسليمان{ الآيات فذكر يوسف ومن معه , ولم يذكر الأسباط , فلو كان إخوة يوسف نبئوا كما نبئ يوسف لذكروا معه ...إلى أن قال :ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف لآية غافر, ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر وظهرت أخبار(103/104)
نبوته فلما لم يكن ذلك علم أنه لم يكن منهم نبي, ثم قال : وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر).اهـ
ذو الكفل: اختلف في نبوته، والأقرب أنه نبي بدليل ذكره مع الأنبياء. قال تعالى :{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء]، وقال تعالى :{واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} [ص]، فهذا الثناء عليه مع الأنبياء دليل على أنه نبي، أما ما جاء عن عبد الله بن عمرو عند أحمد وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ـ وفيه قصة إتيانه امرأته ثم تركها لما وجدها خائفة ثم أقسم أنه لا يعصي الله فمات من ليلته وأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل)) فقد قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 2/211-212: (هو حديث غريب جدا ، وفي إسناده نظر ، وضعفه في تفسيره . والحديث يدور على سعد مولى طلحة وهو مجهول . وقد جاءت له طريق أخرى غير محفوظة ، فالأقرب أنه موقوف ، وأنه من الإسرائيليات ، ولو صح الحديث لكان الكفل هذا غير ذي الكفل النبي).اهـ
عزير: اختلف في نبوته والصحيح أنه غير نبي، وأما حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((لا أدري عزير كان نبيا أم لا)) فهو ضعيف لأن في سنده محمد بن كريب القرشي أخو رشدين وهو ضعيف, وقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا أيضا, ولكنه ضعيف لأن في سنده محمد بن إسحاق السجزي وهو ضعيف, وما جاء من أحاديث وآثار أن عزيرا كان نبيا ثم محي اسمه من النبوة بسبب مسائلته لله في القدر فلم يثبت منها شيء.
وأما قبره فقد جاءت آثار تدل على أنه دفن في دمشق. ولا يصح منها شيء .
حكم تصوير الأنبياء والمرسلين وتمثيلهم(103/105)
إن التصوير والتمثيل مظهر من مظاهر الكفر والوثنية اليونانية تسرب إلى الديانة النصرانية ومنها إلى المسلمين ، وقد غشيت هذه الوثنية بلاد المسلمين في عصرنا هذا بأشكالها وألوانها ، ومنها المسرحية والقصة والرواية ، وقد قرر العلماء الذين كتبوا في هذه القضية أن دخولها إلينا كان عن طريق الأوروبيين عند ما انفتح لهم جهال المسلمين وصاروا معجبين بما عند أولئك الأعداء من أوضاع وديانة وقيم ، ونقتصر هنا في مسألتنا هذه على الكلام على تصوير الأنبياء والمرسلين وتمثيلهم إذ أنه المتعلق بموضوعنا، وليس هذا منا حصرا لجهة التحريم في التصوير والتمثيل بل تمثيل كل شخصية سالفة أو حاضرة وسواء كانت الشخصية حقيقة واقعية أم أسطورة خيالية فهي محرمة في ديننا ولا تجوز بحال من الأحوال.
ولخطورة تصوير الأنبياء والمرسلين أقيمت الدراسات من قبل العلماء وأصدروا فتاواهم في بيان مخالفة هذا العمل للقرآن الكريم والسنة المطهرة ، ولن أسرد أسماء العلماء الذين صدرت فتاواهم في التحذير من هذه الفتنة لأن هذا أمر فوق العد والحصر ولكن سأكتفي بما يلي :(103/106)
أولا : قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة: فقد أصدر المجمع المذكور قرارا في ربيع الآخر عام 1405هـ هذا نصه: (إن مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مقام عظيم عند الله تعالى وعند المسلمين ، وإن مكانته السامية ومنزلته الرفيعة معلومة من الدين بالضرورة ، وإن الواجب على المسلمين احترامه وتقديره وتعظيمه التعظيم اللائق بمقامه ومنزلته عليه الصلاة والسلام, فإن أي امتهان له أو تنقص من قدره يعتبر كفرا وردة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى ، وإن تخييل شخصه الشريف بالصور سواء كانت مرسومة متحركة أو ثابتة ، وسواء كانت ذات جرم وظل أو ليس لها جرم وظل كل ذلك حرام ، لا يحل ولا يجوز شرعا ، فلا يجوز عمله وإقراره لأي غرض من الأغراض أو مقصد من المقاصد أو غاية من الغايات ، وإن قصد بذلك الامتهان كان كفرا لأن في ذلك من المفاسد الكبيرة والمحاذير الخطيرة شيئا كثيرا وكبيرا، وإنه يجب على ولاة الأمور والمسؤولين ووزارات الإعلام وأصحاب وسائل النشر منع تصوير النبي - صلى الله عليه وسلم - صورا مجسمة أوغير مجسمة في القصص والروايات والمسرحيات وكتب الأطفال والأفلام والتلفاز والسينما وغير ذلك من وسائل النشر ، ويجب إنكار وإتلاف ما يوجد منه ، وكذلك يمنع ذلك في حق الصحابة رضي الله عنهم فإن لهم من شرف الصحبة والجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عن الدين والنصح لله ورسوله ودينه وحمل هذا الدين والعلم إلينا ما يوجب تعظيم قدرهم واحترامهم وإجلالهم ، ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فيحرم في حقهم ما يحرم في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -, لذا فإن المجلس يقرر أن تصوير أي واحد من هؤلاء حرام ولا يجوز شرعا ويجب منعه) نقلا من قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي) ص(167).(103/107)
ثانيا : ما نقله صاحب كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية"ص(142) فقد قال : (...كما أفتى الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بتحريم تصوير الأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة ...), وقد ذكر صاحب كتاب "إيقاف النبيل على حكم التمثيل" ستة عشر عالما أفتوا بتحريم التصوير والتمثيل المسمى بالديني ومن هؤلاء العلماء الشيخ الألباني ، والشيخ ابن باز ، والشيخ/ مقبل الوادعي ـ رحمهم الله ـ .
تنبيه : ابتليت بعض الفرق الإسلامية بالتمثيل وجعلوه من مصالح الدعوة إلى الله –زعموا- ألا ساء ما يفعلون .
زيارة قبور الأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ
قال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي "ص(27) : (الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن بعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح, وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر أحد إليه من الصحابة ، وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل, ولم يكن ظاهرا بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام, ولا كان قبر يوسف يعرف ولكنه أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة ، ولهذا وقع فيه نزاع فكثير من أهل العلم ينكره ، ونقل ذلك عن مالك وغيره لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف؛ ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل واتخذوا المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا .
قال : وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -) .(103/108)
وقال ص(72) : (أما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة بل ابن عمر قدم إلى بيت المقدس ولم يزر قبر الخليل عليه السلام وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام, وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس؛ وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره).
وقال ص(73) : (سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام مثل معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وغيرهم لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام لا قبر الخليل ولا غيره كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر, وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد).
وقال ص(84) : (...ولا أعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا إلى قبر غيره من الأنبياء ولا من أهل البيت ولا من المشايخ ولا غيرهم ...ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم ، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره. وغرض أولئك الحج إلى قبر علي أو الحسين أو الأئمة كموسى والجواد وغيرهما من الأئمة الأحد عشر فإن الثاني عشر دخل السرداب عندهم وهو حي إلى الآن ينتظر ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل... إلى أن قال : وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج ، وتارة نظير الحج ، وتارة بدلا عن الحج .(103/109)
فالجواب كان عن مثل هؤلاء ولكن كان ذكر قبر نبينا لشمول الأدلة الشرعية فإنه إذا احتج بقوله : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد كان مقتضى هذا أنه لا يسافر إلا إلى المسجد لا إلى مجرد القبر كما قال مالك للسائل الذي سأله من نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (إن كان أراد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء : ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد)) اهـ .
زيارة آثار الأنبياء ليس من منهج السلف
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)), وجاء عند مالك وأحمد والنسائي والطحاوي في "المشكل" عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري بسند صحيح أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور : (لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)), وروى سعيد بن منصور وابن وضاح في "البدع" بسند صحيح عن المعرور بن سويد قال : (صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} و {لإيلاف قريش} ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين ذهب هؤلاء فقيل : يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم يصلون فيه، فقال : إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها)(103/110)
فالآثار التي توجد بمكة وبالمدينة وبيت المقدس وفي دمشق أو في الطور أو أو ... لم يكن الصحابة يزورونها فضلا عن شد الرحال إليها، وقد كان الصحابة يصلون إلى الأماكن التي يدعى فيها آثار الأنبياء ولم يكونوا يزورونها ، فعمر رضي الله عنه لما ذهب إلى بيت المقدس لم يتوجه زائرا للصخرة وهكذا غيره من السلف, فما هو مشاهد اليوم من زيارة آثار أنبياء فليس إلا انحرافا عن الهدي النبوي .
ذكر مجموعة من قبور الأنبياء عبدت من دون الله
أخي القارئ الكريم قد تستغرب من هذا العنوان، ولكن هذا هو الحاصل بلا شك فإن عبادة القبور تقع بصرف أي عبادة لتلك القبور، وأنواع العبادات التي اختص الله بها نفسه كثيرة ومنها :
الدعاء ، والحب والتعظيم ، والرجاء والخوف ، والاستعانة والاستغاثة ، والذبح والنذر ، والتبرك ، والحلف ، والطواف وغير ذلك ، فصرف عبادة واحدة من هذه وأمثالها لغير الله شرك, وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - يسير الرياء شركا, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الرياء)) رواه أحمد عن محمود بن لبيد, وهو صحيح .
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (ما شاء الله وشئت يا رسول الله فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((أجعلتني لله ندا ؟قل ما شاء الله وحده)) رواه النسائي وغيره عن ابن عباس، وهو صحيح.
فإذا كان الوقوع في الشرك يكون بالحرف وإن لم يقصد القائل الشرك فكيف بمن يصرف عبادة ؟ !
وإليك بعض أسماء الأنبياء والمرسلين الذين تعبد ضرائحهم:
نوح ، 2- هود ، 3- صالح ، 4 – إبراهيم ، 5- شعيب ، 6- يونس ، 7- أيوب ، 8- الخضر ، 9- موسى ، 10- زكريا ، 11- يحيى ، 12- إلياس ، 13- إدريس ، 14- داود ، 15- إسحاق ، 16- هارون ، 17- آدم عليهم السلام جميعا .(103/111)
وقد تقدم أنه لا يعلم بالتحديد مكان قبور الأنبياء, ولكن دعاة الباطل بنوا بعض القباب على بعض القبور وقالوا هذا قبر النبي الفلاني, وهذا قبر الرسول الفلاني فإنا لله وإنا إليه راجعون .
تنبيه: بعض القبور تعبد في أكثر من مكان كقبر إبراهيم عليه السلام فإنه يعبد في مدينة الخليل، وله مقام في دمشق يعبد، وكقبر شعيب عليه السلام فإنه يعبد في اليمن وفي الشام، وكقبر أيوب عليه السلام فإنه يعبد في اليمن، والروم، والشام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تنبيه آخر: لقد تقرر عندي كما تقرر عند غيري من الباحثين حول مسألة قبور الأنبياء ما يأتي :
1- الأحاديث والآثار التي تثبت أن أكثر الأنبياء دفنوا في بيت المقدس وفي الشام وفي مسجد الخيف وفي الحرم المكي غير صحيحة.
2- الأحاديث والآثار التي سمت قبوربعض الأنبياء ما صح منها لم يصح التعيين للقبر، وما لم يصح وهو الأكثر فلا يصح الإطلاق بها فضلا عن التعيين، ومن هنا نجزم بصحة القاعدة ألا وهي (لا يعلم قبر نبي غير قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ).
3- العلماء الذين أثبتوا قبور أنبياء كان اعتمادهم كثيرا على كتب التاريخ، وكتب التاريخ لا يحتج بما فيها، ولا تبنى على ذلك الأحكام الشرعية، ولا يعارض بذلك ما جاء في القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة.
4- من خلال ما ذكرناه من آثار استدل بها على وجود قبور الأنبياء نجد التناقض الشديد بحيث لا يقدر الشخص أن يقبل تلك التناقضات، وعلى سبيل المثال: قبر هود ذكر في مكة، وفي حضرموت، وفي شبوة، وفي دمشق. وأيوب ذكر قبره في الشام، وفي الروم، وفي اليمن. فهذه الآثار كلها ضعيفة وهي في غاية التناقض.
5- غالب العلماء والمؤرخين الذين ذكروا مجموعة من قبور الأنبياء لم يعينوا أماكنها بالتحديد، ولا أرادوا ذلك، وما ذكروه معينا فلم يجعلوه دليلا على جواز بناء المساجد والمشاهد على القبور عملا منهم بالأدلة التي تحرم ذلك.(103/112)
6- غالب الدعاوى التي بسببها أسست القباب والمشاهد على قبور الأنبياء والمرسلين كانت ناجمة عن طريق الرؤيا المنامية كما مثلنا لذلك بقبر أيوب في اليمن، وهذه الرؤيا نجزم أنها رؤيا شيطانية والذين يدعون أنهم رأوا ذلك الغالب عليهم الجهل ، فإن لم تكن شيطانية فهم كاذبون، ولا يجوز أبدا العمل بالكشف المنامي، أما القبورية فذلك من مصادر التشريع عندها، وهو مصدر يغذيه الشيطان وجنوده.
تنبيه آخر : يقال : قبر النبي حنظلة وأنه في الجامع الكبير بصنعاء. ولا يعرف نبي اسمه حنظلة فضلا عن قبره .
ادعاء آبار سكن فيها الأنبياء
أخي القارئ : قد تستغرب من هذا العنوان، ولكن لا غرابة ما دام أن المفرخين للشركيات يجدون من يقبل جهالاتهم وضلالاتهم، وما سأذكره من آبار يسكنها أنبياء إنما هو من باب التمثيل لا من باب الحصر. وغرض المدعين لهذا هو تجويز ادعائهم أن الأولياء يسكنون في الآبار, فانظر كيف كذبوا على الأنبياء وعلى الأولياء 1- بئر يوسف عليه السلام : تقع هذه البئر في الأردن يدعي الجهال والحمقى أنها البئر التي ألقي يوسف فيها، وهي تقع على بعد أربعة فراسخ من طبرية مما يلي دمشق، وهي تزار ويتبركون بشرب الماء منها.اهـ من كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية" ص(121) وهناك بئر في مصر تزعم العامة أنها هي التي سجن فيها يوسف عليه السلام ويتبركون بمائها وينزل النساء للحبل. المصدر السابق (121)
2- بئر أيوب عليه السلام : وهي بئر تزعم العامة أنه يسكنها نبي الله أيوب وهي في فلسطين، وهي من الآبار التي يتبرك بها, مدعين أن أيوب ركض فيها برجله حينما كان مبتلى. نقلا من كتاب "الألوهية في العقائد الشعبية" ص(120-122). ويدعي أهل سيناء من مصر أن عندهم بئرا يقال لها بئر نبي الله أيوب.(103/113)
بئر مريم عليها السلام : ادعى الخرافيون أن مريم لها أكثر من بئر، ومن ذلك (عين كارم) تسكنها مريم العذراء، يتبرك فيها النصارى، والمسلمون، وهي في فلسطين كما يزعم ةذلك بعض العوام.
ومن ذلك (بئر عونه) يدعي النصارى أن مريم عليها السلام تأتيها العادة الشهرية فيها فيتلون الماء لذلك. نقلا من المصدر السابق ص (120)
وفي مصر شجرة تسمى شجرة العذراء يحج إليها بعض المسلمين الحمقى والنصارى. المصدر السابق ص(126).
ادعاء معرفة قبور بعض الصحابة والتابعين
لا يخفى عليك أيها المسلم أن دعاة القبورية توسعوا في الكذب بحيث إنهم ادعوا معرفة قبور للصحابة وأتباعهم بدعوى لا أساس لها من الصحة من أجل أن يدفعوا الناس إلى التعلق بها والعبادة لها باسم احترام الصحابة وأتباعهم, فلم يكتفوا بالكذب على الأنبياء بادعاء معرفة قبورهم حتى توسعوا أكثر من ذلك فادعوا معرفة قبور بعض الصحابة والتابعين وإليك مجموعة منهم :
قبر بلال بن أبي رباح مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قبر أبي أيوب الأنصاري: لا يثبت أنه دفن في القسطنطينية، وقد بني فوق الضريح مسجد كبير وهو يعبد من دون الله.
ج- قبر أم سلمة رضي الله عنها: لا دليل على دفنها بالشام، قبرها هناك يعبد من دون الله.
د - قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لقد حرص المسلمون عند موته على تغييب قبره فلا يدرى أين هو.
ومن التفنن في الخرافة أنه كان يوجد مسجد في دمشق يقال له مسجد الكف وفيه تمثال كف علي بن أبي طالب، ومن الكذب الصراح ادعاء القبورية أنه مدفون في النجف ، وأكذب من هذا أن يقال : إنه مدفون في الشمس أو القمر أو السحاب ، وهذه الخرافة موجودة عند الطائفة النصيرية.
هـ- قبر الحسين بن علي بن أبي طالب:
وسيأتي الكلام على تنوعات الكذب حول قبر الحسين قريبا إن شاء الله .
و- قبر حذيفة بن اليمان.
ز- قبر سلمان الفارسي: له قبة في الشام ولا يعلم أنه مات هناك بل يقال إنه توفي في المدائن .(103/114)
كل هذه القبور ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" منها ما نفاها ، ومنها ما سكت عنها ولا دليل على إثباتها.
ح- أنس بن مالك بني له ضريح في (آنس) اليمن ، وهو كذب بلا مرية لأنه لم يقدم إلى اليمن.
ط- رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لها مشهد في القاهرة أقامته زوجة الحاكم الباطني المعروف بالحاكم بأمر الله, ولا قدوم لها إلى مصر البتة، نبه على ذلك غير واحد ، وينسب إليها قبر في الشام.
ي- أم كلثوم بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - : وينسب إليها قبر في الشام وقد توفيت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة .
ك- قبر أسماء بنت أبي بكر في دمشق مع أنها ماتت في مكة ، ولا قدوم لها البتة إلى الشام.
ل- قبر أبي بن كعب: يدعى أنه بدمشق وله مشهد, قال ابن تيمية: (وقد اتفق أهل العلم على أن أبيالم يقدم دمشق وإنما مات في المدينة فكان بعض الناس يقول إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد …) " مجموع الفتاوى" 27/460.
م- قبر عمار بن ياسر: في مصر وله مشهد في المنوفيه مركز أشمون
ن- قبر جابر بن عبد الله الأنصاري: يقال : إنه في الرهاء من أعمال حلب وله مشهد, وإنما توفي في المدينة.
س- قبر جعفر الطيار: يقال: إنه في الأردن وهو من القبور التي تعبد من دون الله ، قال صاحب كتاب "مزارات في شرق الأردن"ص(906) : (فترى الفتيات يرقصن حول المزار بأغاني مطربة ونغمات رقيقة).
ع- قبر زيد بن ثابت: في دمشق مع أنه لا يثبت وكذا قبر أبي هريرة لا يثبت أنه في دمشق .
ف- قبر أبي الدرداء: في الإسكندرية وله ضريح يعبد، ولم يدفن أبو الدرداء في الإسكندرية عند كافة أهل العلم.
**– قبر قثم ابن العباس بن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في سمرقند وهو من القبور المعبودة، ولا وجود لقبر هذا الصحابي هناك.(103/115)
بل ذكرت قبور لصحابة لا تعرف أسماؤهم في التاريخ، ومن ذلك قبر بتركيا لصحابي أسموه (كيسك باش) وفي معرة النعمان ضريح لرجل يقال له (عطا الله) يدعى أنه صحابي ، ذكر هذين صاحب كتاب "الانحرافات العقدية" ص(290-291)، ومن ذلك أيضا قبر لصحابي يدعى أن اسمه (زارع النوى).
وهذا الذي ذكرناه من أسماء قبور الصحابة ولا يثبت منها شيء ليس للحصر وإنما هو من باب الاستدلال على التوسع في الكذب وإلا فقد ذكر بعض المعاصرين أن الضرائح التي في دمشق وحدها بلغت (194) ضريحا نسب منها إلى الصحابة أكثر من سبعة وعشرين كل واحد يزار ويتبرك به .
ومن مجموع فتاوى ابن تيمية مما لا يصح وجوده ما يلي :
قبر خالد بن الوليد في حمص.
قبر معاوية بظاهر دمشق.
قبر عبد الرحمن بن عوف في الجزيرة.
قبر عائشة بحلب.
قبر أم حبيبة في دمشق.
قبر فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشام .
7- قبر الزبير بن العوام ، وعتبة بن غزوان في البصرة وقد قامت الدولة العثمانية ببناء مسجدين على قبريهما وصارا يعبدان من دون الله. انظر 127, 170 ,446 , 448 , 459 , 484 , 492, وقد نقل ابن تيمية اتفاق أهل العلم على عدم صحة أكثر هذه القبور إلى من نسبت إليهم.
قبور لغير الصحابة نسبت إلى أماكن لا تثبت فيها
قبر موسى بن جعفر: لا صحة لوجود قبره في العراق .
قبر محمد بن علي الجواد: لا يعرف مكانه في العراق.
قبر أويس القرني: ذكره في دمشق من الكذب، ويقال إنه في اليمن في مراد وهذا غيرصحيح.
قبر علي بن الحسين زين العابدين: لا وجود له بالقاهرة, والمشهد الذي بحلب كذب باتفاق أهل العلم. انظر "مجموع الفتاوى " 27/170.
هـ- قبر بحران ويقال قبر الأنصاري.
و- قبر أبي مسلم الخولاني: لا وجود له (بداريا) كما نبه عليه ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 27/170.
ز- قبر السيدة نفيسة بنت زيد بن الحسن: في مصر وهو من الضرائح التي بلغ الشرك عندها عنان السماء.(103/116)
ح- قبر السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب: ادعي أنه في القاهرة ولا يعلم لها دخول إلى مصر كما ذكر ذلك صاحب كتاب "الوثنية في ثوبها الجديد"ص(81) ولها ضريح في دمشق أقامتة الشيعة, وكلا الضريحين يعبدان من دون الله.
ط- قبر سكينه بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: في القاهرة وللضريح قبة بنتها زوجة الحاكم بأمر الله العبيدي الباطني ، ذكر ذلك صاحب كتاب "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون"1/102 ولا يخفاك أنه من القبور المكذوبة.
ي- قبر يحيى بن عقب مؤذن الحسين بن علي: تزعم العامة في مصر أنه في (زقاق الزار) وهو من الكذب .
ك- قبر جعفر الصادق: بحارة (برجوان) في مصر وهو من الكذب أيضا.
ل- قبر محمد بن موسى: في مدينة (قم) بإيران بناه الباطنيون الحمدانيون.
م- قبر السبع البنات: ظهر في عام 400هـ وهو من المخترعات .
ن- قبر زيد بن علي بن الحسي:ن رضي الله عنه في مصر .
وعلى كل الكذب جار على مر العصور, وفي العصور المتأخره أكثر لانتشار الكذب بين الناس،وعلى هذا فلا بد من التأكد من الضرائح التي بنيت عليها المساجد أو القباب والمشاهد وخصوصا فيمن يدعى أنه نبي أو رسول أو صحابي أو تابعي أو تابع تابعي، ولو حصل التأكد أن فلانا قبر في المكان الفلاني فلا يجوز أبدا بناء المساجد عليه أو القباب والمشاهد للأنبياء والصحابة .
الفصل الثالث : انتشار الدعوة القبورية في اليمن
الدولة الصليحية أول دولة أسست القبورية في اليمن
من المعلوم أن الدولة الصليحية تمثل الاعتقاد والمنهج الباطني القرمطي, واعتقاد الباطنية هو أخبث اعتقاد حملته فرقة تنتمي إلى الإسلام في الظاهر لأنه يقوم على الإلحاد الشامل, ومن ذلك: اعتقاد بطلان عبودية الله وحده, وهذا هو السبب في صرف عبادتهم لغير الله .(103/117)
ومن ذلك تعليق الناس بالضرائح (فقد قام الملك المكرم الصليحي محمد بن علي بن محمد بن مؤسس الدولة الصليحية في القرن الخامس ببناء مشهد على رأس والده وعمه في زبيد كما في كتاب "المفيد من أخبار صنعاء وزبيد" ص(134) وأيضا قام المكرم بنبش قبر أبيه وعمه ثم حمل جثثهما في تابوتين ودفنهما في صنعاء وأمر ببناء مشهد جامع لهما وبنى عليهما التربة المشهورة بالزعفران) كما في كتاب "القبورية في اليمن" ص(268) .
ولما توفيت بنت المكرم وهي السيدة أروى بنت أحمد الصليحي أوصت أن تدفن في مسجد جبلة فدفنت فيه, ولا يزال قبرها عليه تابوت يعبد إلى الآن من قبل الباطنية وكان وفاتها في القرن السادس الهجري (532)هـ بعد أن تولت الحكم قرابة نصف قرن .
ولا تزال الضرائح التي شيدتها الباطنية تزار إلى عصرنا, بل يقوم المدعو محمد برهان الدين البهري الهندي بزيارة سنوية إلى اليمن غالبا ويأتي معه عدد كبير من الهنود .
ولهم في ذلك مآرب خطيرة جدا منها :
إحياء عبادة الضرائح فإنهم إذا وصلوا إلى صنعاء توجهوا إلى منطقة حراز التي تقع شمال صنعاء غربا, وهناك عدة ضرائح وأشهرها قبر يعبدونه بكل ما تعني كلمة عبادة هو قبر حاتم بن إبراهيم الحامدي في حراز قرية ((حطيب)) وقد نشر فيلم فيديو وفيه ظهور هؤلاء وهم ساجدون لمحمد برهان الدين ولقبر الحاتمي, وناهيك عن الطواف حول الضرائح والدعاء والاستنجاد والذبح والنذر للحاتمي ومن سواه حتى أن شاعرهم قال :
أبا حاتم الخيرا أنت ملاذنا * وملجأنا في يومنا وكذا غد
وهذه الزيارات يقومون بها في رجب, وقد أقيم في حراز معسكر للبهرة أطلق عليه (الفيض الحاتمي) .
وقد رفعت شكوى إلى الدولة عام 1995م بهذا الإعداد العسكري, ومعنى هذا أنهم جادون في إقامة دولتهم بكل ما أمكن ولله الأمر من قبل ومن بعد .(103/118)
ومنها : أن الباطنيين في اليمن يتسلقون المناصب العالية ذات الأهمية البالغة كالوصول إلى قيادة أو نيابة وزارة الدفاع, ومنهم من صار في وزارة المالية وزيرا لها, ولا يخفاك أنهم يبذلون في الوصول إلى التحكم في المال والسيطرة عليه بالغالي والرخيص لأنهم يرون أن قوة المال كفيل بإقامة دولتهم واستمرار بقائها, فلا تستبعد أبدا أن تصرف أموال وزارة المالية فيما يقوي شوكتهم ويوسع تمكينهم .
وبعض المسؤولين قد يفرحون بالباطنيين باعتبار أنهم يبذلون لهم شيئا من المال, ولا يدركون أن الباطنيين يعملون لإعادة وقيام دولة علي بن الفضل قبحه الله .
وإليك نبذة مختصرة عن أول دولة إلحادية قامت في اليمن على يد المدعو علي بن الفضل حامل راية الكفر والإلحاد :
ذكر صاحب كتاب "السلوك" أن علي بن الفضل قال في نشر دعوته وإقامة دولته : (ولي أسوة بأبي سعيد الجنابي) وأبو سعيد هذا: هو الذي أقام دولة القرامطة في البحرين التي كان من ورائها ألوان من العذاب والإبادة .
وقال صاحب كتاب "أصول الإسماعيلية" 2/377 : (وبعد أن تمت له –أي لأبي سعيد الجنابي- السيطرة على منطقة البحرين ولا سيما مدينة هجر أعظم مدن المنطقة بدأ في التوسع والسيطرة خارج البحرين, وكان يستخدم سلاح البطش والقوة فكان كما يقول الداودي: لا يظفر بقرية إلا قتل أهلها ونهبها فهابه الناس وأجابه كثير منهم طلبا للسلامة, ورحل خلق كثير من البلدان إلى نواح مختلفة ...)
هذا أسوة علي بن الفضل قال ابن الدبيع : (إن علي بن الفضل عندما دخل صنعاء أظهر مذهبه الخبيث ودينه المشؤوم وارتكب محظورات الشرع وادعى النبوة, وكان المؤذن يؤذن في مجلسه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله, وأباح لأصحابه شرب الخمر ونكاح البنات وسائر المحرمات وأنشد أبياته المشهورة على منبر صنعاء التي يقول فيها :
خذي الدف يا هذه واضربي وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم وهذا نبي بني يعرب(103/119)
لكل نبي مضى شرعة وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام فلم يتعب
إذا الناس صلوا فلاتتعبي وإن أمسكوا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا ولا زورة القبر في يثرب .
انظر "قرة العيون"1/190- 196.
ويؤكد الحمادي اليماني ما ارتكبه علي بن الفضل في صنعاء بقوله :
فدخل القرمطي صنعاء فأقام فيها, وأظهر فيها الفحشاء, وأمر الناس بحلق رؤوسهم,
وذكر الجندي أيضا في "سلوكه" ص (242): رسالة لعلي بن الفضل هذا نصها : (من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد بن أبي يعفر) اهـ. وانظر كذلك كتاب "كشف أسرار الباطنية" ص(33) .
وقد حاول المجادلون بالباطل أن ينفوا هذه الكفريات عن ابن الفضل, وأن المؤرخين الذين كتبوها خصوم لعلي بن الفضل, ولكن ماذا يقولون في إثبات هذه الكفريات عن علي بن الفضل من قبل أئمة الباطنية أنفسهم؟ قال الداعي الإسماعيلي المطلق إدريس عماد الدين القرشي في كتابه "عيون الأخبار" ص(116). في كلامه عن علي ابن الفضل : (فارق الدعوة, وخرج من الملة, وباين المتوجهين إلى القبلة, وادعى النبوة, وافترى على الله وعلى أوليائه مقتديا بالمضلين من قبله, فكانوا له شر أسوة, واستمال الجهال والرعاع فكانوا له من الأنصار والأتباع, فارتكب المحارم وأتى بالعظائم ومال إلى الإباحات وترك الأعمال الصالحات, وكفر بعد إيمانه وباء بلعنة الله بكفره وعدوانه مقتديا بالمغيرة وأبي الخطاب)(103/120)
وذكر عن ابن هبة الله الشيرازي الإسماعيلي أنه قال في علي بن الفضل : (قدح في شيء من الشرائع والسبل وأجاز في شيء عن مناسك شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - صلاتها وصومها وحجها وجهادها ...اللهم فاجعله موقع التفاهات وموقع اللعنات من أهل الأرض والسماوات) اهـ المصدر السابق ص(41).وقال عن الداعي الاسماعيلي حاتم بن إبراهيم الحامدي : (وانقطع أمر اللعين علي بن الفضل بعد موته وتفرق أتباعه من الغوغاء اللعناء ولم يبق أحد على دينه فلعنة الله عليه) اهـ نفس المصدر ص(43).
هذا الكلام على علي بن الفضل لا يعني أنهم قد تخلوا عن القرامطة الملحدين, وإنما هذا من باب التلبيس على الناس لأنهم رأوا الناس قد بان لهم إجرام علي بن الفضل فصاروا يرون كل من انتمى إلى الباطنية أنه كذلك فلا يقبلوا منه بل يحاربونه بكل ما أوتوا.
وإليك نص وثيقة ملك اليمن : الإمام يحي حميد الدين في الحكم على القرامطة :
بسم الله الرحمن الرحيم
ليعلم كل موحد يطلع على هذا أن الفرق الباطنية التي قد أمكن الله من بعض رؤسائهم وجمع من الذين سودوا علينا أعداء الله العجم منهم وأطلعنا الله على ما يخفونه من الكفر وإنكار الصانع الحكيم وإنكار الشرائع الإسلامية والقول في كل حكم وكل لفظ من أحكامها وألفاظها الشرعية أن باطنه غير ما عليه أهل الإسلام إلى غير ذلك من التراهات والأوهام وهم مع هذا يفعلون من الأفعال المضرة بأهل الإسلام فعل المحارب وينتهكون منهم كل حرام .
فأبحنا للمجاهدين دماءهم وأموالهم أينما وجدوا أو على أي صفة كانوا حتى يصح ويتحقق إسلام من يجدد إسلامه منهم .
وحيث إنهم يخالطون في البلدان أهل الإسلام ويتزيون بزيهم ويتمظهرون بأنهم منهم حجرنا المجاهدين عن الإقدام إلى من لم يعلم كونه منهم ولم ينتم إليهم ويعتقد معتقدهم من ذلك المستثنى الزيدية القاطنون في مناخة وما إليها .(103/121)
وهذا بيد المحب علي حسين الشيبة ليكون من جهة المجاهدين مع الشيخ الجمالي علي بن علي السلامي حماه الله ويكون عمل علي حسين بمعرفة الشيخ الجمالي ومن انضم إلى علي حسين الشيبة من المجاهدين أيضا . بتاريخ 20ربيع أول 1346 اهـ الختم
أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين) .اهـ بنصه .من كتاب "الشيعة الإسماعيلية رؤية من الداخل" ص(207-208). رقم الوثيقة (27) .
فأقول ياليت ولاة أمورنا يدركون أبعاد المؤامرة السرية عليهم وعلى دولتهم وشعبهم من قبل طائفة البهرة القرامطة ومن كان على شاكلتهم .
الدولة الشيعية وما قامت به من نشرالدعوة القبورية في اليمن
لقد كانت الدولة الصليحية الباطنية في اليمن قدوة لدولة التشيع في نشر الشرك والخرافة, حيث إن الصليحيين أسسوا الدعوة القبورية, وتبعهم في ذلك أئمة التشيع في اليمن وغيره, وقد بدأت القبورية تظهر على يد دعاة الشيعة في اليمن في أول القرن السابع الهجري وهذا يدل على الفارق بين بداية شرك الضرائح على يد الباطنية وعلى يد الشيعة .
وهذه أسماء بعض ملوكهم الذين بنيت المشاهد على قبورهم :
المنصور بالله عبد الله بن حمزة المدفون في منطقة ظفار (ذي بين) عام614هـ
الإمام عماد الدين يحي بن حمزة: دفن في ذمار, وكانت العامة تعتقد أن الحية إذا أدخلت قبره تموت .
الإمام يحي بن الحسين المشهور بالهادي: المدفون في صعدة, وكانت العامة تصرف له أنواعا من العبادات, ولم تبن على قبره القبة إلا في القرن الثامن على يد الإمام المهدي, وهو أول من بنى مشاهد القبور في صعدة .
الإمام صلاح الدين وقبره في صنعاء .
5- الإمام الناصر محمد بن يوسف المرتضى: دفن في مدينة (ثلا), وفي هذه المدينة ضرائح كثيرة لمجموعة من أئمة الشيعة وأبنائهم وأحفادهم وهؤلاء أضرحتهم تابعة لأضرحة الأئمة .(103/122)
ولم يتوقف الشر عند إحياء سنة اليهود والنصارى وهي اتخاذ القبور مساجد بل صار الأمر أفظع من ذلك .وإليك ما قاله الإمام عبد الله بن حمزة في رسالته إلى الساكنين في (لصف ) : (فهلا استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء, وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء, واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء...وعمرتم على قبره مشهدا أو جعلتموه للاستغفار مثابة ومقصدا, ونذرتم له النذور تقربا...) "هجر العلم"1/223-224 .
وقد أفتى بجواز بناء القباب والمشاهد على قبور الفضلاء الإمام يحي بن حمزة, وهو أول إمام من أئمة الشيعة أفتى بذلك كما ذكر ذلك الشوكاني في رسالته القيمة "شرح الصدور" وتتابعت بعده فتاوى كثيرة من أئمة الشيعة في اليمن .
إن الدول التي أحدثت الشركيات قامت بالحماية للشركيات بالحديد والنار والمؤاذاة لمن يحذر من هذه المنكر ات الفظيعة كما هو معلوم لمن قرأ في كتاب تاريخ هذه الدول وقد تؤدي المؤاذاة إلى القتل والتشريد, وهذا فيه زيادة أوزار عليهم من جهتين
الأولى :من جهة المؤاذاة لمن يحذر من ذلك إذ أنهم دخلوا في مؤذاة أولياء الله وقد قال الله في الحديث القدسي: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه .
الثانية : من جهة أن هذه المفاسد العظيمة تنشر أكثر وأكثر, وكلما كثر انتشارها عظم ضررها .
ألا فاربعوا على أنفسكم أيها المسلمون وجندوا أنفسكم حماة للحق ورعاة له وقائمين به .
تنبيه : وزر العلماء الذين سهلوا للملوك هذه الإنحرافات ورغبوهم فيها أكبر من وزر الملوك, لأن العلماء بسكوتهم حصل هذا, وبترغيبهم لهم في هذه الأباطيل قويت عزائمهم على نشرها وبذل الأموال في سبيلها, وربما برر لهم علماؤهم فعل هذا وأروهم أنه قربة إلى الله, فصار الملوك يعملون ذلك تقربا إلى الله, فهذه عاقبة من فرط في التعرف على علماء الحق والباطل والتفريق بينهم .
الدولة الرسولية ومشاركتها في نشر القبورية في اليمن(103/123)
الدولة الرسولية منسوبة إلى مؤسسها نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني المتوفى في 667هـ وهذه الدولة بسطت نفوذها على جزء كبير من اليمن وامتد إلى مكة وإلى أطراف سلطنة عمان, وقد تحققت منجزات على يد هذه الدولة في مجالات شتى من ذلك نشر العلم فقدكان ملوكها يعتنون بنشر العلم فقد جلبوا العلماء وأقاموا المدارس وحرصوا على جمع الكتب النفيسة .
ومن جهة أخرى فقد كانت فاتحة شر كبير, ومن أخطر ذلك فتح المجال لأرباب دعاة التصوف المقيت, ومن ذلك الدعوة إلى عبادة القبور, فقد خدع أولئك الملوك من قبل دعاة التصوف واستجابوا لهم فيما أرادوا, ومن ذلك بناء القباب والمشاهد والمساجد على الرفات, وصارت هذه الانحرافات رمزا لصلاح فاعليها, وتهتز المنابر بذكره ويمدح ظاهره وسره ويدعى الناس إلى الاقتداء به .
ولقد انقرضت هذه الدولة قبل قرون وبقي آثار ما أحدثته إلى عصرنا هذا, وإليك بعض الشر الذي أظهرته هذه الدولة :
1- التربة الخاصة ببني رسول . ذكر البهاء الجندي في كتابه "السلوك"2/117 في ترجمة القاضي عمر الهزاز قائلا : (وحين بلغت وفاته – أي الهزاز- الملك المظفر كتب إلى أولاده سألهم أن يدفنوه في التربة التي هي قبلي جامع (عدينة), ففعلوا ذلك إذخواص بني رسول من القرابة والسراري مقبورون فيها) اهـ و(عدينة) موضع في مدينة تعز .
2- حرص ملوك الدولة الرسولية على أن يدفنوا في المدارس التي بنوها ومنهم :
نور الدين عمر بن علي بن رسول: قتل في الجند وحمل إلى تعز ودفن في المدرسة الأتابكية بذي هزيم " العقود اللؤلؤية" 1/82.
الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول: توفي 694هـ ودفن في مدرسة المظفرية بمدينة تعز كذا في "المدارس الإسلامية في اليمن" ص(106).
ج-الملك الأشرف عمر بن المظفر: المتوفى 696هـ دفن في المدرسة الأشرفية بمدينة تعز. "الفضل المزيد في أخبار زبيد" ص(94).(103/124)
د-الملك الأشرف الأفضل المتوفى 783هـ قال صاحب كتاب "قرة العيون" : (انتقل الملك السلطان الأشرف إلى رحمة الله في ربيع الأول من السنة المذكورة فجعل بمدرسته التي أنشأها بمدينة عدنية) .
هـ- الملك الأفضل بن المجاهد: المتوفى 778هـ حمل من زبيد إلى تعز ودفن في مدرسة الأفضلية . "الفضل المزيد "ص(98).
الملك الظاهر يحي بن إسماعيل: توفي 842هـ ودفن في مدرسة الظاهرية بمدينة تعز . " المدارس الإسلامية في اليمن" .
3- بناء المساجد وغيرها على القبور والضرائح: ومن ذلك ما ذكره المؤرخ الجندي وهو يتحدث عن الأمير بدر الدين الحسن بن علي بن رسول , قال وقد بناه – أي المسجد- عند تربة أبيه علي بن رسول ووقف عليه وقفا جيدا .
وأيضا ما ذكره صاحب كتاب "الفضل المزيد" قال: (توفيت أم السلطان الحرة الظاهرة أم الملوك جمة الطواشي جمال الدين فرحان في مدينة زبيد في الثاني عشر من صفر وقد دفنت قريبا من تربة الشيخ طلحة بن عيسى الهتار وأمر ولدها السلطان الملك الظاهر بإنشاء مدرسة عظيمة على ضريحها ورتب فيها إماما وخطيبا وأيتاما ومعلما وعشرين قارئا يقرؤون القرآن عند ضريحها عقب كل صلاة ورتب لهم ما يقوم بكفايتهم) .
4- عقر ملوك الدولة الخيول على موتاهم عند الدفن وغير ذلك من المنكرات: قال القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه "المدارس الإسلامية في اليمن" : ص(212) وهو يتحدث عن وصية الملك المؤيد داود المظفر : (وقد أوصى أن لا يناح عليه ولا يشق عليه ثوب ولا يغشى نعشه إلا بثوب أبيض وأن لا يعقر على قبره شيء من خيله وأن يدفن في مقابر عامة المسلمين ...) قال القاضي معلقا : وكان من عادة ملوك بني رسول عقر الخيل على موتاهم عند الدفن والنياحة وشق الثياب وغير ذلك مما نهى عنه الدين الإسلامي) اهـ .
ادعاء وجود قبور للأنبياء والصحابة في اليمن لا يثبت منها شيء
سأذكر القبور التي نسبت إلى مكان معين في اليمن وليس لها وجود فيه :
قبر النبي شعيب عليه السلام .(103/125)
قبر النبي صالح عليه السلام .
قبر النبي أيوب عليه السلام .
قبر النبي إلياس عليه السلام .
قبر النبي هود عليه السلام .
أصحاب الكهف .
وهؤلاء كلهم قد تقدم ذكر أماكن قبورهم إلا أنها غير صحيحة .
7- قبر سام بن نوح : ادعي وجوده في قرية (النوادرة) عزلة المنار (آنس).
8- قبر روبيل بن يعقوب: ادعي وجوده في جهران.
قبر نبي من ولد نبي الله هود عليه السلام قرية شرف ظفار.
قبر المطلب بن عبد مناف: في الحيمة الداخلية بني النمر.
السبعة الأشخاص الذين من زارهم تقضى حاجته.
النبي حنظلة الذي يدعون وجود قبره في صنعاء لا يوجد نبي بهذا الاسم كما سبق .
وبعض هذه القبور ذكرها الحجري في "مجموع البلدان اليمنية وقبائلها"
معاذ بن جبل: قبره في الجند مع العلم أنه رجع من اليمن إلى المدينة في خلافة أبي بكر ومات في طاعون (عمواس) في خلافة عمر في الشام فكيف يكون في الجند.
سلمان الفارسي: قد تقدم أن ذكرنا أن ادعاء قبره في الشام غير صحيح, وله قبر في ناحية السلام شرعب غرب تعز ولا يعلم أنه جاء إلى اليمن قط.
أنس بن مالك: له قبر في آنس (جبل الشرق) وعليه قبة ، وقد كان الضريح يعبد من دون الله. ولم يأت أنس بن مالك اليمن قط .(103/126)
تدعي قبورية تريم أن أربعين من الصحابة البدريين دفنوا في (تريم) حضرموت الداخل، وهذا غير صحيح لأنه لم يأت من الصحابة البدريين إلى اليمن إلا علي بن أبي طالب وقد رجع في عام حجة الوداع، وحج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يعد إلى اليمن حتى توفاه الله في الكوفة، ومعاذ بن جبل رجع من اليمن في خلافة أبي بكر وتوفي في خلافة عمر ولا يعلم قط أنه رجع إلى اليمن ، وهذا العدد للبدريين ذكره الحجري 1/144، وذكر صاحب "تاريخ النور السافر" ـ وهو قبوري ـ أن عدد الصحابة المدفونين في مقبرة تريم من البدريين وغيرهم سبعون صحابيا، انظر ص(75) فهذه فرية بلا مرية، وهي قطرة من مطره من شطحات الصوفية ، وقد استغلت القبورية هذه الشطحة استغلالا خرافيا بحيث يزعمون أن مقبرة تريم مشهورة بالبركة فيدعون الناس إلى التمسح بأتربة الموتى وغير ذلك.
قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صنعاء ، ذكر الخزرجي في كتابه "العقود اللؤلؤية"1/240-241 قصة طويلة مفادها أن عليا رضي الله عنه مدفون في ناحية صنعاء في (جبل مدبج)، والذي يقرأ القصة يعلم أن هذا كذب بلا شك، وقد تقدم لك أن عليا رضي الله عنه توفي في الكوفة، وأما دفنه فلا يدرى أين دفن لأن المسلمين إذ ذاك تعمدوا تغييبه خشية أن يعبد من دون الله.
إبراهيم التيمي : له قبر في قرية (النجيفة) فوق الحبيلين من مديرية ردفان وصار الوادي يسمى باسمه، وقد كان يعبد من دون الله.
أويس القرني: له قبر داخل مسجد قرية (الجبلة) في مديرية ردفان وقد كان يعبد من دون الله. وله ضريح في مراد ، وقد كان يعبد ، ولا يعلم أنه رجع إلى اليمن بعد أن قدم إلى عمر في خلافته.
20- قبر عبد الله بن عمر: عليه قبة في (الوحش) جعار محافظة أبين ولم يأت لليمن قط.
قبة سعيدة بنت عمر أخت عبد الله بن عمر: في (الحور) أبين يشد إليها الرحال من مناطق كثيرة.
ذكر بعض ما يجري على ألسنة المستغيثين بالضرائح(103/127)
أخي المسلم إن الذي يحدث من الاستغاثة والاستنجاد عند الضرائح هو من الشرك الأكبر، بلا شك وأنواع الاستغاثات لا يعلمها إلا الله ولكن نذكر هنا شيئا منها من باب التمثيل وسنقتصر على ما يجري في اليمن إلى وقت قريب، فقد كانوا في اليمن في استغاثتهم بالجيلاني يقولون : (يا جيلاني لا تنساني) ومنهم من يقول : (يا عبد القادر بادر بادر) ومعروف أن الجيلاني مدفون في العراق, ويقولون في ندائهم لأحمد بن علوان (يا ابن علوان يا صفي من قصد بابكم نجي) ويستغيثون بالأهدل وهو مدفون في لواء ( إب ـ بعدان) يقولون : (يا أهدل يا من عليك الله دل) ويستنجدون بالعيدروس المدفون في عدن (كريتر ) يقولون : (يا عيدروس يا شمس الشموس يا منقذ النفوس) ويقولون في الاستنجاد بأبي طير : (يا أبا طير يا من عندك كل خير ورافع لكل ضير) ، ويقول بعض أهل تعز : (يا حساني لا تنساني )، ويقول بعضهم في لواء (إب) : (يا بالغريب ما لك لا تجيب)، وبعضهم يقول: (يا خمسة يا كرام) والمراد بالخمسة: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلي والحسن والحسين وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هذه أمثلة فقط مما كان يجري في بلادنا اليمنية إلى سنين قريبة ونحمد الله فكثير من هذه الشركيات قد انتهت وذهبت بسبب ظهور دعوة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - دعوة أهل السنة، دعوة التوحيد المحاربة للشركيات، فلا يوجد الآن من هذه الأشياء إلا الشيء القليل بالنسبة لذي قبل ، وتأمل أخي القارئ في هذه الاستغاثة تجدها تدل دلالة واضحة على أن المقبلين على الضرائح يطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله ومالا يقدر عليه إلا الله من دفع ضر وجلب نفع، فهل يقال: إن هؤلاء الذين يلوذون بالأموات لا يعتقدون فيهم القدرة على جلب النفع ودفع الضر, بل والله يعتقدون ذلك وإلا لما كانت استغاثتهم بهم بهذه اللهجة, ولو قلت لهؤلاء المستنجدين: قولوا في ندائكم: يا جيلاني اتركني ولا تنفعني ولا تدفع(103/128)
عني لأنكم إذا قلتم هذا دل على أنكم غير معتقدين فيهم القدرة والقوة التي تضاهي قدرة الله وقوته لما قبلوا منك أبدا، وكيف يمكن أن يكونوا غير معتقدين فيهم عقيدة الشرك وهم يلوذون بهم عند الشدائد، فقد ذكر غير واحد أن التتار لما دخلوا الشام قال قائل لهم :
يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر
ولما دخلت الشيوعية مصر توجه ثلاثة مليون إلى قبر البدوي يستنجدونه لدفعها على حد زعمهم، وهكذا كلما جاءت شدة توجه الحمقى والمغفلون إلى الرفات وتركوا الحي القيوم الذي يقول للشيء كن فيكون, فمن عرف الله لن يحتاج إلى مخلوق لا يملك ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، أين هؤلاء من قول الله تعالى :{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} [فاطر]، فكيف يطلب هؤلاء من الضرائح تفريج الكرب وإعطاء الولد وجلب المنافع؟ فأين هم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)) رواه أبو داود عن أبي بكرة, وصححه الألباني رحمه الله ؟
وأين هم من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم أنت عضدي ونصيري بك أجول وبك أصول وبك أقاتل)) رواه أحمد وغيره عن أنس وهو صحيح؟ فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاف أن يكله الله إلى نفسه طرفة عين وهو حي يقدر على الدفاع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره وهو ميت؟! فما أبلد المتعلقين بالأموات.(103/129)
وعلى كل أهل الإيمان عند الشدة يفزعون إلى الرحمن, بل حتى كفار قريش كانوا عند الشدائد يتركون آلهتهم ويقبلون على الله، وانظر إلى ما قاله الله فيهم : {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام]، فما بال الجهال الحمقى في عصرنا لا يعرفون ربهم عند الشدائد!، بل يسيئون به الظن وينسونه ويتوقعون أن الأموات أسرع إنقاذا لهم من الله وأقرب استجابة وأعظم عناية، لقد ذكر صاحب كتاب "روح المعاني"24/11 أن بعضهم قال : (الولي أسرع إجابة من الله) وذكر صاحب كتاب "حوار مع الصوفية"ص(56) ( أن رجلا قال : دعوت الله ست سنين فلم يستجب لي في أن يرزقني طفلا فذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في (أربيل) فما أن استغثت به رزقني طفلين توأمين) فنعوذ بالله من ظلمات الجهل والخذلان.
ولم تكن الاستغاثات بالضرائح مقصورة على تواجد الشخص عند الضريح بل صار الحمقى يرددونها كلما عرض لهم شيء يخيفهم، فإذا سقط الولد مثلا هتفوا باسم الضريح المتعلقين به .
نصيب اليمن من شطحات دعاة القبورية
اعلم أخي المسلم أن دعاة القبورية ينسبون إلى أقطابهم وأوتادهم وأبدالهم ونجبائهم أمورا لا يقبلها عقل ولا تقرها فطرة، فضلا عن أن يقرها الإسلام، وقد ملئت الكتب التي تحكي أقوال هؤلاء وأفعالهم ، وقد رأيت أن أذكر هاهنا جملة مختصرة من عقائد القبورية وأقوالها في اليمن ، فرأيت أن أمثل لذلك بأقوال وأفعال دعاة الشرك في اليمن إذ أن اليمن قد دخلها هذا الوباء ، وإليك بيانها:
قدرتهم على إحياء الموتى(103/130)
من المعلوم في ديننا قطعا أن إحياء الموتى مما اختص الله به نفسه، ولكن هناك من يزاحم الله في ربوبيته، ومن ذلك ادعاء إحياء الموتى ، وعلى سبيل المثال ماذكره العيدروس في كتابه "تاريخ النور السافر" ص(78-79) وهو يتحدث عن أبي بكر العيدروس با علوي قال : (ومنها أنه لما رجع من الحج دخل زيلع ، وكان الحاكم بها يومئذ محمد بن عتيق فاتفق أنه ماتت أم ولد الحاكم المذكور , وكان مشغوفا بها فكاد عقله يذهب لموتها فدخل عليه سيدي ليعزيه يأمره بالصبر والرضى ...وهي مسجاه بين يدي الحاكم بثوب فلم يصرفه ذلك, وأكب على قدم سيدي الشيخ يقبلها وقال: يا سيدي إن لم يحي الله هذه مت أنا أيضا ولم تبقى لي عقيدة فيه, فكشف سيدي وجهها وناداها باسمها, فأجابته لبيك, ورد الله روحها وخرج الحاضرون، ولم يخرج الشيخ حتى أكلت مع سيدها الهريسه وعاشت مدة طويلة).
وعلى سبيل المثال أيضا ما ذكره صاحب كتاب "شرح العينية"ص(161) قال محمد بن علي با علوي في شيخه أبي الحسن علي بن أحمد بامروان وهو غائب عن البلد : (فآلى الفقيه على نفسه أن لا يخرج من مكانه ـ وهو في منارة جامع تريم ـ بعد ما جاء من غيبته حتى يأتيه شيخه با مروان من قبره, وحصل بينهما كلام طويل ومخاطبات عظيمة سمع كلامهما بعض الصالحين المكاشفين ووعى خطابهما، فكان من جملته أن الفقيه با علوي قال للفقيه بامروان : كيف أنا عندكم؟ قال يترجاك أهل البرزخ كما يترجى أهل الخريف الخريف).
وإليك مثالا ثالثا : ذكر الشرجي في كتابه "طبقات الخواص"ص(199) عن اليافعي أن علي بن عمر الأهدل كانت له هرة اسمها لؤلؤة كان يطعمها من عشائه, فضربها خادم الشيخ ذات ليلة فماتت, فرماها في مكان بعيد, فلما فقدها الشيخ سكت ليلتين أو ثلاثا ثم قال له: أين لؤلؤة؟ فقال: ما أدري، فقال: ما تدري ، ثم ناداها الشيخ فجاءت إليه تجري كعادتها).(103/131)
وما ذكره أيضا صاحب كتاب "شرح العينية"ص(215) في ترجمة العيدروس قائلا : (وكان له من الكرامات الخارقة إحياء الموتى...)
والمدعون لإحياء الموتى من أقطاب القبورية في اليمن كثير، ولو وقفت على كتاب طبقات الخواص لوجدت فيه العجب العجاب، فكيف بكتاب "المشرع الروي" وكتاب "شرح العينية".
فهذه الأدلة كافية في أن دجاجلة القبورية ينسبون إلى أنفسهم أو ينسب إليهم أتباعهم أمورا لا يقدر عليها إلا الله ، فهاهو نبي الله إبراهيم يقول الله عنه : {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة] فلم يعط الله القدرة لإبراهيم على إحياء الموتى, وقد علم من ديننا أن ادعاء إحياء الموتى لم يحصل إلا عن طريق الجبابرة الكفرة ، كالجبار الذي حاجه إبراهيم في ربه، قال تعالى :{إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} [البقرة]، وقد اختص الله عيسى بمعجزة إحياء الموتى بإذنه الشرعي لا استقلالا . وليس هؤلاء الدجاجلة الذين ينازعون الله فيما اختص به نفسه من إحياء الموتى مثل الدجال الذي يأتي في آخر الزمان بإحياء الموتى, فإن ذلك بإذن الله الكوني, لأن الله قد جعله فتنة للناس .
قدرتهم على سماع الموتى
والتخاطب معهم وخروج الموتى من قبورهم إليهم
إن قضية ادعاء القبورية في اليمن سماع الموتى والتخاطب معهم قضية تعد متواترة عندهم، وأستطيع أن أثبت ذلك بعشرات الأمثلة ولكني سأكتفي ببعض الأمثلة:(103/132)
قال محمد بن علي با علوي : (بينما أنا جالس في مكان عال سقفه إذ دخل علي نبي الله هود يطأطئ رأسه كي لا يصيبه السقف فقال لي: يا شيخ إن لم تزرنا زرناك، فقلت له : من أين أتيت هذه الساعة؟ قال: من عند ابني هارون) نقلا من كتاب "العينيات"ص(162) وفي كتاب "شرح العينيات"ص(145) وهو يذكر نور الدين علي بن محمد قال : (إذا كان في الصلاة أو غيرها وقال السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يكررها حتى يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: وعليك السلام يا شيخ).
وبقيت في "شرح العينيات" من هذه الأكاذيب الشيء الكثير ، وانظر على سبيل المثال ص(218،173،162) وإليك مثالا واحدا من كتاب "المشرع الروي"ص (147) قال : (وحكي أن الشيخ/ أبا سعيد قرأ سورة (هود) فلما بلغ قوله تعالى :{شقي وسعيد} جعل يردد الآية ويتفكر ثم قال : يا أهل القبور ليت شعري من الشقي منكم ومن السعيد فأجابه الشيخ العارف بالله أحمد بن محمد بافضل من قبره بقوله : (امض في قراءتك ليس فيها شقي…).
وقال صاحب كتاب" تاريخ الشحر"ص(31-32) وهو يتحدث عن بدر الدين الأهدل قال : (حكي عنه أنه لما زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قبره وأنشد قصيدة يقول فيها:
إن قيل زرتم بما رجعتم يا سيد الرسل ما نقول
فسمع الجواب من الحجرة الشريفة:
قولوا رجعنا بكل خير واجتمع الفرع والأصول
بل ادعاؤهم رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما، فقد ذكر ذلك صاحب كتاب "طبقات الخواص"ص(164) وفي ص(94) وفي كتاب "العقود اللؤلؤية" للخزرجي مثل ذلك . فالحياة البرزخية تعتبر من الغيب بالنسبة لأهل الدنيا، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((لو لم تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر)) رواه مسلم من حديث زيد بن ثابت. والأدلة كثيرة بل متواترة على هذا، وأما هذه الترهات التي يذكرها دعاة القبورية فهي لا تخرج عن حالتين:(103/133)
الحالة الأولى: أنها قصص مفتراه لا أساس لها من الصحة .
الحالة الثانية: أنهم كانوا يرون صورا ويسمعون أصواتا وهم يظنون انهم أصحاب القبور وجهلوا أو تجاهلوا أنهم شياطين من شياطين الجن يلعبون عليهم .
ادعاؤهم علم الغيب
إن من الجرائم العظمى التي ينسبها دعاة القبورية إلى أنفسهم ادعاء علم الغيب، وإليك نبذة من ادعاء ذلك من قبل القبورية في اليمن:
علوي بن محمد باعلوي أتي له بولد ابن ثلاثة أشهر مدنف ليقرأ عليه فقال: (من عمره مائة سنة ما يموت ابن ثلاثة أشهر فكان كما قال مات ابن مائة سنة) نقلا من "شرح العينيات"ص(173) وكلامه واضح أنه ادعاء أن الطفل الذي جيء به إليه وهو ابن ثلاثة أشهر سيعيش مائة سنة فعاش مائة سنة. وفي المصدر نفسه ص(238)
أن عبد الله بن أحمد العيدروس أطلعه الله على الضمائر وانكشفت له السرائر) وانظر ادعاءات علم الغيب في كتاب "شرح العينيات" في مواضع كثيرة، وفي كتاب "المشرع الروي" من هذه الكفريات الشيء الكثير ، ومن ذلك ما ذكره مؤلف الكتاب ص(183-184) (أن محمد بن الشيخ عبدالرحمن السقاف ربما أخبر بما هو آت وأوضح ما في نفوس الحاضرين من المشكلات، ودخل رجل المسجد وهو جنب فأخرجه فعاد ثانيا فأخرجه وسئل الرجل فقال: كنت جنبا، ودعته امرأة للضيافة فأكل قليلا ثم تقيأه وقال: هذه سرقة، فسئلت المرأة فقالت سرقته من مال زوجي وفي الكتاب "المشرع الروي" من هذا الهراء الشيء الكثير, وفي كتاب "تاريخ لشحر"ص(26-27) قال : (كان جمال الدين محمد بن عمر يقول : (عمري سبعون سنة فكان كما قال)(103/134)
وفي كتاب "طبقات الخواص" ص(60) قال الشرجي : (كان بعض أصحاب الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل غائبا في بلد بعيد, فنوى يوما نية غير صالحة, فرماه الفقيه بفرده من نعله إلى موضعه الذي هو فيه, فلما رآها عرفها وعرف أن الفقيه قد اطلع على حاله فتاب ورجع عما كان نوى ، وجاء إلى الفقيه بالفرده واعتذر منه)، وانظر الأرقام التالية (405،61،48) وفي كتاب"تاريخ النور السافر" للعيدروس ص(235) ( أن الشيخ أبا مدين أرسل تلميذه عبدالرحمن من المغرب نائبا عنه إلى حضرموت وقال : إن لنا فيهم أصحابا سر إليهم وخذ عقد الحكم وأخبره أنه سيموت في أثناء الطريق فكان كذلك...)
أخي المسلم ظهر لك أين هؤلاء القبورية من عقيدة الأنبياء ومنهجهم وأدبهم، فهاهم الأنبياء يصرحون أنهم لا يعلمون الغيب من أولهم إلى آخرهم، فهذا نوح قال الله عنه : {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} وقال عن آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - : {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف]، ولم يعرف ادعاء علم الغيب إلا من قبل الكهان والمنجمين والسحرة.
ادعاؤهم القدرة على إنقاذ المستغيث بهم
ذكر صاحب كتاب "شرح العينيات"ص(194) قال : (عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف كان سريع الغوث لمن استغاث به يرى جهرا في البر والبحر)(103/135)
وفي المصدر نفسه (215) أبوبكر العيدروس كان له الكرامات الخارقة ...وإنقاذ الغرقى) وانظر قصة طويلة فيها أن أبا بكر العيدروس أنقذ سفينة .المرجع "تاريخ النور السافر"ص(80-81) وفي كتاب "المشرع الروي"ص(186) (إن محمد بن الشيخ الإمام عبد الله بن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم له كرامات خارقة للعادة منها أنه كان جالسا عند بعض أصحابه فقام مسرعا وعاد وثوبه يقطر ماء فسأله عن قيامه فقال (انخرق مركب بعض أصحابه فاستغاث بي, فحسوت الخرق بثوبي حتى أصلحوا ما تخرق فيه وعاد على ما كان عليه) وفي كتاب "المشرع الروي" من هذه الشطحات الشيء الكثير، ومن ذلك ما ذكره فاضل بن مفرح قال : (مرضت فاستغثت بالشيخ أحمد الشيبي بعد وفاته فرأيته عندي في اليقظة ومسح على خدي فشفيت للفور) "الطبقات"ص(94)
وعلى كل ٍ أنسى هؤلاء الدجاجلة الناس ربهم فصار المتعلقون بهم عند الشدائد لا يعرفون الله ولا تلهج ألسنتهم إلا بالدعاء والاستغاثة بهؤلاء الأموات حبا وتعظيما ورغبة ورهبة، وثقة واعتمادا، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
زعمهم أن الله يتكلم معهم ويعرجون إليه(103/136)
قال صاحب "شرح العينيات"ص(160) : (وكان محمد بن علي با علوي يسمع الهواتف وينادى من قبل الله اترك ما أنت عليه من الظواهر وانظر ما بين يديك وأقبل إلينا) وقال محمد بن حسن المعلم : (نزل علينا شيء من العظمة لو نزل على الجبال لجعلها سمادا ... إلى أن قال: ( ما تعلمون أني المقدم في الملاء ليلة أسري بي ) "العينيات"ص(180) وفي المصدر نفسه ص(158) قال : (كتب محمد بن علي با علوي إلى الشيخ يسعد أنه قال : (عرج بي إلى سدرة المنتهى سبع مرات وفي رواية سبعة وعشرين مرة وفي رواية سبعين مرة ) وفي "طبقات الخواص"ص(128) قال: الشرجي : (روى بعض أصحاب الفقيه الحسين بن أبي بكر السوداني قال : كنت مرة أنا والفقيه وقد حصل عليه ضيق عظيم من فتنة الخلق له وتعطيلهم عليه أوقاته فأطرق ساعة طويلة ثم رفع رأسه فرحا مسرورا وقد حصل له مخاطبة من قبل الله وهو يقول وعزتي وجلالي لو كشفت الحجاب لأحد قبلك في الدنيا لكشفته فيما بيني وبينك وإنما موعدك الآخرة وعزتي وجلالي لأجعلنك في أعلى عليين...)
واعلم أن من القواعد التي وضعها ابن عربي الملحد أنه يوحى إلى أوليائهم وحي باطن والأنبياء لهم وحي ظاهر ، والحق الذي لا شك فيه ولا مرية أن الوحي الذي يدعيه هؤلاء وقد حصل لهم مخاطبة ومكاشفة إنما هو من قبل شياطين الجن. قال تعالى :{وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} فهؤلاء القبورية أهل شرك ووثنية.
زعمهم أنهم يغفرون لمن أرادوا أو أنهم سبب لذلك
من المعلوم أن مغفرة الذنوب مما اختص الله به نفسه ، قال تعالى : {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران]، ذكر الخزرجي في كتابه "العقود اللؤلؤية"ص(142) ( أن رجلا توفي قريب له فلما دفن أبو بكر بن حنكاس رأى الرجل فقال: ما فعل الله بك؟ قال حبست منذ مت مع جماعة, فلما توفي الفقيه أبوبكر بن حنكاس شفع فينا فأطلقنا, وغفر لجميع من في القبور ببركة قدومه).(103/137)
وذكر في ترجمة علي بن إسماعيل قال : (جاء ...على باب الجند فبرك فضربوه فلم يقم فقال بخ بخ لكم يا أهل الجند قد وعدني أن يغفر لي ولمن قبر حولي) ص(143) وانظر أيضا ص(209) وفي "طبقات الخواص" ص(385) قال الشرجي : (إنهم قالوا في أبي بكر بن حمد بن عمران : وما مر على قرية إلا غفر لأهلها).
وفي "طبقات الخواص" ص(231) قال الشرجي في ترجمة علي بن أبي بكر بن شداد: (إن من مشى خلفه أربعين خطوة غفر له) وأيضا في "الطبقات"ص(178) وانظر كتاب "طبقات الشافعية"8/131 للسبكي.
وقضية ادعاء مغفرة الذنوب تذكرنا بقضية صكوك الغفران التي عند النصارى، وخلاصتها أن الرجل النصراني يذهب يرتكب من الجرائم ما يشاء ثم يأتي إلى القسيس الأكبر ويأخذ القسيس منه مبلغا كبيرا من المال ثم يعطي له صكا بأنه من أهل الجنة. وهذه القضية كانت سببا لدخول أحد القساوسة في الإسلام فعندما جاءته امرأة نصرانية تطلب مغفرة ذنوبها فقال: وأنا من يغفر ذنوبي؟ فدخل في الإسلام بسبب هذا.
زعمهم أن البراءة من النار تنزل عليهم من السماء
ذكر الشرجي في "طبقات الخواص" ص(240) قائلا : (قال الجندي: لقد سمعت بالنقل المتواتر أنه اجتمع هو وعمر وعلي ابني غليس في مجلس فيه جماعة من الناس فتذاكروا نعم الله إذ نزلت عليهم ورقة خضراء مكتوب فيها هذه براءة من الله تعالى لعمر وعلي ابني غليس من النار) .
وإليك بقية من التراهات التي تفتخر بها القبورية وسأسردها سردا خشية الإطالة مع الإشارة إلى مظانها:
قلب المخلوقات كجعل الأسد حمارا والرجل حيوانا، انظر "طبقات الخواص"ص(406-407) و (206-207).
قلت: هذه طريقة السحرة وهي طريقة كفرية ، فانظر كيف يفتخرون بأعمال الشياطين، ويعملون معهم, وقد بينا هذه المسألة في كتابنا "معرفة علامات الساحر".
توقيف السحاب ومخاطبته، انظر "طبقات الخواص" (ص75-77-)(147-148-)(382) .(103/138)
رؤية الكعبة وهم في تهامة، وفي تريم، وغير ذلك، انظر "المشرع"ص(184) و"شرح العينية"ص(192) و"طبقات الخواص"ص(94).
يوقفون الريح، انظر "طبقات الخواص" (ص388).
يمكثون الأيام والشهور والسنين بدون طعام ونوم وشراب، انظر "شرح العينية"ص( 148, 192, 194 ,210, 234) وطبقات الخواص ص(253,297, 325).
يوقفون الشمس ، انظر "طبقات الخواص"ص(97-98).
التكلم بعدة لغات دون تعلم لتلك اللغات، انظر طبقات الخواص"ص(96) و"العقود اللؤلؤية"1/146-147.
أحدهم له قرن في السماء وقرن في الأرض، انظر "طبقات الخواص " ص(251).
يرون جبريل والملائكة ، انظر "طبقات الخواص"ص(275).
يأكلون تراب الضرائح على الريق ليصيروا علماء ، انظر "طبقات الخواص" ص(281).
يطيرون في الهواء مسيرة شهر في ثوان، ويمشون على ماء البحار، انظر "طبقات الخواص" (ص 44-66-295.
و"شرح العينية"ص(178) و"تاريخ الشحر"ص(363) وأما جمال الدين محمد بن علي با علوي ففي كتاب "شرح العينية"ص(179) (أول قدم له بتخوم الأرض والقدم الآخر بساق العرش).
اجتماعهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والملائكة والخضر والصحابة يقظة ، انظر "شرح العينية"ص(189).
الأئمة يؤسسون مساجدهم ويصيرون أركانا والنبي - صلى الله عليه وسلم - قبلة ، انظر "المشرع الروي "ص(139-141-188).
من رآهم دخل الجنة ، انظر "تاريخ النور السافر"ص(410) ومن صافحهم دخل الجنة ، المصدر نفسه ص(235) .
أنوارهم تصعد من قبورهم إلى السماء، ويضيؤون المساجد بأنوارهم، انظر "العقود اللؤلؤية"1/338 و"طبقات الخواص"ص( 84-108-157-216-240).
يدخلون نار جهنم ولا تضرهم، انظر "شرح العينية"ص(180).
يفعلون المنكرات ويرتكبون الكفريات والشركيات، ويدعون أنها كرامات ، انظر "طبقات الخواص"ص(135-136) وانظر "المشرع"ص(169) و"تاريخ النور السافر"ص(23-24، 59).(103/139)
يتوضؤون من كوثر الجنة ويشربون منه ، انظر كتاب "تاريخ النور السافر" ص(180) قال: ( وتواجد جمال الدين محمد باعلوي فلما سكن أقيمت الصلاة فصلى من غير وضوء فلما أنكر عليه قال: وعزة المعبود أني شربت وتوضأت على الكوثر ثم حرك لحيته وتقاطرت ماء).
تنبيه : لقد احتوت بعض المؤلفات العصرية على ذكر قدرات جديدة للأولياء الأموات –زعموا- تتناسب مع التقدم العصري ومن ذلك : أن الأولياء يقدرون على إخراج اليهود والنصارى من بلاد المسلمين المحتلة بدون جهاد , وأنهم بحراسة الحدود , وأنهم يمتلكون الأسلحة الثقيلة ,...إلى آخر تراهاتهم .
فيا ترى أين ذهبت عقول المصدقين بمثل هذه الأشياء حتى سطروها في كتبهم وجعلوها من مناقب الأموات .
الأماكن التي تكثر عندها الشركيات في حضرموت
لقد ملئت بعض الأماكن في حضرموت بمنابع الشرك والخرافة, وسأذكر أهم تلك الأماكن وهي كالتالي :
مقبرة تريم : القبور التي تعظم في هذه المقبرة ويتبرك بها تزيد على خمسين ضريحا, وقد تقدم ذكر أقسام هذه المقبرة وما حصل من غلو فيها من قبل صوفية حضرموت .
قرية عينات : تحتوي على عدد كبير من الضرائح وفيها قبر أبي بكر بن سالم الذي يقولون فيه: (أبو بكر بن سالم ياسعد من زاره) والذي عليه قبة محفوفة بست قباب حولها .
حريضة : فيها عدد كبير من القباب والمشاهد على آل العطاس المشهور بالزيارة .
في وادي عمد : قبور كثيرة ليتبرك بها ويمارس الشرك عندها .
مقبرة الهجرتين : هذه المقبرة من المقابر المشهورة التي يعتقد في ضرائحها النفع والضر .
مقبرة الغيل الأسفل : يقول الشلي : (والمقابر المشهورة في حضرموت أربع : مقبرة تريم ومقبرة شبام ومقبرة الهجرتين ومقبرة الغيل الأسفل) انظر "المشرع الروي"1/14 وكانت توزع العبادات على هذه الضرائح على مدار السنة في حضرموت فيعيش المجتمع ممارسا للشركيات صباحا مساء, يبذل لتلك الرفاة والعظام ما ملكت يداه . فإنا لله وإنا إليه راجعون .(103/140)
هذه الأماكن المشهورة في حضرموت الداخل, وأما حضرموت الساحل فقد كان المرض والوباء الشركي فيها أقل .
ذكر بعض الضرائح التي عبدت من دون الله في اليمن
أخي الكريم : لقد رأيت أن أسرد مجموعة من أسماء الضرائح التي صار لها مزارات وتجمعات في الزمن الماضي أوالحاضر وقد ملئت اليمن بالضرائح بسبب انتشار الصوفية والشيعة. قال شيخنا مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه "صعقة الزلزال..."2/258) : (ما بنى القباب على القبور إلا رافضي أو صوفي أو جاهل مغتر بالرافضة أو بالصوفية أو بهما).
وقد اعتمدت في ذكر هذه القبور على الكتب التي تتحدث عن ذلك وعزوت كثيرا منها إلى مصادرها, والقبور التي لم أعزها إلى كتاب فهي من القبور التي ذكرها لي بعض طلابي، وإخوة آخرون، وإليك الأسماء محاولا الاختصار:
1- أحمد بن الحسين المعروف بالإمام الملقب بأبي طير: قتل سنة 756هـ وقبره في حاشد قال الخزرجي في "العقود"1/116 (...ثم نقل قبره إلى (ذي بين) فهو هنالك إلى يومنا هذا وقبره معروف يزار ويتبرك به).
2-قبر في خولان, في الأعروش: يبخر ويجاء إليه بالسمن.
3- قبة على قبر يسمى الحسين: يزار كل سنة ويقام عنده الغدير ويتبرك به في عمران وريدة .
4- شرف الدين محمد بن عبد الله: توفي سنة 1307هـ قبر في الأهنوم وقبره هناك وعليه مشهد وهو يزار. كذا في "البلوغ"ص(79).
قبر شهاب الدين: عليه قبة وهو في (يامن) ريمة يطلب منه الشفاء ويتمسح به.
قبر النهاري: عليه قبة وهو في ريمة عزلة الرباط ناحية الجبين لواء صنعاء وله زيارة في كل سنة يحصل عنده من الجرائم الشركية وغيرها مالا يحيط بذلك علما إلا الله.
قبر عبدالرحيم: عليه قبة كبيرة جدا في قرية الجبين ريمة.
قبر أبي الفرج: عليه قبة عنده شركيات في المرخام ريمة.
قبر الشبلي: عليه بناء يعبد من دون الله في قرية السهلاء ريمة.
قبر السيد أحمد: عليه قبة يزار في نصف شعبان في قرية الهجر ريمة.(103/141)
قبر السيد عبده: عليه قبة يعبد من دون الله في قرية الأقرعة بني الضبيبي ريمة.
قبر رجل يسمى حسن بن علي: عليه قبة يزار في نصف شعبان ويذبح له في ريمة.
قبة محمد بن حسين الأسلافي: مقبور مع عائلته كانت تزار ويذبح عندها ، وقد تركت في ريمة.
قبر الطيار: عليه قبة لأن العامة تزعم أنه طار من عتمة إلى السلفية من ريمة وهو يزار.
يحيى بن حمزة أبو إدريس الحوثي: توفي سنة 749هـ ونقل رفاته إلى ذمار ، كذا في "البحر" /504 وعلى قبره في ذمار تابوت ، وقد عبد قبره إلى عهد قريب، وكان يحيى بن حمزة يفتي بجواز بناء القباب والمشاهد على قبور الفضلاء ، ذكر الشوكاني أنه لم يقل بهذا غيره انظر "شرح الصدور" وذكر العرشي في "البلوغ"ص(143) في الكلام على قبر يحيى بن حمزة : (وله قبة عظيمة يزار ، قال الواسعي : وله كرامات ظاهرة منها التراب إذا أخذ من فوق قبره ووضع في البيت لم يبق فيه ثعبان ولا حية ، وهذا مجرب مشاهد، وهذا التراب ينفع لسنة، وبعد السنة تذهب فائدته، ويؤتى بتراب آخر، وهذا التراب أبيض).
قلت: كانت هذه التراهات تقبل عند الناس يوم أن كانوا يثقون بأصحاب الدعوات الخرافية, أما اليوم فلا يقدر أحد أن يقول هذا أمام الناس فقد استيقظ الناس ولله الحمد.
أبو الفتح الديلمي: على قبره مشهد ويقع قبره شرقي ذمار بالقرب من طرف (قاع القعودين) .
قبر الشيخ عمر: عليه بنيان، وعنده تقام الشركيات في قرية أكمه الفتوح مغرب عنس.
ذمار آنس جبل الشرق هناك أربعة قبور بنيت عليهم قبة ، يعبدون من دون الله ويصلى داخل تلك القبة .
الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم: توفي سنة 1087هـ وقبره مشهور يزار في جبل ضوران كذا في "البلوغ"ص(67-68) .
قبر البعيثي: في عتمة بني بعيث يعبد من دون الله ، وسمي البعيثي ادعاء أنه بعث من قبره.
قبر قاسم أبي بكر: في بني أسد مخلاف رازح عتمة، يزار ويبخر له .(103/142)
مجير الدين، اسمه كافور التقي، قال الخزرجي في "العقود" (1/74) :(...وهو الذي بنى المدرسة المعروفة بالمجيرية في مدينة تعز هنالك, يزار ويتبرك بالدعاء عنده).
أحمد بن علوان أبو الحسن الصوفي الخرافي: ذكر الخزرجي بداية تصوفه فقال : (وسار نحو باب السلطان فبينما هو سائر في أثناء الطريق إذ بطائر أخضر قد وقع على كتفه ومد منقاره إلى فيه ففتح فمه فصب فيه الطائر شيئا فابتلعه الشيخ, ثم عاد إلى بلده فلزم الخلوة أربعين يوما ثم خرج في الحادي والأربعين وقعد يتعبد على صخرة فانقلبت الصخرة عن كف فقيل له صافح الكف ، فقال: ومن أنت؟ قال أبو بكر فصافحه ، فقال له: قد نصبتك شيخا)
قلت: انظر : هداية أقطاب الصوفية من أين تأتي وكيف تبدأ, لم ينتفع ابن علوان بهداية القرآن والسنة كما انتفع بهداية الطير الشيطاني ، ولابن علوان خرافات كثيرة ، وله مؤلفات ككتاب "التوحيد" فيه ألغاز شركية لا يفهمها إلا السني البصير ، وله كتاب "المهرجان" فيه طوام، وله غير ذلك، وهو أعظم الضرائح التي عبدت من دون الله في اليمن إلى ساعتنا هذه, ولكن قد عزف الكثير من الناس عن التوجه إلى زيارته بسبب انتشار دعوة التوحيد ولله الحمد والمنة .
قبر السيد علي: في ماوية قرية الغلل محافظة تعز وهو من الضرائح التي تكثر عنده الشركيات.
قبر في (إب) حريس مديرية غول في رأس الجبل عليه قبة كبيرة منحوت عليها آية الكرسي ، يزار ويؤتى إليه بالسمن والبخور.
قبر الخضر: يزار ويعبد من دون الله في الشعر محافظة إب .
في (إب النادرة) كان يوجد ثلاثة مبان كان داخلها قبور , وكان العوام يأتون إليها بالشمع والسمن والبخور.
أبو الحسين علي بن الحسين الأصابي توفي سنة 759هـ قال الخزرجي في "العقود اللؤلؤية"1/120 : (وكان يسكن قرية يقال لها المعيريز من نواحي المخادر, وقبره أشهر من أن يزار, ويجد الزائر عند قبره رائحة المسك خصوصا ليلة الجمعة).(103/143)
عمر بن سعيد الهمداني العقبي أبو الخطاب: توفي سنة 763 هـ قلت : و(عقيب) مكان قريب من جبله. قال الخزرجي في "العقود" 1/138: (وقبره على مرمى بيته ومسجده وتربته أكثر الترب قصدا في الزيارة فلا ينقطع الزائرون عنها ليلا ولا نهارا ).
سيدة بنت أحمد بن محمد الصليحية الباطنية المشهورة عند كثير من الناس بـ(أروى) وقبرها في المسجد الكبير في جبلة عليه تابوت, وهو يعبد من دون الله إلى وقتنا هذا خصوصا من البهرة الباطنية القادمة من الهند. تولت الملك بعد سبأ بن أحمد الصليحي عام 492هـ واستمرت في الحكم قرابة نصف قرن كما في كتاب "الحركات الباطنية"ص(93-94) وذكر صاحب الكتاب المذكور قائلا : (واستمرت الملكة الحرة في ملكها ملتزمة بتعاليم الإسماعلية إلى أن توفيت في عام 532هـ ...إلى أن قال : نهجت الدولة الصليحية نهج الحركات الباطنية فعملت على إرساء قواعد المذهب الباطني) ، وقد ذكر محمد بن مالك الحمادي اليماني في كتابه "كشف أسرار الباطنية" قائلا : (قامت به الدولة الصليحية سر الدعوة الباطنية بأمور ومن ذلك أن الصلاة المفروضة في السنة مرة فقط، ولكن لم يكونوا يجهرون بدعوتهم) واليماني معاصر لعلي بن محمد الصليحي المؤسس للدولة الصليحية الباطنية باليمن، وقال: (لقد سمعته مرارا وأسفارا وهو يقول لأصحابه قد قرب كشف ما نحن نخفيه وزوال هذه الشريعة المحمدية ص(43).
31- الولي القفلي: قبره في العدين في المديرية، وعليه قبة يزار باستمرار ويعمل له مولد في السنة مرة..
32- الشيخ/ منصور: قبره في العدين في المديرية، وعلى قبره قبة وهو يزار باستمرار.
قبر القفري: يعبد ويحتفل بجانبه في العدين
قبة في العدين أيضا بجانب القبر تزار في قرية الأولياء.
قبر الحضرمي: في العدين عليه حوش يزار كل سنة في نصف شعبان.
قبر أشجع الدين: عليه قبة ، وقبره ملتصق بالمسجد, والزيارة له مستمرة, وله أرض موقوفة باسمه في العدين.(103/144)
أبو عبد الله بن أبي بكر بن الحسين الزوقري الركبي المعروف بابن الخطاب: من سكان مدينة زبيد توفي 765هـ قال الخزرجي 1/149 : (وكانت وفاته بزبيد, وقبره في مقبرة باب سهام ، وقبره معروف مشهور مزار ويتبرك به...).
طلحة بن عيسى الهتار قال القاضي الأكوع في كتابه "هجر العلم" 1/251 : (التريبه كجهينة قرية من قرى بالقرب من زبيد بها قبر الولي طلحة بن عيسى بن إقبال عرف بالهتار).
علي بن قاسم الحلمي الشراحيلي: قبره في الناحية الشرقية من مقبرة (باب سهام) معروف مشهور ويتبرك بالدعاء عنده ، انظر ترجمته في "العقود اللؤلؤية" 1/71-72 .
أبو الغيث بن جميل الملقب بشمس الشموس: توفي سنة 751هـ وقبره في (بيت عطاء)، وهي قرية من أعمال سردد, وقد بنيت على قبره قبة عظيمة ، انظر كتاب "العقود"1/105.ولا زال بعض الجهلة متعلقين به .
قبر الحكمي والبجلي: وعليهما قبة ولهما زيارة في كل عام أول أربعاء من شهر رجب, وهما في (السخنة) الحديدة. ويحصل عند هذه القبة أنواع من الشركيات والجرائم .
أحمد صاحب الجلب: قبره في الخوخة لواء الحديدة له زيارات في آخر جمعة من شعبان.
قبر السيد أحمد خليل: في الدريهمي على ساحل البحر يزار مكانه الذي هو قريب من المنصورية في قرية (القصيع) .
قبر الشمي: غرب باجل يعبد من دون الله .
قبر أبي بكر بن حسان: في قرية (التحيته) له زيارة في رجب .
قبر الخرات في القطيع: يجتمع الناس للتبرك به ثاني عيد عرفة.
قبر الجلاب: بالقرب من الخوخة على ساحل البحر, ويعبد من دون الله في آخر خميس من شهر شعبان.
ضريح مساوى بن طاهر: يقع غرب الجراحي ، وعبادته تقع في (13) من شهر شعبان من كل سنة ، ويقول المستغيثون به: (يا مساوى ساويها إذا هي عوجى ساويها).
قبر أحمد السنة: في وصاب عزلة السنة ، وعلى القبر بناء عظيم تكثر الشركيات عنده من نذر وغيره.(103/145)
قبر محي الدين وعائلته: عليه قبة طولها عشرة أمتار في بني شعيب محزر وصاب العالي ، كانت الشركيات عنده بكثرة .
قبر عبيدالبرحه : بني مسلم الديادير وصاب العالي يسرج له ويبخر.
قبر الشريف علي: عليه بناء, وعلى البناء سبع قباب كانت الشركيات حوله كثيرة, وقد خفت كثيرا في قرية بني حطام وصاب الأسفل.
قبة كبيرة بداخلها سبعة قبور وعلى رأسهم الحاج علي: الشركيات عندها كانت باستمرار في قرية (جداهد) الجبجب وصاب.
وفي وصاب العالي قبة بني الحبشي: وهذه القبة يجتمع الناس عندها في الرجبية.
قبر سعيد بن عيسى: عليه قبة في (وادي حاله) يافع العليا.
قبة أبي دجانة: تزار في لبعوس يافع العليا, يزعمون أن يد أبي دجانة فيها، وتارة يزعمون أن أبا دجانة مدفون هناك.
قبر الحاج سعد: في المفلحي يافع عنده الشركيات.
قبر الفحالي: في يافع يزار .
قبر العسقلاني: عليه قبة وهو في الجبل الأعلى قرية عريب مديرية المفلحي يافع العليا يزار .
قبر أبي بكر المحمود: في يافع يزار وينذر له .
قبر أسعد بن علي: يزار في يافع .
قبر عبد الغفار: في يافع يعبد إلى اليوم.
ضريح الشيخ مسعود: في يافع يعبد إلى اليوم.
حجر الجدة: في يافع ، كانت تعبد من دون الله .
قبر ابن العم: في يافع ، يعبد من دون الله .
أضرحة السبعة: التي يزعم الناس أنهم أصحاب الكهف في يافع.
ضريحان الأول: قبر أبي بكر سالم مبني عليه مسجد يزار ، والثاني قبر عمران عليه قبة يوضع فيها السمن واللبن, ويذبح عنده ، وهما في يافع.
قبر عفيف الدين اليافعي: في ردفان عالم من علماء الصوفية صاحب كتاب "مرآة الجنان" يزار كل عام.
قبر عمر مبارك: عليه قبة في قرية العقلة البيضاء، وكان من القبور المشهورة بكثرة الشركيات حوله.
قبر عمر الضيمري: عليه قبة يعبد في قرية (الحبل) البيضاء.
قبر موسى بن محمد: عليه قبة يعبد في قرية (مرتعة العلياء) البيضاء.
مديرية مكيراس هناك قبر عم المسيحي: يزار كل سنة.(103/146)
قبر المقصع: في رداع كان يزار ويبخر سابقا.
قبر الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم: ...المؤسس للمذهب الهادوي في اليمن ، عنده ضلالات ليس هذا محل بسطها، ويكفي في هذه العجالة ما قاله الجعدي في كتابه "طبقات فقهاء اليمن"ص(75) : (ثم لحق اليمن كله في آخر المائة الثالثة وأكثر المائة الرابعة فتنتان عظيمتان : فتنة القرامطة، والفتنة الثانية أن الشريف الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين لما قام في صعدة ومخاليف صنعاء دعا الناس إلى التشيع عند استقراره في صنعاء، وهذه الفتنة أهون من الأولى) توفي سنة 299 بصعدة ، وقبره بمسجده المعروف مسجد الهادي وهو يعبد إلى وقتنا هذا.
حجة (الخشم) هناك قبر أبو حربة: يزار إلى اليوم .
المطهر بن يحيى بن مرتضى الملقب بالمتوكل على الله: توفي سنة 697هـ وقبره بدروان حجة مشهور بها مزور. كذا في "البلوغ"ص(50).
قبر الوشلي في الحيمة عزلة بني الحذيفي حصن شمسان ، وقبره في المسجد يذبح عنده ويبخر وينذرله .
قبة سعيدة بنت عمر أخت عبد الله بن عمر: في (الحور) أبين يشد إليها الرحال من مناطق كثيرة .
قبر عليه قبة كان يزار ويعمل عنده أنواع من الشركيات وهو في شبوة وادي جردان بجانب بني ضباب .
أحمد بن محمد الشكيل الطوسي: توفي سنة 754هـ قال الخزرجي في "العقود"1/114: (وقبره مشهور مقصود للزيارة وطلب الحوائج...).
أبو الحسن علي بن إسماعيل الواسطي: توفي سنة 764هـ قال الخزرجي في "العقود"1/143: (وقبره تحت جبل صرب مشهور مزار).(103/147)
عبد الله بن حمزة المتوفى سنة 614هـ وخطابه القبوري الموجه إلى أهل قرية (لصف) من بلادنهم يوبخهم لما لم يبنوا قبة على قبر أخيه إبراهيم بن حمزة قال : (فهلا استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء, وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء, واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء، وعظمتم حاله كما يعظم حال الشهداء، وأوجبتم من حقه ما ضيع الأعداء، وعمرتم على قبره مشهدا، وجعلتموه للاستغفار مثابة ومقصدا، ونذرتم له النذور تقربا، وزرتموه توددا إلى الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإلينا تحببا) نقلا من كتاب "هجر العلم" للقاضي الأكوع 1/223-225.
القاسم بن محمد الملقب بالمنصور بالله: توفي سنة 1035هـ ذكر شيخنا الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه "صعقة الزلزال لنسف أباطيل الرفض والاعتزال"1/211 وهو يتحدث عن البعض قوله : (وعمر عليه القبة المعروفة, فهو مزور مشهور).
يوسف بن علي بن محمد الحماطي: قال صاحب كتاب "النبذ"ص(58) : (على قبر يوسف بن علي مشهد مشهور إليه الزيارة والنذور.
وقال في ترجمة ولده علي بن يوسف : (وقبره في محرم معمور عليه مشهد مزور).
قبة الشريف: في بني الجابري بني نفيع يزار ويطلب منه الشفاء.
وأما الضرائح التي كانت تعبد في حضرموت فهي كثيرة ، وقولي : كانت تعبد تنبيها للقارئ أن حضرموت اليوم غير حضرموت في الأمس ، فقد كانت حضرموت في الأمس منبعا للشرك والخرافة ، بسبب تمكن الطرق الصوفية منها ، وأما اليوم فهي منبع للتوحيد والسنة ، نسأل الله أن يزيد أهلها صلاحا وتقى . والضرائح التي كانت تعبد فيها تحتاج إلى مؤلف خاص ، وسأنقل مجموعة من الضرائح من كتاب "المشرع الروي في مناقب السادة آل با علوي" ولن أنقل إلا من الجزء الثاني ، فإليكها :
ناصر بن أحمد بن الشيخ بن عبد الله السقاف: قبره معمور ببندر الشحر يزار
أبو بكر حسين بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن: بنيت عليه قبة عالية .(103/148)
3- أبو بكر العيدروس: قبره ببندر عدن، يقصد بالزيارة.
أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي: قبره بمقبرة زنبل، يزار .
أحمد بن محمد الهادي بن عبد الرحمن: دفن بالمعلاه ، وقبره معروف يزار.
أحمد بن محمد بن علوي بن أبي بكر الحبشي: قبره في أسفل الجبل في (الحسيسة)، عليه قبة عظيمة.
حسين بن عبد الله العيدروس: في تريم ، ودفن بقرب قبر أخيه في قبته.
زين بن عبد الله (جمل الليل ) دفن بالبقيع ، وقبره معروف يزار.
عبد الله العيدروس: دفن بمقبرة زنبل ، وقبره معروف يزار .
عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن المعلم: في قرية قسم ، وقبره مشهور يزار .
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السقاف: دفن بالمعلاه ، وقبره معروف يزار.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله العيدروس: قبره بـ(مقبرة زنبل) أظهر من رابعة النهار .
عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ العيدروس: قبره بـ(مقبرة زنبل). وعمل عليه قبة مزخرفة تفتن الناظرين .
عبد الله بن علي بن حسن: قرية الوهط مقصود بالزيارة .
عمر بن الشيخ علي بن أبي بكر السقاف: الوهط بين بندر عدن ولحج ، قبره معروف يزار .
شيخ عبد الله بن الشيخ علي: قبره ببندر الشحر ، يزار .
أخي القارئ الكريم : رأيت هذه الكثرة من القبور التي ذكرتها من الجزء الثاني من "المشرع الروي" فقط . فكيف لو تتبعنا ما في كتاب "شرح العينية" و "تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر" للعيدروس و "تاريخ الشحر" وكتاب "شمس الظهيرة " و "غاية القصد والمرام" وغير ذلك من كتب قبورية حضرموت لوجدنا أن الضرائح التي فيها أكثر وأكثر ، ولو نزلنا إلى الساحة لوجدنا أن الضرائح التي كانت منبعا للشرك والخرافة أكثر بكثير مما ذكر في الكتب لأن هناك أضرحة كانت تعبد ولم تذكر في الكتب المؤلفة .(103/149)
وأخيرا أكرر على أن العدد المذكور للضرائح في هذا المؤلف ليس إلا من باب الجمع العابر وليس تقصيا بل إن هناك محافظات لم نتطرق إلى الضرائح التي كانت تعبد فيها كالمهرة ولحج وشبوة وغير ذلك من المحافظات ، فتصور معي لو جمعت كل هذه بدقة في الإحصاء كم تبلغ الأصنام والأوثان التي عبدت في اليمن منذ انتشار الرفض والتصوف .
الفصل الرابع :
الوعيد الشديد على من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إن من المعلوم من ديننا بالضرورة أن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرة من كبائر الذنوب ، كيف لا؟ وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) والحديث متواتر ، وقد جعل المحدثون الكذب من الراوي في الحديث النبوي الواحد أشد أنواع الطعن في الراوي ، ولا يقبلون حديثه بعد ذلك ، حتى يتوب إلى الله ، بل جمهورهم لا يقبلون حديثه ولو تاب ، وهذا هو الحق ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : ((إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب عليّ متعمدا فليتوأ مقعده من النار)) متفق عليه من حديث المغيرة .(103/150)
ومن روى الأحاديث المكذوبة على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو شريك من اختلقها في الكذب ، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) رواه مسلم وأحمد عن سمرة . فمن كان يعلم حديثا مكذوبا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يرويه فعليه من الإثم والوعيد بالعذاب مثل إثم من اختلقه وربما أشد ، إذا تسبب في نشر باطل ورد حق ، فما بالك بمن يؤلف الكتب لعدة أزمنة وربما إلى قيام الساعة ، وهي تحمل الأحاديث المكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف بمن يؤصل بها أمور الشرك والخرافة؟ فمن هنا تعلم الخطر الجسيم الذي ارتكبته الفرق القبورية حيث إنها تجعل منطلق الدعوة إلى عبادة القبور قائما على الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وستأتيك نبذة من الأحاديث التي جعلها دعاة القبورية أساسا لما يدعون إليه ، وهي كذب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعلى كلٍ لا بد من بيان الأحاديث المكذوبة ممن يذكرها وإلا فهو غاش للأمة .(103/151)
تنبيه : جاء عند الطبراني عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من كذب علي يريد عيبي وشين الإسلام فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم)) وهذا الحديث كذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه من طريق محمد بن الفضل بن عطية وهو كذاب ، قال الحاكم : (هذا حديث باطل, وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية اتفقوا على تكذيبه...) انظر "النكت على ابن الصلاح " لابن حجر2/854 , وقال الحاكم أيضا : (تجاسر أبو جعفر محمد بن عبد الله الفاتني السلمي زعم أنه رأى مناما طويلا ساقه في نحو من كراس ـ وفيه ـ قلت : يا رسول الله فهذه الأخبار التي وضعوها عليك ؟ قال : (( من تعمد عليّ كذبا يريد به إصلاحا لأمتي أو رفع لهم درجة في الآخرة فأنا أرحم الخلق به فلا أخاصمه وأشفع له ، والله أرحم مني ، ومن قصد بذلك الكذب وإفساد أمتي وإبطال حقهم فأنا خصمه ولا أشفع له) انظر المصدر السابق.
قال الحافظ ابن حجر : (وهو كلام في غاية السقوط إنما أوردته لئلا يغتر به ، لأنني رأيته في كلام العلامة مغلطاي أورده وقال: ينظر فيه).
قلت : محمد بن عبد الله السلمي يكفيه أن الحاكم أخبر عنه أنه متجاسر على الكذب ، فنعوذ بالله من الخذلان.
تنبيه آخر : جاء من حديث ابن مسعود والبراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من كذب علي متعمدا ليضل الناس فليتبوأ مقعده من النار)) قال الحافظ في "النكت" 2/855 : (اتفق أئمة الحديث على أنها زيادة ضعيفة . أي قوله : (ليضل الناس) إلى أن قال: ـ وعلى تقدير قبول هذه الزيادة فلا تعلق بها لهم لأن لها وجهين :
أحدهما : أن اللام في قوله : (ليضل الناس) ليست للتعليل ، وإنما هي لام العاقبة ، كما في قوله تعالى : {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} [القصص]، وهم لم يلتقطوه لقصد ذلك .(103/152)
ثانيهما : أن اللام للتأكيد ولا مفهوم لها كما في قوله تعالى :{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} [الأنعام]، لأن الكذب على الله محرم سواء قصد به الإضلال أو لم يقصد به ...) اهـ.
جريمة الكذب على الصالحين
من المعلوم في الإسلام أن الكذب حرام ولو كان الكذب في شيء يسير, فما بالك بالكذب على الصالحين من علماء الإسلام ودعاته وحملته المؤدي إلى رد الحق بل ومحاربته بل إلى نشر الشرك والخرافة والكفر من تنجيم وسحر وكهانة وعبادة الأموات بشتى أنواع العبادات ، أفلا يكون الخطر أعظم وأدهى وأمر؟ بل قال الله تعالى :{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم}[الأنعام]، وأي إضلال للمسلمين أكبر مما ذكرنا في هذا الكتاب ؟!. وقال الله تعالى : {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ...إلى قوله ... {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور] .(103/153)
انظر أخي المسلم: كيف جعل الله الخائضين في نشر الفرية على عائشة مكتسبين للإثم وكيف جعل مختلق الكذب عليها له عذاب عظيم أفلا يكون عذاب الله أشد على من افترى على الصالحين وأولياء الله الكذب ليصيرهم آلهة يعبدون من دون الله؟. والكذب على أولياء الله المؤدي إلى ما ذكرنا هو يتضمن الكذب على الله لأن الكاذبين جعلوا ادعاءهم لصلاح الصالحين وولايتهم مبررا لكذبهم ، لأن الناس يخدعون بهذا . ويقولون : هؤلاء صالحون هم أعلم بالله منا وأخشى له وأتقى ، فكيف يصدر منهم ما يخالف الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟، فقبول ذلك منهم على أنه من عند الله ، فهذا هو تضمن الكذب على الله ، وقد قال الله تعالى : {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} [الزمر]، وكيف لا يكونون قد دخلوا في الكذب على الله ووقعوا فيه وهم لم يجتنبوه فضلا عن أن يحاربوه؟، ولا يخفى على من له اطلاع على أحوال الرافضة والصوفية ما حصل من كذب وافتراء على الصحابة وآل بيت النبوة ومن تبعهم بإحسان من قبل الرفضة والصوفية فيما يتعلق بالعقيدة خصوصا ، ولقد بلغ الكذب عليهم إلى اختلاق كتب لهم تناوئ القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وتبيح الكفر والشرك وغير ذلك ، كالصحف المنسوبة إلى آل بيت النبوة ، التي نزلت عليهم من السماء اختصهم الله بذلك على حد كذبهم ، كقرآن فاطمة والجفر ، واتسع الخرق على الراقع ، فقد ملئ الجراب بالكذب على من تعبد ضرائحهم كالجيلاني, وأحمد الرفاعي, ومعروف الكرخي, وبشر الحافي وغيرهم ، وألفت في ذلك الكتب دعوة وردودا، فهؤلاء من أعظم أعداء رسولنا وديننا ، والله المستعان.
ذكر شيء من الأحاديث الضعيفة والموضوعة
التي اعتمدت عليها القبورية(103/154)
لقد اتكأ دعاة القبورية على التخرص في فهم القرآن والسنة وعلى الأحاديث الضعيفة والموضوعة وما لا أصل له ، وعلى الأقوال المريضة والآراء الفاسدة والدعاوى الباطلة ، وقد رأيت أن أسرد مجموعة من الأحاديث التي لا تصح عندما نجعلها في ميزان النقد ، وقد رأيت أن أذكر شيئا من كلام أهل العلم عليها ، وهم أهل الحديث لأن أهل الحديث هم فرسان هذا الميدان بلا خلاف ، ولم أستقص وإنما جعلت ذلك كمشاركة في التصفية والتنقية لما دخل من الأباطيل في هذه المسألة الكبيرة ، وإليكها:
الحديث الأول : ((لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به )) وإليك كلام أهل العلم فيه :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( هذا من المكذوبات) انظر "مجموع الفتاوى "24/335 .
وقال الإمام ابن القيم : (هو من وضع المشركين عباد الأوثان) "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"ص(139) رقم (319) وقال أيضا : (ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناقض دينه) ثم ذكر هذا الحديث ((لو أحسن...)) ثم قال : (وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال والضلال) "إغاثة اللهفان"1/308 .
وقال الحافظ ابن حجر والسخاوي رحمهما الله : (لا أصل له). اهـ انظر "الضعيفة" رقم (450) .
الحديث الثاني : ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور أو فاستعينوا بأهل القبور)) وهذا الحديث قد حكم عليه علماء الإسلام بالوضع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (هو كذب باتفاق أهل المعرفة) "مجموع الفتاوى" 11/293)
وقال أيضا : (هو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء)" اقتضاء الصراط المستقيم" 2/196.(103/155)
وقال ابن قيم الجوزية وهو يعدد الأشياء التي أوقعت القبورية في الافتتان بها : (ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناقض دينه وما جاء به كحديث ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)) وحديث ((لو أحسن أحدكم...)) الحديث، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال والضلال) "إغاثة اللهفان"1/308.
الحديث الثالث : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه قد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقتك))
الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك"2/615 والبيهقي في "الدلائل"5/488-489 والحديث حكم عليه الذهبي بالوضع انظر "الضعيفة" رقم (25) .
الحديث الرابع : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا، فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه)) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" 9/17 رقم (5269) والطبراني في "الكبير"10/267 رقم (10518) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"ص(455) رقم (508) والحديث فيه معروف بن حسان وهو ضعيف. وفيه الانقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود, والحديث ضعفه جماعة من أهل العلم. انظر "الضعيفة" رقم (655).(103/156)
الحديث الخامس : عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إذا أظل أحدكم شيئا أو أراد أحدكم عونا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني فإن لله عبادا لا نراهم)) أخرجه الطبراني في "الكبير" 17/117-118 رقم (290) والحديث فيه ثلاث علل:
الأولى: عبد الرحمن بن شريك القاضي ضعيف.
الثانية : أبوه وهو شريك بن عبد الله القاضي ضعيف أيضا.
الثالثة: الانقطاع بين عتبة والراوي عنه وهو زيد بن علي .
والحديث قد ضعفه جماعة من أهل العلم .انظر "الضعيفة" رقم (656) .
تنبيه: حديث عتبة وحديث ابن مسعود الذي قبله فيهما دعوة إلى الاستنجاد والاستغاثة بالجن والشياطين, لأن القائل: (يا عباد الله احبسوا) يسمعه الجن ...وهم يستغلون مثل هذا النداء ليتوصلوا إلى التسلط على الداعي ودفعه إلى ما يريدون من الشركيات والخرافات. وأما الملائكة فإنهم وإن سمع من سمع منهم النداء إلا أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله ، والله أعلم بعباده ، فهناك من لا يستحق أن يدفع عنه ما نزل به من بلاء ومعنى ((عباد الله احتبسوا))عند القبورية الأقطاب والأوتاد والأغواث والنجباء والطيارين, وهذا مبني على عقيدتهم الباطلة أن هؤلاء حاضرون مع الخلق ناظرون إليهم , فيا لله العجب من هذه الشطحات التي جعلت أصحابها لا يعرفون التوجه إلى الله, بل لب توجههم إلى هذه الدعاوى , فإنا لله وإنا إليه راجعون .
الحديث السادس : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن لله قوما اختصهم لمنافع العباد ويقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم )) أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" رقم (49) والاصبهاني في "الترغيب والترهيب" 2/70وأبو نعيم 6/115 و"تمام الفوائد" رقم (162). وابن عساكر 59/295 والطبراني 12/358 والحديث ضعيف من جميع طرقه .(103/157)
الحديث السابع : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) رواه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر ، قال صاحب "الصارم" : (في سنده عبد الله بن عمر العمري المصغر الرواية. ضعيف ، ورواه عنه موسى بن هلال قال أبو حاتم : مجهول) اهـ من "الصارم المنكي".
وانظر "الإرواء" (1127)
الحديث الثامن : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري حلت له شفاعتي)) رواه الدارقطني والبزار من طريق عبد الله بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .
عبد الله بن إبراهيم الغفاري ضعيف جدا نسبه بعضهم إلى الكذب ووضع الحديث.
عبد الرحمن بن زيد ضعيف جدا . اهـ من "الصارم المنكي".
الحديث التاسع : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من جاءني زائرا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقا عليّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة)) رواه عبد الله بن محمد العبادي عن مسلمة بن سالم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبيه.
وعبد الله بن محمد خالفه من هو أمثل منه ، وهو مسلمة بن حاتم الأنصاري وهو شيخ صدوق ، فرواه مسلمة بن حاتم عن مسلمة بن سالم عن عبد الله العمري عن نافع به ، فرجع الحديث إلى عبد الله المكبر الصغير الضعيف ، وحتى إن صح إلى مسلمة بن سالم أنه رواه عن عبيد الله المصغر الكبير فلا يقبل تفرده عنه دون أصحاب عبيد الله ، وأين هم من هذا ؟ ومسلمة ليس بالثقة الحافظ) اهـ من "الصارم المنكي".
الحديث العاشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان)) رواه الحاكم ، وفي سند الحديث أسيد بن زيد الجمال كذبه ابن معين.(103/158)
و قال الألباني في "الدفاع عن الحديث النبوي والسيرة"ص(108) : (حديث موضوع آفته أسيد بن زيد الجمال الكوفي الكذاب ، وله طريق آخر عن ابن عباس بلفظ ((من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو قال : شفيعا)) وهذا موضوع أيضا ، في إسناده فضالة بن سعيد بن زميل مجهول لا يعرف إلا بهذا الخبر الذي تفرد به ولم يتابع عليه)، وقال الذهبي : (هذا موضوع).
الحديث الحادي عشر : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي )) رواه الدارقطني عن ابن عمر وفي سنده حفص بن سليمان بن أبي داود المقري متروك الحديث . قال البيهقي : (تفرد به, وحفص يسميه أبو الربيع الزهراني: حفص بن أبي داود لضعفه ، وفي السند أيضا ليث بن أبي سليم ضعيف ، وحفص اضطرب فيه فتارة يرويه عن ليث وتارة عن كثير بن شنطير عن ليث به) اهـ من "الصارم المنكي".
وقال الألباني في "الضعيفة" (47) : (موضوع).
الحديث الثاني عشر: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن حج ولم يزر قبري فقد جفاني)) رواه بعض المتأخرين من طريق النعمان بن شبل عن محمد بن الفضل عن جابر عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
النعمان بن شبل اتهمه موسى بن هارون ، وقال ابن حبان : (يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوبات).
محمد بن الفضل هو ابن عطية كذبوه . وجابر هو الجعفي كذاب. ومحمد بن علي هو الباقر لم يدرك عليا جد أبيه رضي الله عنهم فالسند منقطع) اهـ من "الصارم المنكي".
قال الألباني في "الدفاع عن الحديث النبوي والسيرة"ص(108) : (موضوع).(103/159)
الحديث الثالث عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) من طريق محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
محمد بن محمد بن النعمان متهم بالكذب والوضع على جده. وجده لا يقبل تفرده عن مالك إن فرضنا أنه ثقة, فأين أصحاب مالك عن مثل هذا؟ فكيف وقد اتهمه موسى بن هارون ؟.
والصحيح في الرواية عن النعمان بن شبل عن محمد بن الفضل عن جابر عن محمد بن علي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه به، وقد تقدم الكلام عليها) اهـ من "الصارم المنكي" بتصرف . وقد حكم عليه جماعة من أهل العلم بالوضع .انظر "الضعيفة" رقم (45).
الحديث الرابع عشر: ((من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله ـ أو دخل ـ الجنة))
قال ابن عبد الهادي فيه وفي الأثر الذي قبله: ( ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث إنما افتراه الكذابون لما فتح بيت المقدس واستنقذ من أيدي النصارى على عهد صلاح الدين سنة بضع وثمانين وخمسمائة فإن النصارى نقبوا قبر الخليل وصار الناس يتمكنون من الدخول إلى الحضرة) اهـ من "الصارم المنكي" وانظر "الضعيفة" رقم (46).
الحديث الخامس عشر : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبري أو من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة)) رواه أبو داود الطيالسي عن سوار بن ميمون أبي الجراح العبدي عن رجل من آل عمر عن عمر به مرفوعا.
هذا الحديث فيه علل وهي :
الاضطراب ، والاختلاف ، والانقطاع ، والجهالة ، والإبهام) اهـ من "الصارم المنكي".(103/160)
ورواه هارون بن قزعة عن رجل من ولد حاطب عن حاطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وتارة عن رجل من ولد حاطب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وتارة يقول فيه: عن رجل من آل الخطاب . وتارة من آل عمر ...الخ ففيها اضطراب كثير) اهـ من "الصارم المنكي". .
وقال الألباني في "الضعيفة" (1021) : (باطل).وانظر الدفاع عن الحديث النبوي ص(107-108) للألباني .
الحديث السادس عشر : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى عليّ في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه)) وهو حديث موضوع قال الذهبي في الميزان :هذا خبر باطل آفته بدر) .اهـ وبدر هو ابن عبد الله المصيصي انظر "الضعيفة" رقم (204).
الحديث السابع عشر : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي)) رواه ابن مردويه عن الحسن بن محمد السوسي عن أحمد بن سهل بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن عمر قال: سمعت سعيدا المقبري يقول سمعت أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره.
هذا حديث منكر لا أصل له ، وإسناده مظلم بل هو حديث موضوع على عبد الله العمري الصغير المكبر المضعف, والحسن بن محمد السوسي وأحمد بن سهل الأهوازي يرويان المنكر لا يحتج بخبرهما ولا يعتمد على روايتهما, وخالد بن يزيد هو العمري بلا شك وهو متروك الحديث متهم بالكذب) اهـ من "الصارم المنكي".
الحديث الثامن عشر : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا أو شفيعا)) وفي رواية ((من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة)) يرويه ابن أبي فديك عن سليمان بن يزيد أبي المثنى الكعبي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .(103/161)
سليمان بن يزيد منكر الحديث غير محتج به، لم يسمع من أنس بل روايته منقطعة غير متصلة) اهـ من "الصارم المنكي".
قلت: هو عند البيهقي في "الشعب" وذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"2/130 وفي بعض ألفاظه ((من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة)).
الحديث التاسع عشر : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زارني ميتا فكأنما زارني حيا ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر)) موضوع مكذوب مختلق مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها ، وإسناده إلى سمعان ظلمات بعضها فوق بعض ، وأما سمعان فهو من الحيوانات التي لا يدرى هل وجدت أم لا ؟) اهـ من "الصارم المنكي".
الحديث العشرون : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو قال: شفيعا)).
هو حديث منكر جدا ليس بصحيح ولا ثابت بل هو حديث موضوع على ابن جريج, في سنده فضالة بن سعيد بن زميل المازني شيخ مجهول لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به, ولم يتابع عليه. ومحمد بن يحيى المازني قال ابن عدي : (منكر الحديث) . وقال : (أحاديثه مظلمة منكرة) اهـ من "الصارم المنكي" .
الحديث الحادي والعشرون : عن بكير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا)) رواه يحيى الحسيني في "أخبار المدينة" في باب ما جاء في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي السلام عليه فقال : حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا عبد الله بن وهب عن رجل عن بكير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .(103/162)
قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي"ص(173) : (هو حديث باطل لا أصل له وخبر معضل لا يعتمد على مثله وهو من أضعف المراسيل وأوهى المنقطعات) .اهـ من "الصارم المنكي" .
الحديث الثاني والعشرون : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ((من سأل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة ، ومن زار قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))
هذا مكذوب على علي رضي الله عنه يرويه عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي به.
عبد الملك بن هارون بن عنترة متهم بالكذب ووضع الحديث.
الحديث الثالث والعشرون : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ما من مسلم يسلم علي في شرق ولا غرب إلا أنا وملائكة ربي نرد عليه السلام فقال له قائل: يا رسول الله ما بال أهل المدينة ؟ فقال : وما يقال لكريم في جيرته وجيرانه)) رواه الطبراني عن أبي هريرة.
والحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل. والمتهم بوضعه شيخ الطبراني عبيد الله بن محمد العمري المدني ، ويجوز أن يكون وضع له وأدخل عليه فحدث به) اهـ من "الصارم المنكي" وانظر "الضعيفة" رقم (205).
الحديث الرابع والعشرون : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من صلى عليّ عند قبري سمعته ، ومن صلى علي نائيا من قبري أبلغته)) أخرجه البيهقي في "الشعب" .
قال صاحب "الصارم المنكي" : (موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يحدث به أبو هريرة ولا أبو صالح ولا الأعمش ، فيه محمد بن مروان السدي متهم بالكذب والوضع . وفيه أيضا العلاء بن عمرو الحنفي متروك) .
وجاء نحوه عن أبي البختري عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(103/163)
وأبو البختري اسمه وهب بن وهب القاضي كذاب يضع الحديث باتفاق أهل المعرفة بالحديث) اهـ من "الصارم المنكي" . وانظر "الضعيفة" رقم (203).
الحديث الخامس والعشرون : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل بقبر أبي إبراهيم عليه السلام فقال: يا محمد انزل فصل هنا ركعتين هذا قبر أبيك إبراهيم ثم مر بي ببيت لحم فقال انزل فصل هاهنا ركعتين فإنه ولد أخوك عيسى عليه السلام ثم أتى بي إلى الصخرة فقال: يا محمد من هنا عرج ربك إلى السماء...)) والحديث طويل كما ذكر ذلك ابن حبان وقال : (وذكر كلاما طويلا أكره ذكره).
والحديث أخرجه ابن حبان في "المجروحين"1/197 وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"1/113 والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"1/12-13.
والحديث موضوع وآفته بكر بن زياد الباهلي، قال ابن حبان في "المجروحين"1/196 : (شيخ دجال يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه).
والحديث حكم عليه العلماء والأئمة بالوضع .
الحديث السادس والعشرون : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور)) أخرجه البيهقي في كتاب "حياة الأنبياء" وهو موضوع لأن فيه أحمد ابن علي الحسنوي وهو متهم, ومتنه يعارض الأحاديث الصحيحة التي فيها إثبات أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء.
وقد جاء من كلام سعيد بن المسيب فلعله من الإسرائيليات.(103/164)
الحديث السابع والعشرون : عن سعيد بن المسيب قال : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر ثم أتقدم فأقيم وأصلي وإن أهل الشام ليدخلون المسجد زمرا فيقولون انظروا إلى الشيخ المجنون)) رواه أبو نعيم الأصبهاني في "الدلائل" وهو ضعيف لأن فيه عبد الحميد بن سليمان ضعيف ، وله طريق أخرى عند ابن سعد فيها محمد بن سعيد وهو مجهول وفيها ولده طلحة بن محمد وهو مجهول أيضا.
الحديث الثامن والعشرون : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما {يس} غفر له بعد كل آية أو حرف )) موضوع ، رواه ابن عدي وأبو نعيم في " أخبار أصبهان" والمتهم بوضعه عمرو بن زياد الثوباني فقد اتهمه بالوضع ابن عدي وغيره.
الحديث التاسع والعشرون : ((من حج فليقدس حجته من سنته)) قال النووي : (لا أصل له) "تنزيه الشريعة" لابن عراق ص(176) .
الحديث الثلاثون : (( رحم الله من زارني وزمام ناقته بيده...)) سئل ابن حجر عنه فقال : (لا أصل له) "تنزيه الشريعة"ص(176) وفي "كشف الخفاء" قال ابن حجر : (لا أصل له بهذا اللفظ).
الحديث الحادي والثلاثون : عن مالك الدار وكان خازنا لعمر على الطعام قال : (أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل في المنام فقيل له ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره أنكم مستسقون وقل له عليك الكيس) هذه القصة أخرجها البيهقى في دلائل النبوة 7/47 وفيها جهالة الرجل الذي جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .(103/165)
وقد ذكر سيف بن عمر في فتوحه أن بلال بن الحارث المزي أحد الصحابة هو الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن سيف هذا متروك, والرؤيا المنامية لا يبنى عليها أحكام عند أهل العلم, بل القصة هذه مخالفة لأدلة الاستسقاء .
الحديث الثاني والثلاثون :حديث (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين). "التوسل والوسيلة" (168).
الحديث الثالث والثلاثون : حديث ((أن الله تعالى وكل ملكا على قبر كل ولي يقضي حوائج الناس)) . والحديث لا أساس له من الصحة .
الحديث الرابع والثلاثون : حديث ((حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإن أنا مت كانت وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم )). رواه البزار وهو "ضعيف انظر "الضعيفة"رقم (975).
الحديث الخامس والثلاثون : حديث ((تعرض علي أعمالكم كل خميس)) قال الألباني موضوع فيه الأنصار ي هذا وهو محمد بن عبد الملك .انظر "الضعيفة" رقم (975).
الحديث السادس والثلاثون : عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : ((من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا )) أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وهو موضوع لأن في إسناده يحي بن العلاء البجلي وقد كذبه غير واحد من المحدثين, وفيه علل أخرى .
ذكر بعض الآثار الضعيفة التي استدلت بها القبورية
أثر بلال :(103/166)
جاء عن بلال أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال : (ما هذه الجفوة فسافر إلى المدينة وجاء عند القبر فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه...) رواه أحمد والحاكم عن محمد بن الفيض أبي الحسن الغساني عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء عن أبيه محمد بن سليمان عن أبيه سليمان بن بلال عن أم الدرداء عن أبي الدرداء في قصة طويلة.
هذا أثر غريب منكر وإسناد مجهول ، وفيه انقطاع ، وقد تفرد به محمد بن الفيض الغساني عن إبراهيم بن محمد بن سليمان عن أبيه عن جده.
وإبراهيم هذا شيخ لم يعرف بثقة وأمانة ولا ضبط وعدالة. بل هو مجهول غير معروف بالنقل ولا مشهور بالرواية, ولم يرو عنه غير محمد بن الفيض روى عنه هذا الأثر المنكر.
ومحمد بن سليمان بن بلال والد إبراهيم قليل الحديث ، لم يشتهر من حاله ما يوجب قبول أخباره.
وأما أبوه سليمان بن بلال فإنه رجل غير معروف بل هو مجهول الحال ، قليل الرواية لم يشتهر بحمل العلم ونقله ، ولم يوثقه أحد من الأئمة فيما علمناه ، ولم يذكر له البخاري ترجمة في كتابه ، وكذلك ابن أبي حاتم ، ولا يعرف له سماع من أم الدرداء) اهـ من "الصارم المنكي".
وقال الألباني في "الدفاع عن الحديث النبوي والسيرة "ص(95) : (وهذه الرواية باطلة ولوائح الوضع عليها ظاهرة من وجوه عديدة . ثم ذكر أهمها فراجعها إن شئت
أثر وهب بن منبه:
قال وهب بن ومنبه : (إذا كان آخر الزمان حيل بين الناس وبين الحج فمن لم يحج ولحق ذلك ولحق بقبر إبراهيم فإن زيارته تعدل حجة).
هذا كذب على وهب بن منبه، اهـ من "الصارم المنكي".
أثر عمر بن عبد العزيز:
عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد من الشام ويقول له سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
هذا لا يصح ، وإن صح فليس فيه دلالة على شد الرحال لمجرد زيارة القبر ) اهـ من "الصارم المنكي" .
أثر عمر بن الخطاب:(103/167)
قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار لما أسلم : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتمتع بزيارته , فلما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن عبدالهادي : (من المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتوح الشام فيه كذب كثير ، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم) اهـ من "الصارم المنكي" .
أثر عائشة في شأن القحط
واخرج الدارمي في سننه 1/56 عن أبي الجوزاء قال قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت : (انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا فمطروا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من اللحم فسمي عام الفتق . قلت :هذا الأثر ضعيف انظر الكلام عليه في" الرد على البكري" 1/89 وما بعدها.
أثر أبي أيوب
أخرجه أحمد 5/422 والطبراني في الكبير رقم( 3999 ) والأوسط رقم( 3962) من طريق داود بن أبي صالح قال : (أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر فأخذ مروان برقبته ثم قال هل تدري ما تصنع ؟ فإذا هو أبو أيوب الأنصاري ...)والقصة ضعيفة في سندها داود بن أبي صالح وهو مجهول وانظر مزيدا من الكلام عليها في رسالة "شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور" ص 16-19.
قصة أعرابي :
قال محمد بن حرب الهلالي دخلت المدينة فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فزرته وجلست حذاءه فجاء أعرابي فزاره ثم قال : (يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه : {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم(103/168)
ثم استغفر وانصرف قال فرقدت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومي وهو يقول : الحق الرجل فبشره أن الله قد غفر له بشفاعتي فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده)
قال ابن عبد الهادي : (هذه الحكاية بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد , وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي , وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي ).
وقد ذكرها البيهقي في كتابه "شعب الإيمان" بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي فذكر نحو ما تقدم . وقد وضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما يقوم به حجة, وإسنادها مظلم مختلف ، ولفظها مختلف أيضا . ولا يصلح للإحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم ، وبالله التوفيق) اهـ من "الصارم المنكي" .
قصة أعرابي مع علي بن أبي طالب :
إسنادها إلى علي ، قال أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبدالله بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن محمد الهيثم الطائي حدثني أبي عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام فرمى بنفسه إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحثا على رأسه من ترابه ، وقال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله عز وجل فما وعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر إنه قد غفر لك ).(103/169)
وهذا خبر منكر موضوع ، وأثر مصنوع لا يصلح الاعتماد عليه ، ولا يحسن المصير إليه ، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض ، والهيثم جد أحمد أظنه ابن عدي الطائي فإن يكن هو فهو متروك كذاب ، وإلا فهو مجهول ، وقد ولد الهيثم بن عدي بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ، ثم انتقل إلى بغداد فسكنها ، اهـ من )الصارم المنكي" .
قصة مالك مع أبي جعفر المنصور:
قال أبو جعفر لمالك :( أأستقبل وأدعو أم أستقبل القبر ؟قال له مالك : لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام ؟بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك . قال الله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}.
هذه القصة إسنادها مظلم منقطع وهو مشتمل على من يتهم بالكذب ، وعلى من يجهل حاله ، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي كذاب ولم يلق مالكا ,فهي ضعيفة جدا ومنقطعة
والمعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء.
قال مالك : ( لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ولكن يسلم ويمضي).
قال ابن عبد الهادي في " الصارم المنكي " ص(52) : (وليس في مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه في زيارة قبره) اهـ .
هذا ما تيسر لي نقله من الأحاديث والآثار التي ليست من ديننا , وبقيت أحاديث وآثار كهذه لم نذكرها خشية الإطالة ، ومن جمال التأليف ومكملاته تتويجه بذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة وما لا أصل لها المتعلقة بالبحث وبيان حالها .
ذكر بعض الكتب القبورية
أخي المسلم : لقد ألفت مئات الكتب التي تدافع عن الشرك والخرافة تارة ، وتدعو إليه تارة ، وسأذكر عددا يسيرا من تلك الكتب لعظم خطرها لعل من يريد الحق يحذر منها، ويحذر وينأى عنه ويدبر ويتركها من أجل سلامة دينه, وهي كالتالي :(103/170)
"تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء" لمؤلفه عبد الله بن إبراهيم الملقب بالمحجوب ، ولما عظم جرم هذا الرجل وجرأته على تأليف هذا الكتاب المعلن بالدعوة إلى الشرك الصراح لقبه القبوريون بـ (القطب الأعظم والغوث الأكرم) تزعم القبورية أنه يأخذ مباشرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
"مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام" لمؤلفه محمد بن موسى التلمساني الفاسي ثم المصري ، وقد تقدم أن ذكرنا أنه حج إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذهب إلى بيت الله الحرام ، وقد جعلته القبورية من الأئمة الكبار.
"نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف للأولياء بعد الانتقال" ومن عنوان الكتاب هذا ندرك مدى مزاحمة القبورية لربوبية الله ، وأما الألوهية فقد حولتها للضرائح.
"شفاء السقام في زيارة خير الأنام" للسبكي وهو من أسوأ كتبه التي مهد بها للشرك والخرافة, وقد بين حقيقته ابن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي" .
"شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" للنبهاني ، جمع فيه أقوال دعاة الشرك والخرافة من أولهم إلى آخرهم ، والمؤلف بالرغم أنه عصري إلا أنه مغرم بدسائس القبورية ، وحقيقة الكتاب: الدعوة إلى عبادة أقطاب الصوفية بكل ما تعني كلمة عبادة.
"كرامات الأولياء" للنبهاني أيضا، جمع فيه مؤلفه أقوال الحلوليين والاتحاديين ، والزنادقة، والسحرة، والمنجمين، والدجالين، والفلاسفة ، وجعل ذلك كله من كرامات الأولياء، فما أحد في عصرنا أحيا الشرك والخرافة في تأليفه كالنبهاني ، نسأل الله أن يعامله بما يستحق.
"إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور" لأحمد بن محمد الغماري القبوري العصري.
"اتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء" لعبد الله الغماري القبوري.
"إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي" .
"البصائر لمنكري التوسل بأهل المقابر"(103/171)
"ثبوت الحاضر والناظر" يريد المؤلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضر معنا وناظر إلينا ، وإلى أحوالنا.
"الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم" لابن حجر الهيتمي ، وهو غير ابن حجر العسقلاني فتنبه .
"حكايات الأولياء" لأشرف علي التهانوي.
"حياة الممات في بيان سماع الأموات" لأحمد رضا خان القبوري.
"الذخائر القدسية في زيارة خير البرية".
"روض الرياحين في حكايات الصالحين" للخرافي القبوري عبد الله بن أسعد اليماني اليافعي .
"ضياء الصدور لمنكر التوسل بأهل القبور" للقبوري الخرافي طاهر شاه.
"طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص" لأحمد بن أحمد اليماني الوثني ، فيه شطحات كفرية كثيرة وهو مملوء بذلك.
"غوث العباد ببيان الرشاد" لمصطفى الحمامي الأزهري الوثني.
"الفتوحات المكية في معرفة أسرار المالكية والملكية" لإمام الملحدين و المتزندقين ابن عربي محمد بن علي.
"قمر التمام في نفي الظل عن سيد الأنام" لأحمد رضا خان الوثني.
"مفاهيم يجب أن تصحح" لمحمد علوي مالكي المغربي القبوري في هذا العصر وقد نسف أباطيل هذا الكتاب فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في كتابه القيم " هذه مفاهيمنا ".
"المواهب اللدنية" للقسطلاني المصري فيه عقائد قبورية.
"المواهب السرمدية في مناقب السادة النقشبندية" لمحمد أمين الكردي .
"المشرع الروي في مناقب السادة آل باعلوي" كتاب مملوء بالشطحات الشركية والدعوات القبورية.
"شرح العينية " من أخبث كتب الشروح القبورية.
"الاستغاثة بأحباب الله عند الشدائد" .
الفصل الخامس :
شبهات والجواب عنها
إن دعاة القبورية جاءوا بشبهات عديدة ليفسدوا بها على عباد الله دينهم, وإلقاء الشبهات على الناس طريقة كل ملبس مفلس .
والرد عليهم بالحجج والبراهين الشرعية كفيل بإزهاقها قال رب العالمين: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق{ [الأنبياء].(103/172)
وقال تعال:ى }وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا{ [الإسراء] وقال تعالى: }ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار{ [إبراهيم] .
وقال تعالى : }ليهلك من هلك عن بينة ويحيى, من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم{ [الأنفال] .
وقد أتى علماء التوحيد على أصول هذه الشبه فاقتلعوها وعلى قواعدها فنسفوها .
والشبهات كثيرة ولكني سأكتفي بذكر بعضها, وسأجيب عنها بأجوبة مختصرة إن شاء الله تعالى فإليكها :
الشبهة الأولى : ادعاؤهم أن الشرك لا وجود له في أمة الإسلام :
مستدلين على ذلك بحديث جابر عند مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم )) وهذا الحديث ليس فيه دليل لهم بل غاية ما في الحديث: الإخبار عن حالة الشيطان الذي كان يعبد في الجزيرة أنه قد يئس من عبادته بسبب استقامة الناس على دينهم ، وهذا حاصل عند شياطين الجن والإنس أنهم ييأسون من المجتمع الذي يستقيم على دين الله ، قال تعالى :{اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [المائدة]، فقد يئس كفار الإنس من قبول المسلمين الشركيات والكفريات عندما استقاموا على دين الله ، وهذا مصداق قوله تعالى :{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة] .
ويأس الشيطان لا وجود له اليوم, والواقع أكبر شاهد بأن الشيطان يعبد بأنواع شتى وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - :" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)) متفق عليه عن أبي هريرة .
والمراد بالحديث والله أعلم أن أهل الجزيرة لا يجتمعون على الشرك بالله عز وجل, فظهر بهذا بطلان استدلال القبورية بهذا الحديث .(103/173)
وهناك أحاديث صرح فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن اللات والعزى ستعبدان في آخر الزمان ، وقد ذكرنا أدلة أكثر مما ذكرنا هنا في كلامنا على خوف رسولنا - صلى الله عليه وسلم - على أمته من الشرك ، وتلك الأدلة تدل على وجود الشرك في عصرنا ، وذكرنا أيضا أنواعا من الشرك في كلامنا على الشركيات المتحققة في عصرنا .
فاتضح من هذا أن بلاد المسلمين ملغمة بالشركيات بل مليئة بالشركيات, فإلى متى المكابرة والمعاندة عند الصوفية ؟
الشبهة الثانية : قولهم قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد النبوي وعليه قبة :
قلت: أما إدخال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه المسجد فهذا من فعل الوليد بن عبد الملك لما كان خليفة على المسلمين, فإدخال حجرة عائشة التي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه في المسجد كان منكرا عظيما لا شك في ذلك ، وكيف لا يكون كذلك وهو ينافي الحكمة من اتفاق الصحابة على دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة؟ ألا وهي (لكي لا يتخذ قبره مسجدا) ولم يكن في وقت إدخالها أحد من الصحابة حيا في المدينة ، وقد ذكر بعض العلماء أن العلماء من التابعين المتواجدين في المدينة استنكروا ذلك فأصر الوليد على تنفيذ ذلك ، فالقضية دولية لا دليلية ، فكيف يحتج القبوريون بفعل بعض الملوك وقد احتاط المخالفون عند إدخال القبر النبوي في المسجد بأن بنوا حيطانا مرتفعة مستديرة حول القبر لئلا يظهر في المسجد؟ ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ورفعوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر. ذكر هذا النووي في شرح صحيح مسلم 5/14.(103/174)
وأما بناء القبة على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالمشهور أن أول من بناها السلطان المنصور قلاوون الصالحي والد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ، ذكر هذا صاحب كتاب "عمدة الأخبار في مدينة المختار"ص(124) وزين الدين المراغي في كتابه "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة"ص(81) والسمهودي في كتابه "وفاء الوفاء..." 2/609 وقد كان بناء هذه القبة على قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من قبل السلطان قلاوون في عام 678هـ .
وعلى هذا فلا حجة أبدا للقبورية في وجود هذه القبة ، والحقيقة أن هذه هي طريقتهم يتركون الكتاب والسنة جانبا ويحتجون بأفعال البشر ،ولا حجة إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فانظر كيف يحتجون بالأمور الدولية كهذه؟ ، والعلماء ما يزالون يطالبون بإزالة القبة المذكورة ، وانظر إلى شيء من أقوالهم في كتاب شيخنا العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله "رياض الجنة"ص(273-275)
الشبهة الثالثة :وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه سبعين نبيا :
قال العلامة الألباني رحمه الله : إننا لا نشك في صلاته - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد ولكننا نقول : إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيا لا حجة فيه من وجهين :
الأول : أننا لانسلم بصحة الحديث المشار إليه لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح, ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين, ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه, فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به ...) وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما فقال (قبر) بدل (صلى ) لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث, فقد أخرج الطبراني في الكبير بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا((صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا)) وكذلك رواه الطبراني في الأوسط,...(103/175)
وقال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن, ولا شك في حسن الحديث عندي فقد وجدت له طريقا أخرى عن ابن عباس رواه الأزرقي في "أخبار مكة" ص( 35) عنه موقوفا عليه, وإسناده يصلح للاستشهادكما بينته في كتابي الكبير "حجة الوداع". وجملة القول : أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب بصحته فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو :
الثاني : أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف, وقد عقد الأزرقي في "تاريخ مكة"ص(406-410) عدة فصول في وصف مسجد الخيف فلم يذكر فيه قبورا بارزة, ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر, فإذا ليس في المسجد المذكور قبورا
ظاهرة, فلا محظور في الصلاة فيه البتة لأن القبورمندرسة ولا يعرفها أحد, بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبرا, لذلك لا يقع فيه تلك المفاسد التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة) اهـ. "تحذير الساجد"ص(101-108).
الشبهة الرابعة :ماذكر في بعض الكتب أن قبرإسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام.
فالجواب : من وجهين :
الأول :أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام, ولم يرد شيء من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب الستة ومسند أحمد ومعاجم الطبراني وغيرها من الدواوين المعروفة, وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفا بل موضوعا عند بعض المحققين, وغاية ماروي في ذلك آثار معضلات بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في "أخبار مكة" فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات.(103/176)
الوجه الثاني :أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة ..., وأن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة, وأن ما في باطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر, بل الشريعة تتنزه عن مثل هذا الحكم لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى }ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا{ اهـ من "تحذير الساجد"ص( 108-113) بتصرف .
الشبهة الخامسة : أن أبا حندل رضي الله عنه بنى مسجدا على قبر أبي بصير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الألباني رحمه الله في تحذير الساجد ص 114-120مجيبا عن هذه الشبهة : فشبهة لا تساوي حكايتها ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت نفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبيان بطلانها والكلام عليها من وجهين :
الأول : رد ثبوت البناء المزعوم من أصله لأنه ليس له أسناد تقوم الحجة به, ولم يروه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم, وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير من "الاستيعاب" 2/21-23 مرسلا إلى أن قال :
فهذه الزيادة أعني قوله : (وبنى على قبره مسجدا) معضلة بل هي عندي منكرة .
الوجه الثاني :أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد الأحاديث الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين :
أولا : أنه ليس في القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره .
ثانيا : أنه لو فرضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم ذلك في آخر حياته كما سبق, فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض, وهذا بين لا يخفى .
الشبهة السادسة: أن المنع من البناء على القبور كان لعلة وهي : (خشية الافتتان بالقبور) وقد زالت تلك العلة فزال المنع .(103/177)
هذه الشبهة ردها العلامة الألباني رحمه الله من عدة وجوه :
ننتقي من ذلك ما نراه مناسبا لبحثنا وقد صدر كلامه بقوله : (لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة إلا مؤلف "إحياء القبور" فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأئمة عليها .
الوجه الثاني : علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته بل في مرض موته, فمتى زالت العلة التي ذكرها ؟
إن قيل : زالت عقب وفاته - صلى الله عليه وسلم - فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه ؛ لأن القول بذلك يستلزم أن الإيمان لم يكن قد رسخ في نفوس الصحابة وإنما رسخ بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم, وهذا لا أتصور أحدا يقول به لوضوح بطلانه .
وإن قيل : زالت قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - قلنا : وكيف ذلك وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن ذلك في آخر نفس من حياته - صلى الله عليه وسلم - ؟.
الوجه الثالث : أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة .
الوجه الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم إنما دفنوه خشية أن يتخذ قبره مسجدا كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها في الحديث, فهذه الخشية إما أن يقال أنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم أو على من بعدهم, فإن قيل بالأول قلنا فالخشية على من بعدهم أولى . وإن قيل بالثاني وهو الصواب – عندنا- فهو دليل قاطع على أن الصحابة كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم لا في عصرهم ولا فيما بعدهم, فالزعم بخلاف رأيهم ضلال .
الوجه السادس : أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه مما يستلزم بقاء العلة السابقة وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال, فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها, وهذا بين لا يخفى والحمد لله) اهـ من "تحذير الساجد"ص(120-129).(103/178)
الشبهة السابعة :استدلال القبورية بأثر خارجة بن زيد وهو : رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان رضي الله عنه وإن أشدنا وثبة الذي يثب على قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه
ووجه الاستدلال عندهم أنه كان مرتفعا والجواب : لقد ضعف هذا الأثر العلامة عبد الرحمن المعلمي بتفرد محمد بن إسحاق حيث قال: (وهذه القصة قد انفرد بها ففيها نكارة, ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة لم أطلع على ترجمته .اهـ من رسالته ( البناء على القبور ) ص32 .
قلت يحيى بن عبد الله ذكره ابن حبان في ثقاته وقال: روى عنه ابن إسحاق وذكره البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل, وقالا: روى عنه ابن إسحاق ولم يذكراه بجرح ولا تعديل فهو مجهول, وقد ضعف المعلمي رحمه الله الأثر المذكور من جهة التاريخ ومن جهة أنها مخالفة لما علم من آداب أبناء الصحابة حيث قال : وأبناء الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبلغون التمييز إلا وهم عارفون آداب الدين ملتزمون لها مثل خارجة بن زيد .
قلت : فعلى هذا فلم يكن شباب الصحابة مفرطين إلى حد أنهم يؤذون الأموات من أفاضل الصحابة السابقين كصاحب القبر المذكور .
وأما قول الحافظ ابن حجر في الفتح 3/223. وفيه (جواز تعلية القبر ورفعه على وجه الأرض). فلا يفهم من التعلية المذكورة إلا بقدر المشروع منها .
الشبهة الثامنة: أن بعض السلف ضرب الفسطاط على القبور ومن ذلك :
1- لما مات الحسن بن علي رضي الله عنهما ضربت امرأته قبة على قبره سنة ثم رفعت :
استدل بهذه القصة القائلون ببناء القباب والمساجد على القبور, ولا دليل فيها للآتي :
أولا : القصة ضعيفة فقد أخرجها الحافظ موصولة في تغليق التعليق وفي سندها محمد بن حميد الرازي وهو متهم .
ثانيا : لوفرضنا صحتها فنصب الخيمة من شعر ليس بناء على القبر فالفارق كبير بين نصب خيمة لتبقى مدة ثم ترفع وبين البناء على القبور وإن كان ضرب الفسطاط على القبر مكروها .(103/179)
2- ومنه :ضرب فسطاط على قبر ابن عباس .
الجواب : القصة فيها ضعف لأن في سندها عمران الأسدي وقد ضعفه غير واحد كما في تهذيب الكمال .
ولو سلمنا بصحة القصة فليس فيها دليل لعباد القبور لثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن القصة ليس فيها بناء على القبر .
الأمر الثاني : أن الفسطاط رفع بعد ثلاثة أيام .
الأمر الثالث : أن فعل التابعي ليس بحجة .
3- ومنه ضرب فسطاط على قبر الحكم بن أبي العاص في خلافة عثمان .
الجواب : هذه القصة غير صحيحة لأن في سندها محمد بن عمر الواقدي وهو متروك كما في التقريب, وقد استدل القبوريون بهذه القصة على أن عثمان رضي الله عنه يرى جواز البناء على القبور .
وقد ثبت أن عبد الله بن شرحبيل قال : (رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له هذا قبر أم عمرو وأمر بتسويته) رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح 4/138.
ومنه :ضرب فسطاط على قبر زينب أم المؤمنين من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الجواب : أن القصة مدارها على محمد بن عمر الواقدي المعروف بالكذب, وهذه علة كافية على اسقاط الاحتجاج بهذه القصة, وللقصة طريق أخرى مرسلة في سندها أبو معشر السندي وهو ضعيف .وعلى افتراض صحة القصة ليس فيها دليل على جواز البناء على القبور لا تصريحا ولا تلميحا .
الشبهة التاسعة :استدلال القبوريين بقول الشعبي: رأيت قبور شهداء أحد جثاء مسنمة ..
الجواب : لا دليل في هذا لأن التسنيم المذكور هو المأذون به شرعا, قال الكسائي في "بدائع الصنائع" 1/320 : (ومقدار التسنيم أن يكون مرتفعا من الأرض قدر شبر أو أكثر قليلا).
وقال القرطبي : ذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ...والتسنيم في القبر ارتفاعه قدر شبر مأخوذ من سنام البعير . الجامع 10/380
الشبهة العاشرة: قول دعاة القبورية: إن للقبور أحكاما من النهي عن القعود عليها وغير ذلك وهذا يقتضي رفعها لتتميز عن الأرض فتعرف .(103/180)
الجواب: أن رفع القبر عن الأرض مقدار شبر ووضع علامة عليه ليتميز هذا مأذون فيه . فقد روى البخاري رقم (1390)0بسنده عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما, وعند أبي داود رقم(3220) عن القاسم بن محمد قال: (دخلت على عائشة فقلت: يا أماه اكشفي عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لائطة مبطوحة ببطحاء الحصباء الحمراء) والمراد بقوله لا مشرفة: أي ليس مرتفعا زيادة على المأذون فيه .
قال الشيخ علي القاري في "المرقاة" 2/372. في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه ((ولاقبرا مشرفا إلا سويته)) (هو الذي يبنى عليه حتى ارتفع بالرمل والحصباء ...بالحجارة ليعرف ولا يوطأ, ولا تعارض بين قول القاسم مبطوح وقول غيره مسنم قال ابن القيم في الزاد : (وقبره مسنم مبطوح ببطحاء الحصباء الحمراء لا مبني ولا مطين وهكذا قبر صاحبه).
ولكن صاحب الشبهة لا يريد بالارتفاع الارتفاع المرخص فيه وإنما يريد بذلك القباب والمشاهد وغير ذلك, وهذا هو عين ما حرم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سبق بيان ذلك بالأدلة الصحيحة, فليحذر من قبول مغالطات عباد القبور .
الشبهة الحاية عشر : قول عباد القبور : قد رخص بعض المتأخرين في البناء على قبور الفضلاء .
الجواب : هو ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله : (القول المعتمد كما جزم به النووي في شرح المهذب حرمة البناء على المقبرة المسبلة فإن بني فيها هدم ولا فرق في ذلك بين قبور الصالحين والعلماء وغيرهم).
وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لا يلتفت إليه, ولما أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي...وغيرها, وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكارا..."الفتاوى الكبرى" 2/17.(103/181)
وقال أيضا: (...وقد أفتى جماعة من عظماء الشافعية بهدم قبة الإمام الشافعي وإن صرف عليها ألوف الدنانير لكونها في المقبرة المسبلة, وهذا أعني البناء في المقابر المسبلة مما عم وطم ولم يتوقه كبير ولا صغير, فإنا لله وإنا إليه راجعون).اهـ المصدر السابق 2/25.
الشبهة الثانية عشر: استدلالهم بما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء))
الجواب : الحديث ضعيف فقد روي في الأم 1/315وفيه ذكر ثلاث حثيات بيده على الميت , وفي سنده إبراهيم بن محمد هو ابن يحيى الأسلمي وهو متروك, وقد رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي من طريق الدراوردي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه مرسلا, وله طريق أخرى عند البيهقي مرسلة, والمرسل من قسم الضعيف, وعلى فرض الاحتجاج بالمرسل فلا حجة البتة على رفع القبور لأن وضع كف أو كفين أو ثلاثة من الحصباء لا تؤثر ولا تجعله مرفوعا زيادة على المرخص فيه.
فبان بهذا عدم صحة الاستدلال بهذا الأثر سندا ومتنا.
الفهرس
الموضوع الصفحة
المقدمة...........................................................................................
الفصل الأول
خطر الإشراك بالله..............................................................................
خوف الأنبياء والرسل على أنفسهم وأتباعهم من الوقوع في عبادة الأصنام...........................
أساس الشرك في الأمم الغلو في قبور الصالحين .....................................................
أول من أسس عبادة القبور في أمة الإسلامأصناف دعاة القبورية......................................
أعداء الإسلام يحرصون على نشر الدعوة القبورية ...................................................(103/182)
خطط أعداء الإسلام في المحافظة على الأصنام والأوثان باسم الأثار ....................................
أصناف دعاة القبورية والخرافة في الأمة الإسلامية ....................................................
غلاة الشيعة يتلقون الدعوة القبورية ................................................................
مزاعم دعاة القبورية في الأولياء ..................................................................
تفريخ الأولياء عند القبورية.........................................................................
دعاة القبورية شوهوا بالإسلام......................................................................
وفود جماهير الناس إلى الضرائح تبلغ أرقاما خيالية....................................................
دعاة الشرك والوثنية يربطون الناس بضرائحهم.......................................................
نبذة عن حج القبورية إلى الضرائح .................................................................
ما يجري عند الضرائح من الفساد ..................................................................
ذكر بعض معتقدات القبورية في الضرائح ...........................................................
الضرائح والقباب والمشاهد إله من تقرب إليها .......................................................
تواجد شياطين الجن عند الضرائح التي تعبد من دون الله ..............................................
ذكر الأدلة القاطعة بتحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ومشاهد.........................................
معنى اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد...........................................................
هدي الصحابة في هدم الضرائح والقباب والمشاهد...................................................(103/183)
حرص السلف على إخفاء القبور التي يخشى أن تعبد إذا عرفت........................................
سد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك ................................................................
الأسلحة التي يقاوم بها المسلمون الشرك والخرافة .....................................................
ذكر بعض القادة الذين هدموا الضرائح .............................................................
الفصل الثاني : قواعد وفوائد تتعلق بعامة القبور .
القاعدة الأولى : لا يجتمع مسجد وقبر في الإسلام....................................................
القاعدة الثانية : أساس الشرك بناء قبة أو مسجد على قبر تعظيما له....................................
القاعدة الثالثة : من بنى قبة او مسجدا على قبر دون تعظيمه وقع في البدعة.............................
القاعدة الرابعة : الحكمة من إظهار القبور العبرة والدعاء لأهلها.......................................
القاعدة الخامسة : يجب هدم كل بناء على القبور إذا زاد على شبر.....................................
القاعدة السادسة : بناء المساجد أو القباب على القبر ليس على صلاح الباني ولا المبني عليه...............
القاعدة السابعة : اقتضت المصلحة الشرعية تغبيب القبور التي يخشى أن تعبد من دون الله................
القاعدة الثامنة : عبادت الأشجار والأحجار والنار والشمس والقمر وغير ذلك غنما حصلت بعد حصول شرك القبور ......................................................................................
القاعدة التاسعة : العبرة بالقبور الظاهرة.............................................................
قواعد وفوائد تتعلق بقبور الأنبياء
القاعدة الأولى : الأنبياء والرسل يدفنون حيث يموتون................................................(103/184)
القاعدة الثانية : الأنبياء والرسل كانت بعثتهم في الجزيرة العربية والوطن العربي.........................
القاعدة الثالثة : لايعرف مكان قبر نبي قط غلا قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -......................................
القاعدة الرابعة : لايمكن عودة الأنبياء إلا الدنيا بعد موتهم.............................................
القاعدة الخامسة : رؤية الأنبياء يقظه وهم في الحياة البرزخية خاصة بمن شاء الله من الأنبياء..............
القاعدة السادسة : حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لاصلة لها بحياة الأحياءعلى الرض..............
القاعدة السابعة : لا يوجد دليل يثبت أن نبيا واحدا دفن في مسجده...................................
القاعدة الثامنة : اختص الله الأنبياء والرسل ببقاء أجسادهم بعد مماتهم..................................
القاعدة التاسعة : حياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الشهداء.....................................
القاعدة العاشرة : اختص الله نبينا بمن يبلغه صلاة وسلام أمته عليه.....................................
القاعدة الحادية عشر : اختص الله الأنبياء بتخييرهم في الانتقال إليه وبالبقاء في الدنيا.....................
القاعدة الثانية عشر : جميع الأنبياء والرسل توفاهم الله في عصرهم الذي بعثهم فيه......................
ولم يبق أحد منهم على وجه الأرض................................................................
القاعدة الثالثة عشر : لا وجود لشيء من آثار الأنبياء المتعلقة بذواتهم .................................
القاعدة الرابعة عشر : لا يمكن أن يثبت قبر أي نبي إلا ببرهان من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -......................
القاعدة الخامسة عشر : لا اعتماد على أخبار أهل الكتاب عن قبور الأنبياء ............................(103/185)
القاعدة السادسة عشر : لم يجعل الله هداية الخلق متعلقة بقبور الأنبياء..................................
ذكر الأدلة على عدد الأنبياء والرسل ...............................................................
أحاديث وآثار في قبور الأنبياء لا يصح منها شيء ...................................................
ذكر قبور الأنبياء جملة وتفصيلا ....................................................................
المختلف في نبوتهم ................................................................................
حكم تصوير الأنبياء...............................................................................
زيارة قبور الأنبياء والمرسلين........................................................................
زيارة آثار الأنبياء ليس من منهج السلف............................................................
ذكر مجموعة من قبور الأنبياء عبدت من دون الله....................................................
ادعاء آبار سكن فيها الأنبياء............... .......................................................
ادعاء معرفة قبور بعض الصحابة والتابعين...........................................................
قبور لغير الصحابة نسبت إلى أماكن لا تثبت فيها....................................................
الفصل الثالث : انتشار الدعوة القبورية في اليمن
الدولة الصليحية أول دولة أسست القبورية في اليمن..................................................
الدولة الشيعية وما قامت به من نشر الدعوة القبورية في اليمن.........................................
الدولة الرسولية ومشاركتها في نشر القبورية في اليمن.................................................(103/186)
ادعاء وجود قبور للأنبياء والصحابة في اليمن لا تثبت منها شيء......................................
ذكر بعض ما يجري على ألسنة المستغيثين بالضرائح...................................................
نصيب اليمن من شطحات دعاة القبورية ...........................................................
قدرتهم على إحياء الموتى ..........................................................................
قدرتهم على سماع الموتى والتخاطب معهم وخروج الموتى من قبورهم إليهم............................
ادعاؤهم علم الغيب...............................................................................
ادعاؤهم القدرة على إنقاذ المستغيث بهم.............................................................
زعمهم أن الله يتكلم معهم ويعرجون إليه...........................................................
زعمهم أنهم يغفرون لمن أرادوا أو أنهم سبب لذلك ..................................................
زعمهم أن البراءة من النار تنزل عليهم من السماء .................................................
الأماكن التي تكثر عندها الشركيات في حضرموت...................................................
ذكر بعض الضرائح التي عبدت من دون الله في اليمن.................................................
الفصل الرابع
الوعيد الشديد على من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..................................................
جريمة الكذب على الصالحين.......................................................................
ذكر شيء من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي اعتمدت عليها القبورية..............................
ذكر بعض الآثار الضعيفة التي استدلت بها القبورية ..................................................(103/187)
ذكر بعض الكتب القبورية ........................................................................
الفصل الخامس: شبهات والجواب عنها
الشبهة الأولى : إدعاؤهم أن الشرك لاوجود له في امة الإسلام.........................................
الشبهة الثانية : قولهم قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد النبوي وعليه قبة........................................
الشبهة الثالثة : وهي ان النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه سبعين نبيا.........
الشبهة الرابعة : ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام...
الشبهة الخامسة : ان أبا جندل رضي الله عنه بنى مسجدا على قبر أبي بصير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -............
الشبهة السادسة : أن المنع من البنا على القبور كان لعلة وهي خشية الافتتان بالقبور وقد زالة تلك العلة فزال المنع.........................................................................................
الشبهة السابعة : استدلال القبورية بأثر خارجة بن زيد وهو "رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان رضي الله عنه وإن أشدنا وثبة الذي يثب على قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه ...............................
الشبهة الثامنة : ان بعض السلف ضرب الفسطاط على القبور.........................................
الشبهة التاسعة : استدلال القبوريين بقول الشعبي رأيت قبور شهداء أحد جثاء مسنعة
الشبهة العاشرة : قول دعاة القبورية إن للقبور أحكاما من النهي عن القعود عليها وغير ذلك وهذ يقتضي رفعها لتتميز عن الأرض فتعرف....................................................................
الشبهة الحادية عشر : قول عباد القبور قد رخص بعض المتأخرين في البناء على قبور الفضلاء ...........(103/188)
الشبهة الثانية عشر : استدلالهم بما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر إبنه إبراهيم ووضع عليه حصبا.....................................................
الفهرس..........................................................................................(103/189)
تقديس الأولياء
إعداد:
* مهدي بن إبراهيم مبجر.
*سعود بن سالم السفري.
* عبد اللطيف بن هاجس الغامدي.
تقديم سماحة الشيخ / عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد قرأت هذه الأسئلة حول الأولياء ودعائهم وأوصافهم وكراماتهم وما يجب نحوهم ووجدتها مناسبة وأجوبة صحيحة صواب فيما ظهر لي، فجزى الله بالخير من كتبها.
قاله / عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء المتقاعد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الله تعالى لم يخلق الخلق ليستكثر بهم من قلَّة، أو ليعتز بهم من ذلَّة، أو ليتقوى بهم من ضعف، فهو القوي العزيز، و الخلق كلهم فقراء ضعفاء لا غنى لهم عنه طرفة عين، وإنما خلقهم لعبادته. قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إنَّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين}(1)
وقد أمرهم الله بتوحيده وهو إفراده بالعبادة، ونهاهم عن الإشراك به، وألزمهم بطاعته والانقياد لأمره، وحذَّرهم أسباب سخطه ونقمته، وأنذرهم مغبَّة معصيته ومخالفة شرعه. قال تعالى:{وما أمروا إلاَّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..}(2)
والعبادة اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال(3) والأفعال الظاهرة(4) والباطنة(5).
__________
(1) الذاريات: 56
(2) البينة: 5
(3) كشهادة أن لا إله إلاَّ الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) كالصلاة والزكاة والحج.
(5) كالرجاء والمحبة والخشية والإنابة والتوكل.(104/1)
والعبادة مبنية على الإخلاص والمتابعة لشرعه، فلا يعبد إلاَّ الله تعالى، ولا يعبد - سبحانه - إلاَّ بما أمر وشرع، فلا محدثات ولا بدع، وإنما سيرٌ على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا تزال - بحمد الله - طائفة من أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على الحقِّ منصورة لا يضرُّها من خالفها أو خذلها إلى يوم الدين.
و أهل السنَّة والجماعة أصحاب منهج وسط بين طرفي نقيض من الغلاة المُفرِطين والجفاة المُفرِّطين.قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمَّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...}(1)
وهم الناجون - بفضل الله تعالى - لأنهم سلكوا المنهج القويم والصراط المستقيم بين سبل المغضوب عليهم الذين يعلمون ولا يعملون، والضالين الذين يعملون ولا يعلمون. قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(2)
رائدهم في ذلك كتاب الله تعالى وصحيح سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على وفق فهم سلف هذه الأمة المباركة، لا يحيدون عن هذا المعين الطيب قيد أنملة. قال تعالى:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(3).
ومن الأمور التي زلَّت فيها الأقدام، وكثرت فيها الطُرق، وتعددت فيها السُّبل، موضوع [تقديس الأولياء ].
ولبيان المنهج الصحيح في تقديس الأشخاص جاء هذا الكتاب بطريق السؤال والجواب، حرصنا فيه أن يكون سهل العبارة، واضح الإشارة، سلس الأسلوب، قوي الحجة، صاطع البرهان، ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، بل هو عوان بين ذلك.
عسى الله أن يشرح به الصدور، وينير به العقول، ويصلح به القلوب، حتى لا تتعلق القلوب بغير الله ولا ترجو أحداً سواه.
__________
(1) البقرة: 143
(2) الأنعام: 152
(3) النساء:(104/2)
وقد جاء وقت الشروع في الموضوع: فبسم الله نبدأ، وعلى الله نتوكل، وبالله نستعين:
س - ما معنى التقديس ؟
ج - التقديس - هنا - بمعنى التعظيم.
س - و من أولياء الله تعالى ؟
ج - أولياء الله تعالى هم المؤمنون به المتقون له، العاملون بطاعته، المجتنبون لمعصيته. قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون}(1).
س - وما أعظم درجات الولاية لله تعالى ؟
ج - أعظمها درجة النبوة والرسالة.
س - إذاً هل يجوز تقديس الأولياء ؟
ج - أما محبتهم، والذود عنهم، والأدب معهم، والدعاء لهم، وكفُّ الأذى عنهم، وذكر محامدهم في تقواهم وطاعتهم لربهم للإقتداء بهم، فمن علامة الإيمان ومن طاعة الرحمن.
أما المجاوزة في الحد عن ذلك بدعائهم، والاستغاثة بهم، والذبح لهم، واعتقاد قدرتهم على تصريف الكون فمن الغلو فيهم، ومن رفع منزلتهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله تعالى إيَّاها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام الأولياء وخاتم الأنبياء وخير الأصفياء لمن رآهم يغالون في محبَّته ويخرجونه عن عبوديته:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "(2)
س - وما المراد بالعبودية لله تعالى ؟
ج - المراد بالعبودية لله تعالى ؛ الإيمان به، والخضوع له تعظيماً وإجلالاً ومحبة، وتكون بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد إلاَّ بما شرع، سواء في كتابه أو على ألسنة رسله - عليهم الصلاة والسلام -.
س - فمتى تقبل هذه العبادة، ومتى تُردُّ على صاحبها ؟
ج - تقبل العبادة من صاحبها إذا توفَّر فيها شرطان، وهما:
__________
(1) يونس: 62
(2) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(104/3)
أولاً: إذا كانت العبادة خالصة لوجه الله تعالى خوفاً ورجاءً، فلا رياء ولا سمعة ولا التفات فيها لغير الله بخوف ولا رجاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه "(1)
ثانياً: إذا كان متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في زمن العبادة وصفتها وعددها وكيفيتها.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "(2)أي: مردود عليه، فلا يقبل منه.
س - فكيف تدرك الولاية لله تعالى ؟
ج - أخبر عن ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله:" قال الله عزَّ وجلَّ: من عادي لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه..."(3)
فتبين بهذا أنَّ تفاضلهم إنما كان بقيامهم بفرائض الله تعالى، وتقربهم إليه بالنوافل.
س - إذاً معنى هذا أنَّ الأولياء كسائر البشر، لا يعلمون الغيب ؟!
ج - نعم، هم كسائر البشر لا يعلمون الغيب، فالله تعالى يقول في كتابه: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيبَ إلاَّ الله وما يشعرون إيَّان يبعثون}(4)
فلا يعلم الغيب في السموات والأرض في الماضي أو الحاضر أو المستقبل إلاَّ الله تعالى.
ولو كانوا يعلمون الغيب لما وقع عليهم ما يكرهون، أو منع منهم يحبون.قال تعالى:{و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء}(5)
س - فهل للأولياء قدرة على جلب الرزق أو منعه ؟
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله (2985 ).
(2) رواه البخاري في كتاب الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور (2550).
(3) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع (6137).
(4) النمل: 65
(5) الأعراف: 188(104/4)
ج - الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، ولا رازق غيره، بيده خزائن السموات والأرض، يرزق من يشاء، بما يشاء، متى يشاء، كيفما يشاء. قال تعالى:{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ؟!}(1)
س - أو ليس للأولياء طاقة في إنزال الغيث أو منعه ؟
ج - ذلك مما اختصَّ الله به نفسه، فلا أحد غيره - سبحانه - يعلم بمكان وزمان ومقدار نزول الغيث قبل نزوله، ولا أحد سوى الله تعالى يقدر أن يجلبه أو يمنعه أو يبارك فيه أو يمحق بركته، ولا أحد غير الله تعالى يستطيع إنزال الغيث أو منعه.
قال تعالى:{وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد}(2)
س - فهل الأولياء يستطيعون أن يهبوا للناس أولاداً وذريَّة ؟
ج - لا يقدر على ذلك إلاَّ الله. قال تعالى: {ولله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً}(3)
فلا يعلم بذلك ولا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى.
س - وهل للأولياء قدرة في تقديم الآجال أو تأخيرها ؟
ج - فما لهم يموتون لو كانوا يقدرون ؟! لو كان ذلك لهم لدفعوا الموت عن أنفسهم أو أخروه عمَّن يحبُّون !
قال تعالى:{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}(4)
س - فهل الولي ينوب عن الله في تصريف الكون ؟
ج - كبرت كلمة ! فماذا بقي لله تعالى في كونه لو كانوا كذلك ؟!
قال تعالى:{ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}(5)
س - ما حكم من اعتقد ذلك ؟
__________
(1) فاطر: 3
(2) الشورى: 28
(3) الشورى: 49
(4) الأعراف: 34
(5) الأعراف: 54(104/5)
ج - اعتقاد ذلك فيهم شرك بالله تعالى. قال تعالى:{أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تبتوا شجرها أ إله مع الله. بل هم قوم يعدلون * أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أ إله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون}(1)
فالله تعالى خالق الكون، وهو المصرف له، والمدبر لما فيه،لا يشاركه أحد من خلقه في ذلك. قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}(2)
س - فما الحكم إذاً فيمن اعتقد أن أحداً غير الله تعالى يمنع عذاب القبر، ويكفِّر السيئات، ويخرج من النار، ويدخل الجنة ؟
ج - لا شكَّ أن من اعتقد أن أحداً غير الله تعالى يمنع من عذاب القبر أو النار يوم القيامة أو يدخل الجنة أو يكفر السيئات فقد وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة.
قال تعالى:{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}(3). وقال تعالى:{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(4)
س - على هذا يكون اعتقادهم أنَّ غير الله تعالى يغيث الملهوف ويجيب الدعاء و يكشف السوء شرك بالله تعالى ؟
ج - نعم هو شرك في العبادة وشرك في الربوبية.قال تعالى: {أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون}(5)
س - هل لأحد من الأولياء أن يترك العبادات كالصلاة والصوم بزعم أنه بلغ درجة اليقين ؟
__________
(1) النمل: 60
(2) يس: 82
(3) الشورى: 25
(4) المائدة:
(5) النمل: 62(104/6)
ج - قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(1)يعني ؛ حتى يأتيك الموت، وليس معناه بلوغ درجة اليقين لأن النبوة والرسالة أعلى الدرجات الإيمانية، فالواجب على المسلم أن يعبد ربَّه حتى يأتيه اليقين، وهو الموت كما فسَّره الله تعالى في كتابه بقوله:{ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين}(2)
والنبي صلى الله عليه وسلم - وهو أعبد الخلق لله تعالى - وصحابته الكرام من العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم - وهم خير الخلق بعد الأنبياء - لم يتركوا العبادة حتى قضى عليهم الموت، ومن اعتقد أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد خرج من الدين، وتولى غير سبيل المؤمنين، واحتوشته الشياطين.
س - هل يستطيع الشيخ أو الولي العروج إلى السموات أو اختراقها ؟
ج - العروج إلى السموات خاص بالملائكة الكرام، ومن شاء الله من أنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - كما حدث ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم في أُمَّته عندما عرج به إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج، وليس لأحدٍ من النَّاس أن يدعي ذلك، حتَّى لا يكون مكذباً لله تعالى الذي تحدَّاهم عليه.قال تعالى:{يا معشر الجنِّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاَّ بسلطان}(3) فمن ادعى أنه يدخل السموات من أبوابها أو أنه يخترقها فهو أفاكٌ مبين، مكذِّب لله ربِّ العالمين.
س - فهل يجوز لنا أن نحتفل بليلة الإسراء والمعراج هذه ؟
ج - وأيُّ ليلة هي ؟! هل عندكم من علم بهذا فتخرجوه لنا ؟! أم تقولون ما لا تعلمون ؟!
العلماء مختلفون في تحديد ليلة الإسراء والمعراج اختلافاً كبيراً، فلحكمةٍ بالغة من الله تعالى أُنسى النَّاس زمن هذه الليلة.
__________
(2) المدثر:
(3) الرحمن: 33(104/7)
و لو ثبت تحديدها في ليلة بعينها، فإنَّه لا يجوز الاحتفال بها - كما يفعل البعض في ليلة السَّابع والعشرين مِن رجب - لأنه بدعةٌ منكرة محدثة، فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أكثر من إحدى عشرة سنة ولم يشرعها لأصحابه - رضوان الله عليهم - ولهذا لم يفعلوه من بعده، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمور محدثاتها.
س - أليس الاحتفال بها دليل على محبَّة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ج - محبَّته - صلى الله عليه وسلم - واجبة، وهي تقتضي طاعته، واجتناب مخالفته، وأن لا يعبد الله تعالى إلاَّ بطريقته وسنَّته.
قال تعالى:{قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}(1) وكلُّ الأبواب الموصلة إلى الله تعالى قد أغلقت إلاَّ بابه.قال صلى الله عليه وسلم:" كلكم يدخل الجنة إلاَّ من أبى " قالوا: ومن يأبى يا رسول الله ؟
قال " من أطاعني دخل الجنَّة ومن عصاني فقد أبى "(2)
س - هل صحيحٌ أن الله تعالى خلق الكون لأجل النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ج - الحقيقة أنَّه لا يجوز اعتقاد ذلك، لأنَّ الله تعالى قال:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً}(3)فقد جعل الله الخلق للناس أجمعين ليتمكنوا من عبادته، وللبلاء والتمحيص، ولبيان عظمته في خلقه. قال تعالى:{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}(4)
س - فهل يجوز لنا الاحتفال بالمولد النبوي ؟
ج - المولد النبوي كان في عام الفيل في يوم الاثنين، واختلف المؤرخون في اليوم والشهر، ولم يثبت في مولده شيء.فنبؤني بعلمٍ إن كنتم صادقين !
س - فما حكم الاحتفال بيوم الثاني عشر من ربيع الأول ؟
__________
(1) آل عمران: 31
(2) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم (2655).
(3) البقرة: 29
(4) الملك:2(104/8)
ج - هذه بدعة ما عرفها الصدر الأول، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده، ولم يأمر أمته به، وأولئك أصحابه رضوان الله عليهم وهم أكثر النَّاس حباً له، ومتابعة لمنهجه، وحرصاً على القيام بحقه، لم يقوموا بعمل الموالد، فدلَّ هذا على أنه بدعة محدثة لا يشرع الاحتفال بها. فعليك بما كانوا عليه، فقد كانوا على الصراط المستقيم والمنهج القويم، ولا تلتفت إلى غيرهم فتضل ! ولا تُقلِّد مخالفهم فتزل !
س - وما الحكم الشرعي في الاحتفال بليلة النصف من شعبان ؟
ج - لا يشرع الاحتفال بها، لعدم وجود الدليل عليها، ولم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو رغَّب فيه أو حثَّ عليه، ولم يرد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خير القرون أنَّهم احتفلوا بها.
س - فهل ورد في فضلها دليل ؟
ج - ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فيها:" إنَّ الله يطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل مسلم غير المشاحن والمشرك "(1) والحديث - إن صحَّ - دليل على فضلها، وليس دليل على مشروعية تخصيصها بعبادة فيها، فقف حيثُ وقف محمد صلى الله عليه وسلم، وافعل كما فعل، فلن تأتي بأفضل مما جاء به، فقد كُفيت، والحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع، وماذا بعد الحقِّ إلاَّ الضلال.
س - هل للأولياء كرامات ؟
ج - للأولياء كرامات جعلها الله سبحانه لبعضهم تقويةً لإيمانه أو تثبيتاً له أو لبيان الحقِّ الذي هو عليه، وسببها الإيمان الصادق والعمل الصالح، فلا تنال بمعصية الله تعالى والإحداث في دينه ما ليس منه، ومن زعمها فليعرض عمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كان موافقاً لهما ولما جاء فيهما، فليحمد الله تعالى وليثبت على طاعته، ومن كان على خلاف ذلك من بدع وضلالات، فتلك أحوالٌ شيطانية من تلبيس إبليس على النَّاس.
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في ليلة النصف (1390).(104/9)
س - أذكر لي أمثلة على الأحوال الشيطانية لبعض من يدعي الولاية وهو على سبيل الغواية.
ج - مثل الطيران في الهواء، وإدعاء السفر إلى مكة بخطوة والرجوع منها بخطوة أخرى، وبلع الجمر والسيوف، والمشي على النَّار، وغير ذلك.
س - هل المؤمن مبارك ؟ وهل يستشفى به لبركته ؟
ج - المؤمن مبارك - في الجملة - لكن البركة من الأمور الغيبية التي لا يدرك كنهها إلاَّ الله تعالى، ولم يأذن الله لنا في التبرك بأحد من المؤمنين، ولم يفعل ذلك أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه:
{وإذا مرضت فهو يشفين}(1)فإنه لا يشفي إلاَّ الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم رب الناس مذهب البأس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً "(2)
س - فما حكم من يذهب للسحرة والكهنة و المشعوذين ليعالج مريضه أو يظهر مفقوده أو يرد غائبه ؟
ج - لقد جاء النصُّ الشرعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفر من يعمل ذلك، حيث قال:" من أتى عرافاً أو كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد "(3) لأن ذلك من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله عزَّ وجلَّ.
س - ولكن بعضهم ربما يخبرك بما هو غائب عنك في بعض المرات ويصدق في ذلك !
ج - ذلك ناتج من استخدامهم لبعض الجان و الشياطين، فإنَّهم يرون ما لا نرى.
س - وربما يشفى المريض أو يعرف المفقود أو يرد الغائب ! فما سبب ذلك إذاً ؟!
ج - ذلك من استدراج الله تعالى للعبد، فإنَّ الله تعالى إذا رأى من عبده غفلة عنه وتعلقاً بغيره وفزعاً إلى سواه لا يبالي - سبحانه - بذلك العبد في أيِّ واد هلك، فيعطيه ما يريد، و يملي له ويستدرجه حتَّى يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
__________
(1) الشعراء: 80
(2) رواه البخاري في كتاب الطب باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم (5410).
(3) رواه أحمد في المسند، وصححه الألباني في صحيح الجامع 5939(104/10)
قال تعالى:{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين}(1)
س - فهل يجوز شراء حياة الأبناء الذين يُخاف عليهم من الموت من الأولياء والمشايخ وممن يدَّعون علم الغيب والقدرة على حفظهم وبقاء حياتهم ؟
ج - قل لي - بربك - من بيده الضرُّ والنفع غير الله تعالى ؟! لا أحد سواه !
قال تعالى: {قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنَّ كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته. قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}(2)
هذا شرك في الربوبية يخرج العبد من الملة، ولو كان هؤلاء السحرة والمشعوذون قادرين على ذلك، لكانوا قادرين - من باب أولى - على إحياء الموتى، ولحفظوا أنفسهم من الموت، و معلوم أن هذا مما لا يقدرون عليه.
س - فما الحل فيمن خاف على أولاده أو ماله من التلف والأذى بالعين أو الجان أو الموت ؟
ج - تكون نجاتهم من الضرر والأذى بالتوكل على الله. قال تعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}(3) وعليه بتقوى الله تعالى. قال تعالى:{وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً}(4) وعليه بتلاوة القرآن الكريم كالمعوذتين وآية الكرسي وذكر الأذكار الشرعية الثابتة عن خير البرية صلى الله عليه وسلم. ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها الذي كتب الله لها.قال تعالى:{لكل أمةٍ أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون}(5)
س - ما الحكم فيمن وضع هيكلاً من القماش أو دفن شيئاً نحوه في المزارع لدفع العين والحسد أو تعلّق خرزة أو حلقة أو غير ذلك ؟
__________
(1) القلم: 44
(2) الزمر:38
(3) الطلاق: 3
(4) النساء:
(5) يونس:49(104/11)
ج - إذا اعتقد أن هذا الفعل أو غيره من الأسباب التي تنفع أو تضر بذاتها، أو أنها تجلب البركة بذاتها، فهذا شركٌ أكبر مخرج من الملة - عياذاً بالله -، وهو شرك في الربوبية من حيث أن جعل هذه الأسباب شريكاً مع الله تعالى في الخلق والتدبير، وهي شرك في الألوهية من ناحية تعلق قلبه بهذه الأسباب طمعاً ورجاءً أو خوفاً وخشية.
أما إذا اعتقد أن هذه الأمور مجرد أسباب، وأن الله هو الذي يملك الضر والنفع، وإعطاء البركة أو منعها، فهذا من الوسائل المفضية إلى الشرك. وهي وسائل يحرم فعلها لأنه لم يثبت في شرع الله تعالى أنها أسباب لتحصيل تلك المنافع أو دفع تلك المضار.
وقد نهى الشرع عن فعل مثل هذه الأسباب..
فعن عبد الله بن عكيم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَن تعلَّق شيئاً وُكِلَ إليه "(1)
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَن تعلَّق تميمة فقد أشرك "(2)
وهي - أيضاً - ليست من الأسباب القدرية التي قد عُلِمَ أو جُرِّب نفعها، مثل: الأدوية المباحة ونحوها من الأسباب المعهودة التي يحصل بها المقصود.
س - فما الحكم في نصب شاخصٍ في المزارع لتراه الطير والقرود وغيرها، فتهرب منه، ولا تؤذي المزارع ؟
ج - لا بأس به إذا سلم من الاعتقاد فيه، على ألاَّ يكون كهيئة الصلبان.
س - هل نداء الشيخ والولي والاستغاثة به عند الضرورة جائز ؟
ج - الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى شركٌ أكبر مخرج من الملَة. قال تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلاَّ هو..}(3)
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الطب 2072 باب ماجاء في كراهية التعليق.وأحمد (4/310) والحاكم (4/216).
(2) رواه أحمد (4/156) والحاكم (4/219) وصححه الألباني في الصحيحة (492).
(3) يونس:106(104/12)
س - فما حكم دعاء الأولياء الأموات والاستغاثة بهم ؟
ج - قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}(1) فدعاء الأموات واللجوء إليهم والاستغاثة بهم وطلب كل ما لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى منهم كفر وشرك بالله تعالى، لأنَّ الدعاء محض عبادة يجب صرفها لله تعالى. قال تعالى:{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير}(2) ومن فعل ذلك فهو داخل تحت عموم قوله تعالى:{إنَّه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}(3) ويتوب الله على من تاب.
والموتى عاجزون عن دفع الضرِّ عن أنفسهم أو جلب الخير لها، وهم عن فعل ذلك لغيرهم أعجز ! يتمنون من يدعو لهم بخير، لا أن يدعوهم من دون الله تعالى.
قال تعالى:{أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون}(4)
هذا من اتخاذهم آلهة من دون الله تعالى. قال تعالى:{واتخذوا من دونه آلهةً لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً}(5)
س - حتَّى لو كان المستغاث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
__________
(1) الأحقاف: 6
(2) فاطر: 13
(3) المائدة: 72
(4) الأعراف:191
(5) الفرقان:3(104/13)
ج - الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خير خلق الله وأكرمهم على الله، لكنَّه عبدٌ لله تعالى ورسول، لا يجوز رفعه فوق هذه المنزلة التي ارتضاها الله له، وكرمه الله تعالى بها، إلاَّ أنه بعد موته لا يملك من أمر نفسه أو غيره شيئاً. قال الله تعالى عنه:{قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاَّ ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاَّ نذير وبشير لقوم يؤمنون}(1)
وغيره من الأولياء مثله من باب أولى.
س - وهل يجوز الذبح والنذر لهم رجاء نفعهم أو لدفع ضرِّهم ؟
ج - الذبح والنذر عبادة يجب صرفها لله تعالى. قال تعالى:{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(2)
وصرف هذه العبادة لغير الله تعالى شركٌ أكبر مخرج من الملة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لعن الله من ذبح لغير الله.."(3)
س - وما حكم طلب الشفاعة من الولي ؟
لا يجوز طلب الشفاعة من الولي، لأنه لا يملكها إلاَّ الله تعالى. قال تعالى:{قل لله الشفاعة جميعاً "(4) ولا يشفع أحد عنده إلاَّ بإذنه، قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه}(5)وطلبها من غير الله تعالى شركٌ أكبر ينافي التوحيد. والنبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سئل عن أسعد النَّاس بشفاعته قال: " من قال: لا إله إلاَّ الله خالصاً من قلبه "(6).
س - فما حكم من يعتقد أن عرش الله تعالى في قلب المؤمن ؟
ج - العرش فوق الجنَّة، وتحته الفردوس، والجنَّة في السماء. قال تعالى: {عند سدرة المنتهى * عندها جنَّة المأوى}(7)
س - فأين الله تعالى ؟
__________
(1) الأعراف: 188
(2) الأنعام:162
(3) صحيح مسلم
(4) الزمر: 44
(5) البقرة: 250
(6) رواه البخاري في كتاب العلم باب الحرص على الحديث (99 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) النجم: 14(104/14)
ج - الله تعالى في السماء، على العرش استوى - كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه - فوق السموات السبع.قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى}(1)
س - فما حكم من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟
ج - قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يكفر.
س - أليس الله تعالى معنا ؟
ج - الله تعالى معنا بعلمه واطلاعه، فلا يغيب عنه من أمرنا شيء. قال تعالى:{ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}(2).
وهو مع عباده المؤمنين بنصرته وتأييده وبمعونته وتوفيقه. قال تعالى: {..إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(3)وقال تعالى:{والله معكم ولن يتركم أعمالكم..}(4).
و ليس الله تعالى معنا بذاته، بل هو مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه. لا يشابهه شيء من مخلوقاته. قال تعالى:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(5) .
كلُّ شيءٍ يسبح بحمده، ويسجد له، ويشهد له بالوحدانية في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
س - هل يجوز للمرأة أن تسجد لزوجها ؟
ج - لا يجوز لها ذلك، فإن السجود لغير الله تعالى شركٌ أكبرٌ يخرج من الملَّة، وينافي أصل الإيمان.
س - إنَّه سجود احترام وتقدير، وليس سجود عبادة وتعظيم.
ج - هو حرامٌ كذلك، فإنَّ الاحترام يقتضي الطاعة في المعروف والإحسان في المعاملة، والقيام بكل ما أمر الله ورسوله به من حقوق الزوج في غير إفراط ولا تفريط.
س - وماذا تقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها " ؟!(6)
__________
(1) طه: 4
(2) المجادلة: 7
(3) النحل: 128
(4) محمد: 35
(5) الشورى: 11
(6) رواه الترمذي في كتاب الرضاع باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159).(104/15)
ج - أقول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" " لو كنت آمراً أحداً "
فهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ؟! حاشا وكلاً.
وكيف يأمر به وهو القائل لثوبان مولاه رضي الله عنه:" إنَّك لن تسجد لله سجدة إلاَّ رفعك الله بها درجة وحطَّ عنك بها خطيئة " ؟!(1)
س - إذا ما المعنى الصحيح للحديث الشريف ؟
ج - معناه - وليس له معنى سواه - أن السجود لو كان جائزاً لغير الله تعالى لكان زوج المرأة أحقّ به من غيره لِمَا له من حقٍّ عليها، ولكن السجود لا يكون إلاَّ لله تعالى، فهو عبادة لا تصرف لغيره سبحانه.
قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلَّكم تفلحون}(2)
وأخيراً: فمحبَّة الأولياء العاملين بطاعة الله تعالى المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم من لوازم محبَّة الله تعالى، على أن لا يُصرف لهم شيء مما هو لله تعالى، فالشرك بالله تعالى هو مساواة غير الله مع الله فيما هو من خصائص الله تعالى، فلا يلجأ إليهم، ولا يتوكل عليهم، ولا يتبرَّك بهم، ولا ينذر ويذبح لهم، ولا يحلف بأسمائهم، ولا يطيعهم إلاَّ فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا طاعة لهم ولا كرامة إذا أمروا بما يخالف دين الله تعالى، فالطاعة المطلقة إنما هي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرَّ أنفسنا، وأن يوفقنا في سائر أمورنا، وأن يهدينا سبل السلام.
وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بفضل الله تعالى.
__________
(1) صحيح مسلم
(2) سورة الحج: 77(104/16)
تلبيس إبليس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي سلم ميزان العدل إلى أكف ذوي الألباب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب وأنزل عليهم الكتب مبينة للخطأ والصواب وجعل الشرائع كاملة لا نقص فيها ولا عاب أحمده حمد من يعلم أنه مسبب الأسباب وأشهد بوحدانيته شهادة مخلص في نيته غير مرتاب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وقد سدل الكفر على وجه الإيمان والحجاب فنسخ الظلام بنور الهدى وكشف النقاب وبين للناس ما أنزل إليهم وأوضح مشكلات الكتاب وتركهم على المحجة البيضاء لا سرب فيها ولا سراب فصلى الله عليه وعلى جميع الآل وكل الأصحاب وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحشر والحساب وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فإن أعظم النعم على الإنسان العقل لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس ولما ثبت عند العقل أقوال الأنبياء الصادقة بدلائل المعجزات الخارقة سلم إليهم واعتمد فيما يخفى عنه عليهم
ولما أنعم الله على هذا العالم الإنسي بالعقل أفتتحه الله بنبوة أبيهم آدم عليه السلام فكان يعلمهم عن وحي الله عز وجل فكانوا على الصواب إلى أن انفرد قابيل بهواه فقتل أخاه ثم تشعبت الأهواء بالناس فشردتهم في بيداء الضلال حتى عبدوا الأصنام واختلفوا في العقائد والأفعال اختلافا خالفوا فيه الرسل والعقول إتباعا لأهوائهم وميلا إلى عاداتهم وتقليدا لكبرائهم فصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين حكمة بعثة الرسل(105/1)
وأعلم أن الأنبياء جاءوا بالبيان الكافي وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي وتوافقوا على منهاج لم يختلف فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وبالسبيل الواضح جردا مضلا وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية في مذاهب سخيفة وبدع قبيحة فأصبحوا يعبدون الأصنام في البيت الحرام ويحرمون السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ويرون وأد البنات ويمنعونهن الميراث إلى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس فابتعث الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فرفع المقابح وشرع المصالح فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره سالمين من العدو وغروره فلما انسلخ نهار وجودهم أقبلت أغباش الظلمات فعادت الأهواء تنشئ بدعا وتضيق سبيلا ما زال متسعا ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعا ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح
فرأيت أن أحذر من مكايده وأدل على مصايده فإن في تعريف الشر تحذيرا عن الوقوع فيه ففي الصحيحين من حديث حذيفة قال كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وقد أخبرنا أبو البركات سعد الله بن علي البزاز قال أخبرنا أحمد بن علي الطريثيثي قال أخبرنا هبة الله بن حسن الطبري قال أخبرنا محمد بن أحمد بن سهل قال ثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبيد بن يعيش قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا محمد بن إسحق عن الحسن أو الحسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني فقيل وكيف فقال والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه كما أخرجها حقيقة الأديان(105/2)
وقد وضعت هذا الكتاب محذرا من فتنة ومخوفا من محنة وكاشفا عن مستوره وفاضحا له في خفي غروره والله المعين بجوده كل صادق في مقصوده
وقد قسمته ثلاثة عشر بابا ينكشف بمجموعها تلبيسه ويتبين للفطن بفهمها تدليسه فمن انتهض عزمه للعمل بها ضج منه إبليسه والله موفقي فيما قصدت وملهمي للصواب فيما أردت
ذكر تراجم الأبواب
الباب الأول في الأمر بلزوم السنة والجماعة
الباب الثاني في ذم البدع والمبتدعين
الباب الثالث في التحذير من فتن إبليس ومكايده
الباب الرابع في معنى التلبيس والغرور
الباب الخامس في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات
الباب السادس في ذكر تلبيسه على العلماء في فنون العلم
الباب السابع في ذكر تلبيسه على الولاة والسلاطين
الباب الثامن في ذكر تلبيسه على العباد في فنون العبادات
الباب التاسع في ذكر تلبيسه على الزهاد
الباب العاشر في ذكر تلبيسه على الصوفية
الباب الحادي عشر في ذكر تلبيسه على المتدينين بما يشبه الكرامات
الباب الثاني عشر في ذكر تلبيسه على العوام
الباب الثالث عشر في ذكر تلبيسه على الكل بتطويل الأمل
الباب الأول الأمر بلزوم السنة والجماعة أخبرنا هبة الله بن محمد
نا الحسن بن علي التيمي نا أحمد بن جعفر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبي عن ابن إسحاق نا ابن المبارك ثنا محمد بن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خطب بالجابية فقال قامفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد أخبرنا أحمد وحدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال من أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد(105/3)
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ ويحيى بن علي المديني نا أبو محمد الصريفيني نا أبو بكر محمد بن الحسن بن عبدان ثنا أبو محمد بن صاعد ثنا سعيد بن يحيى الأموي ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
حدثنا عبد الأول بن عيسى نا أبو القصار بن يحيى ثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز أنبأنا أبو عبيد نا النضر بن إسماعيل عن محمد بن سوقة عن عبد الله بن دينار عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد أخبرنا عبد الأول نا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الفارسي نا عبد الرحمن بن أبي شريح ثنا ابن صاعد ثنا إبراهيم بن سعد الجوهري ثنا أبو معاوية عن يزيد بن مرادنبه عن زياد بن علاقة عن عرفجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يد الله على الجماعة والشيطان مع من يخالف الجماعة(105/4)
أخبرنا محمد بن عمر الأرموي والحسين بن علي المقري نا عبد الصمد بن المأمون نا علي بن عمر الدارقطني ثنا أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول حدثني أبي ثنا محمد بن يعلى ثنا سليمان العامري عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبي أنبأنا أسود بن عامر ثنا أبو بكر عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما قال ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " وبالإسناد قال أحمد وثنا روح ثنا سعيد عن قتادة قال ثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد
حدثنا أحمد ثنا أبو اليمان ثنا ابن عياش عن أبي البحتري بن عبيد بن سليمان عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة فعليكم بالجماعة فإن الله عز وجل لم يجمع أمتي إلا على الهدى(105/5)
أخبرنا عبد الملك بن القاسم الكروخي قال أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو بكر العروجي قالا أخبرنا الحراجي قال أخبرنا المحبوبي ثنا الترمذي ثنا محمود بن غيلان ثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه
وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبيه
أخبرنا أبو البركات بن علي البزاز نا أحمد بن علي الطريثيثي نا هبة الله بن الحسين الحافظ نا محمد بن الحسين الفارسي نا يوسف بن يعقوب بن إسحاق ثنا العلاء بن سالم ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش بن مالك بن الحارث عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا أحمد بن الحداد نا أبو نعيم الحافظ ثنا محمد بن أحمد بن الحسين ثنا بشر بن موسى ثنا محمد بن سعيد ثنا ابن المبارك عن الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار(105/6)
وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في إخلاف أخبرنا سعد الله بن علي نا الطريثيتي نا هبة الله بن الحسين نا عبد الواحد بن عبد العزيز نا محمد بن أحمد الشرقي ثنا عثمان بن أيوب نا إسحاق بن إبراهيم المرزوي قال ثنا أبو إسحاق الأقرع قال سمعت الحسن بن أبي جعفر يذكر عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم الأصبهاني ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا الحميدي قال أنبأنا سفيان بن عيينة قال سمعت عاصما الأحول يحدث عن أبي العالية قال عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا قال عاصم فحدثت به الحسن فقال قد نصحك والله وصدقك
أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا أحمد بن أحمد قال نا أحمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا محمد بن أحمد بن الحسن أنبأنا بشر بن موسى نا معاوية بن عمرو نا أبو إسحاق الفزاري قال قال الأوزاعي اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فانه يسعك ما وسعهم
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن أحمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا محمد بن عبد الله بن أسلم أنبأنا محمد بن منصور الهروي ثنا عبد الله بن عروة قال سمعت يوسف بن موسى القطان يحدث عن الأوزاعي قال رأيت رب العزة في المنام فقال لي يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقلت بفضلك يا رب وقلت يا رب أمتني على الإسلام فقال وعلى السنة(105/7)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا أحمد بن أحمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا إبراهيم بن أبي عبد الله ثنا محمد بن إسحاق سمعت أبا همام السكوني يقول حدثني أبي قال سمعت سفيان يقول لا يقبل قول إلا بعمل ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة أخبرنا محمد نا أحمد أبو نعيم أنبأنا محمد بن علي ثنا عمرو بن عبدوية ثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الرحمن بن عفان قال ثنا يوسف بن أسباط قال قال سفيان يا يوسف إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام وإذا بلغك عن آخر بالمغرب أنه صاحب سنة فابعث إليه بالسلام فقد قل أهل السنة والجماعة
أخبرنا سعد الله بن علي نا أحمد بن علي الطريثيثي نا هبة الله بن الحسين الطبري نا محمد بن عبد الرحمن نا البغوي نا محمد بن زياد البلدي ثنا أبو أسامة عن حماد بن زيد قال أيوب إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي وبه قال الطبري وأخبرنا الحسين بن أحمد ثنا عبد الله اليزدجري ثنا عبد الله بن وهب ثنا إسماعيل بن أبي خالد قال ثنا أيوب بن سويد عن عبد الله بن شوذب عن أيوب قال قال إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة
قال الطبري وأخبرنا أحمد بن محمد بن حنون ثنا جعفر بن محمد بن نضير ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ثنا محمد بن هارون أبو نشيط ثنا أبو عمير بن النحاس ثنا ضمرة عن أبن شوذب قال إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها قال الطبري وأخبرنا عيسى بن علي ثنا البغوي ثنا محمد بن هارون ثنا سعيد بن شبيب قال(105/8)
سمعت يوسف بن أسباط يقول كان أبي قدريا وأخوالي روافض فأنقذني الله بسفيان قال الطبري وأخبرنا أحمد بن محمد بن حفص نا عبد الله بن عدي ثنى أحمد بن العباس الهاشمي ثنا محمد بن عبد الأعلى قال سمعت معتمر بن سليمان يقول دخلت على أبي وأنا منكسر فقال لي مالك قلت مات صديق لي فقال مات على السنة قلت نعم قال تحزن عليه قال الطبري وأخبرنا أحمد بن عبد الله نا محمد بن الحسين ثنا أحمد بن زهير ثنا يعقوب بن كعب ثنا عبدة ثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري قال استوصوا بأهل السنة خيرا فانهم غرباء
أخبرنا أبو منصور بن حيرون نا إسماعيل بن أبي الفضل الإسماعيلي نا حمزة بن يوسف السهمي نا عبد الله بن علي الحافظ نا أبو عوانة ثنا جعفر بن عبد الواحد قال قال لنا ابن أبي بكر بن عياش السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان
سمعت أبا عبد الله الحسين بن علي المقري يقول سمعت أبا محمد عبد الله بن عطاء يقول سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الإسكندراني يقول سمعت أبا منصور محمد الأزدي يقول سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن فراشة يقول سمعت أحمد بن منصور يقول سمعت الحسن بن محمد الطبري يقول سمعت محمد بن المغيرة يقول سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول سمعت الشافعي يقول إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(105/9)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد أبو نعيم أخبرني جعفر الخلدي في كتابه قال سمعت الجنيد يقول الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه أخبرنا عمر بن ظفر نا جعفر بن محمد نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا علي بن عبد الله بن جهضم نا محمد بن حابان قال سمعت حامد بن إبراهيم يقول قال الجنيد بن محمد الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته كما قال الله عز وجل " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "
الباب الثاني في ذم البدع والمبتدعين
أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الشيباني قال أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب نا أبو بكر أحمد بن حمدان نا أبو عبد الله بن حنبل قال أخبرني أبي ثنا يزيد عن إبراهيم بن سعد أخبرني أبي وأخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الماوردي وأبو سعد البغدادي قالا نا المطهر بن عبد الواحد نا أبو جعفر أحمد بن محمد المرزبان نا محمد بن إبراهيم الحروزي ثنا لوين ثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد
أخبرنا موهوب بن أحمد نا علي بن أحمد البسري ثنا محمد بن عبد الرحمن المخلص ثنا عبد الله بن محمد البغوي ثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي وإسحاق بن إبراهيم المروزي قالا ثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد قال البغوي وحدثنا عبد الأعلى بن حماد ثنا عبد العزيز عن عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد أخرجاه في الصحيحين(105/10)
أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد ثنى أبي ثنا هشيم عن حصين بن عبد الرحمن ومغيرة الضبي عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رغب عن سنتي فليس مني انفرد بإخراجه البخاري أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر نا عبد الله ابن أحمد حدثني أبي ثنا الوليد بن مسلم ثنا ثور بن يزيد ثنا خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم فقال عرباض صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعيش بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد ثنى أبي ثنا عبد الله بن الوليد ثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك أخرجاه في الصحيحين(105/11)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن محمد نا أبو نعيم ثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن سليمان ثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن محرز قال يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا عمر بن عبد الله البقال نا أبو الحسين بن بشران ثنا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا حنبل قال حدثني أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ثنا معمر قال كان طاوس جالسا وعنده ابنه فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال يا بني أدخل أصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئا فإن هذا القلب ضعيف ثم قال أي بني أسدد فما زال يقول أسدد حتى قام الآخر قال حنبل وحدثنا محمد بن داود ثنا عيسى بن علي الضبي قال كان رجل معنا يختلف إلى إبراهيم فبلغ إبراهيم أنه قد دخل في الإرجاء فقال له إبراهيم إذا قمت من عندنا فلا تعد قال حنبل وحدثنا محمد بن داود الحدائي قال قلت لسفيان بن عيينة إن هذا يتكلم في القدر يعني إبراهيم بن أبي يحيى فقال سفيان عرفوا الناس أمره وسلوا الله لي العافية
قال حنبل وحدثنا سعدوية ثنا صالح المري قال دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد ففتح بابا من أبواب القدر فتكلم فيه فقال ابن سيرين إما أن تقوم وإما أن نقوم أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي قالا نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أبو بكر بن راشد ثنا إبراهيم بن سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع قال قال رجل من أهل الأهواء لأيوب أكلمك بكلمة قال لا ولا نصف كلمة
قال ابن راشد وحدثنا أبو سعيد الأشج ثنا يحيى بن يمان عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن أيوب السختياني قال ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله عز وجل بعدا(105/12)
أخبرنا أبو البركات بن علي البزاز نا الطريثيثي نا هبة الله بن الحصين نا عيسى بن علي نا البغوي نا أبو سعيد الأشج نا يحيى بن اليمان قال سمعت سفيان الثوري قال البدعة أحب إلى إبليس من المعصية المعصية يثاب منها والبدعة لا يثاب منها أخبرنا ابن أبي القاسم نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا سليمان بن أحمد ثنا الحسين بن علي ثنا محمود بن غيلان ثنا مؤمل بن إسماعيل قال مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا فصف الناس وجاء الثوري فقال الناس جاء الثوري فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه فجاوز الجنازة ولم يصل عليه لأنه كان يرمي بالإرجاء
أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري نا عبد الله بن أحمد السمرقندي نا أحمد بن أحمد بن روح النهرواني ثنا طلحة بن أحمد الصوفي ثنا محمد بن أحمد بن أبي مهزول قال سمعت أحمد بن عبد الله يقول سمعت شعيب بن حرب يقول سمعت سفيان الثوري يقول من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة أخبرنا محمد بن ناصر نا أحمد بن أحمد نا أحمد بن عبد الله الأصفهاني ثنا إسماعيل بن أحمد نا عبد الله بن محمد ثنا سعيد الكريري قال مرض سليمان التيمي فبكى في مرضه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك أتجزع من الموت قال لا ولكني مررت على قدري فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني ربي عليه أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ويحيى بن علي قالا أخبرنا أبو محمد الصريفيني نا أبو بكر بن عبدان نا محمد بن الحسين البائع ثنى أبي ثنا محمد بن بكر قال سمعت فضل بن عياض يقول من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه(105/13)
أخبرنا ابن عبد الباقي نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم ثنا سليمان بن أحمد ثنا محمد بن النضر ثنا عبد الصمد بن يزيد قال سمعت فضيل بن عياض يقول من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه أخبرنا محمد بن عبد الباقي نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا محمد بن علي ثنا عبد الصمد قال سمعت الفضيل يقول إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر ولا يرفع الصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل ومن أعان صاحب
بدعة فقد أعان على هدم الإسلام وسمعت رجلا يقول للفضيل من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها فقال له الفضيل من زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له سيأته
قال المصنف وقد روي بعض هذا الكلام مرفوعا وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام وقال محمد بن النضر الحارثي من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه وقال إبراهيم سمعت أبا جعفر محمد بن عبد الله القابني يقول سمعت علي بن عيسى يقول سمعت محمد بن إسحاق يقول سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال صاحبنا يعني الليث بن سعد لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته فقال الشافعي إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته وعن بشر بن الحارث أنه قال جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرا الحمد لله الذي أماته هكذا قولوا
قال المصنف حدثت عن أبي بكر الخلال عن المروزي عن محمد بن سهل البخاري قال كنا عند القرباني فجعل يذكر أهل البدع فقال له رجل لو حدثتنا كان أعجب إلينا فغضب وقال كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة ذم البدع والمبتدعين(105/14)
فإن قال قائل قد مدحت السنة وذممت البدعة فما السنة وما البدعة فانا نرى أن كل مبتدع في زعمنا يزعم أنه من أهل السنة فالجواب أن السنة في اللغة الطريق ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم
وآثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
والبدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان فان ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وهو الاتباع وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له اجمع القرآن كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخبرنا محمد بن علي بن أبي عمر قال أخبرنا علي بن الحسين نا ابن شاذان نا أبو سهل نا أحمد البرني ثنا أبو حذيفة ثنا سفيان عن ابن عجلان عن عبد الله بن أبي سلمة أن سعد بن مالك سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج فقال ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخبرنا محمد بن أبي القاسم بإسناد يرفعه إلى أبي البحتري قال أخبر رجل عبد الله بن مسعود أن قوما يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول كبروا الله كذا وكذا وسبحوا الله كذا وكذا واحمدوا الله كذا وكذا قال عبد الله فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم فأتاهم فجلس فلما سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعود فجاء وكان رجلا حديدا فقال أنا عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعة ظلما ولقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما فقال عمرو بن عتبة أستغفر الله فقال عليكم بالطريق فالزموه ولئن أخذتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا(105/15)
أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر عن أبي محمد الجوهري عن أبي عمر بن أبي حياة ثنا أحمد بن معروف ثنا الحسين بن فهم ثنا محمد بن سعد ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا ابن عوف قال كنا عند إبراهيم النخعي فجاء رجل فقال يا أبا عمران أدع الله أن يشفيني فرأيت أنه كرهه كراهية شديدة حتى عرفنا كراهية ذلك في وجهه وذكر إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدثه الناس فكرهه وقال فيه أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي نا أحمد نا أبو نعيم سمعت محمد بن إبراهيم يقول سمعت محمد بن ريان يقول سمعت ذا النون وجاءه أصحاب الحديث فسألوه عن الخطرات والوساوس فقال أنا لا أتكلم في شيء من هذا فان هذا محدث سلوني عن شيء في الصلاة أو الحديث ورأى ذو النون علي خفا أحمر فقال انزع هذا يا بني فانه شهرة ما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لبس أسودين ساذجين لزوم طريق أهل السنة(105/16)
قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها فلم يروا بفعلها بأسا كما روى أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنهما فلما خرج فرآهم قال نعمت البدعة هذه لأن صلاة الجماعة مشروعة وإنما قال الحسن في القصص نعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مستجابة لأن الوعظ مشروع ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة وإن كانت مضادة فهي أعظم فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له ولهذا استتروا ببدعتهم ولم يكتم أهل السنة مذهبهم فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي التميمي نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد قال ثنى أبي ثنا يعلى بن عبيد ثنا إسماعيل عن قيس عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون في الصحيحين
أخبرنا هبة الله الحسن بن علي نا ابن ملك ثنا عبد الله بن أحمد ثنى أبي قال ثنا يوسف ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك انفرد به مسلم وقد روى هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم معاوية وجابر بن عبد الله وقرة أخبرنا الكروخي النورجي والأزدي قالا نا الحراجي ثنا المحبوبي ثنا الترمذي قال قال محمد بن إسماعيل قال علي بن المديني هم أصحاب الحديث
انقسام أهل البدع في بيان انقسام أهل البدع(105/17)
أخبرنا عبد الملك الكروخي نا أبو عامر الأزدي وأبو بكر النورجي قالا نا الحراجي ثنا المحبوبي ثنا الترمذي ثنا الحسين بن حريث ثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو ثنتين وسبعين والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة قال الترمذي هذا حديث صحيح
قال المصنف وقد ذكرنا هذا الحديث في الباب الذي قبله وفيه كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي أخبرنا أبن الحسين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر نا عبد الله بن أحمد قال ثنى أبي ثنا حسن ثنا ابن لهيعة خالد بن زيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة يهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة قالوا يا رسول الله ما تلك الفرقة قال الجماعة
قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله فإن قيل وهل هذه الفرق معروفة فالجواب إنا نعرف الافتراق وأصول الفرق وإن كل طائفة من الفرق قد انقسمت إلى فرق وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها وقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية وقد قال بعض أهل العلم أصل الفرق الضالة هذه الفرق الستة وقد انقسمت كل فرقة منها على اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة(105/18)
وانقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة فأولهم الأزرقية قالوا لا نعلم أحدا مؤمنا وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم والأباضية قالوا من أخذ بقولنا فهو مؤمن ومن أعرض عنه فهو منافق والثعلبية قالوا إن الله لم يقض ولم يقدر والحازمية قالوا ما ندري ما الإيمان والخلق كلهم معذورن والخلفية زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى فقد كفر والمكرمية قالوا ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل والكنزية قالوا لا ينبغي لأحد أن يعطي ماله أحدا لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق والشمراخية قالوا لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين والأخنسية قالوا لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر والمحكمية قالوا إن من حاكم إلى مخلوق فهو كافر والمعتزلة من الحرورية قالوا اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين والميمونية قالوا لا إمام إلا برضا أهل محبتنا
وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة الأحمرية وهي التي زعمت أن شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم ويحول بينهم وبين معاصيهم والثنوية وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من إبليس والمعتزلة هم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا الرؤية والكيسانية هم الذين قالوا لا ندري هذه الأفعال من الله أم من العباد ولا نعلم أيثاب الناس بعد الموت أو يعاقبون والشيطانية قالوا إن الله لم يخلق شيطانا والشريكية قالوا إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر والوهمية قالوا ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات ولا للحسنة والسيئة ذات والراوندية قالوا كل كتاب أنزل من الله فالعمل به حق ناسخا كان أو منسوخا والبترية زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته والناكثية زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه والقاسطية فضلوا طلب الدنيا على الزهد فيها والنظامية تبعوا إبراهيم النظام في قوله من زعم أن الله شيء فهو كافر(105/19)
وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة المعطلة زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق ومن ادعى أن الله يرى فهو كافر والمريسية قالوا أكثر صفات الله مخلوقة والملتزمة جعلوا الباري سبحانه وتعالى في كل مكان والواردية قالوا لا يدخل النار من عرف ربه ومن دخلها لم يخرج منها أبدا الزنادقة قالوا ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربا لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس وما يدرك فليس بإله وما لا يدرك لا يثبت والحرقية زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار والمخلوقية زعموا أن القرآن مخلوق والفانية زعموا أن الجنة والنار تفنيان ومنهم من قالإنهما لم تخلقا والمغيرية جحدوا الرسل فقالوا إنما هم حكام والواقفية قالوا لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق والقبرية ينكرون عذاب القبر والشفاعة واللفظية قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق # وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة التاركية قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به فمن آمن به وعرفه فليفعل ما شاء والسائبية قالوا إن الله تعالى سيب خلقه ليعملوا ما شاءوا والراجية قالوا لا نسمي الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا لأنا لا ندري ما له عند الله والشاكية قالوا إن الطاعات ليست من الإيمان والبيهسية قالوا الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر والمنقوصية قالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص والمستثنية نفوا الإستثناء في الإيمان والمشبهة يقولون لله بصر كبصري ويد كيدي والحشوية جعلوا حكم الأحاديث كلها واحدا فعندهم إن تارك النفل كتارك الفرض والظاهرية وهم الذين نفوا القياس والبدعية أول من ابتدع الأحداث في هذه الأمة # وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة العلوية قالوا إن الرسالة كانت إلى علي وإن جبريل أخطأ والأمرية قالوا إن عليا شريك محمد صلى الله عليه وسلم في أمره والشيعة قالوا إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله(105/20)
عليه وسلم ووليه من بعده وإن
الأمة كفرت بمبايعة غيره والإسحاقية قالوا إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي والناووسية قالوا إن عليا أفضل الأمه فمن فضل غيره عليه فقد كفر والإمامية قالوا لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين وإن الإمام يعلمه جبرائيل فإذا مات بدل مكانه مثله واليزيدية قالوا إن ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيره برهم وفاجرهم # والعباسية زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره والمتناسخة قالوا إن الأرواح تتناسخ فمتى كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق تسعد بعيشه ومن كان مسيئا دخلت روحه في خلق تشقي بعيشه والرجعية زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا وينتقمون من أعدائهم واللاعنية الذين يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم والمتربصة تشبهوا بزي النساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون الأمر إليه يزعمون أنه مهدى هذه الأمة فإذا مات نصبوا رجلا آخر # وانقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة فمنهم المضطربة قالوا لا فعل للآدمي بل الله عز وجل يفعل الكل والأفعالية قالوا لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل والمفروغية قالوا كل الأشياء قد خلقت والآن لا يخلق شيء والنجارية زعمت أن الله يعذب الناس على فعله لا على فعلهم والمتانية قالوا عليك بما خطر بقلبك فافعل ما توسمت به الخير والكسبية قالوا لا يكسب العبد ثوابا ولا عقابا والسابقية قالوا من شاء فليعمل ومن شاء لا يعمل فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره والحبية قالوا من شرب كأس محبة الله عز وجل سقطت عنه الأركان والقيام بها والخوفية قالوا إن من أحب الله سبحانه وتعالى لم يسعه أن يخافه لأن الحبيب لا يخاف حبيبه والفكرية قالوا إن من ازداد علما سقط عنه بقدر ذلك من العبادة والخسية قالوا الدنيا بين(105/21)
العباد سواء لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم والمعية قالوا منا الفعل ولنا الاستطاعة
$ الباب الثالث في التحذير من فتن إبليس ومكايده قال الشيخ أبو $ الفرج اعلم أن الآدمي لما خلق ركب فيه الهوى والشهوة ليجتلب بذلك ما ينفعه ووضع فيه الغضب ليدفع به ما يؤذيه وأعطى العقل كالمؤدب يأمره بالعدل فيما يجتلب ويجتنب وخلق الشيطان محرضا له على الإسراف في اجتلابه واجتنابه فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عدواته من زمن آدم عليه الصلاة والسلام وقد بذل عمره ونفسه في فساد أحوال بني آدم وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال سبحانه وتعالى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال تعالى " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " وقال تعالى " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " وقال " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " وقال تعالى " إنه عدو مضل مبين " وقال " إن "(105/22)
" الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " وقال تعالى " ولا يغرنكم بالله الغرور " وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوا مبين وفي القرآن من هذا كثير التحذير من فتن إبليس ومكايده # قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله وينبغي أن تعلم أن إبليس شغله التلبيس أول ما التبس عليه الأمر فأعرض عن النص الصريح على السجود فأخذ يفاضل بين الأصول فقال " خلقتني من نار وخلقته من طين " ثم أردف ذلك بالإعتراض على الملك الحكيم فقال أرأيتك هذا الذي كرمت علي والمعنى أخبرني لما كرمته علي غرر ذلك الإعتراض أن الذي فعلته ليس بحكمة ثم أتبع ذلك بالكبر فقال " أنا خير منه " ثم امتنع عن السجود فأهان نفسه التي أراد تعظيمها باللعنة والعقاب # فمتى سول للإنسان أمرا فينبغي أن يحذر منه أشد الحذر وليقل له حين(105/23)
أمره إياه بالسوء إنما تريد بما تأمر به نصحي ببلوغي شهوتي وكيف يتضح صواب النصح للغير لمن لا ينصح نفسه كيف أثق بنصيحة عدو فانصرف فما في لقولك منفذ فلا يبقى إلا أنه يستعين بالنفس لأنه يحث على هواها فليستحضر العقل إلى بيت الفكر في عواقب الذنب لعل مدد توفيق يبعث جند عزيمته فيهزم عسكر الهوى والنفس # أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا عاصم بن الحسن نا أبو عمر بن مهدي ثنا الحسين بن إسماعيل ثنا زكريا بن يحيى ثنا شامة بن سوار ثنى المغيرة عن مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله تعالى أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا إن كل مال نحلته عبدي فهو له حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب # أخبرنا ابن الحصين قال أخبرنا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله ابن أحمد ثنى أبي ثنا يحيى بن سعيد ثنا هشام ثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته إن ربي إلى آخر الحديث المتقدم # أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثنى أبي ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه(105/24)
وبين امرأته قال فيدنيه منه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت وبه قال أحمد وحدثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه يرفعه قال إن إبليس قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم قال المصنف انفرد به البخاري والذي قبله مسلم وفي لفظ حديثه قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب # أنبأنا إسماعيل السمرقندي نا عاصم بن الحسن نا ابن بشران نا ابن صفوان نا أبو بكر القرشي ثني الحسين بن السكن ثنا المعلى بن أسد ثنى عدي بن أبي عمارة ثنا زياد النميري عن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه قال إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي الله التقم قلبه # أخبرنا محمد بن أبي منصور نا عبد القادر نا الحسن بن علي التميمي نا أبو بكر بن ملك ثنا عبد الله بن أحمد ثنا أبي ثنا عبد الرحمن عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الشيطان طاف بأهل مجلس الذكر ليفتنهم فلم يستطع أن يفرق بينهم فأتى حلقة يذكرون الدنيا فأغرى بينهم حتى اقتتلوا فقام أهل الذكر فحجزوا بينهم فتفرقوا قال عبد الله وحدثني علي بن مسلم ثنا سيار ثنا حبان الحريري ثنا سويد القناوي عن قتادة رضي الله عنه قال إن لإبليس شيطانا له قبقب يجمه أربعين سنة فإذا دخل الغلام في هذا الطريق قال له دونك إنما كنت أجمك لمثل هذا أجلب عليه وأفتنه # قال سيار وحدثنا جعفر ثنا ثابت البناني رضي الله عنه قال بلغنا أن(105/25)
إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال يحيى يا إبليس ما هذه المعاليق التي أرى عليك قال هذه الشهوات التي أصيد بها ابن آدم قال فهل لي فيها من شيء قال ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وثقلناك عن الذكر قال فهل غير ذلك قال لا والله قال لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا قال إبليس ولله علي أن لا أنصح مسلما أبدا قال عبد الله بن أحمد ثنا أبي ثنا وكيع ثنا الأعمش عن حثيمة عن الحارث بن قيس رضى الله عنه قال إذا أتاك الشيطان وأنت تصلي فقال إنك ترائي فزدها طولا # أنبأ إسماعيل السمرقندي نا عاصم بن الحسن نا علي بن محمد نا أبو علي بن صفوان نا أبو بكر بن عبيد نا عبد الرحمن بن يونس نا سفيان بن عيينة قال سمع عمرو بن دينار عروة بن عامر سمع عبيد بن رفاعة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم يقول كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتى بها الراهب فأبى أن يقبلها فما زالوا به حتى قبلها فكانت عنده فأتاه الشيطان فسول له إيقاع الفعل بها فأحبلها ثم أتاه فقال له الآن تفتضح يأتيك أهلها فأقتلها فإن أتوك فقل ماتت فقتلها ودفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس لهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها فأتاه أهلها يسألونه عنها فقال ماتت فأخذوه فأتاه الشيطان فقال أنا الذي ضربتها وخنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها وأنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج أسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال عز وجل " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني برىء منك إني أخاف الله رب العالمين "(105/26)
# وقد روى هذا الحديث على صفة أخرى عن وهب بن منبه رضي الله عنه أن عابدا كان في بني إسرائيل وكان من أعبد أهل زمانه وكان في زمانه ثلاثة أخوة لهم أخت وكانت بكرا ليس لهم أخت غيرها فخرج البعث على ثلاثتهم فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ولا من يأمنون عليها ولا عند من يضعونها قال فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل وكان ثقة في أنفسهم فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم فأبى ذلك وتعوذ بالله عز وجل منهم ومن أختهم قال فلم يزالوا به حتى أطاعهم فقال أنزلوها في بيت حذاء صومعتي قال فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة ثم يغلف بابه ويصعد إلى صومعته ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام قال فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك قال فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها ولم يكلمها قال فلبث على هذه الحالة زمانا ثم جاء إبليس فرغبه في الخير والآجر وحضه عليه وقال لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك قال فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام ثم وضعه في بيتها فلبث على ذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه فقال لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك فإنها قد استوحشت وحشة شديدة قال فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع إليها من فوق صومعته قال ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد هي على باب بيتها فتحدثك كان آنس لها فلم يزل به(105/27)
حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها قال فلبثا زمانا يتحدثان # ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها وقال لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريبا من باب بيتها فحدثتها كان آنس لها فلم يزل به حتى فعل قال فلبثا زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له عند الله سبحانه وتعالى من حسن الثواب فيما يصنع بها وقال له لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ففعل فكان ينزل من صومعته فيقف على باب بيتها فيحدثها فلبثا على ذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال لو دخلت البيت معها فحدثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها نهارها كله فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته قال ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها فلم يزل به إبليس يحسنها في عينيه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها فولدت له غلاما فجاء إبليس فقال أرأيت إن جاء أخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك فاعمد إلى إبنها فاذبحه وادفنه فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ففعل فقال له أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها قال خذها واذبحها وادفنها مع ابنها فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع إبنها وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوى عليهما وصعد إلى صومعته يتعبد فيها فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث حتى أقبل إخوتها من الغزو فجاءوا فسألوه عنها فنعا لهم وترحم عليها وبكاها وقال كانت خير إمرأة وهذا قبرها فانظروا إليه فأتى إخوتها القبر فبكوا أختهم وترحموا عليها فأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر فبدأ أكبرهم فسأله عن أختهم فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها وكيف أراهم(105/28)
موضع قبرها
فكذبه الشيطان وقال لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم وألقاها في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فانطلقوا فأدخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما كما أخبرتكم هناك جميعا وأتى الأوسط في منامه فقال له مثل ذلك ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك فلما استيقظ القوم أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم فأقبل بعضهم على بعض يقول كل واحد منهم لقد رأيت الليلة عجبا فأخبر بعضهم بعضا بما رأى فقال كبيرهم هذا حلم ليس بشيء فأمضوا بنا ودعوا هذا عنكم قال أصغرهم والله لا أمضي حتى آتي إلى هذا المكان فأنظر فيه قال فانطلقوا جميعا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم فسألوا عنها العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما فاستعدوا عليه ملكهم فأنزل من صومعته وقدم ليصلب فلما أوثقوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصورك خلصتك مما أنت فيه قال فكفر العابد فلما كفر بالله تعالى خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه قال ففيه نزلت هذه الآية كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إلى قوله جزاء الظالمين وقد تقدم ذكرها # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا احمد بن أحمد نا أبو نعيم نا أبو بكر الآجري ثنا عبد الله بن محمد العطيني ثنا إبراهيم بن الجنيد ثنى محمد بن الحسين ثنا بشر بن محمد بن أبان ثنى الحسن بن عبد الله بن مسلم القرشي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال كان راهب في صومعته في زمن المسيح عليه السلام فأراده إبليس فلم يقدر عليه فأتاه بكل رائدة فلم يقدر عليه فأتاه متشبها بالمسيح فناداه أيها الراهب اشرف(105/29)
علي أكلمك قال انطلق لشأنك
فلست أرد ما مضى من عمري فقال أشرف علي فأنا المسيح فقال إن كنت المسيح فما لي إليك حاجة ألست قد أمرتنا بالعبادة ووعدتنا القيامة انطلق لشأنك فلا حاجة لي فيك فانطلق اللعين عنه وتركه # أنبأنا إسماعيل بن أحمد نا عاصم بن الحسن نا علي بن محمد بن بشران نا أبو علي البردعي ثنا أبو بكر القرشي ثنا أبو عبد الله محمد بن موسى الحرشي ثنا جعفر بن سليمان ثنا عمرو بن دينار ثنا سالم بن عبد الله رضي الله عنه عن أبيه قال لما ركب نوح عليه السلام في السفينة رأى فيها شيخا لم يعرفه فقال له نوح ما أدخلك قال دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك فقال له نوح عليه السلام اخرج يا عدو الله فقال إبليس خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنتين فأوحى الله تبارك وتعالى إلى نوح عليه الصلاة والسلام أنه لا حاجة لك إلى الثلاث مرهيحدثك بالاثنتين فقال بهما أهلك الناس وهما لا يكذبان الحسد والحرص فبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما وبالحرص أبيح لآدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه فأخرج من الجنة قال ولقى إبليس موسى عليه السلام فقال يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك تكليما وأنا من خلق الله تعالى أذنبت وأريد أن أتوب فأشفع لي إلى ربي عز وجل أن يتوب علي فدعا موسى ربه فقيل يا موسى قد قضيت حاجتك فلقي موسى إبليس فقال له قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك فاستكبر وغضب وقال لم أسجد له حيا أأسجد له ميتا ثم قال إبليس يا موسى أن لك حقا بما شفعت إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلك فيهن أذكرني حين تغضب فأنا وحي في قلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره ولده وزوجته وأهله حتى يولي وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فاني رسولها إليك ورسولك إليها(105/30)
# قال القرشي وحدثنا أبو حفص الصفار ثنا جعفر بن سليمان ثنا شعبة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال ما بعث الله نبيا إلا لم يأمن من إبليس أن يهلكه بالنساء قال القرشي وثنى القاسم بن هاشم عن إبراهيم بن الأشعت عن فضيل بن عياض قال حدثني بعض أشياخنا أن إبليس لعنه الله جاء إلى موسى عليه الصلاة والسلام وهو يناجي ربه تعالى فقال له الملك ويلك ما ترجو منه وهو على هذه الحالة يناجي ربه قال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة قال القرشي وثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني ثنا فرج بن فضالة عن عبد الرحمن بن زياد رضي الله عنه قال بينهما موسى عليه السلام جالس في بعض مجالسه إذ أقبل عليه إبليس وعليه برنس له يتلون فيه ألوانا فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه ثم أتاه وقال له السلام عليك يا موسى فقال له موسى عليه السلام من أنت قال أنا إبليس قال فلا حياك الله ما جاء بك قال جئت لأسلم عليك لمنزلتك عند الله تعالى ومكانك منه قال فما الذي رأيته عليك قال به أختطف قلوب بني آدم قال فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه وأحذرك ثلاثا # لا تخلون بامرأة لا تحل لك قط فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها # ولا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به فإنه ما عاهد الله أحد إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء به # ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين إخراجها ثم ولى وهو يقول يا ويله ثلاثا علم موسى ما يحذر به بني آدم # قال القرشي وحدثني محمد بن إدريس ثنا أحمد بن يونس ثنا حسن بن(105/31)
صالح قال سمعت أن الشيطان قال للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطيء وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي # قال القرشي وحدثنا إسحق بن إبراهيم ثني هشام بن يوسف بن عقيل بن معقل بن أخي وهب بن منبه قال سمعت وهبا يقول قال راهب للشيطان وقد بدا له أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم قال الحدة إن العبد إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة # قال القرشي وحدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن سليمان بن المغيرة عن ثابت رضي الله عنه قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعل إبليس لعنه الله يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيجيئون إليه بصحفهم ليس فيها شيء فيقول لهم مالكم لا تصيبون منهم شيئا فقالوا ما صحبنا قوما مثل هؤلاء فقال رويدا بهم فعسى أن تفتح لهم الدنيا هنالك تصيبون حاجتكم منهم # قال القرشي وأخبرنا أحمد بن جميل المروزي نا ابن المبارك نا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى قال إذا اصبح إبليس بث جنوده في الأرض فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق امرأته قال يوشك أن يتزوج ويقول آخر لم أزل بفلان حتى عق قال يوشك أن يبر ويقول آخر لم أزل بفلان حتى زنى قال أنت ويقول آخر لم أزل بفلان حتى شرب الخمر قال أنت قال ويقول آخر لم أزل بفلان حتى قتل فيقول أنت أنت # قال القرشي وسمعت سعيد بن سليمان يحدث عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال كانت شجرة تعبد من دون الله فجاء إليها رجل فقال لأقطعن هذه الشجرة فجاء ليقطعها غضبا لله فلقيه إبليس في صورة إنسان فقال ما تريد قال أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله قال إذا أنت لم تعبدها فما يضرك من عبدها قال لأقطعنها فقال له الشيطان هل لك فيما هو خير لك لا تقطعها ولك ديناران كل يوم إذا أصبحت عند وسادتك(105/32)
قال فمن أين لي ذلك قال أنا لك فرجع فأصبح فوجد دينارين عند وسادته ثم أصبح بعد ذلك فلم يجد شيئا فقام غضبا ليقطعها فتمثل له الشيطان في صورته وقال ما تريد قالأريد قطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله تعالى قال كذبت مالك إلى ذلك من سبيل فذهب ليقطعها فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله قال أتدري من أنا أنا الشيطان جئت أول مرة غضبا فلم يكن لي عليك سبيل فخدعتك بالدينارين فتركتها فلما جئت غضبا للدينارين سلطت عليك # قال القرشي وحدثنا بشر بن الوليد الكندي ثنا محمد بن طلحة عن زيد ابن مجاهد قال لإبليس خمسة من ولده قد جعل كل واحد منهم على شيء من من أمره ثم سماهم فذكر ثبر والأعور ومسوط وداسم وزكنبور فأما ثبر فهو صاحب المصيبات الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية وأما الأعور فهو صاحب الزنا الذي يأمر به ويزينه وأما مسوط فهو صاحب الكذب الذي يسمع فيلقى الرجل فيخبره بالخبر فيذهب الرجل إلى القوم فيقول لهم قد رأيت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما أسمه حدثنى بكذا وكذا وأما داسم فهو الذي يدخل مع الرجل إلى أهله يريه العيب فيهم ويغضبه عليهم وأما زكنبور فهو صاحب السوق الذي يركز رايته في السوق # أخبرنا محمد بن القاسم نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم ثنا إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق ثنا إسماعيل بن أبي الحارث ثنا سنيد عن مخلد بن الحسين قال ما ندب الله العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين ما يبالي بأيهما ظفر إما غلو فيه وإما تقصير عنه وبالإسناد قال محمد بن إسحاق وثنا قتيبة بن سعيد ثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل سمعت حياة بن شراحيل يقول سمعت عبد الله بن عمر يقول إن إبليس موثقا في الأرض السفلى فإذا هو(105/33)
تحرك كان كل شرقي الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه # قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله قلت وفتن الشيطان ومكايده كثيرة في غضون هذا الكتاب منها ما يليق بكل موضع منه إن شاء الله تعالى ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب عزت السلامة فإن من يدع إلى ما يحث عليه الطبع كمداد سفينة منحدرة فيا سرعة انحدارها ولما ركب الهوى في هاروت وماروت لم يستمسكا فإذا رأت الملائكة مؤمنا قد مات على الإيمان تعجبت من سلامته # وأخبرنا محمد بن أبي منصور نا جعفر بن أحمد نا الحسن بن علي التميمي ثنا أبو بكر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد ثنى ابن سريج قال ثنا عتبة بن عبد الواحد عن مالك بن مغول عن عبد العزيز بن رفيع قال إذا عرج بروح المؤمن إلى السماء قالت الملائكة سبحان الذي نجى هذا العبد من الشيطان يا ويحه كيف نجا $ ذكر الإعلام بأن مع كل إنسان شيطانا $ # أخبرنا أبو الحصين الشيباني نا أبو علي المذهب نا أبو بكر بن حمدان ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي ثنا هرون ثنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو صخر عن ابن قسيط أنه حدثه أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال مالك يا عائشة أغرت فقلت ومالي لا يغار مثلي على مثلك فقال أو قد جاءك شيطانك قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قلت ومع كل إنسان قال نعم قلت ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي عز وجل أعانني عليه حتى أسلم انفرد به(105/34)
مسلم ويجيء بلفظ آخر أعانني عليه فأسلم قال الخطابي عامة الرواة يقولون فأسلم على مذهب الفعل الماضي إلا سفيان بن عيينة فإنه يقول فأسلم من شره وكان يقول الشيطان لا يسلم # قال الشيخ وقول ابن عيينة حسن وهو يظهر أثر المجاهدة لمخالفة الشيطان إلا أن حديث ابن مسعود كأنه يرد قول ابن عيينة وهو ما أخبرنا به ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله بن أحمد ثنا يحيى عن سفيان ثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن مسعود يرفعه ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن الله عز وجل أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق وفي رواية فلا يأمرني إلا بخير قال الشيخ انفرد به مسلم واسم أبي الجعد رافع وظاهره إسلام الشياطين ويحتمل القول الآخر $ بيان أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم $ # اخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا أحمد بن جعفر نا عبد الله بن أحمد ثني عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن صفية بنت حيي زوج النبي قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله قال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا أو قال شيئا الحديث في الصحيحين قال الخطابي وفي هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به(105/35)
الظنون ويخطر بالقلوب وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب ويحكى في هذا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمر فيكفرا وإنما قاله صلى الله عليه وسلم شفقة منه عليهما لا على نفسه $ ذكر التعوذ من الشيطان الرجيم $ # قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله قد أمر الله تعالى بالتعوذ من الشيطان الرجيم عند التلاوة فقال تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " وعند السحر فقال " قل أعوذ برب الفلق " إلى آخر السورة فإذا أمر بالتحرز من شره في هذين الأمرين فكيف في غيرهما # أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا أحمد بن جعفر نا عبد الله بن أحمد ثنا أبي ثنا سيار ثنا جعفر ثنا أبو التياح قال قلت لعبد الرحمن بن حنيش أدركت النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم قلت كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين فقال إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية والشعاب وفيهم شيطان بيده شعلة نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال يا محمد قل قال ما قول قال قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن(105/36)
قال فطفئت نارهم وهزمهم الله تعالى # أنبأنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي نا عاصم بن الحسن نا أبو الحسين بن بشران نا ابن صفوان ثنا أبو بكر القرشي حدثني أبو سلمة المخزومي ثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقك فيقول الله تبارك وتعالى فيقول فمن خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه # قال القرشي ثنا هناد بن السرى ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه قال إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد من ذلك شيئا فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " الآية # قال الشيخ رحمه الله وقد رواه جرير عن عطاء فوقفه علي ابن مسعود أخبرنا هبة الله بن محمد نا الحسن بن علي نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا عبد الرزاق نا سفيان عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ثم يقول هكذا كان أبي إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم(105/37)
يعوذ إسماعيل وإسحاق أخرجاه في الصحيحين قال أبو بكر بن الأنباري الهامة واحد الهوام ويقال هي كل نسمة تهم بسوء واللامه الملمة وإنما قال لامة ليوافق لفظ هامة فيكون ذلك أخف على اللسان # أخبرنا محمد بن ناصر نا المبارك بن عبد الجبار نا إبراهيم بن عمر البرمكي نا أبو الحسن بن عبد الله بن إبراهيم الزينبي ثنا محمد بن خلف ثنا عبد الله بن محمد ثنا فضيل بن عبد الوهاب ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت قال قال مطرف نظرت فإذا ابن آدم ملقى بين يدي الله عز وجل وبين إبليس فمن شاء أن يعصمه عصمه وإن تركه ذهب به إبليس # وحكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا قال أجاهده قال فإن عاد قال أجاهده قال فإن عاد قال أجاهده قال هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع قال أكابده وأرده جهدي قال هذا يطول عليك ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك # قال الشيخ رحمه الله واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط كرجل جالس بين يديه طعام فمر به كلب فقال له أخسأ فذهب فمر بآخر بين يديه طعام ولحم فكلما أحساه لم يبرح فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان فيكفيه في طرده الذكر والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه نعوذ بالله من الشيطان(105/38)
$ الباب الرابع في معنى التلبيس والغرور قال المصنف التلبيس إظهار $ الباطل في صورة الحق والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا والردىء جيدا وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك وإنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه ويزيد تمكنه منهم ويقل على مقدار يقظتهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم واعلم أن القلب كالحصن وعلى ذلك الحصن سور وللسور أبواب وفيه ثلم وساكنه العقل والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن وإلى جانبه ربض فيه الهوى والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع والحرب قائم بين أهل الحصن وأهل الربض والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم # فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم وأن لا يفتر عن الحراسة لحظة فإن العدو ما يفتر قال رجل للحسن البصري أينام إبليس قال لو نام لوجدنا راحة وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صور كل ما يمر به فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة وكمال الفكر يرد الدخان وصقل الذكر يجلو المرآة وللعدو
حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر عليه الحارس فيخرج وربما دخل فعاث وربما أقام لغفلة الحارس وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدري به وربما جرح الحارس لغفلته وأسر واستخدم وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته وربما صار كالفقيه في الشر
قال بعض السلف رأيت الشيطان فقال لي قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم وربما هجم الشيطان على الذكي الفطن ومعه عروس الهوى قد جلاها فيتشاغل الفطن بالنظر إليها فيستأسره وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى الجهل وأوسطه في القوي الهوى وأضعفه الغفلة وما دام درع الإيمان على المؤمن فإن نبل العدو لا يقع في مقتل(105/39)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ نا أبو محمد ابن حيان ثنا أحمد بن محمد بن يعقوب ثنا محمد بن يوسف الجوهري ثنا أبو غسان النهدي قال سمعت الحسن بن صالح رحمه الله يقول إن الشيطان ليفتح للعبد تسعة وتسعين بابا من الخير يريد به بابا من الشر أنبأنا علي بن عبد الله نا محمد بن محمد النديم نا عمى عبد الواحد بن أحمد ثنى أبي أحمد بن الحسين العدل ثنا أبو جعفر محمد بن صالح ثنا حيان بن الفلس الجماني ثنا حماد بن شعيب عن الأعمش قال حدثنا رجل كان يكلم الجن قالوا ليس علينا أشد ممن يتبع السنة وأما أصحاب الأهواء فإنا نلعب بهم لعبا
الباب الخامس في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات ذكر تلبيسه على السوفسطائية
قال الشيخ هؤلاء قوم ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا زعموا أن الأشياء لا حقيقة لها وأن ما يستبعده يجوز أن يكون على ما نشاهده ويجوز أن يكون على غير ما نشاهده وقد أورد العلماء عليهم بأن قالوا لمقالتكم هذه حقيقة أم لا فإن قلتم لا حقيقة لها وجوزتم عليها البطلان فكيف يجوز أن تدعوا إلى ما لا حقيقة له فكأنكم تقرون بهذا القول أنه لا يحل قبول قولكم وإن قلتم لها حقيقة فقد تركتم مذهبكم(105/40)
وقد ذكر مذهب هؤلاء أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الآراء والديانات فقال رأيت كثيرا من المتكلمين قد غلطوا في أمر هؤلاء غلطا بينا لأنهم ناظروهم وجادلوهم وراموا بالحجاج والمناظرة الرد عليهم وهم لم يثبتوا حقيقة ولا أقروا بمشاهدة فكيف تكلم من يقول لا أدري أيكلمني أم لا وكيف تناظر من يزعم أنه لا يدري أموجود هو أم معدوم وكيف تخاطب من يدعي أن المخاطبة بمنزلة السكوت في الابانه وأن الصحيح بمنزلة الفاسد قال ثم إنه إنما يناظر من يقر بضرورة أو يعترف بأمر فيجعل ما يقر سببا إلى تصحيح ما يجحده فأما من لا يقر بذلك فمجادلته مطروحة قال الشيخ وقد رد هذا الكلام أبو الوفاء بن عقيل فقال إن أقواما قالوا كيف نكلم هؤلاء وغاية ما يمكن المجادلة أن يقرب المعقول إلى المحسوس ويستشهد بالشاهد فيستدل به على الغائب وهؤلاء لا يقولون بالمحسوسات فبم يكلمون قال وهذا كلام ضيق العطن ولا ينبغي أن يوئس عن المعالجة هؤلاء فإن ما اعتراهم ليس بأكثر من الوسواس ولا ينبغي أن يضيق عطننا من معالجتهم فإنهم قوم أخرجتهم عوارض انحراف مزاج وما مثلنا ومثلهم إلا كرجل رزق ولدا أحول فلا يزال يرى القمر بصورة قمرين حتى إنه لم يشك أن في السماء قمرين فقال له أبوه القمر واحد وإنما السوء في عينيك غض عينك الحولاء وأنظر فلما فعل قال أرى قمرا واحدا لأني عصبت إحدى عيني فغاب أحدهما فجاء من هذا القول شبهة ثانية فقال له أبوه إن كان ذلك كما ذكرت فغض الصحيحة ففعل فرأى قمرين فعلم صحة ما قال أبوه(105/41)
أنبأنا نا محمد بن ناصر نا الحسن بن أحمد بن البنا ثنا ابن دودان نا أبو عبد الله المرزناني ثني أبو عبد الله الحكيمي ثني يموت بن المزرع ثني محمد بن عيسى النظام قال مات ابن لصالح بن عبد القدوس فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث كالمتوجع له فرآه منحرفا فقال له أبو الهذيل لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع فقال له صالح يا أبا الهذيل إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك فقال له أبو الهذيل وما كتاب الشكوك قال هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان فقال له النظام فشك أنت في موت ابنك واعمل على أنه لم يمت وإن كان قد مات فشك أيضا في أنه قد قرأ الكتاب وإن كان لم يقرأه وحكى أبو القاسم البلخي أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إلى بعض المتكلمين فأتاه مرة فناظره فأمر المتكلم بأخذ دابته فلما خرج لم يرها فرجع فقال سرقت دابتي فقال ويحك لعلك لم تأتي راكبا قال بلى قال فكر قال هذا أمر أتيقنه فجعل يقول له تذكر فقال ويحك ويحك ما هذا موضع تذكر أنا لا أشك أنني جئت راكبا قال فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء وإن حال اليقظان كحال النائم فوجم السوفسطائي ورجع عن مذهبه
ذكر تلبيس الشيطان على فرق الفلاسفة
قال النوبختي قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مرا ويجده غيره حلوا قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه محدث عند من اعتقد حدوثه واللون جسم عند من اعتقده جسما وعرض عند من اعتقده عرضا قالوا فلو توهمنا عدم المعتقدين وقف الأمر على وجود من يعتقد وهؤلاء من جنس السوفسطائية فيقال لهم أقولكم صحيح فسيقولون هو صحيح عندنا باطل عند خصمنا(105/42)
قلنا دعواكم صحة قولكم مردودة وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ومن شهد على قولهم بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ومما يقال لهم أتثبتون للمشاهدة حقيقة فإن قالوا لا لحقوا بالأولين وإن قالوا حقيقتها على حسب الاعتقاد فقد نفوا عنها الحقيقة في نفسها وصار الكلام معهم كالكلام مع الأولين
قال النوبختي ومن هؤلاء من قال إن العالم في ذوب وسيلان قالوا ولا يمكن الإنسان أن يتفكر في الشيء الواحد مرتين لتغير الأشياء دائما فيقال لهم كيف علم هذا وقد أنكرتم ثبوت ما يوجب العلم وربما كان أحدكم الذي يجيبه الآن غير الذي كلمه
ذكر تلبيسه على الدهرية(105/43)
قال المصنف قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله ولا صانع وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه وهل يشك ذو عقل في وجود صانع فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد له من بان بناه فهذا المهاد الموضوع وهذا السقف المرفوع وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة أما تدل على صانع وما أحسن ما قال بعض العرب إن البعرة تدل على البعير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على اللطيف الخبير ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلا ولشفت غليلا فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب ومن تأمل تحديد الأسنان لتقطع وتقريض الأضراس لتطحن واللسان يقلب الممضوغ وتسليط الكبد على الطعام ينضجه ثم ينفذ إلى كل جارحة قدر ما تحتاج إليه من الغذاء وهذه الأصابع التي هيئت فيها العقد لتطوي وتنفتح فيمكن العمل بها ولم تجوف لكثرة عملها إذ لو جوفت لصدمها الشيء القوي فكسرها وجعل بعضها أطول من بعض لتستوي إذا ضمت وأخفي في البدن ما فيهقوامه وهي النفس التي إذا ذهبت فسد العقل الذي يرشد إلى المصالح وكل شيء من هذه الأشياء ينادي أفي الله شك وإنما يخبط الجاحد لأنه طلبه من حيث الحس ومن الناس من جحده لأنه لما أثبت وجوده من حيث الجملة لم يدركه من حيث التفصيل فجحد أصل الوجود ولو أعمل هذا فكره لعلم أن لنا أشياء لا تدرك إلا جملة كالنفس والعقل(105/44)
ولم يمتنع أحد من إثبات وجودهما وهل الغاية إلا إثبات الخلق جملة وكيف يقال كيف هو أو ما هو ولا كيفية له ولا ماهية ومن الأدلة القطعية على وجوده أن العالم حادث بدليل أنه لا يخلو من الحوادث وكل ما لا ينفك عن الحوادث حادث ولا بد لحدوث هذا الحادث من مسبب وهو الخالق سبحانه وللملحدين اعتراض يتطاولون به على قولنا لا بد للصنعة من صانع فيقولون إنما تعلقتم في هذا بالشاهد وإليه نقاضيكم فنقول كما أنه لا بد للصنعة من صانع فلا بد للصورة الواقعة من الصانع من مادة تقع الصورة فيها كالخشب لصورة الباب والحديد لصورة الفأس قالوا فدليلكم الذي تثبتون به الصانع يوجب قدم العالم فالجواب أنه لا حاجة بنا إلى مادة بل نقول إن الصانع اخترع الأشياء اختراعا فإنا نعلم أن الصور والأشكال المتجددة في الجسم كصورة الدولاب ليس لها مادة وقد اخترعها ولا بد لها من مصور فقد أريناكم صورة وهي شيء جاءت لا من شيء ولا يمكنكم أن ترونا صنعة جاءت لا من صانع
ذكر تلبيسه على الطبائعيين
قال المصنف لما رأى إبليس قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لا بد للمصنوع من صانع حسن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة وقال ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه فدل على أنها الفاعلة وجواب هذا نقول اجتماع الطبائع على وجودها لا على فعلها ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها وامتزاجها وذلك يخالف طبيعتها فدل على أنها مقهورة وقد سلموا أنها ليست بحية ولا عالمة ولا قادرة ومعلوم
أن الفعل المنسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم فكيف يفعل من ليس عالما وليس قادرا فإن قالوا ولو كان الفاعل حكيما لم يقع في بنائه خلل ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة فعلم أنه بالطبع(105/45)
قلنا ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء والردع والعقوبة أو في طية منافع لا نعلمها ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع في نيسان على أنواع من الحبوب فترطب الحصرم والخلالة وتنشف البرة وتيبسها ولو فعلت طبعا لأيبست الكل أو رطبته فلم يبق إلا أن الفاعل المختار استعملها بالمشيئة في يبس هذه للادخار والنضج في هذه للتناول والعجب أن الذي أوصل إليها اليبس في أكنة لا يلقى جرمها والذي رطبها يلقى جرمها ثم إنها تبيض ورد الخشخاش وتحمر الشقائق وتحمض الرمان وتحلي العنب والماء واحد وقد أشار المولى إلى هذا بقوله تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل
ذكر تلبيسه على الثنوية
وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فجوهر النور فاضل حسن نير صاف نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه نفس خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخير واللذة والسرور والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر وجوهر الظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسه نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة ضرارة منها الشر والفساد كذا حكاه النوبختي عنهم قال وزعم بعضهم أن النور لم يزل فوق الظلمة
وقال بعضهم بل كل واحد إلى جانب الآخر وقال أكثرهم النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في ناحية الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه قال النوبختي وزعموا أن كل واحد منهما له أجناس خمسة أربعة منها أبدان وخامس هو الروح وأبدان النور أربعة النار والريح والتراب والماء وروحه الشبح(105/46)
ولم تزل تتحرك في هذه الأبدان وأبدان الظلمة أربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت وبعضهم يقول الظلمة تتوالد شياطين والنور يتوالد ملائكة وأن النور لا يقدر على الشر ولا يجوز منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا تجوز منه وذكر لهم مذاهب مختلفة فيما يتعلق بالنور والظلمة ومذاهب سخيفة فمنها أنه فرض عليهم ألا يدخرون إلا قوت يوم وقال بعضهم على الإنسان صوم سبع العمر وترك الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنى والسرقة وأن لا يؤذي ذا روح في مذاهب طريفة اخترعوها بواقعاتهم الباردة وذكر يحيى بن بشر النهاوندي أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم الباري الذي هو النور زمانا فتأذى بها فلما طال عليه ذلك قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب منها هذا العالم النوري والظلمي فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يخلصون بذلك النور من الظلمة مذاهب سخيفة
والذي حملهم على هذا أنهم رأوا في العالم شرا واختلافا فقالوا لا يكون من أصل واحد شيئان مختلفان كما لا يكون من النار التبريد والتسخين وقد رد العلماء عليهم في قولهم إن الصانع اثنان فقالوا لو كان اثنين لم يخل أن يكونا
قادرين أو عاجزين أو أحدهما قادر والثاني عاجز لا يجوز أن يكونا عاجزين لأن العجز يمنع ثبوت الألوهيه ولا يجوز أن يكون أحدهما عاجزا فبقي أن يقال هما قادران فتصور فيها أن أحدهما يريد تحريك هذا الجسم في حالة يريد الآخر تسكينه ومن المحال وجود ما يريدانه فإن تم مراد أحدهما ثبت عجز الآخر وردوا عليهم في قولهم إن النور يفعل الخير والظلمة تفعل الشر فإنه لو هرب مظلوم فاستتر بالظلمة فهذا خير قدر صدر من شر ولا ينبغي مد النفس في الكلام مع هؤلاء فإن مذهبهم خرافات(105/47)
ذكر تلبيسه على الفلاسفة وتابعيهم
إنما تمكن إبليس من التلبيس على الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إلى الأنبياء فمنهم من قال بقول الدهرية أن لا صانع للعالم حكاه النوبختي وغيره عنهم وحكى النهاوندي أن أرسطاطا ليس وأصحابه زعموا أن الأرض كوكب في جوف هذا الفلك وأن في كل كوكب عوالم كما في هذا الأرض وأنهارا وأشجارا وأنكروا الصانع وأكثرهم أثبت علة قديمة للعالم ثم قال بقدم العالم وأنه لم يزل موجودا مع الله تعالى ومعلولا له ومساويا غير متأخر عنه بالزمان مساواة المعلول للعلة والنور للشمس بالذات والرتبة لا بالزمان فيقال لهم لم أنكرتم أن يكون العالم حادثا بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه فإن قالوا فهذا يوجب أن يكون بين وجود الباري وبين المخلوقات زمان قلنا الزمان مخلوق وليس قبل الزمان زمان ثم يقال لهم كان الحق سبحانه قادرا على أن يجعل سمك الفلك الأعلى أكثر مما هو بذراع أو أقل مما هو بذراع فإن قالوا لا يمكن فهو تعجيز ولأن ما لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا أصغر فوجوده على ما هو عليه واجب لا ممكن والواجب يستغني عن علة وقد ستروا مذهبهم بأن قالوا الله عز وجل صانع العالم وهذا تجوز عندهم لا حقيقة لأن الفاعل مريد لما
يفعله وعندهم أن العالم ظهر ضروريا لا أن الله فعله ومن مذاهبهم أن العالم باق أبدا كما لا بداية لوجوده فلا نهاية قالوا لأنه معلول علة قديمة وكان المعلول مع العلة(105/48)
ومتى كان العالم ممكن الوجود لم يكن قديما ولا معلولا وقد قال جالينوس لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في هذه المدة الطويلة فيقال له قد يفسد الشيء بنفسه بغتة لا بالذبول ثم من أين له أنها لا تذبل فإنها عندهم بمقدار الأرض مائة وسبعين مرة أو نحو ذلك فلو نقص منها مقدار جبل لم يبن ذلك للحس ثم نحن نعلم أن الذهب والياقوت يقبلان الفساد وقد يبقيان سنين ولا يحس نقصانهما وإنما الإيجاد والإعدام بإرادة القادر والقادر لا يتغير في نفسه ولا تحدث له صفة وإنما يتغير الفعل بإرادة قديمة
وحكى النوبختي في كتاب الآراء والديانات أن سقراط كان يزعم أن أصول الأشياء ثلاثة علة فاعلة والعنصر والصورة قال والله تعالى هو الفعال والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد والصورة جوهر للجسم وقال آخر منهم الله هو العلة الفاعلة والعنصر المنفعل وقال آخر منهم العقل رتب الأشياء هذا الترتيب وقال آخر منهم بل الطبيعة فعلته
وحكى يحيى بن بشير بن عمير النهاوندي أن قوما من الفلاسفة قالوا لما شاهدنا العالم مجتمعا ومتفرقا ومتحركا وساكنا علمنا أنه محدث ولا بد له من محدث ثم رأينا أن الإنسان يقع في الماء ولا يحسن السباحة فيستغيث بذلك الصانع المدبر فلا يغيثه أو في النار فعلمنا أن ذلك الصانع معدوم قال واختلف هؤلاء في عدم الصانع المدبر على ثلاث فرق فرقة عزمت أنه لما
أكمل العالم استحسنه فخشي أن يزيد فيه أو ينقص منه فيفسد فأهلك نفسه وخلا منه العالم وبقيت الأحكام تجري بين حيواناته ومصنوعاته على ما اتفق وقالت الفرقة الثانية بل ظهر في ذات الباري تولول فلم يزل تنجذب قوته ونوره حتى صارت القوة والنور في ذلك التولول وهو العالم وساء نور الباري وكان الباقي منه نور
وزعموا أنه سيجذب النور من العالم إليه حتى يعود كما كان ولضعفه عن مخلوقاته أهمل أمرهم فشاع الجور(105/49)
وقالت الفرقة الثالثة بل الباري لما أتقن العالم تفرقت أجزاؤه فيه فكل قوته في العالم فهي من جوهر اللاهوتية قال الشيخ رحمه الله هذا الذي ذكره النهاوندي نقلته من نسخة بالنظامية قد كتبت منذ مائتين وعشرين سنة ولولا أنه قد قيل ونقل في ذكره بيان ما قد فعل إبليس في تلبيسه لكان الأولى الإضراب عن ذكره تعظيما لله عز وجل أن يذكر بمثل هذا ولكن قد بينا وجه الفائدة في ذكره
وقد ذهب أكثر الفلاسفة إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه وقد ثبت أن المخلوق يعلم نفسه ويعلم خالقه فقد زادت مرتبة المخلوق على رتبة الخالق
قال المصنف وهذا أظهر فضيحة من أن يتكلم عليه فانظر إلى ما زينه إبليس لهؤلاء الحمقاء مع ادعائهم كمال العقل وقد خالفهم أبو علي بن سيناء في هذا فقال بل يعلم نفسه ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات وتلقف هذا المذهب منهم المعتزلة وكأنهم استكثروا المعلومات فالحمد لله الذي جعلنا ممن ينفي عن الله الجهل والنقص ونؤمن بقوله " ألا يعلم من خلق " وقوله " ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وذهبوا إلى أن علم الله وقدرته هو ذاته فرارا من أن يثبتوا قديمين وجوابهم أن يقال إنما هو قديم موجود واحد موصوف بصفات الكمال(105/50)
قال المصنف وقد أنكرت الفلاسفة بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان ووجود جنة ونار جسمانيين وزعموا أن تلك أمثلة ضربت لعوام الناس ليفهموا الثواب والعقاب الروحانيين وزعموا أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمديا أبدا إما في لذة لا توصف وهي الأنفس الكاملة أو ألم لا يوصف وهي النفوس المتلوثة وقد تتفاوت درجات الألم على مقادير الناس وقد ينمحي عن بعضها الألم ويزول فيقال لهم نحن لا ننكر وجود النفس بعد الموت ولذلك سمي عودها إعادة ولا أن لها نعيما وشقاء ولكن ما المانع من حشر الأجسام ولم ننكر اللذات والآلام الجسمانية في الجنة والنار وقد جاء الشرع بذلك فنحن نؤمن بالجمع بين السعادتين وبين الشقاوتين الروحانية والجسمانية وأما الحقائق في مقام الأمثال فتحكم بلا دليل فإن قالوا الأبدان تنحل وتؤكل وتستحيل قلنا القدرة لا يقف بين يديها شيء على أن الإنسان إنسان بنفسه
فلو صنع له البدن من تراب غير التراب الذي خلق منه لم يخرج عن كونه هو هو كما أنه تتبدل أجزاؤه من الصغر إلى الكبر وبالهزال والسمن فإن قالوا لم يكن البدن بدنا حتى يرقى من حالة إلى حالة إلى أن صار لحما وعروفا قلنا قدرة الله سبحانه وتعالى لا تقف على المفهوم المشاهد ثم قد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الأجسام تنبت في القبور قبل البعث
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار نا أبو محمد الجوهري نا عمر بن محمد بن الزيات ثنا قاسم بن زكريا المطرز ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت قال ثم ينزل الله ماء من السماء فينبتون كما ينبت البقل قال وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه خلق ومنه يركب الخلق يوم القيامة أخرجاه في الصحيحين مذهب الفلاسفة(105/51)
وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة كما ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطا ليس وجالينوس وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمور خفية إلا أنهم لما تكلموا في الالهيات خلطوا ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم
وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة والرجوع فيها إلى الشرائع وقد حكى لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلا فصدقوا فيما حكي لهم عنهم ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة
وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال فإن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى الإسلام بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق وعلى النبوات ويتكلم في إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فأضر به فهو عامة زمانه في تسخط على الأقذار والاعتراض على المقدر حتى قال لي بعضهم أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك وكان يقول أشعار كثيرة في هذا المعنى فمنها قوله في صفة الدنيا قال:(105/52)
أتراها صنعة من غير صانع أم تراها رمية من رام وقوله
واحيرتا من وجود ما تقدمه منا اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه في عماء ما يخلصنا منه ذكاء ولا عقل ولا شرس
ونحن في ظلمة ما إن لها قمر فيها يضيء ولا شمس ولا قبس
مدلهين حيارى قد تكنفنا جهل يجهمنا في وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل والقول فيه كلام كله هوس
ولما كانت الفلاسفة قريبا من زمان شريعتنا والرهبنة كذلك مد بعض أهل ملتنا يده إلى التمسك بهذه وبعضهم مد يده إلى التمسك بهذه فترى كثيرا من الحمقى إذا نظروا في باب الاعتقاد تفلسفوا وإذا نظروا في باب التزهد ترهبنوا فنسأل الله ثباتا على ملتنا وسلامة من عدونا إنه ولي الإباحة
ذكر تلبيسه على أصحاب الهياكل
وهم قوم يقولون إن لكل روحاني من الروحانيات العلوية هيكلا أعني جرما من الأجرام السماوية هو هيكله ونسبته إلى الروحاني المختص به نسبة أبداننا إلى أرواحنا فيكون هو مدبره والمتصرف فيه فمن جملة الهياكل العلوية السيارات والثوابت قالوا ولا سبيل لها إلى الروحاني بعينه فيتقرب إلى هيكله بكل عبادة وقربان وقال آخرون منهم لكل هيكل سماوي شخص من الأشخاص السفلية على صورته وجوهره فعمل هؤلاء الصور ونحتوا الأصنام وبنوا لها بيوتا
وقد ذكر يحيى بن بشر النهاوندي أن قوما قالوا الكواكب السبعة وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر هي المدبرات لهذا العالم وهي تصدر عن أمر الملأ الأعلى ونصبوا لها الأصنام على صورتها وقربوا لكل واحد منها ما يشبهه من الحيوان فجعلوا لزحل جسما عظيما من الآنك أعمى يقرب إليه بثور حسن يؤتى به إلى بيت تحته محفور(105/53)
وفوقه الدرابزين من حديد على تلك الحفرة فيضرب الثور حتى يدخل البيت ويمشي على ذلك الدرابزين من الحديد فتغوص رجلاه ويداه هناك ثم توقد تحته النار حتى يحترق ويقول له المقربون مقدس أنت أيها الإله الأعمى المطبوع على الشر الذي لا يفعل خيرا قربنا لك ما يشبهك فتقبل منا وأكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة ويقربون للمشتري صبيا طفلا وذلك أنهم يشترون جارية ليطأها السدنة للأصنام السبعة فتحمل وتترك حتى تضع ويأتون بها والصبي على يدها ابن ثمانية أيام فينخسونه بالمسل والإبر وهو يبكي على يد أمه فيقولون له أيها الرب الخير الذي لا يعرف الشر قد قربنا لك من لم يعرف الشر يجانسك في الطبيعة فتقبل قرباننا وأرزقنا خيرك وخير أرواحك الخيرة ويقربون للمريخ رجلا أشقر أنمش أبيض الرأس من الشقرة يأتون به فيدخلون في حوض عظيم ويشدون قيوده إلى أوتاد في قعر الحوض ويملأون الحوض زيتا حتى يبقى الرجل قائما فيه إلى حلقه ويخلطون بالزيت الأدوية المقوية للعصب والمعفنة للحم حتى إذا دار عليه الحول بعد أن يغذى بالأغذية المعفنة للحم والجلد قبضوا على رأسه فملخوا عصبه من جلده ولفوه تحت رأسه وأتوا به إلى صنمهم الذي هو على صورة المريخ فقالوا أيها الإله الشرير ذو الفتن والجوائح قربنا إليك ما يشبهك فتقبل قرباننا واكفنا شرك وشر أرواحك الخبيثة الشريرة(105/54)
ويزعمون أن الرأس تبقى فيه الحياة سبعة أيام وتكلمهم بعلم ما يصيبهم تلك السنة من خير وشر ويقربون للشمس تلك المرأة التي قتلوا ولدها للمشتري ويطوفون بصورة الشمس ويقولون مسبحة مهللة أنت أيتها الآلهة النورانية قربنا إليك ما يشبهك فتقبلي قرباننا وارزقينا من خيرك وأعيذينا من شرك ويقربون للزهرة عجوزا شمطاء ماجنة يقدمونها بين يديها وينادون حولها أيتها الآلهة الماجنة أتيناك بقربان بياضه كبياضك ومجانته كمجانتك وظرفه كظرفك فتقبليها منا ثم يأتون بالحطب فيجعلونه حول العجوز ويضرمون فيه النار إلى أن تحترق فيحثون رمادها في وجه الصنم
ويقربون لعطارد شابا أسمر حاسبا كاتبا متأدبا يأتون به بحيلة وكذلك يفعلون بالكل يخدعونهم ويبنجونهم ويسقونهم أدوية تزيل العقل وتحرس الألسنة فيقدمون هذا الشاب إلى صنم عطارد ويقولون أيها الرب الظريف أتيناك بشخص ظريف وبطبعك اهتدينا فتقبل منا ثم ينشر الشاب نصفين ويربع ويجعل على أربع خشبات حوله ويضرم كل خشبة النار حتى تحترق ويحترق الربع معها ويحثون رماده في وجهه
ويقربون للقمر رجلا آدم كبير الوجه ويقولون له يا بريد الآلهة وخفيف الأجرام العلوية
ذكر تلبيسه على عباد الأصنام
قال المصنف كل محنة لبس بها إبليس على الناس فسببها الميل إلى الحسن والأعراض عن مقتضى العقل ولما كان الحس يأنس بالمثل دعا إبليس لعنه الله خلقا كثيرا إلى عبادة الصور وأبطل عند هؤلاء عمل العقل بالمرة فمنهم من حسن له أنها الآلهة وحدها ومنهم من وجد فيه قليل فطنة فعلم أنه لا يوافقه على هذا فزين له أن عبادة هذه تقرب إلى الخالق فقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
ذكر بداية تلبيسه على عباد الأصنام(105/55)
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو جعفر بن أحمد بن السلم نا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزناني نا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله الجوهري ثنا أبو علي الحسن بن عليل العنزي ثنا أبو الحسن علي بن الصباح بن الفرات قال أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الحلبي قال أخبرني أبي قال أول ما عبدت الأصنام كان آدم عليه السلام لما مات جعله بنوشيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند ويقال للجبل بوذ وهو أخصب جبل في الأرض(105/56)
قال هشام فأخبرني أبي عن أبي الصالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فكان بنو شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه فقال رجل من بني قابيل يا بني قابيل إن لبني شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شيء فنحت لهم صنما فكان أول من عملها قال وأخبرني أبي أنه كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قوما صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم فقال رجل من بني قابيل يا قوم هل لكم أن أعمل لكن خمسة أصنام على صورهم غير أنني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحا فقالوا نعم فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم فكان الرجل منهم يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله حتى ذهب ذلك القرن الأول وعملت على عهد يزذ بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد تعظيم من القرن الأول ثم جاء من بعدهم القرن الثالث فقالوا ما عظم الأولون هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله عز وجل فعبدوهم وعظموا أمرهم واشتد كفرهم فبعث الله سبحانه وتعالى إليهم إدريس عليه الصلاة والسلام فدعاهم فكذبوه فرفعه الله مكانا عليا ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حتى أدرك نوح فبعثه الله نبيا وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل مائة وعشرين سنة فعصوه وكذبوه فأمر الله تعالى أن يصنع الفلك فعملها وفرغ منها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ومكث بعد ذلك ثلاثمائة سنة وخمسين سنة فكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة فلما نضبت الماء بقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها(105/57)
قال الكلبي وكان عمرو بن لحي كاهنا وكان يكنى أبا ثمامة له رئى من الجن فقال له عجل المسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة ائت صفا جده تجد فيها أصناما معدة فأوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد بها تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات فدفع إليه ودا فحمله فكان بوادي القرى بدومه الجندل وسمي ابنه عبد ود فهو أول من سمى به وجعل عوف ابنه عامرا سادنا له فلم يزل بنوه يدينون به حتى جاء الله بالإسلام
قال الكلبي حدثني مالك بن حارثة أنه رأى ودا قال وكان أبي يبعثني باللبن إليه ويقول أسق إلهك فأشربه قال ثم رأيت خالد بن الوليد بعد كسره فجعله جذاذا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه من غزوة تبوك لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود وبنو عامر فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره وقتل يومئذ رجلا من بني عبد ود يقال له قطن بن سريج فأقبلت أمه وهو مقتول وهي تقول
ألا تلك المودة لا تدوم % ولا يبقى على الدهر النعيم
ولا يبقى على الحدثان عفر % له أم بشاهقة رؤوم
ثم قالت
يا جامعا جمع الأحشاء والكبد % يا ليت أمك لم تولد ولم تلد
ثم أكبت عليه فشهقت وماتت
قال الكلبي فقلت لمالك بن حارثة صف لي ودا حتى كأني أنظر إليه قال كان تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال قد دير أي نفس عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى عليه سيف قد تقلده وتنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل يعني جعبتها
قال وأجابت عمرو بن لحي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر سواعا وكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر فقال رجل من العرب
تراهم حول قبلتهم عكوفا كما عكفت هذيل على سواع
يظل حياته صرعى لديه غنائم من ذخائر كل راعي(105/58)
وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها
وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم يعوق وكان بقرية يقال لها جوان تعبده همدان ومن والاها من اليمن
وأجابته حمير فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له معدي كرب نسرا وكان بموضع من أرض سبأ يقال له بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزالوا يعبدونه حتى هو دهم ذو نواس ولم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأمر بهدمها
قال ابن هشام وحدثنا الكبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعت لي النار فرأيت عمرو بن لحى قصيرا أحمر أزرق يجر قصبة في النار قلت من هذا قيل هذا عمرو بن لحى أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيب السائبة وحمى الحمام وغير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان
قال هشام وحدثني أبي وغيره أن إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما سكن مكة وولد له فيها أولاد فكثروا حتى ملؤا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقست بينهم الحروب والعداوات فأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا أحتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصيانة لمكة فحيث ما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها وصيانة للحرم وحبا له وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على أثر إبراهيم وإسماعيل ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة والمزدلفة وإهداء البدن(105/59)
والإهلال بالحج والعمرة وكانت نزار تقول إذا ما أهلت لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك
وكان أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وثيب السائبة ووصل الوصيلة عمرو بن ربيعة وهو لحى بن حارثة وهو أبو خزاعة وكانت أم عمرو بن لحى فهيرة بنت عامر بن الحارث وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغنا عمرو بن لحى نازعه في الولاية وقاتل جرهم بن إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت من بعدهم ثم أنه مرض مرضا شديدا فقيل له أن بالبلقاء من أرض الشام حمة إن أتيتها برئت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال ما هذه فقالوا نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام
وكان أقدمها مناة وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المسلك بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه والأوس والخزرج ومن نزل ادينة ومكة وما والاها ويذبحون له ويهدون له # قال هشام وحدثنا رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عامر بن يسار قال كانت الأوس والخزرج ومن يأخذ مأخذهم من العرب من أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك وكانت مناة لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح
ثم اتخذوا اللات بالطائف وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مرتفعة وكانت سدنتها من ثقيف وكانوا قد بنوا عليها بناء وكانت قريش وجميع العرب تعظم وكانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة
مسجد الطائف اليسرى اليوم فلم يزالوا كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار(105/60)
ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات اتخذه ظالم بن أسعد وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منه الصوت
قال هشام وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعتضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال هل رأيت شيئا قال لا قال فاعضد الثانية فأتاها فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل رأيت شيئا قال لا قال فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بجنية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصر بأنيابها وخلفها ديبة السلمى وكان سادنها فقال خالد
يا عز كفرانك لا سبحانك أني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجرة وقتل ديبة السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب(105/61)
قال هشام وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خذيمة بن مدركة بن الياس بن مضر وكان في جوف الكعبة وكان قدامه سبعة أقدح مكتوب في أحدها صريح وفي الآخر ملصق فإذا شكو في مولود أهدوا له هدية ثم ضربوا بالقدح فإن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصقا فدفعوه وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أي علا دينك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ألا تجيبونه فقالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل وكان لهم أساف ونائلة قال هشام فحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن أساف رجل من جرهم يقال له أساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلا حجاجا فدخلا البيت فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدته خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب قال هشام لما مسخا حجرين وضعا عند البيت ليقظ الناس بهما فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر في موضع زمزم فنقلت قريش الذي كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما
وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج وكانت بتبالة بين مكة والمدينة على مسيرة سبع ليال من مكة وكانت تعظمها وتهدي لها خثعموبجيلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير رضي الله عنه الا تكفني ذا الخلصة فوجهه إليه فسار بأحمس فقابلته خعثم وباهلة فظفر بهم وهدم بنيان ذي الخلصة وأضرم فيه النار وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة(105/62)
وكان لدوس صنم يقال له ذو الكفين فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه
وكان لبني الحارث بن يشكر صنم يقال له ذو الثرى
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر
وكان لمزينة صنم يقال له فهم وبه كانت تسمى عبد فهم
وكانت لعنزة صنم يقال له سعير
وكان لطىء صنم يقال له الفلس وكان لأهل كل واد من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان أخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به ومنهم من اتخذ بيتا ومن لم يكن له صنم ولا بيت نصب حجرا مما استحسن به ثم طاف به وسموها الأنصاب
وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعله ثالثة الأثافي لقدره فإذا أرتحل تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة دخل المسجد والأصنام منصوبة حول الكعبة فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ثم أمر بها فكفئت على وجوهها ثم أخرجت من المسجد فحرقت وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في زمان يزد برد عبدت الأصنام ورجع من رجع عن الإسلام
أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا عمر بن عبيد الله نا أبو الحسين بن بشران نا عثمان بن أحمد الدقاق ثنا جميل ثنا حسن بن الربيع ثنا مهدي بن ميمون قال سمعت أبا رجاء العطاردي يقول لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب ولحقنا بالنار وكنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك ونأخذه وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به
أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد نا أحمد بن أحمد الحداد نا أبو نعيم(105/63)
أحمد بن عبد الله ثنا أبو حامد بن جبلة ثنا أبو عباس السراج ثنا أحمد بن الحسن بن خراش ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا عمارة المعولي قال سمعت أبا رجاء العطاردي يقول كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه فنحلب عليه فنعبده وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نلقيه أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر بن ثابت نا عبد العزيز بن علي الوراق نا أحمد بن إبراهيم ثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري نا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هرون نا الحجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان النهدي قال كنا في الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي يا أهل الرحال إن ربكم قد هلك فالتمسوا لكم ربا غيره قال فخرجنا على كل صعب وذلول فبينما نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه قال فجئنا فإذا حجر فنحرنا عليه الجزر أنبأنا محمد بن أبي طاهر نا أبو إسحاق البرمكي نا أبو عمر بن حيوية نا أحمد بن معروف نا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا محمد بن عمرو ثني الحجاج بن صفوان عن ابن أبي حسين عن شهر حوشب عن عمرو بن عنبسة قال كنت أمرءا ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم آلهة فيخرج الحي منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلها يعبد ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره(105/64)
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو الحسن العتيقي نا عثمان بن عمرو بن الميثاب نا أبو محمد عبد الله بن سليمان الفامي ثني أبو الفضل محمد بن أبي هرون الوراق ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي عن شيخ من ساكني مكة قال سئل سفيان بن عيينة كيف عبدت العرب الحجارة والأصنام فقال أصل عبادتهم الحجارة إنهم قالوا البيت حجر فحيث ما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت وقال أبو معشر كان كثير من أهل الهند يعتقد الربوبية ويقرون بأن لله تعالى ملائكة إلا إنهم يعتقدونه صورة كأحسن الصور وأن الملائكة أجسام حسان وإنه سبحانه وتعالى وملائكته محتجبون بالسماء
فاتخذوا أصناما على صورة الله سبحانه عندهم وعلى صور الملائكة فعبدوها وقربوا لها لموضع المشابهة على زعمهم
وقيل لبعضهم أن الملائكة والكواكب والأفلاك أقرب الأجسام إلى الخالق فعظموها وقربوا لها ثم عملوا الأصنام
وبنى جماعة من القدماء بيوتا كانت للأصنام فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت فيه أصنام أخرجها كوشتاسب لما تمجس وجعله بيت نار والبيت الثاني والثالث في أرض الهند والرابع بمدينة بلخ بناه بنو شهر فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ والخامس بيت بصنعاء بناه الضحاك على اسم الزهرة فخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه والسادس بناه قابوس والملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخربه المعتصم
وذكر يحيى بن بشير بن عمير النهاوندي أن شريعة الهند وضعها لهم رجل بزهمي ووضع لهم أصناما وجعل لهم أعظم بيوتهم بيتا بالميلتان وهي مدينة من مداين السند وجعل فيه صنمهم الأعظم الذي هو كصورة الهيولي الأكبر وهذه المدينة فتحت في أيام الحجاج وأرادوا قلع الصنم فقيل لهم إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من مال(105/65)
فأمر عبد الملك بن مروان بتركه فالهند تحج إليه من ألفي فرسخ ولا بد للحاج أن يحمل معه دراهم على قدر ما يمكنه من مائة إلى عشرة آلاف لا يكون أقل من هذا ولا أكثر ومن لم يحمل معه ذلك لم يتم حجه فيلقيه في صندوق عظيم هناك ويطوفون بالصنم فإذا ذهبوا قسم ذلك المال فثلثه للمسلمين وثلثه لعمارة المدينة وحصونها وثلثه لسدنه الصنم ومصالحه
قال الشيخ أبو الفرح رحمه الله فانظر كيف تلاعب الشيطان بهؤلاء وذهب بعقولهم فنحتوا بأيديهم ما عبدوه وما أحسن ما عاب الحق سبحانه وتعالى أصنامهم فقال " ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين " يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها " وكانت الإشارة إلى العباد أي أنتم تمشون وتبطشون وتبصرون وتسمعون والأصنام عاجزة عن ذلك وهي جماد وهم حيوان فكيف عبد التام الناقص ولو تفكروا لعلموا أن الإله يصنع الأشياء ولا يصنع ويجمع وليس بمجموع وتقوم الأشياء به ولا يقوم بها وإنما ينبغي للإنسان أن يعبد من صنعه لا ما صنعه وما خيل إليهم أن الأصنام تشفع فخيال ليس فيه شبهة يتعلق بها
ذكر تلبيسه على عابدي النار والشمس والقمر
قال المصنف قد لبس إبليس على جماعة فحسن لهم عبادة النار وقالوا هي الجوهر الذي لا يستغني العالم عنه ومن ههنا زين عبادة الشمس(105/66)
وذكر أبو جعفر بن جرير الطبري أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها فانصب أنت نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها قال الجاحظ وجاء زرادشت من بلخ وهو صاحب المجوس فادعى أن الوحي ينزل إليه على جبل سيلان فدعى أهل تلك النواحي الباردة الذين لا يعرفون إلا البرد وجعل الوعيد بتضاعف البرد وأقر بأنه لم يبعث إلا إلى الجبال فقط وشرع لأصحابه التوضوء بالأبوال وغشيان الأمهات وتعظيم النيران مع أمور سمجة قال ومن قول زرادشت كان الله وحده فلما طالت وحدته فكر فتولد من فكرته إبليس فلما مثل بين يديه وأراد قتله امتنع منه فلما رأى امتناعه ودعه إلى مدة
قال الشيخ أبو الفرج رحمه الله وقد بنى عابدوا النار لها بيوتا كثيرة فأول من رسم لها بيتا أفريدون فاتخذ لها بيتا بطرطوس وآخر ببخارى واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى وبنيت بعد ذلك بيوت كثيرة لها وقد كان زرادشت وضع نارا زعم أنها جاءت من السماء فأكلت قربانهم وذلك أنه بنى بيتا وجعل فيوسطه مرآة ولف القربان في حطب وطرح عليه الكبريت فلما استوت الشمس في كبد السماء قابلت كوة قد جعلها في ذلك البيت فدخل شعاع الشمس فوقع على المرآة فانعكس على الحطب فوقعت فيه النار فقال لا تطفؤا هذه النار
فصل قال المصنف وقد حسن إبليس لعنة الله لأقوام عبادة القمر(105/67)
ولآخرين عبادة النجوم قال ابن قتيبة وكان قوم في الجاهلية عبدوا الشعري العبور وفتنوا بها وكان أبو كبشة الذي كان المشركون ينسبون إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من عبدها وقال قطعت السماء عرضا ولم يقطع السماء عرضا غيرها وعبدها وخالف قريشا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى عبادة الله وترك الأوثان قالوا هذا ابن أبي كبشة أي شبهه ومثله في الخلاف كما قالت بنو إسرائيل لمريم يا أخت هارون أي يا شبيهة هارون في الصلاح وهما شعريان إحداهما هذه والشعري الأخرى هي الغميصاء وهي تقابلها وبينها المجرة والغميصاء في الذراع المبسوط في جبهة الأسد وتلك في الجوزاء
وزين إبليس لعنه الله لآخرين عبادة الملائكة وقالوا هي بنات الله تعالى تعالى الله عن ذلك وزين لآخرين عبادة الخيل والبقر وكان السامري من قوم يعبدون البقر فلهذا صاغ عجلا وجاء في التعبير أن فرعون كان يعبد تيسا وليس في هؤلاء من أعمل فكره ولا استعمل عقله في تدبير ما يفعل نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة
ذكر تلبيسه على الجاهلية
قال المصنف ذكرنا كيف لبس عليهم في عبادة الأصنام ومن أقبح تلبيسه عليهم في ذلك تقليد الآباء من غير نظر في دليل كما قال الله عز وجل وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون المعنى أتتبعونهم أيضا(105/68)
وقد لبس إبليس على طائفة منهم فقالوا بمذاهب الدهرية وأنكروا الخالق وجحدوا البعث الذين قال الله سبحانه فيهم ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر وعلى آخرين منهم فأقروا بالخالق لكنهم جحدوا الرسل والبعث وعلى آخرين منهم فزعموا أن الملائكة بنات الله وأمال آخرين منهم إلى مذهب اليهود وآخرين إلى مذهب المجوس وكان في بني تميم منهم زرارة بن جديس التميمي وابنه حاجب # وممن كان يقر بالخالق والابتداء والإعادة والثواب والعقاب عبد المطلب ابن هاشم وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وعامر بن الظرب وكان عبد المطلب إذا رأى ظالما لم تصبه عقوبة قال تالله أن وراء هذه الدار لدارا يجزي فيها المحسن والمسيء ومنهم زهير بن أبي سلمى وهو القائل # يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر % ليوم الحساب أو يعجل فينقم # ثم أسلم ومنهم زيد الفوارس بن حصن ومنهم القلمس بن أمية الكناني كان يخطب بفناء الكعبة وكانت العرب لا تصدر عن مواسمها حتى يعظها ويوصيها فقال يوما يا معشر العرب أطيعوني ترشدوا قالوا وما ذاك(105/69)
قال إنكم تفردتم بآلهة شتى أني لأعلم ما الله بكل هذا راض وأن الله رب هذه الآلهة وأنه ليحب أن يعبد وحده فتفرقت عنه العرب لذلك ولم يسمعوا مواعظه وكان فيهم قوم يقولون من مات فربطت على قبره دابته وتركت حتى تموت حشر عليها ومن لم يفعل ذلك حشر ماشيا وممن قاله عمرو بن زيد الكلبي # قال المصنف وأكثر هؤلاء لم يزل عن الشرك وإنما تمسك منهم بالتوحيد ورفض الأصنام القليل كقس بن ساعدة وزيد وما زالت الجاهلية تبتدع البدع الكثيرة فمنها النسىء وهو تحريم الشهر الحرام وتحليل الشهر الحرام وذلك أن العرب كانت قد تمسكت من ملة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بتحريم الأشهر الأربعة فإذا احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب أخروا تحريمه إلى صفر ثم يحتاجون إلى صفر ثم كذلك حتى تتدافع السنة وإذا حجوا قالوا لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ومنها توريث الذكر دون الأنثى ومنها أن أحدهم كان إذا مات ورث نكاح زوجته أقرب الناس إليه ومنها البحيرة وهي الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها وحرمت على النساء والسائبة من الأنعام كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرا ولا يحلبون لها لبنا والوصيلة الشاة تلد سبعة أبطن فإن كان السابع ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها فلا تذبح وتكون منافعها للرجال دون النساء فإذا ماتت أشترك فيها الرجال والنساء
والحام الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم ولا يحمل عليه ثم يقولون أن الله عز وجل أمرنا بهذا فذلك معنى قوله تعالى " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " ثم الله عز وجل رد عليهم فيما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وفيما أحلوه بقولهم " خالصة لذكورنا "(105/70)
" ومحرم على أزواجنا " قال الله تعالى " قل آلذكرين حرم أم الأنثيين " المعنى إن كان الله تعالى حرم الذكرين فكل الذكور حرام وإن كان حرم الانثيين فكل الإناث حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فإنها تشتمل على الذكور والإناث فيكون كل جنين حراما وزين لهم إبليس قتل أولادهم فالإنسان منهم يقتل ابنته ويغذو كلبه
ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ومشيئة الله تعم الكائنات وأمره لا يعم مراداته فليس لأحد أن يتعلق بالمشيئة بعد ورود الأمر ومذاهبهم السخيفة التي ابتعدوها كثيرا لا يصلح تضييع الزمان بذكرها ولا هي مما يحتاج إلى تكلف ردها
ذكر تلبيس إبليس على جاحدي النبوات
قال المصنف قد لبس إبليس على البراهمة والهندوس وغيرهم فزين لهم جحد النبوات ليسد طريق ما يصل من الاله وقد اختلف أهل الهند فمنهم دهرية ومنهم ثنوية ومنهم على مذاهب البراهمة ومنهم من يعتقد نبوة آدم وإبراهيم فقط وقد حكى أبو محمد النوبختي في كتاب الآراء والديانات أن قوما من الهند من البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار وزعموا أن رسولهم ملك أتاهم في صورة البشر من غير كتاب له أربعة أيد وأثنتا عشر رأسا من ذلك رأس إنسان ورأس أسد ورأس فرس ورأس فيل ورأس خنزير وغير ذلك من رؤوس الحيوانات وأنه أمرهم بتعظيم النار ونهاهم عن القتل والذبائح إلا ما كان للنار ونهاهم عن الكذب وشرب الخمر وأباح لهم الزنا وأمرهم أن يعبدو البقر ومن ارتد منهم ثم رجع حلقوا رأسه ولحيته وحاجبيه وأشفار عينيه ثم يذهب فيسجد للبقر في هذيانات يضيع الزمان بذكرها(105/71)
قال المصنف وقد ألقى إبليس إلى البراهمة ست شبهات الشبهة الأولى استبعاد اطلاع بعضهم على ما خفي عن بعض فقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم والمعنى وكيف أطلع على ما خفي عنكم وجواب هذه الشبهة أنهم لو ناطقوا العقول لأجازت اختيار شخص بشخص لخصائص يعلو بها جنسه فيصلح بتلك الخصائص لتلقف الوحي إذ ليس كل أحد يصلح لذلك وقد علم الكل أن الله سبحانه وتعالى ركب الأمزجة متفاوتة وأخرج إلى الوجود أدوية تقاوم ما يعرض من الفساد البدني فإذا أمد النبات والأحجار بخواص لإصلاح أبدان خلقت للفناء ههنا وللبقاء في دار الآخرة لم يبعد أن يخص شخصا من خلقه بالحكمة البالغة والدعاية إليه إصلاحا لمن يفسد في العالم بسوء الأخلاق والأفعال ومعلوم أن المخالفين لا يستنكرون أن يختص أقوام بالحكمة ليسكنوا فورات الطباع الشريرة بالموعظة فكيف ينكرون أمداد الباري سبحانه بعض الناس برسائل ومصالح ووصايا يصلح بها العالم ويطيب أخلاقهم ويقيم بها سياستهم وقد أشار عز وجل إلى ذلك في قوله عز وجل أكان الناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس الشبهة الثانية
قالوا هلا أرسل ملكا فإن الملائكة إليه أقرب ومن الشك فيهم أبعد والآدميون يحبون الرياسة على جنسهم فيوقع هذا شكا وجواب هذا من ثلاثة أوجه
أحدهما أن في قوى الملائكة قلب الجبال والصخور فلا يمكن إظهار معجزة تدل على صدقهم لأن المعجزة ما خرقت العادة وهذه العادة الملائكة وإنما المعجزات الظاهرة ما ظهرت على يد بشر ضعيف ليكون دليلا على صدقه
والثاني أن الجنس إلى الجنس أميل فصح أن يرسل إليهم من جنسهم لئلا ينفروا وليعقلوا عنه ثم تخصيص ذلك الجنس بما عجز عنه دليل على(105/72)
صدقه والثالث أنه ليس في قوى البشر رؤية الملك وإنما الله تعالى يقوي الأنبياء بما يرزقهم من إدراك الملائكة ولهذا قال الله تعالى " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا " أي لينظروا إليه ويأنسوا به ويفهموا عنه ثم قال " وللبسنا عليهم ما يلبسون " أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي الشبهة الثالثة
قالوا نرى ما تدعيه الأنبياء من علم الغيب والمعجزات وما يلقى إليهم من الوحي يظهر جنسه على الكهنة والسحرة فلم يبق لنا دليل نفرق به بين الصحيح والفاسد والجواب أن نقول أن الله تبارك وتعالى بين الحجج ثم بث الشبهة وكلف العقول الفرق فلا يقدر ساحر أن يحيي ميتا ولا أن يخرج من عصا حيا وأما الكاهن فقد يصيب ويخطىء بخلاف النبوة التي لا خطأ فيها بوجه الشبهة الرابعة
قالوا لا يخلوا ما أن تجيء الأنبياء بما يوافق العقل أو بما يخالفه فإن جاءوا بما يخالفه لم يقبل وإن جاءوا بما يوافقه فالعقل يغني عنه والجواب أن نقول قد ثبت أن كثيرا من الناس يعجزون عن سياسات الدنيا حتى يحتاجون إلى متمم كالحكماء والسلاطين فكيف بأمور الإلهية والأخروية الشبهة الخامسة
قالوا قد جاءت الشرائع بأشياء ينفر منها العقل فكيف يجوز أن تكون صحيحة من ذلك إيلام الحيوان والجواب أن العقل ينكر إيلام الحيوان بعضه لبعض فأما إذا حكم الخالق بالإيلام لم يبق للعقل اعتراض وبيان ذلك أن العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عليه هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه ومتى اشتبه علينا أمر في فرع لم يجز أن نحكم على الأصل بالبطلان ثم قد ظهرت حكمة ذلك فانا نعلم أن الحيوان يفضل على الجماد ثم الناطق أفضل مما ليس بناطق بما أوتي من الفهم(105/73)
والفطنة والقوى النظرية والعملية وحاجة هذا الناطق إلى إبقاء فهمه ولا يقوم في إبقاء القوى مقام اللحم شيء ولا يستطرف تناول القوي الضعيف وما فيه فائدة عظيمة لما قلت فائدته وإنما خلق الحيوان البهيم للحيوان الكريم فلو لم يذبح لكثر وضاق به المرعى ومات فيتأذى الحيوان الكريم بجيفته فلم يكن لإيجاده فائدة
وأما ألم الذبح فانه يستر وقد قيل أنه لا يوجد أصلا لأن الحساس للألم أغشية الدماغ لأن فيه الأعضاء الحساسة ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أو سكتة لم يحس الإنسان بألم فإذا قطعت الأوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إلى محل الحس ولهذا قال عليه الصلاة والسلام إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته الشبهة السادسة
قالوا ربما يكون أهل الشرائع قد ظفروا بخواص من حجارة وخشب والجواب أن هذا كلام ينبغي أن يستحي من إيراده فإنه لم يبق شيء من العقاقير والأحجار إلا وقد وضحت خواصها وبأن سترها فلو ظفر واحد منهم بشيء وأظهر خاصيته لوقع الانكار من العلماء بتلك الخواص وقالوا ليس هذا منك إنما هذه خاصية في هذا ثم إن المعجزات ليست نوعا واحدا بل هي بين صخرة خرجت منها ناقة وعصا انقلبت حية وحجر تفجر عيونا وهذا القرآن الذي له منذ نزل دون الستمائة سنة فالأسماع تدركه والأفكار تتدبره والتحدي به على الدوام ولم يقدر أحد على مداناة منه فأين هذا والخاصة والسحر والشعبذة(105/74)
قال أبو الوفاء علي بن عقيل رضي الله عنه صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والإمتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء ثم مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والاذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد ويضع السير والأخبار وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك حتى قالوا أن سطيحا قال في الخبيء الذي خبىء له حبة بر في إحليل مهر
والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه وههنا اليوم معزمون يكلمون الجني الذي في باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هذا قال بقلة عقلة وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا وليس قول الكاهن حبة بر في إحليل مهر وقد أخفيت كل الاخفاء بأكثر من قوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وهل بقي لهذا وقع في القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب اليوم وهل ترك تلمح هذا إلا النبي والله ما قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مع الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه فيصدق بها الكل ويبطل أن يكون ما جاء به الأنبياء خرقا للعادات ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بانائه إلى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هذا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين وبطريق العادات في حق المنجمين(105/75)
وبطريق الخواص في حق الطبايعين وبطريق الكهانة في حق المعزمين والعرافين فأي حكم بقي لقول عيسى عليه السلام وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وأي خرق بقي للعادات وهذا العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول فإذا نبههم العاقل المتدين على ما في هذا من الفساد قال الصوفي أتنكر كرامات الأولياء وقال أهل الخواص أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد والنعامة تبلع النار فتسكت عن جحد ما لم يكن لأجل ما
كان فويل للمحق معهم هذا والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مع أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى أن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من الله عز وجل على حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال
الكلام عن جاحدي النبوات(105/76)
ومن الهند البراهمة قوم قد حسن لهم إبليس أن يتقربوا بإحراق نفوسهم فيحفر للإنسان منهم أخدود وتجتمع الناس فيجيء مضمخا بالخلوق والطيب وتضرب المعازف والطبول والصنوج ويقولون طوبي لهذه النفس التي تعلق إلى الجنة ويقول هو ليكن هذا القربان مقبولا ويكون ثواب الجنة ثم يلقي نفسه في الأخدود فيحترق فإن هرب نابذوه ونفوه وتبرأوا منه حتى يعود ومنهم من يحمي له الصخر فلا يزال يلزم صخرة صخرة حتى يثقب جوفه ويخرج معاه فيموت ومنهم من يقف قريبا من النار إلى أن يسيل ودكه فيسقط ومنهم من يقطع من ساقه وفخذه قطعا ويلقيها إلى النار والناس يزكونه ويمدحونه ويسألون مثل مرتبته حتى يموت ومنهم من يقف في اخثاء البقر إلى ساقه ويشعل النار فيحترق ومنهم من يعبد الماء ويقول هو حياة كل شيء فيسجد له ومنهم من يجهز له أخدود قريب من الماء فيقع في الأخدود حتى إذا ألتهب قام فانغمس في الماء ثم رجع إلى الأخدود حتى يموت فإن مات وهو بينهما حزن أهله وقالوا حرم الجنة وإن مات في أحدهما شهدوا له بالجنة ومنهم من يزهق نفسه بالجوع والعطش فيسقط أولا عن المشي ثم عن الجلوس ثم ينقطع كلامه ثم تبطل حواسه ثم تبطل حركته ثم يخمد ومنهم من يهيم في الأرض حتى يموت ومنهم من يغرق نفسه في النهر ومنهم من لا يأتي النساء ولا يواري إلى العورة ولهم جبل شاهق تحته شجرة وعندها رجل بيده كتاب يقرأ فيه يقول طوبى لمن ارتقى هذا الجبل وبعج بطنه وأخرج أمعاءه بيده ومنهم من يأخذ الصخور فيرض بها جسده حتى يموت والناس يقولون طوبى لك وعندهم نهران فيخرج أقوام من عبادهم يوم عيدهم وهناك رجال فيأخذون ما على العباد من الثياب ويبطحونهم فيقطعونهم نصفين ثم يلقون أحد النصفين في نهر والنصف الآخر في نهر ويزعمون أنهما يجريان إلى الجنة(105/77)
ومنهم من يخرج إلى براح ومعه جماعة يدعون له ويهنئونه بنيته فإذا أضجر جلس وجمع له سباع الطير من كل جهة فيتجرد من ثيابه ثم يمتد والناس ينظرون إليه فتبتدره الطير فتأكله فإذا تفرقت الطير جاءت الجماعة فأخذوا عظامه وأحرقوها وتبركوا بها في أفعال طويلة قد ذكرها أبو محمد النوبختي يضيع الزمان في كتابتها والعجب أن الهند قوم تؤخذ الحكمة عنهم ويؤخذ عنهم دقائق الحكمة وتلهم دقائق الأعمال فسبحان من أعمى قلوبهم حتى قادهم إبليس هذا المقادم قال وفيهم من زعم أن الجنة ثنتان وثلاثون مرتبة وأن مكث أهل الجنة في أدنى مرتبة منها أربع مائة ألف سنة وثلاثة وثلاثون ألف سنة وستمائة وعشرون سنة وكل مرتبة أضعاف ما دونها وأن النار اثنتان وثلاثون مرتبة منها ست عشر مرتبة فيها الزمهرير وصنوف عذابه وست عشرة مرتبة فيها الحريق وصنوف عذابه
ذكر تلبيسه على اليهود(105/78)
قال المصنف قد لبس عليهم في أشياء كثيرة نذكر منها نبذة ليستدل بها على تلك فمن ذلك تشبيههم الخالق بالخلق ولو كان تشبيههم حقا لجاز عليه ما يجوز عليهم وحكى أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن اليهود تزعم أن الإله المعبود رجل من نور على كرسي من نور على رأسه تاج من نور وله أعضاء كما للآدميين ومن ذلك قولهم عزير بن الله ولو فهموا أن حقيقة البنوة لا تكون إلا بالتبعيض والخالق ليس بذي أبعاض لأنه ليس بمؤلف لم يثبتوا بنوة ثم أن الولد في معنى الوالد وقد كان عزير لا يقوم إلا بالطعام والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها والذي دعاهم إلى هذا مع جهلهم بالحقائق أنهم رأوه قد عاد بعد الموت وقرأ التوراة من حفظه فتكلموا بذلك من ظنونهم الفاسدة ويدل على أن القوم كانوا في بعد من الذهن انهم لما رأوا أثر القدرة في فرق البحر لهم ثم مروا على أصنام طلبوا مثلها فقالوا أجعل لنا آلهة كما لهم آلهة فلما زجرهم موسى عن ذلك بقي في نفوسهم فظهر المستور بعبادتهم العجل والذي حملهم على هذا شيئان أحدهما جهلهم بالخالق والثاني أنهم أرادوا ما يسكن إليه الحس لغلبة الحس عليهم وبعد العقل عنهم ولولا جهلهم بالمعبود ما اجترأوا عليه بالكلمات القبيحة كقولهم " أن الله فقير ونحن أغنياء " وقولهم " يد الله مغلولة " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا # ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا لا يجوز نسخ الشرائع وقد علموا أن من دين آدم جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل في يوم السبت ثم نسخ ذلك بشريعة موسى قالوا إذا أمر الله عز وجل بشيء كان حكمه فلا يجوز تغييره قلت قد يكون التغيير في بعض الأوقات حكمة فإن تقلب الآدمي من صحة إلى مرض ومن مرض إلى موت كله حكمة وقد حظر عليكم العمل يوم السبت وأطلق لكم العمل يوم الأحد وهذا من جنس ما أنكرتم وقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بذبح إبنه ثم نهاه عن ذلك # ومن تلبيسه عليهم أنهم قالوا " لن تمسنا النار إلا(105/79)
أياما معدودة " وهي الأيام التي عبد فيها العجل وفضائحهم كثيرة ثم حملهم إبليس على العناد المحض فجحدوا ما كان في كتابهم من صفة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيروا ذلك وقد أمروا أن يؤمنوا به ورضوا بعذاب الآخرة فعلماؤهم عاندوا وجهالهم قلدوا ثم العجب أنهم غيروا ما أمروا به وحرفواودانوا بما يريدون فأين العبودية ممن يترك الأمر
ويعمل بالهوى ثم أنهم كانوا يخالفون موسى ويعيبونه حتى قالوا أنه آدر واتهموه بقتل هارون واتهموا داود بزوجة أوريا # أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار نا الحسن بن علي الجوهري نا أبو عمر ابن حياة نا ابن معروف نا الحارث بن أبي أسامة ثنا محمد بن سعد نا علي بن محمد عن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن سالم مولى عبد الله بن مطيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس فقال أخرجوا إلي أعلمكم فخرج إليه عبد الله بن صوريا فخلا به فناشده الله بدينه وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى وظللهم به من الغمام أتعلمون أني رسول الله قال اللهم نعم وأن القوم ليعرفون ما أعرف وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكنهم حسدوك قال فما يمنعك أنت قال أكره خلاف قومي وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم # أخبرنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد قال أخبرنا الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال ثنا عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي قال ثنا يعقوب قال ثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلامة بن وقش قال كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون بعثا كائنا بعد الموت(105/80)
فقال له ويحك يا فلان أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يحزون فيها بأعمالهم قال نعم والذي يحلف به يود أحدهم أن له لحظة من تلك النار بأعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه وأن ينجو من تلك النار غدا قال له ويحك وما آية ذلك قال نبي مبعوث من نحو
هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن قالوا ومتى نراه قال فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه قال سلمة فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا فقلنا له ويلك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت قال بلى ولكن ليس به
ذكر تلبيسه على النصارى
قال المصنف تلبيسه عليهم كثير فمن ذلك أن إبليس أوهمهم أن الخالق سبحانه جوهر فقال اليعقوبية أصحاب يعقوب والملكية أهل دين الملك والنسطورية أصحاب نسطورس أن الله جوهر واحد أقانيم ثلاثة فهو واحد في الجوهرية ثلاثة في الأقنومية فأحد الأقانيم عندهم الأب والآخر الإبن والآخر روح القدس فبعضهم يقول الأقاليم خواص وبعضهم يقول صفات وبعضهم يقول أشخاص وهؤلاء قد نسوا أنه لو كان الإله جوهرا لجاز عليه ما يجوز على الجوهر من التحيز بمكان والتحرك والسكون والأوان ثم سول لبعضهم أن المسيح هو الله(105/81)
قال أبو محمد النوبختي زعمت الملكية واليعقوبية أن الذي ولدته مريم هو الإله وسول الشيطان لبعضهم أن المسيح هو ابن الله وقال بعضهم المسيح جوهر ان أحدهما قديم والآخر محدث ومع قولهم هذا في المسيح يقرون بحاجته إلى الطعام ولا يختلفون في هذا وفي أنه صلب ولم يقدر على الدفع عن نفسه ويقولون إنما فعل هذا بالناسوت فهلا دفع عن الناسوت ما فيه من اللاهوت ثم لبس عليهم أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى جحدوه بعد ذكره في الإنجيل ومن الكتابيين من يقول عن نبينا أنه نبي إلا أنه مبعوث إلى العرب خاصة وهذا تلبيس من إبليس استغفلهم فيه لأنه متى ثبت أنه نبي فالنبي لا يكذب وقد قال بعثت إلى الناس كافة وقد كتب إلى قيصر وكسرى وسائر ملوك الأعاجم ومن تلبيس إبليس على اليهود والنصارى
أنهم قالوا لا يعذبنا الله لأجل أسلافنا فمنا الأولياء والأنبياء فأخبرنا الله عز
وجل عنهم بذلك " نحن أبناء الله وأحباؤه " أي منا ابنه عزيز وعيسى وكشف هذا التلبيس إن كان شخص مطالب بحق الله عليه فلا يدفعه عنه ذو قرابته ولو تعدت المحبة شخصا إلى غيره لموضع القرابة لتعدي البعض وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لإبنته فاطمة لا أغني عنك من الله شيئا وإنما فضل المحبوب بالتقوى فمن عدمها عدم المحبة ثم أن محبة الله عز وجل للعبد ليست بشغف كمحبة الآدميين بعضهم بعضا إذ لو كانت كذلك لكان الأمر يحتمل
$ ذكر تلبيسه على الصابئين $(105/82)
# قال المصنف أصل هذه الكلمة أعني الصابئين من قولهم صبأت إذا خرجت من شيء إلى شيء وصبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ به إذا خرج والصابئون الخارجون من دين إلى دين وللعلماء في مذاهبهم عشرة أقوال # أحدها أنهم قوم بين النصارى والمجوس رواه سالم عن سعيد بن جبير وليث عن مجاهد # والثاني أنهم بين اليهود والمجوس رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد # والثالث أنهم بين اليهود والنصارى رواه القاسم بن أبي بزة عن مجاهد # والرابع أنهم صنف من النصارى ألين قولا منهم رواه أبو صالح عن ابن عباس # والخامس أنهم قوم من المشركين لا كتاب لهم رواه القاسم أيضا عن مجاهد # والسادس انهم كالمجوس قاله الحسن # والسابع أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور قاله أبو العالية(105/83)
# والثامن أنهم قوم يصلون إلى القبلة ويعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور قاله قتادة ومقاتل # والتاسع أنهم طائفة من أهل الكتاب قاله السدى # والعاشر أنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله قاله ابن زيد # قال المصنف هذه أقوال المفسرين مثل ابن عباس والقاسم والحسن وغيرهم فأما المتكلمون فقالوا مذهب الصابئين مختلف فيه فمنهم من يقول أن هناك هيولي كان لم يزل ولم يزل يصنع العالم من ذلك الهيولي وقال أكثرهم العالم ليس بمحدث وسموا الكواكب ملائكة وسماها قوم منهم آلهة وعبدوها وبنوا لها بيوت عبادات وهم يدعون أن بيت الله الحرام واحد منها وهو بيت زحل وزعم بعضهم أنه لا يوصف الله عز وجل إلا بالنفي دون الإثبات ويقال ليس بمحدث ولا موات ولا جاهل ولا عاجز قالوا لئلا يقع تشبيه ولهم تعبدات في شرائع منها أنهم زعموا أن عليهم ثلاث صلوات في كل يوم أولها ثمان ركعات وثلاث سجدات في كل ركعة وانقضاء وقتها عند طلوع الشمس والثاني خمس ركعات والثالثة كذلك وعليهم صيام شهر أوله الثمان ليال يمضين من آذار وسبعة أيام أولها النسع يبقين من كانون الأول وسبعة أيام أولها الثمان ليال يمضين من شباط ويختمون صيامهم بالصدقة والذبائح وحرموا لحم الجزور في خرافات يضيع الزمان بذكرها وزعموا أن الأرواح الخيرة تصعد إلى الكواكب الثابتة وإلى الضياء وأن الشريرة تنزل إلى أسفل الأرضيين وإلى الظلمة # وبعضهم يقول هذا العالم لا يفنى وأن الثواب والعقاب في الناسخ ومثل هذه المذاهب لا يحتاج إلى تكلف في ردها إذ هي دعاو بلا دليل وقد حسن إبليس لأقوام من الصابئين أنهم رأوا الكمال في تحصيل مناسبة بينهم وبين الروحانيات العلوية باستعمال الطهارات وقوانين ودعوات واشتغلوا بالتنجيم(105/84)
والتسخير وقالوا لا بد من متوسط بين الله وبين خلقه في تعريف المعارف والإرشاد للمصالح إلا أن ذلك المتوسط ينبغي أن يكون روحانيا لا جسمانيا قالوا فنحن نحصل لأنفسنا مناسبة قدسية بيننا وبينه فيكون ذلك وسيلة لنا إليه وهؤلاء لا ينكرون بعث الأجساد $ ذكر تلبيس إبليس على المجوس $ # قال يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي كان أول ملوك المجوس كومرث فجاءهم بدينهم ثم تتابع مدعو النبوة فيهم حتى اشتهر بها زرادشت وكانوا يقولون أن الله تعالى عن ذلك شخص روحاني ظهر فظهرت معه الأشياء روحانية تامة فقال لا يتهيأ لغيري أن يبتدع مثل هذه التي ابتدعتها فتولد من فكرته هذه ظلمة إذ كان فيها جحود لقدرة غيره فقامت الظلمة تغالبه وكان مماسنه زرادشت عبادة النار والصلاة إلى الشمس يتأولون فيها أنها ملكة العالم وهي التي تأتي بالنهار وتذهب بالليل وتحيي النبات والحيوانات وترد الحرارات إلى أجسادها # وكانوا لا يدفنون موتاهم في الأرض تعظيما له وقالوا لأن به حياة كل شيء إلا أن يستعملوا قبله بول البقر ونحوه ولا يبزقون فيه ولا يرون قتل الحيوانات ولا ذبحها وكانوا يغسلون وجوههم ببول البقر تبركا به وإذا كان عتيقا كان أكثر بركة ويستحلون فروج الأمهات قالوا الإبن أحرى بتسكين شهوة أمه وإذا مات الزوج فإبنه أولى بالمرأة فإن لم يكن له إبن اكترى رجلا من مال الميت ويجيزون للرجل أن يتزوج بمائة وألف وإذا أرادت الحائض أن تغتسل دفعت دينارا إلى الموبذ ويحملها إلى بيت النار ويقيمها على أربع وينظفها بسبابته وأظهر هذا الأمر مزدك في أيام قباذ وأباح النساء لكل من شاء ونكح نساء قباذ لتقتدي به العامة فيفعلون في النساء مثله فلما بلغ إلى أم أنو شروان قال لقباذ أخرجها إلي فإنك إن منعتني شهوتي لم يتم إيمانك فهم بإخراجها فجعل أنو شروان يبكي بين يدي مزدك ويقبل رجله بين يدي أبيه قباذ ويسأله أن يهب له أمه فقال قباذ لمزدك ألست تزعم أن المؤمن لا ينبغي أن يرد(105/85)
عن شهوته قال بلى قال فلم ترد أنو
شروان عن شهوته قال قد وهبتها له ثم أطلق الناس في اكل الميتة فلما ولى أنو شروان أفنى المزدكية هو ومن أقوال المجوس أن الأرض لا نهاية لها من أسفلها وأن السماء جلد من جلود الشياطين والرعد إنما هو حركة خرخرة العفاريت المحبوسة في الأفلاك المأسورة في حرب والجبال من عظامهم والبحر من أبوالهم ودمائهم ونبغ للمجوس رجل في زمان انتقال دولة بني أمية إلى بني العباس واستغوى خلقا وجرت له قصص يطول الأمر بذكرها فهو آخر من ظهر للمجوس وذكر بعض العلماء أنه كان للمجوس كتب يدرسونها وأنهم أحدثوا دينا فرفعت كتبهم # ومن أظرف تلبيس إبليس عليهم أنهم رأوا في الأفعال خيرا وشرا فسول لهم أن فاعل الخير لا يفعل الشر فأثبتوا إلهين وقالوا أحدهما نور حكيم لا يفعل إلا الخير والآخر شيطان هو ظلمة لا يفعل إلا الشر على نحو ما ذكرنا عن الثنوية # قال المصنف وقد سبق ذكر شبههم وجوابها وقال بعضهم الباري قديم فلا يكون منه إلا الخير والشيطان محدث فلا يكون منه إلا الشر فيقال لهم إذا أقررتم أن النور خلق الشيطان فقد خلق رأس الشر وزعم بعضهم أن الخالق هو النور ففكر فكرة رديئة فقال أخاف أن يحدث في ملكي من يضادني وكانت فكرته رديئة فحدث منها إبليس فرضي إبليس أن ينسب إلى الرداءة بعد إثبات أنه شريك وحكى النوبختي أن بعضهم قال أن الخالق شك في شيء فكان الشيطان من ذلك الشك قال وزعم بعضهم أن الإله والشيطان جسمان قديمان كان بينهما فضاء وكانت الدنيا سليمة من آفة والشيطان بمعزل عنها فاحتال إبليس حتى خرق السماء بجنوده فهرب الرب عز وجل من فعلتهم وتقدس عن قولهم فاتبعه إبليس حتى حاصره وحاربه ثلاث آلاف سنة لا هو يصل إليه ولا الرب عز وجل يدفعه ثم يصالحه على أن يكون إبليس وجنوده في الدنيا سبعة آلاف سنة ورأى الرب أن الصلاح في احتمال مكروه إبليس إلى أن ينقضي الشرط فالناس في بلايا إلى انقضائه ثم يعودون إلى النعيم وشرط(105/86)
إبليس عليه أن يمكنه من أشياء رديئة فوضعها في هذا العالم وأنهما لما فرغا من شرطهما أشهدا عدلين ودفعا سيفيهما إلى العدلين وقالا من نكث فاقتلاه في هذيانات كثيرة يضيع
الوقت لذكرها فتنكبناها لذلك ونذكر ما انتهى تلبيس إبليس إليه ما آثرنا ذكر شيء من هذا التخليط والعجب أنهم يجعلون الخالق خيرا ثم يجعلون أنه حدثت منه فكرة رديئة فعلى قولهم يجوز أن تحدث من فكرة إبليس ملك ثم يقال لهم أيجوز أن يفي الشيطان بما ضمن فإن قالوا لا قيل لهم فلا يليق بالحكمة استبقاؤه وإن قالوا نعم فقد أقروا بوجود الوفاء المحمود من الشرير وكيف أطاع الشيطان العدلين وقد عصى ربه وكيف يجوز الافتيات على الإله وهذه الخرافات لولا التفرج فيما صنعه إبليس بالعقول ما كان لذكرها فائدة ولا معنى $ ذكر تلبيس إبليس على المنجمين وأصحاب الفلك $ # قال أبو محمد النوبختي ذهب قوم إلى أن الفلك قديم لا صانع له وحكى جالينوس عن قوم أنهم قالوا زحل وحده قديم وزعم قوم أن الفلك طبيعة خالصة ليست فيها حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة وليس بخفيف ولا ثقيل وكان بعضهم يرى أن الفلك جوهر ناري وأنه أختطف من الأرض بقوة دورانه وقال بعضهم الكواكب من جسم تشابه الحجارة وقال بعضهم هي من غيم تطفأ كل يوم وتستنير بالليل مثل الفحم يشتعل وينطفيء وقال بعضهم جسم القمر مركب من نار وهوى وقال آخرون الفلك من الماء والريح والنار وأنه بمنزلة الكرة وأنه يتحرك بحركتين من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق قالوا وزحل يدور الفلك في نحو من ثلاثين سنة والمشتري في نحو من اثنتي عشرة سنة والمريخ في نحو سنتين والشمس والزهرة وعطارد في سنة والقمر في ثلاثين يوما وقال بعضهم أفلاك الكواكب سبعة فالذي يلينا فلك(105/87)
القمر ثم فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس ثم فلك المريخ ثم فلك المشتري ثم فلك زحل ثم فلك الكواكب الثابتة واختلفوا في مقادير أجرام الكواكب فقال أكثر الفلاسفة أعظمها جرما الشمس وهو نحو من مائة وست وستين مرة مثل الأرض والكواكب الثابتة مقدار كل واحد منها نحو من أربعة وتسعين مرة مثل الأرض # والمشتري نحو من اثنتين وثمانين مرة مثل الأرض والمريخ نحو من مرة ونصف مثل الأرض قالوا ومن كل موضع من أعلى الفلك إلى أن يعود إليه مائة ألف فرسخ وألف فرسخ وأربعة وستون فرسخا وقال بعضهم الفلك حي والسماء حيوان وفي كل كوكب نفس قال قدماء الفلاسفة النجوم تفعل الخير والشر وتعطي وتمنع على حسب طبائعها من السعود والنحوس وتؤثر في النفوس وأنها حية فعالة $ ذكر تلبيس إبليس على جاحدي البعث $ # قال المصنف قد لبس على خلق كثير فجحدوا البعث واستهولوا الإعادة بعد البلاء وأقام لهم شبهتين إحداهما أنه أراهم ضعف المادة والثانية اختلاط الأجزاء المتفرقة في أعماق الأرض قالوا وقد يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته وقد حكى القرآن شبهتهم فقال تعالى في الأولى " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون " # وقال في الثانية " أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد " وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية قال قائلهم # يخبرنا الرسول بأن سنحيا وكيف حياة أصداء وهام(105/88)
وقال آخر هو أبو العلاء المعري # حياة ثم موت ثم بعث % حديث خرافة يا أم عمرو # والجواب عن شبهتهم الأولى أن ضعف المادة في الثاني وهو التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة ثم أصل الآدميين وهو آدم من تراب على أن الله سبحانه تعالى لم يخلق شيئا مستحسنا إلا من مادة سخيفة فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة # فالنظر ينبغي أن يكون إلى قوة الفاعل وقدرته لا إلى ضعف المواد وبالنظر إلى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية ثم قد أرانا كالأنموذج في جمع التمزق فان سحالة الذهب المتفرقة في التراب الكثير إذا ألقى عليها قليل من زئبق أجتمع الذهب مع تبدده فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء على أنا لو قدرنا أن نحيل هذا التراب ما استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه فانه ينحل ويسمن ويهزل ويتغير من صغر إلى كبر وهو هو ومن أعجب الأدلة على البعث أن الله عز وجل قد أظهر على يدي أنبيائه ما هو أعظم من البعث وهو قلب العصا حية حيوانا وأخرج ناقة من صخرة وأظهر حقيقة البعث على يدي عيسى صلوات الله وسلامه عليه قال المصنف وقد زدنا هذا شرحا في الرد على الفلاسفة مبدأ عبادة الأصنام # وقد لبس إبليس على أقوام شاهدوا قدرة الخالق سبحانه وتعالى ثم اعترضت لهم الشبهتان اللتان ذكرناهما فترددوا في البعث فقال قائلهم " ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " وقال العاص بن وائل " لأوتين مالا "(105/89)
" وولدا " وإنما قالوا هذا لموضع شكهم وقد لبس إبليس عليهم في ذلك فقالوا إن كان بعث فنحن على خير لأن من أنعم علينا في الدنيا بالمال لا يمنعناه في الآخرة # قال المصنف وهذا غلط منهم لأنه لم لا يجوز أن يكون الإعطاء استدراجا أو عقوبة والإنسان قد يحمي ولده ويطلق في الشهوات عبده $ ذكر تلبيسه على القائلين بالتناسخ $ # قال المصنف وقد لبس إبليس على أقوام فقالوا بالتناسخ وأن أرواح أهل الخير إذا خرجت دخلت في أبدان خيرة فاستراحت وأرواح أهل الشر إذا خرجت تدخل في أبدان شريرة فيتحمل عليها المشاق وهذا المذهب ظهر في زمان فرعون موسى وذكر أبو القاسم البلخي أن أرباب التناسخ لما رأوا ألم الأطفال والسباع والبهائم استحال عندهم أن يكون ألمها يمتحن به غيرها أو ليتعوض أولا لمعنى أكثر من أنها مملوكة فصح عندهم أن ذلك لذنوب سلفت منها قبل تلك الحال وذكر يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي أن الهند يقولون الطبائع أربع هيولي مركبة ونفس وعقل وهيولي مرسلة # فالمركبة هي الرب الأصغر والنفس هي الهيولي الأصغر والعقل الرب الأكبر والهيولي هو أيضا أكبر وأن الأنفس إذا فارقت الدنيا صارت إلى الرب الأصغر وهو الهيولي المركبة فإن كانت محسنة صافية قبلها في طبعه فصفاها حتى يخرجها إلى الهيولي الأصغر وهو النفس حتى تصير إلى الرب الأكبر فيتخلصه إلى الهيولي المركب الأكبر فإن كان محسنا تام الإحسان أقام عنده في العالم البسيط وإن كان محسنا غير تام أعاه إلى الرب الأكبر ثم يعيده الرب الأكبر إلى الهيولي الأصغر ثم يعيده الهيولي الأصغر إلى الرب الأصغر فيخرجه مازحا لشعاع الشمس حتى ينتهي إلى بقلة خسيسة يأكلها الإنسان فيتحول إنسانا ويولد ثانية في العالم وهكذا تكون حاله في كل موتة يموتها(105/90)
# وأما المسيئون فإنهم إذا بلغت نفوسهم إلى الهيولي الأصغر انعكست فصارت حشائش تأكلها البهائم فتصير الروح في بهيمة ثم تنسخ من بهيمة في أخرى عند موت تلك البهيمة فلا يزال منسوخا مترددا في العلل ويعود كل ألف سنة إلى صورة الأنس فإن أحسن في صورة الأنس لحق بالمحسنين # قال المصنف قلت فأنظر إلى هذه التلبيسات التي رتبها لهم إبليس على ما عن له لا يستند إلى شي أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزار قال أنبأنا علي بن المحسن عن أبيه قال حدثني أبو الحسن علي بن نظيف المتكلم قال كان يحضر معنا ببغداد شيخ الامامية يعرف بأبي بكر بن الفلاس فحدثنا أنه دخل على بعض من كان يعرفه بالتشيع # ثم صار يقول بمذهب التناسخ قال فوجدته بين يديه سنور أسود وهو يمسحها ويحك بين عينيها ورأيتها وعينها تدمع كما جرت عادة السنانير بذلك وهو يبكي بكاءا شديدا فقلت له لم تبك فقال ويحك أما ترى هذه السنور تبكي كلما مسحتها هذه أمي لا شك وإنما تبكي من رؤيتها إلي حسرة قال وأخذ يخاطبها خطاب من عنده أنها تفهم منه وجعلت السنور تصيح قليلا قليلا فقلت له فهي تفهم عنك ما تخاطبها به فقال نعم فقلت أتفهم أنت صياحها قال لا قلت فأنت المنسوخ وهي الإنسان $ ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات $ # قال المصنف دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين أحدهما التقليد للآباء والأسلاف والثاني الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط فأما الطريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس(105/91)
فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا وكذلك أهل الجاهلية واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفىوجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال # وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم المعنى أتتبعونهم وقد قال عز وجل " أنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون " # قال المصنف أعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضىء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحرث بن حوط وقد قال له أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل فقال له يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهله وكان أحمد بن حنبل يقول من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلا ولهذا أخذ أحمد بن حنبل يقول زيد في الجد وترك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن قال قائل فالعوام لا يعرفون الدليل فكيف لا يقلدون فالجواب إن دليل الاعتقاد ظاهر على ما أشرنا إليه في ذكر الدهرية ومثل ذلك لا يخفى على عاقل وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها واعتاص على العامي عرفانها وقرب لها أمر الخطأ فيها كان أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر ونظر إلا أن اجتهاد العامي في اختيار من يقلده(105/92)
# قال المصنف وأما الطريق الثاني فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز فساقهم إلى مذهب الفلاسفة ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه فيقال لهؤلاء بالحواس علمتم صحة قولكم فإن قالوا نعم كابروا لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف وإن قالوا بغير الحواس ناقضوا قولهم ومنهم من نفره إبليس عن التقليد وحسن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد # ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمه الله لان يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام قال وإذا سمعت الرجل يقول الإسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له قال وحكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب كلام أبدا علماء الكلام زنادقة # قال المصنف قلت وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها وقال جهم بن صفوان علم الله وقدرته وحياته محدثة وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال إن الله عز وجل ليس بشيء # وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين المعدوم شيء(105/93)
وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود وحكى القاضي أبو يعلى في كتاب المقتبس قال قال لي العلاف المعتزلي لنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أمر لا يوصف الله بالقدرة على دفعه ولا تصح الرغبة حينئذ إليه ولا الرهبة منه لأنه لا يقدر إذ ذاك على خير ولا شر ولا نفع ولا ضر قال ويبقى أهل الجنة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة ولا يتحركون ولا يقدرون هم ولا ربهم على فعل شيء من ذلك لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر تنتهي إليه لا يكون بعده شيء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا # قال المصنف قلت وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي في كتاب المقالات إن أبا الهذيل إسمه محمد بن الهذيل العلاف وهو من أهل البصرة من عبد القيس مولى لهم وانفرد بأن قال أهل الجنة تنقضي حركاتهم فيصيرون إلى سكون دائم وإن لما يقدر الله عليه نهاية لو خرج إلى الفعل ولن يخرج استحال أن يوصف الله عز وجل بالقدرة على غيره وكان يقول إن علم الله هو الله وإن قدرة الله هي الله # وقال أبو هاشم من تاب عن كل شيء إلا أنه شرب جرعة من خمر فإنه يعذب عذاب أهل الكفر أبدا وقال النظام إن الله عز وجل لا يقدر على شيء من الشر وإن إبليس يقدر على الخير والشر وقال هشام القوطي أن الله لا يوصف بأنه عالم لم يزل وقال بعض المعتزلة يجوز على الله سبحانه وتعالى الكذب إلا أنه لم يقع منه وقالت المجيرة لا قدر للآدمي بل هو كالجماد مسلوب الإختيار والفعل وقالت المرجئة إن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار قال ابن عقيل ما أشبه أن يكون واضع الأرجاء زنديقا فإن صلاح العالم باثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فالمرجئة لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور(105/94)
الناس ومخالفة العقل أسقطوا فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدموا سياسة الشرع فهم شر طائفة على الإسلام # قال المصنف قلت وتبع أبو عبد الله بن كرام فاختار من المذاهب أردأها ومن الأحاديث أضعفها ومال إلى التشبيه وأجاز حلول الحوادث في ذات الباري سبحانه وتعالى وقال إن الله لا يقدر على إعادة الأجسام والجواهر إنما يقدر على ابتدائها قالت السالمية إن الله عز وجل يتجلى يوم القيامة لكل شيء في معنا فيراه الآدمي آدميا والجني جنيا وقالوا الله سر لو أظهره لبطل التدبير # قال المصنف قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة من رتبوه وهؤلاء على خطأ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين ودرجة الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك وقد ورد ذم الكلام على ما قد أشرنا إليه وقد نقل إلينا أقلاع منطقي المتكلمين عما كانوا عليه لما رأوا من قبح غوائله # فأخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا أبو منصور محمد بن عيسى بن العزيز البزار ثنا صالح الوفاة بن أحمد بن محمد الحافظ ثنا أحمد بن عبيد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعت قال سمعت أحمد بن سنان قال كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي فلما حضرته الوفاة قال لبنيه تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني قالوا لا قال فتتهمونني قالوا لا قال فإني أوصيكم أتقبلون قالوا نعم قال عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم وكان أبو المعالي الجويني يقول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين(105/95)
العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني وكان يقول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به # وقال أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه أنا أقطع ان الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت قال وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي أنفرد بها ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور قال وقد بالغت في الأول طول عمري ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب وإنما قالوا إن مذهب العجائز أسلم لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من التعليلات والتأويلات فوقفوا مع مراسم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم # وبيان هذا أن نقول أحب أن يعرف أراد أن يذكر فيقول قائل هل شغف باتصال النفع هل دعاه داع إلى إفاضة الإحسان ومعلوم أن للداعي عوارض على الذات وتطلبات من النفس وما تعقل ذلك إلا الذات يدخل عليها داخل من شوق إلى تحصيل ما لم يكن لها وهي إليه محتاجة فإذا وجد ذلك العرض سكن الشغف وفتر الداعي وذلك الحاصل يسمى غني والقديم لم يزل موصوفا بالغني منعوتا بالاستقلال بذاته الغنية عن استزادة أو عارض ثم إذا نظرنا في إنعامه رأيناه مشحونا بالنقص والآلام وأذى الحيوانات فإذا رام العقل أن يعلل بالإنعام جاء تحقيق النظر فرأى أن الفاعل قادر على الصفاء ولا صفاء ورآه منزها بأدلة العقل عن البخل الموجب لمنع ما يقدر على تحصيله وعن العجز عن دفع ما يعرض لهذه الموجودات من الفساد فإذا عجز عن التعليل كان التسليم أولى وإنما دخل(105/96)
الفساد من أن الخلق اقتضاؤه الفوائد ودفع المضار على مقتضى قدرته ولو مزجوا في ذلك العلم بأنه الحكيم لاقتضت نفوسهم له التسليم
بحسب حكمته فعاشوا في بحبوحة التفويض بلا اعتراض تلبيس إبليس على امتنا في العقائد # وقد وقف أقوام مع الظواهر فحملوها على مقتضى الحس فقال بعضهم إن الله جسم تعالى الله عن ذلك وهذا مذهب هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن الخليل ويونس بن عبد الرحمن # ثم اختلفوا فقال بعضهم جسم كالأجسام ومنهم من قال لا كالأجسام ثم اختلفوا فمنهم من قال هو نور ومنهم من قال هو على هيئة السبيكة البيضاء هكذا كان يقول هشام بن الحكم وكان يقول إن إله سبعة أشبار بشبر نفسه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأنه يرى ما تحت الثرى بشعاع متصل منه بالمرئي قلت ما أعجب إلا من حدة سبعة أشبار حتى علمت أنه جعله كالأدميين والآدمي طوله سبعة أشبار بشبر نفسه وذكر أبو محمد النوبختي عن الجاحظ عن النظام أن هشام بن عبد الحكم قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبودة أشبر نفسه سبعة أشبار فان قوما قالوا أنه على هيئة السبيكة وأن قوما قالوا هو على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وقال هشام هو متناهي الذات حتى قال إن الجبل أكبر منه قال وله ماهية يعلمها هو # قال المصنف وهذا يلزمه أن يكون له كيفية أيضا وذلك ينقض القول بالتوحيد وقد استقرأه الماهية لا تكون إلا لمن كان ذا جنس وله نظائر فيحتاج أن يفرد منها ويبان عنها والحق سبحانه ليس بذي جنس ولا مثل له ولا يجوز أن يوصف بأن ذاته أرادته ومتناهية لا على معنى أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية إنما المراد أنه ليس بجسم ولا جوهر فتلزمه النهاية قال النوبختي وقد حكى كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد وداود الحواري يقولون إن لله صورة وأعضاء # قال المصنف أترى هؤلاء كيف يثبتون له القدم دون الآدميين(105/97)
ولم لا
يجوز عليه عندهم ما يجوز على الآدميين من مرض أو تلف ثم يقال لكل من ادعى التجسيم بأي دليل أثبت حدث الأجسام فيدلك بذلك على أن الاله هو الذي اعتقدته جسما محدثا غير قديم ومن قول المجسمة ان الله عز وجل يجوز أن يمس ويلمس فيقال له فيجوز على قولكم أن يمس ويلمس ويعانق وقال بعضهم أنه جسم هو فضاء والأجسام كلها فيه وكان بيان بن سمعان يزعم أن معبوده نور كله وأنه على صورة رجل وأنه يهلك جميع أعضائه إلا وجهه فقتله خالد بن عبد الله وكان المغيرة بن سعد العجلي يزعم أن معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور وله أعضاء وقلب تنبع منه الحكمة وأعضاؤه على صورة حروف الهجاء # وكان هذا يقول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وكان زرارة ابن أعين يقول لم يكن الباري قادرا حيا عالما في الأزل حتى خلق لنفسه هذه الصفات تعالى الله عن ذلك وقال داود الحوارى هو جسم لحم ودم وله جوارح وأعضاء وهو أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك ومن الواقفين مع الحس أقوام قالوا هو على العرش بذاته على وجه المماسة فإذا نزل انتقل وتحرك وجعلوا لذاته نهاية وهؤلاء قد أوجبوا عليه المساحة والمقدار واستدلوا على أنه على العرش بذاته بقول النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الله إلى سماء الدنيا قالوا ولا ينزل إلا من هو فوق # وهؤلاء حملوا نزوله على الأمر الحسي الذي يوصف به الأجسام وهؤلاء المشبهة الذين حملوا الصفات على مقتضى الحس وقد ذكرنا جمهور كلامهم في كتابنا المسمى بمنهاج الوصول إلى علم الأصول وربما تخيل بعض المشبهة في رؤية الحق يوم القيامة لما يراه في الأشخاص فيمثله شخصا يزيد حسنه على كل حسن فتراه يتنفس من الشقوق إليه ويمثل الزيادة فيزداد توقع ويتصور رفع الحجاب فيقلق ويتذكر الرؤية فيغشى عليه ويسمع في الحديث أنه يدني عبده المؤمن إليه فيخايل القرب الذاتي كما يجالس الجنس وهذا كله جهل بالموصوف ومن الناس من يقول لله وجه هو صفة زائدة(105/98)
على صفة ذاته لقوله عز وجل ويبقى وجه ربك وله يد وله أصبع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع السموات على
أصبع وله قدم إلى غير ذلك مما تضمنته الأخبار وهذا كله إنما استخرجوه من مفهوم الحس وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها وما يؤمن هؤلاء أن يكون المراد بالوجه الذات لا أنه صفة زائدة وعلى هذا فسر الآية المحققون فقالوا ويبقى ربك وقالوا في قوله يريدون وجهه يريدونه وما يؤمنهم أن يكون أراد بقوله قلوب العباد بين إصبعين ان الأصبع لما كانت هي المقبلة للشيء وأن ما بين الإصبعين يتصرف فيه صاحبها كيف شاء ذكر ذلك لا أن ثم صفة زائدة # قال المصنف والذي أراه السكوت على هذا التفسير أيضا إلا أنه يجوز أن يكون مرادا ولا يجوز أن يكون ثم ذات تقبل التجزىء والإنقسام ومن أعجب أحوال الظاهرية قول السالمية أن الميت يأكل في القبر ويشرب وينكح لأنهم سمعوا بنعيم ولم يعرفوا من النعيم إلا هذا ولو قنعوا بما ورد في الآثار من أن أرواح المؤمنين وتجعل في حواصل طير تأكل من شجر الجنة لسلموا لكنهم أضافوا ذلك إلى الجسد # قال ابن عقيل ولهذا المذهب مرض يضاهي الإستشعار الواقع للجاهلية وما كانوا يقولونه في الهام والصدا والمكالمة لهؤلاء ينبغي أن تكون على سبيل المداراة لاستشعارهم لا على وجه المناظرة فإن المقاومة تفسدهم وإنما لبس إبليس على هؤلاء لتركهم البحث عن التأويل المطابق لأدلة الشرع والعقل فإنه لما ورد النعيم والعذاب للميت علم أن الإضافة حصلت إلى الأجساد والقبور تعريفا كأنه يقول صاحب هذا القبر الروح التي كانت في هذا الجسد منعمة بنعيم الجنة معذبة بعذاب النار # قال المصنف فان قال قائل قد عبت طريق المقلدين في الأصول وطريق المتكلمين فما الطريق السليم من تلبيس إبليس فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق(105/99)
سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه وأن القرآن كلام الله غير مخلوق قال علي كرم الله وجهه والله ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن وأنه المسموع قوله عز وجل " حتى يسمع كلام الله " وأنه في المصاحف لقوله عز وجل " في رق منشور " ولا نتعدى مضمون الآيات ولا نتكلم في ذلك برأينا وقد كان أحمد بن حنبل ينهي أن يقول الرجل لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق لئلا يخرج عن الاتباع للسلف إلى حدث # والعجب ممن يدعي اتباع هذا الإمام ثم يتكلم في المسائل المحدثة أخبرنا سعد الله بن علي البزار نا أبو بكر الطريثيثي نا هبة الله بن الحسن الطبري نا أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه نا عمر بن أحمد الواعظ ثنا محمد بن هرون الحضرمي ثنا القاسم بن العباس الشيباني ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر وقال مالك بن أنس من قال القرآن مخلوق فيستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه # أخبرنا أبو البركات بن علي البزار نا أحمد بن علي الطريثي نا هبة الله الطبري ثنا محمد بن أحمد القاسم ثنا أحمد بن عثمان ثنا محمد بن ماهان ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل وسأله عن الأهواء فقال عليك بدين الصبي في الكتاب والإعرابي وإله عما سواهما قال ابن مهدي وثنا عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي قال قال عمر بن عبد العزيز إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة(105/100)
أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن احمد نا أبو نعيم الحافظ ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا خلاد بن يحيى عن سفيان الثوري قال بلغني عن عمر أنه كتب إلى بعض عماله أوصيك بتقوى الله عز وجل واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعده بما قد كفوا مؤنته واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق فإن السابقين الماضين عن علم توقفوا وتبصر ناقد قد كفوا وفي رواية أخرى عن عمر وأنهم كانوا على كشف الأمور أقوى وما أحدث إي من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم لقد قصر دونهم أقوام فخفوه وطمح عنهم آخرون فعلوه # أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا أحمد بن احمد نا أحمد بن عبد الله الحافظ ثنا سليمان بن أحمد ثنا بشر بن موسى ثنا عبد الصمد بن حسان قال سمعت سفيان الثوري يقول عليكم بما عليه الحمالون والنساء في البيوت والصبيان في الكتاب من الإقراء والعمل # قال المصنف فإن قال قائل هذا مقام حجر لا مقام الرجال فقد أسلفنا جواب هذا وقلنا إن الوقوف على العمل ضرورة لأن بلوغ ما يشفي العقل من التعليل لم يدركه من عاص من المتكلمين في البحار فلذلك أمروا بالوقوف على الساحل كما ذكرنا عنهم $ ذكر تلبيس إبليس على الخوارج $ # قال المصنف أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا محمد بن فضيل ثنا عمارة بن القعقاع عن ابن أبي يعمر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال بعث علي رضي الله عنه من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهبه في أديم مقروظ لم تخلص من ترابها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة بين زيد الخيل(105/101)
والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء ثم أتاه رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتىء الجبهة كث اللحية مشمر الأزار محلوق الرأس فقال اتق الله يا رسول الله فرفع رأسه إليه فقال ويحك أليس أحق الناس أن يتقي الله أنا ثم أدبر فقال خالد يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله يصلي فقال أنه رب مصل يقور بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إني لم أؤمر أن أنقبل عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقف فقال أنه سيخرج من ضئضىء هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية # قال المصنف هذا الرجل يقال له ذو الخويصرة التميمي وفي لفظ أنه قال له إعدل فقال ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها وقال تبعثون منكم رجلا ونبعث منا رجلا ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله عز وجل فقال الناس قد رضينا فبعثوا عمرو بن العاص فقال أصحاب علي أبعث أبا موسى فقال علي لا أرى أن أولي أبا موسى هذا ابن عباس قالوا لا يزيد رجلا منك فبعث أبا موسى وأخر القضاء إلى رمضان فقال عروة بن أذينة تحكمون في أمر الله الرجال(105/102)
لا حكيم إلا الله ورجع علي من صفين فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج فأتوا حروراء فنزل بها منهم إثنا عشر ألفا وقالوا لا حكم إلا لله وكان ذلك أول ظهورهم ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بن ربعي التميمي وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهذا مرض صعب # أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا محمد بن هبة الله الطبري نا محمد بن الحسين بن الفضل نا عبد الله بن جعفر بن درستويه نا يعقوب بن سفيان ثني موسى بن مسعود ثنا عكرمة بن عمار عن سماك بن رميل قال قال عبد الله بن عباس إنه لما إعتزلت الخوارج دخلوا دارا وهم ستة آلاف وأجمعوا على أن يخرجوا على علي بن أبي طالب فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك فيقول دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون فلما كان ذات يوم أتيته صلاة الظهر فقلت له يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم فقال إني أخاف عليك فقلت كلا وكنت رجلا حسن الخلق لا أؤذي أحدا فأذن لي فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن وترجلت فدخلت عليهم نصف النهار فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم إجتهادا جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن الإبل وعليهم قمص مرحضة مشمرين مسهمة وجوههم من السهر فسلمت عليهم فقالوا مرحبا بابن عباس ما جاء بك فقلت أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار ومن عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم فقالت طائفة منهم لا تخاصموا قريشا فإن الله عز وجل يقول " بل هم قوم خصمون " فقال إثنان أو ثلاثة لنكلمنه فقلت هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وعليهم نزل القرآن وليس فيكم منهم أحد وهو أعلم(105/103)
بتأويله قالوا ثلاثا قلت هاتوا قالوا أما أحداهن فانه حكم الرجال في أمر الله وقد قال الله عز وجل " إن الحكم إلا لله " فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل فقلت هذه واحدة وماذا قالوا وأما الثانية فانه قاتل وقتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا مؤمنين فلم حل لنا قتالهم وقتلهم ولم يحل لنا سبيهم قلت وما الثالثة قالوا فإنه محا عن نفسه أمير المؤمنين فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فانه لأمير الكافرين قلت هل عندكم غير هذا قالوا كفانا هذا قلت لهم أما قولكم حكم لرجال في أمر الله أنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض هذا فاذا نقض قولكم أترجعون قالوا نعم قلت فإن الله قد صير من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثمن أرنب وتلى هذه الآية " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إلى آخر الآية وفي المرأة وزوجها " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " إلى آخر الآية فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وفي حقن دمائهم أفضل أم حكمهم في أرنب وبضع امرأة فأيهما ترون أفضل قالوا بل هذه قلت خرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم فتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها فوالله لئن قلتم ليست بأمنا لقد خرجتم من الإسلام ووالله لئن قلتم لنسبينها ونستحل منها ما نستحل من غيرها لقد خرجتم من الإسلام فأنتم بين ضلالتين لأن الله عز وجل قال " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " أخرجت من هذه قالوا نعم قلت وأما قولكم محا عن نفسه أمير المؤمنين فأنا آيتكم بمن ترضون أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو فقال لعلي رضي الله عنه أكتب لهم كتابا فكتب لهم علي هذا ما اصطلح عليه محمد(105/104)
رسول الله فقال المشركون والله ما نعلم انك رسول الله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم اللهم إنك تعلم أني رسول الله امح يا علي اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه قال فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فقتلوا اخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت نا ولاد بن علي الكوفي نا محمد بن علي بن دحم الشيباني ثنا أحمد بن حازم ثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني ابن أبي ليلى ثنا سعيد بن جثيم عن القعقاع بن عمارة عن ابي الخليل عن أبي الشائعة عن جندب الأزدي قال لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال فانتهينا إلى معسكرهم فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن # قال المصنف وفي رواية أخرى أن عليا رضي الله عنه لما حكم أتاه من الخوارج زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فدخلا عليه فقالا له لا حكم إلا الله فقال علي لا حكم إلا لله فقال له حرقوص تب من خطيئتك وارجع عن قضيتنا وأخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا ولئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل لأقاتلنك أطلب بذلك وجه الله واجتمعت الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينسبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا التي إيثارها عناء آثر عنده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق فأخرجوا بنا # فكتب إليهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أما بعد فإن هذين الرجلين اللذين ارتضيا حكمين فقد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما ونحن على الأمر الأول فكتبوا إليك إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد بذناك على سواء والسلام ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب فقالوا هل سمعت من أبيك حديثا تحدثه(105/105)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه قال نعم سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من
الماشي والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول قالوا أنت سمعت هذا من أبيك تحدثه عن رسول الله قال نعم فقدموه إلى شفير النهر فضربوا عنقه فسال دمه كأنه شراك نعل وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها وكانت حبلى ونزلوا تحت نخل مواقير بنهروان فسقطت رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه فقال أحدهم أخذتها بغير حدها وبغير ثمنها فلفظها من فيه واخترط أحدهم سيفه فأخذ يهزه فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه به يجربه فيه فقالوا هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه قال فبعث إليهم علي رضي الله عنه أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتلة فناداهم ثلاثا كل ذلك يقولون هذا القول فقال علي رضي الله عنه لأصحابه دونكم القوم فما لبثوا أن قتلوهم وكان وقت القتال يقول بعضهم لبعض تهيأ للقاء الرب الرواح الرواح إلى الجنة وخرج على علي رضي الله عنه بعدهم جماعة منهم فبعث إليهم من قاتلهم ثم اجتمع عبد الرحمن بن ملجم بأصحابه وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا والله ما قنعنا بالبقاء في الدنيا شيء بعد إخواننا الذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم فلوا أنا شرينا أنفسنا لله والتمسنا غير هؤلاء الأئمة الضلال فثأرنا بهم إخواننا وأرحنا منهم العباد # أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزار نا أبو محمد الجوهري نا ابن حياة نا أبو الحسن بن معروف نا الحسين بن الفهم نا محمد بن سعد عن أشياخ له فقالوا انتدب ثلاثة نفر من الخوارج عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو ابن بكر التميمي فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا لنقتلن هؤلاء الثلاثة عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ونريح العباد منهم فقال ابن ملجم أنا لكم بعلي وقال البرك أنا لكم بمعاوية وقال(105/106)
عمر وأنا لكم بعمرو فتواثقوا إلا ينقض رجل منهم رجلا عن صاحبه فقدم ابن ملجم الكوفة فلما كانت الليلة التي عزم على قتل علي رضي الله عنه فيها خرج علي رضي الله عنه لصلاة الصبح فضربه فأصاب
جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه فقال علي رضي الله عنه لا يفوتنكم الرجل فأخذ فقالت أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين بأس قال فلم تبكين إذن ثم قال والله لقد سمعته يعني فإن أخلفني فأبعده الله وأسحقه # فلما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم ليقتل فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم في عينيه بمسمار محمى فلم يجزع فجعل يقرأ " إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق " حتى ختمها وإن عينيه لتسيلان فعولج على قطع لسانه فجزع فقيل له لم تجزع فقال أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله وكان رجلا أسمر في جبهته أثر السجود لعنة الله عليه # قال المصنف قلت ولما أراد الحسن رضي الله عنه أن يصالح معاوية خرج عليه من الخوارج الجراح بن سنان وقال أشركت كما أشرك أبوك ثم طعنه في أصل فخذه وما زالت الخوارج تخرج على الأمراء ولهم مذاهب مختلفة وكان أصحاب نافع بن الأزرق يقولون نحن مشركون ما دمنا في دار الشرك فإذا خرجنا فنحن مسلمون قالوا ومخالفونا في المذهب مشركون ومرتكبوا الكبائر مشركون والقاعدون عن موافقتنا في القتال كفرة وأباح هؤلاء قتل النساء والصبيان من المسلمين وحكموا عليهم بالشرك وكان تجدة بن عامر الثقفي من القوم فخالف نافع بن الأزرق وقال بتحريم دماء المسلمين وأموالهم وزعم أن أصحاب الذنوب من موافقيه يعذبون في غير نار جهنم وأن جهنم لا يعذب بها إلا مخالفوه في مذهبه وقال إبراهيم الخوارج قوم كفار وتحل لنا مناكحتهم وموارثتهم كما كان الناس في بدء الإسلام وكان بعضهم يقول لو أن رجلا أكل من مال يتيم فليس وجبت له النار لأن الله عز وجل أوعد على ذلك النار # قال المصنف ولهم قصص تطول ومذاهب عجيبة لهم لم أر(105/107)
التطويل بذكرها وإنما المقصود النظر في حيل إبليس وتلبيسه على هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم واعتقدوا أن عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه على الخطأ ومن
معه من المهاجرين والأنصار على الخطأ وأنهم على الصواب واستحلوا دماء الأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها وتعبوا في العبادات وسهروا وجزع ابن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر واستحل قتل علي كرم الله وجهه # ثم شهروا السيوف على المسلمين ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه فقد قال ذو الخويصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل فما عدلت وما كان إبليس ليهتدي إلى هذه المخازي نعوذ بالله من الخذلان # أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب نا أبو بكر بن ملك ثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل ثني أبي قال قرأت على عبد الرحمن بن ملك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم فيكم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية أخرجاه في الصحيحين # أخبرنا سعد الله بن علي نا أبو بكر الطريثيثى ثنا هبة الله بن الحسن الطبري نا أحمد بن عبيد ثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا أحمد بن سنان ثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن الأعمش عن عبد الله بن أبي أوفى وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخوارج كلاب أهل النار رأي الخوارج # قال المصنف ومن رأي الخوارج أنه لا تختص الامامة بشخص إلا أن يجتمع فيه العلم والزهد فإذا اجتمعا كان إماما نبطيا ومن رأى هؤلاء أحدث(105/108)
المعتزلة في التحسين والتقبيح إلى العقل وأن العدل ما يقتضيه ثم حدث القدرية في زمن الصحابة وصار معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم إلى القول بالقدر ونسج على منوال معبد الجهني واصل بن عطاء وانضم إليه عمرو بن عبيد وفي ذلك الزمان حدثت سنة المرجئة حين قالوا لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة # ثم طالعت المعتزلة مثل أبي الهذيل العلاف والنظام ومعمر والجاحظ كتب الفلاسفة في زمان المأمون واستخرجوا منها ما خلطوه بأوضاع الشرع مثل لفظ الجوهر والعرض والزمان والمكان والكون وأول مسألة اظهروها القول بخلق القرآن وحينئذ سمي هذا الفصل فصل علم الكلام وتلت هذه المسألة مسائل الصفات مثل العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر فقال قوم هي معاني زائدة على الذات ونفتها المعتزلة وقالوا عالم لذاته قادر لذاته وكان أبو الحسن الأشعري على مذهب الجبائي ثم انفرد عنه إلى مثبتي الصفات ثم أخذ بعض مثبتي الصفات في اعتقاد التشبيه وإثبات الانتقال في النزول والله الهادي لما يشاء $ ذكر تلبيسه على الرافضة $ # قال المصنف وكما لبس إبليس على هؤلاء الخوارج حتى قاتلوا علي بن أبي طالب حمل آخرين على الغلو في حبه فزادوه على الحد فمنهم من كان يقول هو الآله ومنهم من يقول هو خير من الأنبياء ومنهم من حمله على سب أبي بكر وعمر حتى إن بعضهم كفر أبا بكر وعمر إلى غير ذلك من المذاهب السخيفة التي يرغب عن تضييع الزمان بذكرها وإنما نشير إلى بعضها # أخبرنا عبد الرحمن بن محمد نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال حدث(105/109)
أبو يعقوب إسحاق بن محمد النخعي عن عبيد الله بن محمد بن عائشة وأبي عثمان المازني وغيرهما وسمعت عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي يقول إسحاق بن محمد النخعي الأحمر كان يقول إن عليا هو الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وبالمدائن جماعة من الغلاة يعرفون بالاسحاقية ينسبون إليه قال الخطيب ووقع إلي كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من تصنيفه في الرد على الغلاة وكان النوبختي هذا من متكلمي الشيعة الأمامية فذكر أصناف مقالات الغلاة إلى أن قال وقد كان ممن جرد الجنون في الغلو في عصرنا إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر كان يزعم أن عليا هو الله عز وجل وأنه يظهر في كل وقت فهو الحسن في وقت وكذلك هو الحسين وهو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم # قال المصنف قلت وقد اعتقد جماعة من الرافضة أن أبا بكر وعمر كانا كافرين وقال بعضهم ارتدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول بالتبرىء من غير علي وقد روينا أن الشيعة طالبت زيد بن علي بالتبرىء ممن خالف عليا في إمامته فامتنع من ذلك فرفضوه فسموا الرافضة ومنهم طائفة يقال لها الجناحية وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين يقولون إن روح الإله دارت في أصلاب الأنبياء والأولياء إلى أن انتهى إلى عبد الله وأنه لم يمت وهو المنتظر ومنهم طائفة يقال لها الغرابية يثبتون شركة علي في النبوة وطائفة يقال لها المفوضة يقولون إن الله عز وجل خلق محمدا ثم فوض خلق العالم إليه # وطائفة يقال لها الذمامية يذمون جبريل ويقولون كان مأمورا بالنزول على علي فنزل على محمد ومنهم من يقول أن أبا بكر ظلم فاطمة ميراثها وقد روينا عن السفاح أنه خطب يوما فقام رجل من آل علي رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أعدني على من ظلمني قال ومن ظلمك قال أنا من أولاد علي رضي الله عنه والذي ظلمني أبو بكر رضي الله عنه حين أخذ فدك من فاطمة قال ودام(105/110)
على ظلمكم قال نعم قال ومن قال بعده قال عمر رضي الله عنه قال ودام على ظلمكم قال نعم ومن قام بعده قال عثمان رضي الله عنه قال ودام على ظلمكم قال نعم قال ومن قام بعده فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانا يهرب إليه # قال ابن عقيل الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله فإذا قال قائل أنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفى فان الإعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم فإذا قالت الرافضة أن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم # فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذو العقول ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الإعتقادات وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل وهو المعجزات فهذا من أعظم المحن على الشريعة # قال المصنف وغلو الرافضة في حب علي رضي الله عنه حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه وقد ذكرت منها جملة في كتاب الموضوعات منها أن الشمس غابت ففاتت عليا صلاة العصر فردت له الشمس وهذا من حيث النقل موضوع لم يروه ثقة ومن حيث المعنى فان الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد فلا يرد الوقت وكذلك وضعوا أن فاطمة اغتسلت ثم ماتت وأوصت أن تكتفي بذلك الغسل وهذا(105/111)
من حيث النقل كذب ومن حيث المعنى قله فهم لأن الغسل عن حدث الموت فكيف يصح قبله ثم لهم خرافات لا يسندونها إلى مستند ولهم مذاهب في الفقه ابتدعوها وخرافات تخالف الإجماع # فنقلت منها مسائل من خط ابن عقيل قال نقلتها من كتاب المرتضى فيما انفردت به الأمامية منها أنه لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نبات الأرض فأما الصوف والجلود والوبر فلا وأن الإستجمار لا يجزيء في البول بل في الغائط خاصة ولا يجزىء مسح الرأس إلا بباقي البلل الذي في اليد فإن استأنف للرأس بللا مستأنفا لم يجزه حتى لو نشفت يده من البلل احتاج إلى استئناف الطهارة وانفردوا بتحريم من زنى بها وهي تحت زوج أبدا فلو طلقها زوجها لم تحل للزاني بها بنكاح أبدا وحرموا الكتابيات وأن الطلاق المعلق على شرط لا يقع وإن وجد شرطه وأن الطلاق لا يقع إلا بحضور شاهدين عدلين وأن من نام عن صلاة العشاء إلى أن مضى نصف الليل وجب عليه إذا أستيقظ القضاء وأن يصبح صائما كفارة لذلك التفريط وأن المرأة إذا جزت شعرها فعليها الكفارة مثل قتل الخطأ وأن من شق ثوبه في موت ابن له أو زوجة فعليه كفارة يمين وأن من تزوج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم لزمه الصدقة بخمسة دراهم # وأن شارب الخمر إذا حد ثانية قتل في الثالثة ويحد شارب الفقاع كشارب الخمر وأن قطع السارق من أصول الأصابع ويبقى له الكف فإن سرق مرة أخرى قطعت الرجل اليسرى فان سرق الثالثة خلد في الحبس إلى أن يموت وحرموا السمك الجري كذا وذبائح أهل الكتاب واشترطوا في الذبح استقبال القبلة في مسائل كثيرة يطول ذكرها خرقوا فيها الإجماع وسول لهم إبليس وضعها على وجه لا يستندون فيه إلى أثر ولا قياس بل إلى الواقعات ومقابح الرافضة أكثر من أن تحصى وقد حرموا الصلاة لكونهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء والجماعة لطلبهم إماما معصوما وابتلوا بسب الصحابة(105/112)
# وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك ويحيى بن علي قالا أخبرنا محمد بن أحمد ابن المسلمة نا أبو ظاهر المخلص ثنا البغوي ثنا محمد بن عباد المكي ثنا محمد بن طلحة المديني عن عبد الرحمن بن سالم بن عبد الله بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جدة قال قال رسول الله صلى الله عليه أله وسلم إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا # قال المصنف والمراد بالعدل الفريضة والصرف النافلة أخبرنا أبو البركات بن علي البزار نا أبو بكر الطريثيثي نا هبة الله بن الحسن الطبري نا عبيد الله بن محمد بن أحمد نا علي بن محمد بن أحمد بن يزيد الرياحي ثنا أبي ثنا الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سويد بن غفلة قال مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما فدخلت على علي بن أبي طالب فقلت يا أمير المؤمنين مررت بنفر من أصحابك يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما له أهل ولو لا أنهم يرون أنك تضمر لهما على مثل ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك # قال علي أعوذ بالله أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الذي ائتمنني النبي عليه لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل أخوا رسول الله وصاحباه ووزيراه رحمة الله عليهما ثم نهض دامع العينين يبكي قابضا على يدي حتى دخل المسجد فصعد المنبر وجلس عليه متمكنا قابضا على لحيته وهو ينظر فيها وهي بيضاء حتى اجتمع لنا الناس ثم قام فنشهد بخطبة موجزة بليغة ثم قال ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمون بما أنا عنه متنزه ومما قالوه(105/113)
برىء وعلى ما قالوا معاقب أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي ولا يبغضهما إلا فاجر شقي صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدق والوفاء يأمران وينهيان ويغضبان ويعاقبان فما يتجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى غير رأيهما ولا يحب كحبهما أحد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهما ومضيا والمؤمنون عنهما راضون أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة المؤمنين فصلى بهم تسعة أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قبض الله نبيه واختار له ما عنده ولاه المؤمنون ذلك وفوضوا إليه الزكاة ثم أعطوه البيعة طائعين غير مكرهين # وأنا أول من سن له ذلك من بني عبد المطلب وهو لذلك كاره يود لو أن منا أحدا كفاه ذلك وكان والله خير من أبقى أرحمه رحمة وأرأفه رأفة واسنه ورعا واقدمه سنا واسلاما شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفه ورحمة وبإبراهيم عفوا ووقارا فسار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى على ذلك رحمة الله عليه ثم ولى الأمر بعده عمر رضي الله عنه وكنت فيمن رضي فأقام الأمر على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتبع أثرهما كما يتبع الفصيل اثر أمه وكان والله رفيقا رحيما بالضعفاء ناصرا للمظلومين على الظالمين لا يأخذه في الله لومة لائم وضرب الله الحق على لسانه وجعل الصدق من شأنه حتى ان كنا لنظن أن ملكا ينطق على لسانه أعز الله بإسلامه الإسلام وجعل هجرته للدين قواما وألقى له في قلوب المنافقين الرهبة # وفي قلوب المؤمنين المحبة شبهه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجبريل فظا غليظا على الأعداء فمن لكم بمثلهما رحمة الله عليهما ورزقنا المضي في سبيلهما فمن احبني فليحبهما ومن لم يحبهما فقد ابغضني وأنا منه بريء ولو كنت تقدمت إليكم في امرهما لعاقبت في هذا اشد العقوبة إلا فمن(105/114)
اوتيت به يقول بعد هذا اليوم فإن عليه ما على المفتري إلا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ثم الله اعلم بالخير أين هو أقول قولي واستغفر الله لي ولكم # أخبرنا سعد الله بن علي نا الطريثيثي نا هبة الله الطبري نا محمد بن عبد الرحمن نا البغوي ثنا سويد بن سعيد ثنا محمد بن حازم عن أبي خباب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي كرم الله وجهه قال يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة ينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أينما أدركتموهم فاقتلوهم أشد القتل فإنهم مشركون $ ذكر تلبيس إبليس على الباطنية $ # قال المصنف الباطنية قوم تستروا بالإسلام ومالوا إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام بالمرة فمحصول قولهم تعطيل الصانع وابطال النبوة والعبادات وانكار البعث ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم بل يزعمون أن الله حق وأن محمدا رسول الله والدين صحيح لكنهم يقولون لذلك سر غير ظاهر وقد تلاعب بهم إبليس فبالغ وحسن لهم مذاهب مختلفة ولهم ثمانية أسماء # الإسم الأول الباطنية سموا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر وانها بصورتها توهم الجهال صورا حلية وهي عند العقلاء رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأن من تقاعد عقله من الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والاغوار وقنع بظواهرها كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من اعبائه قالوا وهم المرادون بقوله تعالى " ويضع "(105/115)
" عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم " ومرادهم أن ينزعوا من العقائد موجب الظواهر ليقدروا بالتحكم بدعوى الباطل على أبطال الشرائع # الإسم الثاني الإسماعيلية نسبوا إلى زعيم لهم يقال له محمد بن إسماعيل بن جعفر ويزعمون أن دور الامامة انتهى إليه لأنه سابع واحتجوا بأن السموات سبع والأرضين سبع وأيام الأسبوع سبعة فدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة وعلى هذا فيما يتعلق بالمنصور فيقولون العباس ثم ابنه عبد الله ثم ابنه علي ثم ابنه محمد بن علي ثم إبراهيم ثم السفاح ثم المنصور وذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه قال قال علي بن محمد عن أبيه إن رجلا من الراوندية كان يقال له الآبلق وكان أبرص فبكى بالعلو ودعا الرواندية إليه وزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم في الأئمة واحدا بعد واحد إلى أن صارت إلى إبراهيم بن محمد واستحلوا الحرمات فكان الرجل منهم يدعو الجماعة إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته فبلغ ذلك أسد بن عبد الله فقتلهم وصلبهم فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم وعبدوا أبا جعفر وصعدوا الخضراء وألقوا نفوسهم كأنهم يطيرون فلا يبلغون الأرض إلا وقد هلكوا وخرج جماعتهم على الناس في السلاح وأقبلوا يصيحون يا أبا جعفر أنت أنت # الإسم الثالث السبعية لقبوا بذلك لأمرين أحدهما اعتقادهم أن دور الامامة سبعة سبعة على ما بينا وأن الإنتهاء إلى السابع هو آخر الأدوار وهو المراد بالقيامة وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر له والثاني لقولهم أن تدبير العالم السفلي منوط بالكواكب السبعة زحل ثم المشتري ثم المريخ ثم الزهرة ثم الشمس ثم عطارد ثم القمر # الإسم الرابع البابكية قال المصنف وهو إسم لطائفة منهم تبعوا رجلا يقال له بابك الخرمي وكان من الباطنية وأصله أنه ولد زنى فظهر في بعض الجبال(105/116)
بناحية أذربيجان سنة احدى ومائتين وتبعه خلق كثير واستفحل أمرهم واستباح المحظورات وكان إذا علم أن عند أحد بنتا جميلة أو أختا جميلة طلبها فإن بعثها إليه وإلا قتله وأخذها ومكث على هذا عشرين سنة فقتل ثمانين ألفا وقيل خمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان وحاربه السلطان وهزم خلقا من الجيوش حتى بعث المعتصم أفسين فحاربه فجاء ببابك وأخيه في سنة ثلاث وعشرين ومائتين فلما دخلا قال لبابك أخوه يا بابك قد عملت ما لم يعمله أحد فأصبر الآن صبرا لم يصبره أحد فقال سترى صبري فأمر المعتصم بقطع يديه ورجليه فلما قطعوا مسح بالدم وجهه فقال المعتصم أنت في الشجاعة كذا وكذا ما بالك قد مسحت وجهك بالدم أجزعا من الموت فقال لا ولكني لما قطعت أطرافي نزف الدم فخفت أن يقال عني إنه اصفر وجهه جزعا من الموت قال فيظن ذلك بي فسترت وجهي بالدم كيلا يرى ذلك مني ثم بعد ذلك ضربت عنقه وأضرمت عليه النار وفعل مثل ذلك بأخيه فما فيهما من صاح ولا تأوه ولا أظهر جزعا لعنهما الله وقد بقي من البابكية جماعة يقال أن لهم ليلة في السنة تجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهضون للنساء فيثب كل رجل منهم إلى امرأة ويزعمون أن من احتوى على امرأة يستحلها بالاصطياد لأن الصيد مباح # الإسم الخامس المحمرة قال المصنف سموا بذلك لانهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيام بابك ولبسوها # الاسم السادس القرامطة قال المصنف وللمؤرخين في سبب تسميتهم بهذا قولان أحدهما أن رجلا من ناحية خوزستان قدم سواد الكوفة فأظهر الزهد ودعا إلى أمام من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل على رجل يقال له كرميتة لقب بهذا الحمرة عينية وهو بالنبطية حاد العين فأخذه أمير تلك الناحية فحبسه وترك مفتاح البيت تحت رأسه ونام فرقت له جارية فأخذت المفتاح ففتحت البيت وأخرجته وردت المفتاح إلى مكانه فلما طلب فلم يوجد زاد(105/117)
افتتان الناس به فخرج إلى الشام فسمى كرميتة باسم الذي كان نازلا عليه ثم خفف فقيل قرمط ثم توارث مكانه أهله وأولاده # والثاني أن القوم قد لقبوا بهذا نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط كان أحد دعاتهم في الابتداء فاستجاب له جماعة فسموا قرامطة وقرمطية وكان هذا الرجل من أهل الكوفة وكان يميل إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية في فريق وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها فقال حمدان لذلك الراعي وهو لا يعرفه أين مقصدك فذكر قرية حمدان فقال له أركب بقرة من هذه لئلا تتعب فقال إني لم أؤمر بذلك فقال وكأنك لا تعمل إلا بأمر قال نعم قال وبأمر من تعمل قال بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة فقال ذلك إذن هو الله رب العالمين فقال صدقت قال له فما غرضك في هذه القرية التي تقصدها قال أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلالة إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة # وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما يستغنون به عن الكد فقال له حمدان أنقذني أنقذك الله وأفض علي من العلم ما تحييني به فما أشد احتياجي إلى مثل هذا فقال ما أمرت أن أخرج السر المخزون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال أذكر عهدك فاني ملتزم به فقال له أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا نفس سري أيضا فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استغواه فاستجاب له ثم انتدب للدعاء وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمي أتباعه القرامطة والقرمطية # ثم لم يزل بنوه وأهله يتوارثون مكانه وكان أشدهم بأسا رجل يقال له أبو سعيد ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين وقوى أمره وقتل ما لا يحصى من المسلمين وخرب المساجد وأحرق المصاحف وفتك بالحاج وسن لأهله وأصحابه سننا وأخبرهم بمحالات وكان إذا قاتل يقول وعدت النصر في هذه الساعة فلما مات بنوا على قبره قبة وجعلوا على رأسها طائرا من جص(105/118)
# وقالوا إذا طار هذا الطائر خرج أبو سعيد من قبره وجعلوا عند القبر فرسا وخلعة ثياب وسلاحا وقد سول إبليس لهذه الجماعة أنه من مات وعلى قبره فرس حشر راكبا وإن لم يكن له فرس حشر ماشيا وكان أصحاب أبي سعيد يصلون عليه إذا ذكروه ولا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سمعوا من يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون أتأكل رزق أبي سعيد وتصلي على أبي القاسم وخلف بعده إبنه أبا طاهر ففعل مثل فعله وهجم على الكعبة فأخذ ما فيها من الذخائر وقلع الحجر الأسود فحمله إلى بلده واوهم الناس أنه الله عز وجل # الاسم السابع الخرمية وخرم لفظ أعجمي ينبي عن الشيء المستلذ المستطاب الذي يرتاح الإنسان له ومقصود هذه الأسم تسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات كيف كانت وطي بساط التكليف وحط أعباء الشرع عن العباد وقد كان هذا الأسم لقبا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين تبعوا في أيام قباذ وأباحوا النساء المحرمات وأحلوا كل محظور فسموا هؤلاء بهذا الاسم لمشابهتهم اياهم في نهاية هذا المذهب وان خالفوهم في مقدماته # الاسم الثامن التعليمية لقبوا بذلك لأن مبدأ مذهبهم أبطال الرأي وافساد تصرف العقول ودعاء الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لا يدرك العلوم إلا بالتعليم نقد مذهب الباطنية # في ذكر السبب الباعث لهم على الدخول في هذه البدعة قال المصنف اعلم أن القوم أرادوا الانسلال من الدين فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في إستنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين(105/119)
عليهم حتى اخرسوهنم عن النطق بما يعتقدونه من انكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون ورأوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم قد استطار في الأقطار وأنهم قد عجزوا عن مقاومته فقالوا سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض فنتحصن بالانتساب إليهم ونتودد إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة فإذا هان اولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق ثم قالوا وطريقنا أن نختار رجلا مما يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله عز وجل ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة فإن قرب الدار يهتك الأستار # وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره وقصدهم بهذا كله الملك والإستيلاء على أموال الناس والانتقال منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم $ فصل قال المصنف وللقوم حيل في استذلال الناس فهم يميزون من يجوز أن $ يطمع في استدراجه ممن لا يطمع فيه فإذا طمعوا في شخص نظروا(105/120)
في طبعه فإن كان مائلا إلى الزهد دعوه إلى الأمانه والصدق وترك الشهوات وإن كان مائلا إلى الخلاعة قرروا في نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة وإنما الفطنة في اتباع اللذات من هذه الدنيا الفانية ويثبتون عند كل ذي مذهب ما يليق بمذهبه ثم يشككونه فيما يعتقدوه فيستجيب لهم أما رجل أبله أو رجل من أبناء الأكاسرة وأولاد المجوس ممن قد انقطعت دولة أسلافه بدولة الإسلام أو رجل يميل إلى الاستيلاء ولا يساعده الزمان فيعدونه بنيل آماله أو شخص يجب الترفع عن مقامات العوام ويروم بزعمه الاطلاع على الحقائق أو رافضي يتدين بسبب الصحابة رضي الله عنهم أو ملحد من الفلاسفة والثنوية والمتحيرين في الدين أو من قد غلبت عليه حب اللذات وثقل عليه التكليف $ فصل في ذكر نبذة من مذاهبهم قال أبو حامد الطوسي الباطنية قوم $ يدعون الإسلام ويميلون إلى الرفض وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام فمن مذهبهم القول بآلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني قالوا والسابق لا يوصف بوجود ولا عدم ولا هو موجود ولا هو معدوم ولا هو معلوم ولا هو مجهول ولا هو موصوف ولا غير موصوف وحدث عن السابق الثاني وهو أول مبدع ثم حديث النفس الكلية وعندهم أن النبي عليه السلام عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة الثاني قوة قدسية صافية وزعموا أن جبريل عليه السلام عبارة عن العقل الفائض عليه لا أنه شخص واتفقوا على أنه لا بد لكل عصر مع إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر مساو للنبي عليه السلام في العصمة وأنكروا المعاد وقالوا معنى المعاد عود الشيء إلى أصله وتعود النفس إلى أصلها وأما التكليف فالمنقول عنهم الإباحة المطلقة واستباحة المحظورات وقد ينكرون(105/121)
هذا إذا حكى عنهم وإنما يقرون بأنه لا بد للإنسان من التكليف فاذا اطلع على بواطن الظواهر ارتفعت التكاليف # ولما عجزوا عن صرف الناس عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها إذ لو صرحوا بالنفي المحض لقتلوا فقالوا معنى الجنابة مبادرة المستجيب بافشاء المستجيب بافشاء السر ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الزنى إلقاء نطفة العلم الباطن في نفس من لم يسبق معه عقد العهد والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة هي النبي والباب علي والطوفان طوفان العلم أعرق به المتمسكون بالشبهة والسفينة الحرز الذي يحصن به من استجاب لدعوته ونار إبراهيم عبارة عن غضب نمرود لا عن نار حقيقة وذبح إسحاق معناه أخذ العهد عليه وعصى موسى حجته ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر وذكر غيره أنهم يقولون إن الله عز وجل لما أوجد الأرواح ظهر لهم فيما بينهم كهم فلم يشكوا أنه واحد منهم فعرفوه فأول من عرفه سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر وأول المنكرين الذي يسمى إبليس عمر بن الخطاب في خرافات ينبغي أن يصان الوقت العزيز عن التضييع بذكرها ومثل هؤلاء لم يتمسكوا بشبهة فتكون معهم مناظرة وإنما اخترعوا بواقعاتهم ما أرادوا فان اتفقت مناظرة لأحدهم فليقل له أعرفتم هذه الأشياء التي تذكرونها عن ضرورة أو عن نظر أو عن نقل عن الإمام المعصوم # فإن قلتم ضرورة فكيف خالفكم ذوو العقول السليمة ولو ساغ للانسان أن يهدي بدعوى الضرورة في كل ما يهواه جاز لخصمه دعوى الضرورة(105/122)
في نقض ما ادعاه وان قلتم بالنظر فالنظر عندكم باطل لأنه تصرف بالعقل وقضايا العقول عندكم لا يوثق بها وان قلتم عن إمام معصوم قلنا فما الذي دعاكم إلى قبول قوله بلا معجزة وترك قول محمد صلى الله عليه وسلم مع المعجزات ثم ما يؤمنكم أن يكون ما سمع من الإمام المعصوم له باطن غير ظاهر ثم يقال لهم هذه البواطن والتأويلات يجب إخفاؤها أم إظهارها فان قالوا يجب إظهارها قلنا فلما كتمها محمد صلى الله عليه وسلم وان قالوا يجب إخفاؤها قلنا ما وجب على الرسول إخفاؤه كيف حل لكم إفشاؤه قال ابن عقيل هلك الإسلام بين طائفتين بين الباطنية والظاهرية فأما أهل البواطن فإنهم عطلوا ظواهر الشرع بما أدعوه من تفاسيرهم التي لا برهان لهم عليها حتى لم يبق في الشرع شيء إلا وقد وضعوا وراءه معنى حتى اسقطوا إيجاب الوجب والنهي عن المنهي وأما أهل الظاهر فإنهم أخذوا بكل ما ظهر مما لا بد من تأويله فحملوا الأسماء والصفات على ما عقلوه والحق بين المنزلتين وهو أن تأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع # قال المصنف ولو لقيت مقدم هذه الطائفة المعروفة بالباطنية لم أكن سالكا معه طريق العلم بل التوبيخ والإزدراء على عقله وعقول أتباعه بأن أقول أن للآمال طرقا تسلك ووجوها توصل ووضع الأمل في وجه اليأس حمق ومعلوم أن هذه الملل التي قد طبقت الأرض أقر بها شريعة الإسلام التي تتظاهرون بها وتطعمون في إفسادها قد تمكنت تمكنا يكون الطمع في تمحيقها فضلا عن إزالتها حمقا فلها مجمع كل سنة بعرفة ومجمع كل أسبوع في الجوامع ومجمع كل يوم في المساجد فمتى تحدثكم نفوسكم بتكدير هذا البحر الزاخر وتمحيق هذا الأمر الظاهر في الآفاق يؤذن كل يوم على ما بين ألوف منابر بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وغاية ما أنتم عليه حديث(105/123)
في خلوة أو متقدم في قلعة ان نبس بكلمة يرمي رأسه وقتل الكلاب فمتى يحدث العاقل منكم نفسه بظهور ما أنتم عليه على هذا الأمر الكلي الذي طبق البلاد فما أعرف أحمق منكم إلى أن يجيء إلى باب المناظرة بالبراهين العقلية # قال المصنف والتهبت جمرة الباطنية المتأخرين في سنة أربع وتسعين واربعمائة فقتل السلطان جلال الدولة برقيارق خلقا منهم لما تحقق مذهبهم فبلغت عدة القتلى ثلثمائة ونيفا وتتبعت أموالهم فوجد لأحدهم سبعون بيتا من اللآلىء المحفور وكتب بذلك كتاب إلى الخليفة فتقدم بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك المذهب ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا وصار كل من في نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب فيقصيه وينتهب ماله وأول ما عرف من أحوال الباطنية في أيام الملك شاه جلال الدولة أنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم أطلقهم ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل فخافوه أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه فبلغ الخبر إلى نظام الملك فتقدم يأخذ من يتهم فيقتله فقتل المتهم وكان نجارا وكانت أول فتكة لهم فتكهم بنظام الملك وكانوا يقولون قتلتم منا نجارا فقتلنا به نظام الملك # واستفحل أمرهم بأصبهان فلما مات الملك شاه وآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان ويقتلونه ويلقونه في البئر وكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله أيسوا منه وفتش الناس المواضع فوجدوا امرأة في(105/124)
دار لا تبرح فوق حصير فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلا فقتلوا المرأة وأحرقوا الدار والمحلة وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه هذه الدار فإذا مر إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق فإذا حصل هناك جذبه من في الدار واستولوا عليه فجد المسلمون في طلبهم باصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأول قلعة تملكها الباطنية قلعة في ناحية يقال لها الروزباد من نواحي الديلم وكانت هذه القلعة لقماح صاحب ملكشاه وكان يستحفظها متهما بمذهب القوم فأخذ ألفا ومائتي دينار وسلم إليهم القلعة في سنة ثلاث وثمانين في أيام ملكشاه وكان مقدمها الحسن بن الصباح وأصله من مرو وكان كاتبا للرئيس عبد الرازق بن بهرام إذ كان صبيا ثم إلى مصر وتلقى من دعاتهم المذاهب وعاد داعية القوم ورأسا فيهم وحصلت له هذه القلعة وكانت سيرته في دعاته ألا يدعوا إلا غبيا لا يفرق بين يمينه وشماله مثلا ومن لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه ثم يذكر له حينئذ ما تم على أهل بيت المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعليهم من الظلم والعدوان حتى يستقر ذلك في نفسه ثم يقول إذا كانت الأزارقة والخوارج سمحوا بنفوسهم في قتال بني أمية فما سبب بخلك بنفسك في نصرة إمامك فيتركه بهذه المقالة طعمة للسيف وكان ملكشاه قد أرسل إلى ابن الصباح يدعوه إلى الطاعة ويتهدده أن خالفه ويأمره بالكف عن بث أصحابه لقتل العلماء والأمراء فقال في جواب الرسالة والرسول حاضر الجواب ما تراه ثم قال لجماعة وقوف بين يديه أريد أن أنقذكم إلى مولاكم في حاجة فمن ينهض لها باشرأب كل منهم لذلك فظن رسول السلطان أنها رسالة يحملها إياهم فأومأ إلى شاب منهم فقال له أقتل نفسك فجذب سكينة وضرب بها(105/125)
غلصمته فخر ميتا وقال لآخر إرم نفسك من القلعة فألقى نفسه فتمزق ثم التفت إلى رسول السلطان فقال أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفا هذا حد طاعتهم لي وهذا هو الجواب فعاد الرسول إلى السلطان ملكشاه فأخبره بما رأى فعجب من ذلك وترك كلامهم وصارت بأيديهم قلاع كثيرة ثم قتلوا جماعة من الأمراء والوزراء قال المصنف وقد ذكرنا من صفة القوم في التاريخ إحوالا عجيبة فلم نر التطويل بها هنا # وكم من زنديق في قلبه حقد على الإسلام خرج فبالغ واجتهد فزخرف دعاوي يلقي بها من يصحبه وكان غور مقصده في الإعتقاد الإنسلال من ربقة الدين وفي العمل نيل الملذات واستباحة المحظورات فمنهم بابك الخرمي حصل له مقصوده من اللذات ولكن بعد أن قتل الناس وبالغ في الأذى ثم القرامطة وصاحب الزنج الذي خرج فاستغوى المماليك السودان ووعدهم الملك فنهب وفتك وقتل وبالغ وكانت عواقبهم في الدنيا أقبح العواقب فما وفي ما نالوا بما نيل منهم ومنهم من لم يبرح على تعثيره ففاتته الدنيا والآخرة مثل ابن الراوندي والمعري # أنبأنا محمد بن أبي طاهر عن أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال كان ابن الراوندي ملازم الرافضة وأهل الإلحاد فإذا عوتب قال إنما أريد أن أعرف مذاهبهم ثم كاشف وناظر # قال المصنف من تأمل حال ابن الراوندي وجده من كبار الملحدة وصنف كتابا سماه الدامغ زعم أنه يدمغ به هذه الشريعة فسبحان من دمغه فأخذه وهو في شرخ الشباب وكان يعترض على القرآن ويدعي عليه التناقض وعدم الفصاحة وهو يعلم أن فصحاء العرب تحيرت عند سماعه فكيف بالألكن وأما(105/126)
أبو العلاء المعري فأشعاره ظاهرة الإلحاد وكان يبالغ في عداوة الأنبياء ولم يزل متخبطا في تعثيره خائفا من القتل إلى أن مات بخسرانه وما خلا زمان من خلف للفريقين إلا أن جمرة المنبسطين قد خبت بحمد الله فليس إلا باطني مستتر ومتفلسف متكاتم هو أعثر الناس وأخسأهم قدرا وأردأهم عيشا وقد شرحنا أحوال جماعة من الفريقين في التاريخ فلم نر التطويل بذلك والله الموفق
$ الباب السادس في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم $ قال المصنف إعلم أن إبليس يدخل على الناس في التلبيس من طرق منها ظاهر الأمر ولكن يغلب الإنسان في إيثار هواه فيغمض على علم يذلله ومنها غامض وهو الذي يخفى على كثير من العلماء ونحن نشير إلى فنون من تلبيسه يستدل بمذكورها على مغفلها إذ حصر الطرق يطول والله العاصم $ ذكر تلبيسه على القراء $ # فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراآت الشاذة وتحصيلها فيفني أكثر عمره في جمعها وتصنيفها والأقراء بها ويشغله ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للأقراء ولا يعرف ما يفسد الصلاة وربما حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل على أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم العلم ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم قال الحسن البصري أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا يعني أنهم اقتصروا على التلاوة وتركوا العمل به ومن ذلك أن أحدهم يقرأ في محرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور والصحيح عند العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ وإنما مقصود هذا إظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عليه وعنده أنه(105/127)
متشاغل بالقرآن ومنهم من يجمع القراآت فيقول ملك مالك ملاك وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عن نظمه # ومنهم من يجمع السجدات والتهليلات والتكبيرات وذلك مكروه وقد صاروا يوقدون النيران الكثيرة للختمة فيجمعون بين تضييع المال والتشبه بالمجوس والتسبب إلى اجتماع النساء والرجال بالليل للفساد ويريهم إبليس أن في هذا إعزازا للاسلام وهذا تلبيس عظيم لأن إعزاز الشرع باستعمال المشروع ومن ذلك أن منهم من يتسامح بادعاء القراءة على من لم يقرأ عليه وربما كانت له إجازة منه فقال أخبرنا تدليسا وهو يرى أن الأمر في ذلك قريب لكونه يروى القراآت ويراها فعل خير وينسى أن هذا كذب يلزمه اثم الكذابين ومن ذلك أن المقرىء المجيد يأخذ على اثنين وثلاثة ويتحدث مع من يدخل عليه والقلب لا يطيق جمع هذه الأشياء ثم يكتب خطه بأنه قد قرأ على فلان بقراءة فلان وقد كان بعض المحققين يقول ينبغي أن يجتمع اثنان أو ثلاثة ويأخذوا على واحد ومن ذلك أن أقواما من القراء يتبارون بكثرة القراءة وقد رأيت من مشايخهم من يجمع الناس ويقيم شخصا ويقرأ في النهار الطويل ثلاث ختمات فإن قصر عيب وإن أتم مدح وتجتمع العوام لذلك ويحسنونه كما يفعلون في حق السعاة ويريهم إبليس أن في كثرة التلاوة ثوابا وهذا من تلبيسه لأن القراءة ينبغي أن تكون لله تعالى لا للتحسين بها وينبغي أن تكون على تمهل وقال عز وجل " لتقرأه على الناس على مكث " وقال عز وجل " ورتل القرآن ترتيلا " ومن ذلك أن جماعة من القراء أحدثوا قراءة الألحان وقد كانت إلى حد قريب # وعلى ذلك فقد كرهها أحمد بن حنبل وغيره ولم يكرهها الشافعي أنبأنا محمد بن ناصر نا أبو علي الحسين بن سعد الهمذاني نا أبو بكر أحمد بن علي بن(105/128)
لال ثنا الفضل بن الفضل ثنا السياحي ثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعي أما استماع الحداء ونشيد الاعراب فلا بأس به ولا بأس بقراءة الألحان وتحسين الصوت # قال المصنف وقلت إنما أشار الشافعي إلى ما كان في زمانه وكانوا يلحنون بيسرا فأما اليوم فقد صيروا ذلك على قانون الأغاني وكلما قرب ذلك من مشابهة الغناء زادت كراهته # فان أخرج القرآن عن حد وضعه حرم ذلك ومن ذلك أن قوما من القراء يتسامحون بشيء من الخطايا كالغيبة للنظراء وربما أتوا أكبر من ذلك الذنب واعتقدوا أن حفظ القرآن يرفع عنهم العذاب واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام لو جعل القرآن في إهاب ما أحترق وذلك من تلبيس إبليس عليهم لأن عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم إذ زيادة العلم تقوى الحجة وكون القارىء لم يحترم ما يحفظ ذنب آخر قال الله عز وجل أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقال في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " # وقد أخبرنا أحمد بن احمد المتوكلي نا أحمد بن علي بن ثابت نا أبو الحسن ابن زرقويه نا اسماعيل الصفار ثنا زكريا بن يحيى ثنا معروف الكرخي قال قال بكر بن حبيش إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في الوادي لجبا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات وإن في الجب لحية يتعوذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون أي رب يبدأ بنا قبل عبدة(105/129)
الأوثان فقيل لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم قال المصنف فلنقتصر على هذا الأنموذج فيما يتعلق بالقراء $ ذكر تلبيس إبليس على أصحاب الحديث $ # من ذلك أن قوما استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة وهؤلاء على قسمين قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه وهم مشكورون على هذا القصد إلا أن إبليس يلبس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في الحديث فإن قال قائل فقد فعل هذا خلق كثير من السلف كيحيى بن معين وابن المديني والبخاري ومسلم فالجواب أن أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدين والفقه فيه وبين ما طلبوا من الحديث وأعانهم على ذلك قصر الإسناد وقلة الحديث فاتسع زمانهم للأمرين فأما في هذا الزمان فإن طرق الحديث طالت والتصانيف فيه اتسعت وما في هذا الكتاب في تلك الكتب وإنما الطرق تختلف فقل أن يمكن أحدا أن يجمع بين الأمرين فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث منه وبهؤلاء تمكن الطاعنون على المحدثين فقالوا زوامل أسفار لا يدرون ما معهم # فان أفلح أحدهم ونظر في حديثه فربما عمل بحديث منسوخ وربما فهم من الحديث ما يفهم العامي الجاهل وعمل بذلك وليس بالمراد من الحديث كما روينا أن بعض المحدثين روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يسقى الرجل ماءه زرع غيره فقال جماعة ممن حضر قد كنا إذا فضل عنا ماء في بساتيننا سرحناه إلى جيراننا ونحن نستغفر الله فما فهم القارىء ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطء الحبالى من السبايا(105/130)
قال الخطابي وكان بعض مشايخنا يروي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة باسكان اللام قال وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة قال فقلت له إنما هو الحلق جمع حلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة فقال قد فرجت علي وكان من الصالحين وقد كان ابن صاعد كبير القدر في المحدثين لكنه لما قلت مخالطته للفقهاء كان لا يفهم جواب فتوى حتى أنه قد أخبرنا أبو منصور البزار نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال سمعت اليرقاني يقول قال أبو بكر الأبهري الفقيه قال كنت عند يحيى بن محمد بن صاعد فجاءته امرأة فقالت أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر قالت لم تكن البئر مغطاة فقال يحيى ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر # قال المصنف وكان ابن شاهين قد صنف في الحديث مصنفات كثيرة أقلها جزء وأكثرها التفسير وهو ألف جزء وما كان يعرف من الفقه شيئا وقد كان فيهم من يقدم على الفتوى بالخطأ لئلا يرى بعين الجهل فكان فيهم من يصير بما يفتي به ضحكة فسئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى # وأنبأنا محمد بن أبي منصور نا أحمد بن الحسين بن حبرون نا أحمد بن محمد العتيقي نا أبو عمر بن حياة نا سليمان بن إسحاق الحلاب ثنا إبراهيم الحربي قال بلغني أن امرأة جاءت إلى علي بن داود وهو يحدث وبين يديه مقدار ألف نفس فقالت له حلفت بصدقة إزاري فقال لها بكم اشتريتيه قالت باثنين وعشرين(105/131)
درهما قال اذهبي فصومي اثنين وعشرين يوما فلما مرت جعل يقول آه آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار # قال المصنف قلت فانظروا إلى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام على الفتوى بمثل هذا التخليط واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم وقد رأينا في زماننا من يجمع الكتب منهم ويكثر السماع ولا يفهم ما حصل # ومنهم من لا يحفظ القرآن ولا يعرف أركان الصلاة فتشاغل هؤلاء على زعمهم بفروض الكفاية عن فروض الأعيان وإيثار ما ليس بمهم على المهم من تلبيس إبليس # القسم الثاني قوم أكثروا سماع الحديث ولم يكن مقصودهم صحيحا ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق وإنما كان مرادهم العوالي والغرائب فطافوا البلدان ليقول أحدهم لقيت فلانا ولي من الأسانيد ما ليس لغيري وعندي أحاديث ليست عند غيري # وقد كان دخل إلينا إلى بغداد بعض طلبة الحديث وكان يأخذ الشيخ فيقعده في الرقة وهي البستان الذي على شاطيء دجلة فيقرأ عليه ويقول في مجموعاته حدثني فلان وفلان بالزقة ويوهم الناس أنها البلدة التي بناحية الشام ليظنوا أنه قد تعب في الأسفار لطلب الحديث وكان يقعد الشيخ بين نهر عيسى والفرات ويقول حدثني فلان من وراء النهر يوهم أنه قد عبر خراسان في طلب الحديث وكان يقول حدثني فلان في رحلتي الثانية والثالثة ليعلم الناس قدر تعبه في طلب الحديث فما بورك له ومات في زمان الطلب # قال المصنف وهذا كله من الإخلاص بمعزل وإنما مقصودهم الرساة والمباهاة ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه وربما ظفر أحدهم بجزء فيه سماع أخيه المسلم فأخفاه ليتفرد هو بالرواية وقد يموت هو ولا يرويه فيفوت الشخصين(105/132)
وربما رحل أحدهم إلى شيخ أول اسمه قاف أو كاف ليكتب ذلك في مشيخته فحسب # ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلبا للتشفي ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع والله أعلم بالمقاصد ودليل مقصد خبث هؤلاء سكوتهم عمن أخذوا عنه وما كان القدماء هكذا فقد كان علي بن المديني يحدث عن أبيه وكان ضعيفا ثم يقول وفي حديث الشيخ ما فيه # أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعيد بن أبي صادق نا أبو عبد الله بن باكويه ثنا بكر أن ابن أحمد الجيلي قال سمعت يوسف بن الحسين يقول سألت حارثا المحاسبي عن الغيبة فقال احذرها فانها شر مكتسب وما ظنك بشيء يسلبك حسناتك فيرضى به خصماءك ومن تبغضه في الدنيا كيف ترضى به خصمك يوم القيامة يأخذ من حسناتك أو تأخذ من سيئاته إذ ليس هناك درهم ولا دينار فاحذرها وتعرف منبعها فان منبع غيبة الهمج والجهال من اشفاء الغيظ والحمية والحسد وسوء الظن وتلك مكشوفة غير خفية وأما غيبة العلماء فمنبعها من خدعة النفس على إبداء النصيحة وتأويل مالا يصح من الخبر ولو صح ما كان عونا على الغيبة وهو قوله أترغبون عن ذكره اذكروه بما فيه ليحذره الناس ولو كان الخبر محفوظا صحيحا لم يكن فيه إبداء شناعة على أخيك المسلم من غير أن تسأل عنه وإنما إذا جاءك مسترشد فقال أريد أن أزوج كريمتي من فلان فعرفت منه بدعة أو أنه غير مأمون على حرم المسلمين صرفته عنه(105/133)
بأحسن صرف أو يجيئك رجل آخر فيقول لك أريد أن أودع مالي فلانا وليس ذلك الرجل موضعا للأمانة فتصرفه عنه بأحسن الوجوه أو يقول لك رجل أريد أن أصلي خلف فلان أو أجعله إمامي في علم فتصرفه عنه بأحسن الوجوه ولا تشف غيظك من غيبته # وأما منبع الغيبة من القراء والنساك فمن طريق التعجب يبدي عوار الأخ ثم يتصنع بالدعاء في ظهر الغيب فيتمكن من لحم أخيه المسلم ثم يتزين بالدعاء له وأما منبع الغيبة من الرؤساء والأساتذة فمن طريق إبداء الرحمة والشفقة حتى يقول مسكين فلان ابتلى بكذا وامتحن بكذا نعوذ بالله من الخذلان فيتصنع بإبداء الرحمة والشفقة على أخيه ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه ويقول إنما أبديت لكم ذاك لتكثروا دعاءكم له ونعوذ بالله من الغيبة تعريضا أو تصريحا فاتق الغيبة فقد نطق القرآن بكراهتها فقال عز وجل " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار كثيرة # ومن تلبيس إبليس على علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يبينوا أنه موضوع وهذه جناية منهم على الشرع ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم وقد قال صلى الله عليه وسلم من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية فتارة يقول أحدهم فلان عن فلان أو قال فلان عن فلان يوهم أنه سمع منه المنقطع ولم يسمع وهذا قبيح لأنه يجعل المنقطع في مرتبة المتصل ومنهم من يروي عن الضعيف والكذاب فينفي اسمه فربما سماه بغير اسمه وربما كناه وربما نسبه إلى جده لئلا يعرف وهذه جناية على الشرع لأنه يثبت حكما بما لا يثبت به فأما إذا كان المروي عنه ثقة فنسبه إلى جده أو أقتصر على كنيته لئلا يرى أنه قد ردد الرواية عنه أو يكون المروي عنه في مرتبة الراوي فيستحي الراوي من ذكره فهذا على الكراهة والبعد من الصواب قريب بشرط أن يكون المروي عنه ثقة والله الموفق(105/134)
$ ذكر تلبيس إبليس على الفقهاء $ # قال المصنف كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا وربما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم لقلة التفاته إلى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه ومن القبيح تعليق حكم على حديث لا يدري أصحيح هو أم لا ولقد كانت معرفة هذا تصعب ويحتاج الإنسان إلى السفر الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من السقيم ولكن غلب على المتأخرين الكسل بالمرة عن أن يطالعوا علم الحديث حتى إني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ في الصحاح لا يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا ورأيته يحتج في مسألة فيقول دليلنا ما روى بعضهم أن رسول الله قال كذا ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتج به خصمه أن يقول هذا الحديث لا يعرف وهذا كله جناية على الاسلام # ومن تلبيس إبليس على الفقهاء أن جل اعتمادهم على تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل على الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعلل المذاهب ولو صحت هذه الدعوى منهم لتشاغلوا بجميع المسائل وإنما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتسع فيها الكلام فيتقدم المناظر بذلك عند الناس في خصام النظر فهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش على المناقضات طلبا للمفاخرات والمباهاة وربما لم يعرف الحكم في مسألة صغيرة تعم بها البلوى(105/135)
$ ذكر تلبيسه عليهم بادخالهم في الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم على تلك $ الأوضاع # ومن ذلك إيثارهم للقياس على الحديث المستدل به في المسألة ليتسع لهم المجال في النظر وان استدل أحد منهم بالحديث هجن ومن الأدب تقديم الإستدلال بالحديث ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماعالحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب # ومن لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم فإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم وقد كان بعض السلف يقول حديث يرق له قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شريح وأنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب ومن ذلك أنهم اقتصروا على المناظرة وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عن آية أو حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل وإذا خفي على أحدهم شيء نبهه الآخر لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه على أصل بعلة يظنها فقيل له ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة فقال هذا الذي يظهر لي فان ظهر لكم ما هو أولى من ذلك فاذكروه فان المعترض لا يلزمني ذكر ذلك # وقد صدق في أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل في باب النصح وإظهار الحق يلزمه ومن ذلك أن أحدهم يتبين له الصواب مع خصمه(105/136)
ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مع خصمه وربما اجتهد في رده مع علمه أنه الحق وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق وقد قال الشافعي رحمه الله ما ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني ولا قبلها إلا هبته وما ناظرت أحدا فباليت مع من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه ومن ذلك أن طلبهم للرياسة بالمناظرة تثير الكامن في النفس من حب الرياسة فإذا رأى أحدهم في كلامه ضعفا يوجب قهر خصمه له خرج إلى المكابرة فإن رأى خصمه استطال عليه بلفظ أخذته حمية الكبر فقابل ذلك بالسب فصارت المجادلة مخاذلة ومن ذلك ترخصهم في الغيبة بحجة الحكاية عن المناظرة فيقول أحدهم تكلمت مع فلان فما قال شيئا ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة ومن ذلك أن إبليس لبس عليهم بأن الفقه وحده علم الشرع ليس ثم غيره فان ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئا وينسون أن الحديث هو الأصل فان ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هذا كلام الوعاظ ومن ذلك إقدامهم على الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا في المشكلات كان أولى # فقد أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي نا محمد بن هبة الله الطبري ثنا محمد بن الحسين بن الفضل نا عبد الله بن جعفر بن درستويه ثنا يعقوب بن سفيان ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول قال يعقوب وثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا يقول أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم من يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا # قال المصنف وقد روينا عن إبراهيم النخعي أن رجلا سأله عن(105/137)
مسألة
فقال ما وجدت من تسأله غيري وعن مالك بن أنس رضي الله عنه قال ما أفتيت حتى سألت سبعين شيخا هل ترون لي أن أفتي فقالوا نعم فقيل له فلو نهوك قال لو نهوني انتهيت وقال رجل لأحمد بن حنبل إني حلفت ولا أدري كيف حلفت قال ليتك إذ دريت كيف حلفت دريت أنا كيف أفتيك # قال المصنف وإنما كانت هذه سجية السلف لخشيتهم الله عز وجل وخوفهم منه ومن نظر في سيرتهم تأدب # ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه الأول الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر على الفقيه وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي والثاني العامي أنه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فان فلانا الفقيه لا يبرح عنده والثالث الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك # وقد لبس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول انما ندخل لنشفع في مسلم وينكشف هذا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان ومن تلبيس إبليس عليه في أخذ أموالهم فيقول لك فيها حق ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل له منها شيء وان كانت من شبهة فتركها أولى وان كانت من مباح جاز له الأخد بمقدار مكانه من الدين لا على وجه إتفاقه في إقامة الرعونة وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا مالا يستباح # وقد لبس إبليس على قوم من العلماء ينقطعون على السلطان إقبالا على التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل على السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين غيبة الناس ومدح النفس وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير باكرامهم وانعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الانكار عليهم(105/138)
# وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول ما أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم وقد كان علماء السلف يبعدون عن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم اليهم في الفتاوي والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح للأمراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم ويدلك على أنهم قصدوا بالعلوم أن الأمراء كانوا قديما يميلون إلى سماع الحجج في الأصول فأظهر الناس علم الكلام ثم مال بعض الأمراء إلى المناظرة في الفقه فمالالناس إلى الجدل ثم بعض الأمراء إلى المواعظ فمال خلق كثير من المتعلمين إليها ولما كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء # ومن تلبيس إبليس على الفقهاء أن أحدهم يأكل من وقف المدرسة المبنية على المتشاغلين بالعلم فيمكث فيها سنين ولا يتشاغل ويقنع بما عرف أو ينتهي في العلم فلا يبقى له في الوقف حظ لأنه إنما جعل لمن يتعلم الا أن يكون ذلك الشخص معيدا او مدرسا فان شغله دائم ومن ذلك ما يحكى عن بعض الأحداث المتفقهة من الانبساط في المنهيات فبعضهم يلبس الحرير ويتحلى بالذهب ويحال على المكث فيأخذه إلى غير ذلك من المعاصي وسبب إنبساط هؤلاء مختلف فمنهم من يكون فاسد العقيدة في أصل الدين وهو يتفقه ليستر نفسه أو ليأخذ من الوقف أو ليرأس أو ليناظر # ومنهم من عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوى وحب الشهوات وليس عنده(105/139)
صارف عن ذلك لأن نفس الجدل والمناظرة تحرك الكبر والعجب وإنما يتقوم الانسان بالرياضة ومطالعة سير السلف وأكثر القوم في بعد عن هذا وليس عندهم إلا ما يعين الطبع على شموخه فحينئذ يسرح الهوى بلا زاد ومنهم من يلبس عليه إبليس بأنه عالم وفقيه ومفت والعلم يدفع عن أربابه وهيهات فان العلم أولى أن يحاجه ويضاعف عذابه كما ذكرنا في حق القراء وقد قال الحسن البصري إنما الفقيه من يخشى الله عز وجل قال ابن عقيل رأيت فقيها خراسانيا عليه حرير وخواتم ذهب فقلت له ما هذا فقال خلع السلطان وكمد الأعداء فقلت له بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلما إن إبليس عدوك وإذا بلغ منك مبلغك البسك ما يسخط الشرع فقد أشمته بنفسك وهل خلع السلطان سائغة لنهي الرحمن يا مسكين خلع عليك السلطان فانخلعت به من الايمان وقد كان ينبغي أن يخلع بك السلطان لباس الفسق ويلبسك لباس التقوى رماكم الله بخزيه حيث هونتم أمره هكذا ليتك قلت هذه رعونات الطبع الآن تمت محنتك لأن عدوانك دليل على فساد باطنك # ومن تلبيسه عليهم أن يحسن لهم ازدراء الوعاظ ويمنعهم من الحضور عندهم فيقولون من هؤلاء قصاص ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع والقصاص لا يذمون من حيث هذا الاسم لأن الله عز وجل قال " نحن نقص عليك أحسن القصص " وقال " فاقصص القصص " وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد على ما أكثره محال فأما إذا كان القصص صدقا ويوجب وعظا فهو ممدوح وقد كان احمد بن حنبل يقول ما أحوج الناس إلى قاص صدوق(105/140)
$ ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص $ # قال المصنف كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء وقد حضر مجلس عبيد بن عمير عبد الله بن عمر رضي الله عنه وكان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عن الحضور وعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن # وقد ذكرنا آفاتهم في كتاب القصاص المذكرين إلا أنا نذكر هنا جملة فمن ذلك أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس على الخير وكفهم عن الشر وهذا افتيات منهم على الشريعة لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة ثم نسوا قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن ذلك أنهم تلمحوا ما يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية في العشق # ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد الإثارة إلى محبة الله عز وجل ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى فيضل القاص ويضل ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقه من رياء يخالطه ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بها على قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها اليوم مشابهة للغناء فهي إلى التحريم أقرب منها إلى الكراهة والقارىء يطرب والقاص ينشد الغزل مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر(105/141)
ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء وتمزيق الثياب لما في النفوس من دفائن الهوى ثم يخرجون فيقولون كان المجلس طيبا ويشيرون بالطيبة إلى ما لا يجوز ومنهم من يجري في مثل تلك الحالة التي شرحناها لكنه ينشد أشعار النوح على الموتى ويصف ما يجري لهم من البلاء ويذكر الغربة ومن مات غريبا فيبكي بها النساء ويصير المكان كالمأتم وإنما ينبغي أن يذكر الصبر على فقد الأحباب لا ما يوجب الجزع ومنهم من يتكلم في دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه فليس عليه إبليس إنك من جملة الموصوفين بذلك لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفت ما تصف وسلكت الطريق وكشف هذا التلبيس أن الوصف علم والسلوك غير العلم ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح ولو على كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم اليوم في موسى والجبل وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عن ذنب فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف ومنهم من يحث على الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة المقصود فربما تاب الرجل منهم وانقطع إلى زاوية أو خرج إلى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم ومنهم من يتكلم في الرجاء والطمع من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة على المعاصي ثم يقوي ما ذكر بميله إلى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة فيفسد القلوب بقوله وفعله $ فصل وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب $ الرئاسة في قلبه مع الزمان فيجب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ولو صح قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق(105/142)
$ فصل ومن القصاص من يخلط في مجلسه الرجال والنساء وترى النساء يكثرن $ الصياح وجدا على زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن جمعا للقلوب عليه ولقد ظهر في زماننا هذا من القصاص ما لا يدخل في التلبيس لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمحنون به الأمراء والظلمة والآخذ من أصحاب المكوس والتكسب به في البلدان وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى وفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر # وقد يلبس إبليس على الواعظ المحقق فيقول له مثلك لا يعظ وإنما يعظ متيقظ فيحمله على السكوت والانقطاع وذلك من دسائس إبليس لأنه يمنع فعل الخير ويقول إنك تلتذ بما تورده وتجد بذلك سد باب الخير وعن ثابت قال كان الحسن في مجلس فقيل للعلاء تكلم فقال أو هناك أنا ثم ذكر الكلام ومؤنته وتبعته قال ثابت فأعجبني قال ثم تكلم الحسن واننا هناك يود الشيطان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحدا بخبر ولم ينهه عن شر $ ذكر تلبيسه على أهل اللغة والأدب $ # قال المصنف قد لبس على جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب وبما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها فإن الانسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مرادة لغيرها فترى الانسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل ولا من الفقه ولا يلتفت إلى تزكيه نفسه وصلاح قلبه # ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس أنكم علماء الاسلام لأن(105/143)
النحو واللغة من علوم الاسلام وبها يعرف معنى القرآن العزيز ولعمري أن هذا لا ينكر ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب وهو أمر لازم وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه وإنفاق الزمان في تحصيل هذا الفاضل وليس بمهم مع ترك المهم غلط وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل $ فصل ومما ظنوه صوابا وهو خطأ ما أخبرنا به أبو الحسين بن فارس $ قال قيل لفقيه العرب هل يجب على الرجل إذا أشهد الوضوء قال نعم قال والإشهاد أن يمذي الرجل # قال المصنف وذكر من هذا الجنس مسائل كثيرة وهذا غاية في الخطأ لأنه متى كان الاسم مشتركا بين مسميين كان إطلاق الفتوى على أحدهما دون الآخر خطأ مثاله أن يقول المستفتي ما تقول في وطء الرجل زوجته في قرئها فان القرء يقع عند اللغويين على الاطهار وعلى الحيض فيقول الفقيه يجوز إشارة إلى الطهر أو لا يجوز إشارة إلى الحيض خطأ وكذلك لو قال السائل هل يجوز للصائم أن يأكل بعد طلوع الفجر لم يجز إطلاق الجواب فما ذكره فقيه العرب هو خطأ من وجهين أحدهما أنه لم يستفصل في المحتملات والثاني أنه صرف الفتوى إلى أبعد المحتملات وترك الأظهر وقد استحسنوا هذا وقلة الفقه أوجبت هذا الزلل(105/144)
$ فصل ولما كان عموم اشتغالهم بأشعار الجاهلية ولم يجد الطبع صادا $ عما وضع عليه من مطالعة الأحاديث ومعرفة سير السلف الصالح سالت بهم الطباع إلى هوة الهوى فانبث شرع البطالة يعبث فقل أن ترى منهم متشاغلا بالتقوى أو ناظرا في مطعم فان النحو يغلب طلبه على السلاطين فيأكل النحاة من أموالهم الحرام كما كان أبو علي الفارسي في ظل عضد الدولة وغيره وقد يظنون جواز الشيء وهو غير جائز لقلة فقههم كما جرى للزجاج أبي إسحاق ابراهيم بن السري قال كنت أؤدب القاسم بن عبد الله فأقول له إن بلغت إلى مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي فيقول ما أحببت فأقول له أن تعطيني عشرين ألف دينار وكانت غاية أمنيتي فما مضت إلا سنون حتى ولى القاسم الوزارة وأنا على ملازمتي له وقد صرت نديمه فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد ثم هبته فلما كان في اليوم الثالث من وزارته قال لي يا أبا اسحاق لم أرك أذكرتني بالنذر فقلت عولت على رعاية الوزير أيده الله وأنه لا يحتاج إلى إذكار لنذر عليه في أمر خادم واجب الحق فقال لي إنه المعتضد ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث فاسمع بأخذه متفرقا فقلت إفعل فقال إجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار واستعجل عليها ولا تمتنع من مسائلتي شيئا تخاطب فيه صحيحا كان أو محالا إلى أن يحصل لك مال النذر ففعلت ذلك وكنت أعرض عليه كل يوم رقاعا فيوقع فيها وربما قال لي كم ضمن لك على هذا فأقول كذا وكذا فيقول غبنت هذا يساوي كذا وكذا فاستزد فاراجع القوم ولا أزال أماكسهم ويزيدونني حتى أبلغ الحد الذي رسمه قال فعرضت عليه شيئا عظيما فحصل عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها في مدة مديدة فقال لي بعد شهور يا أبا إسحاق حصل مال النذر فقلت لا فسكت وكنت أعرض ثم يسألني في كل شهر أو نحوه هل حصل المال فأقول لا خوفا من انقطاع الكسب إلى أن حصل(105/145)
عندي ضعف المال وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتصل # فقلت قد حصل ذلك بسعادة الوزير فقال فرجت والله عني فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل لك قال ثم أخذ الدواة ووقع لي إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صله فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئا ولم أدر كيف أقع منه فلما كان من الغد جئته وجلست على رسمي فأوما إلي هات ما معك ليستدعى مني الرقاع على الرسم فقلت ما أخذت من أحد رقعة لأن النذر قد وقع الوفاء به ولم ادر كيف أقع من الوزير فقال يا سبحان الله أتراني كنت أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة وعلم به الناس وصارت لك به منزلة عندهم وجاه وغدو ورواح إلى بابك ولا يعلم سبب انقطاعه فيظن ذلك لضعف جاهك عندي أو تغير رتبتك أعرض علي رسمك وخذ بلا حساب فقبلت يده وباكرته من غد بالرقاع وكنت أعرض عليه كل يوم شيئا إلى أن مات وقد تأثلت مالي هذا # قال المصنف أنظروا ما يصنع قلة الفقه فان هذا الرجل الكبير القدر في معرفته النحو واللغة لو علم أن هذا الذي جرى له لم يجز شرعا ما حكاه وتبجح به فان إيصال الظلامات واجب ولا يجوز أخذ البرطيل عليها ولا على شيء مما نصب الوزير له من أمور الدولة وبهذا تبين مرتبة الفقه على غيره $ ذكر تلبيس إبليس على الشعراء $ # قال المصنف وقد لبس عليهم فأراهم أنهم من أهل الأدب وأنهم قد خصوا بفطنة تميزوا بها عن غيرهم ومن خصكم بهذه الفطنة ربما عفا عن زللكم فتراهم يهيمون في كل واد من الكذب والقذف والهجاء وهتك الأعراض والإقرار بالفواحش وأقل أحوالهم أن الشاعر يمدح الإنسان فيخاف أن يهجوه فيعطيه اتقاء شره أو يمدحه بين جماعة فيعطيه حياء من الحاضرين وجميع ذلك من جنس المصادرة(105/146)
# وترى خلقا من الشعراء وأهل الأدب لا يتحاشون من لبس الحرير والكذب في المدح خارجا عن الحد ويحكون اجتماعهم على الفسق وشرب الخمر وغير ذلك ويقول أحدهم اجتمعت أنا وجماعة من الأدباء ففعلنا كذا وكذا هيهات هيهات ليس الأدب إلا ما الله عز وجل باستعمال التقوى له ولا قدر للفطن في أمور الدنيا ولا تحسن العبارة عند الله إذا لم يتقه وجمهور الأدباء والشعراء إذا ضاق بهم رزق تسخطوا فكفروا وأخذوا في لوم الأقدار كقول بعضهم # لئن سمت همتي في الفضل عالية % فإن حظي ببطن الأرض ملتصق # كم يفعل الدهر بي ما لا أسر به % وكم يسيء زمان جائر حنق # وقد نسي هؤلاء أن معاصيهم تضيق أرزاقهم فقد رأوا أنفسهم مستحقين للنعم مستوجبين للسلامة من البلاء ولم يتلمحوا ما يجب عليهم من امتثال أوامر الشرع فقد ضلت فطنتهم في هذه الغفلة $ ذكر تلبيس إبليس على الكاملين من العلماء $ # قال المصنف إن أقواما علت هممهم فحصلوا علوم الشرع من القرآن والحديث والفقه والأدب وغير ذلك فأتاهم إبليس يخفي التلبيس فأراهم أنفسهم بعين عظيمة لما نالوا وأفادوا غيرهم فمنهم من يستفزه لطول عنائه في الطلب فحسن له اللذات وقال له إلى متى هذا التعب فأرح جوارحك من كلف التكاليف وافسح لنفسك من مشتهاها فان وقعت في زلة فالعلم يدفع عنك العقوبة وأورد عليه فضل العلماء فان خذل هذا العبد وقبل هذا التلبيس يهلك وان وفق فينبغي له أن يقول جوابك من ثلاثة أوجه # أحدها أنه إنما فضل العلماء بالعمل ولولا العمل به ما كان له معنى وإذا لم أعمل به كنت كمن لم يفهم المقصود به ويصير مثلي كمثل رجل جمع الطعام وأطعم الجياع ولم يأكل فلم ينفعه ذلك من جوعه # والثاني أن يعارضه بما ورد في ذم من لم يعمل بالعلم لقوله صلى الله عليه وسلم أشد(105/147)
الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وحكايته صلى الله عليه وسلم عن رجل يلقي في النار فتندلق أقتابه فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه وقول أبي الدرداء رضي الله عنه ويل لمن يعلم مرة وويل لم علم ولم يعمل سبع مرات # والثالث أن يذكر له عقاب من هلك من العلماء التاركين للعمل بالعلم كابليس وبلعام ويكفي في ذم العالم إذا لم يعمل قوله تعالى " كمثل الحمار يحمل أسفارا " نقد مسالك الكاملين من العلماء # وقد لبس إبليس على أقوام من المحكمين في العلم والعمل من جهة أخرى فحسن لهم الكبر بالعلم والحسد للنظير والرياء لطلب الرياسة فتارة يريهم أن هذا كالحق الواجب لهم وتارة يقوي حب ذلك عندهم فلا يتركونه مع علمهم بأنه خطأ وعلاج هذا لمن وفق إدمان النظر في اثم الكبر والحسد والرياء وإعلام النفس أن العلم لا يدفع شر هذه المكتسبات بل يضاعف عذابها لتضاعف الحجة بها ومن نظر في سير السلف من العلماء العاملين استقر نفسه فلم يتكبر ومن عرف الله لم يراء ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته لم يحسد # وقد يدخل إبليس على هؤلاء بشبهة ظريفة فيقول طلبكم للرفعة ليس بتكبر لانكم نواب الشرع فانكم تطلبون اعزاز الدين ودحض أهل البدع(105/148)
واطلاقكم اللسان في الحساد غضب للشرع إذ الحساد قد ذموا من قام به وما تظنونه رياء فليس برياء لأن من تخاشع منكم وتباكى اقتدى به الناس كما يقتدون بالطبيب إذا اجتمى أكثر من اقتدائهم بقوله إذا وصف # وكشف هذا التلبيس أنه لو تكبر متكبر على غيرهم من جنسهم وصعد في المجلس فوقه أو قل حاسد عنه شيئا لم يغضب هذا العالم لذلك كغضبه لنفسه وإن كان المذكور من نواب الشرع فعلم أنه إنما لم يغضب لنفسه بل للعلم وأما الرياء فلا عذر فيه لأحد ولا يصلح أن يجعل طريقا لدعاية الناس وقد كان أيوب السختياني إذا حدث بحديث فرق ومسح وجهه وقال ما أشد الزكام وبعد هذا فالأعمال بالنيات والناقد بصير وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم بذلك من ثلاثة أوجه أحدها الفرح فانه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب والثاني لسروره بثلب المسلمين والثالث أنه لا ينكر # وقد لبس إبليس على الكاملين في العلوم فيسهرون ليلهم ويدأبون نهارهم في تصانيف العلوم ويريهم إبليس أن المقصود نشر الدين ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت والرياسة وطلب الرحلة من الآفاق إلى المصنف # وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس من غير تردد إلى أو قرئت على نظيره في العلم فرح بذلك ان كان مراده نشر العلم وقد قال بعض السلف ما من علم علمته إلا أحببت أن يستفيده الناس من غير أن ينسب إلي ومنهم من يفرح بكثرة الاتباع ويلبس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ومن ذلك العجب بكلماتهم(105/149)
وعلمهم وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه وما هذه صفة المخلص في التعليم لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى فاذا شفي بعض المرضى على يد طبيب منهم فرح الآخر وقد ذكرنا آنفا حديث ابن أبي ليلى ونعيده بإسناد آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه # قال المصنف وقد يتخلص العلماء الكاملون من تلبيسات إبليس الظاهرة فيأتيهم بخفي من تلبيسه بأن يقول له ما لقيت مثلك ما أعرفك بمداخلي ومخارجي فان سكن إلى هذا هلك بالعجب وان سلم من المسألة له سلم وقد قال السري السقطي لو أن رجلا دخل بستانا فيه من جميع ما خلق الله عز وجل من الأشجار عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار فخاطبه كل طائر بلغته وقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كأن في أيديها أسيرا والله الهادي لا إله إلا هو(105/150)
$ الباب السابع في تلبيس إبليس على الولاة والسلاطين قال المصنف قد $ لبس عليهم إبليس من وجوه كثيرة نذكر أمهاتها فالوجه الأول أنه يريهم أنه الله عز وجل يحبهم ولولا ذلك ما ولاهم سلطانه ولا جعلهم نوابا عنه في عباده وينكشف هذا التلبيس بأنهم إن كانوا نوابا عنه في الحقيقة فليحكموا بشرعه وليتبعوا مراضيه فحينئذ يحبهم لطاعته فأما صورة الملك والسلطنة فانه قد أعطاها خلقا ممن يبغضه وقد بسط الدنيا لكثير ممن لا ينظر إليه وسلط جماعة من أولئك على الأولياء والصالحين فقتلوهم وقهروهم فكان ما أعطاهم عليهم لا لهم # ودخل ذلك في قوله تعالى " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " والثاني أنه يقول لهم الولاية تفتقر إلى هيبة فيتكبرون عن طلب العلم ومجالسة العلماء بآرائهم فيتلفون الدين والمعلوم أن الطبع يسرق من خصال المخالطين فإذا خالطوا مؤثري الدنيا الجهال بالشرع سرق الطبع من خصالهم مع ما عنده منها ولا يرى ما يقاومها ولا ما يزجره عنها وذلك سبب الهلاك والثالث أنه يخوفهم الأعداء ويأمرهم بتشديد الحجاب فلا يصل إليهم أهل المظالم ويتوانى من جعل بصدد رفع المظالم(105/151)
# وقد روى أبو مريم الأسدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عز وجل دون حاجته وخلته وفقره والرابع أنهم يستعملون من لا يصلح ممن لا علم عنده ولا تقوى فيجتلب الدعاء عليهم بظلمة الناس ويطعمهم الحرام بالبيوع الفاسدة ويحد من لا يجب عليه الحد ويظنون أنهم يتخلصون من الله عز وجل مما جعلوه في عنق الوافي هيهات إن العامل على الزكاة إذا وكل الفساق بتفرقتها فخانوا ضمن والخامس أنه يحسن لهم العمل برأيهم فيقطعون من لا يجوز قطعه ويقتلون من لا يحل قتله ويوهمهم أن هذه سياسة وتحت هذا من المعنى أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى إتمام ونحن نتمها بآرائنا # وهذا من أقبح التلبيس لأن الشريعة سياسة إلهية ومحال أن يقع في سياسة الإله خلل يحتاج معه إلى سياسة الخلق قال الله عز وجل " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقال " لا معقب لحكمه " فمدعي السياسة مدعي الخلل في الشريعة وهذا يزاحم الكفر وقد روينا عن عضد الدولة أنه كان يميل إلى جارية فكانت تشغل قلبه فأمر بتغريقها لئلا يشتغل قلبه عن تدبير الملك وهذا هو الجنون المطبق لأن قتل مسلم بلا جرم لا يحل واعتقاده أن هذا جائز كفر وأن أعتقده غير جائز لكنه رآه مصلحة فلا مصلحة فيما يخالف الشرع والسادس أنه يحسن لهم الانبساط في الأموال ظانين أنها بحكمهم # وهذا تلبيس يكشفه وجوب الحجر على المفرط في مال نفسه فكيف بالمستأجر في حفظ مال غيره وإنما له من المال بقدر عمله فلا وجه للانبساط قال ابن عقيل وقد روي عن حماد الرواية أنه أنشد الوليد بن يزيد أبياتا فأعطاه(105/152)
خمسين ألفا وجاريتين قال وهذا مما يروى على وجه المدح لهم وهو غاية القدح فيهم لأنه تبذير في بيت مال المسلمين # وقد يزين لبعضهم منع المستحقين وهو نظير التبذير والسابع أنه يحسن لهم الانبساط في المعاصي ويلبس عليهم أن حفظكم للسبيل وأمن البلاد بكم يمنع عنكم العقاب وجواب هذا أن يقال إنما وليتم لتحفظوا البلاد وتؤمنوا السبل وهذا وجب عليهم وما انبسطوا فيه من المعاصي منهي عنه فلا يرفع هذا ذلك والثامن أنه يلبس على أكثرهم بأنه قد قام بما يجب من جهة أن ظواهر الأحوال مستقيمة ولو حقق النظر لرأى اختلالا كثيرا # وقد روينا عن القاسم بن طلحة بن محمد الشاهد قال رأيت علي بن عيسى الوزير وقد وكل بدور البطيخ رجلا برزق يطوف يطوف على باعة العنب فإذا اشترى أحد سلة عنب خمري لم يعرض له وإن اشترى سلتين فصاعدا طرح عليها الملح لئلا يتمكن من عملها خمرا قال وأدركت السلاطين يمنعون المنجمين من القعود في الطرق حتى لا يفشو العمل بالنجوم وأدركنا الجند ليس فيهم أحد معه غلام أمرد له طرة ولا شعر إلى أن بدىء بحكم العجم والتاسع أنه يحسن لهم استجلاب الأموال واستخراجها بالضرب العنيف وأخذ كل ما يملكه الخائن واستخلافه وإنما الطريق إقامة البينة على الخائن # وقد روينا عن عمر بن عبد العزيز أن غلاما كتب له أن قوما خانوا في مال الله ولا أقدر على استخلاص ما في أيديهم إلا أن أنا لهم بعذاب فكتب إليه لأن يلقوا الله بخيانتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم والعاشر أنه يحسن لهم التصدق بعد الغضب يريهم أن هذا يمحو ذلك ويقول إن درهما من الصدقة يمحو إثم عشرة من الغضب وإن كانت الصدقة من الحلال لم يدفع أيضا إثم الغصب لأن اعطاء الفقير لا يمنع تعلق الذمة بحق آخر(105/153)
# والحادي عشر أنه يحسن لهم مع الإصرار على المعاصي زيارة الصالحين وسؤالهم الدعاء ويريهم أن هذا يخفف ذلك الإثم وهذا الخير لا يدفع ذلك الشر # وفي الحديث عن الحسين بن زياد قال سمعت منيعا يقول مر تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى مالك بن دينار فذكر له ذلك فقام مالك فمشى معه إلى السشار فلما رأوه قالوا يا أبا يحيى ألا بعثت الينا في حاجتك قال حاجتي أن تخلو عن سفينة هذا الرجل قالوا قد فعلنا قال وكان عندهم كوز يجعلون ما يأخذون من الناس من الدراهم فيه فقالوا ادع لنا يا أبا يحيى قال قولوا للكوز يدعو لكم كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف والثاني عشر أن من الولاة من يعمل لمن فوقه فيأمره بالظلم فيظلم ويلبس عليهم إبليس بأن الإثم على الأمير لا عليك وهذا باطل لأنه معين على الظلم وكل معين على المعاصي عاص فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ومن هذا الفن أن يجبي المال لمن هو فوقه وقد علم أنه يبذلأ فيه ويخون فهذا معين على الظلم أيضا # وفي الحديث بإسناد مرفوع إلى جعفر بن سليمان قال سمعت مالك بن دينار يقول كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة والله الهادي إلى الصواب(105/154)
$ الباب الثامن ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات قال المصنف $ إعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل فهو يدخل منه على الجهال بأمان وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم وقد قال الربيع بن حيثم تفقه ثم اعتزل # فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم والعلم أفضل من النوافل فأراهم أن المقصود من العلم العمل وما فهموا من العمل إلا عمل الجوارح وما علموا أن العمل عمل القلب وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح قال مطرف بن عبد الله فضل العلم خير من فضل العبادة وقال يوسف بن أسباط باب من العلم تتعلمه أفضل من سبعين غزاة وقال المعافى بن عمران كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة # قال المصنف فلما مر عليهم هذا التلبيس وآثروا التعبد بالجوارح على العلم تمكن إبليس من التلبيس عليهم في فنون التعبد $ ذكر تلبيسه عليهم في الاستطابة والحدث $ # من ذلك أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء وذلك يؤذي الكبد وإنما(105/155)
ينبغي أن يكون بمقدار ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدما ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي بهذا وكلما زاد في هذا نزل البول وبيان هذا أن الماء يرشح إلى المثانة ويجمع فيها فإذا تهيأ الانسان للبول خرج ما اجتمع فاذا مشى وتنحنح وتوقف رشح شيء آخر فالرشح لا ينقطع وإنما يكفيه أن يحتلب ما في الذكر بين أصبعيه ثم يتبعه الماء ومنهم من يحسن له استعمال الماء الكثير وإنما يجزيه بعد زوال العين سبع مرات على أشد المذاهب فإن استعمل الأحجار فيما لم يتعد المخرج أجزأه ثلاثة أحجار إذا أنقى بهن ومن لم يقنع بما قنع الشرع به فهو مبتدع شرعا لا متبع والله الموفق $ ذكر تلبيسه عليهم في الوضوء $ # منهم من يلبس عليه في النية فتراه يقول أرفع الحدث ثم يقول أستبيح الصلاة ثم يعيد فيقول أرفع الحدث وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ فتكلف اللفظ أمر أملا يحتاج إليه ثم لا معنى لتكرار اللفظ ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به فيقول من أين لك أنه طاهر ويقدر له فيه كل احتمال بعيد وفتوى الشرع يكفيه بأن أصل الماء الطهارة فلا يترك الأصل بالاحتمال # ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء وذلك يجمع أربعة أشياء مكروهة الإسراف في الماء وتضييع العمر القيم فيما ليس بواجب ولا مندوب والتعاطي على الشريعة إذا لم يقنع بما قنعت به من استعمال الماء القليل والدخول فيما نهت عنه من الزيادة على الثلاث وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة أو فات أوله وهو الفضيلة أو فاتته الجماعة # وتلبيس إبليس على هذا بأنك في عبادة ما لم تصح لا تصح الصلاة ولو تدبر أمره لعلم أنه في مخالفة وتفريط وقد رأينا من ينظر في هذه الوساوس ولا يبالي بمطعمه ومشربه ولا يحفظ لسانه من غيبة فليته قلب الأمر(105/156)
# وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد قال أفي الوضوء سرف قال نعم وإن كنت على نهر جار وفي الحديث عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوه أو قال فاحذروه وعن الحسن رضي الله عنه قال شيطان الوضوء يدعى الولهان يضحك بالناس في الوضوء وبإسناد مرفوع إلى أبي نعامة إن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك الفردوس وأسألك فقال عبد الله سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور وعن ابن شوذب قال كان الحسن يعرض بابن سيرين يقول يتوضأ أحدهم بقربة ويغتسل بمزادة صبا صبا ودلكا دلكا تعذيبا لأنفسهم وخلافا لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وكان أبو الوفاء بن عقيل يقول أجل محصول عند العقلاء الوقت وأقل متعبد به الماء وقد قال صلى الله عليه وسلم صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء وقال في المني أمطه عنك بأذخرة قال وفي الحذاء طهوره بأن يدلك بالأرض وفي ذيل المرأة يطهره ما بعده وقال يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام وكان يحمل ابنه أبي العاص بن الربيع في الصلاة ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء وما يرده # وقال ما أبقيت لنا طهور وقال يا صاحب الماء لا تخبره وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب وركب الحمار معروريا وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء وتوضأ من سقاية المسجد ومعلوم حال الأعراب الذين يأتي أحدهم من البادية كأنه بهيمة أو ما سمعت أن أحدهم أقدم على البول في المسجد كل ذلك لتعليمنا واعلامنا أن الماء على أصل الطهارة وتوضأ من غدير كأن ماءه نقاعة الحناء فأما قوله استنزهوا البول فان للتنزه حدا معلوما وهو(105/157)
أن لا يغفل عن محل قد أصابه حتى يتبعه الماء فأما الاستنثار فانه إذا علق نما وانقطع الوقت بما لا يقضي بمثله الشرع # قال المصنف وكان أسود بن سالم وهو من كبار الصالحين يستعمل ماءا كثيرا في وضوئه ثم ترك ذلك فسأله رجل عن سبب تركه فقال نمت ليلة فاذا بهاتف يهتف بي يا أسود ما هذا يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني عن سعيد بن المسيب قال إذا جاوز الوضوء ثلاثا لم يرفع إلى السماء قال قلت لا أعود لا أعود فأنا اليوم يكفيني كف ماء $ ذكر تلبيسه عليهم في الأذان $ # ومن ذلك التلحين في الأذان وقد كرهه مالك بن أنس وغيره من العلماء كراهية شديدة لأنه يخرجه عن موضع التعظيم إلى مشابهة الغناء ومنه أنهم يخلطون أذان الفجر بالتذكير والتسبيح والمواعظ ويجعلون الأذان وسطا فيختلط وقد كره العلماء كل ما يضاف إلى الأذان وقد رأينا من يقوم بالليل كثيرا على المنارة فيعظ ويذكر ومنهم من يقرأ سورا من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات $ ذكر تلبيسه عليهم في الصلاة $ # من ذلك تلبيسه عليهم في الثياب التي يستتر بها فترى أحدهم يغسل الثوب الطاهر مرارا وربما لمسه مسلم فيغسله ومنهم من يغسل ثيابه في دجلة لا يرى غسلها في البيت يجزىء ومنهم من يدليها في البئر كفعل اليهود وما كانت الصحابة تعمل هذا بل قد صلوا في ثياب فارس لما فتحوها واستعملوا أوطئتهم وأكسيتهم ومن الموسوسين من يقطر عليه قطرة ماء فيغسل الثوب كله وربما تأخر لذلك عن صلاة الجماعة ومنهم من ترك الصلاة جماعة لأجل مطر(105/158)
يسير يخاف أن ينتضح عليه ولا يظن ظان أنني أمتنع من النظافة والورع ولكن المبالغة الخارجة عن حد الشرع المضيعة للزمان هي التي ننهي عنها # ومن ذلك تلبيسه عليهم في نية الصلاة فمنهم من يقول أصلى صلاة كذا ثم يعيد هذا ظنا منه أنه قد نقض النية والنية لا تنقض وأن لم يرض اللفظ ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض فاذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه فليت شعري ما الذي أحضر النية حينئذ وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوته الفضيلة وفي الموسوسين من يحلف بالله لا كبرت غير هذه المرة وفيهم من يحلف بالله بالخروج من ماله أو بالطلاق وهذه كلها تلبيسات إبليس والشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات وما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابة شيء من هذا وقد بلغنا عن أبي حازم أنه دخل المسجد فوسوس إليه إبليس أنك تصلي بغير وضوء فقال ما بلغ نصحك إلى هذا # وكشف هذا التلبيس أن يقال للموسوس إن كنت تريد إحضار النية فالنية حاضرة لأنك قمت لتؤدي الفريضة وهذه هي النية ومحلها القلب لا اللفظ إن كنت تريد تصحيح اللفظ فاللفظ لا يجب ثم قد قلته صحيحا فما وجه الإعادة أفتراك تظن وقد قلت إنك ما قلت هذا مرض # قال المصنف وقد حكى لي بعض الأشياخ عن ابن عقيل حكاية عجيبة أن رجلا لقيه فقال إني أغسل العضو وأقول ما غسلته وأكبر وأقول ما كبرت فقال له ابن عقيل دع الصلاة فانها ما تجب عليك فقال قوم لابن عقيل كيف تقول هذا فقال لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن المجنون حتى يفيق ومن يكبر ويقول ما كبرت فليس بعاقل والمجنون لا تجب عليه الصلاة(105/159)
# قال المصنف واعلم أن الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل وجهل بالتسرع ومعلوم أن من دخل عليه عالم فقام له وقال نويت أن أنتصب قائما لدخول هذا العالم لأجل علمه مقبلا عليه بوجهي صفة في عقله فان هذا قد تصور في ذهنه منذ رأى العالم فقيام الانسان إلى الصلاة ليؤدي الفرض أمر يتصور في النفس في حالة واحدة لا يطول زمانه وإنما يطول زمان نظم هذه الألفاظ والألفاظ لا تلزم والوسواس جهل محض وإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأذائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال ولو كلف نفسه ذلك في القيام للعالم لتعذر عليه فمن عرف هذا عرف النية ثم إنه يجوز تقديمها على التكبير بزمان يسير ما لم يفسخها فما وجه هذا التعب في الصاقها بالتكبير على أنه إذا حصلها ولم يفسخها فقد التصقت بالتكبير وعن مسور قال أخرج إلي معن بن عبد الرحمن كتابا وحلف بالله أنه خط أبيه وإذا فيه قال عبد الله والذي لا إله غيره ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رأيت بعده أشد خوفا عليهم من أبي بكر وإني لأظن عمر كان أشد أهل الأرض خوفا عليهم $ فصل ومن الموسوسين من إذا صحت له النية وكبر ذهل عن باقي صلاته $ كأن المقصود من الصلاة التكبير فقط وهذا تلبيس يكشفه أن التكبير يراد للدخول في العبادة فكيف تهمل العبادة وهي كالدار ويقتصر على التشاغل بحفظ الباب $ فصل ومن الموسوسين من تصح له التكبيرة خلف الإمام وقد بقي من $ الركعة(105/160)
يسير فيستفتح ويستعيذ فيركع الإمام وهذا تلبيس أيضا لأن الذي شرع فيه من التعوذ والاستفتاح مسنون والذي تركه من قراءة الفاتحة وهو لازم للمأموم عند جماعة من العلماء فلا ينبغي أن يقدم عليه سنة # قال المصنف وقد كنت أصلي وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا فرآني مرة أفعل هذا فقال يا بني إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الامام ولم يختلفوا في أن الاستفتاح سنة فاشتغل بالواجب ودع السنن ترك السنن # وقد لبس إبليس على قوم فتركوا كثيرا من السنن لواقعات وقعت لهم فمنهم من كان يتخلف عن الصف الأول ويقول إنما أراد قرب القلوب ومنهم من لم ينزل يدا على يد في الصلاة وقال أكره أن أظهر من الخشوع ما ليس في قلبي وقد روينا هذين الفعلين عن بعض أكابر الصالحين # وهذا أمر أوجبه قلة العلم ففي الناس ما لهم في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا وفي أفراد مسلم من حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وأما وضع اليد على اليد فسنة روى أبو داود في سننه أن ابن الزبير قال وضع اليد على اليد من السنة وإن ابن مسعود كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى # قال المصنف ولا يكبرن عليك إنكارنا على من قال أراد قرب القلوب ولا أضع يدا على يد وان كان من الأكابر فان الشرع هو المنكر لا نحن وقد قيل لاحمد بن حنبل رحمة الله عليه ان ابن المبارك يقول كذا وكذا فقال ان ابن المبارك لم ينزل من السماء وقيل له قال ابراهيم بن أدهم فقال(105/161)
جئتموني ببينات الطريق عليكم بالأصل فلا ينبغي أن يترك الشرع لقول معظم في النفس فان الشرع أعظم والخطأ في التأويل على الناس يجري ومن الجائز أن تكون الأحاديث لم تبلغه $ فصل وقد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف فتراه يقول $ الحمد الحمد فيخرج باعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد وتارة في إخراج ضاد المغضوب ولقد رأيت من يقول المغضوب فيخرج بصاقة مع إخراج الضاد لقوة تشديده وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس وعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء تنفلته قال انها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فان قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديورات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم وفي أفراد مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الشيطان يقال له خنزب فاذا أحسسته فتعوذ بالله منه ثلاثا واتفل عن يسارك ففعلت ذلك فأذهبه الله عني(105/162)
$ فصل وقد لبس إبليس على خلق كثير من الجهالة المتعبدين فرأوا أن $ العبادة هي القيام والقعود فحسب وهم يدأبون في ذلك ويخلون في بعض واجباتهم ولا يعلمون وقد تأملت جماعة يسلمون إذا سلم الإمام وقد بقي عليهم من التشهد الواجب شيء وذلك لا يحمله الامام عنهم ولبس على آخرين منهم فهم يطيلون الصلاة ويكثرون القراءة ويتركون المسنون في الصلاة ويرتكبون المكروه فيها وقد دخلت على بعض المتعبدين وهو يتنفل بالنهار ويجهر بالقراءة فقلت له إن الجهر بالقراءة بالنهار مكروه فقال لي أنا أطرد النوم عني بالجهر فقلت له إن السنن لا تترك لأجل سهرك ومتى غلبك النوم فنم فان للنفس عليك حقا وعن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهر بالقراءة في النهار فارجموه بالبعر الاكثار من صلاة الليل # وقد لبس إبليس على جماعة من المتعبدين فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض ثم يقع قبيل الفجرفتفوته الفريضة أو يقم فيتهيأ لها فتفوفته الجماعة أو يصبح كسلان فلا يقدر على الكسب لعائلته ولقد رأيت شيخا من المتعبدين يقال له حسين القزويني يمشي كثيرا منالنهار في جامع المنصور فسألت عن سبب مشيه فقيل لي لئلا ينام فقلت هذا جهل بمقتضى الشرع والعقل # أما الشرع فان النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لنفسك عليك حقا فقم ونم وكان يقول عليكم هديا قصدا فانه من يشاد هذا الدين يغلبه وعن أنس بن مالك قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال ما هذا قالوا لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال حلوه ثم قال ليصلي أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد وعن عائشة قالت قال رسول(105/163)
الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيذهب فيسب نفسه # قال المصنف هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وانفرد بالذي قبله البخاري وأما العقل فان النوم يجدد القوى التي قد كلت بالسهر فمتى دفعه الانسان وقت الحاجة إليه أقر في بدنه وعقله فنعوذ بالله من الجهل فإن قال قائل فقد رويت لنا أن جماعة من السلف كانوا يحيون الليل فالجواب أولئك تدرجوا حتى قدروا على ذلك وكانوا على ثقة من حفظ صلاة الفجر في الجماعة وكانوا يستعينون بالقائلة من قلة المطعم وصح لهم ذلك ثم لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ليلة لم ينم فيها فسنته هي المتبوعة $ فصل وقد لبس إبليس على جماعة من قوام الليل فتحدثوا بذلك بالنهار $ فربما قال أحدهم فلان المؤذن أذن بوقت ليعلم الناس أنه كان منتبها فأقل ما في هذا إن سلم من الرياء أن ينقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية فيقل الثواب تلبيسه عليهم في القرآن # وقد لبس على آخرين انفردوا في المساجد للصلاة والتعبد فعرفوا بذلك واجتمع اليهم ناس فصلوا بصلاتهم وشاع بين الناس حالهم وذلك من دسائس إبليس وبه تقوى النفس على التعبد لعلمها أن ذلك يشيع ويوجب المدح وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة قال المصنف أخرجاه في الصحيحين # وكان عامر بن عبد قيس يكره أن يروه يصلي وكان لا يتنفل في المسجد(105/164)
وكان يصلي كل يوم ألف ركعة وكان ابن أبي ليلى إذا صلى ودخل عليه داخل أضطجع $ فصل وقد لبس على قوم من المتعبدين وكانوا يبكون والناس حولهم وهذا $ قد يقع عليه فلا يمكن دفعه فمن قدر على ستره فأظهره فقد تعرض للرياء وعن عاصم قال كان أبو وائل إذا صلى في بيته نشج نشيجا ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله واحد يراه ما فعله وقد كان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قام $ فصل وقد لبس على جماعة من المتعبدين فتراهم يصلون الليل والنهار $ ولا ينظرون في إصلاح عيب باطن ولا في مطعم والنظر في ذلك أولى بهم من كثرة التنفل $ ذكر تلبيسه عليهم في قراءة القرآن $ # وقد لبس على قوم بكثرة التلاوة فهم يهزون هزا من غير ترتيل ولا تثبت وهذه حالة ليست بمحمودة وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقرأون القرآن في كل يوم أو في كل ركعة # وهذا يكون نادرا منهم ومن داوم عليه فإنه وان كان جائزا إلا أن الترتيل والتثبت أحب إلى العلماء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث # قال المصنف وقد لبس إبليس على قوم من القراء فهم يقرأون القرآن في منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين فيجتمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم وبين التعرض للرياء ومنهم من يقرأ في مسجده وقت الأذان لأنه حين اجتماع الناس في المسجد(105/165)
# قال المصنف ومن أعجب ما رأيت فيهم أن رجلا كان يصلي بالناس صلاة الصبح يوم الجمعة ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين ويدعو دعاء الختمة ليعلم الناس أني قد ختمت الختمة وما هذه طريقة السلف فإن السلف كانوا يسترون عبادتهم وكان عمل الربيع بن خثيم كله سرا فربما دخل عليه الداخل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه وكان أحمد بن حنبل يقرأ القرآن كثيرا ولا يدري متى يختم # قال المصنف قد سبق ذكر جملة من تلبيس إبليس على القراء والله أعلم بالصواب وهو الموفق $ ذكر تلبيسه عليهم في الصوم $ # قال المصنف وقد لبس على أقوام فحسن لهم الصوم الدائم وذلك جائز إذا أفطر الإنسان الآيام المحرم صومها إلا أن الآفة فيه من وجهين أحدهما أنه ربما عاد بضعف القوى فأعجز الإنسان عن الكسب لعائلته ومنعه من إعفاف زوجته وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ان لزوجك عليك حقا فكم من فرض يضيع بهذا النفل والثاني أنه يفوت الفضيلة فانه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الصلاة صلاة داود عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما # وبالإسناد عن عبد الله بن عمرو قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أحدث عنك أنك تقوم الليل وأنت الذي تقول لأقومن الليل ولأصومن النهار قال أحسبه قال نعم يا رسول الله قد قلت ذلك فقال فقم ونم وصم وأفطر وصم من كل شهر ثلاثة أيام ولك مثل صيام الدهر قال قلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك قال فصم يوما وأفطر يومين قلت إني أطيق أفضل من ذلك قال فصم يوما وأفطر يوما وهو أعدل الصوم وهو صيام داود عليه السلام قلت إني أطيق أفضل من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك أخرجاه في الصحيحين(105/166)
# فان قال قائل فقد بلغنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يسردون الصوم فالجواب أنهم كانوا يقدرون على الجمع بين ذلك وبين القيام بحقوق العائلة ولعل أكثرهم لم تكن له عائلة ولا حاجة إلى الكسب ثم أن فيهم من فعل هذا في آخر عمره على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك قطع هذا الحديث # وقد داوم جماعة من القدماء على الصوم مع خشونة المطعم وقلته ومنهم من ذهبت عينه ومنهم من نشف دماغه وهذا تفريط في حق النفس الواجب وحمل عليها ما لا تطيق فلا يجوز $ فصل وقد يشيع على المتعبد أنه يصوم الدهر فيعلم بشياع ذلك فلا يفطر $ أصلا وإن أفطر أخفى إفطاره لئلا ينكسر جاهه وهذا من خفي الرياء ولو أراد الإخلاص وستر الحال لأفطر بين يدي من قد علم أنه يصوم ثم عاد إلى الصوم ولم يعلم به ومنهم من يخبر بما قد صام فيقول اليوم منذ عشرين سنة ما أفطرت ويلبس عليه بأنك إنما تخبر ليقتدي بك والله أعلم بالمقاصد # قال سفيان الثوري رضي الله عنه إن العبد ليعمل العمل في السر فلا يزال به الشيطان حتى يتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية وفيهم من عادته صوم الإثنين والخميس فاذا دعي إلى طعام قال اليوم الخميس ولو قال أنا صائم كانت محنة وإنما قوله اليوم الخميس معناه إني أصوم كل خميس وفي هؤلاء من يرى الناس بعين الاحتقار لكونه صائما وهم مفطرون ومنهم من يلازم الصوم ولا يبالي على ماذا أفطر ولا يتحاشى في صومه عن غيبة ولا عن نظرة ولا عن فضول كلمة وقد خيل له إبليس أن صومك يدفع إثمك وكل هذا من التلبيس(105/167)
$ ذكر تلبيسه عليهم في الحج $ # قال المصنف قد يسقط الإنسان الفرض بالحج مرة ثم يعود لا عن رضاء الوالدين وهذا خطأ وربما خرج وعليه ديون أو مظالم وربما خرج للنزهة وربما حج بمال فيه شبهة ومنهم من يجب أن يتلقى ويقال الحاج وجمهورهم يضيع في الطريق فرائض من الطهارة والصلاة ويجتمعون حول الكعبة بقلوب دنسة وبواطن غير نقية وإبليس يريهم صورة الحج فيغرهم وإنما المراد من الحج القرب بالقلوب لا بالأبدان وإنما يكون ذلك مع القيام بالتقوى # وكم من قاصد إلى مكة همته عدد حجاته فيقول لي عشرون وقفة وكم من مجاور قد طال مكثه ولم يشرع في تنقية باطنه وربما كانت همته متعلقة بفتوح يصل إليه ممن كان وربما قال أن لي اليوم عشرين سنة مجاورا وكم قد رأيت في طريق مكة من قاصد إلى الحج يضرب رفقاءه على الماء ويضايقهم في الطريق # وقد لبس إبليس على جماعة من القاصدين إلى مكة فهم يضيعون الصلوات ويطففون إذا باعوا ويظنون أن الحج يدفع عنهم وقد لبس إبليس على قوم منهم فابتدعوا في المناسك ما ليس منها فرأيت جماعة يتصنعون في إحرامهم فيكشفون عن كتف واحدة ويبقون في الشمس أياما فتكشط جلودهم وتنتفخ رؤوسهم ويتزينون بين الناس بذلك # وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام فقطعه وفي لفظ آخر رأى رجلا يقود إنسانا بخزامة في أنفه فقطعها بيده ثم أمره في أن يقوده بيده # قال المصنف وهذا الحديث يتضمن النهي عن الابتداع في الدين وإن قصدت بذلك الطاعة تلبيسه عليهم في التوكل # وقد لبس على قوم يدعون التوكل فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو(105/168)
التوكل وهم على غاية الخطأ قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل من غير زاد فقال له أحمد فاخرج في غير القافلة قال لا إلا معهم قال فعلى جراب الناس توكلت فنسأل الله أن يوفقنا $ ذكر تلبيس إبليس على الغزاة $ # قال المصنف قد لبس إبليس على خلق كثير فخرجوا إلى الجهاد ونيتهم المباهاة والرياء ليقال فلان غاز وربما كان المقصود أن يقال شجاع أو كان طلب الغنيمة وإنما الأعمال بالنيات وعن أبي موسى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله أخرجاه في الصحيحين وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا أو قتل فلان شهيدا فإنالرجل ليقاتل ليغنم ويقاتل ليذكر ويقاتل ليرى مكانه # وبالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول الناس يقضي فيه يوم القيامة ثلاثة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى قتلت قال كذبت ولكنك قاتلت ليقال هو جرىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن فقال كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل وقرأت القرآن ليقال هو قارىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه فأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل أنت تحبه أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد(105/169)
فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار انفرد باخراجه مسلم # وباسناد مرفوع عن أبي حاتم الرازي قال سمعت عبدة بن سليمان يقول كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فطعنه فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه الرجل فقتله فازدحم الناس عليه فكنت فيمن ازدحم عليه فاذا هو ملثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فاذا هو عبد الله بن المبارك فقال وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا قلت فانظروا رحمكم الله إلى هذا السيد المخلص كيف خاف على إخلاصه برؤية الناس له ومدحهم إياه فستر نفسه وقد كان ابراهيم بن أدهم يقاتل فاذا غنموا لم يأخذ شيئا من الغنيمة ليوفر له الأجر $ فصل وقد لبس إبليس على المجاهد اذا غنم فربما أخذ من الغنيمة ما $ ليس له أخذه فأما أن يكون قليل العلم فيرى أن أموال الكفار مباحة لمن أخذها ولا يدري أن الغلول من الغنائم معصية # وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له فلما نزلنا قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فلما قلنا له هنيئا له الشهادة يا(105/170)
رسول الله فقال كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال أصبته يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك من نار أو شرا كان من نار $ فصل وقد يكون الغازي عالما بالتحريم إلا أنه يرى الشيء الكثير فلا $ يصبر عنه وربما ظن أن جهاده يدفع عنه ما فعل وها هنا يتبين أثر الإيمان والعلم روينا باسناد عن هبيرة بن الأشعث عن أبي عبيدة العنبري قال لما هبط المسلمون المداين وجمعوا الأقباض # أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا ما يقاربه فقال له هل أخذت منه شيئا فقال أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنا فقالوا من أنت فقال والله لا أخبركم لتحمدوني ولا أغريكم لتقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فاتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فاذا هو عامر بن عبد قيس $ ذكر تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر $ # وهم قسمان عالم وجاهل فدخول إبليس على العالم من طريقين # الطريق الأول التزين بذلك وطلب الذكر والعجب بذلك الفعل روينا بإسناد عن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سلمان يقول سمعت أبا جعفر المنصور يبكي في خطبته يوم الجمعة فاستقبلني الغضب وحضرتني نية أن أقوم فأعظه بما أعرف من فعله اذا نزل قال فكرهت أن أقوم إلى خليفة فأعظه والناس جلوس يرمقونني بأبصارهم فيعرض لي تزين فيأمر بي فأقتل على غير صحيح فجلست وسكت(105/171)
# والطريق الثاني الغضب للنفس وربما كان ابتداء وربما عرض في حالة الآمر بالمعروف لأجل ما يلقى به المنكر من الإهانة فتصير خصومه لنفسه كما قال عمر بن عبد العزيز لرجل لولا أني غضبان لعاقبتك وإنما أراد أنك أغضبتني فخفت أن تمتزج العقوبة من غضب الله ولي $ فصل فأما اذا كان الآمر بالمعروف جاهلا فان الشيطان يتلاعب به وإنما $ كان إفساده في أمره أكثر من إصلاحه لأنه ربما نهى عن شيء جائز بالإجماع وربما أنكر ما تأول فيه صاحبه وتبع فيه بعض المذاهب وربما كسر الباب وتسور الحيطان وضرب أهل المنكر وقذفهم فان أجابوه بكلمة تصعب عليه صار غضبه لنفسه وربما كشف ما قد أمر الشرع بستره وقد سئل أحمد بن حنبل عن القوم يكون معهم المنكر مغطى مثل طنبور ومسكر قال اذا كان مغطى فلا تكسره # وقال في رواية أخرى إكسره وهذا محمول على أنه يكون مغطى بشيء خفيف يصفه فيتبين والأولى على أنه لا يتبين وسئل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه فقال ولا عليك ما غاب عنك فلا تفتش وربما رفع هذا المنكر أهل المنكر إلى من يظلمهم وقد قال أحمد بن حنبل إن علمت أن السلطان يقيم الحدود فارفع إليه(105/172)
$ فصل ومن تلبيس إبليس على المنكر أنه إذا أنكر جلس في مجمع يصف ما $ فعل ويتباهى به ويسب أصحاب المنكر سب الحنق عليهم ويلعنهم ولعل القوم قد تابوا وربما كانوا 2خيرا منه لندمهم وكبره ويندرج في ضمن حديثه كشف عورات المسلمين لأنه يعلم من لا يعلم والستر على المسلم واجب مهما أمكن وسمعت عن بعض الجهلة بالإنكار أنه يهجم على قوم ما يتيقن ما عندهم ويضربهم الضرب المبرح ويكسر الأواني وكل هذا يوجبه الجهل فأما العالم إذا أنكر فأنت منه على أمان # وقد كان السلف يتلطفون في الإنكار ورأى صلة بن أشيم رجلا يكلم امرأة فقال إن الله يراكما سترنا الله وإياكما وكان يمر بقوم يلعبون فيقول يا إخواني ما تقولون ف2يمن أراد سفرا فنام طول الليل ولعب طول النهار متى يقطع سفره فانتبه رجل منهم فقال يا قوم إنما يعلمنا هذا فتاب وصحبه $ فصل وأولى الناس بالتلطف في الإنكار على الأمراء فيصلح أن يقال لهم $ إن الله قد رفعكم فاعرفوا قدر نعمته فإن النعم تدوم بالشكر فلا يحسن أن تقابل بالمعاصي $ فصل وقد لبس إبليس على بعض المتعبدين فيرى منكرا فلا ينكره ويقول $ إنما يأمر وينهي من قد صلح وأنا ليس بصالح فكيف آمر غيري وهذا غلط لأنه يجب عليه أن يأمر وينهي ولو كانت تلك المعصية فيه إلا أنه متى أنكر متنزها
عن المنكر أثر إنكاره وإذا لم يكن متنزها لم يكد يعمل إنكاره فينبغي للمنكر أن ينزه نفسه ليؤثر إنكاره قال ابن عقيل رأينا في زماننا أبا بكر الأقفالي في أيام القائم إذا نهض لإنكار منكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم كأبي بكر الخباز شيخ صالح أضر من إطلاعه في التنور وتبعه وجماعة ما فيهم من يأخذ صدقة ولا يدنس بقبول عطاء صوام النهار قوام الليل أرباب بكاء فإذا تبعه مخلط رده وقال متى لقينا الجيش بمخلط انهزم الجيش(105/173)
$ الباب التاسع في ذكر تلبيس إبليس على الزهاد والعباد قد يسمع $ العامي ذم الدنيا في القرآن المجيد والأحاديث فيرى أن النجاة تركها ولا يدري ما الدنيا المذمومة فيلبس عليه إبليس بأنك لا تنجو في الآخرة إلا بترك الدنيا فيخرج على وجهه إلى الجبال فيبعد عن الجمعة والجماعة والعلم ويصير كالوحش ويخيل إليه أن هذا هو الزهد الحقيقي كيف لا وقد سمع عن فلان أنه هام على وجهه وعن فلان أنه تعبد في جبل وربما كانت له عائلة فضاعت أو والدة فبكت لفراقه وربما لم يعرف أركان الصلاة كما ينبغي وربما كانت عليه مظالم لم يخرج منها وإنما يتمكن إبليس من التلبيس على هذا لقلة علمه ومن جهله رضاه عن نفسه بما يعلم ولو أنه وفق لصحبة فقيه يفهم الحقائق لعرفه أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما من الله تعالى به وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع وأن الخروج إلى الجبال المنفردة منهي عنه فان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيت الرجل وحده وأن التعرض لتركه الجماعة والجمعة خسران لا ربح والبعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل(105/174)
وفراق الوالد والوالدة في مثل هذا عقوق والعقوق من الكبائر وأما من سمع عنه أنه خرج إلى جبل فأحوالهم تحتمل أنهم لم يكن لهم عيال ولا والد ولا والدة فخرجوا إلى مكان يتعبدون فيه مجتمعين ومن لم يحتمل حالهم وجها صحيحا فهم على الخطأ من كانوا وقد قال بعض السلف خرجنا إلى جبل نتعبد فجاءنا سفيان الثوري فردنا تلبيسه على الزهاد # ومن تلبيسه على الزهاد إعراضهم عن العلم شغلا بالزهد فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وبيان ذلك أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد وكم قد رد إلى الصواب من متعبد $ فصل ومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات فمنهم من $ لا يزيد على خبز الشعير ومنهم من لا يذوق الفاكهة ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه ويعذب نفسه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد وما هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا طريق أصحابه وأتباعهم # وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئا فاذا وجدوا أكلوا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى ويستعذب له الماء البارد ويختار الماء البائت فان الماء الجاري يؤذي المعدة ولا يروي وقد كان رجل يقول أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم بشكره فقال الحسن البصري هذا رجل أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد # وقد كان سفيان الثوري إذا سافر حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج وينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته ولا بد من الرفق بها ليصل بها إلى المقصود فليأخذ ما يصلحها وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوات فان ذلك يؤذي البدن والدين(105/175)
# ثم إن الناس يختلفون في طباعهم فان الأعراب إذا لبسوا الصوف واقتصروا على شرب اللبن لم نلمهم لأن مطايا أبدانهم تحمل ذلك وأهل السواد إذا لبسوا الصوف وأكلوا الكوامخ لم نلمهم أيضا ولا نقول في هؤلاء من قد حمل على نفسه لأن هذه عادة القوم فأما إذا كان البدن مترفا قد نشأ على التنعم فإنا ننهي صاحبه أن يحمل عليه ما يؤذيه فان تزهد وآثر ترك الشهوات إما لأن الحلال لا يحتمل السرف أو لأن الطعام اللذيذ يوجب كثرة التناول فيكثر النوم والكسل فهذا يحتاج أن يعلم ما يضر تركه وما لا يضر فيأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس # وقد ظن قوم أن الخبز القفاز يكفي في قوام البدن ولو كفى إلا أن الاقتصار يؤدي من جهة أن أخلاط البدن تفتقر إلى الحامض والحلو والحار والبارد والممسك والمسهل وقد جعل أسباب مثل أن يقل عندها البلغم الذي لا بد في قوامها منه فتشتاق إلى اللبن ويكثر عندها الصفراء فتميل إلى الحموضة فمن كفها عن التصرف على مقتضى ما قد وضع في طبعها مما يصلحها فقد آذاها إلا أن يكفها عن الشبع والشره وما يخاف عاقبته فان ذلك يفسدها فأما الكف المطلق فخطأ فافهم هذا ولا يلتفت إلى قول الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم ومجاهدة النفس بترك مباحاتها فان اتباع الشارع وصحابته أولى وكان ابن عقيل يقول ما أعجب أموركم في المتدين إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة بين تجرير أذيال المرح في الصبا واللعب وبين إهمال الحقوق وإطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد فهلا عبدوا على عقل وشرع $ فصل ومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد هو القناعة بالدون من $ المطعم(105/176)
والملبس فحسب فهم يقنعون بذلك وقلوبهم راغبة في الرياسة وطلب الجاه فتراهم يترصدون لزيارة الأمراء إياهم ويكرمون الأغنياء دون الفقراء ويتخاشعون عند لقاء الناس كأنهم قد خرجوا من مشاهدة وربما رد أحدهم المال لئلا يقال قد بدا له من الزهد وهم من ترغد الناس إليهم وتقبيل أيديهم في أوسع باب من ولايات الدنيا لأن غاية الدنيا الرياسة تلبيسه على العباد # وأكثر ما يلبس به إبليس على العباد والزهاد خفي الرياء فأما الظاهر من الرياء فلا يدخل في التلبيس مثل إظهار النحول وصفار الوجه وشعث الشعر ليستدل به على الزهد وك4ذلك خفض الصوت لإظهار الخشوع وكذلك الرياء بالصلاة والصدقة ومثل هذه الظواهر لا تخفى وإنما نشير إلى خفي الرياء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ومتى لم يرد بالعمل وجه الله عز وجل لم يقبل قال مالك بن دينار قولوا لمن لم يكن صادقا لا تتعب # وأعلم أن المؤمن لا يريد بعمله إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يدخل عليه خفي الرياء فيلبس الأمر فنجانه منه صعبة وفي الحديث مرفوعا عن يسار قال لي يوسف بن أسباط تعلموا صحة العمل من سقمه فاني تعلمته في اثنتين وعشرين سنة # وفي الحديث مرفوعا عن ابراهيم الحنظلي قال سمعت بقية بن الوليد يقول سمعت ابراهيم بن أدهم يقول تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت له يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك هذه قال منذ سبعين سنة قلت ما طعمك قال يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت أحببت أن أعلم قال في كل ليلة حمصة قلت فما الذي يهيج من(105/177)
قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال ترى الذين بحذائك قلت نعم قال إنهم يأتونني في كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظمونني بذلك وكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال أزيدك قلت نعم قال انزل عن الصومعة فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي أدخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى فقالوا يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ # قلت من قوته قالوا وما تصنع به نحن أحق ساوم قلت عشرين دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إلى الشيخ فقال أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك هذا عز من لا يعبده فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك # قلت ولخوف الرياء ستر الصالحون أعمالهم حدرا عليها وبهرجوها بضدها فكان ابن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل وكان في ذيل أيوب السختياني بعض الطول وكان ابن أدهم إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء وبالاسناد عن عبد الله بن المبارك عن بكار بن عبد الله أنه سمع وهب ابن منبه يقول كان رجل من أفضل أهل زمانه وكان يزار فيعظمهم فاجتمعوا اليه ذات يوم فقال # إنا قد خرجنا من الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان وقد خفت أن يكون قد دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم أرانا يحب أحدنا أن تقضي له حاجته وأن اشتري بيعا أن يقارب لمكان دينه وإن لقي حيي ووقر لمكان دينه فشاع ذلك الكلام حتى بلغ الملك فعجب به فركب إليه ليسلم عليه وينظر إليه فلما رآه الرجل قيل له هذا الملك قد أتاك ليسلم عليك فقال وما يصنع قال للكلام الذي وعظت به فسأل غلامه هل عندك طعام فقال شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به فأمر به(105/178)
فأتى على مسح فوضع بين يديه فأخذ يأكل منه وكان يصوم النهار ولا يفطر فوقف عليه الملك فسلم عليه فأجابه باجابة خفية وأقبل على طعامه يأكله فقال الملك أين الرجل فقيل له هو هذا قال هذا الذي يأكل قالوا نعم قال فما عند هذا من خير فأدبر فقال الرجل الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به # وفي رواية أخرى عن وهب أنه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه فجعل يجمع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت فيأكل أكلا عنيفا فقال له الملك كيف أنت يا فلان فقال كالناس فرد الملك عنان دابته وقال ما في هذا من خير فقال الحمد لله الذي أذهبه عني وهو لائم لي # وباسناد عن عطاء قال أراد أبو الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيفا وعرقا وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف فجعل يمشي في الأسواق ويأكل فقيل للوليد إن يزيد قد اختلط وأخبر بما فعل فتركه ومثل هذا كثير $ فصل ومن الزهاد من يستعمل الزهد ظاهرا وباطنا لكنه قد علم أنه لا $ بد ان يتحدث بتركه للدنيا أصحابه أو زوجته فيهون عليه الصبر كما هان على الراهب الذي ذكرنا قصته مع ابراهيم بن أدهم ولو أنه أراد الاخلاص في زهده لأكل مع أهله قدر ما ينمحي به جاه النفس ويقطع الحديث عنه فقد كان داود بن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله كان يأخذ غذائه ويخرج إلى السوق فيتصدق به في الطريق فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق هكذا كان الناس(105/179)
نقد مسالك الزهاد # ومن المتزهدين من قوته الانقطاع في مسجد أو رباط أو جبل فلذته علم الناس بانفراده وربما احتج لانقطاعه باني أخاف أن أرى في خروجي المنكرات وله في ذلك مقاصد منها الكبر واحتقار الناس ومنها أنه يخاف أن يقصروا في خدمته ومنها حفظ ناموسه ورياسته فان مخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يبقى إطراؤه وذكره وربما كان مقصوده ستر عيوبه ومقابحه وجهله بالعلم فيرى هذا ويحب أن يزار ولا يزور ويفرح بمجىء الأمراء إليه واجتماع العوام على بابه وتقبيلهم يده فهو يترك عيادة المرضى وشهود الجنائز وبقول أصحابه أعذروا الشيخ فهذه عادته لا كانت عادة تخالف الشريعة ولو احتاج هذا الشخص إلى القوت ولم يكن عنده من يشتريه له صبر على الجوع لئلا يخرج لشراء ذلك بنفسه فيضيع جاهه لمشيه بين العوام ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت عنه الشهرة ولكن في باطنه حفظ الناموس وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه # وكان أبو بكر رضي الله عنه يحمل الثياب على كتفه فيبيع ويشتري والحديث باسناد عن محمد بن القاسم قال روي عن عبد الله بن حنظلة قال مر عبد الله بن سلام وعلى رأسه حزمة حطب فقال له ناس ما يحملك على هذا وقد أغناك الله قال أردت أن أدفع به الكبر وذلك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر $ فصل قال المصنف وهذا الذي ذكرته من الخروج لشراء الحاجة ونحوها من $(105/180)
التبذل كان عادة السلف القدماء وقد تغيرت تلك العادة كما تغيرت الأحوال والملابس فلا أرى للعالم أن يخرج اليوم لشراء حاجته لأن ذلك يكشف نور العلم عند الجهلة وتعظيمه عندهم مشروع ومراعاة قلوبهم في مثل هذا يخرج إلى الرياء واستعمال ما يوجب الهيبة في القلوب لا يمنع منه وليس كل ما كان في السلف مما لا يتغير به قلوب الناس يومئذ ينبغي أن يفعل اليوم # قال الأوزاعي كنا نضحك ونمزح فاذا صرنا يقتدى بنا فلا أرى ذلك يسعنا وقد روينا عن ابراهيم بن أدهم أن أصحابه كانوا يوما يتمازحون فدق رجل الباب فأمرهم بالسكوت والسكون فقالوا له تعلمنا الرياء فقال اني أكره أن يعصى الله فيكم # قال المصنف وإنما خاف قول الجهلة انظروا إلى هؤلاء الزهاد كيف يفعلون وذلك أن العوام لا يحتملون مثل هذا للمتعبدين $ فصل ومن هؤلاء قوم لو سئل أحدهم أن يلبس اللين من ثوبه ما $ فعل لئلا يتوكس جاهه في الزهد ولو خرج روحه لا يأكل والناس يرونه ويحفظ نفسه في التبسم فضلا عن الضحك ويوهمه إبليس أن هذا لإصلاح الخلق وإنما هو رياء يحفظ به قانون الناموس فتراه مطاطىء الرأس عليه آثار الحزن فإذا خلا رأيته ليث شرى $ فصل وقد كان السلف يدفعون عنهم كل ما يوجب الإشارة إليهم ويهربون $ من المكان الذي يشار إليهم فيه والحديث باسناد عن عبد الله بن خفيف قال قال يوسف بن أسباط خرجت من سبج راجلا حتى أتيت المصيصة وجرابي على(105/181)
عنقي فقام ذا من حانوته يسلم علي وذا يسلم فطرحت جرابي ودخلت المسجد أصلي ركعتين أحد قوابي واضطلع رجل في وجهي فقلت في نفسي كم بقاء قلبي على هذا فأخذت جرابي ورجعت بعرفي وعنائي إلى سبج فما رجعت إلى قلبي سنتين $ فصل ومن الزهاد من يلبس الثوب المخرق ولا يخيطه ويترك إصلاح عمامته $ وتسريح لحيته ليرى أنه ما عنده من الدنيا خير وهذا من أبواب الرياء فان كان صادقا في إعراضه عن أغراضه كما قيل لداود الطائي ألا تسرح لحيتك فقال إني عنها لمشغول فليعلم أنه سلك غير الجادة إذ ليست هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه فانه كان يسرح شعره وينظر في المرآة ويدهن ويتطيب وهو أشغل الخلق بالآخرة وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يخضبان بالحناء والكتم وهما أخوف الصحابة وأزهدهم فمن أدعى رتبة تزيد على السنة وأفعال الأكابر لم يلتفت إليه $ فصل ومن الزهاد من يلزم الصمت الدائم وينفرد عن مخالطة أهله $ فيؤذيهم بقبح أخلاقه وزيادة انقباضه وينسى قول النبي صلى الله عليه وسلم إن لأهلك عليك حقا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح فيلاعب الأطفال ويحدث أزواجه وسابق عائشة إلى غير ذلك من الأخلاق اللطيفة فهذا المتزهد الجاعل زوجته كالآيم وولده كاليتيم لانفراده عنهم وقبح أخلاقه لأنه يرى أن ذلك يشغله عن الآخرة ولا يدري لقلة(105/182)
علمه أن الانبساط إلى الأهل من العون على الآخرة وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك وربما غلب على هذا المتزهد التجفف فترك مباضعة الزوجة فيضيع فرضا بنافلة غير ممدوحة $ فصل ومن الزهاد من يرى عمله فيعجبه فلو قيل له أنت من أوتاد $ الأرض رأى ذلك حقا ومنهم من يترصد لظهور كرامته ويخيل إليه أنه لو قرب من الماء قدر أن يمشي عليه فاذا عرض له أمر فدعا فلم يجب تذمر في باطنه فكأنه أجير يطلب أجر عمله ولو رزق الفهم لعلم أنه عبد مملوك والمملوك لا يمن بعمله ولو نظر إلى توفيقه للعمل لرأى وجوب الشكر فخاف من التقصير فيه وقد كان ينبغي أن يشغله خوفه على العمل من التقصير فيه عن النظر إليه كما كانت رابعة تقول أستغفر الله من قلة صدقي في قولي وقيل لها هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك فقالت اذا كان فمخافتي أن يرد علي $ فصل ومن تلبيس إبليس على قوم من الزهاد الذي دخل عليهم فيه من $ قلة العلم أنهم يعملون بواقعاتهم ولا يلتفتون إلى قول الفقيه قال ابن عقيل كان أبو اسحق الخراز صالحا وهو أول من لقنني كتاب الله وكان من عادته الإمساك عن الكلام في شهر رمضان فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض إليه من الحوائج فيقول في أذنه أدخلوا عليهم الباب ويقول لابنه في عشية الصوم من بقلها وقثائها آمرا له أن يشتري البقل فقلت له هذا الذي تعتقده عبادة هو معصية فصعب عليه فقلت أن هذا القرآن العزيز أنزل في بيان أحكام(105/183)
شرعية فلا يستعمل في أغراض دنيوية وما هذا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان في ورق المصحف أو توسدك له فهجرني ولم يصغ إلى الحجة # قال المصنف قلت وقد يسمع الزاهد القليل العلم أشياء من العوام فيفتي به حدثني أبو حكيم ابراهيم بن دينار الفقيه أن رجلا استفتاه فقال ما تقول في امرأة طلقت ثلاثا فولدت ذكرا هل تحل لزوجها قال فقلت لا وكان عندي الشريف الدحالي وكان مشهورا بالزهد عظيم القدر بين العوام فقال لي بل تحل فقلت ما قال بهذا أحد فقال والله لقد أفتيت بهذا من ههنا إلى البصرة # قال المصنف فانظر ما يصنع الجهل بأهله ويضاف إليه حفظ الجاه خوفا أن يرى الزاهد بعين الجهل وقد كان السلف ينكرون على الزاهد مع معرفته بكثير من العلم أن يفتي لأنه لم يجمع شروط الفتوى فكيف لو رأوا تخبيط المتزهدين اليوم في الفتوى بالواقعات وبالاسناد عن اسماعيل بن شبة قال دخلت على أحمد بن حنبل وقد قدم أحمد بن حرب من مكة فقال لي أحمد بن حنبل من هذا الخراساني الذي قد قدم قلت من زهده كذا وكذا ومن ورعه كذا وكذا فقال لا ينبغي لمن يدعي ما يدعيه أن يدخل نفسه في الفتيا احتقار العلماء وذمهم # ومن تلبيسه على الزهاد احتقارهم العلماء وذمهم إياهم فهم يقولون المقصود العمل ولا يفهمون أن العلم نور القلب ولو عرفوا مرتبة العلماء في حفظ الشريعة وأنها مرتبة الأنبياء لعدوا أنفسهم كالبكم عند الفصحاء والعمي عند البصراء والعلماء أدلة الطريق والخلق وراءهم وسليم هؤلاء يمشي وحده وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن(105/184)
أبي طالب رضي الله عنه والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حمر النعم تفسح العلماء في بعض المباحات # ومما يعيبون به العلماء تفسح العلماء في بعض المباحات التي يتقوون بها على دراسة العلم وكذلك يعيبون جامع الأموال ولو فهموا معنى المباح لعلموا أنه لا يذم فاعله وغاية الأمر أن غيره أولى منه أفيحسن لمن صلى الليل أن يعيب على من أدى الفرض ونام ولقد روينا بإسناد عن محمد بن جعفر الخولاني قال حدثني أبو عبد الله الخواص وكان من أصحاب حاتم الأصم قال دخلنا مع حاتم البلخي إلى الري ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلا من أصحابه يريد الحج وعليهم الصوف والزرمانقات ليس فيهم من معه جراب ولا طعام فنزلنا على رجل من التجار متنسك فضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قال لحاتم يا أبا عبد الرحمن لك حاجة فاني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل فقال حاتم إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل كبير والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أجيء معك وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري فقال له مر بنا يا أبا عبد الرحمن فجاؤا إلى باب داره فاذا البواب فبقي حاتم متفكرا يقول يا رب دار عالم على هذه الحال ثم أذن لهم فدخلوا فاذا بدار قوراء وآلة حسنة وبزة وفرش وستور فبقي حاتم متفكرا ينظر حتى دخلوا إلى المجلس الذي فيه محمد بن مقاتل واذا بفراش حسن وطىء وهو عليه راقد وعند رأسه مذبة وناس وقوف فقعد الرازي وبقي حاتم قائما فأومىء اليه محمد بن مقاتل بيده أن أجلس فقال حاتم لا أجلس فقال له ابن مقاتل فلك حاجة قال نعم قال وما هي قال مسألة أسألك عنها قال فاسألني قال حاتم قم فاستو جالسا حتى أسألك عنها فأمر غلمانه فأسندوه فقال حاتم علمك هذا من أين جئت به فقال حدثني الثقات عن الثقات من الأئمة قال(105/185)
عمن أخذوه قال عن التابعين قال والتابعون ممن أخذوه قال عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن أخذوه قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم من أين جاء به قال عن جبريل عن الله عز وجل فقال حاتم ففيم أداه جبريل عن الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأداة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة وأداة الصحابة إلى تابعيهم وأداة التابعون إلى الأئمة واداه الأئمة إلى الثقات وأداة الثقات اليكم هل سمعت في هذا العلم من كانت داره في الدنيا أحسن وفراشه الين وزينته أكثر كان له المنزلة عند الله عز وجل أكبر قال لا قال فكيف سمعت قال سمعت من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كان عند الله عز وجل له منزلة أكثر وإليه أقرب قال حاتم وأنت بمن أقتديت أبا النبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه والتابعين من بعدهم والصالحين على أثرهم أو فرعون ونمروذ فانهما أول من بنى بالجص والآجر يا علماء السوء ان الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها يقول # هذا العالم على هذه الحالة إلا أكون أنا قال فخرج من عنده وازداد محمد بن مقاتل مرضا وبلغ أهل الري ما جرى بين حاتم وبين ابن مقاتل فقالوا لحاتم أن محمد بن عبيد الطنافسي بقزوين أكثر شيئا من هذا فصار إليه فدخل عليه وعنده الخلق يحدثهم فقال له رحمك الله أنا رجل أعجمي جئتك لتعلمني مبدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة فقال نعم وكرامة يا غلام اناء فيه ماء فجاءه باناء فيه ماء فقعد محمد بن عبيد فتوضأ ثلاثا ثم قال له هكذا فتوضأ قال حاتم مكانك رحمك الله حتى أتوضأ بين يديك ليكون أوكد لما أريد فقام الطنافسي وقعد حاتم مكانه فتوضأ وغسل وجهه ثلاثة حتى إذا بلغ الذراع غسل أربعا فقال الطنافسي أسرفت قال حاتم فبماذا أسرفت قال غسلت ذراعك أربعا قال يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت وأنت في جميع(105/186)
هذا الذي أراه كله لم تسرف فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك فدخل البيت ولم يخرج إلى الناس أربعين يوما وخرج حاتم إلى الحجاز فلما صار إلى المدينة أحب أن يخصم علماء المدينة فلما دخل المدينة قال يا قوم أي مدينة هذه قالوا مدينة
الرسول صلى الله عليه وسلم قال فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذهب إليه فأصلي فيه ركعتين قالوا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قصر إنما كان له بيت لاط قال فأين قصور أهله وأصحابه وأزواجه قالوا ما كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة فقال حاتم فهذه مدينة فرعون قال فسبوه وذهبوا به إلى الوالي وقالوا هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون فقال الوالي لم قلت ذلك قال حاتم لا تعجل علي أيها الأمير أنا رجل غريب دخلت هذه المدينة فسألت أي مدينة هذه قالوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألت عن قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصور أصحابه قالوا إنما كانت لهم بيوت لاطئة وسمعت الله عز وجل يقول " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فأنتم بمن تأسيتم برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بفرعون # قال المصنف قلت الويل للعلماء من الزاهد الجاهل الذي يقتنع بعلمه فيرى الفضل فرضا فان الذي أنكره مباح والمباح مأذون فيه والشرع لا يأذن في شيء ثم يعاتب عليه فما أقبح الجهل ولو أنه قال لهم لو قصر تم فيما أنتم فيه لتقتدي الناس بكم كان أقرب حالة ولو سمع هذا بأن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم وفلانا وفلانا من الصحابة خلفوا مالا عظيما أتراه ماذا كان يقول وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم وكان يقوم فيها بالليل ففرض على الزاهد التعلم من العلماء فاذا لم يتعلم فليسكت والحديث بإسناد عن مالك بن دينار رضي الله عنه قال إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز وباسناد عن حبيب الفارسي يقول والله أن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز(105/187)
# قال المصنف قلت المراد بالقراء الزهاد وهذا اسم قديم لهم معروف والله الموفق للصواب واليه المرجع والمآب
$ الباب العاشر في ذكر تلبيسه على الصوفية من جملة الزهاد قال $ المصنف الصوفية من جملة الزهاد وقد ذكرنا تلبيس إبليس على الزهاد إلا أن الصوفية أنفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال وتوسموا بسمات فاحتجنا إلى إفرادهم بالذكر والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون اليها بالسماع والرقص فمال اليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد ومال اليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب فلا بد من كشف تلبيس إبليس عليهم في طريقة القوم ولا ينكشف ذلك إلا بكشف أصل هذه الطريقة وفروعها وشرح أمورها والله الموفق للصواب $ فصل قال المصنف كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام $ فيقال مسلم ومؤمن ثم حدث اسم زاهد وعابد ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها وأخلاقا تخلقوا بها ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام رجل يقال له صوفة واسمه الغوث بن مر فانتسبوا اليه لمشابهتهم اياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى فسموا بالصوفية أنبأنا محمد بن ناصر عن أبي اسحاق ابراهيم بن سعيد الحبال قال قال أبو(105/188)