الإنسانية ترحب بالقومية والوطنية والمحلية، ولكنها تأبى العنصرية لأنها امتهان صارخ لبقية العوامل المشكلة للنسيج الإنساني الشامل، والأدب العنصري ليس سوى جسماً غريباً في نسيج الأدب الإنساني سرعان ما يلفظه ويأباه.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن الحركة الفكرية التي نشأت في عصر النهضة(*) الأوروبية هي الأساس في ظهور الإنسانية. وكان الوقود الذي أشعل هذه الحركة يحتوي على الفكر اليوناني الوثني(*) المعارض للفكر الديني، والآداب اليونانية واللاتينية ومن هنا كان شعار الإنسانية كلمة الفيلسوف اليوناني القديم "إن الإنسان مقياس للأشياء جميعها" فضلاً عن انغماس الإنسان بالمادة في بدايته، وحب اكتناز المال والثروات، والاستمتاع بالحياة الزائلة.
أماكن الانتشار:
انتشرت الإنسانية في أوروبا ثم عمت الغرب والشرق ومعظم سلبيات المدنية الغربية الحاضرة تعتبر ثمرة من ثمارها.
ويتضح مما سبق:
أن النزعة الإنسانية هي مذهب(*) فلسفي أدبي مادي لا ديني، يؤكد فردية الإنسان ضد الدين(*) ويغلب وجهة النظر المادية(*) الدنيوية وهو من أسس فلسفة(*) كونت الوضعية وفلسفة بتنام النفعية وكتابات برتراند راسل الإلحادية(*)، وهذا يعني فشل هذا المذهب على الصعيد العقدي، أما فشله على الصعيد العملي الواقعي المؤثر بصورة ملموسة في أسلوب سلوك الفرد، فدليله أنه منَّى الإنسان بأمان كاذبة لم تتحقق على الإطلاق، ونسي أن طريق الخلاص لا يمكن أن يتم إلا من خلال خاتم الأديان . وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له المسلم وهو يتعامل مع نتاج هذا المذهب حيث أن الإسلام قد كرم الإنسان، وتعاليمه كلها إنسانية(ولقد كرمنا بني آدم..) ؛ لكن بعض الناس يختار الكفر فيسلبه الله هذا التكريم ( أولئك هم شر البرية ) .
مراجع للتوسع:
- شيلر: من نوابغ الفكر الغربي، د. عثمان أمين.
- مجلة عالم الفكر، المجلد الثاني العدد الثالث 1974م. مقال بعنوان الهيومانزم.(87/207)
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه، دار القلم – بيروت.
- Studies in Humanism by F.C.S. Schiller, Macmillan, London, 2nd ed. 1912.
- Humanism: Phillosophical Essays by F.C.S. Schiller, Macmillan. London 1912.
- Essay Concerning Human Understanding by J. Locke ed. r. Wilburn. London 1947.
- History of Philosophy by F.C. Copleston Burns, London 1947.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffding, London 1956.
الإلحاد
التعريف :
الإلحاد(*) هو : مذهب فلسفي يقوم على فكرة عدمية أساسها إنكار وجود الله الخالق سبحانه وتعالى:
فيدّعي الملحدون بأن الكون وجد بلا خالق.
وأن المادة أزلية أبدية، وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.
ومما لا شك فيه أن كثيراً من دول العالم الغربي والشرقي تعاني من نزعة إلحادية عارمة جسدتها الشيوعية المنهارة والعلمانية المخادعة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
الإلحاد بدعة جديدة لم توجد في القديم إلا في النادر في بعض الأمم والأفراد.
يعد أتباع العلمانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد، ومن هؤلاء : أتباع الشيوعية والوجودية والداروينية.
الحركة الصهيونية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فنشرت العلمانية لإفساد أمم الأرض بالإلحاد والمادية(*) المفرطة والانسلاخ من كل الضوابط التشريعية والأخلاقية كي تهدم هذه الأمم نفسها بنفسها، وعندما يخلو الجو لليهود يستطيعون حكم العالم.
نشر اليهود نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ(*) ونظريات فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظريات دور كايم في علم الاجتماع، وكل هذه النظريات من أسس الإلحاد في العالم.
أما انتشار الحركات الإلحادية بين المسلمين في الوقت الحاضر، فقد بدأت بعد سقوط الخلافة(*) الإسلامية.(87/208)
صدر كتاب في تركيا عنوانه: مصطفى كمال للكاتب قابيل آدم يتضمن مطاعن قبيحة في الأديان وبخاصة الدين الإسلامي. وفيه دعوة صريحة للإلحاد بالدين(*) وإشادة بالعقلية الأوروبية.
إسماعيل أحمد أدهم. حاول نشر الإلحاد في مصر، وألف رسالة بعنوان لماذا أنا ملحد؟ وطبعها بمطبعة التعاون بالإسكندرية حوالي سنة 1926م.
إسماعيل مظهر أصدر في سنة 1928م مجلة العصور في مصر، وكانت قبل توبته تدعو للإلحاد والطعن في العرب والعروبة طعناً قبيحاً. معيداً تاريخ الشعوبية(*)، ومتهماً العقلية العربية بالجمود والانحطاط، ومشيداً بأمجاد بني إسرائيل ونشاطهم وتفوقهم واجتهادهم.
أسست في مصر سنة 1928م جماعة لنشر الإلحاد تحت شعار الأدب واتخذت دار العصور مقراً لها واسمها رابطة الأدب الجديد وكان أمين سرها كامل كيلاني.. وقد تاب إلى الله بعد ذلك.
ومن أعلام الإلحاد في العالم:
أتباع الشيوعية: ويتقدمهم كارل ماركس 1818 – 1883م اليهودي الألماني. وإنجلز عالم الاجتماع الألماني والفيلسوف السياسي الذي التقى بماركس في إنجلترا وأصدرا سوياً المانيفستو أو البيان الشيوعي سنة 1820 – 1895م.
أتباع الوجودية: ويتقدمهم:
جان بول سارتر.
وسيمون دوبرفوار.
والبير كامي.
وأتباع الداروينية.
ومن الفلاسفة والأدباء:
نيتشه/ فيلسوف ألماني.
برتراند راسل 1872 – 1970م فيلسوف إنكليزي.
هيجل 1770 – 1831م فيلسوف ألماني قامت فلسفته على دراسة التاريخ.
هربرت سبنسر 1820 – 1903م إنكليزي كتب في الفلسفة(*) وعلم النفس والأخلاق(*).
فولتير 1694 – 1778م أديب فرنسي.
في سنة 1930م ألف إسماعيل مظهر حزب الفلاح ليكون منبراً للشيوعية والاشتراكية(*). وقد تاب إسماعيل إلى الله بعد أن تعدى مرحلة الشباب وأصبح يكتب عن مزايا الإسلام.
ومن الشعراء الملاحدة الذين كانوا ينشرون في مجلة العصور.
الشاعر عبد اللطيف ثابت الذي كان يشكك في الأديان في شعره..(87/209)
والشاعر الزهاوي يعد عميد الشعراء المشككين في عصره.
الأفكار والمعتقدات:
إنكار وجود الله سبحانه، الخالق البارئ، المصور، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً.
إن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجد صدفة وسينتهي كما بدأ ولا توجد حياة بعد الموت.
إن المادة أزلية أبدية وهي الخالق والمخلوق في نفس الوقت.
النظرة الغائية(*) للكون والمفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم.
إنكار معجزات الأنبياء(*) لأن تلك المعجزات لا يقبلها العلم، كما يزعمون. ومن العجب أن الملحدين الماديين(*) يقبلون معجزات الطفرة الوحيدة التي تقول بها الداروينية ولا سند لها إلا الهوس والخيال.
عدم الاعتراف بالمفاهيم الأخلاقية ولا بالحق والعدل ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال.
ينظر الملاحدة للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل وقصته لا تعني شيئاً.
المعرفة الدينية، في رأي الملاحدة ، تختلف اختلافاً جذريًّا وكليًّا عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي!!
الإنسان مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة(*) التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.
الحاجات هي التي تحدد الأفكار، وليست الأفكار هي التي تحدد الحاجات.
نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي للتاريخ(*) ونظرية فرويد في علم النفس ونظرية دارون في أصل الأنواع ونظرية دور كهايم في علم الاجتماع من أهم أسس الإلحاد في العالم.. وجميع هذه النظريات هي مما أثبت العلماء أنها حدس وخيالات وأوهام شخصية ولا صلة لها بالعلم.
الجذور الفكرية والعقائدية:
نشأ الإلحاد الحديث مع العقلانية والشيوعية والوجودية.(87/210)
وقد نشر اليهود الإلحاد في الأرض، مستغلين حماقات الكنيسة(*) ومحاربتها للعلم، فجاءوا بثورة العلم ضد الكنيسة، وبالثورة(*) الفرنسية والداروينية والفرويدية، وبهذه الدعوات الهدامة للدين(*) والأخلاق(*) تفشى الإلحاد في الغرب، والهدف الشرير لليهودية العالمية الآن هو إزالة كل دين على الأرض ليبقى اليهود وحدهم أصحاب الدين!!
الانتشار وأماكن النفوذ :
انتشر الإلحاد أولاً في أوروبا، وانتقل بعد ذلك إلى أمريكا.. وبقاع من العالم.
وعندما حكمت الشيوعية في ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي قبل انهياره وتفككه، فرضت الإلحاد فرضاً على شعوبه.. وأنشأت له مدارس وجمعيات.
وحاولت الشيوعية نشره في شتى أنحاء العالم عن طريق أحزابها. وإن سقوط الشيوعية في الوقت الحاضر ينبئ عن قرب سقوط الإلحاد – بإذن الله تعالى.
يوجد الآن في الهند جمعية تسمى جمعية النشر الإلحادية، وهي حديثة التكوين وتركز نشاطها في المناطق الإسلامية، ويرأسها جوزيف إيدا مارك، وكان مسيحيًّا من خطباء التنصير، ومعلماً في إحدى مدارس الأحد، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وقد ألف في عام 1953م كتاباً يدعى: إنما عيسى بشر فغضبت عليه الكنيسة(*) وطردته فتزوج بامرأة هندوكية وبدأ نشطاه الإلحادي، وأصدر مجلة إلحادية باسم إيسكرا أي شرارة النار. ولما توقفت عمل مراسلاً لمجلة كيرالا شبدم أي صوت كيالا الأسبوعية. وقد نال جائزة الإلحاد العالمية عام 1978م ويعتبر أول من نالها في آسيا.
يتضح مما سبق :(87/211)
أن الإلحاد(*) مذهب(*) فلسفي يقوم على إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، ويذهب إلى أن الكون بلا خالق، ويعد أتباع العقلانية هم المؤسسون الحقيقيين للإلحاد الذي ينكر الحياة الآخرة، ويرى أن المادة(*) أزلية أبدية، وأنه لا يوجد شيء اسمه معجزات الأنبياء فذلك مما لا يقبله العلم في زعم الملحدين، الذين لا يعترفون أيضاً بأية مفاهيم أخلاقية(*) ولا بقيم الحق والعدل ولا بفكرة الروح. ولذا فإن التاريخ عند الملحدين هو صورة للجرائم والحماقات وخيبة الأمل وقصته ولا تعني شيئاً، والإنسان مجرد مادة تطبق عليه كافة القوانين الطبيعية(*) وكل ذلك مما ينبغي أن يحذره الشاب المسلم عندما يطالع أفكار هذا المذهب الخبيث.
مراجع للتوسع :
- صراع مع الملاحدة، عبد الرحمن الميداني.
- الملل والنحل، للشهرستاني ط.(1400هـ- 1980م). بتحقيق محمد سيد كيلاني، وهي طبعة فريدة – لمذاهب جديدة.
- الفلسفات الكبرى، بياردو كاسيه – سلسلة زدني علماً- بيروت.
- الإلحاد وعلاقته باليهود والنصارى ، مقال للدكتور محمد بن سعد الشويعر، نشر بمجلة البحوث الإسلامية العدد 14.
المراجع الأجنبية :
- History of Philosophy by F.C. Copleston. Burns. London 1947.
- Existentialism and Humanism by J.P. Sartre, London 1955.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffding. London 1956.
المنفعة
التعريف :
المنفعة مذهب(*) أخلاقي اجتماعي لا ديني، يجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياساً للسلوك، وأن الخير الأسمى هو تحقيق أكبر سعادة لأكبر عدد من الناس.
وفي مجال الاقتصاد يقرر مذهب المنفعة أن قيمة السلعة تتوقف على قدر منفعتها وليس على نفقة العمل أو التكلفة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
تأسس مذهب المنفعة في إنكلترا ومن أبرز شخصياته:
جيرمي بنتام 1748 – 1832م ويعد زعيم القائلين بمذهب المنفعة، ولد في لندن، وقدم نظريته في المنفعة في كتابه مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع.(87/212)
جون ستيوارت ميل 1806- 1873م وهو فيلسوف إنكليزي، ألف كتاب مذهب المنفعة ونادى بالحرية الفردية.
هربرت سبنسر 1820 – 1903م وهو فيلسوف إنكليزي قال بتطور الأنواع قبل دارون.
ج.أ. مور 1873 – 1958م وهو فيلسوف إنكليزي – ألف كتاب أصول الأخلاق وأدخل تعديلات على مذهب المنفعة إذ قبل الرأي القائل بأن صواب أي فعل من الأفعال يتوقف على النتائج الحسنة والسيئة التي تترتب عليه.
الأفكار والمعتقدات:
يعد مذهب المنفعة نظرية في الأخلاق(*)، طبعت أتباعها بطابع مميز.. إذ كان كل همهم الاهتمام بالحياة الدنيا والاغتراف من لذاتها.
ويمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:
إن صواب أي عمل من الأعمال، إنما يحكم عليه بمقدار ما يسهم في زيادة السعادة الإنسانية أو في التقليل من شقاء الإنسان، بصرف النظر عن السداد الأخلاقي لقاعدة ما، أو مطابقتها للوحي(*) أو للسلطة أو للتقليد أو للحس الأخلاقي أو للضمير.
اللذة هي الشيء الوحيد الذي هو خير في ذاته، والألم هو الشيء الوحيد الذي هو شرٌّ في ذاته، والسعادة تشمل اللذة والتخلص من الألم، وإن رجحان كفة اللذة قد يعود هو نفسه فيصبح مصدراً للمزيد من اللذة.
يمكن دفع الناس إلى التصرف على نحو يؤدي إلى السعادة العامة من خلال ما يلي:
1- القانون بقصاصه، والرأي العام بجزاءاته من ثواب وعقاب، فهما يحولان بين الناس وبين أن يأتوا من الأعمال ما يضاد الصالح العام.
2- المنفعة الذاتية المستنيرة تدل الناس على أن الصالح العام ينطوي في أغلب الأحوال على منفعتهم الخاصة.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن لنظرية المنفعة جذور في الفكر اليوناني، وعند الفيلسوف أبيقور 342 – 270 ق.م بشكل خاص.
ويمكن في الوقت الحاضر أن نجد جذور مذهب(*) المنفعة عند كل من:
تومامس هوبز 1588 – 1679م الفيلسوف الإنكليزي الذي يرى أن كلمة خير يقصد بها الشهوة، وكلمة شر يقصد بها النفور.(87/213)
وجون لوك 1632 – 1704م الفيلسوف الإنكليزي وفرنسيس هتشون 1694 – 1747م الفيلسوف الأيرلندي، ونظريته في الحس الأخلاقي تعبر في بعض جوانبها عن مذهب المنفعة إلا أنها ترتكز على الدين(*).
كما نجد جذور مذهب المنفعة أيضاً عند ديفيد هيوم 1711 – 1776م الفيلسوف الإنكليزي الذي يرى أنه لا شيء يؤثر في الفعل الإرادي غير اللذة والألم، وقد يكون التأثير مباشراً.
وعندما جاء جيرمي بنتام مؤسس مذهب المنفعة، استفاد من كل من سبقوه منتهياً إلى نظرية متكاملة، في رأيه، ومستخدماً إياها على أوسع نطاق.
يتضح مما سبق:
أن المنفعة فكرة فلسفية لا تلتزم بالأصول الدينية، إذ تقيس صواب العمل بمقدار ما يحققه من منفعة وسعادة بصرف النظر عن توافقه مع الأخلاق(*) أو مطابقته للدين، وترى أن كلَّ ما يُلزم به الدين، يمكن للقانون بقصاصه والرأي العام بجزاءاته أن يأتي به. ولا شك أن في هذا تجاوزاً يهدم أسس العقيدة ويحول المجتمعات إلى غابة تتصارع فيها المنافع بلا ضابط أو رابط.
----------------------------
مراجع للتوسع:
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه دار العلم – بيروت.
- معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، د. أحمد زكي بدوي مكتبة لبنان – بيروت – 1982م.
- تاريخ الفلسفة الحديثة ، د يوسف كرم. دار المعارف – القاهرة.
المراجع الأجنبية :
- The Utility of religion and Theism by John S. Mill Wath. London 1904.
- On Liberty: representative Government and Utilitarianism by John s. Mill, London, New York 1954.
- History of Philosophy by F.C. Copleston Burns, London 1947.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffding, London 1936.
الوضعية
التعريف :(87/214)
المذهب(*) الوضعي مذهب فلسفي ملحد يرى أن المعرفة اليقينية هي معرفة الظواهر التي تقوم على الوقائع التجريبية، ولا سيما تلك التي يتيحها العلم التجريبي. وينطوي الذهب على إنكار وجود معرفة تتجاوز التجربة الحسية، ولاسيما فيما يتعلق بما وراء الماد وأسباب وجودها.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
تأسس المذهب الوضعي في فرنسا على يد الفيلسوف كونت ومعظم من جاء بعده طبَّق منهجه في العلم والمعرفة. ومن أبرز شخصيات المذهب:
أوغست كونت 1798 – 1857م وهو الفيلسوف الفرنسي المؤسس للمذهب، عمل أميناً للسر(سكرتيراً) للفيلسوف الاشتراكي(*) سان سيمون وبدأ بإلقاء محاضرات عن فلسفته الوضعية سنة 1826م، ثم أصيب بمرض عقلي وحاول الانتحار.. وقد نشر كتابه بعد ذلك تحت عنوان: محاضرات في الفلسفة(*) الوضعية بسط فيه نظريته في المعرفة والعلوم.
نادى بضرورة قيام دين(*) جديد هو الدين الوضعي يقوم على أساس عبادة الإنسانية كفكرة تحل محل الله – سبحانه وتعالى – في الأديان السماوية.
سان سيمون.. وهو فيلسوف فرنسي اشتراكي النزعة.. في كتابه مقال في علوم الإنسان سنة 1813م أطلق كلمة وضعي على العلوم القائمة على الوقائع القائمة على الوقائع الخاضعة للملاحظة والتحليل، والعلوم التي لم تؤسس على هذا النحو يسميها العلوم الظنية.
ريتشاد كونجريف.. وهو مفكر إنكليزي ناصر الوضعية واعتنق أفكارها.
زكي نجيب محمود وهو مفكر عربي مصري، تبع الفلسفة الوضعية الملحدة، وتبنى أفكارها.. وألف كتاب المنطق الوضعي.
أ .إير فيلسوف إنجليزي.
ب . برتراند راسل فيلسوف إنجليزي.
الأفكار والمعتقدات:
صاغ الفيلسوف الفرنسي كونت مبادئ وأفكار المذهب(*) الوضعي، ثم بلور من جاء بعده من الوضعيين هذه الأفكار وسار على منهجها العلمي.
* وهذه خلاصة لتلك الأفكار مع نقد المفكرين والفلاسفة لها:
* استحوذت على تفكير كونت فكرة التقدم الإنساني.(87/215)
- وضع كونت قانون التقدم الإنساني، وهو قانون الحالات الثلاث الذي يتقدم العقل(*) البشري بمقتضاه من المرحلة اللاهوتية إلي المرحلة الميتافيزيقية ثم إلى المرحلة الوضعية الأخيرة.
وقد قسم كونت المرحلة اللاهوتية إلى ثلاث مراحل :
المرحلة الوثنية(*) – والمرحلة التعددية(*) – والمرحلة التوحيدية(*) وهي المرحلة الأخيرة التي بدأت بظهور النصرانية والإسلام.
والمرحلة الوضعية بدأت بالثورة(*) الفرنسية، وهي المرحلة التي تفسر الظواهر عن طريق الاستقرار القائم على الملاحظة.
* ويطبق كونت هذا القانون في التطور على جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل الحضارة والسياسة والفن والأخلاق(*).
· نقد القانون:
- وقد نقد طائفة من المفكرين قانون الحالات الثلاثة بما يلي:
1- يعتبر كونت أن الإنسانية كلٌّ لا يتجزأ وأنها خاضعة لقانون واحد بينما نجد أن هناك مجتمعات لا تسير في تطورها وتقدمها على نمط واحد في فهم وإدراك الظواهر.
2- يختلف الطريق الذي سلكه العقل الإنساني عن ذلك الذي حدده كونت ففي كثير من الأمور كان الفهم الوضعي للأمور يسير مع الفهم الديني أو الميتافيزيقي(*)؛ ففي مجال فهم الحقائق الرياضية والفلكية مثلاً أمور كانت تسير مع الفهم الديني قديماً. ولا تزال بعض المجتمعات تفسر الحقائق العلمية القائمة تفسيراً دينيًّا. على الرغم من أننا نجتاز حالياً المرحلة الوضعية في نظر كونت.
3- لا يستمد قانون المراحل الثلاث حقائقه من التاريخ، وإنما هو فكرة فلسفية اختار لها كونت مجتمعات معينة حاول تطبيقها عليها دون استقراء لتاريخ المجتمعات الإنسانية.
4- يفسر هذا القانون بأنه التقدم، بينما نجد الحضارة عبارة عن مستوى عام للحياة المادية(*) والروحية للمجتمع دون النظر إلى تقدمها أو تأخرها.
الجذور الفكرية والعقائدية:(87/216)
* لقد اعتبر فرنسيس بيكون 1561-1626م نفسه داعية للعلوم الجديدة، وهي العلوم التي كانت في طريقها إلى الانفصال عن الفلسفة (*) في القرنيين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. وربما عدّ بيكون بادئ الوضعية وواضع الاسم الذي سميت به في القرن التاسع عشر، ففي كتابه في المبادئ والأصول 1623م أطلق بيكون صفة وضعي على الحقائق الأولية التي يجب تقلبها إيماناً بصدق الخبرة.
وقد كان بيكون موضع تقدير كبير من الفلاسفة التجريبيين في القرن التاسع عشر في كل من إنكلترا وفرنسا. وأصبحت كلمة وضعي تطلق على مناهج العلوم الطبيعية، نظراً لاعتماد هذه المناهج على الملاحظة واستخدمها للتجربة، ولقد سبق بيان كيف أن سان سيمون الذي عمل كونت في خدمته، قد أطلق كلمة وضعي في كتابه مقال في علوم الإنسان على العلوم القائمة على الوقائع الخاضعة للملاحظة والتجريب.. وقد اقتبس كونت هذه الأفكار وأقام عليها نظريته وقانونه الوضعي.
الانتشار ومواقع النفوذ:
* زحف المذهب الوضعي من فرنسا إلي إنكلترا، واعتنق بعض الفلاسفة مبادئ المذهب الوضعي. إلا أن بعض كبار المفكرين والفلاسفة رفضوا متابعة كونت في مفهوم دين(*) الإنسانية الذي وضعه، وبالرغم من ذلك فقد أُنشئت جمعيات وضعية في أجزاء مختلفة من العالم على غرار النموذج الذي أسسه كونت نفسه عام 1848م. وفي هذه الجمعيات كانت الإنسانية هي موضوع الشعائر الدينية، واتخذ من علم الاجتماع سنداً لمثل هذه الديانة الاجتماعية، وقويت هذه الحركة بصورة خاصة في أمريكا اللاتينية، ولكنها ازدهرت لعدة سنوات في إنكلترا…
* وقد صدرت المجلة الوضعية التي أطلق عليها فيما بعد اسم الإنسانية من عام 1893م إلي عام 1925م. وقامت محاولات لإحياء الوضيعة في إنكلترا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، من خلال أعمال الفلاسفة الإنجليز إير وراسل.
يتضح مما سبق:(87/217)
* أن المذهب(*) الوضعي مذهب فلسفي ملحد، يركز المعرفة اليقينية في الظواهر التجريبية، وينكر وجود معرفة مطلقة، ويقول إن التقدم بدأ في العلوم الطبيعية وبدأ ينتقل للعلوم الاجتماعية وأن العقل البشري يتقدم من المرحلة اللاهوتية الدينية إلي المرحلة الميتافيزيقية (*) لكي يصل في النهاية إلي المرحلة الوضعية التي هي قمة التخلي عن كل العقائد الدينية.وبذا تتضح مخاطر هذا المذهب على كل مسلم.
----------------------------
مراجع للتوسع:
- قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين، وآخر- مطبعة التأليف والنشر- القاهرة 1978م.
- معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، د. أحمد زكي بدوي – مكتبة لبنان – بيروت.
- تاريخ الفلسفة الحديثة، د. يوسف كرم- دار المعارف- القاهرة.
- Course de Philosophies Positive Par A. Comte, Paris. 1830.
- A Discourse on the Positive Spirit by A. Comte, Tr. S. Beesley. revers. London 1903.
- Dialogues Concerning Natural religion by D. Hume. Ed. N. Kemp Smith O.V.P. Oxford 1935.
- History of Philosophy by F.C. Copleston Burns. London 1947.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffding, London 1956.
المثالية
التعريف :
المثالية مذهب(*) فلسفي يشمل جانباً كبيراً من المذاهب الميتافيزيقية(*) (ما بعد الطبيعة أو الغيبية) وهي اتجاه فلسفي يبحث عن مسألة الوجود (أوْ الانطولوجيا) في حين أن العقلانية اتجاه مذهبي يبحث في أصل المعرفة ويرد هذا الأصل إلى العقل فقط وينكر دور الحواس أو المعرفة القلبية أو المعرفة عن طريق الوحي(*)، وعكس العقلانية التجريبية وهذه الأخيرة تعتمد على التجربة الحسية فقط من دون العقل المجرد.
وعكس المثالية "المادية"(*). والمثالية تعطي الأولوية في الوجود للروح على أن يكون وجود المادة ثانوياً في حين أن المادية (*) تعطي الأولوية في الوجود للمادة، على أن تكون الروح انعكاساً للمادة وظلاً لها.(87/218)
وتقترب المثالية كثيراً من الفلسفة لأنها تبلور مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسية: الحق والخير والجمال.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ظهرت المثالية في القرن الثامن عشر الميلادي، ومن أبرز الفلاسفة الذين أثروا في المذهب، وكان لهم تأثير كبير في مجرى الفكر الأوروبي عامة:
جورج باركلي 1685 – 1753م وهو راهب(*) أيرلندي، كان على جانب كبير من النشاط والجاذبية الفطرية والقدرة على الإقناع ويعد المؤسس الحقيقي للمثالية، وكانت أفكاره ذات تأثير كبير فيمن جاء بعده من المفكرين والفلاسفة.
عمانوئيل كانت 1724 – 1804م وهو فيلسوف ألماني، ألف كتباً مشهورة أهمها نقد العقل(*) الخالص ونقد العقل العملي، وكان يعتقد أن هناك حجة أخلاقية كافية للبرهان على وجود الله هي القانون الأخلاقي.
جوهان فيشته 1762 – 1814م وهو فيلسوف ألماني، درس اللاهوت والفلسفة وتتلمذ على يد كانت وكان لخطبه الشهيرة في برلين بين عامي 1807 – 1808م عميق الأثر في إحياء بروسيا بعد هزائمها على يد نابليون بونابرت القائد الفرنسي الشهير.
جورج فلهلم هيجل 1770 – 1831م وهو فيلسوف ألماني كان من أكبر الفلاسفة تأثيراً في فلسفات(*) عدة مثل الوجودية والماركسية والذرائعية في مجال الديالكتيك (الجدل)(*) وكان يعتقد أن الوجود المادي مظهر للروح.
آرثر شوبنهور 1788 – 1860م وهو فيلسوف ألماني، تأثر كثيراً بفلسفة أفلاطون المثالية وكانت من كتبه العالم إرادة وفكرة وقد تأثر بالبوذية، لكنه لم يقبل مذهب(*) تناسخ الأرواح(*).
ت.هـ. جرين 1836 – 1924م وهو فيلسوف إنجليزي، أثر تأثيراً كبيراً في أكسفورد، واهتم بشكل خاص بالربط بين المثالية والنصرانية وبين المثالية والأفكار السياسية الحرة.
ف.هـ. برادلي 1846 – 1924م وهو فيلسوف إنجليزي، قال بأنه ينبغي علينا افتراض وجود مطلق يجاوز نطاق الفكر.
الأفكار والمعتقدات :(87/219)
إن جوهر الحقيقة روحي، والروح لا تستطيع أن تدرك نفسها إلا في علاقتها بعنصر مادي موضوعي، وهذا هو علة وجود المادة أو كما قال هيجل: "الماد مظهر تتبدَّى به الروح".
إن الأرواح هي الفاعل وهي التي تملك إرادة.
إن الأشياء المادية المحسوسة ليست سوى مجموعات من الأفكار على حد تعبير باركلي أو من المعطيات الحسية على حد تعبير من جاءوا بعده. وإننا لا نستطيع أن نتصور الصفات التي ننسبها إلى الأشياء المادية مجردة من تجربتنا الحسية لها.
إن الأشياء الطبيعية التي لا يدركها الإنسان موجودة في علم الله، (باركلي).
إن معرفتنا مقتصر على الظواهر، ولا نستطيع معرفة الأشياء في ذاتها، كانت.
ترى المثالية أن الشر شيء عارض وعابر في الحياة؛ والأدب المثالي يحاول الكشف دائماً عن الطبيعة الخيرة والجميلة للإنسان.
الجذور الفكرية والعقائدية:
مؤسس المثالية جورج باركلي الفيلسوف الأيرلندي كان راهباً(*) عاش طوال حياته متشبعاً بالفكر الديني مولعاً بالفلسفة والفكر اللاهوتي، ومدافعاً عن الإيمان الديني والإدراك الفطري السليم. فضلاً عن محاولته وهو في منتصف عمره، إقامة جامعة لتخريج مبشرين بالنصرانية.
هذه الجذور الدينية العميقة كان لها أكبر الأثر في توجهه الفلسفي نحو القول بالمثالية. وأنه لا حقيقة إلا للروح ولخالقها، الله – تعالى- وأن الوجود المادي وجود ظاهري يحس به الإنسان ويدركه بعقله فقط. ويظهر الأثر المباشر لآراء باركلي في الفيلسوف كانت الألماني.
الانتشار ومواقع النفوذ :
انتشرت المثالية في أوروبا عامة وألمانيا بصفة خاصة.
يتضح مما سبق :
أن المثالية مذهب(*) فلسفي، يرى أن العقل(*) هو أساس المعرفة وأنه هو الحقيقة النهائية، فالمادة مظهر تتبدّى فيه الروح، والأرواح هي الفاعل وهي التي تملك إرادة، كما يقول المذهب النقدي عند الفيلسوف كانت.
مراجع للتوسع :
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه، دار القلم بيروت.(87/220)
- تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم – دار المعارف – القاهرة.
- Dialogues between Hylar and Philonour by G. Berkeley, Collier, New York 1910.
- Philosophy of right. G. Hegel, tr. T.M. Knox O.U.P. Oxford. 1942.
- Hegel: A re – examination by J.N. Findlay, London 1958.
- History of Philosophy by F.C. Copleston Burns. London 1947.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffoling, London 1956.
الوجودية
التعريف :
الوجودية اتجاه فلسفي يغلو في قيمة الإنسان ويبالغ في التأكيد على تفرده وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. وهي فلسفة عن الذات أكثر منها فلسفة(*) عن الموضوع. وتعتبر جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة التي تتعلق بالحياة والموت والمعاناة والألم، وليست نظرية فلسفية واضحة المعالم. ونظراً لهذا الاضطراب والتذبذب لم تستطع إلى الآن أن تأخذ مكانها بين العقائد والأفكار.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
يرى رجال الفكر الغربي أن سورين كيركجورد 1813 – 1855م هو مؤسس المدرسة الوجودية. ومن مؤلفاته: رهبة واضطراب.
أشهر زعمائها المعاصرين: جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي المولود سنة 1905م وهو ملحد ويناصر الصهيونية له عدة كتب وروايات تمثل مذهبه(*) منها: الوجودية مذهب إنساني، الوجود والعدم، الغثيان، الذباب، الباب المغلق.
ومن رجالها كذلك: القس كبرييل مارسيل وهو يعتقد أنه لا تناقض بين الوجودية والنصرانية.
كارل جاسبرز : فيلسوف ألماني.
بسكال بليز : مفكر وفيلسوف فرنسي.
وفي روسيا: بيرد يائيف، شيسوف، سولوفييف.
الأفكار والمعتقدات:
يكفرون بالله ورسله وكتبه وبكل الغيبيات وكل ما جاءت به الأديان(*) ويعتبرونها عوائق أمام الإنسان نحو المستقبل. وقد اتخذوا الإلحاد مبدأ ووصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائج مدمرة.(87/221)
يعاني الوجوديون من إحساس أليم بالضيق والقلق واليأس والشعور بالسقوط والإحباط لأن الوجودية لا تمنح شيئاً ثابتاً يساعد على التماسك والإيمان وتعتبر الإنسان قد أُلقي به في هذا العالم وسط مخاطر تؤدي به إلى الفناء.
يؤمنون إيماناً مطلقاً بالوجود الإنساني وتخذونه منطلقاً لكل فكرة.
يعتقدون بأن الإنسان أقدم شيء في الوجود وما قبله كان عدماً وأن وجود الإنسان سابق لماهيته.
يعتقدون أن الأديان والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحل مشكلة الإنسان.
يقولون: إنهم يعملون لإعادة الاعتبار الكلي للإنسان ومراعاة تفكيره الشخصي وحريته وغرائزه ومشاعره.
يقولون بحرية الإنسان المطلقة وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء وبأي وجه يريد دون أن يقيده شيء.
يقولون: إن على الإنسان أن يطرح الماضي وينكر كل القيود دينية كانت أم اجتماعية أم فلسفية أم منطقية.
يقول المؤمنون منهم إن الدين(*) محله الضمير أمَّا الحياة بما فيها فمقودة لإرادة الشخص المطلقة.
لا يؤمنون بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه إنما كل إنسان يفعل ما يريد وليس لأحد أن يفرض قيماً أو أخلاقاً معينة على الآخرين.
أدى فكرهم إلى شيوع الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية والتحلل والفساد.
رغم كل ما أعطوه للإنسان فإن فكرهم يتسم بالانطوائية الاجتماعية والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوعة.
الوجودي الحق عندهم هو الذي لا يقبل توجيهاً من الخارج إنما يسيِّر نفسه بنفسه ويلبي نداء شهواته وغرائزه دون قيود ولا حدود.
لها الآن مدرستان: واحدة مؤمنة والأخرى ملحدة وهي التي بيدها القيادة وهي المقصودة بمفهوم الوجودية المتداول على الألسنة فالوجودية إذاً قائمة على الإلحاد.
الوجودية في مفهومها تمرد على الواقع التاريخي وحرب على التراث الضخم الذي خلفته الإنسانية.(87/222)
تمثل الوجودية اليوم واجهة من واجهات الصهيونية الكثيرة التي تعمل من خلالها وذلك بما تبثُّه من هدم للقيم والعقائد والأديان.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن الوجودية جاءت كردِّ فعل على تسلط الكنيسة(*) وتحكمها في الإنسان بشكل متعسف باسم الدين(*).
تأثرت بالعلمانية وغيرها من الحركات التي صاحبت النهضة الأوروبية ورفضت الدين والكنيسة.
تأثرت بسقراط الذي وضع قاعدة "اعرف نفسك بنفسك".
تأثروا بالرواقيين(*) الذين فرضوا سيادة النفس.
كما تأثروا بمختلف الحركات الداعية إلى الإلحاد والإباحية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
ظهرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ثم انتشرت في فرنسا وإيطاليا وغيرهما. وقد اتخذت من بشاعة الحروب وخطورتها على الإنسان مبرراً للانتشار السريع. وترى حرية الإنسان في عمل أي شيء متحللاً من كل الضوابط. وهذا المذهب يعد اتجاهاً إلحاديًّا يمسخ الوجود الإنساني ويلغي رصيد الإنسانية.
انتشرت أفكارهم المنحرفة المتحللة بين المراهقين والمراهقات في فرنسا وألمانيا والسويد والنمسا وإنجلترا وأمريكا وغيرها حيث أدت إلى الفوضى الخلقية والإباحية الجنسية واللامبالاة بالأعراف الاجتماعية والأديان.
ويتضح مما سبق:
أن الوجودية اتجاه إلحادي(*) يمسخ الوجود الإنساني ويلغي رصيد الإنسانية من الأديان وقيمها الأخلاقية. وتختلف نظرة الإسلام تماماً عن نظرية الوجودية حيث يقرر الإسلام أن هناك وجوداً زمنياً بمعنى عالم الشهادة ووجوداً أبديًّا بمعنى عالم الغيب. والموت في نظر الإسلام هو النهاية الطبيعية للوجود الزمني ثم يكون البعث والحساب والجزاء والعقاب.
أما الفلسفة الوجودية فلا تسلم بوجود الروح ولا القوى الغيبية وتقوم على أساس القول بالعدمية والتعطيل فالعالم في نظرهم وجد بغير داع ويمضي لغير غاية والحياة كلها سخف يورث الضجر والقلق ولذا يتخلص بعضهم منها بالانتحار.
----------------------------
مراجع للتوسع :(87/223)
- الوجودية وواجهتها الصهيونية، د. محسن عبد الحميد.
- مباحث في الثقافة الإسلامية، د. نعمان السامرائي.
- سقوط الحضارة ، كولن ولسن.
- دراسات في الفلسفة المعاصرة، د. زكريا إبراهيم.
- الوجودية المؤمنة والملحدة، د. محمد غلاب.
- عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس محمود العقاد.
- المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة.
الفرويدية
التعريف :
الفرويدية مدرسة في التحليل النفسي أسسها اليهودي سيجموند فرويد Sigmund Freud وهي تفسر السلوك الإنساني تفسيراً جنسيًّا، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كل شيء. كما أنها تعتبر القيم والعقائد حواجز وعوائق تقف أمام الإشباع الجنسي مما يورث الإنسان عقداً وأمراضاً نفسية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
المؤسس وحياته:
ولد سيجموند فرويد في 6 مايو 1856م في مدينة فريبورج بمقاطعة مورافيا بتشيكوسلوفاكيا الحالية من والديْن يهوديين.
استقرت أسرة أبيه في كولونيا بألمانيا زمناً طويلاً.
ولدت أمه بمدينة برودي في الجزء الشمالي من غاليسيا ولما شبت تزوجت من جاكوب فرويد والد سيجموند فرويد حيث أنجبت له سبعة أبناء.
وغاليسيا مدينة ببولندا جاء منها والد فرويد وكانت معقلاً رئيسيًّا ليهود شرق أوروبا، وبسبب ظروف الشغب رحلت الأسرة إلى برسلاو بألمانيا وعمر سيجموند حينها ثلاث سنوات، ثم رحلوا مرة أخرى إلى فيينا حيث أمضى معظم حياته وبقي فيها إلى سنة 1938م حيث غادرها إلى لندن ليقضي أيامه الأخيرة فيها مصاباً بسرطان في خده وقد أدركته الوفاة في 23 سبتمبر 1939م.
تلقى تربيته الأولى وهو صغير على يدي مربية كاثوليكية دميمة عجوز متشددة كانت تصحبه معها أحياناً إلى الكنيسة(*) مما شكل عنده عقدة ضدّ المسيحية(*) فيما بعد.
نشأ يهوديًّا، وأصدقاؤه من غير اليهود نادرين إذ كان لا يأنس لغير اليهود ولا يطمئن إليهم.(87/224)
دخل الجامعة عام 1873م وعقَّب على ذلك بأنه يرفض رفضاً قاطعاً أن يشعر بالدونية والخجل من يهوديته. لكن هذا الشعور الموهوم بالاضطهاد ظل يلاحقه على الرغم من احتلاله أرقى المناصب.
في سنة 1885م غادر فيينا إلى باريس وتتلمذ على شاركوت Charcot مدة عام حيث كان أستاذه هذا يقوم بالتنويم المغناطيسي لمعالجة الهستيريا وقد أعجب فرويد به عندما أكَّد له بأنه في حالة من حالات الأمراض العصبية لا بد من وجود اضطراب في الحياة الجنسية للمريض.
أخذ يتعاون مع جوزيف بروير 1842 – 1925م وهو طبيب نمساوي صديق لفرويد، وهو فيزيولوجي في الأصل لكنه انتقل إلى العمل الطبي إذ كان ممن يستعملون التنويم المغناطيسي أيضاً.
بدأ الاثنان باستعمال طريقة التحدث مع المرضى فنجحا بعض النجاح ونشرا أبحاثهما في عامي 1893 و1895م وصارت طريقتهما مزيجاً من التنويم والتحدث، ولم يمض وقت طويل حتى انصرف بروير عن الطريق كلها.
تابع فرويد عمله تاركاً طريقة التنويم معتمداً على طريقة التحدث طالباً من المريض أن يضطجع ويتحدث مفصحاً عن كل خواطره، وسماها طريقة (الترابط الحر) سالكاً طريق رفع الرقابة عن الأفكار والذكريات، وقد نجحت طريقته هذه أكثر من الطريقة الأولى.
أخذ يطلب من مريضه أن يسرد عليه حلمه الذي شاهده في الليلة الماضية، مستفيداً منه في التحليل، وقد وضع كتاب تفسير الأحلام الذي نشره سنة 1900م، ثم كتاب علم النفس المرضي للحياة اليومية ثم توالت كتبه وصار للتحليل النفسي مدرسة سيكولوجية صريحة منذ ذلك الحين.
انضم عام 1895م إلى جمعية بناي برث أي أبناء العهد، وكان حينها في التاسعة والثلاثين من عمره، وهذه الجمعية لا تقبل بين أعضائها غير اليهود.
كان يعرف تيودور هرتزل الذي ولد عام 1860م، كما سعيا معاً لتحقيق أفكار واحدة لخدمة الصهيونية التي ينتميان إليها، مثل فكرة معاداة السامية التي ينشرها هرتزل سياسيًّا، ويحللها فرويد نفسيًّا.
من أصحابه وتلاميذه:(87/225)
لارنست جونز، مؤرخ السيرة الفرويدية، مسيحي(*) مولداً، ملحد فكراً، يهودي شعوراً ووجداناً، حتى إنهم خلعوا عليه لقب: اليهودي الفخري.
أوتو رانك 1884 – 1939م قام بوضع نظرية تقوم أساساً على أفكار فرويد الأصلية مع شيء من التعديل الهام.
الفرِد آدلر: ولد في فيينا 1870 – 1937م، وقد انضم إلى جماعة فرويد مبكراً لكنه افترق عنه بعد ذلك مؤسساً مدرسة سماها مدرسة علم النفس الفردي مستبدلاً بالدوافع الجنسية عند فرويد عدداً من الدوافع الاجتماعية مع التأكيد على الإرادة القوية والمجهودات الشعورية.
كارل جوستاف يونج 1875 – 1961م ولد في زيوريخ، وهو مسيحي(*)، نصَّبه فرويد رئيساً للجمعية العالمية للتحليل النفسي، لكنه خرج على أستاذه معتقداً بأن هذه المدرسة التحليلية ذات جانب واحد وغير ناضجة، وكان لخروجه أثر بالغ على فرويد. وضع نظرية السيكولوجيا التحليلية مشيراً إلى وجود قوة دافعة أكبر هي طاقة الحياة مؤكداً على دور الخبرات اللاشعورية المتصلة بالعِرق أو العنصر.
الفرويديون المحدثون:
حدث انسلاخ كبير عن الفرويدية الأصلية، وذلك عندما تكونت الفرويدية الحديثة التي كان مركزها مدرسة واشنطن للطب العقلي، وكذلك معهد إليام ألانسون هوايت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مدرسة تتميز بالتأكيد على العوامل الاجتماعية معتقدة أن ملامح الإنسان الأساسية إيجابية، وهم يلحّون على نقل التحليل النفسي إلى علم الاجتماع للبحث عن أصول الحوافز البشرية في تلبية مطالب الوضع الاجتماعي، ومن أبرز شخصياتهم:
أريك فروم: ظهر بين 1941 – 1947م. كان ينظر إلى الإنسان على أنه مخلوق اجتماعي بالدرجة الأولى بينما ينظر إليه فرويد على أنه مخلوق مكتفٍ بذاته، تحركه عوامل غريزية.(87/226)
كارن هروني: استعملت طريقة فرويد خمسة عشر عاماً في أوروبا وأمريكا إلا أنها أعادت النظر فيها إذ وضعت نظرية جديدة تحرر فيها التطبيق العلاجي من كثير من القيود التي تفرضها النظرية الفرويدية.
وعلى الرغم من ذلك فإن الفرويديين المحدثين ما يزالون متمسكين بأشياء كثيرة من نظرية فرويد الأصلية مثل:
1- أهمية القوى الانفعالية بوصفها مضادة للدفع العقلي والارتكاسات الاشتراطية وتكوين العادات.
2- التداعي اللاشعوري.
3- الكبت والمقاومة وأهمية ذك في التحليل أثناء العلاج.
4- الاهتمام بالنزاعات الداخلية وأثرها على التكوين النفسي.
5- التأثير المستمر للخبرات الطفولية المبكرة.
6- طريقة التداعي الحر، وتحليل الأحلام، واستعمال حقيقة النقل.
الأفكار والمعتقدات:
الأسس النظرية:
الأسس الثلاثة التي تركز عليها المدرسة التحليلية هي: الجنس – الطفولة – الكبت. فهي مفاتيح السيكولوجية الفرويدية.
نظرية الكبت: هي دعامة نظرية التحليل النفسي وهي أهم قسم فيه إذ إنه لا بد من الرجوع إلى الطفولة المبكرة وإلى الهجمات الخيالية التي يراد بها إخفاء فاعليات العشق الذاتي أيام الطفولة الأولى إذ تظهر كل الحياة الجنسية للطفل من وراء هذه الخيالات.
يعتبر فرويد مص الأصابع لدى الطفل نوعاً من السرور الجنسي الفمي ومثل ذلك عض الأشياء، فيما يعد التغوط والتبول نوعاً من السرور الجنسي الأستي كما أن الحركات المنتظمة للرجلين واليدين عند الطفل إنما هي تعبيرات جنسية طفولية.
اللبيدو Libido طاقة جنسية أو جوع جنسي، وهي نظرية تعتمد على أساس التكوين البيولوجي للإنسان الذي تعتبره حيواناً بشرياً فهو يرى أن كل ما نصرح بحبه أو حب القيام به في أحاديثنا الدارجة يقع ضمن دائرة الدافع الجنسي. فالجنس عنده هو النشاط الذي يستهدف اللذة وهو يلازم الفرد منذ مولده إذ يصبح الأداة الرئيسية التي تربط الطفل بالعالم الخارجي في استجابته لمنبهاته.(87/227)
الدفع: يقول بأن كل سلوك مدفوع، فإلى جانب الأفعال الإرادية التي توجهها الدوافع والتمنيات هناك الأفعال غير الإرادية أو العارضة. فكل هفوة مثلاً ترضي تمنياً وكل نسيان دافعه رغبة في إبعاد ذلك الشيء.
الشلل أو العمى لديه قد يكون سببه الهروب من حالة صعبة يعجز الإنسان عن تحقيقها، وهذا يسمى انقلاب الرغبة إلى عرض جسدي.
الحلم عنده هو انحراف عن الرغبة الأصلية المستكنة في أعماق النفس وهي رغبة مكبوتة يقاومها صاحبها في مستوى الشعور ويعيدها إلى اللاشعور، وأثناء النوم عندما تضعف الرقابة تأخذ طريقها باحثة لها عن مخرج.
يتكلم فرويد عن تطبيق مبدأين هما اللذة والواقع، فالإنسان يتجه بطبيعته نحو مبدأ اللذة العاجلة لمباشرة الرغبة لكنه يواجه بحقائق الطبيعة المحيطة به فيتجنب هذه اللذة التي تجلب له آلاماً أكبر منها أو يؤجل تحقيقها.
يفترض فرويد وجود غريزتين ينطوي فيهما كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك وهما غريزة الحياة وغريزة الموت. غريزة الحياة تتضمن مفهوم اللبيدو وجزءً من غريزة حفظ الذات، أما غريزة الموت فتمثل نظرية العدوان والهدم موجهة أساساً إلى الذات ثم تنتقل إلى الآخرين.
الحرب لديه إنما هي محاولة جماعية للإبقاء على الذات نفسياً، والذي لا يحارب إنما يعرض نفسه لاتجاه العدوان إلى الداخل فيفني نفسه بالصراعات الداخلية، فالأولى به أن يفني غيره إذن، والانتحار هو مثل واضح لفشل الفرد في حفظ حياته. وهذا المفهوم إنما يعطي تبريراً يريح ضمائر اليهود أصحاب السلوك العدواني المدمر.
اللاشعور: هو مستودع الدوافع البدائية الجنسية وهو مقر الرغبات والحاجات الانفعالية المكبوتة التي تظهر في عثرات اللسان والأخطاء الصغيرة والهفوات وأثناء بعض المظاهر الغامضة لسلوك الإنسان. إنه مستودع ذو قوة ميكانيكية دافعة وليس مجرد مكان تلقى إليه الأفكار والذكريات غير الهامة.(87/228)
الـ (هو): مجموعة من الدوافع الغريزية الموجودة لدى الطفل عند ولادته التي تحتاج إلى الشعور الموجه، وهي غرائز يشترك فيها الجنس البشري بكافة. إنها باطن النفس، وقد نتجت عن (الأنا) إلا أنها تبقى ممزوجة بها في الأعماق أي حينما تكون (الأنا) لا شعورية، وهي تشمل القوى الغريزية الدافعة، فإذا ما كبتت هذه الرغبات فإنها تعود إلى الـ (هو) (Ego).
(الأنا): بعد قليل من ميلاد الطفل يزداد شعوراً بالواقع الخارجي فينفصل جزء من مجموعة الدوافع الـ (هي) لتصبح ذاتاً ووظيفتها الرئيسية هي اختيار الواقع حتى يستطيع الطفل بذلك تحويل استجاباته إلى سلوك منظم يرتبط بحقائق الواقع ومقتضياته، إنها ظاهرة النفس التي ترتبط بالمحيط.
(الأنا العليا): هي الضمير الذي يوجه سلوك الفرد والجانب الأكبر منه لا شعوري وهو ما نسميه بالضمير أو الوجدان الأخلاقي، لها زواجر وأوامر تفرضها على (الأنا)، وهي سمة خاصة بالإنسان، إذ إنها أمور حتمية صادرة من العالم الداخلي.
النقل: وهي أن المريض قد ينقل حبَّه أو بغضه المكبوت في أعماق الذكريات إلى الطبيب مثلاً خلال عملية المعالجة. وقد تعرض بروير لحب واحدة من اللواتي كان يعالجهن إذ نقلت عواطفها المكبوتة إليه، فكان ذلك سبباً في انصرافه عن هذه الطريقة بينما تابع فرويد عمله بمعالجة الواحدة منهن بنقل عواطفها مرة أخرى والوصول بها إلى الواقع.
استفاد كثيراً من عقدة أوديب تلك الأسطورة التي تقول بأن شخصاً قد قتل أباه وتزوج أمه وأنجب منها وهو لا دري. ولما علم بحقيقة ما فعل سمل عينيه، فقد استغلها فرويد في إسقاطات نفسية كثيرة واعتبرها مركزاً لتحليلاته المختلفة.
شخصية الإنسان هي حصيلة صراع بين قوى ثلاث: دوافع غريزية، واقع خارجي، ضمير، وهي أمور رئيسية تتحدد بشكل ثابت بانتهاء الموقف الأوديبي حوالي السنة الخامسة أو السادسة من العمر.
الآثار السلبية للفرويدية:(87/229)
لم ترد في كتب وتحليلات فرويد أية دعوة صريحة إلى الانحلال – كما يتبادر إلى الذهن – وإنما كانت هناك إيماءات تحليلية كثيرة تتخلل المفاهيم الفرويدية تدعو إلى ذلك. وقد استفاد الإعلام الصهيوني من هذه المفاهيم لتقديمها على نحو يغري الناس بالتحلل من القيم وييسر لهم سبله بعيداً عن تعذيب الضمير.
كان يتظاهر بالإلحاد ليعطي لتفكيره روحاً علمانية، ولكنه على الرغم من ذلك كان غارقاً في يهوديته من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.
كان يناقش فكرة معاداة السامية وهي ظاهرة كراهية اليهود، هذه النغمة التي يعزف اليهود عليها لاستدرار العطف عليهم، وقد ردّ هذه الظاهرة نفسياً إلى اللاشعور وذلك لعدة أسباب:
1- غيرة الشعوب الأخرى من اليهود لأنهم أكبر أبناء الله وآثرهم عنده حاشا لله.
2- تمسّك اليهود بطقس الختان الذي ينبه لدى الشعوب الأخرى خوف الخصاء ويقصد بذلك النصارى لأنهم لا يختتنون.
3- كراهية الشعوب لليهود هو في الأصل كراهية للنصارى المسيحيين(*)، وذلك عن طريق النقل إذ أن الشعوب التي تُنزِل الاضطهاد النازي باليهود إنما كانت شعوباً وثنية(*) في الأصل، ثم تحولت إلى النصرانية بالقوة الدموية، فصارت هذه الشعوب بعد ذلك حاقدة على النصرانية لكنها بعد أن توحدت معها نقلت الحقد إلى الأصل الذي تعتمد عليه النصرانية ألا وهو اليهودية.
يركن إلى إشباع الرغبة الجنسية، وذلك لأن الإنسان صاحب الطاقة الجنسية القوية والذي لا تسمح له النصرانية إلا بزوجة واحدة؛ إما أن يرفض قيود المدنية ويتحرر منها بإشباع رغباته الجنسية وإما أن يكون ذا طبيعة ضعيفة لا يستطيع الخروج على هذه القيود فيسقط صاحبها فريسة للمرض النفسي ونهباً للعقد النفسية.
يقول بأن الامتناع عن الاتصال الجنسي قبل الزواج قد يؤدي إلى تعطيل الغرائز عند الزواج.(87/230)
عقد فصلاً عن تحريم العذرة وقال بأنها تحمل مشكلات وأمراضاً لكلا الطرفين، واستدل على ذلك بأن بعض الأقوام البدائية كانت تقوم بإسناد أمر فض البكارة لشخص آخر غير الزوج، وذلك ضمن احتفال وطقس رسمي.
لقد برَّر عشق المحارم لأن اليهود أكثر الشعوب ممارسة له بسبب انغلاق مجتمعهم الذي يحرم الزواج على أفراده خارج دائرة اليهود، وهو يرجع هذا التحريم إلى قيود شديدة كانت تغل الروح وتعطلها، وهو بذلك يساعد اليهود أولاً على التحرر من مشاعر الخطيئة كما يسهل للآخرين اقتحام هذا الباب الخطير بإسقاط كل التحريمات واعتبارها قيوداً وأغلالاً وهمية. وقد استغل اليهود هذه النظرية وقاموا بإنتاج عدد من الأفلام الجنسية الفاضحة التي تعرض نماذج من الزنى بالمحارم.
لم يعتبر التصعيد أو الإعلاء – كما يسميه – إلا طريقاً ضعيفاً للتخلص من ضغط الدافع الجنسي إذ أن هذا الطريق لن يتيسر خلال مرحلة الشباب إلا لقلَّة ضئيلة من الناس وفي فترات متقطعة وبأكبر قدر من العنت والمشقَّة ، أما الباقون – وهم الغالبية العظمى – فليس أمامهم إلا المرض النفسي يقعون صرعاه. كما أن أصحاب التصعيد هؤلاء إنما هم ضعاف يضيعون في زحمة الجماهير التي تنزع إلى السير بإرادة مسلوبة وراء زعامة الأقوياء.
في كفاحه ضد القيود، والأوامر العليا الموجهة إلى النفس، صار إلى محاربة الدين(*) واعتباره لوناً من العصاب النفسي الوسواسي.
تطورت فكرة الألوهية لديه على النحو التالي:
1- كان الأب هو السيد الذي يملك كل الإناث في القبيلة ويحرمها على ذكورها.
2- قام الأبناء بقتل الأب، ثم التهموا جزءً نيئاً من لحمه للتوحد معه لأنهم يحبونه.
3- صار هذا الأب موضع تبجيل وتقدير باعتباره أباهم أصلاً.
4- ومن ثم اختاروا حيواناً مرهوباً لينقلوا إليه هذا التبجيل فكان الحيوان هو الطوطم(*).
5- الطوطمية أول صورة للدين في التاريخ البشري.(87/231)
6- كانت الخطوة الأولى بعد ذلك هي التطوُّر نحو الإله(*) الفرد، فتطورت معها فكرة الموت الذي صار بهذا الاعتبار خطوة إلى حياة أخرى يلقى الإنسان فيها جزاء ما قدم.
7- الله – إذن – هو بديل الأب أو بعبارة أصح هو أب عظيم، أو هو صورة الأب كما عرفها المرء في طفولته.
نخلص من هذا إلى أن العقائد الدينية – في نظره – أوهام لا دليل عليها، فبعضها بعيد عن الاحتمال ولا يتفق مع حقائق الحياة، وهي تقارن بالهذيان، ومعظمها لا يمكن التحقق من صحته، ولابدّ من مجيء اليوم الذي يصغي فيه الإنسان لصوت العقل(*).
حديثه عن الكبت فيه إيحاءات قوية وصارخة بأن الوقاية منه تكمن في الانطلاق والتحرر من كل القيود، كما يحرم الإدانة الخلقية على أي عمل يأتيه المريض مركِّزاً على الآثار النفسية المترتبة على هذه الإدانة في توريثه العقد المختلفة مما يحرفه عن السلوك السوي.
مما ساعد على انتشار أفكاره ما يلي:
1- الفكر الدارويني الذي أرجع الإنسان إلى أصول حيوانية مادية.
2- الاتجاه العقلاني الذي ساد أوروبا حينذاك.
3- الفكر العلماني الذي صبغ الحياة بثورته ضد الكنيسة (*) أولاً وضد المفاهيم الدينية ثانياً.
4- اليهود الذين قدَّموا فكرة للإنسانية باستخدام مختلف الوسائل الإعلامية بغية نشر الرذيلة والفساد وتسهيل ذلك على ضمير البشرية ليسهل عليهم قيادة هذه الرعاع من الشعوب اللاهثة وراء الجنس، المتحللة من كل القيود والقيم.
من أكبر الآثار المدمرة لآراء فرويد، أن الإنسان حين كان يقع في الإثم كان يشعر بالذنب وتأنيب الضمير، فجاء فرويد ليريحه من ذلك، ويوهمه بأنه يقوم بعمل طبيعي لا غبار عليه، وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى توبة، وبذلك أضفى على الفساد صفة أخلاقية إذا صح التعبير.(87/232)
ألَّف نحو ثلاثين كتاباً في الدراسات النفسية من أشهرها: الذات والذات السفلى والطواطم(*) والمحرمات وتفسير الأحلام، وثلاث مقالات في النظرية الحسية والأمراض النفسية المنتشرة في الحياة اليومية. وكلها تدور – من زوايا مختلفة- حول موضوع واحد مكرر فيها جميعاً هو التفسير الجنسي للسلوك البشري.
الجذور الفكرية والعقائدية:
لقد دخل التنويم المغناطيسي إلى حقل العلم والطب على يد مسمر Mesmer 1780م إلا أنه قد مزج بكثير من الدجل مما نزع بالأطباء إلى أن ينصرفوا عنه انصرافاً دام حتى أيام مدرستي باريس ونانسي.
لقد كان الدكتور شاركوت Charcot 1825 – 1893م أبرز شخصيات مدرسة باريس، إذ كان يعالج المصابين بالهستيريا عن طريق التنويم المغناطيسي(*).
من تلاميذ شاركوت بيير جانه Pierr Janet الذي اهتم بالأفعال العصبية غير الشعورية والتي سماها الآليات العقلية.
ساهمت مدرسة نانسي بفرنسا في التنويم المغناطيسي المعتدل وقالت إنه أمر يمكن أن يحدث لكل الأسوياء، ذلك لأنه ليس إلا حالة انفعال وتلقٍّ منشؤها الإيحاء، وقد استعملته هذه المدرسة في معالجة الحالات العصبية.
أما فرويد فقد أخذ الأسس النظرية ممن سبقه، وأدخل أفكاره في تحليل التنويم المغناطيسي باستخدام طريقة التداعي الحرّ. لكن لهذا الوجه العلميِّ الظاهر وجه آخر هو التراث اليهودي الذي استوحاه فرويد واستخلص منه معظم نظرياته التي قدمها للبشرية خدمة لأهداف صهيون.
الانتشار ومواقع النفوذ:
بدأت هذه الحركة في فيينا، وانتقلت إلى سويسرا، ومن ثم عمت أوروبا، وصارت لها مدارس في أمريكا.
وقد حملت الأيام هذه النظرية إلى العالم كله عن طريق الطلاب الذين يذهبون إلى هناك ويعودون لنشرها في بلادهم.
تلاقي هذه الحركة اعتراضات قوية من عدد من علماء النفس الغربيين اليوم.
ويتضح مما سبق:(87/233)
أن الفرويدية تدعو إلى التحرر من كل القيود لأنها تسبب العقد النفسية والاضطرابات العصبية، وبذلك تريد للمجتمع أن يكون بلا دين(*) ولا أخلاق (*) ولا تقاليد فتتسع هوة الرذيلة والفساد وتسهل لليهود السيطرة على الشعوب المتحللة خدمة لأهداف الصهيونية. وبطبيعة الحال فإنها تنادي بأن الدين الذي يضع الضوابط لطاقة الجنس لا يستحق الإتباع ولا يستوجب الاحترام.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- علم الأمراض النفسية والعقلية، تأليف ريتشارد م. سوين – ترجمة أحمد عبد العزيز سلامة – دار النهضة العربية – القاهرة – 1979م.
- مدارس علم النفس، تأليف د. فاخر عاقل – دار العلم للملايين – بيروت – ط4 – 1979م.
- التراث اليهودي الصهيوني في الفكر الفرويدي، تأليف د. صبري جرجس – عالم الكتاب – طبعة 1970م.
- كتاب تاريخ حركة التحليل النفسي، تأليف سيجموند فرويد – طبعة 1917م.
- Brown, J.A.C. Freud and The post-0Freudians, Penguin Books London 1962.
- Munroe, r.L. Schools of Psycho-analytic Thought, Mutchinson Medical Publications- London 1957.
- Fundametals of Behavior Pathology by richard M. Suninn- New York 1970.
- Bakan. D. “Sigmund Freud and the Jewish Mystical Tradition”. Van Nostrand, New York 1958.
- Encyclopedia Britannica, 1965 edition, Vol 1,2,3,4,9,17,21,24.
الذرائعية (البرجماتية)
التعريف :
الذرائعية مذهب(*) فلسفي اجتماعي يقول بأن الحقيقة توجد في جملة التجربة الإنسانية: لا في الفكر النظري البعيد عن الواقع. وأن المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، وأن صدق قضية ما : هو في كونها مفيدة للناس، وأن الفكر في طبيعته غائي.
وقد أصبحت الذرائعية طابعاً مميزاً للسياسة الأمريكية وفلسفة الأعمال الأمريكية كذلك، لأنها تجعل الفائدة العملية معياراً للتقدم بغض النظر عن المحتوى الفكري أو الأخلاقي أو العقائدي.(87/234)
التأسيس وأبرز الشخصيات:
نشأت الذرائعية (البرجماتية) كمذهب عملي في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية القرن العشرين: وقد وجدت في النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم على المنافسة الفردية، خير تربة للنمو الازدهار.
ومن أبرز رموز المذهب وأغلبهم من الأمريكيين:
تشارلس بيرس 1839 – 1914م ويعد مبتكر كلمة البرجماتية في الفلسفة المعاصرة. عمل محاضراً في جامعة هارفارد الأمريكية، وكان متأثراً بدارون ووصل إلى مثل آرائه.. وكان أثره عميقاً في الفلاسفة الأمريكيين الذين سنذكرهم فيما يلي:
وليم جيمس 1842 – 1910م وهو عالم نفسي وفيلسوف أمريكي من أصل سويدي بنى مذهب الذرائعية البرجماتية على أصول أفكار بيرس ويؤكد أن العمل والمنفعة هما مقياس صحة الفكرة ودليل صدقها. كان كتابه الأول: مبادئ علم النفس 1890م الذي أكسبه شهرة واسعة ثم توالت كتبه: موجز علم النفس 1892م وإرادة الاعتقاد 1897م وأنواع التجربة الدينية 1902م والبراجماتية 1907م وكون متكثر 1909م يعارض فيه وحدة الوجود. ويؤكد جيمس في كتبه الدينية أن الاعتقاد الديني صحيح لأنه ينظم حياة الناس ويبعث فيهم الطاقة.
جون ديوي 1856 – 1952م فيلسوف أمريكي، تأثر بالفلسفة الذرائعية، وكان له تأثير واسع في المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات الغربية، إذ كان يعتقد أن الفلسفة(*) مهمة إنسانية قلباً وقالباً وعلينا أن نحكم عليها في ضوء تأثرها الاجتماعي أو الثقافي.
كتب في فلسفة ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا) (*) وفلسفة العلوم والمنطق(*) وعلم النفس وعلم الجمال والدين(*).
وأهم مؤلفاته: دراسات في النظرية المنطقية 1903م، وكيف تفكر 1910 والعقل الخالق 1917م والطبيعة الإنسانية والسلوك 1922م وطلب اليقين 1929م.
شيلر 1864 – 1937م وهو فيلسوف بريطاني، كان صديقاً لوليم جيمس، وتعاطف معه في فلسفة الذرائعية: وقد آثر أن يطلق على آرائه وموقفه: المذهب الإنساني أو المذهب الإرادي(*).(87/235)
الأفكار والمعتقدات:
من أهم أفكار ومعتقدات المذهب الذرائعي (البرجماتية) ما يلي:
إن أفكار الإنسان وآراءه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً ثم السير نحو السمو والكمال ثانياً.
إذا تضاربت آراء الإنسان وأفكاره وتعارضت كان أحقها وأصدقها أنفعها وأجداها، والنفع هو الذي تنهض التجربة العملية دليلاً على فائدته.
إن العقل خُلق أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فليست مهمته تفسير عالم الغيب المجهول، بل يجب أن يتوجه للحياة العملية الواقعية.
الاعتقاد الديني لا يخضع للبيئات العقلية: والتناول التجريبي الوحيد له هو آثاره في حياة الإنسان والمجتمع إذ يؤدي إلى الكمال، بما فيه من تنظيم وحيوية.
النشاط الإنساني له وجهتان: فهو عقل، وهو أداة، ونموه كعقل ينتج العلم، وحين يتحقق كإرادة يتجه نحو الدين(*)، فالصلة بين العلم والدين ترد إلى الصلة بين العقل والإرادة.
تقويم الذرائعية:
تعرضت الذرائعية لانتقادات معينة، وعرضت على أنها تبرير لأخلاقيات رجال الأعمال الأمريكيين.
أما عن فكرة الاعتقاد فمن رأي جيمس "أنها مفيدة لأنها صادقة" و"أنها صادقة لأنها مفيدة". وقد أنكر معظم الدارسين هذه المعادلة إذ أن موقف جيمس يسمح بصدق الفكرة لأنها "مفيدة ونافعة" لشخص ما، ويكذبها لعدم وجودها عند الآخرين.
وهكذا فإن جيمس طرح الحقيقة على أنها لعبة ذاتية للأفكار التي تستهوي الإنسان فائدتها: فيعتقد في صدقها.
إن الذرائعية اندثرت كحركة فكرية فردية، ولكنها كمجموعة أفكار ما زالت تعمل في الفكر البشري.. ومن أهم آثار هذه الأفكار تفسير الفكر والمعنى على أنهما من أشكال السلوك النائي عند الإنسان.
الجذور الفكرية والعقائدية:(87/236)
إن البرجماتية أو الذرائعية ثورة ضد الفكر النظري البعيد عن الواقع وعن الإنسان خاصة والذي لا يخدم الإنسان في حياته العملية. أما كلمة (برجماتية) فكانت قليلة الاستعمال في اللغة الإنكليزية ولم تكن تستعمل مطلقاً في سياق الحديث الفلسفي، حتى أدخلها الفيلسوف الأمريكي بيرس عام 1878م كقاعدة منطقية: معرفاً البرجماتية بأنها النظرية القائلة: "بأن الفكرة إنما تنحصر فيما نتصوره لها من أثر على مسلك الحياة".
وقد استعار وليم جيمس ورفاقه الذرائعيون هذا المصطلح وأعطوه معاني جديدة وفق ما أوضحناه في أفكار ومعتقدات المذهب. مؤكدين على أن كل شيء حتى الفكر، لا بد أن يفهم في ضوء الغرض الإنساني.
الانتشار ومواقع النفوذ:
تأسس المذهب(*) في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم انتقل إلى أوروبا وبريطانيا بشكل خاص.
يتضح مما سبق :
أن الذرائعية أو البراجماتية مذهب فلسفي نفعي يرى أن الحقيقة توجد من خلال الواقع العملي والتجربة الإنسانية، وأن صدق قضية ما يكمن في مدى كونها مفيدة للناس، كما أن أفكار الناس هي مجرد ذرائع يستعين بها الإنسان لحفظ بقائه ثم البحث عن الكمال. وعندما تتضارب الأفكار فإن أصدقها هو الأنفع والأجدى، والعقل لم يخلق لتفسير الغيب المجهول، ولذا فإن الاعتقاد الديني لا يخضع للبينات العقلية. ولما كان نشاط الإنسان يتمثل في العقل والإرادة، وكان العقل(*) ينتج العلم، وحينما يتحقق العلم كإرادة يتجه نحو الدين(*)، لذا فإن الصلة بين العلم والدين ترجع إلى الصلة بين العقل والإرادة. ومخاطر هذا المذهب الفلسفي على العقيدة واضحة جلية فهو مذهب يحبذ إلغاء دور العقل في الإفادة من معطيات النقل أو الوحي(*). وقد رأينا في واقعنا المعاصر كيف أفلست الذرائعية كما أفلست سواها من الفلسفات المادية(*) وعجزت عن إسعاد الإنسان بعدما أدت إلى تأجيج سعار المادية، وأهدرت القيم والأخلاق السامية التي دعت إليها جميع الأديان السماوية.(87/237)
مراجع للتوسع :
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه – دار القلم – بيروت.
- معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، د. أحمد زكي بدوي – مكتبة لبنان – بيروت –1982م.
- تاريخ الفلسفة الحديث، يوسف كرم – دار المعارف – القاهرة.
- قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين وزكي نجيب محمود – مطبعة لجنة التأليف والنشر – القاهرة.
مراجع أجنبية :
- Philosophy of John Dewey: by P.A Schelop, Chicago 1951.
- The Will to Belive: By W. James Dever New York.
- John Dewey an Intellectual Portriat: by S. Hook Day, New York. 1939.
- History of Philosophy: by F.C. Coplestion, Burns London 1947.
- History of Modern Philosophy by H. Hoffding London 1956.
الروحية الحديثة
التعريف :
الروحية الحديثة دعوة هدامة وحركة مغرضة مبنية على الشعوذة. تدَّعي استحضار أرواح الموتى(*) بأساليب علمية وتهدف إلى التشكيك في الأديان(*) والعقائد وتبشر بدين جديد وتلبس لكل حالة لباسها. ظهرت في بداية هذا القرن في أمريكا ومن ورائها اليهود ثم انتشرت في العالمين العربي والإسلامي.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
لم يعرف لها مؤسس في أوروبا وأمريكا ولكن الدعوة إليها قد نشطت في بداية هذا القرن الميلادي من قبل عدة شخصيات منها:
- جان آثر فندلي وكتابه المشهور: على حافة العالم الأثيري.
- أدين فردريك باورز وكتابه المشهور: ظواهر حجرة تحضير الأرواح.
- آثر كونان دويل في كتابه: حافة المجهول.
- اليهودي المعروف: دافيد جيد.
- السيدة وود سمث.
كما ظهرت لها في تلك البلاد عدة مؤسسات مثل: (المعهد الدولي للبحث الروحي) بأمريكا و(جمعية مارلبورن الروحية) بإنجلترا.
أما في العالم الإسلامي فقد تحمس لها عدة أشخاص وحملوا رايتها منهم:(87/238)
الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير أمين عام (الجمعية المصرية للبحوث الروحية) وقد أصدر مجلة عالم الروح وهي الناطقة باسم هذه الدعوة الهدامة، وقد بدأ نشاطه منذ سنة 1937م وقام بترجمة كتابي فندلي وباورز سابقي الذكر.
الأستاذ وهيب دوس المحامي ت 1958م وهو رئيس الجمعية المذكورة.
د. علي عبد الجليل راضي رئيس (جمعية الأهرام الروحية) له كتاب بعنوان مشاهداتي في جمعية لندن الروحية.
حسن عبد الوهاب وكان سكرتيراً للجمعية لفترة ثم اكتشف زيف الروحية الحديث وأزاح الله عن عينيه غشاوة الضلال واكتشف ما في هذه الدعوة الماكرة من سموم وثبت له يقيناً الشخصيات التي تحضر في جلسات التحضير وتزعم أنها أرواح من سبقونا من الأهل والأحباب إن هي إلا شياطين وقرناء من الجن يلبسون على الناس ما يلبسون.
الشاعر اللبناني حليم دموس الذي كان يقدس روحًّا نصرانياً اسمه د. داهش ويرفعه إلى مقام النبوة(*) وله مقالات في مجلة عالم الروح بعنوان : الرسالة الدهشية. ود. داهش له أتباع في لبنان وربما خارجه كما أن له كتابات يمجد فيها الرسول r ويؤمن برسالته الخاتمة. وقد أنكر بعض أتباع د. داهش أن يكون قد ادعى النبوة بمعناها الديني الإسلامي.
الأفكار والمعتقدات:
يقولون بأنهم يحضرون الأرواح(*) ويستدعون الموتى لاستفتائهم في مشكلات الغيب ومعضلاته والاستعانة بهم في علاج مرضى الأبدان والنفوس والإرشاد عن المجرمين والكشف عن الغيب والتنبؤ بالمستقبل.
يزعمون أن هذه الأرواح تساعدهم في كشف الجرائم والدلالة على الآثار القديمة كما يدعون أنهم يعالجون مرضى النفوس من هذه الأرواح كذلك.
يدعون أنهم يستطيعون التقاط صور لهذه الأرواح بالأشعة تحت الحمراء.
يحاولون إضفاء الجانب العلمي على عملهم وهو في الواقع لا يخرج عن كونه شعوذة وخداعاً وتأثيراً مغناطيسياً على الحاضرين، واتصالاً بالجن.(87/239)
يقومون بهذا التحضير في حجرات خاصة شبه مظلمة وفي ضوء أحمر خافت وكل ما يدّعونه من التجسد للأرواح ومخاطبتها لا يراه الحاضرون وإنما ينقله إليهم الوسيط وهو أهم شخص في العملية.
"الوسيط" عندهم يرى غير المنظور ويسمع غير المسموع ويتلقى الكتابة التلقائية وله قدرة على التواصل عن بعد (التلباثي)(*).
لا يثبتون للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلا هذه الوساطة فقط.
يتحكمون في حضور جلسة التحضير(*) من حيث الكم والنوع وإذا وجد نساء يكون الجلوس: رجل، امرأة، … كما يعزفون الموسيقا أحياناً وكل هذا لصرف أذهان الحضور عن حقيقة ما يجري، ويزعمون أن لكل جلسة روحاً حارساً يحرسها.
يعتقدون أن معجزات الأنبياء هي ظواهر روحية كالتي تجري في غرفة تحضير الأرواح(*) ويقولون أن بإمكانهم إعادة معجزات الأنبياء.
يرفضون الوحي(*) ويقولون إنه ليس في الأديان(*) ما يصح الركون إليه ويسخرون من المتدينين.
يقولون بأن إلههم أظهر من إله(*) الرسل وأقل صفات بشرية وأكثر صفات إلهية.
يلوحون بشعارات براقة كالإنسانية والإخاء والحرية(*) والمساواة للتمويه على السذج والبسطاء.
كل عملهم منصب على زعزعة العقائد الدينية والمعايير الخلقية.
يدَّعون أن الأرواح التي تخاطبهم تعيش في هناء وسعادة رغم أنها كافرة ليهدموا بذلك عقيدة البعث والجزاء ويقولون إن باب التوبة مفتوح بعد الموت كذلك، وأن الجنة والنار حالة عقلية يجسمها الفكر ويصنعها الخيال.
عندهم نصوص كثيرة تمجد الشيوعيين والوثنيين(*) والفراعنة والهنود الحمر ويقولون إنهم أقوى الأرواح.
يبررون الجرائم بأن أصحابها مجبورون عليها وبالتالي لا يعاقبون.
يسعون لضمان سيطرة اليهودية على العالم لتقوم دولتهم على أنقاض الخراب الشامل.(87/240)
أعلنت مجلة سينتفك أمريكان عن جائزة مالية ضخمة لمن يقيم الحجة على صدق الظواهر الروحية ولكنها لا تزال تنتظر من يفوز بها وكذلك الحال بالنسبة للجائزة التي وضعها الساحر الأمريكي دنجر لنفس الغرض… وهذا من أكبر الأدلة على بطلانها.
الجذور الفكرية والعقائدية:
ثبت أن للروحية اتصالات شخصية وفكرية بالماسونية وشهود يهوه. كما أن نوادي الروتاري تشجع هذه الظاهرة وتمد لها يد المساعدة وتتولى ترويجها، كما أنها تأثرت باليهودية في كثير من معتقداتها.
الانتشار ومواقع النفوذ:
لها نفوذ غريب وخاصة في أمريكا وأوروبا إذ لا تكاد تخلو مدينة من فرع لهذه الدعوة وهناك كثير من الصحف والمجلات التي تتكلم باسمها. وفي أمريكا يوجد المركز العالمي للبحوث الروحية، وكذلك في العالم العربي والإسلامي فإن سرعة انتشارها تدعو إلى العجب وخاصة في مصر حيث توجد لها عدة جمعيات وهناك عدة مجلات وصحف أخرى تروج لها مثل: مجلة صباح الخير، أخر ساعة، المصور، المقتطف، وصحيفة الأهرام فضلاً عن مجلة عالم الروح الخاصة بها.
ويتضح مما سبق :
أنه رغم التفسيرات المتنوعة التي يتناقلها علماء معاصرون عن الروح فإن أمرها من عالم الغيب كما ذكر القرآن الكريم (قل الروح من أمر ربي) وقد قام الدكتور عبد الله اليسون (آرثر اليسون رئيس قسم الهندسة الكهربائية والإلكترونية بجامعة سيتي البريطانية) بإجراء تجارب معملية استخدم فيها جهاز "كيربلين" الذي يصور الهالة حول الجسم فأثبت أن النوم هو الموت والروح تخرج من الجسم في الحالتين غير أنها تعود في حالة النوم ولا تعود في حالة الموت وفي ذلك يقول تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [سورة الزمر، آية: 42].(87/241)
والذي يدعيه بعض علماء الغرب من تحضير أرواح(*) الموتى كذب وضلال قائم على السحر والشعوذة والاتصال بالجن والشياطين ولم يثبت بأي حال.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- مشاهداتي في جمعية لندن الروحية، د. علي عبد الجليل راضي.
- ظواهر حجرة تحضير الأرواح، ترجمة أحمد فهمي أبو الخير.
- على حافة العالم الأثيري، ترجمة أحمد فهمي أبو الخير.
- حافة المجهول، آرثر كونان دويل.
- الروحية الحديثة دعوة هدامة، د. محمد محمد حسين.
- المذاهب الفلسفية المعاصرة، سماح رافع محمد.
من المدارس الأدبية
1-الإسلامية في الأدب
2-الكلاسيكية
3-الرومانسية
4-الرمزية
5-الحداثة
6-الواقعية
7-العدمية
8-البرناسية "مذهب الفن للفن"
9-الانطباعية "التأثرية "
10-الوجودية
11-التعبيرية
12-العبثية
13-البنيوية
14-السريالية
15-الميتافيزيقية
الإسلامية في الأدب
التعريف :
? الإسلامية (في الأدب) هي انطلاق الأديب في العملية الإبداعية من رؤية أخلاقية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم الإسلام ومقاصده، وتبين إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها الأديب انفعالاً مستمراً، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وتصوراته ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان، في إطار من الوضوح الذي يبلور حقيقة علاقة الإنسان بالأديان(*)، وعلاقته بسائر المخلوقات فرادى وجماعات، وبشكل لا يتصادم مع حقائق الإسلام، ولا يخالفها في أي جزئية من جزئياتها ودقائقها.
· معيار الإسلامية:(87/242)
- ينطوي التعريف المتقدم، على مجموعة معايير متكاملة، يؤدي توافرها إلى صيرورة العمل الأدبي متسماً بالإسلامية، وبعض هذه المعايير موضوعي يتعلق بجوهر العمل وبعضها عضوي أو شكلي يتعلق بإطار التعبير عن العمل، بحيث يتفاعل كل منهما مع الغاية من العمل الأدبي الممثل للإسلامية، وأهم هذه المعايير: الالتزام والمصداقية والوضوح والإيجابية والقدرة والاستمرارية.
1- الالتزام :
ويعني وجوب تقيد الأديب بإشاعة الرؤية العقدية في تيار العمل الأدبي المتدفق خدمة للعقيدة والشريعة(*) والقيم الإسلامية والأخلاق (*) وكليات الإسلام ومقاصده، وأهدافه العامة وبشرط ألا يخالف الإحساس الفطري بحقائق الإسلام.
2- المصداقية:
وتعني قدرة الأديب على إعطاء المتلقي إحساساً صادقاً في كافة أعماله الأدبية بأنها قد صدرت عن تصور إسلامي، ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وإشاعة الخير والمعروف، ونأي عن كل ما هو منكر وغير مألوف في الوجدان الإسلامي، فإذا كانت بعض أعمال الأديب فقط هي التي تتسم بالمصداقية الإسلامية، فإن ذلك لا يكفي لرفعه إلى مصاف أنصار الإسلامية.
3- الوضوح :
الإسلامية جوهر ومظهر، أو مضمون وشكل، لذا يجب أن يكون مضمون العمل وشكله معاً من الوضوح، في الدلالة على الإسلامية، بحيث يتسنى لأي متلقٍ، أن يصنف الأديب، بسهولة، ضمن أنصار الإسلامية، بمجرد إطلاعه على مجمل أعماله.
4- الإيجابية:
وتعني أنه لا يكفي في الأديب المنتمي إلى الإسلامية، أن يلتزم بالتصور العقدي الإسلامي، ولا يخالفه، بل يجب عليه فضلاً عن ذلك، أن يكون إيجابياً في توجهه، فيقف مع الإسلام، ويدافع عنه، ويتصدى لمناهضيه، فكراً وقولاً وعملاً وسلوكاً، فالإسلامية تستلزم اتخاذ الأديب موقفاً لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على دفاع صاحبه عن عقيدته في كل الظروف والأحوال.
5- القدرة :(87/243)
وتعني قدرة الأديب على إفراغ العمل الأدبي في الإطار الشكلي الذي يخدم الموضوع، ويناسب المضمون، ويشد القارىء ويقنع المتلقي بوجه عام.
6- الاستمرارية:
وتعني وجوب قيام الأديب المنتمي للإسلامية بتعميق انتمائه باستمرار، فإن أصبح غير قادر على العطاء الإسلامي، فيجب ألا يصدر عنه ما يعارض صراحة أو ضمناً أعماله السابقة التي تتسم بالإسلامية، وقد يكون للاستمرارية معنى أخص، بالنسبة لمن كانوا غير ملتزمين من قبل ثم انتموا للإسلامية، إذ تعني الاستمرارية عدم عودتهم إلى مثل ما كانوا عليه قبل التزامهم، وقد نلمح هذا عند كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من الشعراء المخضرمين(*).
التأسيس وأبرز الشخصيات:
· كعب بن زهير رضي الله عنه :
من الممكن توسيع دائرة الإسلامية في الأدب لتبدأ بكعب بن زهير، ذلك أن الإسلامية إطار عام، لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه أو زمن بعينه في العالم الإسلامي، وعندما جاهد بعض علماء الإسلام في سبيل تكوين مدرسة للأدب الإسلامي فإنهم في الحقيقة، كانوا يريدون التعبير عن مضمون أعمق من مجرد الإطار الشخصي هو النزعة الإسلامية في الأدب أو في كلمة واحدة "الإسلامية Islamism" وهي نزعة يمكن أن نلمحها من لحظة إلقاء رسول(*) الله r بردته على كعب بن زهير عندما أنشده قصيدته اللامية في مدحه r، فسر بالتزامه ومصداقيته، وصحح له الشطرة التي تقول: "مهند من سيوف الهند مسلول" إلى "مهند من سيوف الله مسلول" فهذا شعر ذو هدف نبيل وغاية شريفة في مجال الدعوة بلا غلوٍ (*) ولا تجاوز، وهي نزعة حبذها الزمخشري في الكشاف بعبارات جلية.
· حسان بن ثابت رضي الله عنه:(87/244)
حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان من الشعراء المخضرمين(*) الذين حضروا الجاهلية(*) والإسلام، وقد أسلم مع السابقين من الخزرجيين، ومنذ شرح الله صدره للإسلام وهو شاعر العقيدة الذي يسجل أحداث المسلمين، ويمجد غزوات الرسول، ويرد على شعراء المشركين بجزالة، قال النثر(*) والنظر في بيان عظمة الإسلام والدعوة إلى التأدب بآدابه والعمل بأحكامه ، وقد سفه قريشاً في أشعاره، ونوّه بالقرآن الكريم كمصدر أول للتشريع الإسلامي وأساساً لشريعة الحق ونبي الهدى، وبين بجلاء دور الأدب في بيان حقائق الإسلام، وقال أفضل أشعاره يوم قريظة وفي غزوة الأحزاب وفي رثائه لنبينا محمد r بين أن قيمة الإسلام تكمن في التوحيد.
· عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
كان أحد شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين نافحوا عن الرسالة، ورغم أنه استشهد في السنة الثامنة من الهجرة(*)، وأن ما وصل إلينا من شعره كان قليلاً، إلا أن ما كتبه كان يجسد أهم قيم الإسلام كالشجاعة النابعة من أعماقه، والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحرص على التمسك بالدين والدفاع عنه، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذا فقد كان عبد الله بن رواحة - بحق – رائد شعر الجهاد(*) الإسلامي، تشهد على ذلك أشعاره. يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "من اللفتات النبوية الكريمة استمد عبد الله بن رواحة التوجه إلى الطريق الأمثل، الذي يجب أن يسلكه الشعر الإسلامي، والإطار الذي يحسن أن يبرز فيه: صدق في التعبير، وسلامة في المقصد، وعدم الفحش في ذكر المثالب، أو النيل من الأعراض، واعتدال في القول".
· عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ربما كان العقاد من أكثر الكتاب التزاماً بالإسلامية في الأدب، في مواجهة تيار التغريب الذي قاده طه حسين، ولذا فإن كلام العقاد له وزنه في هذا الصدد ومما قاله في عبقرية عمر:(87/245)
كان عمر بن الخطاب أديباً مؤرخاً فقيهاً (ص 344) عظيم الشغف بالشعر والأمثال والطرف الأدبية، وكان يروي الشعر ويتمثل به، ولم يزل عمر الخليفة هو عمر الأديب طوال حياته، لم ينكر من الشعر إلا ما ينكره المسؤول عن دين(*)، أو القاضي المتحرز الأمين، ولذا فقد نهى عن التشبيب بالمحصنات، ونهى عن الهجاء، وأعجبته الأشعار التي تنطوي على معان سامية، دعى إليها الإسلام، وكان يرى أن للشعر غاية تعليمية تربوية فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب.. وقال لابنه يا بني.. احفظ محاسن الشعر يحسن أدبك.. فإن من لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقاً ولم يقترف أدباً.
وفي معايير الإسلامية قال: "ارووا من الشعر أعفه ومن الحديث أحسنه.. فمحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهي عن مساويها".
ومما يؤكد تصور الإسلامية في الأدب عنده رضي الله عنه، أنه عزل النعمان بن عدي عندما تجاوز في شعره غايات الإسلام ومقاصده، بالرغم من أنه كان أحد ولاته، ولم يقبل اعتذاره وتعلله بأنه مجرد شاعر ولم يصنع شيئاً مما رواه في إحدى قصائده المبنية على الغزل الفاحش، كما سجن الحطيئة عندما هجا الزبرقان بن بدر، فلم يكن لمثل عمر أن يفعل غير ذلك فالإسلامية التزام إجباري إن صح التعبير، وإذا كانت الإسلامية التزام فإنها تستلزم المسؤولية.
· عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:(87/246)
يعتبر عمر بن عبد العزيز من أبرز مؤسسي الإسلامية على الإطلاق لأنه لم يكتف بالحديث عن وجوب الالتزام والتقيد التام بالإسلام عند مباشرة المعالجة الأدبية، بل قدم أسلوباً عمليًّا لذلك، في موقف كان يمكن أن يتقبل فيه الناتج الأدبي المنطوي على مدحه ولكنه قدم درساً تطبيقياً في الحيلولة دون تخطي الأدب غاية الإسلامية فقد منع الشعراء أن يمدحوه، فلما ألح عليه كثير بن عبد الرحمن في إنشاده، وضع معيار الحقيقة كأساس لقبول سماع الإبداع الشعري، فقد قال لكثير : نعم. ولا تقل إلا حقاً.
ومما يؤكد عدم تساهل عمر بن عبد العزيز في التزام الأدب بالأخلاق(*) والأهداف السامية قصته المشهورة مع الشعراء عندما تولى الخلافة(*) وقيل له إنهم بالباب يريدون المثول بين يديه. وعندما توسط أحد جلسائه للشعراء وأخبره أن الرسول r ، قد سمع الشعر وأجاز الشعراء سأل من بالباب من الشعراء، وعندما أخبر بأسمائهم رفضهم واحداً تلو الآخر مع تبيان أسباب الرفض باستشهاد من أشعارهم ولم يدخل إلا جريراً حيث وجده أقل المجموعة فحشاً.
· ابن قتيبة وآخرون:
فضل ابن قتيبة الشعر الذي ينطوي على فائدة في المعنى، سواء تعلق هذا المعنى بالقيم الدينية أو الخلقية أو الحكم. ومثله كذلك مهلهل بن يموت بن المزرع وابن وكيع التنيئسي والثعالبي وعمرو بن عبيد، ومسكوية وابن شرف القيرواني وابن حزم الذي نهى عن الغزل وغالى في وضع القيود على الأدب لتحقيق الإسلامية حسبما تصورها، رغم أنه خرج على ذلك أحياناً كثيرة في طوق الحمامة. ولا شك أن الشعر مجرد فن من فنون الأدب ولكن ضوابطه الإسلامية ومعاييرها بشأنه تصلح لكل فروع الأدب.
· علي أحمد باكثير:(87/247)
يوصف بأنه من طلائع الإسلامية في الأدب في مجال الشعر والقصة والمسرحية، وكان لنشأته وبنائه الفكري واتساع أفقه وتنوع مصادره الثقافية أكبر الأثر في تكوين شخصيته وقلمه، ولذا كتب المسرحية الحديثة عن فهم ووعي وعن دراسة وتعمق في معرفة أصول الصنعة المسرحية.
ولقد كان الموجه الرئيسي لباكثير في فنه الأدبي هو عقيدته الإسلامية وقيمها وتصوراتها الصائبة للحياة. يقول د. نجيب الكيلاني عن مسرحيته حبل الغسيل إنها كانت صرخة شجاعة أدانت فساد المنهج(*) وعفن الإدارة وانحراف المؤسسات الشعبية حينما استبد الشيوعيون بمقاليد الأمور في مصر في النصف الأول من عقد الستينات، حيث صنعوا من الشعارات واجهة للبلاد بينما هم يستغلونه وينفذون مخططاً موحى به إليهم من سادتهم خارج البلاد وفي ذلك إدانة للفكر الماركسي وتجربته المشينة بمصر.
· مصطفى صادق الرافعي :
كانت الإسلامية في أدبه تياراً متدفقاً، فقرظ محمود سامي البارودي شعره الملتزم، وأثنى عليه مصطفى لطفي المنفلوطي، وحيَّاه الشيخ محمد عبده قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل" وقد كان. ففي كافة مؤلفاته وأشعاره ودراساته ونثره، جعل الإسلام غايته وخدمة عقيدة التوحيد مقصده وبغيته. وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية، وأبرز قضايا الإسلامية عند الرافعي هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية وقضية المقالات(*) الإسلامية.
· أحمد شوقي:(87/248)
كانت الإسلامية واضحة في بعض أشعار أحمد شوقي، ولم يكن يلتزم في هذه الأشعار بالمقاصد الإسلامية فقط، بل إنه خاض بعض معارك الدفاع عن المبادىء الإسلامية وقضاياه، فقد بيَّن أن الحرب في الإسلام لم تكن حرب عدوان وإنما كانت حرب جهاد(*) ودفاع، وبيَّن أن الإسراء كان بالروح والجسد معاً، وربط بين المفاهيم الدينية وبين قضايا النضال واليقظة والتحرر ودافع عن الفضائل الإسلامية والحرية(*) والنظام والشورى، ويمكن القول كذلك أن حافظ إبراهيم رغم ثقافته الأزهرية المتواضعة وأحمد محرم شاعر العروبة والإسلام كانا يستظلان كذلك بظل الإسلامية في أدائهما الملتزم.
· محمد إقبال:
وفكرة الإسلامية عند الشاعر محمد إقبال 1873م تستلزم توافر ثلاث مراحل: الأولى: الوقوف على المقاصد الشرعية التي بيَّنها الدين(*) الإسلامي فهي حقائق أبدية لا تتغير، والثانية الجهاد(*) الديني في سبيل تحقيقها كل في مجاله، وعلى الأديب أن يعتصم في سبيل ذلك بالصبر وهذا يستلزم الانقياد التام لأمر الله تعالى عن عقيدة ثابتة وإيمان راسخ، ومحاربة نوازع النفس. وثالثها: انطلاق الذوات الإسلامية كلها لتحقيق أهداف الأمة الإسلامية.
· الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي:(87/249)
في 2 ربيع الأول 1405هـ (24/11/1984م) أعلن الشيخ الأديب والمفكر الداعية أبو الحسن علي الحسني الندوي في لقاء ضم الكثير من مفكري وأدباء العالم الإسلامي عن ولادة رابطة الأدب الإسلامي، التي أعطت الأدب الإسلامي كياناً متميزاً عن بقية المذاهب الأدبية الأخرى، على أنه يجب ملاحظة أن مفهوم الإسلامية سبق الإعلان عن الرابطة بسنين طويلة، فإنا نجد الدعوة للأدب الإسلامي في كتابات الداعية والأديب سيد قطب حينما كان يشرف على باب الأدب في الجريدة التي كان يرأس تحريرها في مصر عام 1952م. ونجدها أيضاً في كتابات أخيه محمد قطب عام 1961م وخاصة في كتابه منهج الفن الإسلامي، ونجدها أيضاً عند الدكتور نجيب الكيلاني سنة 1963م في كتابه: الإسلامية والمذاهب الأدبية، ونجدها أيضاً عند الدكتور عماد الدين خليل عام 1392هـ (1972م) في كتابه: النقد الإسلامي المعاصر وكتابه: محاولات جديدة في النقد الإسلامي الذي أصدره عام 1401هـ (1982م) وفي كتابه: فن الأدب الإسلامي المعاصر دراسة وتطبيق وفي كتاباته الأدبية التي سبقت نشر هذا الكتاب ومنذ عام 1961م في مجلة: حاضرة الإسلام الدمشقية.
ولذا فإن الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي رئيس جامعة ندوة العلماء في الهند ورئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية يعتبر أحدث دعاة الإسلامية والمؤسسين لها، وإنه وإن كانت الرابطة لم تتشح باسم الإسلامية متخذة اسم الأدب الإسلامي، إلا أن الأمر مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاحات.
· الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا:
- رحمه الله – نائب رئيس الرابطة للبلاد العربية، وكان أستاذاً للأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويعتبر من أوائل من نظر للإسلامية ودافع عن الأدب الإسلامي.
· الدكتور عبد القدوس أبو صالح:
أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ونائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب البلاد العربية.
· الشيخ محمد الرابع الندوي:(87/250)
نائب رئيس الرابطة ورئيس مكتب الهند.
· الأستاذ محمد حسن بريغش:
أمين سر الرابطة للبلاد العربية وعضو مجلس الإفتاء في الرابطة.
· الدكتور عدنان رضا النحوي :
الشاعر والأديب السعودي وعضو مجلس أمناء رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
· الأستاذ محمد قطب:
المفكر والداعية المعروف، والأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز وعضو الشرف في الرابطة، فقد تابع جهود شقيقه سيد قطب – رحمه الله – في الإسلامية في الأدب.
· الدكتور عبد الباسط بدر:
الأستاذ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأمين سر مجلس أمناء الرابطة.
· الدكتور حسن الأمراني:
(مغربي): عضو رابطة الأدب الإسلامي ورئيس تحرير مجلة المشكاة التي تعني بالأدب الإسلامي.
· الدكتور محمد مصطفى هدارة:
(مصري) عضو الرابطة والأستاذ في جامعة الإسكندرية.. وهو أول من أظهر حقيقة مذهب(*) الحداثة الفكري والأدبي وأهدافه الهدامة.
· الدكتور عبد الرحمن العشماوي:
وهو يعتبر أبرز الأصوات الشابة الملتزمة بالإسلام والمدافعة عن القضايا الإسلامية والتصور الإيماني.
الأفكار والمعتقدات:
? جعل التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والكون والحياة، أهم أركان العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.
الالتزام بالتصور الإسلامي، لا يعني التوجيه القسري على غرار ما يفرضه أصحاب التفسير المادي للتاريخ(*) وإنما هو أخذ النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة في سائر فنون الأدب، وبذا تتميز الإسلامية عن فكرة الالتزام عند كل من الواقعية والاشتراكية(*) والوجودية، فالالتزام عند الأولى هو الالتزام بقضايا الجماهير حسب المفهوم الماركسي المنهار، والالتزام عند الثانية – في النثر فقط دون الشعر – بقضايا الحرية حسب المفهوم الوجودي فحسب.
? التعبير المؤثر، له أهمية في مجال الأدب ولا يستغني عنه بحجة سلامة المضمون، وبذلك يتميز الأدب عن الكلام العادي، فذلك مما يحقق غاية الإسلامية.(87/251)
وغاية الإسلامية هي وجود أدب هادف، فالأديب المسلم لا يجعل الأدب غاية لذاته كما يدعو أصحاب مذهب: (الفن للفن) وإنما يجعله وسيلة إلى غاية، وهذه الغاية تتمثل في ترسيخ الإيمان بالله عز وجل ، وتأصيل القيم الفاضلة في النفوس.
? حرية التفكير والتعبير من متطلبات الإبداع(*) والصدق الأدبي وهي وسيلة لإثراء الأدب كماً وكيفاً.
? وقد وضع الإسلام حدوداً للحرية(*) في كل مجالاتها، ومنها مجال الأدب إذ إنه لا يعترف بحرية القول التي منحت للأدباء وغيرهم إذ رأى فيها خطراً يهدد سلامة المجتمع وأمنه العقدي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
? الأدب طريق مهم من طرق بناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح وأداة من أدوات الدعوة إلى الله والدفاع عن الشخصية الإسلامية.
? الإسلامية حقيقة قائمة قديماً وحديثاً وهي تبدأ من القرآن الكريم والحديث النبوي، ومعركة شعراء الرسول(*) صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وتمتد إلى عصرنا الحاضر لتسهم في الدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الإسلام والمنحرفين عنه.
? الإسلامية هي أدب الشعوب الإسلامية على اختلاف أجناسها ولغاتها، وخصائصها هي الخصائص الفنية المشتركة بين آداب الشعوب الإسلامية كلها.
? ترفض الإسلامية أي محاولة لقطع الصلة بين الأدب القديم والأدب الحديث بدعوى التطور أو الحداثة أو المعاصرة وترى أن الأدب الحديث مرتبط بجذوره القديمة.
? ترفض الإسلامية المذاهب(*) الأدبية التي تخالف التصور الإسلامي والأدب العربي المزور، والنقد الأدبي المبني على المجاملة المشبوهة أو الحقد الشخصي، كما ترفض اللغة التي يشوبها الغموض وتكثر فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبوهة وتدعو إلى نقد واضح بناء.
? تستفيد الإسلامية من الأجناس الأدبية جميعها شعراً ونثراً ولا ترفض أي شكل من أشكال التعبير، وتعني بالمضمون الذي يحدد طبيعة الشكل الملائم للأداء.(87/252)
? والإسلامية في الأدب تأبى الانحراف عن القيود الواردة في تعريف الإسلامية، فهي كما يقول أحد الباحثين تأبى مثلاً "تأليه الإنسان (كلاسيكياً)، وإغراقه الذاتي الأناني (رومنسياً)، وتمجيد لحظات الضعف البشري (واقعيًّا، وتصوير الانحراف الفكري أو النفسي أو الأخلاقي (وجوديًّا)" فليس ثمة عبث وليس ثمة حرية أخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى (سارتر) وليس ثمة تناقضات نفسية لا نهاية لها تنتهي دائماً بالضياع كما يرى (ديستوفيسكي).
? والإسلامية إطار واقعي للعمل الأدبي، فهي ليست مجالاً لتحقيق الخيال الجامح أو التعبير عن شطحات منبتة الصلة بالواقع، وواقع الإسلامية أنها فكرة غائية عقدية، وغايتها ليست تحقيق مصلحة ذاتية أو شخصية كإطار للبراجماتية وإنما تحقيق مصلحة العقيدة وكل من يتمسك بهذه العقيدة، فالإسلامية إطار للحقيقة لا الزيف والاستقامة لا الانحراف، ذلك أنها تدور مع وجود المسلم، وللوجود الإنساني غاية إسلامية كبرى هي الكدح والعمل والعبادة { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وهذه الواقعية توجد في القرآن الكريم ذاته، فأحد معجزاته أنه قدم أمثلة عليا للأداء الفني المتجانس في القصة وغيرها وما قصة يوسف عليه السلام عنا ببعيد.
? والإسلامية ليست قيداً على الإبداع(*) وإنما هي إطار موضوعي وشكلي لتحصين العمل الأدبي من الإسفاف الذي قد يقضي على الأديب، أما التحرر المطلق من كل القيم الذي ينهي وجود الأديب، أو الخروج عن منطق الأدب ذاته، فهذا أمر يفرغ العمل الأدبي من مضمونه، فمنطق الإسلامية، ينبثق من حضارة إسلامية، تتيح للأديب فرصة التعبير عن كل ما يجول بخاطره، فيطرح المضمون الذي يريد في الشكل الذي يريد طالما كان في إطار التصور الإسلامي.(87/253)
? وترتيباً على ما تقدم فإن الإسلامية تختلف عن سائر المضمونات الدينية البعيدة عن العقيدة الإسلامية سواء كانت دينية سماوية أو دينية وضعية، ولذا فإن الانفتاح على الأعمال الأدبية يجب أن يتم من خلال وجدان إسلامي راق وحسّ إنساني مرهف، للتخفيف من هموم الإنسان ومعاناته لا دفعه في أتون الصراع اللانهائي بين العبث واللامعقول، والعدمية والوجودية، وغيرها من المذاهب التي لا تروي الظمأ الديني لدى المتلقي ولا تسمو بأحاسيسه ومشاعره، بل تلغي له الزمن في العمل الأدبي، وتفكك له الأحداث، وتلغي له الشخصيات، وتمس جوهر العمل، فمسخ العمل أو تشويهه ليس من طبيعة الإسلامية.
بل إن هذا العمل لا يمكن أن يرتطم بطبائع الأمور ولا النظرة الإسلامية للكون والحياة والوجود، ومن أجل هذا فإنه وإن كان لا يجوز دمج الإسلامية في غيرها من المذاهب إلا أن الإسلامية لا تأبى التعايش مع أي نتاج أدبي عالمي، طالما لم تهدم الحواجز بين الأمرين، فخصوصية الإسلامية أنها وليدة الزمن والمكان، وأنها نسيج لقاء العقيدة بالإنسان، ولذا فإنها عالمية الأثر، كونية الرؤية، شمولية النزعة، توفق بين المنظور الواقعي والغيب اللامرئي، وتوائم بين المادي والروحي، وتجانس بين الثابت والمتغير، ولا يوجد فيها أي تنافٍ لوجود المحدود مع المطلق، ومعالجة الجزئي مع الكلي، طالما أن الهدف الأساسي للإسلامية هو صنع عالم سعيد لبني البشر، يعينهم على تجاوز متاعبهم، ويزيل المتاريس التي تقف أمام انطلاق عقيدتهم. ومن أمثلة هذه المتاريس النتاج الأدبي المتأثر بالنصرانية والذي نجده عند لويس شيخو، وسلامة موسى، وغالي شكري، ولويس عوض، وإيليا حاوي، وخليل حاوي، وسعيد عقل، وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم، وقد تأثر بهم بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهم.(87/254)
- والإسلامية كبنيان أدبي عقدي، تجد في الإسلام مجالاً رحباً، يقدم الأدباء من خلاله فكرهم البناء، وسلوكهم الهادف، وتصورهم الصائب، وقضايا الإنسان التي تحتاج إلى معالجة. والإسلامية تجعل كل هذه الأمور ذات بنيان متجانس السمات، غير متنافر الأهداف والغايات، ولا حجر في أن تكون الإسلامية فكرة عقدية، فليس المطلوب منا أن نذوب في غيرنا أو أن نكون انعكاساً لحقائق أو أوهام تزرع في غير تربتنا، وحسبنا أن نعود إلى ماضينا لندرك عظمة توجيه الرسول(*) صلى الله عليه وسلم الشعراء إلى الدفاع عن المجتمع المسلم والجهاد بالكلمة، ولنعي أن البنية الخلقية الإسلامية.. أحدثت انقلاباً عميقاً في النفوس، ولذا عاشت الإسلامية وأمكن استخلاصها من بطون الكتب، وكانت توجيهات الخلفاء الراشدين للشعراء بالالتزام بالبنية الأخلاقية الإسلامية، وفي العصر العباسي علت دعوة أبي العتاهية إلى الزهد، وهكذا.
أماكن الانتشار:
أصبح للإسلامية أنصار في جميع أنحاء العالم.. ولها مكتبات في الهند وفي البلاد العربية وعقدت رابطة الأدب الإسلامية العالمية عدة مؤتمرات في الهند وتركيا ومصر، واشترك فيها عدد كبير من أدباء العالم الإسلامي.
ويتضح مما سبق :(87/255)
أن الإسلامية ذات مدلول شامل في الزمان والمكان، فهي قديمة قدم الدعوة الإسلامية، وممتدة مع الإسلام عبر الأزمان. وهي لا تختص باللسان العربي المسلم دون سواه، بل تتعلق بكل مسلم أياً كان مكان ولادته أو نشأته. والإسلامية ليست حبيسة صفحات الكتاب المتفرغين للأدب والمعنيين به، وإنما توجد في ثنايا كتابة تعرض لأي مسألة، حتى وإن كانت من مسائل العلم في شتى فروعه. ومن هذا المنطلق فإن المدرسة الأدبية الإسلامية الهندية أو الباكستانية أو الأندونيسية أو التشادية أو السنغالية أو غيرها تعتبر تجسيداً للإسلامية في الأدب، كما تعتبر الكتابات العلمية ذات الأسس الجمالية والبنيانات الفنية من هذا القبيل أيضاً، فآداب الشعوب الإسلامية غير العربية هي رافد من روافد الإسلامية مادام أنها في إطار التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة ولا تعرض ما يرفض الإسلام أو يتعارض مع منهجه الفكري.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا. ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1405هـ/1985م.
- منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة.
- في الأدب الإسلامي المعاصر، محمد حسن بريغش، مكتبة المنار، الأردن الزرقاء.
- الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، عبد الله حمد العويشق، ط. كلية اللغة العربية بالرياض، 1389هـ/1390هـ.
- نظرات في الأدب، لأبي الحسن الندوي، دار القلم، دمشق 1408هـ/1988م.
- الأدب الإسلامي وصلته بالحياة، محمد الرابع الندوي، مؤسسة الرسالة، ط1 1405هـ/1985م.
- أدب الصحوة الإسلامية، واضح الندوي، مؤسسة الرسالة ط1، 1405هـ/1985م.
- تعريف برابطة الأدب الإسلامي، إصدار الرابطة عام 1409هـ/ 1989م.
- مجلة المشكاة. العدد 13 السنة الرابعة 1410هـ/1990م.
- النقد الأدبي أصوله ومفاهيمه، سيد قطب، دار الشروق، بيروت.(87/256)
- الإسلامية والمذاهب الأدبية، د. نجيب الكيلاني/ مؤسسة الرسالة ط2 (1401هـ).
الكلاسيكية
التعريف :
الكلاسيكية مذهب(*) أدبي، ويطلق عليه أيضاً "المذهب الإتباعي" أو المدرسي.. وقد كان يقصد به في القرن الثاني الميلادي الكتابة الأرستقراطية(*) الرفيعة الموجهة للصفوة المثقفة الموسرة من المجتمع الأوروبي.
أما في عصر النهضة(*) الأوروبية، وكذلك في العصر الحديث: فيقصد به كل أدب يبلور المثل الإنسانية المتمثلة في الخير والحق والجمال "وهي المثل التي لا تتغير باختلاف المكان والزمان والطبقة الاجتماعية" وهذا المذهب له من الخصائص الجيدة ما يمكنه من البقاء وإثارة اهتمام الأجيال المتعاقبة. ومن خصائصه كذلك عنايته الكبرى بالأسلوب والحرص على فصاحة اللغة وأناقة العبارة ومخاطبة جمهور مثقف غالباً والتعبير عن العواطف الإنسانية العامة وربط الأدب بالبادىء الأخلاقية وتوظيفه لخدمة الغايات التعليمية واحترام التقاليد الاجتماعية السائدة.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? يعد الكاتب اللاتيني أولوس جيليوس هو أول من استعمل لفظ الكلاسيكية على أنه اصطلاح مضاد للكتابة الشعبية، في القرن الثاني الميلادي.
? وتعد مدرسة الإسكندرية القديمة أصدق مثال على الكلاسيكية التقليدية، التي تنحصر في تقليد وبلورة ما أنجزه القدماء وخاصة الإغريق دون محاولة الابتكار والإبداع(*).
? وأول من طور الكلاسيكية الكاتب الإيطالي بوكاتشيو 1313-1375م فألغى الهوة بين الكتابة الأرستقراطية والكتابة الشعبية، وتعود له أصول اللغة الإيطالية المعاصرة.
? كما أن رائد المدرسة الإنكليزية شكسبير 1564-1616م طور الكلاسيكية في عصره، ووجه الأذهان إلى الأدب الإيطالي في العصور الوسطى ومطالع عصر النهضة(*).(87/257)
? أما المذهب الكلاسيكي الحديث في الغرب، فإن المدرسة الفرنسية هي التي أسسته على يد الناقد الفرنسي نيكولا بوالو 1636 – 1711م في كتابه الشهير فن الأدب الذي ألفه عام 1674م. حيث قنن قواعد الكلاسيكية وأبرزها للوجود من جديد، ولذا يعد مُنظر المذهب(*) الكلاسيكي الفرنسي الذي يحظى باعتراف الجميع.
? ومن أبرز شخصيات المذهب الكلاسيكي في أوروبا بعد بوالو:
- الشاعر الإنكليزي جون أولدهام 1653 – 1773م وهو ناقد أدبي ومن المؤيدين للكلاسيكية.
- الناقد الألماني جوتشهيد 1700 – 1766م الذي ألف كتاب فن الشعر ونقده.
- الأديب الفرنسي راسين 1639 – 1699م وأشهر مسرحياته فيدرا والإسكندر.
- والأديب كورني 1606 – 1784م وأشهر مسرحياته السيد – أوديب.
- الأديب موليير 1622 – 1673م وأشهر مسرحياته البخيل – طرطوف.
- والأديب لافونتين 1621 – 1695م الذي اشتهر بالقصص الشعرية وقد تأثر به أحمد شوقي في مسرحياته.
الأفكار والمعتقدات:
? يقوم المذهب الكلاسيكي الحديث، الذي أنشأته المدرسة الفرنسية مؤسسة المذهب على الأفكار والمبادىء التالية:
- تقليد الأدب اليوناني والروماني في تطبيق القواعد الأدبية والنقدية وخاصة القواعد الأرسطية في الكتابين الشهيرين: فن الشعر وفن الخطابة لأرسطو.
- العقل(*) هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، وهو الذي يحدد الرسالة الاجتماعية للأديب والشاعر، وهو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة.
- الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب، لأن أهل هذه الصفوة هم أعرف بالفن والجمال، فالجمال الشعري خاصة لا تراه كل العيون.
- الاهتمام بالشكل وبالأسلوب وما يتبعه من فصاحة وجمال وتعبير.
- تكمن قيمة العمل الأدبي في تحليله للنفس البشرية والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي، بصرف النظر عما في هذه النفس من خير أو شر.(87/258)
- غاية الأدب هو الفائدة الخلقية من خلال المتعة الفنية، وهذا يتطلب التعلم والصنعة، ويعتمد عليها أكثر مما يعتمد على الإلهام والموهبة.
الجذور الفكرية والعقائدية:
? ارتبط المذهب(*) الكلاسيكي بالنظرة اليونانية الوثنية، وحمل كل تصوراتها وأفكارها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها.
? والأدب اليوناني ارتبط بالوثنية(*) في جميع الأجناس الأدبية من نقد أدبي وأسطورة إلى شعر ومسرح.
? ثم جاء الرومان واقتبسوا جميع القيم الأدبية اليونانية وما تحويه عن عقائد وأفكار وثنية.
? وجاءت النصرانية وحاربت هذه القيم باعتبارها قيماً وثنية، وحاولت أن تصبغ الأدب في عصرها بالطابع النصراني، وتستمد قيمها من الإنجيل(*) إلا أنها فشلت، وذلك لقوة الأصول اليونانية وبسبب التحريف الذي أصابها.
? وبعد القرن الثالث عشر الميلادي ظهرت في إيطاليا بداية حركة إحياء للآداب اليونانية القديمة، وذلك بعد اطلاع النقاد والأدباء على كتب أرسطو في أصولها اليونانية وترجماتها العربية، التي نقلت عن طريق الأندلس وصقلية وبلاد الشام بعد الحروب الصليبية.
? وازدهر المذهب الكلاسيكي في الأدب والنقد بعد القرن السادس عشر والسابع عشر الميلادي.
1) الكلاسيكية الحديثة
تطورت الكلاسيكية في الوقت الحاضر إلى ما أطلق عليه النقاد (النيوكلاسيكية) أو الكلاسيكية الحديثة، والتي حاولت أن تنظر إلى الأمور نظرة تجمع بين الموضوعية الجامدة للكلاسيكية القديمة والذاتية المتطرفة للرومانسية الجديدة. وقد بدأت هذه المدرسة في الظهور على يد كل من ت. س. اليوت الكاتب والأديب الأمريكي، وأ. أ. ريتشاردز وغيرهم من النقاد المعاصرين.
الانتشار ومواقع النفوذ
? تعد فرنسا البلد الأم لأكثر المذاهب الأدبية والفكرية في أوروبا، ومنها المذهب الكلاسيكي، وفرنسا – كما رأينا – هي التي قننت المذهب ووضعت له الأسس والقواعد النابعة من الأصول اليونانية.(87/259)
? ثم انتشر المذهب(*) في إيطاليا وبريطانيا وألمانيا.. على يد كبار الأدباء مثل بوكاتشيو وشكسبير.
ويتضح مما سبق :
أن الكلاسيكية مذهب أدبي يقول عنه أتباعه إنه يبلور المثل الإنسانية الثابتة كالحق والخير والجمال، ويهدف إلى العناية بأسلوب الكتابة وفصاحة اللغة وربط الأدب بالمبادىء الأخلاقية، ويعتبر شكسبير رائد المدرسة الكلاسيكية في عصره، ولكن المذهب الكلاسيكي الحديث ينسب إلى المدرسة الفرنسية، حيث تبناه الناقد الفرنسي نيكولا بوالو 1636 – 1711م في كتابه الشهير علم الأدب. ويقوم المذهب الكلاسيكي الحديث على أفكار هامة منها، تقليد الأدب اليوناني والروماني من بعض الاتجاهات، واعتبار العقل(*) هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، فضلاً عن جعل الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب مع الاهتمام بالشكل والأسلوب وما يستتبع ذلك من جمال التعبير، على نحو تتحقق معه فكرة تحليل النفس البشرية والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي.
? ومن أهم الجوانب التي تستحق التعليق في الكلاسيكية أنها تعلي من قدر الأدبين اليوناني والروماني مع ارتباطهما بالتصورات الوثنية، ورغم ما فيهما من تصوير بارع للعواطف الإنسانية فإن اهتماماتهما توجه بالدرجة الأولى إلى الطبقات العليا من المجتمع وربما استتبع ذلك الانصراف عن الاهتمام بالمشكلات الاجتماعية والسياسية.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال – دار العودة – بيروت.
- المدخل إلى النقد الحديث ، د. محمد غنيمي هلال – دار العودة – بيروت.
- المذاهب الأدبية، د. جميل نصيف التكريتي – دار الشؤون الثقافية العامة.(87/260)
- مقالات عن شعر الكلاسيكية والرومانتيكية والبرناسية في :المجلة أعداد يوليو وأغسطس وسبتمبر 1959م.
المراجع الأجنبية :
- Braunschvig: Notre Litterature Etudiee dans le Texte. Paris 1949.
- Lanson: Historire de la litterature Francaise paris 1916.
- De Segur (Nicola): Histoire de la littrature Europeenne 1959.
الرومانسية
التعريف :
? الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب(*) أدبي يهتم بالنفس الإنسانية وما تزخر به من عواطف ومشاعر وأخيلة أياً كانت طبيعة صاحبها مؤمناً أو ملحداً، مع فصل الأدب عن الأخلاق(*). ولذا يتصف هذا المذهب بالسهولة في التعبير والتفكير، وإطلاق النفس على سجيتها، والاستجابة لأهوائها. وهو مذهب متحرر من قيود العقل(*) والواقعية اللذين نجدهما لدى المذهب الكلاسيكي الأدبي، وقد زخرت بتيارات لا دينية وغير أخلاقية.
- ويحتوي هذا المذهب على جميع تيارات الفكر التي سادت في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر.
- والرومانسية أصل كلمتها من : رومانس romance باللغة الإنجليزية ومعناها قصة أو رواية تتضمن مغامرات عاطفية وخيالية ولا تخضع للرغبة العقلية المتجردة ولا تعتمد الأسلوب الكلاسيكي المتأنق وتعظم الخيال المجنح وتسعى للانطلاق والهروب من الواقع المرير، ولهذا يقول بول فاليري: "لا بد أن يكون المرء غير متزن العقل إذا حاول تعريف الرومانسية".
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? بدأت الرومانسية في فرنسا عندما قدّم الباحث الفرنسي عام 1776م ترجمة لمسرحيات شكسبير إلى الفرنسية، واستخدم الرومانسية كمصطلح في النقد الأدبي.
? ويعد الناقد الألماني فريدريك شليجل أول من وضع الرومانسية كنقيض للكلاسيكية.
? ثم تبلورت الرومانسية كمذهب أدبي، وبدأ الناس يدركون معناها الحقيقي التجديدي وثورتها ضد الكلاسيكية.(87/261)
? وترجع الرومانسية الإنكليزية إلى عام 1711م ولكن على شكل فلسفة فكرية.. ونضجت الرومانسية الإنكليزية على يد توماس جراي وويليام بليك.
? ولا شك أن الثورة(*) الفرنسية 1798م هي أحد العوامل الكبرى التي كانت باعثاً ونتيجة في آن واحد للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة ، أهمها الكنيسة(*) وسطوتها والواقع الفرنسي وما فيه.
? وفي إيطاليا ارتبط الأدب بالسياسة عام 1815م وأصبح اصطلاح رومانسي في الأدب يعني ليبراليا (أي: حراً أو حرية) في السياسة.
? ومن أبرز المفكرين والأدباء الذين اعتنقوا الرومانسية:
- المفكر والأديب الفرنسي جان جاك روسو 1712 – 1788م ويعد رائد الرومانسية الحديثة.
- الكاتب الفرنسي شاتو بريان 1768 – 1848م ويعد من رواد المذهب الذين ثاروا على الأدب اليوناني القائم على تعدد الآلهة.
- مجموعة من الشعراء الإنكليز، امتازوا بالعاطفة الجياشة والذاتية والغموض رغم أنهم تغنوا بجمال الطبيعة وهم : توماس جراي 1716 – 1771م ووليم بليك 1757 – 1927م وشيلي 1762 – 1822م كيتش 1795 – 1821م وبايرون 1788 – 1824م.
- الشاعر الألماني جوته 1749 – 1832م مؤلف رواية آلام فرتر عام 1782م وفاوست التي تظهر الصراع بين الإنسان والشيطان.
- الشاعر الألماني شيلر 1759 – 1805م ويعد أيضاً من رواد المذهب(*).
- الشاعر الفرنسي بودلير 1821 – 1867م الذي اتخذ المذهب الرومانسي في عصره شكل الإلحاد(*) بالدين(*).
الأفكار والمعتقدات :
? لقد كانت الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية، وهذا ما نراه واضحاً من خلال أفكارها ومبادئها وأساليبها التي قد لا تكون واحدة عند جميع الرومانسيين، ويمكن إجمال هذه الأفكار والمباديء فيما يلي:(87/262)
- الذاتية أو الفردية: وتعد من أهم مبادىء الرومانسية ، وتتضمن الذاتية عواطف الحزن والكآبة والأمل، وأحياناً الثورة على المجتمع. فضلاً عن التحرر من قيود العقل والواقعية والتحليق في رحاب الخيال والصور والأحلام.
التركيز على التلقائية والعفوية في التعبير الأدبي، لذلك لا تهتم الرمانسية بالأسلوب المتأنق، والألفاظ اللغوية القوية الجزلة.
تنزع بشدة إلى الثورة وتتعلق بالمطلق واللامحدود.
- الحرية الفردية أمر مقدس لدى الرومانسية، لذلك نجد من الرومانسيين من هو شديد التدين مثل: شاتوبريان ونجد منهم شديد الإلحاد مثل شيلي. ولكن معظمهم يتعالى على الأديان والمعتقدات والشرائع التي يعدها قيوداً.
- الاهتمام بالطبيعة(*)، والدعوة بالرجوع إليها حيث فيها الصفاء والفطرة السليمة، وإليها دعا روسو.
- فصل الأدب عن الأخلاق، فليس من الضروري أن يكون الأديب الفذ فذ الخلق. ولا أن يكون الأدب الرائع خاضعاً للقوانين الخلقية.
- الإبداع(*) والابتكار القائمان على إظهار أسرار الحياة من صميم عمل الأديب، وذلك خلافاً لما ذهب إليه أرسطو من أن عمل الأديب محاكاة الحياة وتصويرها.
- الاهتمام بالمسرح لأنه هو الذي يطلق الأخيلة المثيرة التي تؤدي إلى جيشان العاطفة وهيجانها.
- الاهتمام بالآداب الشعبية والقومية، والاهتمام باللون المحلي الذي يطبع الأديب بطابعه، وخاصة في الأعمال القصصية والمسرحية.
الجذور الفكرية العقائدية:(87/263)
? تعد الرومانسية ثورة ضد الكلاسيكية المتشددة في قواعدها العقلية والأدبية، وكذلك ثورة ضد العقائد اليونانية المبنية على تعدد الآلهة(*)… ومن جذور هذه الثورة ظهور التيارات الفلسفية التي تدعو إلى التحرر من القيود العقلية والدينية والاجتماعية. فضلاً عن اضطراب الأحوال السياسية في أوروبا بعد الثورة(*) الفرنسية الداعية إلى الحرية(*) والمساواة وما يتبع ذلك من صراع على المستعمرات، وحروب داخلية.. كل هذه الأمور تركت الإنسان الأوروبي قلقاً حزيناً متشائماً، فانتشر فيه مرض العصر، وهو الإحساس بالكآبة والإحباط ومحاولة الهروب من الواقع، وكان من نتيجة ذلك ظهور اتجاهات متعددة في الرومانسية، إذ توغلت في العقيدة والأخلاق(*) والفلسفة(*) والتاريخ والفنون الجميلة.
- ودخلت الرومانسية في الفلسفة وتجلت في نظرية الإنسان الأعلى (السوبرمان) عند نيتشة 1844 – 1900م ونظرية الوثبة الحيوية عند برغسون 1859 – 1941م.
? الرومانسية الجديدة:
? انحسرت الرومانسية في مطلع القرن العشرين عندما أعلن النقاد الفرنسيون هجومهم عليها – وذلك لأنها تسلب الإنسان عقله ومنطقه – وهاجموا روسو الذي نادى بالعودة إلى الطبيعة(*). وقالوا: لا خير في عاطفة وخيال لا يحكمهما العقل(*) المفكر والذكاء الإنساني والحكمة الواعية والإرادة المدركة.
وكان من نتيجة ذلك نشوء الرومانسية الجديدة ودعوتها إلى الربط بين العاطفة التلقائية والإرادة الواعية في وحدة فكرية وعاطفية، ومن ثم نشأت الرومانسية الجديدة حاملة معها أكثر المعتقدات القديمة للرومانسية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
? تعد فرنسا موطن المذهب(*) الرومانسي، ومنها انتقل إلى ألمانيا ومنها إلى إنكلترا وإيطاليا.
ويتضح مما سبق:(87/264)
أن الرومانسية أو الرومانتيكية مذهب أدبي يقول أنصاره أنه يهدف إلى سبر أغوار النفس البشرية واستظهار ما تزخر به من عواطف ومشاعر وأحاسيس وأخيلة، للتعبير من خلال الذاتية عن عواطف الحزن والأسى والكآبة والألم والأمل، ومن خلال العفوية الخالية من تأنق الأسلوب وجزالة اللفظ ودقة التراكيب اللغوية، مع الاهتمام بالطبيعة وضرورة الرجوع إليها، وفصل الأخلاق(*) عن الأدب، والاهتمام بالآداب الشعبية.
وقد اعتنق كثير من الحداثيين الرومانسية بل عدها بعضهم أحد اتجاهات الحداثة.
? تعقيب :
ومن وجهة النظر الإسلامية فإن أي تيار أدبي لا بد أن يكون ملتزماً بالدين(*) والأخلاق كجزء من العقيدة، وإذا كانت ملازمة الحزن والتعبير عنه لها سلبيات كثيرة، فإن الإسلام يتطلب من معتنقيه مواجهة الظروف التي يتعرضون لها بشجاعة والتسليم بقضاء الله وتلمس الأسباب للخروج من الأزمات دون يأس أو إحباط، وكل إنسان مسئول عن تصرفاته ومحاسب عليها بين يدي الله، طالما كان يملك أهلية التصرف، أما المكره فهو معذور وتسقط عنه الأوزار فيما يرتكبه قسراً، ولكنه لا يعذر في التعبير الحر عما ينافي العقيدة ويتعارض معها.
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا – ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر/ نشر دار الشعاع – الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب المقارن ، د. محمد غنيمي هلال – دار العودة – بيروت.
- المدخل إلى النقد الحديث، د. محمد غنيمي هلال – القاهرة: 1959م.
- الرومانتيية، د. محمد غنيمي هلال – القاهرة : 1955م.
- الأدب المقارن ، ماريوس فرنسوا غويار – (سلسلة زدني علماً).
- المذاهب الأدبية الكبرى، فيليب فان تيغيمة (سلسلة زدني علما).
المراجع الأجنبية:(87/265)
- Braunschvig: Notre Litterature Etudiee dans le Texte. Paris 1949.
- Lanson: Histoire de La Litterature Francaise. Paris. 1960.
- De Segur (Nicola): Histoire de la litterature Europieenne, Paris, 1959.
الرمزية
التعريف :
? الرمزية مذهب(*) أدبي فلسفي ملحد، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بواسطة الرمز أو الإشارة أو التلميح.
- والرمز معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها أو لا يراد التعبير عنها مباشرة.
- ولا تخلو الرمزية من مضامين فكرية واجتماعية، تدعو إلى التحلل من القيم الدينية والخلقية، بل تتمرد عليها؛ متسترة بالرمز والإشارة.
- وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? رغم أن استعمال الرمز قديم جداً، كما هو عند الفراعنة واليونانيين القدماء إلا أن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام 1886م حيث أصدر عشرون كاتباً فرنسيًّا بياناً نشر في إحدى الصحف يعلن ميلاد المذهب الرمزي، وعرف هؤلاء الكتّاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين. وقد جاء في البيان: إن هدفهم "تقديم نوع من التجربة الأدبية تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول".
? ومن أبرز الشخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط رأس الرمزية:
- الأديب الفرنسي بودلير 1821 – 1967م وتلميذه رامبو.
- ومالارراميه 1842 – 1898م ويعد من رموز مذهب الحداثة أيضاً.
- بول فاليري 1871 – 1945م.
- وفي ألمانيا ر.م. ريلكه وستيفان جورج.
- وفي أمريكا يمي لويل.
- وفي بريطانيا: أوسكار وايلد.
الأفكار والمعتقدات :(87/266)
من الأفكار والآراء التي تضمنتها الرمزية:
? الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية.
? البحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب العقيدة الدينية، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح الأرواح.
? اتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية، تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ الغروب الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالإنقباض. وكذلك تعمد الرمزية إلى تقريب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: الكون المقمر، الضوء الباكي، الشمس المرة المذاق.. الخ.
? تحرير الشعر من الأوزان التقليدية، فقد دعى الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية أو الشعر الحر وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور.
الجذور الفكرية والعقائدية:
? لقد انبثقت الرمزية عن نظرية المثل لدى أفلاطون، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر النظرية عن حقائق مثالية، وتقول: إن عقل(*) الإنسان الظاهر الواعي عقل محدود، وأن الإنسان يملك عقلاً غير واعٍ أرحب من ذلك العقل.
? وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت عوامل عقدية واجتماعية وثقافية لولادة الرمزية على يد: بودلير وغيره من الأدباء:
? العوامل العقدية: وتتمثل في انغماس الإنسان الغربي في المادية(*) التي زرعتها الفلسفة(*) الوضعية، ونسيان كيانه الروحي، وقد فشلت المادية والإلحاد(*) في ملء الفراغ الذي تركه عدم الإيمان بالله.
? العوامل الإجتماعية: وتتمثل في الصراع الاجتماعي الحاد بين ما يريده بعض الأدباء والمفكرين من حرية مطلقة وإباحية أخلاقية، وبين ما يمارسه المجتمع من ضغط وكبح لجماحهم، مما زاد بتأثرهم بنظرية المثل الأفلاطونية وكتابات الكاتب الأمريكي ادجار الآن بو – الخيالية المتميزة.(87/267)
- العوامل الفنية : وذلك باعتقادهم أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره.
الانتشار ومواقع النفوذ:
? بدأت الرمزية في فرنسا حيث ولدت أكثر المذاهب(*) الأدبية والفكرية، ثم انتشرت في أوروبا وأمريكا.
? ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها، من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال، ولا شك أن الرمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها.
ويتضح مما سبق:
أن الرمزية مذهب أدبي يتحلل من القيم الدينية، ويعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأياً من عالم الواقع وجنوحاً إلى عالم الخيال، وبحثاً عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن غياب العقيدة الدينية، وذلك باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة، والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية. ولاشك في خطورة هذا المذهب على الشباب المسلم إن درسه دون أن يكون ملماً سلفاً بأسسه المتقدمة والتي تهدر القيم الدينية.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر، نشر دار الشعاع – الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب.
- مقالة: "الحداثة في الأدب العربي المعاصر هل انفض سامرها"، للدكتور محمد مصطفى هدارة – مجلة الحرس الوطني عدد ربيع الآخرة 1410هـ.
- الأدب الرمزي، تأليف هنري بير – ترجمة هنري زغيب.
- السريالية، إيف دوليس (سلسلة زدني علماً).
- الأدب المقارن، مايوس فرانسوا غويار (سلسلة زدني علماً).
- المعجم الأدبي ، جبور عبد النور – دار العلم للملايين – بيروت.(87/268)
المراجع الأجنبية:
- Clourad (H): Histoire de la litterature Francaise du symbolisme a nor jours. Paris 1944 – 1949.
- Cazamian (L): Symbolisme et Poesie. L’Exemple anglais. Paris 1947.
- G. Kahon: let originer du symbolisme, Paris, 1936.
- De Segur: Historire de la litterature Europieenne, paris 1959.
- P. Mortino, Parnasse et. Symbolisme, Paris, 1947.
- Lanson: Histoire de la litterature Europieenne, paris 1960.
- Stphane Mallarme, Qeurres Completer, Paris. Ed. De la pleiade. 1951.
- Guy Michaud Message Poetique du symbolisme paris 1947.
- Enquete de jules Huret, in Mallarme et le – Symbolisme, classiquer Larousse 1972.
الحداثة
التعريف :
? الحداثة مذهب(*) فكري أدبي علماني، بني على أفكار وعقائد غربية خالصة مثل الماركسية والوجودية والفرويدية والداروينية، وأفاد من المذاهب الفلسفية والأدبية التي سبقته مثل السريالية والرمزية… وغيرها.
? وتهدف الحداثة إلى إلغاء مصادر الدين(*)، وما صدر عنها من عقيدة وشريعة وتحطيم كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية بحجة أنها قديمة وموروثة لتبني الحياة على الإباحية والفوضى والغموض، وعدم المنطق، والغرائز الحيوانية، وذلك باسم الحرية(*)، والنفاذ إلى أعماق الحياة. والحداثة خلاصة مذاهب خطيرة ملحدة، ظهرت في أوروبا كالمستقبلية والوجودية والسريالية وهي من هذه الناحية شر لأنها إملاءات اللاوعي في غيبة الوعي والعقل(*) وهي صبيانية المضمون وعبثية في شكلها الفني وتمثل نزعة الشر والفساد في عداء مستمر للماضي والقديم، وهي إفراز طبيعي لعزل الدين عن الدولة في المجتمع الأوروبي ولظهور الشك(*) والقلق في حياة الناس مما جعل للمخدرات والجنس تأثيرهما الكبير.
التأسيس وأبرز الشخصيات:(87/269)
? بدأ مذهب الحداثة منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً في باريس على يد كثير من الأدباء السرياليين والرمزيين والماركسيين والفوضويين والعبثيين، ولقي استجابة لدى الأدباء الماديين والعلمانيين والملحدين في الشرق والغرب. حتى وصل إلى شرقنا الإسلامي والعربي.
? ومن أبرز رموز مذهب(*) الحداثة من الغربيين:
- شارل بودلير 1821 – 1867م وهو أديب فرنسي أيضاً نادى بالفوضى الجنسية والفكرية والأخلاقية، ووصفها بالسادية أي مذهب التلذذ بتعذيب الآخرين. له ديوان شعر باسم أزهار الشر مترجم للعربية من قبل الشاعر إبراهيم ناجي، ويعد شارل بودلير مؤسس الحداثة في العالم الغربي.- الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير 1821 – 1880م.
- مالا راميه 1842 – 1898م وهو شاعر فرنسي ويعد أيضاً من رموز المذهب الرمزي.
- الأديب الروسي مايكوفسكي، الذي نادى بنبذ الماضي والاندفاع نحو المستقبل.
? ومن رموز مذهب(*) الحداثة في البلاد العربية:
- يوسف الخال – الشاعر النصراني وهو سوري الأصل رئيس تحرير مجلة شعر الحداثية. وقد مات منتحراً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
- أدونيس ( علي أحمد سعيد) نصيري سوري، ويعد المُروِّج الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية، وقد هاجم التاريخ الإسلامي، والدين(*) والأخلاق(*) في رسالته الجامعية التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه من جامعة "القديس يوسف" في لبنان وهي بعنوان الثابت والمتحول، ودعا بصراحة إلى محاربة الله عز وجل. وسبب شهرته فساد الإعلام بتسليط الأضواء على كل غريب.
- د. عبد العزيز المقالح – وهو كاتب وشاعر يماني، وهو الآن مدير لجامعة صنعاء وذو فكر يساري.
- عبد الله العروي – ماركسي مغربي.
- محمد عابد الجابري مغربي.
- الشاعر العراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي.
- الشاعر الفلسطيني محمود درويش – عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أثناء إقامته بفلسطين المحتلة، وهو الآن يعيش خارج فلسطين.(87/270)
- كاتب ياسين ماركسي جزائري.
- محمد أركون جزائري يعيش في فرنسا.
- الشاعر المصري صلاح عبد الصبور – مؤلف مسرحية الحلاج.
الأفكار والمعتقدات :
? نجمل أفكار ومعتقدات مذهب الحداثة كما هي عند روادها ورموزها وذلك من خلال كتاباتهم وشعرهم فيما يلي:
- رفض مصادر الدين(*)، الكتاب والسنة والإجماع(*)، وما صدر عنها من عقيدة إما صراحة أو ضمناً.
- رفض الشريعة(*) وأحكامها كموجه للحياة البشرية.
- الدعوة إلى نقد النصوص الشرعية، والمناداة بتأويل جديد لها يتناسب والأفكار الحداثية.
- الدعوة إلى إنشاء فلسفات حديثة على أنقاض الدين.
- الثورة(*) على الأنظمة السياسية الحاكمة لأنها في منظورها رجعية متخلفة أي غير حداثية، وربما استثنوا الحكم البعثي.
- تبني أفكار ماركس المادية(*) الملحدة، ونظريات فرويد في النفس الإنسانية وأوهامه، ونظريات دارون في أصل الأنواع وأفكار نيتشة، وهلوسته، والتي سموها فلسفة في الإنسان الأعلى (السوبر مان).
- تحطيم الأطر التقليدية والشخصية الفردية، وتبني رغبات الإنسان الفوضوية والغريزية.
- الثورة على جميع القيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية الإنسانية، وحتى الاقتصادية والسياسية.
- رفض كل ما يمت إلى المنطق والعقل.
- اللغة – في رأيهم – قوة ضخمة من قوى الفكر المتخلف التراكمي السلطوي، لذا يجب أن تموت، ولغة الحداثة هي اللغة النقيض لهذه اللغة الموروثة بعد أن أضحت اللغة والكلمات بضاعة عهد قديم يجب التخلص منها.
- الغموض والإبهام والرمز – معالم بارزة في الأدب والشعر الحداثي.
- ولا يقف الهجوم على اللغة وحدها ولكنه يمتد إلى الأرحام والوشائح حتى تتحلل الأسرة، وتزول روابطها، وتنتهي سلطة الأدب وتنتصر إرادة الإنسان وجهده على الطبيعة والكون.
? ومن الغريب أن كل حركة جديدة للحداثة تعارض سابقتها في بعض نواحي شذوذها وتتابع في الوقت نفسه مسيرتها في الخصائص الرئيسية للحداثة.(87/271)
? إن الحداثة هي خلاصة سموم الفكر البشري كله، من الفكر الماركسي إلى العلمانية الرافضة للدين(*)، إلى الشعوبية(*)، إلى هدم عمود الشعر، إلى شجب تاريخ أهل السنة كاملاً ، إلى إحياء الوثنيات(*) والأساطير.
? ويتخفى الحداثيون وراء مظاهر تقتصر على الشعر والتفعيلة والتحليل، بينما هي تقصد رأساً هدم اللغة العربية وما يتصل بها من مستوى بلاغي وبياني عربي مستمد من القرآن الكريم، وهذا هو السر في الحملة على القديم وعلى التراث وعلى السلفية(*).
تطور مذهب الحداثة في الغرب وفي البلاد العربية:
? إن حركة الحداثة الأوروبية بدأت قبل قرن من الزمن في باريس بظهور الحركة البوهيمية فيها بين الفنانين في الأحياء الفقيرة.
- ونتيجة للمؤثرات الفكرية، والصراع السياسي والمذهبي والاجتماعي شهدت نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في أوروبا اضمحلال العلاقات بين الطبقات، ووجود فوضى حضارية انعكست آثارها على النصوص الأدبية. وبلغت التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا ذروتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبقيت باريس مركز تيار الحداثة الذي يمثل الفوضى الأدبية.
- وقد تبنت الحداثة كثيراً من المعتقدات والمذاهب الفلسفية والأدبية والنفسية أهمها :
1- الدادائية: وهي دعوة ظهرت عام 1916م، غالت في الشعور الفردي ومهاجمة المعتقدات، وطالبت بالعودة للبدائية والفوضى الفنية الاجتماعية.
2- السريالية: واعتمادها على التنويم المغناطيسي(*)، والأحلام الفرويدية، بحجة أن هذا هو الوعي الثوري للذات، ولهذا ترفض التحليل المنطقي، وتعتمد بدلاً عنه الهوس والعاطفة.
3- الرمزية: وما تتضمنه من ابتعاد عن الواقع والسباحة في عالم الخيال والأوهام، فضلاً عن التحرر من الأوزان الشعرية، واستخدام التعبيرات الغامضة والألفاظ الموحية برأي روادها.(87/272)
- وقد واجهت الحداثة معارضة شديدة في كل أنحاء أوروبا، حتى في باريس مسقط رأسها، من المدافعين عن اللغة والتراث وممن ينيطون بالأدب مهمة التوصيل في إطار العقل والوعي الإنساني.
- وكثير من أدباء القرن العشرين لم يعترفوا بالحداثة ولا بما جاءت به من تجريد جمالي وثورة وعدم تواصل، وعدَّ كثير من المفكرين الغربيين الحداثة نزوة عابرة في تاريخ الفكر الغربي.
? والحداثة العربية هي حداثة غربية في كل جوانبها وأصولها وفروعها إلا أنها تسللت إلى العالم العربي دون غرابة، وذلك لأنها اتخذت صورة العصرية، والاتجاه التجديد (*) في الأدب، وارتباط مفهوم الحداثة في أذهان بعض المثقفين بحركة ما يسمى بالشعر الحر أو شعر التفعيلة.
- اصطلاح الحداثة بمفهومه الغربي، لم يقتحم الأدبي العربي إلا في فترة السبعينات بينما تسربت مضامينه منذ الثلاثينات من هذا القرن، وذلك في محاولات الخروج على علم العروض العربي، وفي الأربعينات ظهرت بعض ظواهر التمرد والثورة والرفض وتجريب بعض الاتجاهات الأدبية الغربية كالتعبيرية والرمزية والسريالية.
ثم ظهرت مجلة شعر التي رأس تحريرها في لبنان يوسف الخال عام 1957م وتوقفت عام 1964م للتمهيد لظهور حركة(*) الحداثة بصفتها حركة فكرية، لخدمة التغريب، وصرف العرب عن عقيدتهم ولغتهم الفصحى.. لغة القرآن الكريم.
وبدأت تجربتها خلف ستار تحديث الأدب، فاستخدمت مصطلح الحداثة عن طريق ترجمة شعر رواد الحداثة الغربيين أمثال: بودلير ورامبو ومالاراميه، وبدأ رئيس تحريرها – أي: مجلة شعر – بكشف ما تروج له الحداثة الغربية حين دعا إلى تطوير الإيقاع الشعري، وقال بأنه ليس للأوزان التقليدية أي قداسة ويجب أن يعتمد في القصيدة على وحدة التجربة والجو العاطفي العام لا على التتابع العقلي والتسلسل المنطقي كما أنه قرر في مجلته أن الحداثة موقف حديث في الله والإنسان والوجود.(87/273)
? كان لعلي أحمد سعيد (أدونيس) دور مرسوم في حركة الحداثة وتمكينها على أساس ما دعاه من الثبات والتحول فقال: "لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة في الفكر العربي والتخلص من المبنى الديني التقليدي الإتباعي". استخدم أدونيس مصطلح الحداثة الصريح ابتداءً من نهاية السبعينات عندما أصدر كتابه: صدمة الحداثة عام 1978م وفيه لا يعترف بالتحول إلا من خلال الحركات الثورية السياسية والمذهبية، وكل ما من شأنه أن يكون تمرداً على الدين(*) والنظام تجاوزاً للشريعة(*).
- لقد أسقط أدونيس مفهوم الحداثة على الشعر الجاهلي وشعراء الصعاليك وشعر عمرو بن أبي ربيعة، وأبي نواس وبشار بن برد وديك الجن الحمصي، كما أسقط مصطلح الحداثة على المواقف الإلحادية لدى ابن الرواندي وعلى الحركات الشعوبية(*) والباطنية(*) والإلحادية المعادية للإسلام أمثال: ثورة الزنج والقرامطة.
- ويعترف أدونيس بنقل الحداثة الغربية حين يقول في كتابه الثابت والمتحول: "لا نقدر أن نفصل بين الحداثة العربية والحداثة في العالم".
أهم خصائص الحداثة :
- محاربة الدين (*) بالفكر وبالنشاط.
- الحيرة والشك (*) والقلق والاضطراب.
- تمجيد الرذيلة والفساد والإلحاد.
- الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمور.
- الثورة على القديم كله وتحطيم جميع أطر الماضي، إلا الحركات الشعوبية والباطنية(*).
- الثورة على اللغة بصورها التقليدية المتعددة.
- امتدت الحداثة في الأدب إلى مختلف نواحي الفكر الإنساني ونشاطه.
- قلب موازين المجتمع والمطالبة بدفع المرأة إلى ميادين الحياة بكل فتنتها، والدعوة إلى تحريرها من أحكام الشريعة(*).
- عزل الدين ورجاله واستغلاله في حروب عدوانية.
- تبني المصادفة والحظ والهوس والخيال لمعالجة الحالات النفسية والفكرية بعد فشل العقل في مجابهة الواقع.(87/274)
- امتداد الثورة على الطبيعة(*) والكون ونظامه وإظهار الإنسان بمظهر الذي يقهر الطبيعة.
- ولذا نلمس في الحداثة قدحاً في التراث الإسلامي، وإبرازاً لشخصيات عرفت بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي وميمون القداح وغيرهم. وهذا المنهج يعبر به الأدباء المتحللون من قيم الدين والأمانة، عن خلجات نفوسهم وانتماءاتهم الفكرية.
ويتضح مما سبق:
أن الحداثة تصور إلحادي جديد – تماماً – للكون والإنسان والحياة، وليست تجديداً(*) في فنيات الشعر والنثر وشكلياتها. وأقوال سدنة الحداثة تكشف عن انحرافهم باعتبار أن مذهبهم يشكل حركة مضللة ساقطة لا يمكن أن تنمو إلا لتصبح هشيماً تذروه الرياح وصدق الله العظيم إذ يقول: { ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً }.
حسبنا في التدليل على سعيهم لهدم الثوابت أن نسوق قول أدونيس وهو أحد رموز الحداثة في العالم العربي في كتابه فن الشعر ص 76: "إن فن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية، وليست تلك التي تسايره في حياته الجادة، وإنما هي التي تعارض هذه الحياة! أي تصدمه، وتخرجه من سباته، تفرغه من موروثه وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم. كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها! أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد، يلزمنا تحطيم الموروث الثابت، فهنا يكمن العدو الأول للثورة والإنسان".
ولا يعني التمرد على ما هو سابق وشائع في مجتمعنا إلا التمرد على الإسلام وإباحة كل شيء باسم الحرية(*).
- فالحداثة إذن هي منهج(*) فكري عقدي يسعى لتغيير الحياة ورفض الواقع والردة عن الإسلام بمفهومه الشمولي والانسياق وراء الأهواء والنزعات الغامضة والتغريب المضلل.(87/275)
وليس الإنسان المسلم في هذه الحياة في صراع وتحد مع الكون كما تقول كتابات أهل الحداثة وإنما هم الذي يتنصلون من مسئولية الكلمة عند الضرورة ويريدون وأد الشعر العربي ويسعون إلى القضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجريد وتجاوز جميع ما هو قديم وقطع صلتهم به.
- ونستطيع أن نقرر أن الحداثيين فقدوا الانتماء لماضيهم وأصبحوا بلا هوية ولا شخصية. ويكفي هراء قول قائلهم حين عبر عن مكنونة نفسه بقوله:
لا الله اختار ولا الشيطان *** كلاهما جدار
كلاهما يغلق لي عيني *** هل أبدل الجدار بالجدار
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- "الحداثة في الأدب العربي المعاصر"، مقال مطول للدكتور محمد مصطفى هدارة مجلة الحرس الوطني – ربيع الآخر 1410هـ.
- الحداثة في ميزان الإسلام، عوض القرني.
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا .
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال.
الواقعية
التعريف :
الواقعية مذهب(*) أدبي فكري مادي(*) ملحد، إذ يقتصر في تصويره الحياة والتعبير عنها على عالم المادة، ويرفض عالم الغيب والإيمان بالله، ويصور الإنسان بالحيوان الذي تسيره غرائزه لا عقله.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? ارتبطت نشأة المذهب الواقعي بالفلسفات الوضعية والتجريبية والمادية(*) الجدلية(*) التي ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وما بعده، وسارت الواقعية في ثلاثة اتجاهات: الواقعية النقدية والواقعية الطبيعية والواقعية الاشتراكية. وللواقعية أعلام في شتى فروعها:
? أعلام الواقعية النقدية:
- القصّاص الفرنسي أنوريه دي بلزاك 1799 – 1850م ومن قصصه روايته المشهورة الملهاة الإنسانية في 94 جزءً، صور فيها الحياة الفرنسية بين عام 1829 – 1948م.
- الكاتب الإنكليزي شارل ديكنز 1812 – 1850م وله الرواية المشهورة قصة مدينتين.(87/276)
- الأديب الروسي تولستوي 1828 – 1910م وله القصة المشهورة الحرب والسلام.
- الأديب الروسي دستوفسكي مؤلف الجريمة والعقاب.
- والأديب الأمريكي أرنست همنجواي 1899 – 1961م وله القصة المشهورة العجوز والبحر وقد مات منتحراً.
· أعلام الواقعية الطبيعية:
- إميل زولا الأديب الفرنسي 1840 – 1920م مؤلف قصة الحيوان البشري وفيها يطبق نظريات دارون في التطور، ونظريات مندل في الوراثة، وكلود برنار في الطب.
- جوستاف فلوبير 1821- 1880م الأديب الفرنسي ومؤلف القصة المشهورة مدام بوفاري.
· أعلام الواقعية الاشتراكية(*):
- مكسيم جوركي 1868 – 1936م كاتب روسي، عاصر الثورة(*) الروسية الشيوعية، ومؤلف قصة الأم.
- ماياكو فسكي 1892 – 1930م وهو شاعر الثورة الروسية الشيوعية، وقد مات منتحراً.
- لوركا 1898 – 1936م وهو شاعر أسباني.
- بابللو نيرودا 1904 – 1973م وهو شاعر تشيلي.
- جورج لوكاش – وهو كاتب فرنسي حديث.
- كما كان من أعلامها : روجيه جارودي – وهو مفكر فرنسي اهتدى إلى الإسلام وسمى نفسه رجاء جارودي وإن كان مازال يتأرجح بين ماضيه وحاضره.
الأفكار والمعتقدات:
? تشعب المذهب(*) الواقعي، كما تقدم، إلى ثلاثة اتجاهات.
- الواقعية النقدية ومن أفكارها:
1- الاهتمام بنقد المجتمع ومشكلاته.
2- التركيز على جوانب الشر والجريمة.
3- الميل إلى التشاؤم واعتبار الشر عنصراً أصيلاً في الحياة.
4- المهمة الرئيسية للواقعية النقدية الكشف عن حقيقة الطبيعة.
5- اختيار القصة وسيلة لبث الأفكار التي يريدونها.
- الواقعية الطبيعية:
تتفق مع الواقعية في جميع آرائها وأفكارها وتزيد عليها:
1- التأثر بالنظريات العلمية والدعوة إلى تطبيقها في مجال العمل الأدبي.
2- الإنسان في نظرها حيوان تسيره غرائزه، وكل شيء فيه يمكن تحليله، فحياته الشعورية والفكرية والجسمية ترجع إلى إفرازات غددية.
الواقعية الاشتراكية:
وقد نادت بها الماركسية ومن أفكارها:(87/277)
1- إن النشاط الاقتصادي(*) في نشأته وتطوره هو أساس الإبداع(*) الفني، لذلك يجب توظيف الأدب لخدمة المجتمع حسب المفهوم الماركسي.
2- العمل الأدبي الفني عليه أن يهتم بتصوير الصراع الطبقي بين طبقة العمال والفلاحين وطبقة الرأسمالية والبرجوازيين(*)، وانتصار الأولى التي تحمل الخير والإبداع على الثانية التي هي مصدر الشرور في الحياة.
3- رفض أي تصورات غيبية، وخاصة ما يتعلق منها بالعقائد السماوية.
4- استغلال جميع الفنون الأدبية لنشر المذهب(*) الماركسي.
الجذور الفكرية والعقائدية:
إن الأسس التي قامت عليها الواقعية هي المذاهب الفلسفية المادية(*)، مثل الفلسفة (*) الوضعية التي انتشرت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر ورائدها الفيلسوف الفرنسي كونت التي ترفض كل ما هو غيبي، وتقتصر على عالم المادة والحس.
وكذلك تعد الفلسفة التجريبية التي تلتقي مع الوضعية في رفض الغيبيات من جذور الواقعية.
ومن الجذور الفكرية العميقة للواقعية الاشتراكية(*): الفلسفة المادية الجدلية(*) التي نادى بها ماركس وإنجلز التي تعد العقيدة الرسمية للشيوعية الدولية والتي من مفاهيمها أن المادة هي الوجود الحقيقي، وأن القيم العقلية انبثقت من العلاقات المادية بين الناس.
وكذلك ترتبط الواقعية بالنظرية الفلسفية التي ترى أن الحياة تنبت على الشر، وأن ما يبدو من مظاهر الخير ليس إلا طلاءً زائفاً يموه واقع الحياة الفكرية ويخفي طبيعة الإنسان الحقيقية.
وقد عبر الفيلسوف الإنكليزي هوبز عن هذا الاتجاه بقوله: "إن الإنسان ذئب لا هم له إلا الفتك بالإنسان".
وقد عمل دعاة الواقعية على ربط الإنسان الغربي بغرائزه وحيوانيته، وتوجيه نظره إلى التراب لا إلى السماء، وزادوا في ماديته، وساعدوا على إفساده وإيقاظ شهوته.(87/278)
أما دعاة الواقعية الاشتراكية أو الشيوعية، الذين سطروا الكتب والمقالات والقصص والمسرحيات والأشعار في تمجيد الشيوعية، والزعم أنها الحقيقة للسعادة البشرية، فقد زادوا الإنسانية شقاء وتعاسة ومعيشة ضنكا، وقد تحطمت فلسفتهم في أوروبا الشرقية تحت مطارق الواقع المؤلم.. كما نرى بأم أعيننا الآن، إذ بدأت تتراجع بخطى سريعة إلى عفن التاريخ الذي لا يرحم، وتفكك ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي، وعاد الإسلام إلى الدول الإسلامية.
والإسلام يدعو إلى الاهتمام بالدنيا" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" ويرفض النظر بتشاؤم إلى تصاريف القدر وليس ثمة ما يمنع الإنسان من التأثير والتغيير في حياته والمجتمع الذي يعيش فيه. وقد كرم الإسلام الإنسان ولم يضعه في مصاف القرود واهتم بجانبه الروحي باعتباره – أي الإنسان – جسداً وروحاً، ولكلًّ مطالبه التي لا يجوز إغفالها ولا الاقتصار على أحدها دون الآخر. والمسلم يرفض النظرية الفلسفية التي تقول: "إن الحياة قد بنيت على الشر" والأديان (*) عموماً جاءت للقضاء على الشر والنهوض بالنفس البشرية.
ويتضح مما سبق:
أن الواقعية مذهب(*) أدبي فكري مادي ملحد، يصور الحياة كمادة ويرفض عالم الغيب ولا يؤمن بالله، ويرى أن الإنسان عبارة عن مجموعة من الغرائز الحيوانية، ويتخذ كل ذلك أساساً لأفكاره التي تقوم على الاهتمام بنقد المجتمع وبحث مشكلاته مع التركيز على جوانب الشر والجريمة، والميل إلى النزعات التشاؤمية وجعل مهمة النقد مركزة في الكشف عن حقيقة الطبيعة(*) كطبيعة بلا روح أو قيم. ومن هنا كانت آثار هذا المذهب الأدبي المدمرة على الشباب المسلم إذا لم يضع هذه الأمور في حسبانه وهو يتعامل مع الإفرازات الأدبية لهذا المذهب.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا – ط. جامعة الإمام – الرياض.(87/279)
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر – نشر دار الشعاع – الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال – دار الثقافة – بيروت.
- الأدب المقارن، ماريوس فرانسوا غويا، (سلسلة زدني علماً).
- المذاهب الأدبية الكبرى، فيليب فان تيفيم (سلسلة زدني علماً).
مراجع أجنبية :
- Lanson: Histoire de la litterature francaise. Paris 1960.
- De segure: Histoire de la letterature Europieenne, 1959.
العدمية
التعريف :
العدمية مذهب(*) أدبي وفلسفي ملحد، اهتم بالعدم باعتباره الوجه الآخر للوجود، بل هو نهاية الوجود، وبه نعرف حقيقة الحياة بعيداً عن النظرة المثالية والنظرة الواقعية السطحية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= من أهم الشخصيات العدمية في مجال الأدب ديستوفسكي الروائي الروسي، وفي مجال الفلسفة نيتشه صاحب مقولة (موت الإله) والعدمية ترى أن الوجود الإلهي وعدمه سواء ولايحسن أن يجهد الناس أنفسهم في هذا الموضوع. والمؤرخون يفرقون بين الإلحاد والعدمية من حيث أن الملحد يختار جانب الإلحاد(*) الصريح (سارتر مثلاً) أما العدمي فيرى أن المسألة سواء (يستوي الوجود الإلهي وعدمه) وديستوفسكي يرى أنه إذا كان الإله(*) غير موجود فكل شيء مباح ولا معنى للأخلاق(*).
= وهذا المذهب مرفوض إسلاميًّا لأننا مطالبون أولاً بتقرير الوجود الإلهي والتوحيد الخالص وثانياً تقرير ارتباط قيام الأخلاق على التشريع الإسلامي في مصدرية الأساسيين، فالأديب والفيلسوف العدمي يناقضان الإسلام.(87/280)
= برزت العدمية في روايات الواقعية النقدية لجوستاف فلوبير 1821 – 1880م وأندريه دي بلزاك 1799 – 1850م وفي أعمال الطبيعة الانطباعية لأميل زولا 1840 – 1902م في القرن التاسع عشر. إلا أن الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير هو المعبر الأول عن العدمية في رواياته، ثم أصبحت مذهباً أدبياً لعدد كبير من الأدباء في القرن التاسع عشر.
= ويعد الشاعر والناقد جوتفريد بن 1886 – 1956م من أبرز العدميين الذين وضحوا معنى العدمية كمذهب أدبي، إذ قال بأن العدمية ليست مجرد بث الياس والخضوع في نفوس الناس بل مواجهة شجاعة وصريحة لحقائق الوجود.
= وقد رحب هذا الشاعر بالحكومة النازية عندما قامت في الثلاثينات من هذا القرن على أساس أنها مواجهة حاسمة للوجود الراكد. إلا أنه عُدَّ عدواً للنازية لأنه قال بأن البشر متساوون أمام العدم والفناء وليس هناك جنس مفضل على غيره. وقد صودرت جميع أعماله الأدبية عام 1937م.
الأفكار والمعتقدات :
= إن الإنسان خُلق وله إمكانات محدودة، وعليه لكي يثبت وجوده، أن يتصرف في حدود هذه الإمكانات، بحيث لا يتحول إلى يائس متقاعس أو حالم مجنون.
= إن البشر يتصارعون، وهم يدركون جيداً أن العدم في انتظارهم وهذا الصراع فوق طاقتهم البشرية، لذلك يتحول صراعهم إلى عبث لا معنى له.
= ينحصر التزام الأديب العدمي في تذكرة الإنسان بحدوده حتى يتمكن من استغلال حياته على أحسن وجه.
= العمل الأدبي يثبت أن لكل شيء نهاية، ومعناه يتركز في نهايته التي تمنح الدلالة للوجود، ولا يوجد عمل أدبي عظيم بدون نهاية وإلا فقد معناه، وكذلك الحياة تفقد معناها إذا لم تكن لها نهاية.
= الرومانسية المثالية في نظر الأديب العدمي مجرد هروب مؤقت لا يلبث أن يصدم الإنسان بقسوة الواقع وبالعدم الذي ينتظره، وقد يكون في هذا الاصطدام انهياره أو انحرافه.(87/281)
= يهدف الالتزام الأدبي للعدمية إلى النضوج الفكري للإنسان ورفعه من مرتبة الحيوان الذي لا يدرك معنى العدم.
= تهدف العدمية إلى الغاء الفواصل المصطنعة بين العلم والفن، لأن المعرفة الإنسانية لا تتجزأ في مواجهة قدر الإنسان، وإذا اختلف طريق العلم عن طريق الفن فإن الهدف يبقى واحداً وهو: المزيد من المعرفة عن الإنسان وعلاقته بالعالم.
= إن اتهام العدمية بالسلبية وإشاعة روح اليأس، يرجع إلى الخوف من لفظ العدم ذاته وهذه نظرة قاصرة، لأن تجاهل العدم لا يلغي وجوده من حياتنا.
= العدمية ليست مجرد إبراز الموت والبشاعة والعنف والقبح ولكن الأديب العدمي هو الذي ينفذ من خلال ذلك إلى معنى الحياة، وبذلك يوضح بأن العدم هو الوجه الآخر للوجود، ولا يمكن الفصل بينهما لأن معنى كل منهما يكمن في الآخر.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= ترجع العدمية في أفكارها إلى مسرحيات الإغريق القدامى، التي تصور الإنسان وصراعه مع الأقدار وكأنه صراع ضد فكرة العدم.
= وكذلك العقائد النصرانية وما تتضمنه من معاني الموت، ونهاية العالم، واليوم الآخر، والحساب .. الخ.
= إلا أن العدمية لم تبلور العقيدة الدينية في الحياة والموت.. في الإيمان الذي يبعث على عمل الخير والجد، والاجتهاد لإعمار الأرض لتكون الحياة عليها سعيدة مطمئنة. وإنما اقتصرت على تصوير معاني العدم والجانب السلبي في الحياة، على نحو يوحي بأن العدم هو الوجود الخالد، وطالما كان الأمر كذلك فإن الإلحاد يحيط بالعدمية من كل جانب.
أماكن الانتشار:
= انتشرت العدمية في فرنسا وإنكلترا بشكل خاص والعالم الغربي عامة.
ويتضح مما سبق :(87/282)
أن العدمية مذهب(*) أدبي ملحد يعتبر العدم نهاية الوجود، ووفقاً لهذا المذهب ينحصر التزام الأديب العدمي في تذكير الإنسان بحدوده حتى يستغل حياته استغلالاً عدميًّا، ينضج معه فكر الإنسان، حسب زعم هذا المذهب، نضجاً يرفعه من مرتبة الحيوان الذي لا يدرك معنى العدم إلى مرتبة الأديب المدرك له والذي يلغي الفواصل المصطنعة بين العلم والفن، فالأديب العدمي هو الذي ينفذ من خلال الموت والبشاعة والعنف والقبح إلى معنى الحياة العدمية، فالعدم هو الوجه الآخر للوجود. ولا شك أن هذه الأفكار لا تخدم أية فكرة أخلاقية أو دينية، بل إنها تتنافى كلية معهما.
---------------------------------
مراجع للتوسع :
- المدخل إلى النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال – ط2- القاهرة 1962م.
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي – ط2- القاهرة 1962م.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر- القاهرة.
- المذاهب الأدبية الكبرى، فليب فان تيغيم – (سلسلة زدني علماً).
- Braunschvig. La Literature Contemporaine Etudiee dans les textes.
- Braunschvig: Notre Litterature Etudiee dans le texte. Paris 1949.
- Lanson: Histoire de la litterature Francaise, Paris. 1916.
- De Segur (Nicola): Histoire de la Litterature Europeenne. 1959.
البرناسية (مذهب الفن للفن)
التعريف :
البرناسية مذهب(*) أدبي فلسفي لا ديني قام على معارضة الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وعرض عواطف الفرد الخاصة على الناس شعراً واتخاذه وسيلة للتعبير عن الذات، بينما تقوم البرناسية على اعتبار الفن غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير عن الذات، وهي تهدف إلى جعل الشعر فناً موضوعيًّا همه استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة أو إضفائه على تلك المظاهر، وترفض البرناسية التقيد سلفاً بأي عقيدة أو فكر أو أخلاق(*) سابقة.
وهي تتخذ شعار "الفن للفن".(87/283)
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= أطلق أحد الناشرين الفرنسيين على مجموعة من القصائد لبعض الشعراء الناشئين اسم "البرناس المعاصر" إشارة إلى جبل البرناس الشهير باليونان التي تقطنه "آلهة الشعر" كما كان يعتقد قدماء اليونان إلا أن الاسم ذاع وانتشر للتعبير عن اتجاه أدبي جديد. وإن كان دعاة هذا المذهب قد انتسبوا إلى مذاهب أدبية أخرى تشكلت فيما بعد ومنهم:
- شارل بودلير 1821 – 1867م وهو شاعر فرنسي، نادى بالفوضى الجنسية، ووصف بـ "السادية" أي التلذذ بتعذيب الآخرين.
- ومنهم تيوفيل جوتييه 1811 – 1872م وهو من أكبر طلائع البرناسية.
- ومنهم لو كنت دي ليل ويعد رئيس هذا المذهب، وقد تبلورت مبادئه بعد منتصف القرن التاسع عشر وانتهى به الأمر إلى أن ترك النصرانية إلى البوذية.
- ومالا راميه 1842 – 1898م وهو شاعر فرنسي، ويعد من أشد المدافعين عن هذا المذهب. ومن أعمدة المذهب الرمزي أيضاً.
الأفكار والمعتقدات:
= اعتبار الأدب والفن غاية في ذاتيهما وأن مهمتهما الإمتاع فقط لا المنفعة، وإثارة المشاعر وإلهاب الإحساس ليتذوق الإنسان الفن الجيد.
= تحطيم القديم وتدميره لبناء العالم الجديد الخالي من الضياع، حسب زعمهم، والقديم في رأيهم، هو كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق والقيم.
= يحقق الإنسان سعادته عن طريق الفن لا عن طريق العلم.
= استبعاد التعليم والتوجيه التربوي عن الشعر والفن عامة. والاهتمام بالشكل والتعبير الأدبي أكثر من اهتمامهم بالمضامين الفنية والأدبية.
= إن الحياة تقليد للفن وليس العكس.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= كان أرسطو الفيلسوف اليوناني 383 – 322 ق.م أول من هاجم الاتجاه التعليمي والأخلاقي في الشعر، وكان يرد بذلك على أفلاطون الذي قرر أن الشعر خادم الفلسفة(*) الأخلاقية وفكرة الإرشاد التعليمي.(87/284)
= وبعد سقوط الإمبراطورية الإغريقية، وسيطرة الإمبراطورية الرومانية بكل اتجاهاتها العملية والنفعية، سيطر الاتجاه التعليمي على الأدب.
= سيطرت الكنيسة (*) على الفلسفة والأدب وبقي الاتجاه التعليمي في الشعر هو السائد. ومع ذل وجد من يتذوق الشعر من أجل القيم الجمالية، كالقديس أوغسطيوس في كتابه النظرية المسيحية(*) حيث يؤكد على المتعة الفنية التي تذوقها هو في الأسلوب الأدبي الذي كتبت به الأناجيل(*).
= ورغم تطور النقد الأدبي في القرن السادس عشر إلا أنه لم يتغلب على الاتجاه التعليمي في الأدب.
= وفي القرن السابع عشر يؤكد بيركورني أن الهدف الأساسي في الشعر المسرحي هو المتعة الفنية.
= وبمرور الزمن ازداد الهجوم على الجانب التعليمي للفن من قبل ورد زورث 1770- 1850م والشاعر شيللي 1792 – 1822م ورواد المدرسة الرمزية أمثال بودلير ومالا راميه.
= وفي مطلع القرن العشرين اعتبر النقاد نظرية الفن للفن.. دفاعاً مستميتاً عن الفن حتى لا تستخدم في الأغراض النفعية المؤقتة.
= والواقع أن المضمون الفكري والعقائدي لهذا المذهب(*) - غير الصورة الخارجية المتعلقة بالمتعة الفنية – هو رفض كل فكرة وعقيدة وأخلاق سابقة وخاصة ما يتعلق بالدين(*) وإن كان هذا الأمر لم يكن واضحاً في آثار أصحاب المذاهب.
= لذلك كان الهجوم على مدرسة الفن للفن، بعد انحرافها الكبير عن الحياة الواعية العاقلة من قبل بعض النقاد أمثال ت.س. اليوت الذي اتهم أصحابها بالخطأ وقصر النظر، وقرر أنه لابد من الالتزام للأديب أو الشاعر. وأن غاية الشعر والنقد تُلزم كل شاعر وناقد أن تكون الكتابة ذات نفع اجتماعي ما للقارىء.
الانتشار ومناطق النفوذ:
= مذهب(*) الفن للفن مثل بقية المذاهب الأدبية نشأ في أوروبا، وأشد المتحمسين له كانوا في فرنسا، أم المذاهب تقريباً، ولكن كان له أنصار في ألمانيا وإيطاليا، ووصل المذهب إلى أمريكا وغيرها من الدول.(87/285)
إلا أنه تقلص بعد ذلك وتقوقع على نفسه بعد أن وجه له النقد الشديد لانحرافه عن كثير من الأصول التي بني عليها، والقيم التي كان يلزمه التقيد بها.
= ملاحظة:
- يلاحظ أن البرناسية تعزل الأدب عن قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية وتجعله غاية في حد ذاته، والإسلام يحدد غايات الإنسان في الحياة، ولا يقبل أن يكون الأدب غاية في ذاته، كما يرفض الإسلام الأدب المكشوف الذي يستخدم كأداة للانحراف ويقيس قيمته بموازين الخير والشر، وإذا صدر الأدب عن تصور يرفض القيم الدينية فهو مرفوض شكلاً وموضوعاً مهما سمت قيمته الأدبية وفقاً لمقاييس الصياغة أو حسن التعبير.
ويتضح مما سبق:
أن البرناسية مذهب أدبي فلسفي لا ديني، يعارض الرومانسية من حيث أنها مذهب الذاتية في الشعر، وهو يعتبر الأدب والفن غاية في حد ذاتيهما، لا وسيلة للتعبير عن الذات، ويرنو إلى تحطيم كل ما هو قديم وتدميره من أجل بناء العالم الجديد الخالي من الضياع حسب زعم أنصار المذهب. ولما كان القديم في هذا المذهب يعني كل ما ينطوي على العقائد والأخلاق(*) والقيم، فإن تحطيم القديم يعني في هذا المذهب(*) وجوب تحطيم الدين(*) والقيم الأخلاقية الأمر الذي يجب أن يتنبه له الشباب المسلم وهو يدرس هذا المذهب ويتعامل مع حصاده الفكري.
الرد الإسلامي على نظرية الفن للفن:
- الأدب في الإسلام والفن يجب أن يكون ملتزماً بالقيم الإسلامية وبمراعاة مبدأ التوحيد الخالص وبمراعاة نهي الإسلام عن التصوير والتجسيد، أما الفن للفن فإتباع للهوى وقد يؤدي بالفنان إلى تصوير ما يثير الشهوات ويفسد الأخلاق، وذلك مناقض لما تجب مراعاته من ضرورة الالتزام بأصول الفقه وأهم قواعده (لا ضرر ولا ضرار) والفن للفن يؤدي إلى إضرار أو إلى عدم منفعة وكلاهما موقف غير إسلامي.
------------------------------
مراجع للتوسع:
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. نبيل راغب – مكتبة مصر - القاهرة.(87/286)
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية ، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- مذاهب الأدب الغربي ،د. عبد الباسط بدر – مكتبة البيت – الكويت.
- الأدب المقارن ، د. محمد غنيمي هلال – دار الثقافة – بيروت.
المراجع الأجنبية:
- De Segur: Histoire de la litterature Europeenne. Paris. 1959.
- Lanson: Histoire de la litterature Francaise Paris. 1960.
- The Oxford Companion to English Literature. Edited by Margaret Drabble.
- The Cambridge Guide to Literature in English, edited by Ian Ousby.
- Encyclopedia Britanicca V 10 Literature – Westing.
الانطباعية (التأثرية)
التعريف :
الانطباعية مذهب(*) أدبي فني، ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، وهو يعتبر الإحساس، والانطباع الشخصي الأساس في التعبير الفني والأدبي، لا المفهوم العقلاني للأمور. ويرجع ذلك إلى أن أي عمل فني بحث لابد أن يمر بنفس الفنان أولاً، وعملية المرور هذه هي التي توحي بالانطباع أو التأثير الذي يدفع الفنان إلى التعبير عنه.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= أطلقت الانطباعية في البداية على مدرسة في التصوير ترى أن الرسام يجب أن يعبر في تجرد وبساطة عن الانطباع الذي ارتسم فيه حسيّاً، بصرف النظر عن كل المعايير العلمية، وبخاصة في ميدان النقد الأدبي، فالمهم هو الانطباع الذي يضفيه الضوء مثلاً على الموضوع لا الموضوع نفسه.
ومن أهم شخصياتها:
- أناتول فرانس 1844 – 1924م – الأديب الفرنسي، وهو يعد رائد الانطباع في الأدب، بعد أن انتقل المصطلح من الرسم إلى الأدب، ويرى أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارىء وهذا الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي.
- إنطونان بروست: ويعد من أبرع من جسد الانطباعية الأدبية فهو حين يصف مشهداً أو ينقل أحاسيسه إزاء مشهد، تتجسد أمامنا لوحة انطباعية.(87/287)
الأفكار والمعتقدات:
= طالما أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارىء، فإن على الأديب أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، لأن الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي.
= إن الفنان يحس أو يتأثر أولاً، ثم ينقل هذا الانطباع أو التأثير عن طريق التعبير. ولا يكترث للمعايير المتبعة للنقد الأدبي.
= الانطباعية تقول: (أنا أحس إذن أنا موجود) بدلاً من العقلانية التي تقول على لسان ديكارت: (أنا أفكر إذن أنا موجود).
= كل معرفة لم يسبقها إحساس بها لا تجدي..
= المضمون هو المهم لا الشكل الفني عند الأديب الانطباعي في نقل انطباعه الذاتي للآخرين.
= العالم الخارجي مجرد تجربة خاصة وأحاسيس شخصية وليس واقعاً موضوعيًّا موجوداً بشكل مستقل عن حواس الفرد.
= من النقد الذي وجه للانطباعيين أنهم جروا وراء التسجيل الحرفي للانطباع ونسوا القيمة الجمالية التي تحتم وجود الشكل الفني في العمل الأدبي.
= وأن أدب الاعترافات والخطابات الأدبية اللذين أدت إليهما الانطباعية، حيث يعبر فيهما الأدباء عن مكنونات صدورهم، تحولا إلى مجرد مرآة لحياة الأديب الداخلية، أي أن هؤلاء ينظرون للأدب على أنه مجرد ترجمة ذاتية أو سيرة شخصية للأديب.
= وهكذا فقد أصبح النقد الأدبي والتذوق الفني مجرد تعبير عن الانفعالات الشخصية والأحاسيس الذاتية التي يثيرها العمل الأدبي في الناقد.
= والفرق بين الانطباعية الشكلية والانطباعية الأدبية هو أن الانطباعية الشكلية تهتم بالشكل (تسليط الضوء على الإطار الخارجي)، بينما تهتم الانطباعية الأدبية بالمضمون الأدبي من خلال تأثير الأديب الانطباعي على القارىء.
الجذور الفكرية والعقائدية:(87/288)
= إن العالم الحديث وما يتضمنه من أنانية فردية، وذاتية غير أخلاقية هو الذي أفرز مذهب الانطباعية حيث فرض على الفرد العزلة، فأصبحت أفكاره تدور حول ذاته، وليس العالم عنده سوى مجموعة من المؤثرات الحسية العصبية، والانطباعات والأحوال النفسية، ولا يهمه الاهتمام بالعالم وإصلاحه أو تغييره إلى الأفضل.
الانتشار وأماكن النفوذ:
بدأت الانطباعية في فرنسا، ثم انتشرت في أوروبا.. وهي اتجاه يدخل في جميع المدارس الأدبية ، حيث الانطباع عنصر أولي في أي عمل فني، ولكنه ليس كل شيء.. ولذلك اندثرت عندما اقتصرت على فكرة أن الانطباع هو الهدف الوحيد والمادة الخام التي يتشكل منها أي عمل فني.
ويتضح مما سبق :
أن الانطباعية أو التأثيرية مذهب(*) أدبي فني ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، ومضمونه اعتبار الانطباع الشخصي والإحساس، بمثابة الأساس في التعبير الفني والأدبي، بحيث تكمن قيمة العمل الأدبي في نوعية الانطباعات التي يتركها هذا العمل في نفس القارىء، الأمر الذي يستلزم تبني الأديب أو الفنان لهذه الحقيقة، فالإحساس وليس العقل(*) والتفكير، هو معيار وجود الإنسان وفق هذا المذهب، وكل معرفة لا يسبقها إحساس بها فهي معرفة غير مجدية، والعبرة بمضمون العمل الفني وليس بشكله، ولا يعبأ هذا المذهب بإصلاح أحوال الناس أو تغيير العالم إلى الأفضل. ومن هنا كانت الثغرات الأخلاقية والاجتماعية في هذا المذهب الأدبي ذات أثر كبير على كل من يطلع على نتاجه دون أن يكون ملماً سلفاً بفكرته تلك ولأن الفنان الانطباعي غير ملتزم إلا بالرؤية الحسية وتصوير ما انطبع على حواسه حتى لو لم يره الآخرون، وحتى لو عارضت انطباعاته القيم السامية وأدت من ثم للإضرار بالناس.
مراجع للتوسع :
- الأدب المقارن ، د. محمد غنيمي هلال – دار الثقافة – بيروت.
- المدخل إلى النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال – القاهرة 1959م.(87/289)
- الانطباعية، تأليف موريس سيرولا – ترجمة هنري زغيب – منشورات عويدات.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر.
- النقد الجمالي، أندريه ريشار – ترجمة هنري زغيب (سلسلة زدني علماً).
- الجمالية الفوضوية، أندريه رستسلر – ترجمة هنري زغيب (سلسلة زدني علماً).
- الفن الانطباعي، موريس سيرولا – (سلسلة زدني علماً ).
- J. Leymarie, L’Impressionmisme. Paris 1959. 2 Vol.
- G. Moore, Modern Painting, London – New York – 1893.
الوجودية
التعريف :
= الوجودية مذهب (*) فلسفي أدبي ملحد، وهو أشهر مذهب استقر في الآداب الغربية في القرن العشرين.
= ويركز المذهب على الوجود الإنساني الذي هو الحقيقة اليقينية الوحيدة في رأيه، ولا يوجد شيء سابق عليها، ولا بعدها، وتصف الوجودية الإنسان بأنه يستطيع أن يصنع ذاته وكيانه بإرادته ويتولى خلق أعماله وتحديد صفاته وماهيته باختياره الحر دون ارتباط بخالق أو بقيم خارجة عن إرادته، وعليه أن يختار القيم التي تنظم حياته.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= دخل المذهب الوجودي مجال الأدب على يد فلاسفة فرنسيين: هم جبرييل مارسيل المولود عام 1889م. وقد أوجد ما أسماه الوجودية المسيحية(*)، ثم جان بول سارتر الفيلسوف والأديب الذي ولد 1905م. ويعد رأس الوجوديين الملحدين والذي يقول: إن الله خرافة ضارة. وهو بهذا فاق الملحدين السابقين الذين كانوا يقولون إن الله خرافة نافعة.. – تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً – ومن قصصه ومسرحياته : الغثيان، الذباب، الباب المغلق.
= ومن الشخصيات البارزة في الوجودية: سيمون دي بوفوار وهي عشيقة سارتر. التي قضت حياتها كلها معه دون عقد زواج تطبيقاً عمليًّا لمبادىء الوجودية التي تدعو إلى التحرر من كل القيود المتوارثة والقيم الأخلاقية.
الأفكار والمعتقدات:(87/290)
= الوجود اليقيني للإنسان يكمن في تفكيره الذاتي، ولا يوجد شيء خارج هذا الوجود ولا سابقاً عليه، وبالتالي لا يوجد إله(*) ولا توجد مثل ولا قيم أخلاقية متوارثة لها صفة اليقين، ولكي يحقق الإنسان وجوده بشكل حر فإن عليه أن يتخلص من كل الموروثات العقدية والأخلاقية.
= إن هدف الإنسان يتمثل في تحقيق الوجود ذاته، ويتم ذلك بممارسة الحياة بحرية مطلقة.
= الالتزام في موقف ما – نتيجة للحرية(*) المطلقة في الوجودية – من مبادىء الأدب الوجودي الرئيسة.. حتى سميت الوجودية: أدب الالتزام أو أدب المواقف.. أي الأدب الذي يتخذ له هدفاً أساسياً أصحابه هم الذين يختارونه. وبذلك جعلوا القيمة الجمالية والفنية للأدب بعد القيمة الاجتماعية الملتزمة.
= ولقد نتج عن الحرية(*) والالتزام في الوجودية، القلق والهجران واليأس:
- القلق نتيجة للإلحاد(*) وعدم الإيمان بالقضاء والقدر(*).. ونبذ القيم الأخلاقية والسلوكية.
-والهجران الذي هو إحساس الفرد بأنه وحيد لا عون له إلا نفسه.
- واليأس الذي هو نتيجة طبيعية للقلق والهجران، وقد حاول سارتر معالجة اليأس بالعمل، وجعل العمل غياة في ذاته لا وسيلة لغرض آخر، وحسب الوجودي أن يعيش من أجل العمل وأن يجد جزاءه الكامل في العمل ذاته وفي لذة ذلك العمل.
الجذور الفكرية :
= ترجع بذور مذهب(*) الوجودية إلى الكاتب الدانمركي كيركا جورد 1813 – 1855م وقد نمَّى آراءه وتعمق فيها الفيلسوفان الألمانيان مارتن هيدجر الذي ولد عام 1889م، وكارك يسبرز المولود عام 1883م.
وقد أكد هؤلاء الفلاسفة أن فلسفتهم ليست تجريدية عقلية، بل هي دراسة ظواهر الوجود المتحقق في الموجودات.
= والفكر الوجودي لدى كيركاجورد عميق التدين، ولكنه تحول إلى ملحد إلحالداً صريحاً لدى سارتر.
- ومهما حاول بعض الوجوديين العرب، وغيرهم، تزيين صورة الوجودية، إلا أنها ستبقى مذهباً هداماً للأديان والعقائد والقيم الأخلاقية.
أماكن الانتشار:(87/291)
= انتشرت الوجودية الملحدة في فرنسا بشكل خاص، وكانت قصص ومسرحيات سارتر من أقوى العوامل التي ساعدت على انتشارها.
ويتضح مما سبق:
أن الوجودية مذهب فلسفي أدبي ملحد، وهو أشهر المذاهب الأدبية التي استقرت في الآداب الغربية في القرن العشرين ويرى أن الوجود الإنساني هو الحقيقة اليقينية الوحيدة عند الوجوديين، بحيث إنه لا يوجد شيء سابق على الوجود الإنساني كما أنه لا يوجد شيء لاحق له، ولذا فإن هدف الإنسان يتمثل في تحقيق الوجود ذاته، ويتم ذلك بممارسة الحياة بحرية مطلقة. وقد أفرز هذا المذهب(*) أموراً عديدة منها القلق واليأس نتيجة للإلحاد وعدم الإيمان وهما من ركائز هذا المذهب. لذا يجب أن يعي الشباب المسلم حقيقة هذا المذهب وهو يتعامل مع إفرازاته.
ولا شك أن الإسلام يرفض الوجودية بجميع أشكالها ويرى فيها تجسيداً للإلحاد(*) كما أن قضايا الحرية(*) والمسؤولية والالتزام التي تدعو إليها الوجودية غير مقيدة بأخلاق(*) أو معتقدات دينية. وهي تنادي بأن الإنسان لا يدري من أين جاء ولا لماذا يعيش وهذه جميعها أمور محسومة في الإسلام وواضحة كل الوضوح في عقل وضمير كل مسلم آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً (*) نبيًّا (*) وقدوة وإماماً.
----------------------------
مراجع التوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا – ط جامعة الإمام 1405هـ.
- الأدب المقارن، للدكتور محمد غنيمي هلال.
- الأدب ومذاهبه، للدكتور محمد مندور – دار نهضة مصر – القاهرة.
- الموسوعة الفلسفية المختصرة، لمجموعة من المؤلفين – دار القلم – بيروت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، للدكتور نبيل راغب- مكتبة مصر – القاهرة.
المراجع الأجنبية :
Existentialism and Humanism by J.P. Sartre, London, 1955.
Literary and Philosophical Essays by J.P. Sartre, London, 1955.(87/292)
Histoire de la litterature Francaise Paris 1960.
التعبيرية
التعريف :
= التعبيرية مذهب(*) أدبي فلسفي تجريبي لا انطباعي، إذ يعطي الأديب فيه للتجربة بعداً ذاتيًّا ونفسيّاً وذلك على عكس الانطباعية التي تركز على التعبير عن الانطباع الخارجي عن الذات.
= وقد اهتمت التعبيرية بالمسرح كما اهتمت بضروب الأدب الأخرى.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= لقد تفرعت المدرسة التعبيرية إلى اتجاهات متعددة وهي:
- الاتجاه التطبيقي: ويقول أصحاب هذا الاتجاه: إن مهمة الأدب هي تنشيط عقل الإنسان ووجدانه، ومنعهما من الركود والبلادة، وليس مجرد تقديم صورة لما يراه الإنسان بالفعل في حياته اليومية .
ومن شخصيات هذا الاتجاه توللر وهاسين كليفر وبيتشر وكابر والأمريكي جون هاورد لوسون.
- الاتجاه اللاعقلاني: ويقول أصحاب هذا الاتجاه إن المعقول هو ما اتفق عليه الناس، وعلى المسرح أن يعالج ما لم يتفق عليه الناس بعد.
= ومن شخصيات هذا الاتجاه:
- صمويل بيكيت المولود سنة 1906م وهو روائي ومسرحي أيرلندي الأصل. كان يكتب مسرحياته بالفرنسية.
- أونسكو المولود سنة 1912م وهو مسرحي روماني الأصل، ويعد من أركان مسرح اللامعقول.
- ومن رموز التعبيرية أيضاً كافكا وأونيل الذي بلغت التعبيرية قيمتها في إحدى مسرحياته المتأخرة أيام بلا نهاية.
الأفكار والمعتقدات:
= يتركز هدف الفن التعبيري في التجسيد الموضعي الخارجي للتجربة النفسية المجردة، عن طريق توسيع أبعادها، وإلقاء أضواء جديدة عليها، لكي تكشف عن الأشياء التي يخفيها الإنسان أو التي لا يستطيعون رؤيتها لقصر نظرهم.
= وتجسد التعبيرية جوهر الأشياء، دون إظهار خارجها، ولذلك فهي لا تعترف بأن هناك تشابها بين الظاهر والباطن.
= تهتم التعبيرية بالإنسان كله، ولذا فإن الشخصيات في المسرح التعبيري تتحول إلي مجرد أنماط أكثر منها أناس من لحم ودم. وأحياناً تتحول إلي مجرد أرقام أو مسميات عامة.(87/293)
- تقوم المسرحية التعبيرية على شخصية محورية تمر بأزمة نفسية أو عاطفية، لذلك يستعين المؤلف بعلم النفس في أحيان كثيرة حتى يبلور مأساة الشخصية الداخلية.
= ركز أصحاب المذهب(*) التعبيري علي مهمة الأدب التقليدي الذي غالباً ما يتميز بالمحدودية والغباء وضيق الأفق.
= الاتجاه اللاعقلاني في التعبيرية يعد الابن الشرعي للمذهب السريالي الأم. ولذلك يعد ثورة على منطق الحياة وعلى العقل، لذلك لا يخضع لقواعد الفن. ويعتقد بأن الحياة في جوهرها وفي حقيقتها التجريدية شيء لا معقول أي غير مفهوم وغير قابل للفهم أو للتفسير.
- ويعد هذا الاتجاه أيضا من أمراض العصر الحاضر المملوء بالقلق واليأس من الحياة، والمصير المظلم الذي ينتهي بالموت.
نقد للاتجاه اللاعقلاني في التعبيرية:
- هاجم الناقد الفرنسي: مورياك.. في كتابه الأدب المعاصر أدب بيكيت اللامعقول. فقال:" إننا لا نعرف من بيكيت شيئاً محققاً أو واضحاً ولا نفهم شيئاً مما يقول على حقيقته".
- وكذلك هاجم أدب اللامعقول، الناقد أندريه مارسيل فقال:" يبدو أن الهدف الرئيسي لبيكيت هو كتابة العمل الأدبي الذي لا يكتب والذي لا يمكن تأليفه، إنها محاولة نحو المستحيل، وهي مأساة فشل لا مفر منه، ومجرد أكوام من الحطب المحترق التي تملأ الجو دخاناً في أرض مبهمة مجهولة".
الجذور الفكرية والعقائدية:
= تعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من دمار في الأرض، ودمار في النفوس والأفكار المحضن الحقيقي للاتجاه اللاعقلاني في الأدب، لذلك كان اليأس والتشاؤم والقلق هو الغالب على مسرحيات هذا الاتجاه، إذ إن كثيراً من المفكرين والأدباء الأوروبين فقدوا الأمل في الفكر العقلاني الواعي، لأن ما جرى خلال الحرب ينافي العقل والمنطق(*) في رأيهم.
الانتشار وأماكن النفوذ:
نشأت التعبيرية في فرنسا وألمانيا وانتشرت بعد ذلك في أوربا والعالم الغربي كله.
يتضح مما سبق:(87/294)
أن التعبيرية مذهب أدبي فلسفي، يهتم بالتجربة الإنسانية، ويعطيها بعداً ذاتياً ونفسيًّا، فالعبرة فيه بجوهر الشيء لا بمظهره، لأنه لا يوجد أي تشابه بين الظاهر والباطن. وفي مجال المسرح يركز هذا المذهب على فكرة الشخصية المحورية التي تجتاز أزمة نفسية أو عاطفية ويتم تحليل أبعادها الخارجية من خلال معطيات علم النفس وأدواته. ويعد هذا المذهب مظهراً من مظاهر أمراض العصر الذي يغصّ بالقلق واليأس من الحياة والمصير المظلم الذي يسود كثيراً من دول الغرب وينتهي بكثير من الناس إلى فقدان الإحساس بقيمة الحياة والقيم الروحية التي تثريها وتجعل للإنسان فيها هدفاً ولوجوده معنى.
= تعقيب :
- الإسلام لا يمنع التعبير عن مكنونات النفس إذا كان ذلك لا يتعارض مع معطيات الشرع، كالإفضاء بأسرار الحياة الزوجية مثلاً أو الدعوة إلى الإباحية وهكذا، وفي نفس الوقت يحبب حياة الجد والعمل والاجتهاد، ويمحو مفاهيم الفوضى والعدمية واللامعقول من عقول الناس حتى لا تسيطر عليها وتحيل الحياة إلى جحيم لا يطاق.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- الأدب ومذاهبه، د. محمد مندور دار نهضة مصر – القاهرة.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، فليب فان يتغيم، ترجمة فريد أنطوانيوس – (سلسلة زدني علماً).
المراجع الأجنبية:
- De Segur: Histoire de la litterature Europieenne. Paris 1959.
- Lanson: Histoire de la litterature Francaise Paris 1960.
العبثية
التعريف :(87/295)
العبثية مدرسة أدبية فكرية، تدعي أن الإنسان ضائع لم يعد لسلوكه معنى في الحياة المعاصرة، ولم يعد لأفكاره مضمون وإنما هو يجتر أفكاره لأنه فقد القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي ، نتيجة للرغبة في سيطرة الآلة على الحياة لتكون في خدمة الإنسان حيث انقلب الأمر فأصبح الإنسان في خدمة الآلة، وتحول الناس إلى تروس في هذه الآلة الاجتماعية الكبيرة. وجاءت مدرسة العبث كمرآة تعكس وتكبِّر ما يعاني منه إنسان النصف الثاني من القرن العشرين عن طريق تجسيده في أعمال مسرحية ورواية شعرية، لعله ينجح في التخلص من هذا الانفلات في حياته ويفتح الطريق أمام ثورة هائلة في الإمكانيات ومن التجديد في وسائل التعبير فيتولد لديه الانسجام والفهم لما يحدث.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= نشأ مذهب(*) العبث في الأدب الأوروبي وانتقل إلى الآداب العالمية المعاصرة بصفة عامة، والدول التي عانت من الحرب العالمية الأولى والثانية بصفة خاصة، وهي الدول التي فقدت ثقتها في مجرد المسلك العقلي المنطقي الذي يمكن أن يدمر في لحظات كل ما يبنيه الإنسان من مدنية عندما تحكمه شهوة السيطرة والتدمير، كما فعل هتلر في الحرب العالمية الثانية.
= ومن العبث التفتيش عن معنى للسلوك الإنساني، في رأي أصحاب مذهب العبث؛ فإن الآلة التي اخترعها الإنسان قد سيطرت عليه، وأصبح هو نفسه ترساً فيها، مما أدى إلى إحساسه بالعبث والضياع في المضحك المؤلم.
= ومن أبرز شخصيات مذهب العبث الفرنسيين:
- صامويل بيكيت 1906م 000 الرائد الأول لمذهب العبث، وقد ألف في جميع الأشكال الأدبية، ومنح جائزة نوبل عام 1969م.
- أوجين يونسكو 1912-0000 وهو كاتب فرنسي ويعد من أركان مسرح اللامعقول.
الأفكار والمعتقدات:
= يمكن إجمال أفكار ومعتقدات مذهب(*) العبثية الأدبي والفكري فيما يلي:(87/296)
- انعدام المعنى والمضمون وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر وذلك نتيجة ما قيل إنه الفراغ الروحي والابتعاد عن الإيمان الذي لا يكون للحياة معنى وغاية بدونه.
- إن الآلة التي سيطرت على الإنسان في المدنية الغربية، أدت إلى تحلل المجتمع وتفككه ولم يعد هناك روابط أسرية أو اجتماعية.
- إن تصوير الحياة المعاصرة وما فيها من تشتت وفقدان للرؤية الواضحة ورتابة مملة، وقلق وعدم أمان، يحول الحياة إلى وجود لا طعم فيه ولا معنى.
- التأثر بآراء فرويد في علم النفس التحليلي وما فيه من إيحاءات وأحلام وخيالات وأوهام.
- الخوف والرهبة من الكون، وهذا الخوف يقضي على كل تفكير عقلاني متماسك.
إتباع أسلوب الألغاز والغموض في التعبير، حيث لا يفهم النقاد ما ينتجون من أدب وشعر.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= تعد مدرسة السريالية الفرنسية الأساس لمذهب العبث، وذلك لما تحويه من شطحات العقل الباطن، وهلوسة عالم الأحلام الزاخر بالهواجس والآلام والآمال.
= كما تعد المدرسة الرمزية من جذور مذهب العبث وما تحويه من صور مشوشة مضطربة تجمع بين الجمال والقبح والأسطورة والواقع، كذلك فإن آراء فرويد النفسية وما تحويه من إيحاءات وأحلام نتيجة تحليله النفسي للمرضى والمعتوهين تعتبر من الجذور الفكرية لمذهب العبث.
أماكن الانتشار:
بدأ مذهب العبثية في فرنسا ثم انتشر في كافة أوروبا والعالم الغربي خاصة.
ويتضح مما سبق :(87/297)
أن العبثية مدرسة أدبية فكرية لا تقيد نفسها بكثير من القيم الإنسانية، ولا ترى أن هناك أي مضمون حقيقي وراء السلوك الإنساني، الذي تحلل في المجتمع الغربي بسبب سيطرة الآلة على مسارات الحياة حتى أنها جعلت الإنسان ترساً في هذه الآلة الضخمة. وقد تأثرت هذه المدرسة بآراء فرويد في علم النفس التحليلي وما فيه من أحلام وأوهام وخيالات، وترى وجوب إتباع أسلوب الغموض والألغاز في التعبير بحيث لا يفهم النقاد نتاج هذه المدرسة التي يقوم فكرها على أساس الخوف من الكون والرهبة منه وهو خوف يقضي على كل تفكير عقلاني. ومع كل ما تقدم فإنها ترجع ضياع الإنسان في الغرب إلى الفراغ الروحي، ولكنها لا تلزم نفسها بأية قيم دينية سلفاً، ولذا وجب النظر إلى نتاجها الفكري بحذر واهتمام.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، للدكتور. نبيل راغب مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب المقارن، د. محمد عفيفي هلال، دار العروة، بيروت.
- في الأدب، د. محمد مندور.
- الأدب ومذاهبه، د. محمد مندور.
- المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، ترجمة فريد أنطونيوس (سلسلة زدني علماً).
- الفوضوية، هنري أرفون (سلسلة زدني علماً).
- الجمالية الفوضوية، أندريه رستسلر (سلسل زدني علماً).
مراجع أجنبية:
- De Segur. Histoire de la letterature Europeenne. Paris. 1959.
- Lanson: Histoire de la letterature Francaise, Paris, 1960.
- Caramian (L) Symbolisme et poesie, l’Exemple anglais. Paris. 1947.
- Clouard (H). Histoire de la letterture Francaise du Symbolisme a nos jurs 1944 – 1949.
البنيوية
التعريف :
= البنيوية: منهج(*) فكري وأداة للتحليل، تقوم على فكرة الكلية أو المجموع المنتظم. اهتمت بجميع نواحي المعرفة الإنسانية، وإن كانت قد اشتهرت في مجال علم اللغة والنقد الأدبي، ويمكن تصنيفها ضمن مناهج النقد المادي الملحدة.(87/298)
- اشتق لفظ البنيوية من البنية إذ تقول: كل ظاهرة، إنسانية كانت أم أدبية، تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب علينا أن نحللها (أو نفككها) إلى عناصرها المؤلفة منها، بدون أن ننظر إلى أية عوامل خارجية عنها.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= كانت البنيوية في أول ظهورها تهتم بجميع نواحي المعرفة الإنسانية ثم تبلورت في ميدان البحث اللغوي والنقد الأدبي وتعتبر الأسماء الآتية هم مؤسسو البنيوية في الحقول المذكورة:
- ففي مجال اللغة برز فريدنان دي سوسير الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية الذي قال ببنيوية النظام اللغوي المتزامن، حيث أن سياق اللغة لا يقتصر على التطورية Diachronie، أن تاريخ الكلمة مثلاً لا يعرض معناها الحالي، ويمكن في وجود أصل النظام أو البنية، بالإضافة إلي وجود التاريخ، ومجموعة المعاني التي تؤلف نظاماً يرتكز على قاعدة من التمييزات والمقابلات، إذ إن هذه المعاني تتعلق ببعضها، كما تؤلف نظاماً متزامناً حيث أن هذه العلاقات مترابطة.
- وفي مجال علم الاجتماع برز كلا من: كلود ليفي شتراوس ولوي التوسير الذين قالا: إن جميع الأبحاث المتعلقة بالمجتمع، مهما اختلفت، تؤدي إلى بنيويات؛ وذلك أن المجموعات الاجتماعية تفرض نفسها من حيث أنها مجموع وهي منضبطة ذاتياً، وذلك للضوابط المفروضة من قبل الجماعة.
- وفي مجال علم النفس برز كل من ميشال فوكو وجاك لا كان اللذين وقفا ضد الاتجاه الفردي Test is Contest في مجال الإحساس والإدراك وإن كانت نظرية الصيغة (أو الجشتلت) التي ولدت سنة 1912م تعد الشكل المعبر للبنيوية النفسية.
الأفكار والمعتقدات :(87/299)
إن دراسة أي ظاهرة أو تحليلها من الوجهة البنيوية. يعني أن يباشر الدارس أو المحلل وضعها بحيثياتها وتفاصيلها وعناصرها بشكل موضوعي، من غير تدخل فكره أو عقيدته الخاصة في هذا، أو تدخل عوامل خارجية (مثل حياة الكاتب، أو التاريخ) في بنيان النص. وكما يقول البنيويون: "نقطة الارتكاز هي الوثيقة لا الجوانب ولا الإطار Test is Contest وأيضاً: "البنية تكتفي بذاتها. ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي من العناصر الغريبة عن طبيعتها".
وكل ظاهرة – تبعاً للنظرية البنيوية – يمكن أن تشكل بنية بحد ذاتها؛ فالأحرف الصوتية بنية، والضمائر بنية، واستعمال الأفعال بنية.. وهكذا.
= تتلاقى المواقف البنيوية عند مبادىء عامة مشتركة لدى المفكرين الغربيين، وفي شتى التطبيقات العملية التي قاموا بها، وهي تكاد تندرج في المحصلات التالية:
- السعي لحل معضلة التنوع والتشتت بالتوصل إلى ثوابت في كل مؤسسة بشرية.
- القول بأن فكرة الكلية أو المجموع المنتظم هي أساس البنيوية، والمردُّ التي تؤول إليه في نتيجتها الأخيرة.
- لئن سارت البنيوية في خط متصاعد منذ نشوئها، وبذل العلماء جهداً كبيراً لاعتمادها أسلوباً في قضايا اللغة، والعلوم الإنسانية والفنون، فإنهم ما اطمأنوا إلى أنهم توصلوا، من خلالها، إلى المنهج الصحيح المؤدي إلى حقائق ثابتة.
= في مجال النقد الأدبي، فإن النقد البنيوي له اتجاه خاص في دراسة الأثر الأدبي يتخلص: في أن الانفعال والأحكام الوجدانية عاجزة تماماً عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، لذا يجب أن تفحصه في ذاته، من أجل مضمونه، وسياقه، وترابطه العضوي، فهذا أمرٌ ضروري لا بد منه لاكتشاف ما فيه من ملامح فنية مستقلة في وجودها عن كل ما يحيط بها من عوامل خارجية.(87/300)
= إن البنيوية لم تلتزم حدودها، وآنست في نفسها القدرة على حل جميع المعضلات وتحليل كل الظواهر، حسب منهجها، وكان يخيل إلى البنيويين أن النص لا يحتاج إلا إلى تحليل بنيوي كي تنفتح للناقد كل أبنية معانيه المبهمة أو المتوارية خلف نقاب السطح. في حين أن التحليل البنيوي ليس إلا تحليلاً لمستوى واحد من مستويات تحليل أي بنية رمزية، نصيّة كانت أم غير نصيّة. والأسس الفكرية والعقائدية التي قامت عليها، كلها تعد علوماً مساعدة في تحليل البنية أو الظاهرة، إنسانية كانت أم مأدبية.
= لم تهتم البنيوية بالأسس العَقَديَّة والفكرية لأي ظاهرة إنسانية أو أخلاقية أو اجتماعية، ومن هنا يمكن تصنيفها مع المناهج(*) المادية (*) الإلحادية(*)، مثل مناهج الوضعية في البحث، وإن كانت هي بذاتها ليست عقيدة وإنما منهج وطريقة في البحث.
الجذور الفكرية والعقائدية:
تعد الفلسفة(*) الوضعية لدى كونت، التي لا تؤمن إلا بالظواهر الحسية – التي تقوم على الوقائع التجريبية – الأساس الفكري والعقدي عند البنيوية.
فهي تؤمن بالظاهرة – كبنية – منعزلة عن أسبابها وعللها، وعما يحيط بها.. وتسعى لتحليلها وتفكيكها إلى عناصرها الأولية، وذلك لفهمها وإدراكها.. ومن هنا كانت أحكامها شكلية كما يقول منتقدوها، ولذا فإن البنيوية تقوم على فلسفة غير مقبولة من وجهة نظر تصورنا الفكري والعقدي.
أماكن الانتشار:
البنيوية منهج مستورد من الغرب، وتعد أوروبا وأمريكا أماكن انتشارها، وأرضها الأصلية. وهي تنتشر ببطء في باقي بلاد العالم، ومنها البلاد العربية.
يتضح مما سبق:(87/301)
أن البنيوية منهج فكري نقدي مادي ملحد غامض، يذهب إلى أن كل ظاهرة إنسانية كانت أم أدبية تشكل بنية، لا يمكن دراستها إلا بعد تحليلها إلى عناصرها المؤلفة منها، ويتم ذلك دون تدخل فكر المحلل أو عقيدته الخاصة ونقطة الارتكاز في هذا المنهج(*) هي الوثيقة، فالبنية، لا الإطار، هي محل الدراسة، والبنية تكفي بذاتها ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي عنصر من العناصر الغريبة عنها، وفي مجال النقد الأدبي، فإن الانفعال أو الأحكام الوجدانية عاجزة عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر، ولذا يجب فحصه في ذاته من أجل مضمونه وسياقه وترابطه العضوي، والبنيوية، بهذه المثابة، تجد أساسها في الفلسفة الوضعية لدى كونت، وهي فلسفة لا تؤمن إلا بالظواهر الحسية، ومن هنا كانت خطورتها.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- البنيوية، تأليف جان بياجيه – ترجمة عارف منيمنة وبشير أوبري – منشورات عويدات – بيروت – باريس، ط4 1985م. (سلسلة زدني علماً).
- المعجم الأدبي، تأليف جبور عبد النور – دار العلم لملايين – بيروت، ط2 1984م.
- جريدة الحياة، العددان (10380 و10381) 26 و27 ذو الحجة 1411هـ مقال بعنوان: البنيوية كما يراها ثلاثة نقاد.
مراجع أجنبية:
- O. Ducrot. T. Todorov. Et… qu’est ce que le Structuralism. Paris 1968.
- Z. S. Harris, Methods in Structural Linguistics, Chicago, 1951.
السريالية
التعريف :(87/302)
= السريالية "أي ما فوق الواقعية أو ما بعد الواقع" هي مذهب(*) أدبي فني فكري، أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، وزعم أن فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وهي تسعى إلى إدخال علاقات جديدة ومضامين غير مستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية. وهذه المضامين تستمد من الأحلام؛ سواء في اليقظة أو المنام، ومن تداعي الخواطر الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، ومن هواجس عالم الوعي واللاوعي على السواء، بحيث تتجسد هذه الأحلام والخواطر والهواجس المجردة في أعمال أدبية. وهكذا تعتبر السريالية اتجاهاً يهدف إلى أبراز التناقض في حياتنا أكثر من اهتمامه بالتأليف.
يعتبر مسرح العبث الابن الشرعي للسريالية.
التأسيس وأبرز الشخصيات :
= في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصابت الإنسان الأوروبي صدمة هزت النفوس وبلبلت الأفهام، نتيجة للدمار الكامل وإزهاق الأرواح بلا حساب، فنشأت نزعة جارفة للتحلل من القيم الأخلاقية(*)، وتحرير الغرائز والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، وامتدت هذه النزعة إلى الفن والأدب مما أدى إلى ظهور المذهب المعروف بالسريالية في فرنسا سنة 1924م التي بدأت بالسريالية النفسية، ثم دخلت السريالية مجالات الأدب والاجتماع والاقتصاد(*) والفن، ومن أبرز الشخصيات السريالية:
- أندريه بريتون 1896 – 1966م وهو عالم نفس وشاعر فرنسي يعده النقاد مؤسس السريالية.
- ثورنتون وأيلور وهو كاتب مسرحي، ألف مسرحية جلد الإنسان بين الأسنان سنة 1942م، وهي مسرحية تجنح إلى الخيال والعنف الناتج عن اللاشعور عند شخصيات المسرحية.(87/303)
- سلفادور دالي ولد سنة 1904م وهو رسام أسباني، ويعد من أبرز دعاة السريالية، وقد أضاف إليها إضافات كثيرة أبرزها أسلوبه الذي تميز به الذي دعاه "النقد المبني على الهلوسة" وكان يؤكد دائماً أنه أقرب إلى الجنون منه إلى الماشي نوماً، والمعرفة عنده تقوم على التداعي والتأويل.
الأفكار والمعتقدات:
= يمكن إجمال أفكار ومعتقدات السريالية فيما يلي:
- الاعتماد الكلي على الأمور غير الواقعية: مثل الأحلام والأخيلة.
- الكتابة التلقائية الصادرة عن اللاوعي، والبعيدة عن رقابة العقل، بدعوى أن الكلمات في اللاوعي لا تمارس دور الشرطي في رقابته على الأفكار، ولهذا تنطلق هذه الأفكار نشيطة جديدة.
- إهمال المعتقدات والأديان(*) والقيم الأخلاقية(*) السائدة في المجتمع.
- التركيز على الجانب السياسي والبحث عن برنامج وضعي (مادي ومحسوس) يصلح لتطوير المفاهيم الاجتماعية، لذلك تودد السرياليون للحزب الشيوعي، وبذلوا جهدواً كبيرة من أجل توسيع مجال تطبيق المادية الجدلية الماركسية(*).
- الثورة لتغيير حياة الناس، وتشكيل مجتمع ثوري بدلاً من المجتمع القائم، وشملت الثورة ثورة على اللغة التقليدية، وإحداث لغة جديدة.
- تزيت السريالية بأزياء مختلفة، فتارة تظهر كمجموعة من السحرة، وتارة تبدو كعصابة من قطاع الطرق، وتظهر تارة أخرى كأعضاء في خلية ثورية فهي حركة سرية هدفها تقويض الوضع الراهن.
- ويعد الغموض في التعبير الأدبي أو الفني في مجال الرسم، هدفاً ثابتاً للسرياليين.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= تأثرت السريالية بآراء فرويد عالم النفس اليهودي في تحليله للنفس الإنسانية وخاصة تلك التي تتحدث عن اللاشعور والأحلام، والكبت ودعوته إلى تحرير الغرائز الإنسانية والرغبات المكبوتة في النفس البشرية، وإشباع الغرائز والرغبات إشباعاً حراً حتى لا تصاب بالأمراض النفسية كما يدَّعي. وهذه الآراء تتلاءم مع دعوتهم إلى التحلل الأخلاقي في المجتمع البشري.(87/304)
= وكذلك تأثرت السريالية بالفكر الماركسي الشيوعي ودعوته إلى الثورة(*) لتغيير المجتمع، واستخدام العنف في سبيل ذلك.. وبظهور المزاج الثوري حلت الفوضى السياسية والصراع الكامل محل النظام والانسجام.
= وقد تأثرت السريالية أيضاً بحركة سبقتها تُدعى الدادية التي ولدت في زيورخ بسويسرا سنة 1916م. وهي حركة فوضوية تكفر بالقيم السائدة والمعتقدات والتقاليد الاجتماعية وتدعو إلى العودة إلى البداية. ورائد هذه الحركة هو ترستان تزارا الذي يصفه كاتب أوروبي بأنه "المروِّج للفوضوية الفنية والاجتماعية".
ولذا عد النقاد أن السريالية وريثة هذه الحركة الدادية في أفكارها وتوجهاتها وأسلوبها.
= بداية السريالية ونهايتها:
- بدأت السريالية بمجال النفس البشرية، ثم دخلت مجالات الأدب والفكر والسياسة والاجتماع والفن، ثم اقتحمت بشذوذها الثوري مجال العقيدة الدينية والتقاليد الاجتماعية واللغة، وأثارت جدالاً عنيفاً بين أقصى الكاثوليكية في الغرب وأقصى الشيوعية في الشرق.
- وأخذت السريالية في الانكماش والتقوقع بعد ربع قرن من نشوئها، وشعر دعاتها بعجزهم عن تحقيق أي هدف، وبعقم ثورتهم ضد القيم والمعتقدات الدينية، وإخفاقهم في إيجاد مسيحية(*) جديدة، تخلص الإنسان من عذابه وضياعه – حسب زعمهم – وتحول عددٌ منهم بعد الحرب العالمية الثانية إلى الشيوعية والإلحاد، وجُنَّ بعضهم وأدخل المصحات العقلية والنفسية، وتحول البعض الآخر إلى العبثية في الأدب المعبر عن انعدام المعنى العام وراء السلوك الإنساني في العالم المعاصر.
- أما أفكارها ومبادئها فقد تبناها مذهب الحداثة الأدبي الفكري حيث صبت جميع جداول السريالية في مستنقعه الكبير.(87/305)
وهكذا انتهت السريالية، المعبرة عن فقدان الإنسان الغربي العقيدة الصحيحة، واعتماده على ضلالات فرويد النفسية في اللاشعور والأحلام. هذه الضلالات التي أدت إلى التحلل الأخلاقي وإطلاق الغرائز من عقالها، مما أودى بها بعد ربع قرن من نشوئها.
ويتضح مما سبق:
أن السريالية مذهب(*) أدبي فني فكري غير ملتزم بالأديان(*)، يهدف إلى التحلل من واقع الحياة الواعية، والرنو إلى واقع آخر هو واقع اللاوعي أو اللاشعور المكبوت في النفس البشرية، بحيث يتم تسجيل هذا الواقع في الأدب والفن، من خلال الاعتماد الكلي على الأمور غير الواقعية والكتابة التلقائية الصادرة عن اللاوعي، وإهمال الأديان والمعتقدات والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، والتركيز على الجانب السياسي وإذكاء الثورة(*) لتغيير حياة الناس وتشكيل مجتمع ثوري بدلاً من المجتمع القائم، وتقويض الوضع القائم في المجتمع. وكل تلك الخصائص والغايات تبرر مدى خطورة مثل هذا المذهب الأدبي على القيم الدينية.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض 1405هـ.
- مذاهب الأدب الغربي، د. عبد الباسط بدر، دار الشعاع، الكويت.
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – مكتبة مصر – القاهرة.
- الأدب ومذاهبه، د. محمد مندور.
- السريالية، إيف دوبليس (سلسلة زدني علماً).
- الأدب الرمزي، هنري بير.
المراجع الأجنبية:
- Braunschvig: Notre litterature Etudiee dans le texte. Paris 1949.
- Lanson: Histoire de la litterature Francaise Paris 1961.
- Segur (Nicola): Histoire de la litterature Europeene 1959.
الميتافيزيقية
التعريف :(87/306)
الميتافيزيقية(*) اتجاه أدبي وفلسفي يبحث في ظواهر العالم بطريقة عقلية وليست حدسية صوفية ويمزج العقل بالعاطفة ويبتدع أساليب أدبية تجمع بين المختلف والمؤتلف من الأخيلة الفكرية والظواهر الطبيعية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= جون دن 1572 – 1631م الشاعر الإنكليزي الذي أسس المدرسة الميتافيزيقية في الشعر الإنكليزي مع باقي الشعراء في القرن السابع عشر من أمثال، جون هيربرت، وهنري فون، وروبرت كرشوا وأندرو مارفيل وإبراهام كاولي، وهم الشعراء الذين ساروا على نهج جون دن في أسرار الوجود.
= جون درايدن: شاعر إنكليزي نقد جون دن، وقال إن شعره مفعم بالفلسفة العويصة الفهم… والشعر المرهف الرقيق لا يستطيع حمل الأفكار الفلسفية الثقيلة.
= هـ. ج. س. جريرسون: ناقد إنكليزي من الكلاسيكية الحديثة، أحيا المدرسة الميتافيزيقية في كتابه عن الأشعار الميتافيزيقية سنة 1921م.
= ت.س. إليوت ناقد وأديب إنكليزي، أحيا الميتافيزيقية بعد أن كادت أن تندثر في كتابه الشعراء الميتافيزيقيون ودراسة خاصة عن الشاعر الميتافيزيقي أندرو مارفيل سنة 1921م.
= وفي مجال الفلسفة هيجل وبرادلي وصمويل الكسندر وغيرهم.
الأفكار والمعتقدات:
= محاولة تفسير الظواهر الميتافيزيقية، بأساليب تجسيدية تقرب بينها وبين الظواهر الطبيعية كتشبيه الحب بعلم التجميع وتشبيه الروح بقطرة الذل.
= إن الإنسان يستطيع أن يقترب من القوى الميتافيزيقية عندما يجدها متجسدة في أعمال مسرحية وشعرية وروائية.
= الميتافيزيقيا(*) في مجال الفلسفة تعتمد على العقل(*) في إنشاء نظرية إلهية – عن الوجود الإلهي – بديلة عن التثليث (*)، من ذلك فلسفة (*) هيجل الروح المطلق وكلها مذاهب يعارضها التوحيد الخالص معارضته للصليبية نفسها.(87/307)
= الشعر الميتافيزيقي يعد نموذجاً لتحليل الشعور الإنساني وليس لتجسيده والبحث عن الفلسفة الكامنة وراء الحب بكل أنواعه وليس تعبيراً عن التجربة النفسية التي يخوضها المحبون.
= تأكيد الدلالات الدينية. والأخلاقية الكامنة وراء القوى الميتافيزيقية، والشعر هو خير أداة للتعبير عن هذه الدلالات عن طريق إثارة قوى التفكير والتأمل لدى الإنسان العادي.
= الأسلوب السهل والتعبير الجميل هو الوسيلة الوحيدة لنقل الأفكار العميقة إلى القراء والتأثير فيهم، وإن أدى إلى المبالغة الشعرية.
= يختلف الشعر الميتافيزيقي عن الشعر الصوفي الذي يدعو إلى وحدة الوجود، وإلى الحب الإلهي الذي يسمو على الحب المادي الفاني والذي ينتهي بحدود الزمان والمكان.
الجذور الفكرية والعقائدية:
يرى بعضهم أن العقائد الدينية النصرانية هي الخلفية الفكرية للمذهب الميتافيزيقي الأدبي… ولعل عجز الإنسان عن فهم الأمور الغيبية في الحياة، دفعه إلى التعبير عن جميع الظواهر الغيبية مثل الروح والحياة، والقدر والموت.. عن طريق الشعر والرواية والمسرحية.. لعل الإنسان يستطيع التوصل إلى فهم كنه هذه الظواهر.
أماكن النفوذ والانتشار :
بدأ المذهب(*) الميتافيزيقي في إنكلترا… وإن كانت أفكاره أثرت تأثيراً كبيراً في أدباء الكلاسيكية الجديدة في أوروبا كلها والعالم الغربي برمته.
ويتضح مما سبق:(87/308)
الميتافيزيقية هي اتجاه أدبي، يبحث عن ظواهر العالم بطريقة عقلية ممزوجة بالعاطفة، من أجل الجمع بين كل ما هو مؤتلف ومختلف من الأخيلة الفكرية والظواهر الطبيعية، وإبرازه في أعمال مسرحية وشعرية وروائية تجسد الفلسفة الكامنة وراء الحب، بأسلوب سهل وتعبير سلس. ومع أن هذا الاتجاه يؤكد الدلالات الدينية والأخلاقية الكامنة وراء القوى الميتافيزيقية إلا أنه يتبنى، كالخيال الصوفي الجامح، فكرة وحدة الوجود، ومن هنا كانت خطورة التعبيرات الأدبية في هذا الاتجاه على الشباب المسلم الذي يجب أن يعيها بدقة ويعرف أبعادها قبل أن ينجرف مع تيارها عندما يتعامل مع إفرازات هذا المذهب الأدبي.
----------------------------
مراجع للتوسع :
- المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، د. نبيل راغب – نشر مكتبة مصر.
- طبيعة الميتافيزيقا، تأليف جماعة من الفلاسفة الإنكليز. (سلسلة زدني علماً).
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال – دار العودة – بيروت.
- الأدب المقارن، ماريوس فرانسوا غويار (سلسلة زدني علماً).
- فلاسفة إنسانيون، كارل ياسبر (سلسلة زدني علماً).
المراجع الأجنبية:
- Braunschvig: Notre Litterature Etudiee dans le texte. Paris 1949.
- Lanson: Histoire de la Litterature Francais Paris 1916.
- De Segur (Nicola): Histoire de la Litterature Europieenne.
من الفلسفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية
1-الرأسمالية
2-الشيوعية
3-الداروينية
الرأسمالية
التعريف :(87/309)
الرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية، يقوم على أساس إشباع حاجات الإنسان الضرورية والكمالية، وتنمية الملكية الفردية والمحافظة عليها، متوسعاً في مفهوم الحرية، معتمداً على سياسة فصل الدين(*) نهائياً عن الحياة. ولقد ذاق العلم بسببه ويلات كثيرة نتيجة إصراره على كون المنفعة واللذة هما أقصى ما يمكن تحقيقه من السعادة للإنسان. وما تزال الرأسمالية تمارس ضغوطها وتدخلها السياسي والاجتماعي والثقافي وترمي بثقلها على مختلف شعوب الأرض.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= كانت أوروبا محكومة بنظام الإمبراطورية الرومانية التي ورثها النظام الإقطاعي Feudal System.
= لقد ظهرت ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر الطبقة البرجوازية(*) Bourgeois تالية لمرحلة الإقطاع ومتداخلة معها.
= تلت مرحلة البرجوازية مرحلة الرأسمالية وذلك منذ بداية القرن السادس عشر ولكن بشكل متدرج.
= فقد ظهرت أولاً الدعوة إلى الحرية(*) Liberation وكذلك الدعوة إلى إنشاء القوميات اللادينية.
= ظهر المذهب الحر (الطبيعي(*) ) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في فرنسا حيث ظهر الطبيعيون Phisiocrates Les ومن أشهر دعاة هذا المذهب:
- فرنسوا كنزني Francois Quensnay 1694 – 1778م ولد في فرساي بفرنسا، وعمل طبيباً في بلاط لويس الخامس عشر، لكنه اهتم بالاقتصاد وأسس المذهب الطبيعي، فلقد نشر في سنة 1756م مقالين عن الفلاحين وعن الجنوب، ثم أصدر في سنة 1758م الجدول الاقتصادي Tableau Economique وشبَّه فيه تداول المال داخل الجماعة بالدورة الدموية. وقد قال ميرابو حينذاك عن هذا الجدول بأنه: "يوجد في العالم ثلاثة اختراعات عظيمة هي الكتابة والنقود والجدول الاقتصادي).
- جول لوك Jonn Locke 1632 – 1704م صاغ النظرية الطبيعية الحرة حيث يقول عن الملكية الفردية: "وهذه الملكية حق من حقوق الطبيعة وغريزة تنشأ مع نشأة الإنسان، فليس لأحد أن يعارض هذه الغريزة".(87/310)
- ومن ممثلي هذا الاتجاه أيضاً تورجو Turgot وميرابو Mirabour وجان باتست ساي J.B. Say وباستيا.
= ظهر بعد ذلك المذهب(*) الكلاسيكي الذي تبلورت أفكاره على أيدي عدد من المفكرين من أبرزهم:
= آدم سميث A. Smith 1723 – 1790م وهو أشهر الكلاسيكيين على الإطلاق، ولد في مدينة كيركالدي في اسكوتلنده، ودرس الفلسفة(*)، وكان أستاذاً لعلم المنطق(*) في جامعة جلاسجو. سافر إلى فرنسا سنة 1766م والتقى هناك بأصحاب المذهب الحر. وفي سنة 1776م أصدر كتاب بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم هذا الكتاب الذي قال عنه أحد النقاد وهو أدمون برك: "إنه أعظم مؤلف خطه قلم إنسان".
- دافيد ريكاردو David ricardo 1772 – 1823م قام بشرح قوانين توزيع الدخل في الاقتصاد(*) الرأسمالي، وله النظرية المعروفة باسم قانون تناقص الغلة ويقال بأنه كان ذا اتجاه فلسفي ممتزج بالدوافع الأخلاقية لقوله: "إن أي عمل يعتبر منافياً للأخلاق ما لم يصدر عن شعور بالمحبة للآخرين".
- جون استيوارت مل J. Stuart Mill 1806 – 1873م يعدُّ حلقة اتصال بين المذهب الفردي والمذهب الاشتراكي(*) فقد نشر سنة 1836م كتابه مبادىء الاقتصاد السياسي.
- اللورد كينز Keyns 1883 – 1946م صاحب النظرية التي عرفت باسمه التي تدور حول البطالة(*) والتشغيل وقد تجاوزت غيرها من النظريات إذ يرجع إليه الفضل في تحقيق التشغيل الكامل للقوة العاملة في المجتمع الرأسمالي. وقد ذكر نظريته هذه ضمن كتابه النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود الذي نشره سنة 1936م.
- دافيد هيوم 1711 – 1776م صاحب نظرية النفعية Pragmatism التي وضعها بشكل متكامل والتي تقول بأن "الملكية الخاصة تقليد اتبعه الناس وينبغي عليهم أن يتبعوه لأن في ذلك منفعتهم".
- أدمون برك من المدافعين عن الملكية الخاصة على أساس النظرية التاريخية أو نظرية تقادم الملكية.
الأفكار والمعتقدات:
= أسس الرأسمالية:(87/311)
البحث عن الربح بشتى الطرق والأساليب إلا ما تمنعه الدولة لضرر عام كالمخدرات مثلاً.
- تقديس الملكية الفردية وذلك بفتح الطريق لأن يستغل كل إنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها وعدم الاعتداء عليها وتوفير القوانين اللازمة لنموها واطرادها وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلا بالقدر الذي يتطلبه النظام العام وتوطيد الأمن.
- المنافسة والمزاحمة في الأسواق Perfect Competition.
- نظام حرية الأسعار Price System وإطلاق هذه الحرية وفق متطلبات العرض والطلب، واعتماد قانون السعر المنخفض في سبيل ترويج البضاعة وبيعها.
= أشكال رأسمالية:
- الرأسمالية التجارية التي ظهرت في القرن السادس عشر إثر إزالة الإقطاع، إذ أخذ التاجر يقوم بنقل المنتجات من مكان إلى آخر حسب طلب السوق فكان بذلك وسيطاً بين المنتج والمستهلك.
- الرأسمالية الصناعية التي ساعد على ظهورها تقدم الصناعة وظهور الآلة البخارية التي اخترعها جيمس وات سنة 1770م والمغزل الآلي سنة 1785م مما أدى إلى قيام الثورة الصناعية في إنجلترا أولاً وفي أوروبا عامة إبان القرن التاسع عشر. وهذه الرأسمالية الصناعية تقوم على أساس الفصل بين رأس المال وبين العامل، أي بين الإنسان وبين الآلة.
- نظام الكارتل Cartel System الذي يعني اتفاق الشركات الكبيرة على اقتسام السوق العالمية فيما بينها مما يعطيها فرصة احتكار(*) هذه الأسواق وابتزاز الأهالي بحرية تامة. وقد انتشر هذا المذهب في ألمانيا واليابان.
- نظام الترست Trust System والذي يعني تكون شركة من الشركات المتنافسة لتكون أقدر في الإنتاج وأقوى في التحكم والسيطرة على السوق.
أفكار معتقدات أخرى:
= إن المذهب الطبيعي الذي هو أساس الرأسمالية إنما يدعو إلى أمور منها:
- الحياة الاقتصادية تخضع لنظام طبيعي ليس من وضع أحد حيث يحقق بهذه الصفة نمواً للحياة وتقدماً تلقائياً لها.(87/312)
- إنه يدعو إلى عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وأن تقصر مهمتها على حماية الأفراد والأموال والمحافظة على الأمن والدفاع عن البلاد.
- الحرية الاقتصادية لكل فرد حيث إن له الحق في ممارسة واختيار العمل الذي يلائمه وقد عبروا عن ذلك بالمبدأ المشهور: "دعه يعمل دعه يمر" Laser Faire, Laisser Passer.
- إن إيمان الرأسمالية بالحرية(*) الواسعة أدى إلى فوضى في الاعتقاد وفي السلوك مما تولدت عنه هذه الصراعات الغريبة التي تجتاح العالم معبرة عن الضياع الفكري والخواء الروحي.
- إن انخفاض الأجور وشدة الطلب على الأيدي العاملة دفع الأسرة لأن يعمل كل أفرادها مما أدى إلى تفكك عرى الأسرة وانحلال الروابط الاجتماعية فيما بينها.
- من أهم آراء آدم سميث أن نمو الحياة الاقتصادية وتقدمها وازدهارها إنما يتوقف على الحرية الاقتصادية، وتتمثل هذه الحرية في نظره بما يلي:-
- الحرية الفردية التي تتيح للإنسان حرية اختيار عمله الذي يتفق مع استعداداته ويحقق له الدخل المطلوب.
- يرى الرأسماليون بأن الحرية Liberation ضرورية للفرد من أجل تحقيق التوافق بينه وبين المجتمع، ولأنها قوة دافعة للإنتاج، لكونها حقاً إنسانياً يعبر عن الكرامة البشرية.
= عيوب الرأسمالية:
- الرأسمالية نظام وضعي يقف على قدم المساواة مع الشيوعية وغيرها من النظم التي وضعها البشر بعيداً عن منهج الله الذي ارتضاه لعباده ولخلقه من بني الإنسان، ومن عيوبها:
- الأنانية: حيث يتحكم فرد أو أفراد قلائل بالأسواق تحقيقاً لمصالحهم الذاتية دون تقدير لحاجة المجتمع أو احترام للمصلحة العامة.
- الاحتكار(*): إذ يقوم الشخص الرأسمالي باحتكار البضائع وتخزينها حتى إذا ما فقدت من الأسواق نزل بها ليبيعها بسعر مضاعف يبتز به المستهلكين الضعفاء.
- لقد تطرفت الرأسمالية في تضخيم شأن الملكية الفردية كما تطرفت الشيوعية في إلغاء هذه الملكية.(87/313)
- المزاحمة والمنافسة: إن بنية الرأسمالية تجعل الحياة ميدان سباق مسعور إذ يتنافس الجميع في سبيل إحراز الغلبة، وتتحول الحياة عندها إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إفلاس المصانع والشركات بين عشية وضحاها.
- إبتزاز الأيدي العاملة: ذلك أن الرأسمالية تجعل الأيدي العاملة سلعة خاضعة لمفهومي العرض والطلب مما يجعل العامل معرضاً في كل لحظة لأن يُستبدَل به غيره ممن يأخذ أجراً أقل أو يؤدي عملاً أكثر أو خدمة أفضل.
- البطالة(*): وهي ظاهرة مألوفة في المجتمع الرأسمالي، وتكون شديدة البروز إذا كان الإنتاج أكثر من الاستهلاك مما يدفع بصاحب العمل إلى الاستغناء عن الزيادة في هذه الأيدي التي تثقل كاهله.
- الحياة المحمومة: وذلك نتيجة للصراع القائم بين طبقتين إحداهما مبتزة يهمها جمع المال من كل السبل وأخرى محروقة تبحث عن المقومات الأساسية لحياتها، دون أن يشملها شيء من التراحم والتعاطف المتبادل.
- الاستعمار(*): ذلك أن الرأسمالية بدافع البحث عن المواد الأولية، وبدافع البحث عن أسواق جديدة لتسويق المنتجات تدخل في غمار استعمار الشعوب والأمم استعماراً اقتصاديّاً أولاً وفكريًّا وسياسيًّا وثقافيًّا ثانياً، وذلك فضلاً عن استرقاق الشعوب وتسخير الأيدي العاملة فيها لمصلحتها.
- الحروب والتدمير: فلقد شهدت البشرية ألواناً عجيبة من القتل والتدمير وذلك نتيجة طبيعية للاستعمار الذي أنزل بأمم الأرض أفظع الأهوال وأشرسها.
- الرأسماليون يعتمدون على مبدأ الديمقراطية في السياسة والحكم، وكثيراً ما تجنح الديمقراطية مع الأهواء بعيدة عن الحق والعدل والصواب، وكثيراً ما تستخدم لصالح طائفة الرأسماليين أو من يسمون أيضاً (أصحاب المكانة العالية).
- إن النظام الرأسمالي يقوم على أساس ربوي، ومعروف أن الربا هو جوهر العلل التي يعاني منها العالم أجمع.(87/314)
- إن الرأسمالية تنظر إلى الإنسان على أنه كائن مادي وتتعامل معه بعيداً عن ميوله الروحية والأخلاقية، داعية إلى الفصل بين الاقتصاد وبين الأخلاق.
- تعمد الرأسمالية إلى حرق البضائع الفائضة، أو تقذفها في البحر خوفاً من أن تتدنى الأسعار لكثرة العرض، وبينما هي تقدم على هذا الأمر تكون كثير من الشعوب أشدَ معاناة وشكوى من المجاعات التي تجتاحها.
- يقوم الرأسماليون بإنتاج المواد الكمالية ويقيمون الدعايات الهائلة لها دونما التفات إلى الحاجات الأساسية للمجتمع ذلك أنهم يفتشون عن الربح والمكسب أولاً وأخراً.
- يقوم الرأسمالي في أحيان كثيرة بطرد العامل عندما يكبر دون حفظ لشيخوخته إلا أن أمراً كهذا أخذت تخف حدته في الآونة الأخيرة بسبب الإصلاحات التي طرأت على الرأسمالية والقوانين والتشريعات التي سنتها الأمم لتنظيم العلاقة بين صاحب رأس المال والعامل.
= الإصلاحات التي طرأت على الرأسمالية:
- كانت إنجلترا حتى سنة 1875م من أكبر البلاد الرأسمالية تقدماً. ولكن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ظهرت كل من الولايات المتحدة وألمانيا، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت اليابان.
- في عام 1932م باشرت الدولة تدخلها بشكل أكبر في انجلترا، وفي الولايات المتحدة زاد تدخل الدولة إبتداء من سنة 1933م، وفي ألمانيا بدءً من العهد الهتلري وذلك لأجل المحافظة على استمرارية النظام الرأسمالي.
- لقد تمثل تدخل الدولة في المواصلات والتعليم ورعاية حقوق المواطنين وسن القوانين ذات الصبغة الاجتماعية، كالضمان الاجتماعي والشيخوخة والبطالة(*) والعجز والرعاية الصحية وتحسين الخدمات ورفع مستوى المعيشة.
- لقد توجهت الرأسمالية هذا التوجه الإصلاحي الجزئي بسبب ظهور العمال كقوة انتخابية في البلدان الديمقراطية وبسبب لجان حقوق الإنسان، ولوقف المد الشيوعي الذي يتظاهر بنصرة العمال ويدعي الدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم.
الجذور الفكرية والعقائدية:(87/315)
= تقوم جذور الرأسمالية على شيء من فلسفة الرومان القديمة، يظهر ذلك في رغبتها في امتلاك القوة وبسط النفوذ والسيطرة.
= لقد تطورت متنقلة من الإقطاع إلى البرجوازية (*) إلى الرأسمالية وخلال ذلك اكتسبت أفكاراً ومبادىء مختلفة تصب في تيار التوجه نحو تعزيز الملكية الفردية والدعوة إلى الحرية.
= قامت في الأصل على أفكار المذهب الحر والمذهب الكلاسيكي.
= إن الرأسمالية تناهض الدين(*) متمردة على سلطان الكنيسة(*) أولاً وعلى كل قانون أخلاقي أخيراً.
= لا يهم الرأسمالية من القوانين الأخلاقية إلا ما يحقق لها المنفعة ولا سيما الاقتصادية منها على وجه الخصوص.
= كان للأفكار والآراء التي تولدت نتيجة للثورة الصناعية في أوروبا دور بارز في تحديد ملامح الرأسمالية.
= تدعو الرأسمالية إلى الحرية(*) وتتبنى الدفاع عنها، لكن الحرية السياسية تحولت إلى حرية أخلاقية واجتماعية، ثم تحولت هذه بدورها إلى إباحية.
الانتشار ومواقع النفوذ:
= ازدهرت الرأسمالية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وفي معظم العالم الغربي.
= كثير من دول العالم تعيش في جو من التبعية إما للنظام الشيوعي وإما للنظام الرأسمالي، وتتفاوت هذه التبعية بين التدخل المباشر وبين الاعتماد عليهما في الشؤون السياسية والمواقف الدولية.
= وقف النظام الرأسمالي مثله كمثل النظام الشيوعي إلى جانب إسرائيل دعماً وتأييداً بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويتضح مما سبق :(87/316)
أن الرأسمالية مذهب(*) مادي جشع يغفل القيم الروحية في التعامل مع المال مما يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً. وتعمل أمريكا الآن باعتبارها زعيمة هذا المذهب(*) على ترقيع الرأسمالية في دول العالم الثالث بعد أن انكشفت عوارها ببعض الأفكار الاشتراكية(*)، محافظة على مواقعها الاقتصادية، وكي تبقى سوقاً للغرب الرأسمالي وعميلاً له في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع. وما يراه البعض من أن الإسلام يقترب في نظامه الاقتصادي من الرأسمالية خطأ واضح يتجاهل عدداً من الاعتبارات:
= أن الإسلام نظام رباني يشمل أفضل ما في الأديان والمذاهب من إيجابيات ويسلم ممَّا فيها من سلبيات إذ أنه شريعة الفطرة تحلل ما يصلحها وتحرم ما يفسدها.
= أن الإسلام وجد وطبق قبل ظهور النظم الرأسمالية والاشتراكية، وهو نظام قائم بذاته، والرأسمالية تنادي بإبعاد الدين(*) عن الحياة، وهو أمر مخالف لفطرة الإنسان، كما تزن أقدار الناس بما يملكون من مال، والناس في الإسلام يتفاضلون بالتقوى.
= ترى الرأسمالية أن الخمر والمخدرات تلبي حاجات بعض أفراد المجتمع، وكذلك الأمر بالنسبة لخدمات راقصة البالية، وممثلة المسرح، وأندية العراة، ومن ثم تسمح بها دون اعتبار لما تسببه من فساد، وهي أمور لا يقرها الضمير الإسلامي. وفي سبيل تنمية رأس المال تسلك كل الطرق دونما وازع أخلاقي مانع فالغاية عندهم دائماً تبرر الوسيلة.
= النواحي الاقتصادية في الإسلام مقيدة بالشرع وما أباحه أو حرمه ولا يصح أن نعتبر الأشياء نافعة لمجرد وجود من يرغب في شرائها بصرف النظر عن حقيقتها واستعمالها من حيث الضرر أو النفع.
= القول بأن الندرة النسبية هي أصل المشكلة الاقتصادية قول مخالف للواقع فالمولى سبحانه وتعالى خلق الكون والإنسان والحياة وقدر الأقوات بما يفي بحياة البشرية، وقدّر الأرزاق وأمر بالتكافل بين الغني والفقير.(87/317)
= أدى النظام الرأسمالي إلى مساوىء وويلات، وأفرز ما يعانيه العالم من استعمار ومناطق نفوذ وغزو اقتصادي ووضع معظم ثروات العالم في أيدي الاحتكارات(*) الرأسمالية وديون تراكمية.
مراجع للتوسع :
- أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة، تأليف أبي الأعلى المودودي- ترجمة محمد عاصم حداد – ط3 – 1391هـ/1971م مطبعة الأمان – لبنان.
- المذاهب الاقتصادية الكبرى، تأليف جورج سول – ترجمة راشد البراوي.
- الأنظم الاقتصادية في العالم، د. أحمد شلبي – ط1 – النهضة المصرية – 1976م
- معركة الإسلامية والرأسمالية، سيد قطب – ط2 – مطبعة دار الكتاب العربي – 1371هـ/1952م.
- الاقتصاد في الإسلام، حمزة الجميعي الدهومي – ط1 – مطبعة التقدم بالقاهرة – 1399هـ/1978م.
- الاقتصاد الإسلامي، مفاهيم ومرتكزات، د. محمد أحمد صقر – ط1 – مطابع سجل العرب – نشر دار النهضة العربية بالقاهرة – 1398هـ/ 1978م.
- اقتصادنا، محمد باقر الصدر – دار الكتاب اللبناني – دار الكتاب المصري – 1398هـ/1977م.
- فلسفتنا، محمد باقر الصدر – دار التعارف للمطبوعات – بيروت – لبنان – 1379هـ.
- الاقتصاد الإسلامي، المركز العالمي للأبحاث والاقتصاد – ط1- 1400هـ/1980م.
- حركات ومذاهب في ميزان الإسلام، فتحي يكن – مؤسسة الرسالة – ط2- 1397هـ/1977م.
- حكم الإسلام في الرأسمالية، د. محمود الخالدي.
المراجع الأجنبية :
- D. Villey: A La recherche d’une Doctrine Economiques, Ed.; Genen, Paris, 1967.
- J. Marchal: “ Cours D’economie politique” paris 1956.
- J.J. Kenes, General Theory of Employment, Interst and Money (Harcourt, Brace and Company. 1933).
- George N. Halm, Economic: A Comparative Analysis, Hotlt, rinchart & Winston Ltd. New York.
- Gunnar Myrdal, Against The Stream, Published by Pantheon press, Cambridge University Press 1972.(87/318)
- Lord Bowdan and S.T.S Al- Hasani “The profit and the loss or a fair share of the proceeds. The Guradian, Thursday. June 5 – 1975.
- Abdul – Hamid Ahmad Abu Sulayman: The Theory of the Economics of Islam, Proceedings of the Third East Coast regional Conference. Theme contermporary Aspects of Economic and social Thinking in Islam, Moslem Students Association, Holiday Hills, April 12, 1968. PP. 26 – 83.
- Adam Smith, The Wealth of Nations.
- Encyclopaedia Britannica, Vol 2, P. 535, 1976.
الشيوعية
التعريف :
الشيوعية مذهب(*) فكري يقوم على الإلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي. ظهرت في ألمانيا على يد ماركس وإنجلز، وتجسدت في الثورة البلشفية(*) التي ظهرت في روسيا سنة 1917م بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد والنار. وقد تضرر المسلمون منها كثيراً، وهناك شعوب محيت بسببها من التاريخ، ولكن الشيوعية أصبحت الآن في ذمة التاريخ، بعد أن تخلى عنها الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك بدوره إلى دول مستقلة، تخلت كلها عن الماركسية، واعتبرتها نظرية غير قابلة للتطبيق.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= وضعت أسسها الفكرية النظرية على يد كارل ماركس اليهودي الألماني 1818 – 1883م وهو حفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس، وكارل ماركس شخص قصير النظر متقلب المزاج، حاقد على المجتمع، مادي النزعة، ومن مؤلفاته:
- البيان الشيوعي الذي صدر سنة 1848م.
- رأس المال ظهر سنة 1867م.
= ساعده في التنظير للمذهب فردريك إنجلز 1820 – 1895م وهو صديق كارل ماركس الحميم وقد ساعده في نشر المذهب كما أنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات، ومن مؤلفاته:
- أصل الأسرة.
- الثنائية في الطبيعة.
- الاشتراكية الخرافية والاشتراكية العلمية(*).(87/319)
= لينين: واسمه الحقيقي: فلاديمير أليتش بوليانوف، وهو قائد الثورة البلشفية الدامية في روسيا 1917م ودكتاتورها المرهوب، وهو قاسي القلب، مستبد برأيه، حاقد على البشرية. ولد سنة 1870م، ومات سنة 1924م، وهناك دراسات تقول بأن لينين يهودي الأصل، وكان يحمل اسماً يهوديًّا، ثم تسمى باسمه الروسي الذي عرف به مثله مثل تروتسكي في ذلك.
- ولينين هو الذي وضع الشيوعية موضع التنفيذ وله كتب كثيرة وخطب ونشرات أهمها ما جمع في ما يسمى مجموعة المؤلفات الكبرى.
= ستالين: واسمه الحقيقي جوزيف فاديونوفتش زوجا شفلي 1879-1954م وهو سكرتير الحزب الشيوعي ورئيسه بعد لينين، اشتهر بالقسوة والجبروت والطغيان والدكتاتورية وشدة الإصرار على رأيه، يعتمد في تصفية خصومه على القتل والنفي كما أثبتت تصرفاته أنه مستعد للتضحية بالشعب كله في سبيل شخصه. وقد ناقشته زوجته مرة فقتلها.
= تروتسكي: ولد سنة 1879م واغتيل سنة 1940م بتدبير من ستالين، وهو يهودي واسمه الحقيقي بروشتاين. له مكانة هامة في الحزب وقد تولى الشؤون الخارجية بعد الثورة(*) ثم أسندت إليه شؤون الحزب.. ثم فصل من الحزب بتهمة العمل ضد مصلحة الحزب ليخلو الجو لستالين الذي دبر اغتياله للخلاص منه نهائياً.
الأفكار والمعتقدات :
= إنكار وجود الله تعالى وكل الغيبيات والقول بأن المادة هي أساس كل شيء وشعارهم: نؤمن بثلاثة: ماركس ولينين وستالين، ونكفر بثلاثة: الله، الدين(*)، الملكية الخاصة، عليهم من الله ما يستحقون.
= فسروا تاريخ البشرية بالصراع بين البرجوازية(*) والبروليتاريا(*) (الرأسماليين والفقراء) وينتهي هذا الصراع حسب زعمهم بدكتاتورية البروليتاريا.
= يحاربون الأديان ويعتبرونها وسيلة لتخدير الشعوب وخادماً للرأسمالية والإمبريالية(*) والاستغلال مستثنين من ذلك اليهودية لأن اليهود شعب مظلوم يحتاج إلى دينه ليستعيد حقوقه المغتصبة!!(87/320)
= يحاربون الملكية الفردية ويقولون بشيوعية الأموال وإلغاء الوراثة.
= تتركز اهتماماتهم بكل ما يتعلق بالمادة وأساليب الإنتاج.
= إن كل تغيير في العالم في نظرهم إنما هو نتيجة حتمية(*) لتغيّر وسائل الإنتاج وإن الفكر والحضارة والثقافة هي وليدة التطور الاقتصادي.
= يقولون بأن الأخلاق(*) نسبية وهي انعكاس لآله الإنتاج.
= يحكمون الشعوب بالحديد والنار ولا مجال لإعمال الفِكر، والغاية عندهم تبرر الوسيلة.
= يعتقدون بأنه لا آخرة ولا عقاب ولا ثواب في غير هذه الحياة الدنيا.
= يؤمنون بأزلية المادة وأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأول للأفراد والجماعات.
= يقولون بدكتاتورية الطبقة العاملة ويبشرون بالحكومة العالمية
= تؤمن الشيوعية بالصراع والعنف وتسعى لإثارة الحقد والضغينة بين العمال وأصحاب الأعمال.
= الدولة هي الحزب(*) والحزب هو الدولة.
= تكون المكتب السياسي الأول للثورة(*) البلشفية(*) من سبعة أشخاص كلهم يهود إلا واحداً وهذا يعكس مدى الارتباط بين الشيوعية واليهودية.
= تنكر الماركسية الروابط الأسرية وترى فيها دعامة للمجتمع البرجوازي وبالتالي لا بد من أن تحل محلها الفوضى الجنسية.
= لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل غايتهم وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم. قال لينين: »إن هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء إنما الشيء الهام هو أن يصبح الربع الباقي شيوعيًّا«. وهذه القاعدة طبقوها في روسيا أيام الثورة وبعدها وكذلك في الصين وغيرها حيث أبيدت ملايين من البشر، كما أن اكتساحهم لأفغانستان بعد أن اكتسحوا الجمهوريات الإسلامية الأخرى كبُخاري وسمرقند وبلاد الشيشان والشركس، إنما ينضوي تحت تلك القاعدة االإجرامية.
= يهدمون المساجد ويحولونها إلى دور ترفيه ومراكز للحزب، ويمنعون المسلم إظهار شعائر دينية، أما اقتناء المصحف فهو جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة سنة كاملة.(87/321)
= لقد كان توسعهم على حساب المسلمين فكان أن احتلوا بلادهم وأفنوا شعوبهم وسرقوا ثرواتهم واعتدوا على حرمة دينهم ومقدساتهم.
= يعتمدون على الغدر والخيانة والاغتيالات لإزاحة الخصوم ولو كانوا من أعضاء الحزب.
الجذور الفكرية والعقائدية:
= لم تستطع الشيوعية إخفاء تواطئها مع اليهود وعملها لتحقيق أهدافهم فقد صدر منذ الأسبوع الأول للثورة قرار ذو شقين بحق اليهود:
- يعتبر عداء اليهود عداء للجنس السامي يعاقب عليه القانون.
- الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين.
= يصرح ماركس بأنه اتصل بفيلسوف الصهيونية وواضع أساسها النظري هو موشيه هيس أستاذ هرتزل الزعيم الصهيوني الشهير.
- جدُّ ماركس هو الحاخام اليهودي المشهور في الأوساط اليهودية مردخاي ماركس.
= تأثرت الماركسية إضافة إلى الفكر اليهودي بجملة من الأفكار والنظرات الإلحادية منها:
- مدرسة هيجل العقلية المثالية.
- مدرس كونت الحسية الوضعية.
- مدرسة فيورباخ في الفلسفة(*) الإنسانية الطبيعية.
- مدرسة باكونين صاحب المذهب(*) الفوضوي المتخبط.
الانتشار ومواقع النفوذ:
= حكمت الشيوعية عدة دول منها:
- الاتحاد السوفيتي، الصين، تشيكوسلوفاكيا، المجر، بلغاريا، بولندا، ألمانيا الشرقية، رومانيا، يوغسلافيا، ألبانيا، كوبا.
ومعلوم أن دخول الشيوعية إلى هذه الدول كان بالقوة والنار والتسلط الاستعماري. ولذلك فإن جل شعوب هذه الدول أصبحت تتململ بعد أن عرفت الشيوعية على حقيقتها وأنها ليست الفردوس الذي صور لهم وبالتالي بدأت الانتفاضات والثورات تظهر هنا وهناك، كما حدث في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، كما أنك لا تكاد تجد دولتين شيوعيتين في وئام دائم.
= أما في العالم الإسلامي فقد استفاد الشيوعيون من جهل بعض الحكام وحرصهم على تدعيم كراسيهم ولو على حساب الدين(*)، إذ اكتسحت الشيوعية أفغانستان وشردت شعبها المسلم كما تحكمت في بعض الدول الإسلامية الأخرى بواسطة عملائها.(87/322)
= تقوم الدول الشيوعية بتوزيع ملايين الكتيّبات والنشرات مجاناً في كافة أنحاء العالم داعية إلى مذهبها.
= أسست الشيوعية أحزاباً لها في كل الدول العربية والإسلامية تقريباً فنجد لها أحزاباً في مصر، سورية، لبنان، فلسطين، والأردن، تونس وغيرها.
= إنهم يؤمنون بالأممية ويسعون لتحقيق حلمهم بالحكومة العالمية التي يبشرون بها.
انهيار الماركسية:
- انهارت الشيوعية في معاقلها بعد قرابة السبعين عاماً من قيام الحكم الشيوعي وبعد أربعين عاماً من تطبيق أفكارها في أوروبا الشرقية وأعلن كبار المسؤولين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه أن الكثير من المبادىء الماركسية لم تعد صالحة للبقاء وليس بمقدورها أن تواجه مشاكل ومتطلبات العصر الأمر الذي تسبب في تخلف البلدان التي تطبق هذا النظام عن مثيلاتها الرأسمالية. وهكذا يتراجع دعاة الفكر المادي الشيوعي عن تطبيقه لعدم واقعيته وتخلفه عن متابعة التطور الصناعي والعلمي وتسببه في تدهور الوضع الاقتصادي وهدم العلاقات الاجتماعية وإشاعة البؤس والحرمان والظلم والفساد ومصادمة الفطرة ومصادرة الحريات ومحاربة الأديان(*). وقد تأكد بوضوح بعد التطبيق لهذه الفترة الطويلة أن من عيوب الماركسية أنها تمنع الملكية الفردية وتحاربها وتلغي الإرث الشرعي وهذا مخالف للفطرة وطبائع الأشياء ولا تعطي الحرية للفرد في العمل وناتج العمل ولا تقيم العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع وأن الشيوعي يعمل لتحقيق مصلحته ولو هدم مصالح الآخرين وينحصر خوفه في حدود رقابة السلطة وسوط القانون وأن الماركسية تهدم أساس المجتمع وهو الأسرة فتقضي بذلك على العلاقات الاجتماعية.(87/323)
- اقتنع الجميع بأنها نظرية فاسدة يستحيل تطبيقها حيث تحمل في ذاتها بذور فنائها وقد ظهر لمن مارسوها عدم واقعيتها وعدم إمكانية تطبيقها ومن أكبر ناقدي الماركسية من الماركسيين أنفسهم الفيلسوف الأمريكي أريخ مزوم في كتابه المجتمع السليم، ومن غير الماركسيين كارل بوبر صاحب كتاب المجتمع المفتوح، وغيرهما، ويجيء جورباتشوف كتابه البيروسريكا أو إعادة البناء ليفضح عيوب تطبيق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي.
وتبين بعد انهيارها أنها لم تفلح في القضاء على القوميات المتنافرة بل زادتها اشتعالاً ولم تسمح بقدر ولو ضئيل من الحرية بل عمدت دائماً إلى سياسة الظلم والقمع والنفي والقتل وحولت أتباعها إلى قطيع من البشر. وهكذا باءت جميع نبوءات كارل ماركس بالفشل وأصبح مصير النظرية إلى مزبلة التاريخ، ثم انتهى الأمر بتفكك الاتحاد السوفيتي ذاته، وأصبح اسمه مجرد أثر في تاريخ المذاهب الهدامة.
ويتضح مما سبق:
أن الشيوعية مذهب(*) إلحادي يعتبر أن الإنسان جاء إلى هذه الحياة بمحض المصادفة وليس لوجوده غاية وبذلك تصبح الحياة عبثاً لا طائل تحته ويحرم معتنقها من سكينة النفس ونعيم الروح ومن ثم فلا يمكن أن يجتمع الإسلام والماركسية في قلب رجل واحد لأنهما متناقضان كل التناقض في العقيدة والفكر والمنهج(*) والسلوك.
-----------------------------------
مراجع للتوسع :
- السرطان الأحمر ، د. عبد الله عزام.
- بلشفة الإسلام، د. صلاح الدين.
- حقائق الشيوعية، نهاد الغادري.
- الشيوعية والشيوعيون في ميزان الإسلام، د. عبد الجليل شلبي.
- السراب الأكبر، أسامة عبد الله الخياط.
- المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة.
- حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون، عبد الحليم خفاجي.
- لهذا نرفض الماركسية، د. عبد الرحمن البيضاني.
- الشيوعية وليدة الصهيونية، أحمد عبد الغفور عطار.
الداروينية
التعريف :(87/324)
تنتسب الحركة(*) الفكرية الداروينية إلى الباحث الإنجليزي شارلز داروين الذي نشر كتابه أصل الأنواع سنة 1859م الذي طرح فيه نظريته في النشوء والارتقاء مما زعزع القيم الدينية، وترك آثاراً سلبية على الفكر العالمي.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
= شارلز داروين: صاحب هذه المدرسة ولد في 12 فبراير 1809م وهو باحث إنجليزي نشر في سنة 1859م كتابه أصل الأنواع، وقد ناقش فيه نظريته في النشوء والارتقاء معتبراً أصل الحياة خلية كانت في مستنقع آسن قبل ملايين السنين. وقد تطورت هذه الخلية ومرت بمراحل منها، مرحلة القرد، انتهاء بالإنسان، وهو بذلك ينسف الفكرة الدينية التي تجعل الإنسان منتسباً إلى آدم وحواء ابتداء.
= آرثر كيت: دارويني متعصب، يعترف بأن هذه النظرية لا تزال حتى الآن بدون براهين فيضطر إلى كتابتها من جديد وهو يقول: "إن نظرية النشوء والارتقاء لا زالت بدون براهين، وستظل كذلك، والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر وهذا غير وارد على الإطلاق".
= جليان هكسلي: دارويني ملحد، ظهر في القرن العشرين، وهو الذي يقول عن النظرية:
- "هكذا يضع علم الحياة الإنسان في مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد للمخلوقات كما تقول الأديان(*)".
- "من المسلَّم به أن الإنسان في الوقت الحاضر سيد المخلوقات ولكن قد تحل محله القطة أو الفأر".
- ويزعم أن الإنسان قد اختلق فكرة الله إبان عصر عجزه وجهله، أما الآن فقد تعلم وسيطر على الطبيعة بنفسه، ولم يعد بحاجة إليه، فهو العابد والمعبود في آنٍ واحد.
- يقول: "بعد نظرية داروين لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيواناً".
= ليكونت دي نوى: من أشهر التطوريين المحدثين، وهو في الحقيقة صاحب نظرية تطورية مستقلة.
= د.هـ. سكوت: دارويني شديد التعصب ، يقول: "إن نظرية النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها حتى لو أصبحت عملاً من أعمال الاعتقاد".(87/325)
= برتراند راسل: فيلسوف ملحد، يشيد بالأثر الدارويني مركزاً على الناحية الميكانيكية في النظرية، فيقول: "إن الذي فعله جاليليو ونيوتن من أجل الفلك فعله داروين من أجل علم الحياة".
الأفكار والمعتقدات:
= نظرية داروين: تدور هذه النظرية حول عدة أفكار وافتراضات هي:
- تفترض النظرية تطور الحياة في الكائنات العضوية من السهولة وعدم التعقيد إلى الدقة والتعقيد.
- تتدرج هذه الكائنات من الأحط إلى الأرقى.
- الطبيعة(*) وهبت الأنواع القوية عوامل البقاء والنمو والتكيف مع البيئة لتصارع الكوارث وتتدرج في سلم الرقي مما يؤدي إلى تحسن نوعي مستمر ينتج عنه أنواع راقية جديدة كالقرد، وأنواع أرقى تتجلى في الإنسان، بينما نجد أن الطبيعة قد سلبت تلك القدرة من الأنواع الضعيفة فتعثرت وسقطت وزالت. وقد استمد داروين نظريته هذه من قانون الانتقاء الطبيعي لمالتوس.
- الفروق الفردية داخل النوع الواحد تنتج أنواعاً جديدة مع مرور الأحقاب الطويلة.
- الطبيعة تعطي وتحرم بدون خطة مرسومة، بل خبط عشواء، وخط التطور ذاته متعرج ومضطرب لا يسير على قاعدة مطردة منطقية.
- النظرية في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد ما تكون عن النظريات الفلسفية.
- تقوم النظرية على أصلين كل منهما مستقل عن الآخر:
1- المخلوقات الحية وجدت في مراحل تاريخية متدرجة ولم توجد دفعة واحدة وهذا الأصل من الممكن البرهنة عليه.
2- هذه المخلوقات متسلسلة وراثيًّا ينتج بعضها عن بعض بطريقة التعاقب خلال عملية التطور البطيئة الطويلة. وهذا الأصل لم يتمكنوا من البرهنة عليه حتى الآن لوجود حلقة أو حلقات مفقودة في سلسلة التطور الذي يزعمونه.(87/326)
- تفترض النظرية أن كل مرحلة من مراحل التطور أعقبت التي قبلها بطريقة حتمية(*)، أي أن العوامل الخارجية هي التي تحدد نوعية هذه المرحلة، أما خط سيرها ذاته بمراحله جميعها فهو خط مضطرب لا يسعى إلى غاية مرسومة أو هدف بعيد لأن الطبيعة التي أوجدته غير عاقلة ولا واعية، بل إنها تخبط خبط عشواء.
الآثار التي تركتها النظرية:
- قبل ظهور النظرية كان الناس يدعون إلى حرية الاعتقاد بسبب الثورة(*) الفرنسية، ولكنهم بعدها أعلنوا إلحادهم الذي انتشر بطريقة عجيبة وانتقل من أوروبا إلى بقاع العالم.
- لم يعد هناك أي معنى لمدلول كلمة: آدم، وحواء، الجنة، الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، الخطيئة( حسب اعتقاد النصارى بأن المسيح(*) قد صلب ليخلص البشرية من أغلال الخطيئة الموروثة التي ظلت ترزح تحتها من وقت آدم إلى حين صلبه).
- سيطرة الأفكار المادية(*) على عقول الطبقة المثقفة وأوحت كذلك بمادية الإنسان وخضوعه لقوانين المادة.
- تخلت جموع غفيرة من الناس عن إيمانها بالله تخليًّا تامًّا أو شبه تام.
- عبادة الطبيعة(*)، فقد قال داروين: "الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق". ولكن لم يبين ما هي الطبيعة وما الفرق بين الاعتقاد بوجود الله الخالق ووجود الطبيعة؟
وقال: إن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله هو بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت.
- لم يعد هناك جدوى من البحث في الغاية والهدف من وجود الإنسان لأن داروين قد جعل بين الإنسان والقرد نسباً، بل زعم أن الجد الحقيقي للإنسان هو خلية صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين.
- أهملت العلوم الغربية بجملتها فكرة الغائية(*) بحجة أنها لا تهم الباحث العلمي ولا تقع في دائرة علمه.
- استبد بالناس شعور باليأس والقنوط والضياع وظهرت أجيال حائرة مضطربة ذات خواء روحي، حتى أن القرد – جدهم المزعوم – أسعد حالاً من كثير منهم.(87/327)
- طغت على الحياة فوضى عقائدية، وأصبح هذا العصر عصر القلق والضياع.
= كانت نظرية داروين إيذاناً لميلاد نظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية برجسون في الروحية الحديثة، ونظرية سارتر في الوجودية، ونظرية ماركس في المادية، وقد استفادت هذه النظريات جميعاً من الأساس الذي وضعه داروين واعتمدت عليه في منطلقاتها وتفسيراتها للإنسان والحياة والسلوك.
= (فكرة التطور) أوحت بحيوانية الإنسان، و(تفسير عملية التطور) أوحت بماديته.
= نظرية التطور البيولوجية انتقلت لتكون فكرة فلسفية داعية إلى التطور المطلق في كل شيء، تطور لا غاية له ولا حدود، وانعكس ذلك على الدين(*) والقيم والتقاليد، وساد الاعتقاد بأن كل عقيدة أو نظام أو خلق هو أفضل وأكمل من غيره، مادام تالياً له في الوجود الزمني.
= استمد ماركس من نظرية داروين مادية الإنسان وجعل مطلبه في الحياة ينحصر في الحصول على (الغذاء والسكن والجنس) مهملاً بذلك جميع العوامل الروحية لديه.
= استمد فرويد من نظرية داروين حيوانية الإنسان فالإنسان عنده حيوان جنسي، لا يملك إلا الانصياع لأوامر الغريزة وإلا وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب.
= استمد دور كايم من نظرية داروين حيوانية الإنسان وماديته وجمع بينهما بنظرية العقل الجمعي.
= استفاد برتراند راسل من ذلك بتفسيره لتطور الأخلاق(*) الذي تطور عنده من المحرم (التابو) الى أخلاق الطاعة الإلهية ومن ثم إلى أخلاق المجتمع العلمي.
= والتطور عند فرويد أصبح مفسِّراً للدين(*) تفسيراً جنسيًّا: "الدين هو الشعور بالندم من قتل الأولاد لأبيهم الذي حرمهم من الاستمتاع بأمهم ثم صار عبادة للأب، ثم عبادة الطوطم(*) ، ثم عبادة القوى الخفية في صورة الدين السماوي، وكل الأدوار تنبع وترتكز على عقدة أوديب".
· دور اليهود والقوى الهدامة في نشر هذه النظرية:(87/328)
لم يكن داروين يهوديًّا، بل كان نصرانيًّا، ولكن اليهود والقوى الهدامة وجدوا في هذه النظرية ضالتهم المنشودة فعملوا على استغلالهم لتحطيم القيم في حياة الناس.
- تقول بروتوكولات حكماء صهيون(*): "لا تتصوروا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء ولاحظوا هنا أن نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل، والأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحاً لنا على التأكيد".
· نقدها:
- نقدها آغاسيرز في إنجلترا، وأوين في أمريكا: "إن الأفكار الداروينية مجرد خُرافة علمية وأنها سوف تنسى بسرعة". ونقدها كذلك العالم الفلكي هرشل ومعظم أساتذة الجامعات في القرن الماضي.
- كريسي موريسون: "إن القائلين بنظرية التطور لم يكونوا يعلمون شيئاً عن وحدات الوراثة (الجينات) وقد وقفوا في مكانهم حيث يبدأ التطور حقاً، أعني عند الخلية".
- أنتوني ستاندن صاحب كتاب العلم بقرة مقدسة يناقش الحلقة المفقودة وهي ثغرة عجز الداروينيون عن سدها فيقول: "إنه لأقرب من الحقيقة أن تقول: إن جزءً كبيراً من السلسلة مفقودة وليس حلقة واحدة، بل إننا لنشك في وجود السلسلة ذاتها".
- ستيوارت تشيس: "أيد علماء الأحياء جزئيًّا قصة آدم وحواء كما ترويها الأديان، وأن الفكرة صحيحة في مجملها".
- أوستن كلارك: "لا توجد علامة واحدة تحمل على الأعتقاد بأن أياً من المراتب الحيوانية الكبرى ينحدر من غيرها، إن كل مرحلة لها وجودها المتميز الناتج عن عملية خلق خاصة متميزة، لقد ظهر الإنسان على الأرض فجأة وفي نفس الشكل الذي الذي تراه عليه الآن".
- أبطل باستور أسطورة التوالد الذاتي، وكانت أبحاثه ضربة قاسية لنظرية داروين.
= الداروينية الحديثة:
- اضطرب أصحاب الداروينية الحديثة أمام النقد العلمي الذي وجه إلى النظرية، ولم يستطيعوا أمام ضعفها إلا أن يخرجوا بأفكار جديدة تدعيماً لها وتدليلاً على تعصبهم الشديد حيالها فأجروا سلسلة من التبديلات منها:(87/329)
- إقرارهم بأن قانون الارتقاء الطبيعي قاصر عن تفسير عملية التطور واستبدلوا به قانوناً جديداً أسموه قانون التحولات المفاجئة أو الطفرات، وخرجوا بفكرة المصادفة.
- أرغموا على الاعتراف بأن هناك أصولاً عدة تفرعت عنها كل الأنواع وليس أصلاً واحداً كما كان سائداً في الاعتقاد.
- أجبروا على الإقرار بتفرد الإنسان بيولوجياً رغم التشابه الظاهري بينه وبين القرد، وهي النقطة التي سقط منها داروين ومعاصروه.
- كل ما جاء به أصحاب الداروينية الحديثة ما هو إلا أفكار ونظريات هزيلة أعجز من أن نستطيع تفسير النظام الحياتي والكوني الذي يسير بدقة متناهية بتدبير الحكيم (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).
- الجذور الفكرية والعقائدية:
= لقد عرفت هذه الفكرة قبل داروين، وقد لاحظ العلماء أن الأنواع المتأخرة في الظهور أكثر رقياً من الأنواع المتقدمة ومن هؤلاء: رأي باكنسون، لينو.
= قالوا: "بأن التطور خطة مرسومة فيها رحمة للعالمين"، ولكن نظريتهم وصفت بأنها لاهوتية فنسيت داخل معامل الأحياء.
= استوحى داروين نظريته من علم دراسة السكان، ومن نظرية مالتوس بالذات، فقد استفاد من قانونه في الانتخاب أو الانتفاء الذي يدور حول إفناء الطبيعة للضعفاء لمصلحة الأقوياء.
= استفاد من أبحاث ليل الجيولوجية حيث تمكن من صياغة نظرية ميكانيكية للتطور.
= صادفت هذه النظرية جواً مناسباً إذ كان ميلادها بعد زوال سلطان الكنيسة والدين، وبعد الثورة(*) الفرنسية والثورة الصناعية حيث كانت النفوس مهيأة لتفسير الحياة تفسيراً ماديًّا بحتاً، ومستعدة لتقبل أي طرح فكري يقودها إلى مزيد من الإلحاد والبعد عن التفسيرات اللاهوتية، مصيبة كانت أم مخطئة.
الانتشار ومواقع النفوذ:(87/330)
= بدأت الداروينية سنة 1859م، وانتشرت في أوروبا، وانتقلت بعدها إلى جميع بقاع العالم، وما تزال هذه النظرية تدرّس في كثير من الجامعات العالمية، كما أنها قد وجدت أتباعاً لها في العالم الإسلامي بين الذين تربوا تربية غربية، ودرسوا في جامعات أوروبية وأمريكية.
= والواقع أن تأثير نظرية داروين قد شمل معظم بلدان العالم كما شمل معظم فروع المعرفة الإنسانية من علمية وأدبية وغيرها. ولم يوجد في التاريخ البشري نظرية باطلة صبغت مناحي الفكر الغربي كما فعلت نظرية النشوء والارتقاء الداروينية.
ويتضح مما سبق:
أن نظرية داروين دخلت متحف النسيان بعد كشف النقاب عن قانون مندل الوراثي واكتشاف وحدات الوراثة (الجينات(*) ) باعتباره الشفرة السرية للخلق واعتبار أن الكروموسومات تحمل صفات الإنسان الكاملة وتحفظ الشبه الكامل للنوع.
ولذا يرى المنصفون من العلماء أن وجود تشابه بين الكائنات الحية دليل واضح ضد النظرية لأنه يوحي بأن الخالق واحد ولا يوحى بوحدة الأصل، والقرآن الكريم يقرر بأن مادة الخلق الأولى للكائنات هي الماء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} [سورة النور، آية: 45] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }. [سورة الأنبياء، الآية: 30].
وقد أثبت العلم القائم على التجربة بطلان النظرية بأدلة قاطعة وإنها ليست نظرية علمية على الإطلاق.
والإسلام وكافة الأديان السماوية تؤمن بوجود الله الخالق البارىء المدبر المصور الذي أحسن صنع كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من سلالة من طين ثم خلقه م نطفة في قرار مكين، والإنسان يبقى إنساناً بشكله وصفاته وعقله لا يتطور ولا يتحول {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .
----------------------------
مراجع للتوسع :
- أصل الأنواع، تشارلز داروين – ترجمة إسماعيل مظهر – بيروت 1973م.
- سلسلة تراث الإنسانية، مجموعة من الأساتذة – الهيئة العامة للكتاب مصر.(87/331)
- الطريق الطويل للإنسان، روبرت ل. ليرمان – ترجمة ثابت جرجس بيروت – 1973م.
- معركة التقاليد ، محمد قطب – مصر.
- العلم وأسراره وخفاياه، هارولد شابلي وزميلاه – ترجمة الفندي وزميله – مصر 1971م.
- تاريخ العالم، جمع جون أ. هخامرتن – ترجمة إدارة الترجمة – مصر.
- مصير الإنسان، ليكونت دي نوي – ترجمة خليل الجر – المنشورات العربية
- الديناميكا الحرارية، د. إبراهيم الشريف – مصر 1970م.
- العلم يدعو إلى الإيمان، كريس موريسون – ترجمة محمود صالح الفلكي – مصر 1962م.
- العلمانية، سفر بن عبد الرحمن الحوالي – مكة المكرمة 1402/1982م.
- الإنسان والعلاقات البشرية، ستيوارت تشيس – ترجمة أحمد حمودة مصر 1955م.
- معالم تاريخ الإنسانية ، هـ. ج. ويلز – ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد – القاهرة – 1967م.
- نظرية داروين بين مؤيديها ومعارضيها، قيس القرطاس – بيروت – 1391هـ.
- التطور والثبات، محمد قطب.
- اللامنتمي، كولن ولسون – ترجم أنيس زكي حسن – بيروت 1958م.
- أثر العلم في المجتمع ، برتراند راسل – ترجمة تمام حسان – مصر.
- منازع الفكر الحديث، تأليف حود – ترجمة عباس فضلي – العراق 1375هـ.
- الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب – مصر 1957م.
- العقل والدين، وليم جيمس – ترجمة محمود حسب الله – مصر 1368هـ.
- العقل والمادة، برتراند راسل – ترجمة أحمد إبراهيم الشريف – القاهرة – 1975م.
- مذهب النشوء والارتقاء ، منيرة علي القادياني – تقديم محمد البهي- مصر 1395هـ.
- بروتوكولات حكماء صهيون، ترجمة محمد خليفة التونسي – مصر.
- معالم التحليل النفسي، سيجموند فرويد- ترجمة عثمان نجاتي القاهرة 1966م.
- ما أصل الإنسان، موريس بوكاي (إصدار مكتب التربية العربية لدول الخليج).(87/332)
بسم الله الرحمن الرحيم
المولد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد :
فهذا بحث في مسألة تكلم بها كثيرون حتى أضحت شعاراً لبعض الجماعات، إنها مسألة
الاحتفال بعيد مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والدافع لهذا البحث أن مسألة الاحتفال بالمولد ومن شدة تعلق البعض بها وأنها شعار لمذهبه وانتمائه أصبح هدمها هدماً لمذهبه وجماعته بالكلية، ومن هنا كان الدفاع عنها شرساً والنقاش معهم فيها غالباً محكوم عليه بالفشل.
فرأيت أن الكتابة في هذا البحث مع مزيد من البيان مجال مفتوح أمام من أراد أن ينظر في أدلة المسألة ثم يعيد النظرَ ثم يتبع الحق الذي يظهر لديه بعيداً عن الانتصار للنفس، خاصة وأن المجادل غالباً لا يسمع لك في أثناء حوارك له حيث يشغله استحضار الرد والجدل.
فأنا أرجو ممن أراد أن يقرأ هذا الكلام أن يستحضر في قلبه معناه وأن يفسح لذهنه فرصة الفهم والبحث بعيداً عن استحضار الرد وتصيد الأخطاء ومكامن المشتبهات.
في البداية أجدني مضطراً إلى تبين بعض النقاط من أجل تحرير وتحديد موضع البحث خشية أن يدخل علي البعض فيأخذ بعض جوانب الموضوع ويحور الوجهة الرئيسية لمسار البحث فأقول:
أولاً ـ إنني لا أتطرق هنا إلى إنشاد ومدح واحتفال بمناسبة زواج أو نجاح أو غيره من النشاطات الاجتماعية التي يجتمع فيها الناس ويطلق عليها العوام اسم المولد.
ثانياً ـ إنني لا أتعرض هنا لبحث مشروعية الضرب على الدف أو الطبل أو المزمار أو حتى الرقص الذي غالباً ما يصحب تلك المجالس.
ثالثاً ـ إنني مقر بأن من أعظم النعم على البشرية ولادة سيد ولد آدم محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وحاشا لله الغفلة عن ذلك.(88/1)
بحثي هذا في الاحتفال بالعيد السنوي المحدد بيوم الثاني عشر من ربيع.
جدير بنا أن نعلم أن النهي عن الابتداع ليس معناه النهي عن شرب الخمر أو الزنا وإنما معناه النهي عن إدخال شيء في الدين من الأمور المحدثة والتي يظن فاعلها فيها مصلحة أو خيراً أو تقرباً بها إلى الله تعالى، وكم من آيات وأحاديث وردت تحث الناس على الاتباع وتحذرهم من الابتداع ولكن.
وإن لم يضبط هذا الأمر فكيف لنا أن نتفق ونجتمع، وكيف لنا أن ننكر على الشيعة مثلاً محافل الأحزان والبكاء واللطم في يوم هو والله من أعظم الكوارث على الأمة المحمدية يوم جُذَّ رأس سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُثِّل فيه وحمل على رؤوس الرماح ؟.
هذا وقد وقعت للبعض بعض الشبهات فاستدل على الاحتفال بالمولد بحديث طويل سُئل فيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال: (( ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه )) (1)
وهذه الشبهة ندفعها بإذن الله تعالى من أوجه:
أولاً ـ أين الدلالة في الحديث على تخصيص يوم من السنة يحتفل فيه بالمولد، وهل كل يوم فضيل أتى الخبرُ ينصُ عليه يُسن الاحتفال فيه ؟
إن كان فهناك أيام فضيلة كثيرة فهل يسن فيها احتفال أيضاً كيوم القر مثلاً فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر )). (2)
أو أيام العشر من ذي الحجة أو ليلة القدر أو.......(88/2)
ثانياً ـ أنه أمر لم يعمل به أحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ولم يعرف عند النظار أبي حنيفة ولا عن ابن المدينة عاصمة الإسلام مالك ولا عن الأثري أحمد ولا عند غيرهم من فقهاء الأمة، مع أن المسألة حادثة منذ فجر الإسلام بل من قبله بزمان، ومن المعلوم لدى أي عاقل ومن باب أولى سيد الخلق المعلم الأول المؤيد بالوحي الإلهي عليه الصلاة والسلام أن يوم الثاني عشر من ربيع الذي يعظمه من يحتفل بالمولد لا يكون دائماً في كل سنة يوم الاثنين، وعليه يكون فعلهم هذا بخلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو والله عين المخالفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على يوم من الأسبوع بعينه هو يوم الاثنين وهم اتخذوا الثاني
عشر من ربيع يوماً من السنة الذي يدور من الأسبوع دورته !!
ـــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم رقم / 1162 /.
(2) سنن أبي داود رقم / 1765 / وإسناده صحيح.
كذلك لم يعرف الصيام يوم الثاني عشر من ربيع لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره وهذا معناه أن السبب الداعي للصيام هو يوم الاثنين الذي اجتمعت فيه فضائل منها يوم مولده صلى الله عليه وسلم ومنها:
أنه يوم ترفع الأعمال فيه كما جاء في حديث فسر فيه صلى الله عليه وسلم سبب صيامه له دون ذكر فضيلة أخرى فقال: (( تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )) (1)
ومنها أنه أنزل فيه عليه صلى الله عليه وسلم، وهنا أشير إلى أن نعمة بعثته بالرسالة قد ميزته ورفعته على العالمين بخلاف مولده الذي شابه به غيره وهذا كله بنص القرآن العظيم:(88/3)
{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي} (2) فما كان من الصفات البشرية فهو مثل غيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، إلا ما جاء به نص، ولا نخالف نص القرآن الذي ينص على بشريته إلا بنص شرعي ثابت يخصصه، وإن لم نعتمد هذا فيجب علينا أن نقر لمن يحتفل بعيد ميلاده أو ميلاد شيخه أو...، لأن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ـ على فرض ثبوته ـ لم يرد فيه التخصيص فيمكن القياس عليه.
ثالثاً ـ من يمنع من صيام يوم الاثنين من كل أسبوع وهو يوم مسنون فيه الصيام وغيره،
وله كثير من الفضائل ومنها الصيام شكراً لله على مولد نبينا صلى الله عليه وسلم فيه، وعلى قول من رأى الاحتفال فلماذا لا نقيم احتفالاً دون الصيام في كل يوم اثنين على مر الزمان وهو الذي جمع كل هذه الفضائل.؟
رابعاً ـ بناءً على عمل المولد بدلاً عن صيام أداه النبي صلى الله عليه وسلم شكراً على نعمة لماذا لا نقيم مولداً في يوم عاشوراء بدلاً من صيامه شكراً على نعمة ؟
خامساً ـ كم من فرق بين الصيام ركن الإسلام العبادة المتعبد بها وبين الاحتفال السنوي بالمولد وهو أسمى عادة وعبادة عند النصارى وغيرهم.
وقائل يقول: ألم يصم صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ؟
لمثل هذا نقول: هذا تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لماذا لا نصوم أو نحتفل بمولد عيسى عليه الصلاة والسلام، ألسنا أحق به من النصارى، لماذا لا نصوم أو نحتفل يوم دخل
يوشع عليه الصلاة والسلام أرض بني إسرائيل.
ـــــــــــــــ
(1) سنن الترمذي رقم / 747 /، وأصله عند مسلم رقم /2565/.
(2) سورة الكهف، الآية /110/.(88/4)
وإذا طلبت من أحدهم أن يذكر لك أحدَ العلماء الذين ذكروا أدلة الاحتفال بالمولد وقالوا به يقول لك : السيوطي في بحثه حسن المقصد في عمل المولد. وعندما رجعت إلى كلامه عجزت عبارتي والله عن وصف ما قرأت فرأيت أن أنقل كلامه بحروفه حيث قال في كتابه الحاوي للفتاوي : وأول من أحدث فعل ذلك ـ أي المولد ـ صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين علي بن بكتكتين أحد الملوك الأمجاد والكبراء
الأجواد … حكى بعض من حضر الملك المظفر في بعض الموالد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم مشوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم وكان يصرف على المولد. اهـ (1)
أقول بالله عليكم أين كان سيدنا الصديق والفاروق عمر والصحابة معهم عن القيام بالاحتفال بالمولد في مسألة حادثة منذ فجر الإسلام قبل الملك المعظم المظفر صاحب الأمجاد كبير الكبراء سيد الأجواد كوكبرى ابن بكتكتين ملك إربل عاصمة الإسلام ؟ أين كان مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي، أين كان خلفاء بني أمية وبني العباس، أين كان الفقهاء والمحدثون، أين كانت أمة الإسلام قبل الملك المظفر صاحب إربل عاصمة وحصن ومنبع الإسلام كوكبرى بن بكتكتين في القرن السابع الهجري !!!
ولله إنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد الصحيح يقول: (( خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويفشو فيهم السمن )) (2) ولم أسمعه يقول خير أمتي قرون التتار والمغول.
ولعل أحدهم يقول إن هذا اليوم من شعائر الله وتعظيمه من تقوى القلوب ؟(88/5)
ولمثل هذا نقول: إن يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم المعلوم لديكم كان معلوماً لدى الصديق والفاروق ومن ذكرنا سابقاً ولم يقوموا بمثل هذا التعظيم الذي تقومون فيه فلا أعلم هل كان ينقصهم تقوى القلوب الذي تملكون، أم عقل ونظر مما تحملون.
ــــــــــــــــــ
(1) ـ الحاوي للفتاوي / 1 ـ 251 /.
(2) ـ رواه مسلم وأبو داود.
ومسألة المولد ولله الحمد والمنة ترد من عدة جوانب منها:
كونها تشبه ظاهر باليهود والنصارى وغيرهم، ومن المعروف لطالب العلم أن التشريع الإسلامي من أسسه مخالفة أهل الكتاب و أهل الشرك، وكم من عبادات أصل من أصول الإسلام نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤدى في أوقات أو أماكن لكي نخالف بها أهل الشرك أو أهل الكتاب، منها نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس أو الزوال أو الغروب، ونهيه عن الصيام في أيام السبت منفردة، كذلك في النفر من مزدلفة إلى منى حتى ترتفع الشمس على الجبل و……..
ومن المعروف أن الاحتفال بمولد نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام عند النصارى هو معلم من معالم دينهم عرفته القرون قبل ظهور الإسلام بقرون، به تدق النواقيس وتفتح الكنائس وترتل التراتيل وتقام الصلوات ويتزاور الناس ويحتفلون ……...
فبالله عليكم كيف بنا نحتفل كما يحتفلون وقد قال من نحب ونتبع صلى الله عليه وسلم:
(( خالفوا اليهود والنصارى )) (1)
وفي حديث آخر (( خالفوا المشركين )) (2)
وفي حديث آخر (( خالفوا المجوس )) (3)
كيف بنا وقد نهانا عن التشبه باليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم:
(( ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى )) (4)
هذا في المشية أو الملبس، ونحن نتشبه بهم في أهم محفل من محافل دينهم وعباداتهم، بالله عليكم ألا يخيفنا قوله صلى الله عليه وسلم : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) (5) أم تراه يمزح معنا.؟
كيف بنا وقد قال لنا من نحب ونتبع صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء :(88/6)
(( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع )) (6) من أجل مخالفة اليهود.
كيف بنا وقد نهانا عن الصيام العبادةِ المجمع عليها ركنِ الإسلام منفردة في يوم السبت
مخافة التشبه باليهود أو النصارى، سبحان الله هذا كله بالعبادات المنزلة من عند الواحد الأحد المجمع على أنها أساس من أسس الإسلام يمنعنا الشارع صلى الله عليه وسلم من
أدائها على نحو فيه بعض الشبه البعيد وهو تعظيم النصارى ليوم السبت، فما بالكم باحتفال
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح ابن حبان رقم / 2186 / وإسناده حسن. (2) صحيح البخاري رقم / 5553 /.
(3) صحيح مسلم رقم / 602 /. (4) سنن الترمذي رقم / 2695 / وإسناده حسن.
(5) سنن أبي داود /4031/ (6) صحيح مسلم رقم / 2662 /.
منزلٍ من عند كوكبرى ابن بكتكتين ملك اربل عاصمة الإسلام الملك المعظم المظفر الجواد صاحب الأمجاد ومجدد الأحقاب....
كيف بنا وقد حذرنا من نحب ونتع صلى الله عليه وسلم من اتباع اليهود والنصارى
فقال: (( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى، قال : فمن )) (1).
كيف بنا وقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: (( لا تجعلوا قبري عيداً )) (2)
فالنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المكان المختص به أن يتخذ عيداً يعتاد، وأنتم اتخذتم الزمان المختص به عيداً يعتاد ؟.
كيف بنا وقد قال لنا من نحب ونتبع صلى الله عليه وسلم: (( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )) (3)
سبحان الله إن اللبيب من الإشارة يفهم فضلاً عن البينات الواضحات التي سبقت ولكن !!.
ألم ينهنا صلى الله عليه وسلم عن تخصيص ليلة أو يوم الجمعة الفضيلين من بين الليالي والأيام، فقال: (( لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم )) (4)
فكيف نخصص يوماً من السنة و نجعله عيداً يعتاد ؟؟(88/7)
كيف بنا وقد نص من نحب ونتبع صلى الله عليه وسلم أن أعياد المسلمين اثنان لا
ثالث لهما فعن أنس رضي الله عنه قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال : (( ما هذان اليومان، قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال : إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر )) (5)
وقد عرفتم أن عامة المسلمين اليوم يعتقد أن هذا اليوم أحد أبرز أعياد المسلمين، ألا نخاف أن يكون في ذلك تبديل لشرع الله تعالى.
كيف بنا والنبي صلى الله عليه وسلم وصف المغالاة في العبادات أصول الإسلام مثل الصلاة
والصيام خروجاً عن سنته، وتبرأ منها بقوله للنفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادته في السر:
ـــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري رقم / 3269 /. (2) سنن أبي داود رقم / 2042 / وإسناده صحيح.
(3) صحيح البخاري رقم / 3261 /. (4) صحيح مسلم رقم / 2679 /.
(5) سنن أبي داود رقم / 3389 / وإسناده صحيح.
(( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني )) (1) هذا بالنسبة لإنسان أفرط بالتقرب إلى الله تعالى بعمود الإسلام الصلاة أو الصيام الركن الركين فما بالك بما نحن فيه !!!.
هذا وأن أعياد المشركين بذاتها قد جاء نص يحظر علينا أي ربط أو مشابهة بها، ولو كان بأمر شرعي، ودليله أن رجلاً نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد، قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم )). (2)(88/8)
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، عمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، هل ذلك مستحب أم لا، فأجاب : الحمد لله، جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سنة وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين وإعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان هو من سنن الإسلام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من فطر صائما فله مثل أجره )) وإعطاء فقراء القراء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها والله سبحانه وتعالى أعلم.اهـ (3)
وقال رحمه الله تعالى : لو أن قوما اجتمعوا بعض الليالي على صلاة تطوع من غير أن يتخذوا ذلك عادة راتبة تشبه السنة الراتبة لم يكره لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع ولو ساغ ذلك لساغ أن يعمل صلاة أخرى وقت الضحى أو بين الظهر والعصر أو تراويح في شعبان أو أذان في العيدين أو حج إلى الصخرة ببيت المقدس وهذا تغيير لدين الله وتبديل له وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة في الشريعة وهى أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال.اهـ (4)
ــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم رقم / 3389 /. (2) أبو داود رقم /3313/. بإسناد صحيح.
(3) مجموع الفتاوى / 25 ـ 268 /. (4) مجموع الفتاوى / 23 ـ 133 /.
وسئل الدكتور يوسف القرضاوي، في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة الفضائية بتاريخ 9/ ذي الحجة 1421 هـ.(88/9)
س ـ لماذا لا نحتفل بيوم مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ج ـ هذا لأن الأعياد عندنا مرتبطة بشعائر والذي حددها هو صاحب المولد صلى الله عليه وسلم، وهو القائل إن الله أبدلكما بيومي الجاهلية عيد الفطر وعيد الأضحى ولم يجعل يوم مولده عيداً لأن مولده صلى الله عليه وسلم كان مولداً عادياً فالمسيح ولد من غير أب وحدثت حوله ضجة واهتم القرآن به وذكره في سورة مريم وآل عمران، أم مولد محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان مولد يتيم عادي ولذلك لم تُذكر قصة المولد في القرآن قط على خلاف ما ذكر كالهجرة والإسراء والمعراج والغزوات وهذه الأشياء، فلذلك لم يشرع لنا الاحتفال
بالمولد أو التعبد بالاحتفال بالمولد فنحن في هذا متبعون ولسنا مبتدعين، متبعون لما شرعه
النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ
ولعل أحد الدعاة يُزين له أمر السكوت عن هذا الفعل، بحجة التقارب والمسايرة وما إلى ذلك، والمسايرة أمر طيب حسن ولكن ليس على حساب الدين، فنتيجة بحثي وعلى رأسها فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، تظهر مدى المخالفة الشرعية التي يقع بها المحتفلون، ولمثل هذا الداعي أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم )). ومن هذا الحديث يكون لدينا ثلاثة أصناف: ظاهر على الحق، ومخالف للحق، وخاذل للحق، وعليه فالداعي المسلم أحد طوائف ثلاث: إما ظاهر على الحق، وإما مخالف والعياذ بالله، وإما خاذل لأهل الحق، ولا أراك إلا منهم أيها الداعي الحكيم.
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، والحمد لله وحده هو الهادي إلى صراط مستقيم،
وصلى الله ربي على مولاي وقرة عيني محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(88/10)
المولد النبوي بين المشروعية والبدعية
فهد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
المولد النبوي بين المشروعية والبدعية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فمع كل إقبال شهر ربيع الثاني يثار الجدل والنقاش حول مشروعية الاحتفال بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم - من عدم مشروعيته وتكثر الرسائل والكتب من الطرفين المجيزين والمانعين وتتنوع بين الصغيرة والكبيرة والمطولة والمختصرة، ومع هذا فقد أحببت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع وأن أوضح بعض القضايا التي أرى من الضروري فهمها واستيعابها وتجليتها وبيانا للحق وكشفا لغيره مما قد يلبس لبوس الحقيقة وهو عنها بمعزل.
وقد قسمت البحث إلى :
المقدمة: فقبل أن أدخل في صلب الموضوع مهدت له بجملة تمهيدات هي في الحقيقة مقدمات ضرورية ومفيدة يظهر من خلالها حكم المولد وترسم الطريق لكيفية التعامل مع هذه المسألة وغيرها مما يقاربها أو يشابهها .
الفرع الأول: أدلة المانعين.
الفرع الثاني: أدلة المجيزين.
الفرع الثالث: القول الراجح.
الخاتمة.
المقدمة
وهنا أذكر بعض القضايا التي تصور بعض جوانب هذه المسألة وتساعد على فهمها وإعطائها الحكم الصائب.
1- تاريخ المولد النبوي:
يرجع البعض الاحتفال بالمولد النبوي إلى الدول الباطنية والتي يسميها أتباعها بالفاطمية والتي حكمت مصر ردحا من الزمن وكانت هذه الدولة تعتنق الدين الإسماعيلي وينتسب قادتها إلى شخص يسمى عبيد الله بن ميمون القداح يذكر عنه بعض المؤرخين بأنه مجوسي دس نفسه في المسلمين مريدا زعزعة دينهم وخلخلته من الداخل بإحداث بعض البدع والخرافات والعقائد المناقضة للإسلام.(89/1)
ويذكرون أن الدولة الباطنية أحدثت المولد النبوي ضمن موالد واحتفالات وأعياد أخرى كثرت مع الزمن ونكتفي بذكر الموالد التي نقل احتفالهم بها وهي: مولد النبي- صلى الله عليه وسلم -، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن والحسين ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر (1)
في حين يرجع آخرون وهم المؤيدون للمولد بأن أول من عمله لم يكن باطنيا أو إسماعيليا بل كان ملكا عادلا ويعرف بالمظفر أبي سعيد ملك إربل وحكي عنه أنه في بعض الموالد كان يمد في السماط خمسة آلاف راس مشوى، وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى وأنه كان يحضر عنده في هذه الموالد أعيان العلماء(!) والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم(!!!)(2)، ولكن مما أيد به أصحاب القول الأول قولهم أن تاريخ فعل هذا الملك متأخر عن فعل الباطنية مما يعني أنهم أول من أحدثه، وأن هذا الملك فلدهم جهلا.
وعلى كل فالجميع متفقون على أنه جاء متأخرا بحيث مرت القرون الثلاثة الأولى وهي القرون المفضلة دون ذكر للاحتفال بالمولد أو إقامته، وهذا هو المطلوب أي الإقرار بأن المولد حدث متأخرا، لأننا سنبني على هذا شيئا آخر، ولا يهمنا في هذا المقام كون أول من احتفل بالمولد سنيا أو شيعيا، إنسيا أو جنيا أو غيره.
وهذا ما صرح به العلماء حيث ذكروا أن الاحتفال بالمولد لم يكن في السلف قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ(3)
__________
(1) الخطط للمقريزي 1/490
(2) البداية والنهاية 13/137
(3) نقلا عن سبل الهدى والرشاد للصالحي (1/439) ط. وزارة الاوقاف المصرية .(89/2)
وإن مما يجدر ذكره والتنبيه عليه أن فترة ظهور المولد كانت فترة التقليد وانقضاء المجتهدين، ومن المعلوم أن استحباب فعل ما أو إيجابه اجتهاد بلا شك؛ لأن التقليد هو التزام قول الغير دون زيادة أو نقصان بخلاف الاجتهاد الذي يعني بذل الوسع في استنباط حكم شرعي وهذا بعينه هو ما قالوه بشأن استحباب المولد فكيف يتواءم هذا مع ما نظروا له من تحريم الاجتهاد وإغلاق بابه وشن الغارة على بعض الأكابر ممن هو أهل للاجتهاد بتضليله لكونه نزع ربقة التقليد، إنه حقا لأمر غريب، أقول هذا وإن كانت قناعتي بأن إقفال باب الاجتهاد لم يكن واقعيا إلى حد كبير فدعوى إغلاق باب الاجتهاد وانقراض عصر المجتهدين وإن منعت علماء أكابر من الاجتهاد في مسائل مهمة وكانت سيفا مصلتا على كثيرين إلا أنها في الواقع لم تمارس عمليا بشكل كبير فقد كان الكثير من الفقهاء يجتهدون بل ومن وصموا بأنهم مقلدين، ولسنا في مقام بسط هذا إنما أحببت أن أشير إلى هذه النكتة إذ إن بعضهم مع تحريمه الاجتهاد على جلة من العلماء الكبار إذا به يجتهد هو نفسه، وللأسف أنه حين يجتهد يكون اجتهاده غالبا مجانبا للصواب فيما يتعلق بما يشابه قضايا المولد والذكر ونحوها مما له علاقة بالتصوف والذي دخلت فيه الكثير من الدخائل.
2- السنة والبدعة:
كثر الكلام عن البدعة وتعددت تعاريف العلماء لها فمنها المتشابه ومنها المتغاير ومنها المتداخل، وقد حاول كل صاحب تعريف أن يدلل لتعريفه وينقض تعريف الآخرين، والسبب الأكبر في هذا الاختلاف هو أن كل صاحب تعريف يصوغ تعريفه بما يتلائم وأقواله الفقهية وتوجهاته الاستنباطية والمذهبية فهو يصوغ التعريف بعين وينظر بالعين الأخرى إلى الفروع، محاولا ألا يعود تعريفه بإبطال بعض أقواله وفتاويه أو فتاوى مدرسته الفقهية التي ينتمي غليها.(89/3)
ومع هذا تجد أحيانا هذه التعاريف مطاطة عامة لا تستطيع أن تمسكها، فإذا ما جئتها من طرف فرت عليك من طرف آخر، وكمثال على هذا يعرف بعضهم البدعة بأنها "إحداث ما لم يكن في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم -"(1) فترى أن هذا التعريف واسع يشمل كل ما لم يكن في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - سواء كان في إطار التعبدات أو العادات، وهكذا تجد الكثير من التعاريف، يرد عليها هذا الإشكال ولهذا تفادا أصحاب التعريف السابق ما قدر يرد على تعريفهم من إشكالات بأن قسموا البدعة إلى: بدعة حسنة وأخرى سيئة، وقسمها آخرون كالعز بن عبد السلام وتبعه كثيرون إلى الأحكام الخمسة: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، ولكن يرد هذا التقسيم حديث: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"(2) ومن المعلوم أصوليا أن (كل) من ألفاظ العموم وأضيفت إلى نكرة فتعم كل بدعة، ولهذا فتقسيم البدعة على هذا الشكل يتناقض تماما والنص النبوي.
والصواب أن البدعة لها إطلاقان الأول لغوي والثاني شرعي ، فأما الإطلاق اللغوي فتعني البدعة إحداث ما ليس له مثال سابق وفي هذا الإطار يدخل تعريف العز ونحو قول عمر رضي الله عنه بشأن التراويح: نعمت البدعة هذه، مراده البدعة بالمعنى اللغوي للبدعة لا المعنى الاصطلاحي.
فالبدعة بالمعنى اللغوي تشمل ما كان دنيويا كاختراع الكهرباء والسيارات والطائرات، إذ كلها أحدثت على غير مثال سابق.
كما يدخل ضمنها المصالح المرسلة كجمع القرآن وتدوين العلوم وبناء المدارس والأربطة ونحوها.
أما المعنى الاصطلاحي للبدعة فالذي نرتضيه إلى حد كبير هو تعريف الإمام الشاطبي في كتابه القيم الاعتصام والذي عرف البدعة بأنها "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"(3) فيخرج بهذا التعريف ما كان دنيويا وما كان مصلحة مرسلة.
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 1/22
(2) مسلم 2/592
(3) الاعتصام 1/51(89/4)
بقيت نقطة أود توضيحها لها تعلق بموضوع البدعة ويحتج بها البعض في تجويز واستحباب بدعة ما وهو قولهم: إن له أصلا في السنة كما فعل بعضهم في مسألة المولد بأن قال إنه خرجه على أصل ثابت في الصحيحين من أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى"(1).
ويكفي في الرد على هذا أن نذكر قصة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم - رضي الله عنه -:"فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ.
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" (2)
فرغم أن الشارع قد حث على الذكر ورغب فيه ووردت فيه الكثير من الأدلة الصحيحة والصريحة بما لم يرد شيء منه في المولد ومع هذا فقد وصفهم ابن مسعود بأنهم لم يصيبوا الخير، وهذا دليل واضح في المسألة.
ارتكبت الكثير من البدع ونَفَذَت العديد من الخرافات، تحت عنوان له أصل في السنة مع أن ما زعموه أصلا لا يتفق مع ما يفعلوه، كم أنه لو لم يكن إلا تعارض حديث(كل بدعة ضلالة) والذي يدل على التحريم والأصل الذي يذكرونه لكان الأخذ بالتحريم هو الصواب وهو ما ذكره العلماء في التعارض من علم الأصول، هذا إذا تنزلنا وقلنا بوجود تعارض وإلا فالأمر ليس كذلك بتاتا.
__________
(1) البخاري 3/1434، ومسلم2/795
(2) سنن الدارمي 1/68-69(89/5)
إن البدعة تعني الاستدراك على الشارع بتشريع ما لم يشرعه والله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } ]المائدة:3[ فدين الله كامل لا يحتاج إلى زيادة، ويكفينا أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -حيث قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة"(1).
تصوير زائف:
يحاول البعض تصوير الخلاف بين من يحرمون الاحتفال بالمولد والمجيزين له بأنه خلاف بين من يحب النبي- صلى الله عليه وسلم - ومن لا يحبه بل تأخذ بعضهم فورة الغضب فيقول : إن بين القوم -أي المحرمين لهذه البدعة- والنبي- صلى الله عليه وسلم - شيء وأن غرضهم إنما هو نزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب!!! ولست أدري هل كان بين خير القرون ورسول الله- صلى الله عليه وسلم -شيء، وهل أراد سلف الأمة بعدم احتفاله نزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب.
أقول يؤخذ على هذا التصوير وتبعاته الكلامية مآخذ:
ليس من أدب الخلاف أن نرمي الآخر بمثل هذا الكلام الذي لا يمت على الموضوع بصلة.
يقول سبحانه { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } (2) فالله وحده هو من يعلم ما تخفيه الصدور وما تنطوي عليه القلوب، فقوله بأن غرضهم... علم بالغيب ورد لهذه الآية، هذا وقد ثبت في مسلم أن زيد بن ثابت قتل رجلا في حرب بعد نطقه الشهادتين فعنفه رسول الله فقال زيد إنما قالها خوفا من السلاح، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أفلا شققت عن صدره"(3) ونقول لهذا القائل أفلا شققت عن صدور المخالفين حتى علمت أغراضهم.
__________
(1) سنن الدارمي 1/80
(2) غافر 19
(3) مسلم 1/96(89/6)
أن الخلاف ليس حول مسألة عقدية بل هي مسألة فرعية هذا في حالة كون بالمولد مجردا عن بدع أخرى لها أحكامها الأخرى، فتهويلها بالشكل السابق فيه مجانبة للحقيقة بل يزعم بعضهم بأن المحرمين يقولون بأن من يحتفل بالمولد مشرك!!! هكذا ولست أدري ما الذي يدفع إلى هذا القول الذي ليس له من الحقيقة أدنى نصيب.
في قولهم بأن بين المحرمين والنبي- صلى الله عليه وسلم - شيء...الخ ولا أدري ما هذا الشيء إلا أنني استغرب هذه المقولة ممن يدعي التصوف ويدعو إلى حسن الظن بالمسلمين ومعاملتهم باللين وعدم رفع الخلافيات والفرعيات إلى القطعيات ونحو هذا الكلام الذي اكتشفت أخيرا بعده عن واقعه وانعدام أثره في تطبيقه العملي وما نحن فيه خير مثال على ذلك.
إن المقولة السابقة تعني تكفير المحرمين، لأن من يكون بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - شيء ويريد أن ينزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب فالكفر غير بعيد عليه، في حين أنه يتهم المحرمين بأنهم هم من يكفر الناس !!!
عندما يفلس القائل من كل الحجج المقنعة بحيث لا يجد ما يؤيد مقولته يضطر إلى قول مثل هذا الكلام الدعائي الذي لا تتوفر فيه المعايير الموضوعية ولا ينطلق وفق المناهج العلمية في التدليل وتنعدم عنده كل أشكال الاستدلال.
يريد المجيزون أن يتفهم الآخرون موقفهم وهم لم يتفهموا موقف غيرهم، فالمحرمون قالوا بتحريم الاحتفال بالمولد بناء على أدلة صحت عندهم والتي سنذكرها لاحقا فاتهامهم بتهم غير لائقة لا يمت إلى التدين ولا إلى أدب الخلاف بصلة.
الفرع الأول
أدلة المحرمين لإقامة المولد النبوي
استدل المحرمون بجملة أدلة أذكرها فيما يلي:(89/7)
1- أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولا فعله صحابته ولا أحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على أيدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عز وجل صاحبه وفاعله بقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
2- أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار ).
فقوله (كل بدعة ضلالة ) عموم لا مخصص له يدخل فيه كل أمر مخترع محدث لا أصل له في دين الله والعلماء مجمعون على انه أمر محدث فصار الأمر إلى ما قلنا أنه بدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار أعاذنا الله وإياك منها.
3- أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولا يكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
4- قال الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } (1)
والقول بأن المولد عبادة يتعبد لله تعالى بها فيه تكذيب بهذه الآية .
كما أن فيه استدراك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
__________
(1) المائدة 3(89/8)
5- أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها لأن الله اعلم بما يصلح عباده، وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضا يعلم بل ربما يفهم أن يعلم أمرا لم يعلمه الشارع.
6- أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لا يتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لأن الذي يمارسون هذه البدعة يقولون إن هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم
وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لان محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1)
فالذي يجعل المحبة باقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول ان المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة ).
7- أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم "ومن تشبه بقوم فهو منهم"(2)(3)
__________
(1) آل عمران 31
(2) أبو داود 2/442
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/581.(89/9)
8- أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه.
وأما يوم مولده فمختلف فيه ،فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به .
ويقول ابن الحاج (1):" ثم العجب العحيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عز وجل وفجعت الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لايعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وانفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
9- اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء، ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحر ومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عز وجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف(2).
الفرع الثاني
أدلة المجيزين ومناقشتها
استدل الميزون بجملة أدلة نذكرها فيما يلي مع مناقشة وجه الاستدلال:
قال تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [يونس 58].
فالله عَزَّ وجَّل طلب منا أن نفرح بالرحمة، والنبيُّّ صلى الله عليه وسلم رحمة، وقد قال تعالى: { وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء 107].
الجواب:
__________
(1) المدخل 2/15
(2) انظر هذه الأدلة وغيرها في المولد النبوي للحنيني، وانظر القول الفصل للشيخ إسماعيل الأنصاري.(89/10)
بعد الرجوع إلى كتب التفسير المشهورة كتفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير وتفاسير القرطبي والبغوي والبيضاوي والنسفي وابن الجوزي لم أعثر على شيء من هذا القبيل ويكفي في توضيح معنى الآية أن أذكر كلام شيخ المفسرين إذ لو نقلت عن الجميع لطال المقام.
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك ، وبما أنزل إليك من عند ربك : بفضل الله أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ودعاكم إليه ، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم ، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم ؛ وذلك القرآن .
{ فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } يقول : فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"(1) .
يظهر من هذا أن الآية تتحدث عن شيء آخر ولا يدخل فيها نصا أو دلالة ما ذكروه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - هو المراد بالرحمة هنا، كما أن في هذا إغفال تام لسياق الآية.
ثم حتى وإن سلمنا بأن المراد بالرحمة هو النبي- صلى الله عليه وسلم - فما دخل المولد بالفرح به، إن المولد يعني الاحتفال في يوم معين من السنة أو بصورة مستمرة بأسلوب مخصوص، والآية تأمر بالفرحة دون توقيت، كما أنها فرحة كذلك بما أنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم - من تشريع والذي هو كذلك رحمة للناس ولا علاقة للمولد بهذا كله.
قال الله تعالى: { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك } [هود120] والمولد النبوي الشريف يشتمل على أنباء النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذكره تثبيت لأفئدة المؤمنين.
الجواب:
أولا لا علاقة لهذه الآية بالمولد كما هو ظاهر.
ثانيا: تثبيت الفؤاد يكون بما ثبت في القرآن والسنة حاشا الخزعبلات من القصص التي تهز الإيمان بدلا من تثبيته.
__________
(1) جامع البيان 6/568.(89/11)
ثالثا: من المعلوم أن السيرة النبوية وذكر قصص الأنبياء كما هو وارد في القرآن وصحيح السنة مما هو مطلوب طوال العام وبدون طقوس ومظاهر خاصة.
قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليهما السلام: { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } [المائدة 114].
وقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام: { والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } [مريم:33].
هذه الآية والتي قبلها وغيرهما من الآيات ، حافلة بالإشارات إلى ميلاد المسيح عليه السلام، ومدحه ومزاياه التي مَنَّ الله بها عليه، وهي بمجموعها شاهدة وداعية إلى الاحتفال بهذا الحدث العظيم.
وما كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم بأقل شأناً من ميلاد عيسى عليه السلام، بل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم منه، لأنه صلى الله عليه وسلم أكبر نعمة، فيكون ميلاده أيضاً أكبر وأعظم.
الجواب:
يجاب عن هذا الاستدلال من وجوه:
إننا أمة الإسلام ليس لنا سوى عيدين لا غير.
الآية الأولى لا تذكر الاحتفال ولا تدل عليه لا دلالالة ولا اقتضاءا، وإنما تتحدث عن المائدة التي أنزلها الله من السماء لبني إسرائيل من أتباع عيسى.
فيه مشابهة للنصارى ومن المعلوم أن من مقاصد الشرع مخالفتهم في شعائرهم.
قال تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } [الفتح9].
الجواب:
ليس من توقيره أن نبتدع في دينه غير ما شرعه وجاء به، بل التوقير الحق هو اتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وقد نهانا عن الابتداع، فوجب اتباعه إيمانا وتوقيرا.
قال الله تعالى: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [آل عمران:164].(89/12)
قوله سبحانه وتعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } . والاحتفال بالمولد تطبيع النفس على كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم رجاء أن ينطبع حبه وحب آله في القلوب .
قوله سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } .
الجواب:
كل الآيات السابقة لا تدل على مشروعية المولد، كما أن المراجع لكتب التفسير يجد لهذه الآيات سياقات ودلالات أخرى لا تتفق وما أرادوا التدليل عليه، وإنني لأستغرب كيف حشرت هذه الآيات في غير موضعها للتدليل على ما لا تدل عليه، وتذكرني هذه الاستدلالات بمناظرة جرت لابن حزم مع بعضهم فاستدل مناظره بآية لا تدل على المراد فما كان من ابن حزم إلا أن قال: إذا كان هذا دليلك فدليلي { قل أعوذ برب الناس }
عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدتُ فيه، وفيه أنزل علي" (1)
وهذا في معنى الاحتفال به إلا أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سماع شمائله الشريفة
الجواب:
أن المولد ليس فيه صيام بل إن القائلين به يكرهون صيامه ويجعلونه عيدا وينزلون عليه أحكام العيد ويقولون: " يكره صوم يوم المولد النبوي الشريف لإلحاقه بالأعياد"(2) وقال آخر: " ويكره أيضا صوم يوم المولد النبوي لأنه شبيه بالأعياد"(3)
أن النبي- صلى الله عليه وسلم - صام يوم الإثنين، والمولد قد يكون السبت أو الأحد أو غيرهما فهل يستحب صومه، هم لا يقولون بهذا ولا غيرهم، وإذا ما قاله بعضهم فهو مخالف لما استدلوا به لأن الدليل في الإثنين المتكرر كل أسبوع لا في غيره.
__________
(1) مسلم 2/818
(2) فقه العبادات على مذهب الإمام مالك 1/324
(3) الفقه على المذاهب الأربعة1/899(89/13)
كما أن صومه- صلى الله عليه وسلم - للإثنين لم يكن لشهر ربيع الثاني أو غيره اختصاص فكيف قصره المجيزون على هذا الشهر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا: هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن أولى بموسى منكم" وأمر بصومه(1).
الجواب:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صام يوم عاشوراء وحث على صيامه فكان صيامه سنة وهذا لم يحدث بشأن يوم ولادته الذي هو الثاني عشر من ربيع الأول كما يذهب بعضهم إلى هذا، فهو لم يشرع فيه شيئاً فوجب ألا نشرع فيه شيئا لا صيام ولا قيام فضلا عن الاحتفال(2).
10) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبدالمطلب عَقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.
الجواب:
تكلم الإمام النووي عن هذا الحديث في المجموع فقال: "أما الحديث الذي ذكره ـ أي الشيرازي ـ في عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبدالله بن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه نفسه بعد النبوة" وهذا حديث باطل ، قال البيهقي هو حديث منكر"(3) كما ضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح(4) والتلخيص(5).
__________
(1) البخاري 3/1434 ومسلم 2/795
(2) انظر الإنصاف فيما قيل في المولد للجزائري63
(3) المجموع 8/412
(4) 9/519
(5) 4/174(89/14)
" هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبدالمطلب قد عق عن ابن ولده ؟
ثم هل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام؟ حتى نقول إذا عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه شكراً لا قياماً بسنة العقيقة، إذا قد عق عنه ؟
سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه ، وهل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة
شكراً لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم -عيداً للناس ؟
و لم لم يدعُ إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال ؟ كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى .
أنسي ذلك أم كتمه ، وهو المأمور بالبلاغ ؟
سبحانك اللهم إن رسولك - صلى الله عليه وسلم - ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً"(1).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لهم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجل يباهي بكم الملائكة"(2).
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال: أي آية؟ قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [المائدة3].
__________
(1) الإنصاف 61
(2) مسلم برقم (2701)(89/15)
فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذين نزلت فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم الجمعة(1).
الجواب:
في هذا اتباع لليهودي الذي ذكر طبعهم من كونهم يحتفلون بالوقائع والحوادث والذي يريد منا المستدل بهذا الدليل أن نتبعهم فيه، ولم يلق بالا إلى أن عمر رضي الله عنه رغم معرفته بزمان ومكان نزول الآية إلا أنه لم يكترث لقول اليهودي ولم يدفعه هذا لأن يحتفل بذلك اليوم ولا غيره، فيا ترى أمرنا باتباع بهدي الخلفاء الراشدين أم بمقولات اليهود، أم أن اليهودي كان أفقه من عمر وصحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -!!!
إن الاحتفال بالمولد يشتمل على كثير من أعمال البر كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والذكر والصدقة، ومدح وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذكر شمائله الشريفة وأخباره المنيفة، وكلُّ هذا مطلوب شرعاً ومندوب إليه.
وما كان يبعث ويساعد على المطلوب شرعاً فهو مطلوب، لذا قال تعالى مخبراً أنه هو وملائكته يصلون على النبي: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب 56].
الجواب:
قد يحتوي المولد على ما هو مرغب فيه كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسماع بعض الفوائد العلمية وقراءة سيرته صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها مرغب فيها بلا شك، ولهذا ليس الإشكال هنا بل في نقطة أخرى وهي تخصيص أسلوب ووقت وهيئة مخصوصة بحيث يصبح الذكر والصلاة على النبي مع غيرها بمثابة عمل واحد له صفته المخصوصة التي يتقرب بها على جهة التعبد، وهذا هو ما أخرج المولد من المشروعية إلى البدعية.
الفرع الثالث
سبب الخلاف والترجيح
أولا: سبب الخلاف:
من خلال ذكر أدلة الفريقين يظهر أن الخلاف في مسألة المولد تنبع من سببين:
الأول: هل الاحتفال بالمولد يسلك به مسلك العبادات أو العادات.
فالعبادات الأصل فيها التوقف والاتباع، بخلاف العادات .
__________
(1) البخاري 1/25 ومسلم 4/2312(89/16)
فالمحرمون رأوا أن المولد من باب التعبدات والتي لا يجوز الزيادة فيها وأننا متعبدون بما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، في حين نظر المجوزون إلى أنه من باب العادات التي لا تحتاج إلى توقيف، فمثلها مثل الدروس التي تقام في المسجد هل نقول إذا كانت ثابتة في ومن معين بأنه بدعة وأنه يجب أن تكون كما كان يفعل رسول الله، فالتعليم وجد مقتضاه في عهد النبي صلى اله عليه وسلم بل هو معلم العالمين ومع هذا فلم يكن يقيم دروسا ثابتة فهل يكون من البدعة أن نفعل نحن كذلك بالطبع لا، وكذلك حال المولد.
قد يجاب عن هذا بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه وأن التدريس الآن ما هو إلا ترتيب وتنظيم ولكن سيقال بأن هذا الكلام مثله مثل قولنا : له أصل، وهذا مما عبتموه علينا فكيف تقولون به الآن، كما أننا نفعل ذلك إذ المولد ليس إلا ترتيب وتنظيم.
الثاني:
إن الموالد الآن لا تقتصر على ما هو مندوب ومرغب فيه بل اشتملت على جملة من البدع، منها ما هو أصلي ومنها ما هو إضافي، زد على ذلك ما قد يصاحبه من المعاصي .(89/17)
وقبل أن يعترض أحدهم فيقول بعدم وجود معاصي وآثام مما ذكره الكثير من العلماء أسارع بالقول إن طقوس الاحتفال بالمولد لا تمضي عل شكل ونسق واحد في كافة المناطق والطرق التي تعمله بل يختلف ويتفاوت بحسب لأسباب كالجهل والبعد كما في بلاد العجم وبعيدا عن نقل كلام الفقهاء كالشيخ ابن تيمية وابن الحاج وغيرهما ممن ذكروا وقوع الكثير من المعاصي وهم مصدقون إلا أن المشاهدات الواقعية الحية ووسائل الاتصال الحديثة لا تدع مجالا لمكذب، إذ يصبح المولد عند بعضهم وخاصة بلاد العجم مرتعا للفسق وانتهاك الحرمات والإغراق في البدع الإلحادية في أحيان كثيرة، كما يصبح مباءة للفسقة والسحرة والذين يضحكون على بعض العامة وهم كثر باسم الولاية وبركة المولد فينتهكون حرماتهم وشرفهم، ويسود الاختلاط بل ترى رقص النساء كاشفات عن أجزاء من أجسامهن أمام ومع الرجال إما تحت مسمى الوجد أو التعبد وإظهار الذل والانكسار وطلبا للشفاعة، وكم من مآسي ترتكب باسم المولد الذي ليس من الدين لا في ورد ولا صدر.
هذه الأعمال وغيرها يستصحبها الفقيه عندما ينزل عليها الحكم الشرعي وهذا ما حدث للمحرمين فعندما وجدوا ما يحدث في هذه الموالد من البدع والفجور، حكموا بحرمتها.
في حين يرى بعض من لا يجيز ما سبق ويستنكره أن نفصل بين حكم المولد وما يحدث فيه من بدع فنجيز المولد ونحرم البدع، وكون المولد قد احتوى على ضلالات لا يعني هذا البتة تحريمه .(89/18)
والصحيح أن المحرمين لم يكن دليهم الوحيد هو سد الذريعة أو بسبب ما يحدث في المولد من مخالفات فقط بل لأدلة وأسباب أخرى كذلك كما سبق بيانه، ومع هذا فمن نافلة القول هنا أن نذكر أن نظرة المحرمين تتفق ونظرة الإمام مالك في سد الذريعة بخلاف نظرة المجيزين في بالفصل بين جواز المولد وحرمة ما قد يقع فيه وأننا نجيز المولد وننهى عن المخالفات والتي هي نظرة الإمام الشافعي، ولكن كما قلت هذه نظرة أو قاعدة المذهبين في مسألة سد الذريعة، لكن الجميع لم يقولوا بجواز المولد بل كانوا متفقين على نبذ البدع.
كما أن المولد قد ارتبط بالبدع لدرجة يصعب الفصل بينه وبين المخالفات الواقعة فيه إذ إن البعض لا يعتبر المولد مولدا مقبولا!! إلا بما يحدث فيه من ضلالات.
الترجيح:
أولاً: أود أن أسجل هنا جملة ملاحظات على استدلالات المجيزين وهي كما يلي:
أنه مع كثرة الأدلة التي ساقها المجيزون للتدليل على جواز بل واستحباب الاحتفال بالمولد النبوي إلا أن كل استدلال لا يخلو من انتقاد وجيه.
أن كل ما استدلوا به من الأدلة القرآنية والحديثية لا تفيد ندب الاحتفال بالمولد النبوي فكلها خارج محل النزاع.
أن بعض الأحاديث النبوية التي استدلوا بها ضعيفة جدا مما لا يصح أن يحتج به.
فيه محاولة مستميتة لإثبات الاحتفال بأي وجه ولو كان عن طريق لي معاني النصوص أو الاستدلال بما لا يصح الاستدلال به أو رفع درجة بعض الأحاديث الواهية إلى درجة الضعيفة ممن ليس لهم خبرة في الحديث وعلومه، رغم أنها كذلك لا تفيد المراد وهذا مما يحزن فبدلا من النظر في الأدلة ثم إطلاق الحكم على المولد حدث العكس إذ نظر إلى المولد أولا باعتباره مشروعا بل ومندوبا بل غالى بعضهم ممن ليس له حصيلة علمية كبيرة فجعله واجبا ثم راحوا يبحثون عن أدلة لهذا الحكم.
ثانيا: تحديد ولادة النبي- صلى الله عليه وسلم -:(89/19)
يقام الاحتفال بالمولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الثاني باعتبار أنه يوم ولادته- صلى الله عليه وسلم - ونحن إذا ما بحثنا عن حقيقة هذا التاريخ نجد أنه لا يوجد نص نبوي يدل على هذا التاريخ، فلم يتكلم النبي- صلى الله عليه وسلم - البتة عن تاريخ ميلاده بل الذي ورد أنه ولد في يوم إثنين أما ما وراء ذلك من التحديديات فلا تصح.
ثم إذا ما فتشنا كتب السيرة النبوية محاولين معرفة تاريخ مولده سنجد أن كتاب السيرة يختلفون حوله إلى أقول هي كما يلي:
- يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول.
- ثامن ربيع الأول.
- عاشر ربيع الأول.
- ثاني عشر ربيع الأول.
- قال الزبير بن بكار : ولد في رمضان.
و ذلك عام الفيل بعده بخمسين يوما و قيل بثمانية و خمسين يوما و قيل بعده بعشر سنين و قيل : بعد الفيل بثلاثين عاما وقيل : بأربعين عاما(1) ولهذا السبب لم يذكر ابن اسحق تاريخ ولادته حاشا ما رواه عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل كنا لدين(2).
يظهر لنا مما سبق :
لم يثبت نص في تحديد تاريخ مولده.
أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعدم تنصيصه على تاريخ وفاته أراد عمدا أن لا يعرف كي لا يحدث معه كما حدث للمسيح ويدل لهذا الأمر بمخالفة النصارى في شعائرهم.
أنه ليس من الشرع إذ لو كان كذلك لذكر التاريخ فما من أمر فيه خير إلا ودلنا عليه- صلى الله عليه وسلم -.
أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا النبي- صلى الله عليه وسلم - مما يدل أنه لم يكن يعني لهم شيئاكبيرا.
أن هذا الخلاف بين علماء السيرة يدل على عدم وجود دليل صحيح صريح في هذه المسألة بحيث يتفقون على يوم محدد.
ثالثا: يمكن أن نقسم الموالد إلى قسمين:
مولد صاحبته البدع والخرافات.
مولد لم تصاحبه أية بدعة كأن يكون مقتصرا على سماع درس أو محاضرة مثلا.
__________
(1) انظر الفصول في السيرة 91،
(2) سيرة ابن إسحاق 25(89/20)
فالنوع الأول لا شك في تحريمه لما يصاحبه من الضلالات والبدع.
وأما النوع الثاني إذا جعلناه من باب العبادات فهو بلا شك لا يجوز لأن إحداث عمل تعبدي زائد لا يجوز.
وإذا جعلناه من باب العادات والتي نجد فيه فرصة لتعليم سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم - ونحوها فيمكن أن يقال بالجواز نظرا لهذا المعنى، لكن يبقى على هذا إشكالات هي:
أن تاريخ مولده ليس متفقا عليه.
أنه قد يفتح بابا لما لا يجوز شرعا كأن تدخله بعض البدع.
قد يعتقد الناس مندوبيته واستحبابه الشرعي في حين أن الأمر ليس كذلك، وإذا كان الإمام مالك قد ترك بعض السنن كالقبض في الصلاة خشية أن يظن العامة وجوبها فهذا أولى.
سيفتح هذا بابا لأن يقال إن هناك أياما مهمة في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم - كالبعثة والتي فيها اتصلت الأرض بالسماء وبشر النبي- صلى الله عليه وسلم - بالنبوة وأمر بالإنذار فهي كذلك تستحق الاحتفال، والهجرة والانتصارات في حياته وأيام نجاته من المؤامرات وغيرها مما لن ينتهي.
أن فيه مشابهة للنصارى، وقد علم من نصوص الشرع طلب مخالفتهم،إلا ما نص الشارع على مشروعيته فنحن نتبع الشرع سواء وافق النصارى أو غيرهم أم لا، أما ما لم يرد به الشرع وفيه المشابهة فالمطلوب فيه المخالفة.
وبناء على ما سبق فالذي يظهر رجحانه هو التحريم سواء كان بدون بدع ومخالفات أو معها، وكلما زادت البدع كلما قوي التحريم، فتحريم المولد الخالي من البدع من باب تحريم الوسائل وتحريم المولد الحافل بها من باب تحريم المقاصد وبينهما فرق كبير إلا أنهما لا يخرجان عن دائرة التحريم
وبناء عليه يحرم:
إقامة المولد والتعاون على ذلك.
الإنفاق عليه وفيه، لأنه ليس من أوجه البر التي يؤجر عليها المسلم
كل ما من شأنه إحياؤه واستمراره ودوامه كالوقف عليه وغيره.
والله أعلم
الخاتمة(89/21)
مر المولد بمراحل فبينما بدأ احتفالا تنفق فيه الكثير من الأموال دخلت بعد ذلك جملة من الطقوس فزاد السبكي -مثلا- القيام وقت المولد عند ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم -، واعتقد البعض أنه - صلى الله عليه وسلم - يحضر المجلس ولهذا سميت الحضرة بهذا الاسم أي لحضور النبي- صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ الفقهاء المقلدة بفعل السبكي وقالوا يكفي في جواز هذا الفعل والعمل به فعل هذا الإمام، وتناسوا أن المرجع الوحيد للتشريع هو النبع الصافي القرآن والسنة.
كما أنه رغم تصريح بعضهم بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يحضر وأن القيام إنما هو احترام وإجلال له- صلى الله عليه وسلم - إلا أن الكثيرين يعتقدون حضوره - صلى الله عليه وسلم - ومشاركته ومباركته.
وزادات البدع مع إقامة الموالد عند القبور، كما أن المساجد بيوت الله لم تخل من مفاسد هذه الاحتفالات، ثبت في مسلم(1) أن صحابيا قام في المسجد ينشد ضالة، يريد أن يعلم الناس أن من وجدها فليردها إليه وربما كان لا يمتلك غيرها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" فإذا كان هذا الرد من هذا حالة فكيف بمن يجعل المسجد مزبلة للقمامات وبقايا الأطعمة والوساخات، نقول له إن المساجد لم تبن لهذا.
كيف بمن يجعل من المسجد مسرحا يصفق ويرقص فيه كما يفعل المهرجون في السيرك ثم يسمي هذا شكرا لله على دين الإسلام الذي هو بريء من البدع النكراء هذه والتي تقام في أطهر وأقدس بقاع الأرض، فحري أن يقال لهؤلاء إن المساجد لم تبن هذا.
أين احترام النبي- صلى الله عليه وسلم - والفرح بمولده كما يقولون وهم يخالفونه جهارا نهارا ، بألوان شتى من المخالفات.
إن الأعياد الشرعية والتي ورد الترغيب في الفرح فيها لا يجوز فيها ما يعمل في الموالد من ضلالات وخرافات وتبذير وعبادات بدعية وبعد هذا يُرجى الأجر والثواب.
__________
(1) 1/397(89/22)
لقد ولدت لنا عصور الانحطاط تدينا مزيفا بعيدا كل البعد عن دين الإسلام، وبدلا من أن نطيع الله ونمتثل أوامره ونجتنب نواهيه في سائر حياتنا المنزلية والمالية والسياسية وغيرها أصبح الدين كله بضعة رقصات وليلة نحيب وأناشيد لا تمت إلى الذكر بصلة.
وأصبح يوم المولد هو اليوم التي تكفر فيه الخطايا والسيئات، ثم لم يكتف بيوم في السنة حتى جعلوه احتفالا دائما ليصبح يوميا تقسم فيه الأيام على القبور، وفق جدول معين.
كما أن من أراد احتفالا دينيا أقام مولدا.
وإذا أراد الرجل أو المرأة شيئا دنيويا نذر أو نذرت مولدا.
ومن أردا طرد الجن من منزله فأفضل نصيحة له أن يقيم مولدا.
ومن أراد أن يزيل الصرع (المس) عن نفسه ويخرج منها الشياطين التي ركبته فاليَدَع الأطباء جميعا وليجتنب القرآن وإن وصفه الله بأنه شفاء إذ إن شفاءه حتما سيكون في المولد، وفيه ترى الجنون بعينه.
أهذا دين الله الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهداية .
أهذا دين الإسلام الذي أمرنا بتوحيده سبحانه وعبادته بما شرع هو وحده سبحانه.
أهذا هو دين الإسلام الذي فتح الشرق والغرب ودخلت فيه الملايين من الشعوب الغارقة في ظلمات الوثنية والجهل بعد أن رأت نوره الساطع.
أهذا دين الله الذي أمرنا بالأخذ بسنن الكون والتعامل معها وفقا لما أراد وشرع.
حتما إنه ليس كذلك.
فهد عبد الله
ملحق1
الأحاديث الضعيفة والموضوعة في المولد
"إن محمدًا أول المخلوقات" وما ذاك إلا لنشر حديث جابر المكذوب "أول ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر خلقه من نوره قبل الأشياء"، فهذا الحديث لا أصل له مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف للكتاب والسنة.
أما حديث: "كنت أول النبيين في الخلق وءاخرهم في البعث" فهو ضعيف( كما نقل ذلك المحدثون وفيه بقية ابن الوليد وهو مدلس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف.(89/23)
أما حديث: "كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين"، و: "كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين" فلا أصل لهم). ولا حاجة لتأويلهم فإنه لا حاجة لتأويل الآية أو الحديث الصحيح لخبر موضوع لا أصل له.
* ومن الكذب الذي انتشر في بعض كتب المولد قولهم: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك فقد حكم عليه المحدثون بالوضع.
* وكذلك ما روي أن جبريل عليه السلام كان يتلقى الوحي من وراء حجاب، وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يوحي إليه فقال جبريل: "منك وإليك"، فهذا من الكذب الشنيع المخالف لقوله تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [سورة الشورى].
* وكذلك من الكذب ما روي في بعض كتب المولد عن أبي هريرة قال: سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا جبريل كم عمرتَ من السنين؟، فقال: يا رسول الله لا أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة،رأيته اثنين وسبعين ألف مرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب.
ملحق2
المورد في حكم المولد
للشيخ الإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله ت 734 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين.
أحمده على ما منَّ به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه: المولد:(89/24)
هل له أصل في الشرع ؟ أو هو بدعة وحدث في الدين ؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مٌبيَّناً، والإيضاح عنه معيناً.
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون
- فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو حراماً، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الغاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.(89/25)
وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } ]سورة الفجر:14[.
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك
بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات،
لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإن لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.
ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازَناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ ـمعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي سادوا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - - وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول .(89/26)
الفهرس العام
مقدمة ........................................................................2
تاريخ المولد ...................................................................2
بيان حال الدولة العبيدية الفاطمية................................................4
بيان حكم المولد وفساد قول من قال بمشروعيته من أوجه عديد....................6
الوجه الأول ...................................................................6
الوجه الثاني ...................................................................6
الوجه الثالث ...................................................................7
الرابع ..........................................................................7
الخامس ........................................................................7
السادس .......................................................................7
السابع ........................................................................7
الثامن ........................................................................8
التاسع ........................................................................8
العاشر........................................................................8
الحادي عشر..................................................................8.
الثاني عشر...................................................................8
الثالث عشر ................................................................ 10
الرابع عشر..................................................................10
الخامس عشر ...............................................................10(90/1)
السادس عشر...............................................................10
نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه ................................. 11
كلام نفيس لرشيد رضا حول مايحدث في الموالد وأثر ذلك على الأمة...........11
أهل العلم الذين أفتوا بعدم مشروعية المولد وأنه بدعة محدثة.............11-12
كتبه وأملاه
الفقير إلى عفو مولاه
ناصر بن يحيى الحنيني
10/3/ 1422هـ - الرياض
Honini48@hotmail.com بسم الله الرحمن الرحيم
المولد النبوي
تاريخه، حكمه ، آثاره ،
أقوال العلماء فيه على اختلاف البلدان والمذاهب
مقدمة: (نداء إلى كل مسلم يريد الوصول إلى الحق وأن يعبد الله على بصيرة).
أخي المسلم، أختي المسلمة : لاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين ، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر وممن نتقرب إلى الله ببغضه وهي من صفات المنافقين الذي قال الله فيهم أنهم في : ( الدرك الأسفل من النار)
وإنني أضع بين يديك هذا البحث المتواضع لتقرأه بعين البصيرة تقرأه بغية الوصول للحق وتقرأه بعيدا عن التعصب لعلماء بلدك أو مذهبك أو ما تعوّدت عليه فإن كان ما فيه حقاً قبلته وعملت فيه طاعة لله ورسوله الذي أمرنا باتباع الحق وما كان فيه من باطل أو خطأ فأعيذك بالله أن تتبعه لأننا لسنا متعبدون إلا بالحق الذي دل عليه الدليل الشرعي.
وفقنا الله وإياك لسلوك الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا نبينا الكريم والله الموفق وعليه المعتمد والاتكال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،،.
تاريخه:(90/2)
إن الناظر في السيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابع تابعيهم بل إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة هجرية لم نجد أحدا لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس قال بهذه العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به .
قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ(1)
إذن السؤال المهم : " متى حدث هذا الأمر –أعني المولد النبوي-وهل الذي أحدثه علماء أو حكام وملوك وخلفاء أهل السنة ومن يوثق بهم أم غيرهم ؟"
والجواب على هذا السؤال عند المؤرخ السني ( الإمام المقريزي ) رحمه الله :
يقول في كتابه الخطط ( 1/ ص 490وما بعدها):" ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم"
قال:" وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم( رأس السنة)،ومواسم ( أول العام )،( ويوم عاشوراء) ،( ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ( ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) ، ( ومولد الحسن والحسين عليهما السلام )، ( ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام )،(ومولد الخليفة الحاضر )، ( وليلة أول رجب ) ، ( ليلة نصفه ) ، ( وموسم ليلة رمضان ) ، ( وغرة رمضان )،(وسماط رمضان)،( وليلة الختم )،( وموسم عيد الفطر )،( وموسم عيد النحر )،( وعيد الغدير)،( وكسوة الشتاء)،( وكسوة الصيف )،( وموسم فتح الخليج )،( ويوم النوروز)،(ويوم الغطاس) ، ( ويوم الميلاد ) ،( وخميس العدس) ، ( وأيام الركوبات )"أ.هـ.
وقال المقريزي في إتعاظ الحنفاء(2/48)سنة (394):
"وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر".
وقال في موضع آخر (3/99)سنة (517):
__________
(1) نقلا عن سبل الهدى والرشاد للصالحي (1/439) ط. وزارة الاوقاف المصرية .(90/3)
"وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة".وانظر (3/105).
ووصف المقريزي هيئة هذه الاحتفالات التي تقام للمولد النبوي خاصة وما يحدث فيها من الولائم ونحوها ( أنظر الخطط1/432-433 ، صبج الأعشى للقلقشندي3/498-499).
ومن النقل السابق تدبر معي كيف حُشِر المولد النبوي مع البدع العظيمة مثل:
-بدعة الرفض والغلو في آل البيت المتمثل في إقامة مولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وسيأتي مزيد بسط لبيان أن الدولة العبيدية التي تدعي أنها فاطمية: بأنها دولة باطنية رافضية محاربة لله ولرسوله ولسنته ولحملة السنة المطهرة .
بدعة الاحتفال بعيد النيروز وعيد الغطاس وميلاد المسيح وهي أعياد نصرانية .
يقول ابن التركماني في كتابه" اللمع في الحوادث والبدع" (1/293-316 ) عن هذه الأعياد النصرانية :"فصل ومن البدعة أيضا والخزي والبعاد ما يفعله المسلمون في نيروز النصارى و مواسمهم و الأعياد من توسع النفقة " قال :" وهذه نفقة غير مخلوفة وسيعود شرها على المنفق في العاجل والآجل " وقال : " ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله المسلم الخبيث في يعرف بالميلادة ( أي ميلاد المسيح) ".، ونقل عن علماء الحنفية أن من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب منه فهو كافر مثلهم .وذكر عدد من الأعياد التي يشارك فيها جهلة المسلين النصارى وبين تحريمها بالكتاب والسنة ومن خلال قواعد الشرع الكلية .
ذكر من أبطلها من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية:
قال المقريزي في خططه (1/432):"وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي ، والعلوي ، والفاطمي ، والإمام الحاضر وما يهتم به وقدم العهد به حتى نسي ذكرها فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر.."أ.هـ(90/4)
فعلى هذا أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين (1).
ماذا قال أهل العلم عن الدولة الفاطمية العبيدية التي أحدثت هذا الأمر ( المولد النبوي)؟:
قال الإمام أي شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين ص 200-202عن الفاطميين العبيديين:
" أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد ) ؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حدادا .
وعبيد هذا كان اسمه ( سعيدا) فلما دخل المغرب تسمى ب( عبيد الله ) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح -لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه -
ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقا خبيثا عدوا للإسلام متظاهرا بالتشيع متسترا به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
__________
(1) وقد قرر هذا جماعة من المتأخرين منهم :
العلامة الحنفي مفتي الديار المصرية سابقا الشيخ ( محمد بخيت المطيعي في كتابه " أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام".
الأستاذ الشيخ على محفوظ في كتابه" الإبداع في مضار الإبتداع ".
الشيخ إسماعيل الأنصاري في كتابه :" القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ".
والشيخ بن منيع في رده على المالكي .
وانظر بقية من قال به من أهل العلم لما نقله مشهور حسن سلمان في تعليقه أثناء تحقيقه لكتاب " الباعث على إنكار البدع والحوادث " ص 96 في الحاشية .(90/5)
ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه ، والدعاة لهم منبثون في البلاد يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين (299) إلى سنة سبع وستين وخمسمائة ( 567)،.
وفي أيامهم كثرة الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية والحشيشية نوع منهم وتمكن رعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن من الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل ( صلاح الدين ) فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن أرقاب العباد .
وكانوا أربعة عشر مستخلفا ... يدّعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي ( الدولة المجوسية أو اليهودية الباطنية الملحدة ).
ومن قباحتهم انهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك (أي أنهم علويون فاطميون ) على المنابر ويكتبونه على جدران المساجد وغيرها وخطب عبدهم جوهر الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة ( المعزية) بنفسه خطبة قال فيها:( اللهم صلي على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين ) كذب عدوّ الله اللعين فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين ولا في ذريته الباقين والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول .(90/6)
والملقب بالمهدي لعنه الله كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم فيقولون لبعضهم (هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه ) ويقولون لآخرين (هو رسول الله وحجة الله ) ويقولون لاخرى (هو الله الخالق الرازق) لا اله إلا الله وحده لا شريك له تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه وزاد شره على شر أبيه أضعافا مضاعفة وجاهر بشتم الأنبياء فكان ينادى في أسواق المهدية وغيرها (العنوا عائشة وبعلها العنوا الغار وما حوى ) اللهم صلي على نبيك وأصحابه وأزواجه الطاهرين وألعن هؤلاء الكفرة الفجرة الملحدين وارحم من ازالهم وكان سبب قلعهم ومن جرى على يديه تفريق جمعهم وأصلهم سعيرا ولقهم ثبورا وأسكنهم النار جمعا واجعلهم ممن قلت فيهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
ولو وفق ملوك الإسلام لصرفوا أعنة الخيل إلى مصر لغزو الباطنية الملاعين فإنهم من شر أعداء دين الإسلام وقد خرجت من حدّ المنافقين إلى حد المجاهرين لما ظهر في ممالك الإسلام من كفرها وفسادها وتعين على الكافه فرض جهادها وضرر هؤلاء أشدّ على الإسلام وأهله من ضرر الكفار إذا لم يقم بجهادها أحد إلى هذه الغاية مع العلم بعظيم ضررها وفسادها في الأرض ".أ.هـ بتصرف يسير.(90/7)
وانظر رحمك الله إلى ما قرره هذا العالم المؤرخ وهو قريب عهد منهم حيث عاش ما بين سنة (599-665)للهجرة النبوية ، وكيف تألم لما حل بالمسلمين من كرب وضيق من جرّاء حكم هؤلاء الباطنيين وعلى هذا فالمولد النبوي أصله ومنشئه من الباطنيين ذي الأصول المجوسية اليهودية المحيين شعائر الصليبية ، ونحن هنا نقول لكل منصف هل يصح أن نجعل أمثال هؤلاء مصدر عباداتنا وشعائرنا ونحن نقول مرة أخرى إن القرون المفضلة التي عاش فيها سلفنا الصالح لم يكن فيها أثر لمثل هذه العبادة منهم أو من أعدائهم أو حتى من جهلتهم وعامتهم أفلا يسعنا ماوسعهم .
بيان حكم المولد النبوي وبيان فساد قول من قال بمشروعيته من أوجه عديدة:
إعلم رحمني الله وإياك أن ما يسمى بالمولد النبوي ليس مشروعا ولم يدل عليه دليل من كتاب ولاسنة لاإجماع ولاقياس صحيح ولا حتى دليل عقلي ولا فطري وما كان بهذه الصيغة فهو بدعة مذمومة.
قال الحافظ ابن رجب (1) :" والمراد بالبدعة ما أحدث مما لاأصل له في الشريعة يدل عليه ".
ويقول أيضاً (2) : " فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة".
والبدعة كذلك " مالم يشرعه الله من الدين فكل من دان الله بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متاولاً".(3)
ويظهر فساد القول بجوازه ومشرعية من خلال الأوجه التاليه:
الوجه الأول :
أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولاأمر به ولافعله صحابته ولاأحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على ايدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (2/127).ت: الارناؤوط.
(2) المصدر السابق ( 2/128).
(3) أنظر مجموع الفتاوى (18/346).(90/8)
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عزو جل صاحبه وفاعله بقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
الوجه الثاني:
أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار ).
فقوله (كل بدعة ضلالة ) عموم لا مخصص له يدخل فيه كل أمر مخترع محدث لا أصل له في دين الله والعلماء مجمعون على انه أمر محدث فصار الأمر إلى ما قلنا أنه بدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار أعاذنا الله وإياك منها.
الوجه الثالث :
أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولايكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع:
قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).
والذي يقول إن المولد عبادة نتعبد لله تعالى بها فهو مكذب بهذه الآية وهو كفر بالله عزوجل فان قال انه مصدق بها لزمه ان يقول ان المولد ليس بعبادة ويكون اقرب الى العبث واللعب منه الى ما يقرب الى الله عزوجل.
وقلنا له أيضاً كأنك مستدرك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
فان قال أنا لا أقول أنها عبادة ولا استدرك على الله ورسوله ومومن بهذه الآية لزمه الرجوع إلى القول الحق وأنها بدعة محدثة هدانا الله وكل مسلم لما يحبه ربنا ويرضى.
الوجه الخامس :(90/9)
أن الممارس لهذا الأمر- اعني بدعة المولد- كأنه يتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة وعدم الأمانة -و العياذ بالله- لأنه كتم على الأمة ولم يدلها على هذه العبادة العظيمة التي تقربها إلى الله
قال الإمام مالك – رحمه الله (1)-: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم ان محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
الوجه السادس (2) :
أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها لأن الله اعلم بما يصلح عباده وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضا يعلم بل ربما يفهم أن يعلم أمرا لم يعلمه الشارع سبحانك هذا بهتان عظيم وجرم خطير وإثم مبين وضلال كبير.
الوجه السابع :
أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لايتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لان الذي يمارسون هذه البدعة يقولون ان هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم
وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لان محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
__________
(1) الاعتصام (1/49).
(2) اقتبست هذا الوجه من الإما م الشاطبي في الاعتصام (1/49).(90/10)
فالذي يجعل المحبة باقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول ان المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة ).
الوجه الثامن :
أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ).(1)
الوجه التاسع:
أن فيه قدحا في من سبقنا من الصحابة ومن أتى بعدهم بأننا أكثر محبة للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وأنهم لم يوفوه حقه من المحبة والاحترام لان فاعلي المولد يقولون عن الذين لا يشاركونهم انهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التهمة منصرفة إلى أصحابه الأطهار الذين فدوه بأرواحهم وبآبآءهم وأمهاتهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
الوجه العاشر :
ان فاعل هذا المولد واقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته صراحة فقد قال صلى الله عليه وسلم ( لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه وذكر أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم .
وما يفعل الآن من الموالد من أبرز مظاهر الإطراء وإذا لم يكن في الموالد-( التي تنفق فيها الاموال الطائلة وتنشد فيها المدائح النبوية التي تشتمل على أعظم أنواع الغلو فيه صلى الله عليه وسلم من إعطائه خصائص الربوبية كما سوف يمر معنا)- إطراء ففي ماذا يكون الإطراء؟
الوجه الحادي عشر :
وبدعة المولد النبوي مجاوزة في الحد المشروع، ومجاوزة في حد ما امرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجاوزة للحد المشروع في إقامة الأعياد فليس في شرعنا للمسلمين إلا عيدان فقط ومن أتى بثالث فهو متجاوز للحد المشروع .
الوجه الثاني عشر:
__________
(1) أنظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/581).(90/11)
أن فعل المولد غلو مذموم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم و من أعظم الذرائع المؤدية للشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة لأن الغلو في الصالحين كان سبب وقوع الأمم السابقة في الشرك وعبادة غير الله عزوجل.
وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة للشرك .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم :( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) (1) وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وإن كان سبب وروده في في لقط الجمار ونهيه عن لقط الكبار من الجمار لأنه نوع من الغلو في العبادة ومجاوزة للحد المشروع .
ومعلو ان سبب الشرك الذي وقع في بني آدم هو مجاوز الحد والغلو في تعظيم الصالحين فقد جاء في البخاري برقم ( 4920) عن ابن عباس" في قول الله تعالى ( وقالوا لاتذرن ألهتكم ولا تذرن ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً ) قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك اولئك ونسي العلم عبدت ".
وقارن بما حصل عند قوم نوح مع أنهم لم يصرفوا شيئا من العبادة في أول الأمر حتى وقعوا في الشرك والسبب هذه التماثيل وهي مظهر من مظاهر الغلو وانظر ما حصل ويحصل في الموالد فهو ليس من ذرائع الشرك فحسب؛ بل يحصل الشرك بعينه من دعاء لغير الله عزوجل وإعطائه صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الرب جل وعلا كالتصرف في الكون وعلم الغيب ففي هذه الموالد يترنمون بالمدائح النبويةوعلى رأسها بردة البوصيري الذي يقول:
ياأكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول أحمد بن محمد ابن الحاج السلمي:
نور الهدى قد بدا في العرب والعجم سعد السعود علا في الحل والحرم
__________
(1) الحديث صحيح : أخرجه أحمد(215،347) .(90/12)
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
فماذا بقي لرب العباد إن هذا ليس شركا في الألوهية بل هو شرك في الربوبية وهو أعظم من شرك كفار قريش والعياذ بالله لأن كفار قريش كانوا يعتقدون أن المتصرف في الكون هو الله عزو جل لا أصنامهم وهؤلاء يزعمون أن المتصرف في الكون الذي بيده الدنيا والآخرة هو النبي صلى الله عليه وسلم .
وانظر الى قوله ( يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ) فهو يعتبر رسول الله هو الملاذ وهو الذي يستغاث به ويدعوه عند الملمات وهذا هو عين شرك كفار قريش الذي يعبدون الاوثان بل هم احسن حالا منه فهم عند الشدائد يخلصون الدعاء والعبادة والبوصيري عند الشدائد والملمات يدعوا غيرالله .
والموالد لايمكن ان تقوم بغير أبيات البردة والله المستعان فهي الشعيرة والركيزة الأساسية في هذه الموالد البدعية.
ولولم يكن فيها إلا هذه المفسدة لكفى بها مبرراً لتحريمها والتحذير منها .
وإن زعم شخص انه سوف يخليه مما تقدم قلنا له المولد بحد ذاته هو مظهر من مظاهر الغلو المذموم فضلا عما يحتويه من طوام عظيمة وبدعة في الدين محدثة لم يشرعهاولم يأذن بها الله .
الوجه الثالث عشر:
أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه والله المستعان.
وأما يوم مولده فمختلف فيه ،فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به .(90/13)
يقول الحافظ في فتح الباري ( شرح حديث برقم 3641 ):" . وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ : كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اُتُّفِقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة : مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته , فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة , وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ , فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة "أ.هـ
ويقول ابن الحاج في المدخل (2/15):" ثم العجب العحيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عزو جل وفجعة الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لايعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وأنفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
الوجه الرابع عشر:(90/14)
اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحرومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عزوجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف.(1)
الوجه الخامس عشر:
اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتببذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير اهلها.
الوجه السادس عشر:
أن في هذه الموالد والتي كثرت وانتشرت حتى وصلت في بعض الأشهر أن يحتفلوا بثمان وعشرين مولدا أن فيها من استنفاد الطاقات والجهود والأموال واشغال الأوقات وصرف للناس عن ما يكاد لهم من قبل أعدائهم فتصبح كل أيامهم رقص وطرب وموالد فمتى يتفرغون لتعلم دينهم ومعرفة ما يخطط لهم من قبل أعدائهم ولهذا لما جاء المستعمرون للبلاد الإسلامية حاولوا القضاء على كل معالم الإسلام وصرف الناس عن دينهم ومحاولة إشاعة الرذيلة بينهم وما كان من تصرفات المسلمين فيه مصلحة لهم وفت في عضد المسلمين وإضعاف لشانهم فإنهم باركوه وشجعوه مثل الملاهي والمحرمات ونحوها ومن ذلك البدع المحدثة التي تصرف الناس عن معالم الإسلام الحقيقية مثل بدعة المولد وغيرها من الموالد ، بل مثل هذه البدع من أسباب تخلف المسلمين وعدم تقدمهم على غيرهم .
__________
(1) أنظر مبحثا نفيسا لابن الحاج في كتابه المدخل (2/ من بداية الجزء ) فقدد ذكر ما يحدث من عظائم الأمور والمنكرات ما يندى له الجبين ، وانظر مانقله الشيخ اسماعيل الانصاري في رسالته القيمة (القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ص648) ط. دار العاصمة والتي جمعت عددا من الرسائل في حكم المولد. مجلدين .(90/15)
يقول السيد رشيد رضا في المنار (2/74-76):" فالموالد أسواق الفسوق فيها خيام للعواهر وخانات للخمور ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات الكاسيات العاريات ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس ....(إلى أن قال ): فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع اتخذوا الشيوخ أنداداً وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكرة القدوة وصارت الحكايات الملفقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير ونتيجة لذلك كله ؛ أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلاعجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ماوعد الله المؤمنين من النصر لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيئ من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولايشهد لهذه البدع كتاب ولاسنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الامم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ
نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه:
واسمع إلى ما يحدثنا به المؤرخ المصري الجبرتي في كتابيه عجائب الآثار(2/249،201) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ص47
تحدث وذكر ان المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفيه واصحاب الموالد فقام نابليون وامرهم بإحياءها ودعمها(90/16)
قال في مظهر التقديس :" وفيها (أي سنة 1213هـ في ربيع الأول ):سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف فلم يقبل وقال (لابد من ذلك ) واعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسة يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطاً".
ولعل سائلا يسأل ما هدفهم من تأييد ودعم مثل هذه البدع وهذه الموالد؟
ندع الجواب للمؤرخ الجبرتي المعاصر لهم حيث يقول في تاريخ عجائب الآثار(2/306):
" ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات ".
أقوال أهل العلم في المولد :
لقد أفتى علماء العالم الإسلامي على اختلاف أماكنهم وأزمانهم ومذاهبهم الفقهية بحرمة عمل المولد وأنه من البدع المحدثة التي لاأصل لها وإليك بعضهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من علماء الشام ومن المجتهدين.(انظر اقتضاء الصراط المستقيم ( 2 /619 )، ومجموع الفتاوى( 1/312 ) .
العلامة الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني له رسالة بعنوان (المورد في الكلام على عمل المولد). وهو عالم مالكي المذهب ت بالاسكندرية سنة 734هـ.
الاستاذ ابو عبد الله محمد الحفار له فتاوى ذكرها الونشريسي في المعيار المعرب.وهو من علماء المغرب.
العلامة ابن الحاج ابو عبد ال محمدبن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي ت بالقاهرة (732هـ)له كلام نفيس في المدخل بداية الجزالثاني
الشيخ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية.
الشيخ على محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع .
الإمام الشاطبي وله كلام نفيس في فتوى له في كتاب طبع باسم فتاوى الإمام الشاطبي وهو عالم مالكي أندلسي.(90/17)
الشيخ رشيد رضا في أكثر من موضع من مصنفاته كما في المنار (9/96)، (2/74-76) (17/111) (29/ 664-668).وفتاواه (الجزء الخامس في الصفحة 2112-2115) و(الجزء الرابع في الصفحة 1242-1243).
الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وهو من علماء الهند ( أنظر رسالة الشيخ حمود التويجري ص235 ط. العاصمة ضمن المجموع في الرسائل الخاصة ببدعة المولد ).
الشيخ بشير الدين القنوجي وهو من علماء الهند وهو شيخ أبي الطيب ( المصدر السابق ).
الشيخ فوزان السابق كما في كتابه البيان والإشهارص 299.
الشيخ محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه السنن والمبتدعات .
شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في الدرر السنية.
العلامة الشيخ محمد بن ابراهيم له رسالة في إنكار عمل المولد وانظر مجموع فتاواه (3/48-95)فقد اشتملت على عدد من الفتاوى المتنوعة حول المولد .
العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في رسالته هداية الناسك إلى أهم المناسك .
العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز له رسالة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي .
العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في رسالة بعنوان ( الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي).
الشيخ العلامة إسماعيل الأنصاري له رسالة وهي من أجود مارأيت بعنوان القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل.
العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين.
الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين .
الشيخ صالح بن فوزان الفوزان .
هناك فتاوى متناثرة في مجلة التوحيد التي تصدر في مصر عن جماعة أنصار السنة المحمدية .
في الختام أسأل الله العلي القدير ان يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(90/18)
الفهرس العام
مقدمة ........................................................................2
تاريخ المولد ...................................................................2
بيان حال الدولة العبيدية الفاطمية................................................4
بيان حكم المولد وفساد قول من قال بمشروعيته من أوجه عديد....................6
الوجه الأول ...................................................................6
الوجه الثاني ...................................................................6
الوجه الثالث ...................................................................7
الرابع ..........................................................................7
الخامس ........................................................................7
السادس .......................................................................7
السابع ........................................................................7
الثامن ........................................................................8
التاسع ........................................................................8
العاشر........................................................................8
الحادي عشر..................................................................8.
الثاني عشر...................................................................8
الثالث عشر ................................................................ 10
الرابع عشر..................................................................10
الخامس عشر ...............................................................10(91/1)
السادس عشر...............................................................10
نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه ................................. 11
كلام نفيس لرشيد رضا حول مايحدث في الموالد وأثر ذلك على الأمة...........11
أهل العلم الذين أفتوا بعدم مشروعية المولد وأنه بدعة محدثة.............11-12
كتبه وأملاه
الفقير إلى عفو مولاه
ناصر بن يحيى الحنيني
10/3/ 1422هـ - الرياض
Honini48@hotmail.com بسم الله الرحمن الرحيم
المولد النبوي
تاريخه، حكمه ، آثاره ،
أقوال العلماء فيه على اختلاف البلدان والمذاهب
مقدمة: (نداء إلى كل مسلم يريد الوصول إلى الحق وأن يعبد الله على بصيرة).
أخي المسلم، أختي المسلمة : لاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين ، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر وممن نتقرب إلى الله ببغضه وهي من صفات المنافقين الذي قال الله فيهم أنهم في : ( الدرك الأسفل من النار)
وإنني أضع بين يديك هذا البحث المتواضع لتقرأه بعين البصيرة تقرأه بغية الوصول للحق وتقرأه بعيدا عن التعصب لعلماء بلدك أو مذهبك أو ما تعوّدت عليه فإن كان ما فيه حقاً قبلته وعملت فيه طاعة لله ورسوله الذي أمرنا باتباع الحق وما كان فيه من باطل أو خطأ فأعيذك بالله أن تتبعه لأننا لسنا متعبدون إلا بالحق الذي دل عليه الدليل الشرعي.
وفقنا الله وإياك لسلوك الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا نبينا الكريم والله الموفق وعليه المعتمد والاتكال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،،.
تاريخه:(91/2)
إن الناظر في السيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابع تابعيهم بل إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة هجرية لم نجد أحدا لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس قال بهذه العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به .
قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ(1)
إذن السؤال المهم : " متى حدث هذا الأمر –أعني المولد النبوي-وهل الذي أحدثه علماء أو حكام وملوك وخلفاء أهل السنة ومن يوثق بهم أم غيرهم ؟"
والجواب على هذا السؤال عند المؤرخ السني ( الإمام المقريزي ) رحمه الله :
يقول في كتابه الخطط ( 1/ ص 490وما بعدها):" ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم"
قال:" وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم( رأس السنة)،ومواسم ( أول العام )،( ويوم عاشوراء) ،( ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ( ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) ، ( ومولد الحسن والحسين عليهما السلام )، ( ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام )،(ومولد الخليفة الحاضر )، ( وليلة أول رجب ) ، ( ليلة نصفه ) ، ( وموسم ليلة رمضان ) ، ( وغرة رمضان )،(وسماط رمضان)،( وليلة الختم )،( وموسم عيد الفطر )،( وموسم عيد النحر )،( وعيد الغدير)،( وكسوة الشتاء)،( وكسوة الصيف )،( وموسم فتح الخليج )،( ويوم النوروز)،(ويوم الغطاس) ، ( ويوم الميلاد ) ،( وخميس العدس) ، ( وأيام الركوبات )"أ.هـ.
وقال المقريزي في إتعاظ الحنفاء(2/48)سنة (394):
"وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر".
وقال في موضع آخر (3/99)سنة (517):
__________
(1) نقلا عن سبل الهدى والرشاد للصالحي (1/439) ط. وزارة الاوقاف المصرية .(91/3)
"وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة".وانظر (3/105).
ووصف المقريزي هيئة هذه الاحتفالات التي تقام للمولد النبوي خاصة وما يحدث فيها من الولائم ونحوها ( أنظر الخطط1/432-433 ، صبج الأعشى للقلقشندي3/498-499).
ومن النقل السابق تدبر معي كيف حُشِر المولد النبوي مع البدع العظيمة مثل:
-بدعة الرفض والغلو في آل البيت المتمثل في إقامة مولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وسيأتي مزيد بسط لبيان أن الدولة العبيدية التي تدعي أنها فاطمية: بأنها دولة باطنية رافضية محاربة لله ولرسوله ولسنته ولحملة السنة المطهرة .
بدعة الاحتفال بعيد النيروز وعيد الغطاس وميلاد المسيح وهي أعياد نصرانية .
يقول ابن التركماني في كتابه" اللمع في الحوادث والبدع" (1/293-316 ) عن هذه الأعياد النصرانية :"فصل ومن البدعة أيضا والخزي والبعاد ما يفعله المسلمون في نيروز النصارى و مواسمهم و الأعياد من توسع النفقة " قال :" وهذه نفقة غير مخلوفة وسيعود شرها على المنفق في العاجل والآجل " وقال : " ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله المسلم الخبيث في يعرف بالميلادة ( أي ميلاد المسيح) ".، ونقل عن علماء الحنفية أن من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب منه فهو كافر مثلهم .وذكر عدد من الأعياد التي يشارك فيها جهلة المسلين النصارى وبين تحريمها بالكتاب والسنة ومن خلال قواعد الشرع الكلية .
ذكر من أبطلها من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية:
قال المقريزي في خططه (1/432):"وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي ، والعلوي ، والفاطمي ، والإمام الحاضر وما يهتم به وقدم العهد به حتى نسي ذكرها فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر.."أ.هـ(91/4)
فعلى هذا أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين (1).
ماذا قال أهل العلم عن الدولة الفاطمية العبيدية التي أحدثت هذا الأمر ( المولد النبوي)؟:
قال الإمام أي شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين ص 200-202عن الفاطميين العبيديين:
" أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد ) ؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حدادا .
وعبيد هذا كان اسمه ( سعيدا) فلما دخل المغرب تسمى ب( عبيد الله ) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح -لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه -
ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقا خبيثا عدوا للإسلام متظاهرا بالتشيع متسترا به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
__________
(1) وقد قرر هذا جماعة من المتأخرين منهم :
العلامة الحنفي مفتي الديار المصرية سابقا الشيخ ( محمد بخيت المطيعي في كتابه " أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام".
الأستاذ الشيخ على محفوظ في كتابه" الإبداع في مضار الإبتداع ".
الشيخ إسماعيل الأنصاري في كتابه :" القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ".
والشيخ بن منيع في رده على المالكي .
وانظر بقية من قال به من أهل العلم لما نقله مشهور حسن سلمان في تعليقه أثناء تحقيقه لكتاب " الباعث على إنكار البدع والحوادث " ص 96 في الحاشية .(91/5)
ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه ، والدعاة لهم منبثون في البلاد يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين (299) إلى سنة سبع وستين وخمسمائة ( 567)،.
وفي أيامهم كثرة الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية والحشيشية نوع منهم وتمكن رعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن من الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل ( صلاح الدين ) فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن أرقاب العباد .
وكانوا أربعة عشر مستخلفا ... يدّعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي ( الدولة المجوسية أو اليهودية الباطنية الملحدة ).
ومن قباحتهم انهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك (أي أنهم علويون فاطميون ) على المنابر ويكتبونه على جدران المساجد وغيرها وخطب عبدهم جوهر الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة ( المعزية) بنفسه خطبة قال فيها:( اللهم صلي على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين ) كذب عدوّ الله اللعين فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين ولا في ذريته الباقين والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول .(91/6)
والملقب بالمهدي لعنه الله كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم فيقولون لبعضهم (هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه ) ويقولون لآخرين (هو رسول الله وحجة الله ) ويقولون لاخرى (هو الله الخالق الرازق) لا اله إلا الله وحده لا شريك له تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه وزاد شره على شر أبيه أضعافا مضاعفة وجاهر بشتم الأنبياء فكان ينادى في أسواق المهدية وغيرها (العنوا عائشة وبعلها العنوا الغار وما حوى ) اللهم صلي على نبيك وأصحابه وأزواجه الطاهرين وألعن هؤلاء الكفرة الفجرة الملحدين وارحم من ازالهم وكان سبب قلعهم ومن جرى على يديه تفريق جمعهم وأصلهم سعيرا ولقهم ثبورا وأسكنهم النار جمعا واجعلهم ممن قلت فيهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
ولو وفق ملوك الإسلام لصرفوا أعنة الخيل إلى مصر لغزو الباطنية الملاعين فإنهم من شر أعداء دين الإسلام وقد خرجت من حدّ المنافقين إلى حد المجاهرين لما ظهر في ممالك الإسلام من كفرها وفسادها وتعين على الكافه فرض جهادها وضرر هؤلاء أشدّ على الإسلام وأهله من ضرر الكفار إذا لم يقم بجهادها أحد إلى هذه الغاية مع العلم بعظيم ضررها وفسادها في الأرض ".أ.هـ بتصرف يسير.(91/7)
وانظر رحمك الله إلى ما قرره هذا العالم المؤرخ وهو قريب عهد منهم حيث عاش ما بين سنة (599-665)للهجرة النبوية ، وكيف تألم لما حل بالمسلمين من كرب وضيق من جرّاء حكم هؤلاء الباطنيين وعلى هذا فالمولد النبوي أصله ومنشئه من الباطنيين ذي الأصول المجوسية اليهودية المحيين شعائر الصليبية ، ونحن هنا نقول لكل منصف هل يصح أن نجعل أمثال هؤلاء مصدر عباداتنا وشعائرنا ونحن نقول مرة أخرى إن القرون المفضلة التي عاش فيها سلفنا الصالح لم يكن فيها أثر لمثل هذه العبادة منهم أو من أعدائهم أو حتى من جهلتهم وعامتهم أفلا يسعنا ماوسعهم .
بيان حكم المولد النبوي وبيان فساد قول من قال بمشروعيته من أوجه عديدة:
إعلم رحمني الله وإياك أن ما يسمى بالمولد النبوي ليس مشروعا ولم يدل عليه دليل من كتاب ولاسنة لاإجماع ولاقياس صحيح ولا حتى دليل عقلي ولا فطري وما كان بهذه الصيغة فهو بدعة مذمومة.
قال الحافظ ابن رجب (1) :" والمراد بالبدعة ما أحدث مما لاأصل له في الشريعة يدل عليه ".
ويقول أيضاً (2) : " فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة".
والبدعة كذلك " مالم يشرعه الله من الدين فكل من دان الله بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متاولاً".(3)
ويظهر فساد القول بجوازه ومشرعية من خلال الأوجه التاليه:
الوجه الأول :
أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولاأمر به ولافعله صحابته ولاأحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على ايدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
__________
(1) جامع العلوم والحكم (2/127).ت: الارناؤوط.
(2) المصدر السابق ( 2/128).
(3) أنظر مجموع الفتاوى (18/346).(91/8)
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عزو جل صاحبه وفاعله بقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
الوجه الثاني:
أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار ).
فقوله (كل بدعة ضلالة ) عموم لا مخصص له يدخل فيه كل أمر مخترع محدث لا أصل له في دين الله والعلماء مجمعون على انه أمر محدث فصار الأمر إلى ما قلنا أنه بدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار أعاذنا الله وإياك منها.
الوجه الثالث :
أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولايكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع:
قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).
والذي يقول إن المولد عبادة نتعبد لله تعالى بها فهو مكذب بهذه الآية وهو كفر بالله عزوجل فان قال انه مصدق بها لزمه ان يقول ان المولد ليس بعبادة ويكون اقرب الى العبث واللعب منه الى ما يقرب الى الله عزوجل.
وقلنا له أيضاً كأنك مستدرك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
فان قال أنا لا أقول أنها عبادة ولا استدرك على الله ورسوله ومومن بهذه الآية لزمه الرجوع إلى القول الحق وأنها بدعة محدثة هدانا الله وكل مسلم لما يحبه ربنا ويرضى.
الوجه الخامس :(91/9)
أن الممارس لهذا الأمر- اعني بدعة المولد- كأنه يتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة وعدم الأمانة -و العياذ بالله- لأنه كتم على الأمة ولم يدلها على هذه العبادة العظيمة التي تقربها إلى الله
قال الإمام مالك – رحمه الله (1)-: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم ان محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
الوجه السادس (2) :
أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها لأن الله اعلم بما يصلح عباده وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضا يعلم بل ربما يفهم أن يعلم أمرا لم يعلمه الشارع سبحانك هذا بهتان عظيم وجرم خطير وإثم مبين وضلال كبير.
الوجه السابع :
أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لايتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لان الذي يمارسون هذه البدعة يقولون ان هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم
وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لان محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
__________
(1) الاعتصام (1/49).
(2) اقتبست هذا الوجه من الإما م الشاطبي في الاعتصام (1/49).(91/10)
فالذي يجعل المحبة باقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول ان المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة ).
الوجه الثامن :
أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ).(1)
الوجه التاسع:
أن فيه قدحا في من سبقنا من الصحابة ومن أتى بعدهم بأننا أكثر محبة للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وأنهم لم يوفوه حقه من المحبة والاحترام لان فاعلي المولد يقولون عن الذين لا يشاركونهم انهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التهمة منصرفة إلى أصحابه الأطهار الذين فدوه بأرواحهم وبآبآءهم وأمهاتهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
الوجه العاشر :
ان فاعل هذا المولد واقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته صراحة فقد قال صلى الله عليه وسلم ( لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه وذكر أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم .
وما يفعل الآن من الموالد من أبرز مظاهر الإطراء وإذا لم يكن في الموالد-( التي تنفق فيها الاموال الطائلة وتنشد فيها المدائح النبوية التي تشتمل على أعظم أنواع الغلو فيه صلى الله عليه وسلم من إعطائه خصائص الربوبية كما سوف يمر معنا)- إطراء ففي ماذا يكون الإطراء؟
الوجه الحادي عشر :
وبدعة المولد النبوي مجاوزة في الحد المشروع، ومجاوزة في حد ما امرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجاوزة للحد المشروع في إقامة الأعياد فليس في شرعنا للمسلمين إلا عيدان فقط ومن أتى بثالث فهو متجاوز للحد المشروع .
الوجه الثاني عشر:
__________
(1) أنظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/581).(91/11)
أن فعل المولد غلو مذموم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم و من أعظم الذرائع المؤدية للشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة لأن الغلو في الصالحين كان سبب وقوع الأمم السابقة في الشرك وعبادة غير الله عزوجل.
وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة للشرك .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم :( إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) (1) وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وإن كان سبب وروده في في لقط الجمار ونهيه عن لقط الكبار من الجمار لأنه نوع من الغلو في العبادة ومجاوزة للحد المشروع .
ومعلو ان سبب الشرك الذي وقع في بني آدم هو مجاوز الحد والغلو في تعظيم الصالحين فقد جاء في البخاري برقم ( 4920) عن ابن عباس" في قول الله تعالى ( وقالوا لاتذرن ألهتكم ولا تذرن ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً ) قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك اولئك ونسي العلم عبدت ".
وقارن بما حصل عند قوم نوح مع أنهم لم يصرفوا شيئا من العبادة في أول الأمر حتى وقعوا في الشرك والسبب هذه التماثيل وهي مظهر من مظاهر الغلو وانظر ما حصل ويحصل في الموالد فهو ليس من ذرائع الشرك فحسب؛ بل يحصل الشرك بعينه من دعاء لغير الله عزوجل وإعطائه صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الرب جل وعلا كالتصرف في الكون وعلم الغيب ففي هذه الموالد يترنمون بالمدائح النبويةوعلى رأسها بردة البوصيري الذي يقول:
ياأكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول أحمد بن محمد ابن الحاج السلمي:
نور الهدى قد بدا في العرب والعجم سعد السعود علا في الحل والحرم
__________
(1) الحديث صحيح : أخرجه أحمد(215،347) .(91/12)
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
فماذا بقي لرب العباد إن هذا ليس شركا في الألوهية بل هو شرك في الربوبية وهو أعظم من شرك كفار قريش والعياذ بالله لأن كفار قريش كانوا يعتقدون أن المتصرف في الكون هو الله عزو جل لا أصنامهم وهؤلاء يزعمون أن المتصرف في الكون الذي بيده الدنيا والآخرة هو النبي صلى الله عليه وسلم .
وانظر الى قوله ( يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ) فهو يعتبر رسول الله هو الملاذ وهو الذي يستغاث به ويدعوه عند الملمات وهذا هو عين شرك كفار قريش الذي يعبدون الاوثان بل هم احسن حالا منه فهم عند الشدائد يخلصون الدعاء والعبادة والبوصيري عند الشدائد والملمات يدعوا غيرالله .
والموالد لايمكن ان تقوم بغير أبيات البردة والله المستعان فهي الشعيرة والركيزة الأساسية في هذه الموالد البدعية.
ولولم يكن فيها إلا هذه المفسدة لكفى بها مبرراً لتحريمها والتحذير منها .
وإن زعم شخص انه سوف يخليه مما تقدم قلنا له المولد بحد ذاته هو مظهر من مظاهر الغلو المذموم فضلا عما يحتويه من طوام عظيمة وبدعة في الدين محدثة لم يشرعهاولم يأذن بها الله .
الوجه الثالث عشر:
أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه والله المستعان.
وأما يوم مولده فمختلف فيه ،فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به .(91/13)
يقول الحافظ في فتح الباري ( شرح حديث برقم 3641 ):" . وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ : كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اُتُّفِقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة : مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته , فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة , وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ , فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة "أ.هـ
ويقول ابن الحاج في المدخل (2/15):" ثم العجب العحيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عزو جل وفجعة الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لايعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وأنفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
الوجه الرابع عشر:(91/14)
اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحرومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عزوجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف.(1)
الوجه الخامس عشر:
اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتببذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير اهلها.
الوجه السادس عشر:
أن في هذه الموالد والتي كثرت وانتشرت حتى وصلت في بعض الأشهر أن يحتفلوا بثمان وعشرين مولدا أن فيها من استنفاد الطاقات والجهود والأموال واشغال الأوقات وصرف للناس عن ما يكاد لهم من قبل أعدائهم فتصبح كل أيامهم رقص وطرب وموالد فمتى يتفرغون لتعلم دينهم ومعرفة ما يخطط لهم من قبل أعدائهم ولهذا لما جاء المستعمرون للبلاد الإسلامية حاولوا القضاء على كل معالم الإسلام وصرف الناس عن دينهم ومحاولة إشاعة الرذيلة بينهم وما كان من تصرفات المسلمين فيه مصلحة لهم وفت في عضد المسلمين وإضعاف لشانهم فإنهم باركوه وشجعوه مثل الملاهي والمحرمات ونحوها ومن ذلك البدع المحدثة التي تصرف الناس عن معالم الإسلام الحقيقية مثل بدعة المولد وغيرها من الموالد ، بل مثل هذه البدع من أسباب تخلف المسلمين وعدم تقدمهم على غيرهم .
__________
(1) أنظر مبحثا نفيسا لابن الحاج في كتابه المدخل (2/ من بداية الجزء ) فقدد ذكر ما يحدث من عظائم الأمور والمنكرات ما يندى له الجبين ، وانظر مانقله الشيخ اسماعيل الانصاري في رسالته القيمة (القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل ص648) ط. دار العاصمة والتي جمعت عددا من الرسائل في حكم المولد. مجلدين .(91/15)
يقول السيد رشيد رضا في المنار (2/74-76):" فالموالد أسواق الفسوق فيها خيام للعواهر وخانات للخمور ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات الكاسيات العاريات ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس ....(إلى أن قال ): فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع اتخذوا الشيوخ أنداداً وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكرة القدوة وصارت الحكايات الملفقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير ونتيجة لذلك كله ؛ أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلاعجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ماوعد الله المؤمنين من النصر لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيئ من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولايشهد لهذه البدع كتاب ولاسنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الامم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ
نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه:
واسمع إلى ما يحدثنا به المؤرخ المصري الجبرتي في كتابيه عجائب الآثار(2/249،201) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ص47
تحدث وذكر ان المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفيه واصحاب الموالد فقام نابليون وامرهم بإحياءها ودعمها(91/16)
قال في مظهر التقديس :" وفيها (أي سنة 1213هـ في ربيع الأول ):سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف فلم يقبل وقال (لابد من ذلك ) واعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسة يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطاً".
ولعل سائلا يسأل ما هدفهم من تأييد ودعم مثل هذه البدع وهذه الموالد؟
ندع الجواب للمؤرخ الجبرتي المعاصر لهم حيث يقول في تاريخ عجائب الآثار(2/306):
" ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات ".
أقوال أهل العلم في المولد :
لقد أفتى علماء العالم الإسلامي على اختلاف أماكنهم وأزمانهم ومذاهبهم الفقهية بحرمة عمل المولد وأنه من البدع المحدثة التي لاأصل لها وإليك بعضهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من علماء الشام ومن المجتهدين.(انظر اقتضاء الصراط المستقيم ( 2 /619 )، ومجموع الفتاوى( 1/312 ) .
العلامة الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني له رسالة بعنوان (المورد في الكلام على عمل المولد). وهو عالم مالكي المذهب ت بالاسكندرية سنة 734هـ.
الاستاذ ابو عبد الله محمد الحفار له فتاوى ذكرها الونشريسي في المعيار المعرب.وهو من علماء المغرب.
العلامة ابن الحاج ابو عبد ال محمدبن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي ت بالقاهرة (732هـ)له كلام نفيس في المدخل بداية الجزالثاني
الشيخ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية.
الشيخ على محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع .
الإمام الشاطبي وله كلام نفيس في فتوى له في كتاب طبع باسم فتاوى الإمام الشاطبي وهو عالم مالكي أندلسي.(91/17)
الشيخ رشيد رضا في أكثر من موضع من مصنفاته كما في المنار (9/96)، (2/74-76) (17/111) (29/ 664-668).وفتاواه (الجزء الخامس في الصفحة 2112-2115) و(الجزء الرابع في الصفحة 1242-1243).
الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وهو من علماء الهند ( أنظر رسالة الشيخ حمود التويجري ص235 ط. العاصمة ضمن المجموع في الرسائل الخاصة ببدعة المولد ).
الشيخ بشير الدين القنوجي وهو من علماء الهند وهو شيخ أبي الطيب ( المصدر السابق ).
الشيخ فوزان السابق كما في كتابه البيان والإشهارص 299.
الشيخ محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه السنن والمبتدعات .
شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في الدرر السنية.
العلامة الشيخ محمد بن ابراهيم له رسالة في إنكار عمل المولد وانظر مجموع فتاواه (3/48-95)فقد اشتملت على عدد من الفتاوى المتنوعة حول المولد .
العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في رسالته هداية الناسك إلى أهم المناسك .
العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز له رسالة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي .
العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في رسالة بعنوان ( الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي).
الشيخ العلامة إسماعيل الأنصاري له رسالة وهي من أجود مارأيت بعنوان القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل.
العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين.
الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين .
الشيخ صالح بن فوزان الفوزان .
هناك فتاوى متناثرة في مجلة التوحيد التي تصدر في مصر عن جماعة أنصار السنة المحمدية .
في الختام أسأل الله العلي القدير ان يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(91/18)
الهدية الهادية
إلى
الطائفة التجانية
تأليف
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
رحمه الله و غفر له
يقول محمد تقي الدين الهلالي :
لما رأيت الشرك الأكبر، بله الأصغر، قد انتشر في البلاد الإسلامية والبدع عمت جميع الأقطار، وقل علماء الكتاب والسنة الناصحون للأمة، وانتشرت طرائق المتصوفة المبتدعين في الخاصة والعامة، ومنها الطريقة التجانية التي يعد متبعوها بعشرات الملايين في البلاد الإسلامية، وكنت عالما بعُجرها و ُبجرها فأطْلعت على بعض ما فيها من الضلالات صاحب الفضيلة العالم الورع الداعي إلى الله على بصيرة محي السنة ومميت البدعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فتعجَّب من ذلك غاية التعجُّب، وحثني على تأليف جزء في بيان حقيقة هذه الطريقة وما فيها من الأباطيل، ليحذرها من لم يقع في شباكها، ويتنبه لما فيها الذين ما يزالون متورطين في مهاويها، عسى الله أن ينقذهم ويردهم إلى المحجة البيضاء(1) فامتثلت أمره شاكرا ً وألفت هذا الكتاب وسميته :
" الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية "
وقد تفضل سماحته، فأمر بطبعه، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وجعل هذا العمل ذخرا في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ولا يفوتني في هذا المقام أن أقدم أسمى آيات الشكر لكل من ساعد على نشر هذا الكتاب ولاسيما الأديب العبقري، فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الأستاذ الشيخ محمد العبودي فإنه تلقى هذا العمل باغتباط، وبذل جهوده المشكورة فجزاه الله خيراً .
__________
(1) وهذا شأنه ـ حفظه الله ـ في رد عدوان أصحاب البدع والضلالات من أعداء السنة النبوية ، والمتسترين ، من أمثال زاهد الكوثري وتلامذته . جزاه الله عن الإسلام وأهله كل خير ، وكتب له العون والسداد(92/1)
والله أسأل متوسلا إليه بأسمائه الحسنى كلها وبمحبتنا واتباعنا لخليله محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن ينفعنا بهذا الكتاب وينفع به كثيراً من خلقه، ينير لهم الظلمات بمصابيح الكتاب والسنن المحكمات، ويهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم ، ويجعل مأوانا في جنات النعيم، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين .
الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيرا لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيرا لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين وصلِّ اللهم على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين .
أما بعد فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه :
نشأت في بلاد سجلماسة وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحدا منهم لا عالما ولا جاهلا إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرائق، وتعلق بشيخها تعلق إلهام الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائما بشكره والثناء عليه فإنْ وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير و سمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه . وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية ، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف :
يصحب شيخا عارف المسالك == يقيه من طريقه المهالك
يذكره الله إذا رآه == ويوصل العبد إلى مولاه
ورأيت الطرائق المنتشرة في بلادنا قسمين:(92/2)
1- قسم ينتمي إليه العلماء وعِلْيَةُ القوم .
2- وقسم ينتمي إليه السُّوقة وعامة الناس .
فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مرارا يقول:
لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والإستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني ، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدِّنا عبد القادر بن هلال، وجدُّنا كان مشهوراً بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي من بلاد المغرب.
والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلا، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ وِرد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له : يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيراً، وقال لي : تأخذ الورد على صغر سنك ؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ لك أفلحت وأنجحت فأعطاني الورد وهو :(92/3)
ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها)(1)( في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه . وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهرة الكمال: اللهم صلي وسلم على عين الرحمة الربانية ...الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشرة مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فَرْضُه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشْتُرِطَت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه مادام يذكرها .
ويجب ذِكر الوِرد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالسا كجلسة التشهد على الأفضل مغمضا عينيه مستحضرا صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عموداً من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد .
أما الوظيفة فيجب أن تُذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمُريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم .
__________
(1) 1 الفضل المزعوم عندهم(92/4)
وأخبرني المقدم الشيخ عبد الكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الوِرد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الوِرد والوظيفة بإخلاص ملتزما الشروط مدة تسع سنين، وهنالك ذِكر آخر يكون يوم الجمعة متصلا بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعا : الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه ، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها مند زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فُعلت أمام الشيخ التجاني وبرضاه وإقراره .(92/5)
وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أنِّي كنت في الجزائر مسافراً من ناحية) بركنت( بقرب حدود المغرب إلى )المشرية(، وكان لي رفيق له جمل فعقله وأوصني بحراسته وتركني في خيمة قِلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عِقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فاخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى واقفا إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرة واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة و شدة الحر، فقلت في نفسي : هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكِّنني من قبض الجمل و إناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب " الإحياء " للغزالي فطالعته فأثار في نفسي واجتهدت في العبادة و التزمت قيام الليل في شدة البرد فبينما أنا ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي إذا كنت جالسا فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غماما أبيض سدَّ الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء و أخذ ذلك الغمام يدنو مني آتيا من جهة الشرق - وهو قبلة المصلي في المغرب و الجزائر - حتى وقف بعيدا مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتما بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام، ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة آلم السجدة ففزعت وخفت خوفا شديدا فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القران مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر، فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلِّمه، لأن كتب(92/6)
الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش و الفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافيا عليه، ولما طال عليَّ زمن الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني ، وان لم في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلَّمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلَّم هو أيضا، ولم أسمع له صوتا ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتما بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل، و تسليمة أمامه للإمام، و تسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إماما أو مأموما أو منفردا .
وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائما في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فورا أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلتي (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي : يمكن أن يكون ذلك شيطانا لو كان ملكا ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب .(92/7)
وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت في كتاب" صحيح البخاري " ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركا أستغيث بغير الله وأخاف وأرجو غير الله ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلا على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام . وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلا نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي : أنظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي : إن الأوسط منهم هو النبي صلى الله عليه و سلم فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده فقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت فعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يُكفِّرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقدا جديدا على زوجته فقلت في نفسي هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى فأما أن أكون عاصيا أو كافرا فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفا أمام النبي صلى الله عليه و سلم فقلت في بلاد المسلمين أوفي بلاد النصارى ؟ فقال لي: البلاد كلها لله فقلت يا رسول الله أدع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال لي: عند الله وبعد ما خرجت من الطريقة التجانية على إثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمن طويل رأيت النبي صلى الله عليه و سلم مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طولا أبيض نحيفا مشربا(92/8)
بحمرة لحيته بيضاء ، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفا ولحيته سوداء وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى وكانت رؤية له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحيانا بما في كتاب جواهر لمعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال : من ترك ورده وأخذ وِردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنيفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أومن الأموات أما من أخذ وِردنا وتركه فإنه يحل به البلاء دنيا وأخرى ولا يموت ألا كافرا ً قطعا وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه و سلم يقظة لا مناما وقال لي : سيد الوجود صلى الله عليه و سلم فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة وأرجم شيطانه بأحجارها فيخْنَس ثم يخسأ ثم يُدبر فاراً منهزما ً فلما رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه و سلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان وأظن القارئ لم ينسى أني سألته ذلك في المرة الأولى فلم يدعوا لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله فقلت يا رسول الله: أدع الله أن يختم لي بالإيمان فقال لي: أدع أنت وأنا أؤمن على دعائك فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم: آمين وكان رافعا يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون والرؤيا تبشر ولا تغُر وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدَّمت ذكرها ولم يدع لي فيها عشرون سنة(92/9)
وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في المرة الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه و سلم والله أعلم .
سبب خروجي من الطريقة التجانية
لقد كنت في غمرة عظيمة وضلال مبين وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة وكان الشيخ عبد الحي الكتاني عدوا ً للطريقة التجانية لأنه كان شيخا رسميا للطريقة الكتانية و إنما قلت رسميا لأن أهل سلا أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني مؤسس الطريقة الكتانية لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي و يقولون أن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضا ً والذي حدثني بذلك العالم الأديب النبيل الشيخ عبد الله بن سعيد السلاوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ عبد الكبير الكتاني وكان يُعادي أخاه عبد الحي عداوة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مرَّ بنا الشيخ عبد الحي في وَجْدَة و أنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج قاضي القضاة بناحية وجدة معلما لولده الأديب السيد عبد الكريم وابن أخيه السيد عبد السلام كنت أعلِّمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج فمدحت عبد الحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئا منها ولكنه أعجب بها أيما إعجاب حتى قال لي: عاهدني أنك إذا قدمت " فاسًا" تنزل عندي ضيفا فعاهدته على ذلك ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده، وَوُلِد له في تلك الأيام ولد سماه عبد الأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئا وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا إليها خلقا كثيراً وبعد ما أكلوا وشربوا(92/10)
قاموا للعمارة التي تقدم ذكرها ودعوني أن أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع أهل طريقة أخرى ذكرهم وان لا يرقص معهم وفي كتاب" البغية " للشيخ العربي بن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق في أورادهم وأذكارهم و حاصلها أن شخصا تجانيا ذهب إلى زاوية أهل طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحي أن يبقى منفردا عنهم وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه شلل في فكَّيْه فبقي فاه مفغورا ولم يستطع سده حتى مات ولكن الجماعة ألوحوا علي وجروني جرا حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواها مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء وبعضها فيها لحية خطها الشيب وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحية فلم يكن موجودا في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جدا من حواشيهم وسمعت أصواتا تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آ آ آ وبعضها آه آه آه وبعضها أح أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعى أو الفرزدق حين طلَّق نوار فقال :
ندمت ندامة الكسعى لما *** غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها *** كآدم حين أخرجه الضرار(92/11)
وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقدا أن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له والطريقة الكتَّانِية التي أنت شيخها فقال لي كل الطرائق باطلة وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتُسَخِّرهم وتَستعبدهم، قال أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقها في مصالح لا ينفقونها فيها ثم قلت له : ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها، قال لي ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما وعدم تعظيم منهما للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تُكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع كل هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوبا أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون على الباب ليتلقوه فقلت إذن أنت لا تعتقد صحة طريقتك فقال لا أعتقدها أبدا وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل وأزيدك على ذلك أن اعتماد طريقتكم على كتاب "جواهر المعاني" الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبد الله المدفون بكذا وكذا بفاس وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من جوهر المعاني مسروقا كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته وبعد أيام كنت جالسا عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي هلْ اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت لا، فقال لي هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن(92/12)
في طريقته فقال لي طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب أن يقلدهم في كل ما يدَّعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به وكان قاضيا في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو ( وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد ) ... أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي استجديه أي أطلب وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجديا أي طالبا مالا فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قراها فقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري أنت تعرف بيتنا، فقال نعم، قال فأت به على الساعة التاسعة صباحا فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشَّرَّاطين وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو يوم عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بنعيسى المكناسي وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب فيضربون طبولهم ومزاميرهم ويترنمون بأناشيدهم إلى إن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون ذكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيِّئا والدم يسيل منه وقد ملئوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمان وحتى في هذا الزمن فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلاَّ بعد مُضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا و قال إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة(92/13)
العصر فرجعنا وقلت لصاحبي لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير فيما اختاره الله تعالى فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي . ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي إلى أين تذهب أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فأمكث فيه وبت هنا فقبلت دعوته وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه أذكر منهم الشيخ عبد السلام الصرغيني والشيخ المهدي العلوي وهو لا يزال في قيد الحياة أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم جاءني شاب كان متمسكا بالطريقة الكتانية تمسكا عظيما فقال لي أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة فقلت وما دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطا بها فقال لي أنه أمس شرب الخمر وزني وترك صلاة العصر و المغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم وكانت بقية سُكر لا تزال مسيطرة عليه فهَمَّ أن يدخل الزاوية ويرقص معهم ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جُنب ولم يصلِّ شيئا من الصلوات في ذلك النهار إلا أن سُكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبد الكبير في صدر الحلقة والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص وكان(92/14)
أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به قال ولما دعاني خِفت خوفا شديدا وظننت أنه قد انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي ذلك أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعوا إليه وإلاَّ كيف يرضى عنِّي النبي صلى الله عليه وسلم ويُقبِّلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم قال فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتَّبع طريقة الكتاب والسنة . ولما رأيتهم يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت في نفسي هذا الذي كنت أخافه قد وقعت فيه فكيف الخلاص ؟
وذكرت قول التجاني بن بابا الشنقيطي في منيته :
ومن يجالس مبغض الشيخ هلك *** وضل في مهامه وفي حلك
وشدد النهي لنا الرسول *** في ذلك فلتعمل بما أقول
والشيخ قال هو سم يسري يحل *** من فعله في خسر(92/15)
ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال : قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس فقمت فقال لي الشيخ إلى أين فقلت إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج وقال لي هل أَذِن لك الشيخ في الخروج فقلت نعم فقال لي هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التَّجول بعد الساعة العاشرة ليلا فيه خطر فإنك لا تمشي خطوات حتى يُقبض عليك وتؤخذ إلى السجن وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ يُنظر في إطلاق سراحك وقال لي أنا لا أفتح لك الباب إلاّ إذا سمعت الإذن من الشيخ فقلت إذن أرجع ورجعت وجلست في مكاني ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي أراك منقبضا فما سبب انقباضك فقلت سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التجانية وأنا تجاني لا يجوز لي أن اجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته فقال لي لا بأس عليك أنا أيضا كنت تجانيا فخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها فإن كنت تريد أن تتمسَّك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك عليَّ ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلُمَّ إلى المناظرة فإن ظهرت عليَّ رجعتُ إلى الطريقة وإن ظهرتُ عليك خرجتَ منها كما فعلت أنا فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قَبِلت المناظرة .
المناظرة(92/16)
قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسالة واحدة إن ثبتت ثبتَت الطريقة كلها، قلت ما هي ؟ قال ادعاء التجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأخْذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق حق وإن بَطُل ادعاؤه ذلك فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك الباطل وتتمسك بالحق ثم قال تبدأ أو أبدأ أنا فقلت ابدأ أنت فقال عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني قلت هات ما عندك وعليَّ الجواب فقال :
الأول : إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب الخلافة قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير وقال المهاجرون إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصِل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينتهي النزاع كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يُكلِّم أحدا يقظة بعد موته لكلَّم أصحابه وأصلح بينهم وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد مضي ألف ومائتي سنة ولماذا ظهر ؟ ليقول له أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالداه وأولاده وأزواجه لا الحفدة فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له :(92/17)
إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته أما بعد موته فقد انقطع اللقاء العام للعام وبقي اللقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه على شيخنا من إعطاء الوِرد والفضائل هو من الخاص للخاص فقال أنا لا أُسلِّم أن في الشريعة خاصا وعاما لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله أن كان من الدين فلابد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابا فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات وفي صحيح البخاري عن علي ابن أبى طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخلفاؤه بشيء ثم يخص رجلا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة فقلت إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع قال احفظ هذا .(92/18)
الأمر الثاني : اختلاف أبى بكر مع فاطمة الزهراء رضي الله عنهما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه أنه إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصدِّيق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة )، وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم فهذان حبيبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال فاطمة بضعة مني يسوءني ما ساءاها أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح أن أبا بكر أحب الناس إليه، وقال: (ما أحد أمن علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصدِّيق ) رواه البخاري . وهذه المغاضَبة التي وقعت بين أبى بكر وفاطمة، تسوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له : إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعتَ قال احفظ هذا .(92/19)
الأمر الثالث : الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبى طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهم حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي صلى الله عليه وسلم سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة وقد أخبر الله سبحانه في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت وذلك قوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء قال احفظ هذا وفكِّر فيه .
الأمر الرابع : خلاف علي مع الخوارج، وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي صلى الله عليه وسلم لرئيس الخوارج وأمره بطاعة أمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق ...(92/20)
والأمر الخامس : النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية، وقد قُتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين العاملين بقوله تعالى : وَأَصْلِحُوا { ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة فلم يجد عندي جوابا غير ما تقدم ولكني لم أُسلِّم له فقال لي فكِّر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد صلاة العشاء بكثير . وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقينا فقلت له من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة ؟ وهي أن كل مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه فقال لي يوافقني على هذا أكبر مُقدِّم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أُكذِّبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح لأحد أن يكون شيخا للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يُفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شيخاً لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن(92/21)
لأورادها يسمى مقدما فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة .
فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطيع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولا وفروعا على كتاب الله وسنة رسول الله فما وافق في نضرنا القاصر قبلناه وما خالف رددناه ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني فأشار إلي بيده يستمهلني وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشَّرَّاطين حيث كنت نازلا قبل لقائي بالشيخ العلوي وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغْلته يطلب أن تزوره فتعجَّبتُ كثيرا لأمرين أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن و العلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحَّب بي وقال يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس فاعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زمانا، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زمانا، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدما فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة وتركتها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علما(92/22)
وعملا ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذا له وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بالشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علما وعملا فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقينا بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي . ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالَّتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال ولو بعُدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك . بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانبا كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيرا وتغمدهما برحمته، وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت بالشيخ عبد العزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو من تلاميذ الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضا وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويِّين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعاءك الصالح وأن تلقنني وِرد الطريقة التجانية فقال لي : يا أسفاً عليك أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكِّنك من فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكفيك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسول الله فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة وفتح لي باب التوحيد والإتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم .
من أين جاء أصل هذه المناظرة التي وقعت بيني وبين الشيخ محمد بن العربي العلوي رحمه الله تعالى ؟.(92/23)
كنت أظن أن أصلها من الشيخ العالم المصلح شعيب الدُكَّالي لأنه ناظر بها شيخنا محمد بن العربي فأفحمه واضطره إلى الخروج من الطريقة ففعل هو معي مثل ما فعله معه الشيخ شعيب الدكالي رحمهما الله تعالى ولكني بعد ذلك بزمن وجدت هذه المناظرة في كتاب (غاية الأماني في الرد على النبهاني ) لمؤلفه العالم السلفي محمود شكري الألوسي البغدادي رحمة الله، وهذا الكتاب من أنفس كتب السلفية جادل المبتدعين من المتصوفة وشدد عليهم الخناق بعبارات بليغة كأنها عقود الجمان في أجياد الحسان فيه من المتعة والفوائد ما يقل نظيره في الكتب والمثل الإنكليزي يقول ما معناه : ينبغي أن يكون الأصدقاء والكتب قليلين لكن طيبين، وهذا المثل ينطبق على هذا الكتاب .
هذا سبب خروجي من الطريقة التجانية الذي لم يكن يخطر ببالي، وإنما اضطرني إليه البرهان اليقيني الذي لا يترك شكا ولا ريبا في أن هذه الطريقة كما هي في كتب أهلها وفي اعتقادهم لا يمكن الجمع بينها وبين اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة وبيان ذلك تجده في الفصول التالية .
الفصل الأول : ما جاء في كتب الطريقة من فضل شيخها أحمد التجاني
اعلم نفعني الله وإياك بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعصمنا بها من الزيغ والزلل أن كتب الطريقة التجانية كثيرة أقتصر على ذكر بعضها :
الأول : "جواهر المعاني من فيض أبي العباس التجاني" لمؤلفه علي حرازم بن العربي برادة الفاسي أخبرني الشيخ أحمد سكيرج أنه قرأ بخط الشيخ أحمد التجاني على هامش النسخة المخطوطة التي كتبها علي حرازم العبارة التالية ( كل ما في هذا الكتاب فهو من إملائنا على محبنا سيدي علي حرازم ) وفضائل هذا الكتاب عندهم كثيرة، منها أن البيت الذي تكون فيه نسخة منه تكثر عليه الخيرات والبركات ويحفظ أهله من جميع الشرور ومما أحفظه من المنية أرجوزة في علوم الطريقة للتجاني ابن بابا الشنقيطي ما نصه :(92/24)
وقال فيه المصطفى كتابي *** وأنا ذا ألفت للأحباب
الضمير في فيه يعود إلى جواهر المعاني يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جواهر المعاني كتابي وأنا الفته للأحباب وهم التجانيون وسيأتي في ذكر فضائلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبهم محبة خاصة وأنهم تلاميذه وفقراؤه وهم مربيهم .
الكتاب الثاني : " الجامع " للشيخ محمد بن المشري، وهو من قدماء أصحاب الشيخ أحمد التجاني ولكن التجانيين لا يعباؤن بهذا الكتاب ومن الشائع عندهم أن الشيخ التجاني لم يكن راضيا عن مؤلفه كل الرضا لأنه أظهر الولاية وادعاء المشيخة في حياة شيخه وأن الشيخ أمره ألا يُساكنه في بلد واحد، قال محمد تقي الدين ولعل هذا النهي ينطبق على المثل المصري بلغة أهل الصعيد ( السفينة اللي فيها ريِّسين تغرق ) ترجمته ( السفينة التي فيها ربانان تغرق ) .
الكتاب الثالث : " الإفادة الأحمدية " ، إذا أردت أن تعرف تراجم علي حرازم مؤلف جوهر المعاني ومحمد بن المشري مؤلف الجامع، والطيب السفياني مؤلف الإفادة الأحمدية وعمر الفوتي مؤلف كتاب الرماح الآتي ذكره وغيرهم من رؤساء الطريقة التجانية، فعليك بمطالعة كتاب كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب، لمؤلفه الشيخ أحمد سكيرج فإنه جمع فيه صحابة الشيخ التجاني ومناقبهم كما جمع الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب والحافظ بن حجر في الإصابة تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
الكتاب الرابع : " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم " لمؤلفه عمر بن سعيد الفوتي السنيغالي .(92/25)
الكتاب الخامس : " كتاب البغية شرح المنية "، وهي الأرجوزة التي تقدم ذكرها تأليف الشيخ العربي بن السايح، وهناك كتب أخرى كثيرة لا أحب الإطالة بذكرها وسأقتصر في النقول التي أنقلها على ما في جوهر المعاني، وكتاب الرماح لأن مؤلفه أحسن ترتيبه ووضع له فهرسا وافيا يسهل الأخذ منه وهو عند جميع التجانيين ثقة فيما ينقل لا يتطرق الشك إليه وبالله التوفيق .
قال صاحب الرماح في الجزء الثاني صفحة (4) الفصل السادس والثلاثون، في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به وبيان أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث، وأنه هو القطب المكتوم والبرزخ المحتوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقى واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر بذلك الوالي وحيث كان الأمر هكذا فإياك أخي الإنكار على مثل هذا السيد العظيم والإمام الأعظم الكريم قد أجمع أئمة الإسلام وجميع الأولياء والعارفين على أن الاعتقاد ربح والإنكار خسران واعلم أنا إنما قدمنا لك الفصول التي قدمناها أول الكتاب المبارك وذكرنا فيها ما على المنكرين وأطنبنا فيها بعض الإطناب إلا نصيحة لك وتحذيرا من أن تكون مع السالكين بالانتقاد إن لم تكن مع الرابحين بالاعتقاد فأقول وبالله تعالى التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق، اعلم أنه ينبغي لنا أن نورد هنا كلاما قبل الشروع في هذا الفصل الذي نريد الشروع فيه لأن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل العلم من خلاق قد يورد علينا إيرادين، أولهما أنه يقول الشيخ رضي الله عنه وأرضاه مدح نفسه وزكاها وذلك مذموم : ثانيهما أنه يقول أن قول الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به أن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع(92/26)
الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ويدخل فيه جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيكون أفضل من جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذلك باطل، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به لا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من في الموقف يا أهل المحشر هذا أمامكم الذي كان مددكم منه، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به أن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به أعمار الناس كلها ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق فقد فازوا بالربح دنيا وآخرة ولا يُشغل بها عمره إلا السعيد فيقول المعترض هذه الأقوال تقتضي تفضيله هو وأهل طريقته على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فالجواب والله تعالى الموفق للصواب .
أن الإيراد الأول غير وارد لأن هذا كما قال الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في الصواعق على النواعق ليس من باب الافتخار ولا تزكية النفس بل لهم في هذا وجهان أحدهما أن هذا من باب التعريف بحاله إذا جهل مقامه انتهى بلفظه .(92/27)
وهاأنذا ألخص بقية جوابه عما توقع أن يورده عليه فأقول نقل عن النووي في الأذكار أنه يجوز للإنسان أن يذكر فضائل نفسه إذا كان غرضه صحيحا كأن يُعرِّف الناس بعلمه ليأخذوا عنه العلم أو بأمانته ليأتمنوه على الودائع والأموال ليقوم بحفظها أو حسن التصرف فيها لمصلحة أهلها واحتجَّ لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا النبي لا كذب ) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقول يوسف عليه السلام : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ثم ذكر آثارا عن الصحابة مدحوا فيها أنفسهم لغرض صحيح، ونقل عن الزمخشري في الكشاف قوله أن العالم إذا جُهِلَت منزلته فوصف نفسه بما هو بصدده لم يكن ذلك من باب التزكية .
ثم قال في الوجه الثاني : أن يقال في جواب الإيراد الأول، أن هذا من باب التحدث بنعم الله قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } ثم نقل حديثا مرفوعا من المسند وشعب الإيمان للبيهقي ولفظه التحدث بنعم الله شكر وتركه كفر، ثم نقل آثارا عن الصحابة وغيرهم في التحدث بالنعم وأنه شكر لها، هذا ملخص جوابه عن الإيراد الأول، وأقول مستعينا بالله في جوابه :(92/28)
كل ما أوردته في التحدث بالنعم المعنوية والحسية، فهو حق لا ننازعك فيه، ولكن الطوام التي نقلتها عن شيخك لم يسبقه إليها سابق من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ولا دليل عليها من كتاب الله بل أدلة الكتاب والسنة تغبر في وجهها وتدحضها وتدمغها فقد أتعبت نفسك في غير طائل هذا نقوله على سبيل الإجمال ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ثم أجاب عن الإيراد الثاني بما ملخصه أن ظاهر كلام شيخه هو تفضيله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المخصوص كقوله تعالى في ريح عاد : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } فإنها لم تدمر الجبال ولم تدمر أحدا من البشر إلا عاد، وكذلك قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } فإن العرش لا يهلك وكذلك الجنة وما فيها ثم استدل بحديثين أحدهما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي در ) وقال أنه علم مخصوص قطعا لأنه لا سبيل لدخوله صلى الله عليه وسلم في هذا العموم .(92/29)
قال محمد تقي الدين الهلالي : الجواب عن ذلك أنه لا حجة له فيه لأن كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، لا يحتاجان إلى دليل ولا إقامة حجة لأنهما حجة والحجة العامة تخصص بالحجة الخاصة، أما كلام شيخه فليس بحجة فهو محتاج إلى حجة فيقال له من أين علمت أن روحك مقارنة لروح النبي صبى الله عليه وسلم، روحه عليه الصلاة والسلام تمد الأنبياء وروحك تمد الأولياء هكذا يقال أولا ويقال ثانيا ماذا تعني بالمدد أهو حسي أم معنوي فالحسي هو بسطة الجسم والرزق وما أشبههما والمعنوي هو هداية القلوب وما يُفتح عليها به من العلوم والحكم والتوفيق على طاعة الله والحفظ من معصية الله وتزكية النفوس وترقيتها في مراتب الإحسان حتى تبلغ درجة الصدِّيقين فإن كان هذا مقصودك فإن الكتاب والسنة وأصول الدين وجميع الأدلة النقلية والعقلية تدل بأصرح العبارات أن الله وحده هو الذي يمد عباده بالرزقين سواءا أكانوا أنبياء أو شهداء أو صالحين أم من عامة المؤمنين وأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله على الإطلاق لا يمد أحدا بشيء من ذلك لا الأنبياء ولا غيرهم بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام فقير إلى الله يتلقى المدد منه والذي يُمَد بفتح الميم لا يُمِد بضم الياء وكسر الميم والأدلة على هذا الأصل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصى منها قوله تعالى في سورة القصص يخاطب خير خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } ـ 56، قال الحافظ بن كثير في تفسير هذه الآية يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد { لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى في سورة البقرة رقم 272 : { لَيْسَ عَلَيْكَ(92/30)
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } وقال تعالى في سورة يوسف 103 : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال: { 7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبيعيا لا شرعيا فلما حَضَرَته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه واختُطِف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة، قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب ابن حزن المخزومي رضي الله عنه قال لما حضرت أبو طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى اله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترفب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ) فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } وأنزل الله في أبي طالب : { 7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أخرجاه من حديث الزهري انتهى .(92/31)
فإن قلت أنا لا أقصد بنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هو الممد الحقيقي وأنا مؤمن بقوله تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وإنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في إيصال هذه النعم كما قال أحد المضلين :
ما أرسل الرحمن أو يرسل *** من رحمة تصعد أو تنزل
إلا وطه المصطفى عبده *** حبيبه نبيه المرسل
واسطة فيها واصل لها *** يعرف كل من يعقل
وقد زاد هذا المضل على ادعاء الواسطة بين الله وبين خلقه في النعم كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أصل هذه النعم على حد زعم من يزعم أن كل العالم بملائكته وجنته وناره وجنه وأنسه، مسلمهم وكافرهم وشياطينهم كل ذلك مخلوق من نور النبي صلى الله عليه وسلم ويستدلون على ذلك بحديث باطل يرفعونه ولفظه (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ) وسيأتي بطلانه إن شاء الله عند الكلام على هذه الضلالة فالجواب، وما دليلك على أن الله لا يمد الناس ألا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم فإن قلت قد أسند الله إليه الهداية في قوله تعالى في سورة الشورى 52: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فالجواب : أن الهداية في كتاب الله تجيء ويراد بها تارة الدلالة والإرشاد فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم ، أي يدل الناس عليه ويدعوهم إليه بأقواله وأفعاله وأخلاقه الكريمة كما قال تعالى في - سورة المؤمنين 73 - : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) } أما التصرف في القلوب بالهداية فهو خاص بذي الجلال وفي ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم بعد رفع رأسه من الركوع وفي دبر الصلاة كما جاء في الصحيحين : ( اللهم لا ما نع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ) وإذا ثبت أن المدد كله من الله وليس في قدرة المخلوق أن يمد مخلوقا برزق حسي أو معنوي بأن يخلق ذلك الرزق ويهبه له فقد تهدم ما بناه صاحب الرماح ولم تصب رماحه أحدا من أهل الحق(92/32)
بأذى لأنه طعن بها أشياء تخيلها لا وجود لها وطاشت سهامه فلم تصب هدفا فأين المدد الذي يتلقاه أحمد التجاني ليوزعه على الناس من لدن آدم إلى النفخ في الصور ونحن نقول أن البحار والأنهار كلها لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فهو الذي يسقي منها من شاء على المقدار الذي يريده ويمنع من شاء وتذكرت بهذا الكلام حكاية قد يَحسُن إيرادها هنا فإن كان فيها المدح للنفس فليحملها المخالف على المحمل الحسن وإن أبى فالله عليم بذات الصدور ولا يضر إلا نفسه، توجهت سنة 1341 هـ من القاهرة إلى مديرية (أسيوط) من صعيد مصر ونزلت في مدينة (ملوي) وبقربها قرية تسمى (الريمون) وكانة فيها فئة قليلة جدا من السلفيين الموحدين لله المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوني إلى بلدهم، وشرعت أدعو إلى الله تعالى فأعانني الله سبحانه بفضله ورحمته فاستجاب أهل القرية كلهم لدعوتي ولم يشد منهم إلا شيخ الطريقة والعمدة - المرفوت - أي المعزول وخدمهما ولا يزيد عددهم على خمسة عشر و أقمت عندهم أكثر من شهرين ولتفصيل هذه القصة موضع آخر الذي أريد أن أقوله هنا أنني بعد مُضي زهاء أربع سنيين زرت هذه القرية للمرة الثانية فأخبروني أن شيخ الطريقة كان يأتيهم من بلد آخر في بعض الأحيان زاعما أنه يمدهم ويحفظهم والحقيقة أنه يبتز أموالهم ويزيدهم خضوعا إليه ويحافظ عليهم حتى لا يخرجوا من ربقته كما يحافظ الراعي على غنمه فبعد أن هداهم الله إلى توحيده واتباع رسوله الكريم وترك كل بدعة زارهم شيخ الطريقة المذكور وانتظر ما عهد منهم من التعظيم والخضوع من تقبيل اليد والخشوع أمامه والمبادرة إلى تقديم الهدايا النفائس التي تُرضي رغبته وتُشبع نهمته رآهم تلقوه كما يُتَلقَّى الضيف العادي فأنكر ذلك وقال ما أصابكم ؟ فقالوا ما أصابنا شيء نحن مستعدون لتقديم كل ما تريده من الطعام والشراب وما يلزم لضيافتك فقال أراكم تبدلتم فقال قائل منهم أي شيء تريد أكثر من الضيافة(92/33)
أتريد أن نعبدك من دون الله كما كنا نفعل في زمن الجهل والضلالة فقال (يا عكروط) وهو لفظ يُسبُّ به باللغة المصرية ومعناه اللئيم قال أنا قتلت نفسا للمحافظة على بطيخك الذي زرعته بشاطئ فرع النيل، لأن رجلا جاء يسرق بطيخك فوجهت أليه همتي وقتلته . فقال يا سيدنا الشيخ لقد أخطأت في حسابك لأمرين أحدهما أن البطيخ أتت عليه آفة فأهلكته قبل أن يُنتفع به والثاني أني لا أرضى بقتل نفس مسلمة أو كافرة لأجل بطيخة تسرق من مزرعتي فغضب الشيخ وسبهم وانصرف عنهم وكذلك المدد الذي يدَّعيه صاحب الرماح ليثبت به فضيلة لشيخه لا وجود لها في الحقيقة ومن اعتقد أن غير الله يمد القلوب بالهدى والأحوال السنية والمقامات السامية فقد عبد مع الله إلها آخر :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة اعظم
يقولون أقوالا لا يعلمونها *** إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
إن المدد الذي ادعاه الشيخ التجاني وتبعه صاحب الرماح سراب بقيعة وخيال باطل وما بني على باطل فهو باطل .
و أما ما ادعاه من التخصيص فإنه إنما يكون ذلك عند أهل الأصول في نصوص كتاب الله ونصوص المعصوم لاستحالة التناقض في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أما كلام غير المعصوم فليس له هذه المرتبة لأنه يجوز عليه التناقض والجهل والغفلة والكذب أيضا، فكل ما أتعب نفسه به صاحب الرماح ذهب أدراج الرياح على أن هذا التكلف الذي تكلفه لا يوافقه عليه غيره من التجانيين فقد قال عبد الكريم بنيس الفاسي وهو مقدم تجاني مشهور ما نصه شعرا :
يا رب أن اعتقادي *** تصديق كل ولي
لا سيما تاج رأسي *** وصلتي للعلي
كنزي ودخري التجاني *** أحمد حب النبي
شريف أصل ممد *** للكل من أولي
ولا تأول أصلا *** بل ذلك فضل الغني
لا تنكرن وسلم *** تحظى بحسن الطوي
وللمحبة بادر *** ودع كلام الغوي
بحبه يا إلهي *** وبالنبي الزكي
عفوا فإني مسيء *** وأنت تعلم غي(92/34)
فأنت ترى أن هذا المقدم التجاني يطلق قضية الإمداد ولا يقول بالتأويل الذي استنبطه صاحب الرماح من كلام شيخه حتى خص بعضه ببعض على أن هذا البحث غير مهم لأن المدد باطل من أصله وقد قلت في معارضة عبد الكريم بنيس قصيدة ضاعت مني وسأثبت هنا ما بقي عالقا في ذهني :
يا رب أني محب * لكل عبد تقي
يوحد الله ربا * ويقتدي بالنبي
ولا يقلد شخصا * في دينه كالغبي
فما له من ولي * غير الإله العلي
وما له من إمام * غير النبي الزكي
وليس يعبد ألا * رب العباد الغني
وكل خير فمنه * يصيب كل ولي
ومن سواه فقير * فلا يمد بشي
يا عصابة الشرك * خافوا عقاب رب قوي
في يوم هول شديد * يشيب رأس الصبي
يا صاحب الشرك أبشر * دوما بعيش الشقي
غبنت غبن الخزاعي * في بيعه مع قصي
باع المفاتيح منه * بزق خمر ردي
شرى ظلاما بنور * بدل رشدا بغي
فماله من نصير * وما له من ولي
1)دعوى أن الشيخ التجاني خاتم الأولياء :
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنباء(92/35)
قال صاحب الرماح : اعلم أن أفراد الأحباب من الصديقين والأغواث وجواهر الأقطاب وبرازخ الأغواث يعلمون أن مقامه ختم المقامات يفوق جميع مقامات الولاية ولا يكون فوقه إلا مقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك الخاتم هوسيد الأولياء وهو ممدهم وإن لم يعلموا من أين هو، قال الشيخ محي الدين ابن عربي الحاتمي - رضي الله تعالى عنه فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما أحد منهم يأخذ النبوة إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله : (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) أي لم يكمل بدنه العنصري فكيف من دونه من أنبياء أولاده وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق النور المحمدي كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله (أول ما خلق الله تعالى نوري) جمع في هذا الروح المحمدي جميع أرواح الأنبياء والأولياء جمعا أحديا قبل التفصيل في الوجود العيني وذلك في مرتبة العقل الأول ثم تعينت الأرواح في مرتبة اللوح المحفوظ الذي هو النفس الكلية وتميزت بظاهرها النورية فبعث الله الحقيقة المحمدية النورية عليهم تنبئهم عن الحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية فلما وجدت الصور الطبيعية العلوية من العرش والكرسي ووجدت مظاهر تلك الأرواح ظهرت تلك البعثة المحمدية إليهم ثانيا فآمن من الأرواح ما كان مؤهلا للإيمان بتلك الأحدية الجمعية الكمالية ولما وجدت الصور الطبيعية العصرية ظهرت حكم ذلك الإيمان في كمل النفس البشرية فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فمعنى قوله كنت نبيا أنه كان نبيا بالفعل عالما بنبوته انظر شرحه - كذا - ثم قال الحاتمي أي وشارح كلامه وغيره من الأنبياء ما كان نبيا بالفعل ولا عالما بنبوته إلا حين يبعث بعد وجوده ببدنه العنصرية واستكمال شرائط النبوة فاندفع بذلك ما يقال من أن كل واحد بهذه المثابة من حيث أنه كان نبيا في علم الله تعالى السابق على وجوده العيني صورة وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء(92/36)
ما كان وليا بالفعل ولا عالما بولايته إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من أجل كون الله تعالى تسمى بالولي الحميد وخاتم الأولياء هو الولي الوارث الأخذ عن الأصل المشاهد للمراتب العارف باستحقاق أصحابها ليعطي كل ذي حق حقه وهو حسنة من حسنات سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم مقدم الجماعة، ثم نقل صاحب الرماح عن عبد الوهاب الشعراني وشيخه علي الخواص ما يؤيد ما نقله عن ابن عربي الحاتمي وقد أتعب نفسه هذا الإتعاب كله ليثبت لشيخه التجاني ما ادعاه من أنه خاتم الأولياء وممدهم .
ثم نقل صاحب الرماح عن الحاتمي أنه قال أنه رأى في المنام حائطا من ذهب وفضة كمل إلا موضع لبنتين أحدهما من ذهب والأخرى من فضة فانطبع في موضع تينك اللبنتين ففسرها بأنه خاتم الأولياء وقص رؤياه على أولياء زمنه فوافقوه على تأويله وأنه هو خاتم الأولياء فلم يشك أنه هو وقال في ذلك شعرا :
بنا ختم الله الولاية فانتهت *** إليها فلا ختم يكون لها بعدي
وما فاز بالختم الذي لمحمد *** من أمته والعلم إلا أنا وحدي(92/37)
ثم نقل صاحب الرماح عن الحاتمي أنه تبين له بعد ذلك أنه ليس هو خاتم الأولياء وأن هذا الختم مدخر لولي يأتي في آخر الزمن فجهد نفسه واستعمل مكشافاته المزعومة ليطلع على هذا الولي الخاتم ويعرف اسمه وبلده وزمانه فرجع بخفي حنين، لكن صاحب الرماح لم يذكر الكتاب الذي نقل منه هذا الكلام من كتب ابن عربي الحاتمي وكتبه مشهورة موجودة بأيدي الناس وكذلك لم يذكر كلامه الأول من أين نقله ؟ ولا يثبت شيء من النقول إلا بالعزو التفصيلي ولا سيما إذا كان النقل يراد به أمر مرغوب للناقل كما في هذه القضية فإنه نقل عن الحاتمي زعمه وجود خاتم الأولياء ثم نقل عنه ادعاؤه أنه هو هُو ثم نقل عنه رجوعه عن ذلك ليمهِّد السبيل لدعوى أن شيخه التجاني هو خاتم الأولياء يقينا ونقل أيضا عن الشيخ المختار الكنتي الجكاني الشنقيطي أنه قال أن القرن الثاني عشر يشبه قرن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور منها أن قرن النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيه خاتم الأنبياء والقرن الثاني عشر يوجد فيه خاتم الأولياء .(92/38)
قال محمد تقي الدين الهلالي ومن المعلوم أن الشيخ التجاني ولد في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر وتوفي على ما أظن سنة ثلاثين ومائتين وألف 1230 وظن صاحب الرماح أنه بهذه التلفيقات كلها تم له ما أراد من ثبوت وجود خاتم الأولياء وأنه هو شيخه التجاني وهو بناء فاسد على فاسد وباطل على باطل فقول ابن عربي الحاتمي ولو لم ينقل الفاسي في تاريخ مكة اتفاق العلماء على كفره لا يساوي بعرة في أصول الدين فأن أصول الدين لا يثبت منها شيء إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على اختلاف فيه وابن عربي الحاتمي سرق ما ادعاه من الرؤيا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مثلي ومثل الأنبياء قلبي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) .(92/39)
ثم قال صاحب الرماح ما نصه : وشيخنا التجاني ولد عام خمسين ومائة وألف ووقع له الأذن من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما بتربية الخلق على العموم والإطلاق سنة ألف ومائة وست وتسعين، قال أخبرني سيدي محمد الغالي أن الشيخ عاش وهو في مرتبة الختمية ثلاثين سنة وإذا تأملت هذا علمت أن الختمية لم تثبت لأحد قبل شيخنا وأن أحدا ما ادعاها وثبت على ادعاها لنفسه وأما شيخنا وسيدنا ووسيلتنا إلى ربنا سيدي أحمد بن محمد الشريف الحسني التجاني قال : قد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني القطب المكتوم منه إلي مشافهة يقظة لا مناما فقيل له ما معنى المكتوم ؟ فقال هو الذي كتمه الله تعالى عن جميع خلقه حتى الملائكة والنبيين إلا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه علم به وبحاله وهو الذي حاز كل ما عند الأولياء من الكمالات الإلهية واحتوى على جميعها وأكبر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ثلاتمائة خُلق من تَخلَّق بواحد منها أدخله الله الجنة وما اجتمعت في نبي ولا ولي قبله ألا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وأما الأقطاب الذين بعده حتى الحجة العظمى ابن عربي الحاتمي فإنما يعلمون ظواهرها فقط ويسمون المحمديين وبه خطب الله الأقطاب المجتمعة فيهم الأخلاق الإلهية وهذه الأخلاق لا يعرفها إلا من ذاقها ولا تدرك بالوصف ولا يعرف ما فيها إلى بالدوق وقال الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم ببيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة وقال أنا سيد الأولياء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء .(92/40)
قال في جوهر المعاني : وسألته - يعني الشيخ أحمد التجاني- عن حقيقة الولاية فأجاب بما نصه : الولاية عامة وخاصة فالعامة هي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام والخاصة هي من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى الختم (يعني نفسه) والمراد بالخاصة هي من اتصف بأوصاف الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحد وهذا خاص بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ومن وَرِثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم هكذا قال ونسبه للحاتمي ثم قال ولا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال يكون كلهم أعلى من غيرهم من كل وجه بل قد يكون من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام وأظنه يشير إلى نفسه وبعض الأكابر من أصحابه لأنه أخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن مقامه أعلى من جميع المقامات، ثم ذكر قضية أنه ممد الأولياء وإنهم لا يفاض عليهم ولا يسقون ألا منه و تقدم ذلك ثم قال ما نصه ومدده الخاص به (يعني الشيخ التجاني) إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا إطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيراً بإصبعيه السبابة والوسطى روحي وروحه صلى الله عليه وسلم هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وسبب ذلك أن بعض أصحابه تحاور مع بعض الناس في قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كل الشيوخ أخذوا عني في الغيب فحكى له ذلك فأجاب رضي الله عنه وأرضاه وعنا به بما ذكر .(92/41)
وقال نسبة الأقطاب معي كنسبة العامة مع الأقطاب وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذا -كذا - على رقبة كل ولي لله يعني أهل عصره وأما أنا فقدماي هاتان جمعهما وكان متكئا فجلس وقال على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور ثم نقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال ما معناه أن هناك سبع حضرات تمثلها سبع دوائر .
الحضرة الأولى : الحقيقة الأحمدية قال وهذه الحضرة غيب من غيوب الله تعالى لم يطلع عليها أحد ولا عرف شيئا من علومها وأسرارها وتجلياتها وأخلاقها ولو كان من الرسل الأنبياء لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والثانية سماها الحضرة المحمدية وتمثلها الدائرة الثانية قال ومن هذه الحقيقة المحمدية مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة المقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين .
والثالثة حضرة الأنبياء وتمثلها الدائرة الثالثة وأهل هذه الدائرة يتلقون علومهم وأحوالهم وتجلياتهم من هذه الحقيقة المحمدية وخاتم الأولياء أعني الشيخ التجاني له مشرب من هذه الحضرة مع الأنبياء فهو يتلقى المدد رأسا من النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقته المحمدية بلا واسطة .
الحضرة الرابعة حضرة خاتم الأولياء وتمثلها الدائرة الرابعة وصاحب هذه الحضرة هو الشيخ أحمد التجاني فإنه يتلقى كل ما فاض من ذوات الأنبياء زيادة على ما يتلقاه بلا واسطة من الحقيقة المحمدية ولذلك سمى نفسه (برزخ البرازخ) وهنا قال الشيخ التجاني ما نصه وخصصت بعلومي بيني وبينه صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء . قال صاحب الرماح ما نصه ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم .(92/42)
الحضرة الخامسة حضرة المتبعين للطريقة التجانية المتمسكين بها قال الشيخ التجاني في حق أهل هذه الطريقة ما نصه : لو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لهذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيئا وقال الشيخ التجاني لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد تقي الدين ونظم هذا المعني صاحب المنية فقال :
لو علمت أكابر الأقطاب ما *** أعد خالق الورى تكرما
لهؤلاء لبكوا عليه *** واستنقصوا ما ركنوا إليه
وقال الشيخ التجاني :كل الطرائق تدخل عليه -كذا - طريقتنا فتبطلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره وقال من ترك وِردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله على جميع الطرق آمَّنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات وأما من دخل زُمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ولا يفلح أبدا ثم قال ناقلا عن شيخه التجاني كما هو في جواهر المعاني : وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه أمر لا يحل لي ذكره ولا يُرى ولا يُعرف إلا في الدار الآخرة بشرى لكل معتقد رغم أنف المنتقد ثم قال صاحب الرماح قلت هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين .
الحضرة السادسة حضرة الأولياء وتمثلها الدائرة السادسة وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا.(92/43)
والحضرة السابعة حضرة أتباع الأولياء ثم رسم سبع دوائر في الرماح ناقلا لها من جواهر المعاني وهذه الدوائر متداخلة بعضها في بعض ولها أبواب مفتوحة لتلقي المدد والمعنى واضح بدون رسم ثم نظم صاحب الرماح قصيدة من بحر الكامل في الترغيب في الدخول في الطريقة التجانية والتمسك بها وهي طويلة مطلعها :
يا رائم الخيرات روم رجالها *** يا مبتغي الأنوار ثم ظلالها
فلينظرها من شاء فيه ثم نقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني قوله لو بحت بما علمني الله تعالى لأجمع أهل العرفان على قتلي ثم قال عنه ما نصه وأقول لكم إن مقامي عند الله تعالى في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من كبر شانه أو صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا ولا يقاربه لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول ولم أقل لكم ذلك حتى سمعته منه صلى الله عليه وسلم تحقيقا ثم قال عنه أيضا أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ضمن لنا أن من سبنا وداوم على ذك ولم يتب لا يموت إلا كافرا ونقل عنه أيضا قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بقوله عليه الصلاة والسلام بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من رآك في اليومين تَكتب الملائكة اسمه في ورقة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة ثم قال صاحب الرماح وقد أخبرني بعض من لقيه أنه ما تنزل إلى إفادة الخلق بعد ما أخبره صلى الله عليه وسلم بذلك إلا بعد قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت بابا لنجاة كل عاص تعلق بي فنعم وإلا فأي فضل لي فقال صلى الله عليه وسلم أنت باب لنجاة كل عاص تعلق بك وحينئذ طابت نفسه لذلك ثم ادعى صاحب الرماح وجود دائرة عند الله تعالى تسمى الدائرة الفضلية كل من كان من أهل هذه الدائرة يتفضل الله عليه بالرحمة والنعيم وينجيه من عذاب الجحيم ولا يتوقف ذلك على عمل صالح ولا يضر معه سيئة ولا(92/44)
معصية وزعم أن شيخه وأتباعه كلهم من أهل هذه الطريقة ثم ادعى أن خلة الله ثابتة لشيخه وأن الله تعالى اتخذ محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا وإبراهيم خليلا وأن شيخه ورث المحبة والخلة من هذين النبيين ثم قال ومن بحر هذه الدائرة تفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدائرة الإحاطة وبالكنز المطلسم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم .
وبمقامه وبالخريدة الفريدة التي هي خاصة به صلى الله عليه وسلم وبإطلاقه يعني الإذن له في إعطاء جميع أوراده من الإسم الأعظم الكبير وما دونه لمن شاء ومنعها ممن شاء وكذلك من قدَّمه الشيخ ومن قدمه هذا المقدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . انتهى ما أردنا الإشارة إليه من الفصل السادس والثلاثين ويلي ذلك وضع ما تضمَّنه من المسائل في الميزان وقد تقدم أن أول ما نقله مؤلف الإفادة الأحمدية عن شيخه التجاني أنه سأله سائل أيُكذبُ عليك ؟ قال نعم ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله فما وافقهما فهو عني سواء أقلته أو لم أقله وما خالفهما فليس عني سواء أقلته أو لم أقله، فنحن حين نعرض هذه المسائل على الكتاب والسنة نكون عاملين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبوصية الشيخ التجاني نفسه فنقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى أقوم طريق .
المسألة الأولى :
ما يعتقده خاصة التجانين وعامتهم من أن شيخهم أبا العباس أحمد بن محمد التجاني رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر المائة الثانية بعد الألف يقظة لا مناما ومنه تلقى كل أوراده وأذكاره وفضله وفضل طريقته، وقد تقدم إبطال ذلك بالأدلة النظرية بإجماع خير القرون على أن ذلك لم يقع لحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المجتهدين مع شدة الحاجة إليه، أما النقل فليس لهم دليل ولا شبهة يتكئون عليها في هذه الدعوى .
المسالة الثانية :(92/45)
وهي من أهم المسائل عند التجانيين اعتقادهم أن المدد كله من النبي صلى الله عليه وسلم يفيض على ذوات الأنبياء والمرسلين نهرا جاريا إليهم وهناك نهر آخر يجر من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة إلى الشيخ التجاني وكل ما فاض من ذوات الأنبياء تتلقاه ذات الشيخ التجاني ومنه يتفرق على جميع الخلائق من لدن آدم إلى النفخ في الصور وفي رواية من الأبد إلى الأزل وهذا تهور عظيم وقد كان الله تعالى ولا شيء معه هو الأول فالأزلية خاصة به سبحانه لا يشاركه فيها أحد وقد تقدم الكلام على إبطال المدد من الصفحة 26 إلى الصفحة 30 فانظره .
المسالة الثالثة :
ما يعتقده جميع التجانيين من أن شيخهم خاتم الأولياء وسيدهم كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيدهم وبالله التوفيق وبه أستعين ومنه أستمد العلم والتحقيق ما مرادك بالأولياء ؟ .
قال ابن منظور في لسان العرب في أسماء الله تعالى : الولي الناصر وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها . ومن أسمائه عز وجل الولي هو مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها ثم قال : الولاية على الإيمان واجبة، المؤمنون بعضهم أولياء بعض ولي بين الولاية ووال بين الولاية والوالي ولي اليتيم الذي يلي ويقوم بكفايته وولي امرأة الذي يلي عقد النكاح عليها ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه ثم الولي والمولى واحد في كلام العرب . وروى ابن سلام عن يونس قال المولى له مواضع في كلام العرب منها المولى في الدين وهو الولي وذلك قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } أي لا ولي لهم ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) أي : من كنت وليه قال وقوله عليه السلام مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله أي أولياء الله . اهـ(92/46)
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة يونس آية 62 و 63 : { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من كان تقيا كان لله وليا، لَا { خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة .
وَلَا { هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف : أولياء الله الذين إذا رؤوا ذُكر الله، وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار بسنده إلى ابن عباس قال قَال رجل يا رسول الله من أولياء الله ؟قال: ( الذين إذا رؤوا ذُكر الله ) ثم قال البزار وقد روي عن سعيد مرسلا .
وقال ابن جرير بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء ) قيل من هم يا رسول الله لعنا نحبهم قال : ( هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ) ثم قرأ: { أَلَّا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } ورواه أبو داود أيضا بسنده عن عمر بن الخطاب بسند جيد إلا أنه منقطع اهـ.
وفي تفسير الجلالين ما نصه : { أَلَّا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } في الآخرة هم { الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } الله بامتثال أمره ونهيه اهـ .
وقال البيضاوي : أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة اهـ.
ونقل الجمل في حاشيته عن الشهاب ما نصه الولي ضد العدو فهو المحب ومحبة العباد لله طاعتهم له ومحبته لهم إكرامه إياهم كما في شرح الكشاف . اهـ .(92/47)
قال محمد تقي الدين الهلالي محبة العباد لله تعالى ومحبة الله للعباد كلتاهما حقيقة ولا داعي لتأويل محبته العباد بالطاعة ولا تأويل محبة الله لعباده بإكرامهم ، وإنما يؤول محبة الله بإكرامه نفاة الصفات لزعمهم أن الحب ميل وحرارة يجدها المحب في قلبه لما أحب قالوا وذلك محال على الله تعالى لأن فيه تشبيها لله بخلقه وأجاب المثبتون للصفات المتبعون للسلف الصالح والتابعين من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أن محبة الله لعباده صفة من صفاته تقتضي إكرامه لهم بفضله ورحمته لأن الله وصف بها نفسه في كتابه في مواضع كثيرة منها قوله تعالى في سورة آل عمران : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } والسلف الصالح ومن اتبعهم بإحسان من العلماء يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل فكما أن الله عالم بعلم لا يشبه علمنا وقادر قدرة لا تشبه قدرتنا فكذلك هو سبحانه يحب عِباده بمحبةٍ لا تشبه محبتنا .(92/48)
وفي تفسير الخازن ما نصه ، قال أبو بكر الصم أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم ، وتولوا القيام بحق العبودية لله والدعوة إليه وأصل الوالي من الولاء وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه ويكون مشتغلا بالله مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى فإن رأى رأَى دلائل قدرة الله وإن سمع سمعَ آيات الله وإن نطق نطقَ بالثناء على الله وإن تحرك تحركَ في طاعة الله وإن اجتهد اجتهدَ فيما يرضي الله لا يفتر عن ذكر الله ولا يرى بقلبه غير الله فهذه صفة أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا } وقال المتكلمون ولي الله من كان أتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون أتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة وإليه الإشارة بقوله { الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } وهو أن الإيمان مبني على الاعتقاد والعمل ومقام التقوى هو أن يتقي العبد ما نهى الله عنه اهـ .
قال الجمل وفي الخطيب ما نصه ونقل النووي في مقدمة شرح المهذب عن الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أن كل منهما قال إذا لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي ، وذلك في العالم بعلمه ،. وقال القشيري من شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو يكون مغرور مخادع فالولي هو الذي توالت أفعاله على الموافقة اهـ .
نظرة تمحيص في هذه النقول
في هذه النقول مسائل ينبغي التنبيه عليها :(92/49)
الأولى : قول البيضاوي أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة إن كابن يريد بالكرامة أنه يكرمهم في الدنيا بتوفيقه وتأييده ولطفه وفضله وإحسانه وكثرة نعمه الحسية والمعنوية فهو صحيح وإن كان يريد بالكرامة ما اصطلح عليه المتكلمون أنه خرق العادة فهو غير صحيح لأن العادة تخرق للمحق والمبطل وللساحر والكاهن ( والدجال الأصغر والأكبر ) وللكفار، فإن قلت قوله تولوا الله بالطاعة يخرج من ذكرت أقواله لا يشترط في الوالي أن تجري على يديه خوارق العادة كما يريد المتأخرون أن يفهموه فإن اكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ترو عنهم خوارق مع أنهم أفضل أولياء الله وقد نقل غير واحد من المتصوفة عن الجنيد رحمه الله أنه قال إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تعتبروا ذلك شيئا حتى تعرضوا أقواله وأعماله على الكتاب والسنة فإن كانت موافقة فظُنوا به خيرا، وإن كانت مخالفة فظُنوا به شرا، ونقلوا عنه أيضا أنه قال : الاستقامة أفضل من ألف كرامة فإن الله لم يجعل لأوليائه علامة إلا الأيمان والتقوى .
الثانية: قول أبى بكر الأصم : ( إن ولي الله لا يرى بقلبه غير الله ) إن كان يريد بذلك أنه لا يرى أن أحدا يستحق العبادة غير الله فلا يرى أن هناك ربا غير الله ولا معطيا ولا مانعا ولا خافظا ولا رافعا ولا محييا ولا مميتا ولا متصرفا على الحقيقة في الدنيا والآخرة إلا الله فكلامه حق، وإن كان يريد أن الولي لا يرى وجودا إلا الله كما يقول أصحاب وحدة الوجود فهو باطل وهؤلاء زنادقة أخذوا هذه العقيدة الفاسدة المناقضة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من فلاسفة الهند واليونانيين وذلك خلاف ما جاءت به أنبياء الله وكتب الله تعالى، ومن أقوالهم الباطلة، أعني أصحاب وحدة الوجود ( من حد فقد ألحد ) يعني من رأى هنالك ربا ومربوبا وعابدا ومعبودا وخالقا ومخلوقا فقد الحد وضل، لأن الوجود(92/50)
عندهم واحد، فتوحيده من تحصيل الحاصل وابن عربي الحاتمي الذي تقدم ذكره في كلام صاحب الرماح من مشاهير المعتقدين وحدة الوجود، وفي ذلك يقول في الفتوحات :
العبد رب والرب عبد * يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك حق * أو قلت رب أنَّ يكلف
ويقول في الفتوحات إن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله وكذلك عبد الكريم الجيلي في كتابه ( الإنسان الكامل ) وابن الفارض في ديوانه وهذه العقيدة مقدسة في كتب التجانيين فنعوذ بالله من الضلال، ولله در الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني إذ يقول في داليته :
وأكفر أهل الأرض من ظن أنه ** إله تعالى الله جل عن الند (1)
وعسى أبو بكر الأصم أن يكون لم يرد هذا المعنى .
الثالثة : قول المتكلمين ولي الله من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل .
الظاهر أن المتكلمين يريدون بالدليل : الدليل الذي يسمونه عقليا كدلائل المعتزلة والمتأخرين من الأشعرية فإنهم يزعمون أن من عرف الله تعالى بالدليل النقلي من الكتاب والسنة هو مقلد وقد اختلفوا في إيمان المقلد على ثلاثة أقوال، الأول أنه كافر لا إيمان له والثاني مؤمن عاص، والثالث أنه مؤمن غير عاص بتقليد، وهذا من أعظم ضلالهم فإن الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح من التابعين والأئمة المجتهدين لم يقتصروا على طرح علم الكلام ونبذه، بل حرموه وجعلوه من أكبر الكبائر .
__________
(1) رواية البيت في الدالية طبع المكتب الإسلامي بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش
الصفحة ( 18 ) كما يلي :
وأكفر أهل الأرض من قال إنه إله فإن الله جل عن الند(92/51)
قال ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" ما نصه : قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي يا أبا موسى لأن يلقى الله عز وجل الفرد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إنه لا يفلح صاحب كلام أبدا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل وقال مالك أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد اهـ .
ونُقل مثل ذلك عن أبى حنيفة وسائر أئمة السلف قال أبو عمر أجمع أهل العلم من الأمصار : أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ وضلال ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم . ثم روى أبو عمر بسنده إلى أبى خويز منداد البصري المالكي قال في كتاب الإجارات من كتابه الخلاف قال مالك لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم وتفسخ الإجارة في ذلك قال وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزايم الجن وما أشبه ذلك وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل كلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادته في الإسلام أبدا ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها . انتهى بلفظه .(92/52)
الرابعة: قول القشيري : "من شرط الولي أن يكون محفوظا كما من شرط النبي أن يكون معصوما "أقول لقد أخطأ القشيري خطأ فاحشا في هذا ولا فرق في المعنى بين قولنا محفوظ وقولنا معصوم فقد أراد أن يثبت العصمة لمن يسميهم أولياء فأبدل لفظا بلفظ والعبرة ليست بالألفاظ وإنما هي بالمعاني ولو قال أن المؤمن في وقت ارتكابه للمعصية ينقص إيمانه وتنقص ولايته لله، لأن ولاية العبد لله تكون على قدر إيمانه وتقواه لأصاب، فماذا يقول في الصحابة الذين ارتكبوا كبائر كماعز والغامدية والصحابي الذي كان يسمى حمارا وكان يُضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فسبه أحد الحاضرين فنهاه النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ألم يكن هؤلاء أولياء الله حين ارتكبوا تلك المعاصي ولم يصروا عليها وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أن الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } سورة آل عمران آية 134، 135، 136، وخلاصة القول أن كل مؤمن ولي الله وكل كافر عدو لله ومن لم يكن ولي الله فهو عدو الله قال الله تعالى في أول سورة التغابن { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } وقال تعالى في أول سورة الممتحنة : { يَا أَيُّهَا(92/53)
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } وقال تعالى في سورة البقرة : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } .
فأنت ترى أن الله قسم الناس فجعلهم قسمين أحدهما : المؤمنون، الله وليهم، والقسم الثاني كفار وهم أعداء الله فولاية الله لا تزول عن المؤمن بوجه من الوجوه ولو ارتكب المعاصي إلا إذا كفر بالله كفرا حقيقيا يخرجه من الإسلام ولا يمكن أن يكون لأولياء الله خاتم أبدا ولو كان لهم خاتم لكان هو آخر مؤمن على وجه الأرض قبل قيام الساعة فإنها لا تقوم إلا على شرار الخلق وإلا على لكع بن لكع ولا تقوم حتى لا يقال على الأرض الله اللهُ كما جاء في الأخبار الصحيحة، هذا إذا كان يريد بقوله خاتم الأولياء الحقيقية كما هو مقتضى تشبيهه بخاتم الأنبياء فإن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ختمهم حقيقة فلا نبي بعده البتة ولكن التجانيين يتلطفون لينقدوا أنفسهم من المأزق فيقولون حين يشعرون بأن خصومهم يريدون أن يلزموهم بما ذكرناه فيقولون : إن شيخهم ليس خاتما للأولياء على الحقيقة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء ولكنه خاتم لمقاماتهم ومراتبهم العالية وهذه مغالطة وتمويه على الناس لأن هناك فرقا وبونا شاسعا بين خاتم الأولياء وخاتم مقامات الأولياء وإذا وصلنا معهم إلى أن يسلموا بأن شيخهم ليس خاتما للأولياء حقيقة وإنما هو خاتم لمقامتهم ومنازلهم عند الله ومراتبهم ولا بد أن يسلموا بذلك نقول لهم حجرتم واسعا وجئتم بطامة عظيمة لا دليل لكم عليها شرعي ولا عقلي { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ومن أين لكم أنه لا يجيء بعد شيخكم من هو أعلى منه مقاما وأسمى منزلة عند الله فإن(92/54)
قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك شيخهم والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهواء نقول لهم : إن إجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، أجمعوا على أن الأدلة الشرعية التي يثبت بها الحكم محدودة، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند الضرورة على خلاف فيه ما لم يخالف النص فإن خالفه فهو لغو وادعاؤكم أن شيخكم سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم خارج عن الأدلة الشرعية، وقد قال الله تعال في سورة النساء آية 115 { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } وقال الله تعالى في سورة التوبة آية 100: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } قال أهل العلم واتِّباعهم بإحسان يقتضي ترك الزيادة والنقصان في دين الله فإن من زاد في الدين شيئا أو نقص منه شيئا لم يكن متبعا لهم بإحسان فهو متعرض لسخط الله وبرئ من نيل الرضوان ويقال لهم : ماذا تقولون في ادعائكم أن شيخكم خاتم الأولياء أهو من دين الإسلام أم خارج عنه ؟ فإن قلتم : هو من دين الإسلام ! قلنا لكم قال الله تعالى في سورة المائدة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } آية 3 قال الشاطبي في" الاعتصام" قال مالك :من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد خان الرسالة لأني سمعت الله يقول اليوم أكملت لكم دينكم وما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا انتهى . فاعتقادكم أن شيخكم خاتم الأولياء لم(92/55)
يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم دينا فلن يكون دينا أبدا بل هو بدعة ضلالة وطريقتكم نفسها كسائر ا لطرائق بدعة ضلالة فتوبوا إلى الله وانبذوها نبذ النوى ولا تتبعوا الهوى فيضلكم عن سبيل الله .
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى *** ولكنها الأهواء عمت فأعمت
لعمري لقد نبهت من كان نائما *** وأسمعت من كانت له أذنان
ونراكم تحتجون دائما على من ينكر عليكم ما تدعونه من الفضائل لشيخكم ولأنفسكم بآيات فضل الله الواسع العظيم، حتى أنشأتم دائرة سميتموها :" الدائرة الفضلية " وزعمتم أن هذه الدائرة لا يعلمها أحد إلا الله ولم يُطلع عليها أحداً إلا خليله ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وإلا شيخكم، وفضائلكم وفضائل شيخكم جاءت من هذه الدائرة، وقد سمعتم أدلة بطلان هذه الدعوى ولكننا نحتج عليكم بما احتججتم به على خصومكم ونأخذكم بإقراركم فنقول لما حجرتم فضل الله الواسع وقلتم كما قال الأعرابي الذي بال في المسجد اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فزعمتم أن المقامات العالية والمنازل السامية قد ختمها شيخكم وسد بابها فما بقي لأحد مطمع في الوصول إلى مقامه فكيف بالزيادة عليه فآيات فضل الله التي احتججتم بها على خصومكم حجة عليكم .
وقد ذكر صاحب الرماح أصنافا أربعة من الصديقين، والأغواث وجواهر الأقطاب وبرازخ الأغواث وذَكر الله تعالى في سورة النساء أصنافا أربعة ( .. النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ولم يذكر صاحب الرماح ممن ذكر الله تعالى إلا الصديقين وترك سائرهم وأبدلهم بأصناف ثلاثة لا وجود ولهم إلا في خياله وخيال المفتونين الذين التبس عليهم الأمر واستهوتهم الشياطين ما معنى جوهر الأقطاب وقد ذكر صاحب اللسان للقطب معاني أنه الحديدة التي تدور عليها الرحى أي يدور عليها شقها الأعلى .(92/56)
والقطب أيضا كوكب بين الجدي والفرقدين يدور عليه الفلك صغير أبيض لا يبرح مكانه أبدا وقال : وقطب كل شي ملاكه وصاحب الجيش قطب رحى الحرب وقطب القوم سيدهم والقطب نصل السهم اهـ المراد منه
ولعل صاحب الرماح يريد بالأقطاب سادات الأقوام الذين بلغوا الدرجة العلياء في ولاية الله وطاعته وهذا مفهوم إلا أن الأقطاب بهذا المعنى لا جوهر لهم .
قال ابن منظور في" اللسان" الجوهر معروف، الواحدة جوهرة، والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته .اهـ
وهذه المعاني لا يناسب شيء منها أن يكون مضاف إلى الأقطاب بمعنى السادة والرؤساء ولعل صاحب الرماح أراد أن يلقي الروعة والإجلال في قلوب جهلة القراء بذكر هذه الألفاظ ليسدوا ويغمدوا عيون بصائرهم وينجذبون إلى تصديق ما يدعيه لهم ودين الإسلام ليس فيه شيء اسمه القطب ولو كان موجودا لذكره الله في كتابه أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه فإنه لم يترك شيئا من الخير إلا دل الأمة عليه وما ترك شيئا من الشر إلا حذر منه أمته ومن ذلك التنطع والتكلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثا وذِكر هذه الألفاظ من التنطع وخِداع الجهَّال وقد قلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف 1341 وأنا مسافر بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية قصيدة طويلة مقصورة أنكرت فيها وجود القطب بالمعني الذي يريده المتصوفة فقلت :
و لا قطب نعرفه غير نجم ** يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا ** يكون مقيما بغار حراء
يمد الأنام ويجري الشوؤ ** ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة ** أتت من صحيح الحديث بذا
ثم ظهر لي أن اثبت هذه القصيدة برمتها هنا لما فيها من بيان التوحيد وذم البدع :
تركت الطريق طريق وأقبلت أتبع المصطفى
وسنته وكتاب الإله وأصحابه انجم الاهتدا
واتباعهم أين ما وجدوا سواء نأى عصرهم أم دنا(92/57)
سوء ذو الشرق أم غربنا وأهل الخيام والقرى
وليس يجوز بمدهبنا اتبـ ـاع لغير فدع من هذا
ولسنا نؤول لفظ الحديـ ـث والذكر إلا بما قد أتى
فما هلك الناس ألا بما تؤوله زمرة الاعتدا
فنحن على مذهب السـ ـابقين من رضي الله عنهم علا
ومن حاد عن نهجهم قد هوى سواء درى ذاك أم ما درى
فخير الهدى هدى خير الورى وشر الأمور اتباع الهوى
فلا تتصرف ولا تتكلف ولا تلج إلا لرب العلى
ولا تدع من دونه أحدا فليس ولي سواه يرى
أغير الإله أرى لي وليا إذن قد ضللت طريق الهدى
أأتخذ الأولياء وربي بمحكم ذكره عنهم نهى
ولو مرسلين ولو صالحين ولو طائرين بأوج السما
ولا يعبد الله إلا بما أتى في شريعته وارتضى
ومن يزعم العلم غير الكتاب وغير الحديث الصحيح افترى
ولا فضل في ديننا لأرسطو ولا لابن رشد ومن قد قفا
فتوحيد ربي بمنزله غني عن المنطق المرتأى
فإن أرسطو وأتباعه عدو لدين إله الورى
وأن هم أتوا حكا أحكموها أخذنا بها في أمور الدنى
ومهما وجدنا الحديث الصحيح عبدنا به من له المنتهى
وليس له من وسيلة إلا علوم اصطلاح وعلوم اللغى
فعلم الكلام وبعض الأصول ظلام يجران كل العنا
ولا نستغيث بغير الإله ومن يستغيث بالعباد غوى
ونعتقد الإله سبحانه على عرشه ذي التعالي استوى
ولسنا نؤول ذلك بقهر ولا غيره مثل من قد مضى
وإن البخاري في كتبه قد أحسن للناس دون امترا
عليها اعتكف ثم منها اقتطف تجد كل ما رمته من منى
ومسلم لا تنس تأليفه فنعم الكتاب الوثيق العرى
وإن خضت في غير ذينك فاسلك بعلم غزير وإلا فلا
و لا تعتبر كل كتب عليها فقد مزجوها بما يرتمى
فجد وخذ زبد ما سطروا ودع ما تراه معيبا سدى
وما قد يسمونه باطنا فباللام يقراه من درى
فإن الشريعة قد أكملت وقد بينت مثل شمس الضحى
فما مات خير الورى أحمد إلى أن جلاها بغير خفا
وما أحد من أهيل النفاق نجا فاصبر إن نلت منهم أذى
ولا تبن في تربة قبة ومهما تراها فهدم البناء
فقد عبدوها وما فطنوا ووافقهم علماء الشقاء(92/58)
وقد ألفوا في عبادتها بدون احتشام بدون حيا
لتدع الإله بما قد روى الثقـ ــات الهدات عن المجتبى
وأن البخاري روى في الصحيح دعاء وذكرا به الاكتفا
وحاذر الشرك فهو بذا الـ ــزمان بكل النواحي فشا
ولا قطب نعلمه غير نجم يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا يكون مقيما بغار حراء
يمد الأنام ويجري الشؤو ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة أتت من صحيح الحديث بذا
فخذ بالنصوص ولا تبتدع وفي عدم النص قس ما جلا
وليس لنا مذهب لازم سوى مذهب المصطفى المرتضى
عليه الصلاة وأزكى السلام سلاما يدوم بغير انتها
ويشمل آلا وصحبا كراما ومن قد قفاهم بنهج الصفا
ولعل صاحب الرماح يعني بقوله جواهر الأقطاب كبار القوم وأعاظم ساداتهم إلا أن اللفظ لا يساعد على ذلك إلا بتكلف وإذا تحقق أن القطب لا وجود له وان عقيدة القطب وتصرفه في العالم عقيدة فاسدة أحدثها الجهال فقد تهدم ما بناه التجانيون من المقامات لشيخهم .
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية في رسالة القبور ثلاثة لا أصل لها ( منتظر الشيعة، وقطب الصوفية، وباب النصيرية ) وصدق رحمه الله، فكم بنوا على وجود القطب من ضلالات وجهالات يبرأ منها الإسلام، وأما الغوث فقد قال ابن منظور في (لسان العرب) إنه اسم مصدر بمعنى الإغاثة قال : وأغاثه الله غوثا وغياثا والأولى أعلى اهـ .(92/59)
ولعل التجانيين ومن سار على دربهم يقصدون بالغوث المغيث من باب إطلاق المصدر على أسم الفاعل فإن قصدوا ذلك فقد أمعنوا في الضلال فإنه لا مغيث إلا الله قال تعالى في سورة الأنفال آية 9 : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) } وكان ذلك في غزوة بدر والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله بين أظهرهم ولم يستغيثوا به بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام كان يستغيث بالله ويقول ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد) وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر نظر رسل الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) وفيه فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعد فأنزل الله تعالى :(92/60)
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) } فتبين لك أيها القارئ الموفق أن الاستغاثة دعاء والدعاء مخ العبادة ومن استغاث بغير الله فقد أشرك وعبد مع الله غيره ومن زعم أنه هو أو غيره من المخلوقين قادر أن يغيث من استغاث به ويجيب المضطر ويكشف السوء ويجعل الناس خلفاء في الأرض فقد اتخذ مع الله إلها آخر بنصوص القرآن والسنة أنظر آيات النمل من قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) } من آية 58 ـ 64 ذكر الله تعالى في هذه الآيات أمورا خاصة به لا يقدر عليها غيره، منها إجابة المضطر وكشف السوء وتولية المناصب والهداية في ظلمات البر والبحر وإرسال الرياح فمن نسب شيئا من هذه الأمور إلى مخلوق أانه هو الفاعل لها بغير طريق الأسباب فقد أشرك بالله وعبد معه غيره واعلم أنه يجب على كل مسلم أن يوحد الله في ربوبيته وفي عبادته وفي أسمائه وصفاته فهذه أنواع التوحيد الثلاثة من أخل بها أو بشيء منها فهو كافر . أما توحيد الربوبية فهو أن يوحد الله تعالى بأفعاله بأن تعتقد أنه الموجد الممد فهو الذي يخلق وهو الذي يرزق وهو الذي يحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويدل ويتصرف في الخلق ويحفظ على كل مخلوق وجوده وأما توحيد العبادة ويسمى أيضا توحيد الإلهية فهو أن توحد الله بأفعالك فلا تتوجه بقلبك ولسانك إلى غيره بدعائك واستغاثتك واستعادتك واستمدادك واستشفائك واستعانتك وغير ذلك من حاجاتك التي لا يقدر عليها إلا الله . وأما توحيد الأسماء والصفات فهو ألا تسمي الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه، وكل اسم سميت الله به لا تسم به أحدا من خلقه، وكل صفة وصفت الله بها لا تصف بها أحدا من خلقه .(92/61)
فإن قيل : قال الله تعالى في سورة القصص آية 15 : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } فهذ1 رجل إسرائيلي استغاث بموسى فأغاثه موسى وذلك دليل على جواز الاستغاثة بالمخلوق .
فالجواب أن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق إذا كان حاضرا جائزة أما الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق كهداية القلوب وشفاء المرض بلا علاج بل بالهمة والحال وإنقاذ الغريق وتسهيل الولادة على من اعتراها الطلق وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب وإنجاح طالب العلم بدون تعليم وإدخال الجنة والنجاة من النار وغير ذلك من الأمور التي ليس للمستغاث به فيها عمل إلا أن يوجه همته ويقول كن فيكون فمن طلب من المخلوق شيئا من ذلك فهو كافر قال الله تعالى في سورة فاطر آية 13 ، 14 : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } وقال تعالى في سورة الأحقاف 5، 6 : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح!%tوكٹ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } والآيات في هذا كثيرة وفي الآيتين التصريح بأن من دعا غير الله لجلب نفع أو لدفع ضر وفي الآية الثانية أن من دعا غير الله ضال كافر .
البرزخ(92/62)
تكررت تسمية صاحب الرماح لشيخه بالبرزخ وجاء لفظ البرزخ في كلامه مفردا وجمعا فماذا يعني بالبرزخ ففي كتب اللغة البرزخ هو الحاجز بين شيئين، وبهذا المعنى جاء في كتاب الله عز وجل والبرزخ هو حياة الروح بعد الموت وقبل البعث فتسمى المدة التي بينهما برزخا ولعل صاحب الرماح يقصد بالبرزخ ما ادعاه لشيخه من أنه واسطة ببين الأنبياء والأولياء ، فلا يصل إلى ولي مدد إلا بتوسطه، ويفهم من كلامه أن كل شيخ برزخ بين الشيخ التجاني وبين أتباعه المستمدين منه وقد تقدم أن المدد كله من الله وحده لجميع عباده من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أما إبلاغ الرسالة إلى العباد فلا بد فيه من واسطة فالأنبياء والرسل يتلقون الوحي من الله تعالى ويبلغونه أممهم ولا يملك أحد من الرسل لأمته نفعا ولا ضرا وليس عليهم إلا البلاغ المبين والتبشير والإنذار فهم حجج الله على خلقه وهم الشهداء على أممهم يوم القيامة وأما المدد بجميع أنواعه الحسية والمعنوية فليس لهم منه شيء .
المسالة الرابعة
وهي تابعة للمسالة الثانية ومتفرعة منها، قال صاحب الرماح نقلا عن شيخه التجاني إنه ينادي مناد يوم القيامة في المحشر من قبل الله تعالى مشيرا إلى الشيخ أحمد التجاني ومخاطبا لأهل المحشر كلهم هذا إمامكم الذي كان يمدكم وأنتم لا تشعرون .(92/63)
قال محمد تقي الدين الهلالي هذا من القول على بلا علم قال الله تعالى في سورة الأعراف آية 33 : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } وقد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أن من أخبر عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ليس في كتاب الله ولا روى بسند صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال على الله بلا علم وخبره مردود ولا سبيل لأحد أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الطريق الذي روى عنه أصحابه والتابعين لهم بإحسان وهو السماع منه عليه الصلاة والسلام في حال حياته أو السماع ممن سمع منه ومثل ذلك القراءة على الشيخ مع إقراره فهذا الخبر باطل بإجماع المسلمين هذا لو كان المدد صحيحا فكيف والمدد نفسه باطل لا وجود له إلا في خيال المدعين له وهم التجانيون .
المسألة الخامسة
ما نقله صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال إن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذه على رقبة كل ولي لله وذلك خاص بأولياء زمانه أما أنا فأقول لكم : قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من لدن آدم إلى النفخ في الصور اهـ .
قال محمد تقي الدين هذه مقالة تقشعر منها الجلود قال الله تعالى في سورة القصص آية 73 : { تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) } قال ابن كثير في تفسيره : يخبر تعالى إن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول و لا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوا في الأرض أي ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم اهـ .(92/64)
وقال البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه قال ابن مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه قال الحافظ في الفتح هذا التعليق وصله ابن خيثمة في تاريخه لكن أبهم العدد وكذا أخرجه ابن نمر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخزمة فهؤلاء ممن سمع منهم وقد أدرك جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبى طالب وسعد بن أبي وقاص وفيه قال إبراهيم التيمي ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا وقال البخاري ويذكر عن الحسن البصري ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق قال في الفتح هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل الحسين الحافظ رحمه لله وهي أن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك فهنا كذلك وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي ( ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق ) يعني الله تعالى قال الله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } وقال : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكرماني هكذا، فقال : ما خافه أي خاف من الله فحذف الجار وأوصل الفعل إليه ثم ساق الحافظ سند الفريابي إلى المعلى ابن زياد فقال سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق . ثم ذكر الحافظ عن أحمد بن حنبل(92/65)
بسنده مثله، ثم قال : وهذا موافق لأثر ابن مليكة قبله، وهو قوله : يخاف النفاق على نفسه .
وقفة لتوضيح ما تقدم
في هذا الكلام فوائد :
الأولى : أن البخاري رحمه الله علق خبر إبراهيم التيمي بصيغة الجزم ومن المعلوم عند أهل الحديث أن الأخبار المعلقة في صحيح البخاري أعني التي يحذف سندها كله أو بعضه مروية بأسانيد صحيحة أو حسنة وهذا الخبر يدل على أن السلف الصالح كانوا يتهمون أنفسهم ويخافون عليها من الكفر وحبوط العمل فهم أبعد الناس عن سلوك طريقة التجانيين الذين يجزمون بأنهم أولياء الله وأنهم يدخلون الجنة بغير حساب وأن شيخهم خاتم الأولياء وسيدهم وممدهم فما أبعد هذه الدعاوى عما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وهم لعمري أولى بالاتباع من التجانيين ومن يرغب عن اتباعهم ويتمسك بطريقة التجانيين إلا من سفه نفسه .(92/66)
الثانية : خبر ابن مليكة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم فما أبعد حالهم من حال هؤلاء التجانيين الذين ملؤوا الدنيا افتخارا واستعلاء !! وتألوا على الله وأراحوا أنفسهم من جميع التكاليف، ومن تألى على الله أكذبه، قال تعالى في سورة النساء آية 123، 124 { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) } هذا كتاب الله ينطق عليهم بالحق فكيف نبذوه وراء ظهورهم وتمسكوا بوساوس وتخيلات مَا { أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) } لا معطي ولا مانع ولا خافض ولا رافع إلا الله، وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) رواه أحمد والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم .
ولعمر الله أن التجانيين لم يدينوا أنفسهم بل أتبعوها أهواءها وتمنوا على الله الأماني .(92/67)
الفائدة الثالثة : قول البخاري ويذكر عن الحسن هذه الصيغة تسمى صيغة التمريض وكثير من العلماء يظن أن البخاري إذا علق حديثا بصيغة الجزم مثل قال وذكر فالحديث عنده صحيح أو حسن إلا أنه ليس على شرطه وإذا قال يقال أو يذكر فالحديث عنده غير صحيح بل ضعيف وقد بين الحافظ بالبرهان القاطع أن هذا الفهم لا يلزم أن يكون كل حديث وقع في صحيح البخاري بهذه الصيغة ضعيفا لأن البخاري يستعمل هذه الصيغة في الخبر إذا اختصره أو رواه بالمعنى ولو كان صحيحا ومن الأحاديث الصحيحة التي استعمل فيها البخاري صيغة التمريض مع صحتها هذا الحديث هذا معنى ما تقدم من كلام الحافظ .
الفائدة الرابعة : أن اختصار البخاري لخبر الحسن البصري أوقع بعض شراح البخاري ومسلم في وهم عظيم منهم النووي والكرماني وقبله ابن التين .
الفائدة الخامسة : أن الكرماني بعد ما نقل كلام ابن التين الذي يدل على أن الضميرين في أمنَّه وخافه يعودان على الله تعالى وأقره قال ما خافه أي خاف الله فحذف الجار وأوصل الفعل إليه .
قال محمد تقي الدين الهلالي : وهذه زلة نحوية عظيمة، لأن خاف يتعدى بنفسه فلا حاجة إلى تقدير الحذف قال تعالى : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } وقال تعالى : { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ومن ذلك تعلم أن العالم وإن عظم شأنه في العلم يقع في أخطاء فإياك والتقليد فالكمال لله تعالى .(92/68)
وهناك زلة أعظم منها وهي ادعائهم أن الضمير في أمنه وخافه يعود على الله والحق أنه يعود على النفاق . وليث شعري ما فائدة قول التجاني ( قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من لدن آدم إلى النفخ في الصور ) فإن أقل المؤمنين تواضعا وتأدبا مع الله ومع عباده المؤمنين لا تحدثه نفسه أن يضع قدمه منعولة أو حافية على قدم مؤمن آخر فكيف يضعها على رقبته أليس هذا غاية التحقير والإهانة وكيف يليق بمتصوف هذب نفسه وجاهدها حتى وصلت إلى الله بزعمه وطهرت من جميع الرعونات والرين والدرن أن يطأ رقاب الناس بقدميه وعهدنا بالمتصوفة كالشادلية مثلا أن يسموا أنفسهم تراب أقدام أهل الله فجاء التجانيون بعكس ذلك ألم يكفهم أنهم زعموا أن شيخهم خاتم الأولياء وسيد العارفين وممدهم وإمامهم حتى أرادوا أن يفرشوا له جميع أولياء الله الصالحين ليمشي على رقابهم بقدميه فلا إله إلا الله ماذا يبلغ الغرور بأصحابه . ولا نظن أبدا أن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال ما نسبوه إليه وهو (قدمي هذه
على رقبة كل ولي لله ) فإنه كان إماما حنبليا صافي العقيدة، محدثا فقيها، من خيار عباد الله الصالحين، وهذه ترجمته في طبقات الحنابلة ليس فيها ما ذكر، ولا تشم منها رائحة لطلب الغلو والكبرياء، ولكن من قال على الله وعلى رسوله بلا علم فكيف يتورع أن يقول على الشيخ عبد القادر ما لم يقله . وإذا فرضنا أنه قال ذلك كان ماذا، فهو ليس بمعصوم وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المسألة السادسة(92/69)
ما نقله صاحب الجواهر وصاحب الرماح عن شيخهما أنه قال : إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، يقال أن أمور الآخرة لا يجوز لأحد أن يخبر عنها إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخبر بشيء منها بدون دليل فهو مردود بإجماع المسلمين ولا يساوي عند أهل العلم قلامة ظفر بل يعدونه من الكذب على الله وقد تقدم في المسائل الخمس ما يبطل هذه الدعوى بالأدلة القاطعة وأنوار الساطعة .
المسألة السابعة
في جوهر المعاني وسألته ( يعني أحمد التجاني ) عن تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه وعن القطب من غير الصحابة، فأجاب بقوله اختلف الناس في تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه على القطب من غير الصحابة فذهبت طائفة على تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه على القطب من غير الصحابة وذهبت طائفة إلى تفضيل القطب والراجح تفضيل الصحابي على القطب بشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اصطفى أصحابي على سائر العالمين سوى النبيين والمرسلين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهب ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث ) انتهى باختصار .
قال محمد تقي الدين الهلالي هذا السؤال وجوابه من أعجب العجب والله المستعان على ما يصفون السؤال فاسد وجوابه أفسد منه فما معنى هذا الفتح الذي يحرم منه الصحابة ويناله(92/70)
غيرهم ؟ و الحديث الذي جاء في الجواب حجة على فساد السؤال والجواب، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله علية وسلم : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وقال تعالى بعد ذكر السابقين منهم واللاحقين { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وأن القول بأن الصحابي كيفما كانت مرتبته من السابقين الأولين أو اللاحقين وكلا وعد الله الحسنى يجوز أن لا يفتح عليه والقطب الذي يأتي بعد زمن الصحابة وبعد القرون المفضلة يأتي في الأزمنة المذمومة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يُفتح عليه تنقص ومسبَّة للصحابة وما هو هذا الفتح يا ترى ؟ فإن كان معرفة الله تعالى ونيل مراتب الإحسان العالية ومقامات المراقبة السامية فكيف يتفق هذا القول مع تعظيم الصحابة فكل فتح يُحرم منه الصحابيُّ ويناله شخص وُجد بعد القرون المفضلة فهو فتح شيطاني ووساوس وضلالات نعوذ بالله منها وقد تقدم الكلام في القطب وهو أنه لا وجود له كل الغول والعنقاء، كما قال الشاعر :
ولقد خبرت بني الزمان فلم أجد
فيهم جميع من أود وأصطفي
فعلمت أن المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخل الوفي
ومن ترك الكتاب والسنة وابتغى الهدى في غير كتاب الله أضله الله تعالى فلا غرابة إذا رأينا التجانيين يتناقضون فيما نقلوه عن شيخهم واعتقدوه من تفضيل الصحابة على غيرهم وعدم دخولهم في تلقي المدد الذي اخترعوه ونسبوه إلى دين الله تعالى وهو تخيلات وأوهام .
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
فالحمد لله الذي عافانا من هذا الهوس وأخرجنا من الظلمات إلى النور نسأله أن يديم علينا نعمة الإسلام واتباع كتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام .
المسالة الثامنة
قال صاحب الرماح ناقلا عن شيخه التجاني أنه قال : ( وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة اهـ .(92/71)
أقول هذا الكلام لا يصح من وجوه :
أولها : أنه يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم هذه العلوم عن الخلفاء الراشدين من كبار الصحابة في حياته وكتمها عن خيار أمته بعد ذلك وخبأها إلى أواخر القرن الثاني عشر وخص بها الشيخ التجاني والله تعالى يقول في سورة المائدة آية 67 : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } قال جلال الدين في تفسيره ما نصه، يا أيها الرسول بلغ : ( جميع ) ما أنزل إليك من ربك، ولا تكتم منه شيئا خوفا أن تُنال بمكروه وأن لم تفعل، أي لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فما بلغت رسالته بالإفراد والجمع لأن كتمان بعضها ككتمان كلها اهـ .
قال الجمل في حاشيته قال ابن عطية أي وإن تركت شيئا فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى وإن لم تستوفي ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا قال الكرخي قوله (جميع ما أنزل إليك ) أشار به إلى أن ما موصولة بمعنى الذي لا نكرة ما موصوفة لأنه مأمور بتبليغ الجميع كما قرره والنكرة لا تفي إذ تقديرها بلغ شيئا مما أنزل إليك ومن تم قالوا الدعوة مثل الصلاة إذا نقص منها ركن بطلت اهـ .(92/72)
ثانيا :أن يقال إما أن تكون هذه العلوم المكتومة فيها خير للأمة أو لا خير فيها فإن كان فيها خير فكيف يحرم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثاني عشر من هذا الخير وهو الرؤوف الرحيم الذي ما ترك شيئا ينفع أمته إلا بينه لهم ورغبهم فيه ولا ترك شيئا يضرهم إلا حذرهم منه كما دلت على ذلك الأخبار الصحاح وأجمع عليه السلف الصالح قال تعالى في سورة النحل آية 44 : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه به على أكمل وجه قال البخاري رحمه الله في تفسير آية المائدة التي تقدم ذكرها بسنده إلى عائشة رضي الله عنها ( من حدثك أن محمدا كتما شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب ) وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وقد ذكر ابن كثير في تفسير سورة المائدة أحاديث في هذا المعنى لم أرى حاجة لذكرها .
ثالثها : إن يقال هذه العلوم التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ التجاني ما هي ؟ وهل علَّمها الشيخ تلامذته ومُريديه أم كتمها عنهم ؟ فإن علمهم إياها فأبرزوها لنا وإن لم يعلمهم إياها فما فائدتها وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع وعلم لا ينفع ) .(92/73)
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال : ( والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهما يُعطاه رجل في كتاب الله وإلَّا ما في هذه الصحيفة فقرأت فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يُقتل مسلم بكافر ) فإن قيل قد صح عن حذيفة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهما بأمور كان يكتمانها فالجواب أن الذي أخبر به حذيفة أسماء المنافقين ولم يكن يكتمها عن جميع الناس إنما كان يكتمها عن عامة الناس بدليل قوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله فقال أنشدك الله هل ذكر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمي في أسماء المنافقين فقال لا ولا أزكي بعدك أحد وإنما كتم حذيفة أسماء المنافقين لأن المفسدة التي في ذكرها تفوق المصلحة التي في كتمنها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وأما أبو هريرة فقد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن التي تقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقول كما في صحيح البخاري ( حملت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدها فبثثته لكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ) ومع ذلك باح به للخاصة فقال أعوذ بالله من حدود الستين وإمارة الصبيان وقد روى الأئمة الشيء الكثير من أخبار الفتن التي وقعت في زمن بني أمية عموما وخصوصا فثبت بذلك أن أبا هريرة لم يكن يكتمها عن الخاصة .
المسألة التاسعة(92/74)
قال صاحب الرماح نقلا عن من سأل شيخه : وسألته عن حقيقة الولاية فأجاب ما نصه : الولاية عامة وخاصة، فالعامة من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام والخاصة هي من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى الختم والمراد بالخاصة هي من اتصف صاحبها بأوصاف الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحداً إن لله ثلاثمائة خلق من اتصف بواحدٍ منها دخل الجنة وهذا خاص بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم، ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم هكذا قال ونسبه إلى الحاتمي ثم قال سيدنا ولا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال أن يكونوا كلهم أعلى من غيرهم في كل وجه بل قد يكونوا من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام وأظنه يشير إلى نفسه وبعض الأكابر من أصحابه لأنه أخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن مقامه أعلى من جميع المقامات اهـ .
فأقول في هذا الكلام ضلالات :
الأولى : القول على الله بلا علم فإنه لم يذكر دليلا على ما قال لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من علم الغيب الذي لا يجوز القول فيه بالرأي .
الثانية : أن مقتضى هذا الكلام أن الختم هو ابن عربي الحاتمي، وقد تقدم نقلهم عن ابن عربي الحاتمي أنه ادعى أنه خاتم الأولياء ثم تبين له أنه ليس كذلك وأن الختم سيأتي في أخر الزمان وقد اجتهد أن يعرف اسمه وبلده وفلم يستطع . والتجانيون يعتقدون أن شيخهم هو خاتم الأولياء وذلك تناقض .
الثالثة : ما هذه الأخلاق الثلاثمائة التي هي من أخلاق الله ومن تخلق بواحد منها دخل الجنة لماذا لم يبينها شيخهم لهم ليتخلقوا بها أم هي أيضا مكتومة فأي فائدة في ذكر عددها لهم ؟ .(92/75)
الرابعة : أن مقتضى هذا الكلام أن التجانيين وشيخهم خارجون عن الولاية العامة والخاصة إلا أنه قال راقعا للفتق لا يلزم أن يكن أهل الولاية الخاصة التي تنتهي عند ابن عربي الحاتمي أفضل من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر شيخهم أن مقامه أعلى من جميع المقامات وليث شعري كيف يكون لمن خرج عن ولاية الله العامة والخاصة مقام عال فضلا عن أن يكون أعلى من غيره . فهذا الكلام في غاية التناقض والاضطراب والله المستعان .
المسألة العاشرة
قوله في الرماح وهو موجود في الجواهر وفي سائر كتبهم كل الطرائق تدخل عليه - كذا - طريقتنا فتطبلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره من ترك من أوراد المشايخ وردا لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمَّنه الله في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ولا يفلح أبدا قلت وهذا لأنه قد ثبت أول الفصل أن صاحبها ( يعني الشيخ التجاني ) هو الختم الممد الذي يستمد منه من سواه من الأولياء والعارفين والصديقين والأغواث ومن ترك المستمد ورجع إلى الممد فلا لوم عليه ولا خوف بخلاف من ترك الممد ورجع إلى المستمد .اهـ
قال محمد تقي الذين في هذا الكلام طوام عظيمة :
الأولى : أن الطرائق كلها بدعة وضلالة، ولا يجوز أخذ شيء منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) ولما تقدم في قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وغير ذلك من الأدلة .(92/76)
الثانية : أن تلك قسمة ضيزى قسمها التجانيون بينهم وبين سائر الطرائق فجعلوا طريقتهم تدخل على جميع الطرائق فتبطلها ، ولا تدخل طريقة من الطريقة على طريقتهم فكأنها نسخت الطرائق ، وإن لم تنسخها فقد جعلتها في أسفل المنازل التي لا يرضى بها من له همة عالية وذلك على قول السموأل بن عاديا اليهودي :
وننكر أن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول
وهذا حيف وجور على الطرائق .
الثالثة : أن تلك قسمة ضيزى قسمها التجانيون بينهم وبين سائر الطرائق فجعلوا تعالى لقوله . فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات والذي يجب على كل مسلم أن يعتقده أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع ولا يضر مع أنه أفضل خلق الله قال الله تعالى في سورة الأعراف آية 188 : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) } فأنت ترى أن الله أمر نبيه أن يقول لجميع الناس أنه لا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا، بل المالك لذلك هو الله وحده لا شريك الله وأمره أيضا أن يقول لهم أنه لا يعلم الغيب فكيف أن يخاف أحد العقاب من المخلوق نبيا كان أو غير نبي .
الرابعة : كيف يتصور أن يعاقب الله الإنسان على ترك طريقة مبتدعة التزامُها شر(92/77)
من المعاصي لأن البدعة شر من المعاصي، لأن المعاصي يرتكبها صاحبها وهو يعلم أنها معصية، ولا ينوي أبدا التقرب إلى الله بها بل يرتكبها وهو خائف من الله إن كان مؤمنا إلا أن الغفلة والجهالة واتباع الهوى غلب خوفه من الله، ولذلك تراه يعترف بذنبه ويرجوا أن يتوب منه فترك الطريقة بالتوبة منها لا يدعو إلى الخوف بل يدعو إلى الأمل لأن الله تعالى يقبل التائبين من المعاصي والبدع ويغفر ذنوبهم .
أما الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى له . أما أولا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطه تلك الطريقة ولا أخذ عليه فيها عهدا، بل أعطاه سنته وكتاب الله فنبذهما ظهريا وابتدع فأخذ الطريقة . وأما ثانيا : فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على ضر ولا نفع كما تقدم وأما شيخ الطريقة الذي أخذ عنه ذلك المريد الطريقة بواسطة أو بغير واسطة فكيف يستطيع أن يضر من ترك طريقته وهو فقير عاجز إذا كان حيا وإذا كان ميتا فهو أعجز ، ومن خاف شيخا غائبا أو ميتا فقد عبده من دون الله وأشرك بالله لأن خوف الله بالغيب عبادة، قال الله تعالى في سورة فاطر : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وكلما اشتد خوف العبد من الله علا مقامه ولذلك كان النبي صلى اله عليه وسلم أشد الناس خوفا من الله تعالى .
الخامسة أن الشيخ الذي يدعو الناس إلى طريقة مبتدعة ويضلهم بها لا ينبغي له إذا خرجوا من طريقته إن ينتقم منهم لأنهم تابوا إلى الله من البدعة ، هذا لو كان قادرا على الانتقام ، فكيف وهو عاجز ، فإن حبه للانتقام ممن ترك طريقته جريمة يضيفها إلى جريمته الأولى ، وهي اختراعه للطريقة ودعوته الناس إليها .(92/78)
السادسة : ادعائهم أن أخذ الطريقة التجانية ثم تركها تحل به المصائب دنيا وأخرى جرأة عظيمة على الله تعالى فمن أين علموا ذلك أمن الكتاب أم من السنة أم هو من وحي الشيطان ولو قال لهم قائل . إن من أخذ الطريقة التجانية تحل به المصائب دنيا وأخرى ولم يأتهم بدليل كما لم يأتوا بدليل لتصارع القولان وتساقطا ويفضل عند خصمهم البرهان القاطع على أن التمسك بالطريقة التجانية وتصديق ما جاء فيها بدع وضلالات بعضها يفضي إلى الكفر وكلها فيه إثم .
المسألة الحادية عشر
اعتقاد أن القرن الثاني عشر للهجرة يشبه القرن الأول الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال إن القرن الذي فيه القطب المكتوم والبرزخ المحتوم والختم المحمدي المعلوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني وذلك القرن هو القرن الثاني عشر من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام يشاكل قرنه صلى الله عليه وسلم من وجوه :
الأول : أن فيه خاتم الأولياء كما في قرنه خاتم الأنبياء .
الثاني : أن أتباع هذا الولي المجدد الخاتم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وحده ويجاهدون الأمم الضالة كما يجاهدون النفس والهوى والشيطان الجهاد الأكبر ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد النفس والهوى .
الثالث : الإشارة إلى أن هذا القرن أفضل من جميع ما تقدم من القرون السالفة سوى القرون الثلاثة الوارد النص بأفضليتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث . ثم فسر ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( خير هذه الأمة أولها وآخرها ) ج 2 ص 20 ، قال محمد تقي الدين الهلالي في هذا الكلام نظر من وجوه :(92/79)
أولها لم يظهر لنا ولا نظن أنه يظهر لغيرنا أن القرن الثاني عشر الهجري يشبه القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، إلا أنْ يقال أنّ بداية الدعوة المحمدية كان الإسلام فيها غريبا ، وكان أهله ضعفاء قليلا عددهم ، إلا أنهم في زيادة مستمرة وكان الإسلام يزداد قوة يوما بعد يوم حتى بلغ القمة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما القرن الثاني عشر فقد كان الإسلام فيه غريبا، وكان أهله ضعفاء وإن كان عددهم كثيرا وكانوا يزدادون ضعفا يوما بعد يوم ويمتاز القرن الثاني عشر بأن المنتسبين فيه إلى الإسلام كان أكثرهم لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه وكان الشرك والبدع في غاية الظهور والانتشار، وكذلك الفجور والفسوق والمعاصي شائعة بدون تغيير، وأعداء الإسلام يزدادون قوة واستيلاء على بلاد المسلمين وبالخصوص في المغرب، الذي كان فيه الشيخ التجاني فقد بلغت فيه الدولة المغربية أسفل سافلي ، تكالب أعداء الإسلام من الخارج والفتن والثورات في الداخل فما أقل الشبه، بين زمان النور وزمان الظلام، وكان المغرب قد بدأ في الضعف والانحطاط من القرن الثامن الهجري حين بدأت الطرائق يكثر انتشارها، ويستولي شيوخها الجهال على عقول العامة، وقد كان المغرب قبل ذلك قاهرا لأعدائه، يغزوهم في عقر دارهم، وراياته منصورة، وأيامه في أعدائه مشهورة، فكان مستوليا على أكثر البلاد الإسبانية، فما زال يفقد أقاليمها واحدا بعد واحد . حتى بلغ في القرن الثاني عشر إلى هوة سحيقة، فأخذ يفقد ثغوره ويستولي عليها أعداؤه، أما الفتن الداخلية وكثرة القتل والنهب وسبي الذرية والنساء وإحراق القرى في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر وهو الوقت الذي استقر فيه الشيخ أحمد التجاني في فاس وبنى زاويته، وانتشرت طريقته، فإنه دخل فاسا بنية الاستيطان والاستقرار، سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة (1213 هـ) كما في جواهر(92/80)
المعاني الجزء الأول صفحة 37 ، والمدة التي أقامها الشيخ التجاني في فاس هي من ألف ومائتين وثلاث عشرة (1213) إلى ألف ومائتين وثلاثين (1230 هـ) إذ فيها توفي ودفن في وسط زاويته، وإذا أردت أن تعرف مقدار الشقاء الديني والدنيوي الذي كان مخيما على المغرب الأقصى وسائر المغارب، فاقرأ كتب التاريخ ومن أيسرها أسهلها كتاب "الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى" للناصري، ولولا كراهية الإطناب وضيق الوقت لنقلت هنا ما تقشعر منه الجلود، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك قله، فلذلك أنقل لك من الكتاب المذكور، شيئا قليلا، على لسان ملك المغرب في ذلك الزمان، السلطان أبى الربيع سليمان بن محمد العلوي، رحمه الله، وكان من أحسن ملوك الدولة المغربية دينا وعقلا وحكمة وحسن سياسة، ولكن اتسع الخرق، قال صاحب الاستقصاء في الجزء الثامن صفحة 164 :
كان أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة قد سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام ويتخلى هو لعبادة ربه إلى أن يأتيه اليقين ، قال ذلك غير مرة، وتعددت فيه رسائله ومكاتيبه فمما كتب في ذلك هذه الوصية التي يقول فيها :
الحمد لله، لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين وقال عمر : إن تابعناهم تابعناهُم على ما لا نرضى وإلا وقع الخلاف، وأولئك عدول، وهؤلاء فساق، وقال عمر : فبايعنا أبا بكر فكان والله خير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر : يأبى الله ويدفع المسلمون، ورشحه بتقديمه للصلاة إذ هي عماد الدين .(92/81)
وقال أبو بكر للمسلمين : بايعوا عمر وأخذ له البيعة في حياته، فلزمت وصحت بعد موته وقال عمر هؤلاء الستة أفضل المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نِعم العبد صهيب، وقال أبو عبيدة أمين هذه الأمة، وقال ما أضلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ، وقال في أبي بكر وعمر أكثر من هذا فصار المدح للتعريف واجبا ولإظهار حال الرجل لينتفع به ، فأقول جعله الله خالصا لوجهه الكريم ما أظن في أولاد مولانا الجد عبد الله، ولا في أولاد سيدي محمد والدي رحمه الله، ولا أولاد أولاده أفضل من مولاي عبد الرحمن بن هشام ولا أصلح لهذا الأمر منه لأنه إن شاء الله حفظه الله لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب ولو ملك مُلك المشرقين لأنها عبادة صهيبية ويصوم الفرض والنفل، ويصلي الفرد والنفل .
وإنما أتيت به من (الصويرة) ليراه الناس ويعرفوه وأخرجته من (تافيلالت) لأُظهره لهم، لأن الدين النصيحة، فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم كما صلح سيدي محمد جده وأبوه حي، ولا يحتاجون إليَّ أبدا، ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء الله اهـ بلفظه .
ومنه تعلم أن القرن الثاني عشر الهجري، كان من شر القرون .
فالعجب من صاحب الرماح كيف يشبهه بقرن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح (كل يوم ترذلون) وفيه (لا يأتي يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم . أما دعوى ختم الأولياء فقد تقدم بطلانها فالأولياء بالمعنى الذي أراد صاحب الرماح لا وجود لهم في الحقيقة، وإذا لم يوجدوا فلا خاتم لهم .
أما الأولياء المؤمنون المتقون فليس لهم خاتم .(92/82)
أما حديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وحديث (خير أمتي أولها وآخرها) فلا يصح منهما شيء، وسيأتي تحقيق الكلام عليهما في الفصل الذي نعقده لتخريج الأحاديث التي ذكرها صاحب الرماح في ما ننقله عنه إن شاء الله تعالى .
استدراك
فاتني الكلام على مسألة رتبها صاحب الرماح على حديث لا يصح وذلك قوله فيما نقله عن ابن عربي الحاتمي (فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ النبوة إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) . ص 11 ج 2
أي لم يكمل بدنه العنصري بعد فكيف من دونه من أنبياء أولاده، وبيان ذلك أن الله تعالى لما خلق النور المحمدي كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله : (أول ما خلق الله تعالى نوري) جمع في هذا النور المحمدي جميع أرواح (الأنبياء والأولياء، جمعا أحديا قبل التفضيل في الوجود العيني وذلك في مرتبة العقل الأول إلى آخر ما قال مما تقدم ص 11 ج 2 .(92/83)
قال محمد تقي الدين الهلالي هذه الأسطورة التي اخترعها ابن العربي الحاتمي، واستغلها صاحب الرماح وأهل طريقته مبنية على حديثين لو كانا صحيحين لم تكن فيهما دلالة على ما زعم، لإن النبوة فضل من الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده وليست بيد مخلوق فلا تتوقف نبوة نبي على نبي آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم لا يعرف جميع الأنبياء ولا جميع الرسل، قال الله تعالى في سورة المؤمنون آية 78 : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } والأحاديث الواردة في عدد الأنبياء والرسل حكم على المشهور منها ابن الجوزي بالوضع، وقد رويت من طرق ضعيفة ومتونها مضطربة ففي بعضها أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم ثلاثمائة وخمسة عشرة رسولا وفي بعض الروايات ثلاثة بدل خمسة عشر وفي بعضها بعث الله ثمانية ألف نبي، أربعة آلف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلف إلى سائر الناس وفي بعضها أن عددهم ألف نبي، وفي بعضها ألف ألف نبي، وقد ذكر هذه الروايات وغيرها الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة النساء آية 164: { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } وإذا لم بثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف جميع الأنبياء فكيف يكون واسطة في نبوتهم ولا يعرفهم، أما زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيا وآدم بين الماء والطين، فقد قال السخاوي في المقاصد الحسنة، وما اشتهر على الألسنة بلفظ (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) لم أقف عليه اهـ وقد جاءت أحاديث بمعناه، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد) رواه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة، ومعناه أنه كان مكتوبا عند الله نبيا وهذا التفسير هو من تفسير الحديث بالحديث فقد روى(92/84)
ابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن العرباض بن سارية مرفوعا (إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته) ويزيدك وضوحا قوله تعالى في آخر سورة الشورى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وفي تفسير الجلالين ما نصه، { 7د9؛xx.ur } أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد روحا، هو القرآن به تحيا القلوب، من أمرنا، الذي نوحيه إليك، ما كنت تدري، تعرف قبل الوحي إليك، ما الكتاب، القرآن، ولا الإيمان، أي شرائعه ومعالمه، والنفي معلق للفعل عن العمل، أو ما بعد سد مسد المفعولين، وقال الإمام بن جرير الطبري أفضل المفسرين بعد الصحابة في تفسير هذه الآية ما نصه :(92/85)
وقوله : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما كنت تدري يا محمد، أي شيء الكتاب ولا الإيمان، اللذين أعطيناكهما، ولكن جعلناه نورا، هذا القرآن وهو الكتاب نورا يعني ضياءا للناس، يستضيئون بضوئه الذي بين الله فيه، وهو بيانه الذي فيه مما لهم فيه من العمل به الرشاد، ومن النار النجاة { نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يقول نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك، ثم روى بسنده إلى السدي، قال { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يعني القرآن، وقال جل ثناؤه : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ } فوحد الهاء، وقد ذكر قبل الكتاب والإيمان، لأنه قصد به الخبر عن الكتاب . وقال بعضهم عنى به الإيمان والكتاب، ولكن وحد الهاء لأن الأسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل كما يقال؛ إقبالك وإدبارك يعجبني، فيوحد وهما اثنان انتهى بلفظه .(92/86)
وقال الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية ما نصه : { 7د9؛xx.ur } أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا، { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } قال ابن عباس نبوة قال الحسن رحمة وقال السدي ومقاتل وحيا، وقال الكلبي كتابا وقال الربيع جبريل، وقال مالك بن دينار يعني القرآن : { مَا كُنْتَ تَدْرِي } قبل الوحي، { مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يعني شرائع الإيمان ومعالمه، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة ودليله قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وأهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا } قال ابن عباس يعني الإيمان .
فقد علمت من كلام هذين الإمامين ومن نقلا عنهم من أئمة التفسير من السلف الصالح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن نبيا إلا بعد نزول الوحي عليه، فادعاء أنه كان نبيا بالفعل قبل أن يولد ويوجد جسده الشريف من أبين الباطل، ويدل على ذلك حديث بدء الوحي، وأدلة لا تعد ولا تحصى .(92/87)
منها؛ قوله تعالى في سورة الضحى : { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) } فمعناه شبيه بمعنى آية سورة الشورى، كما قال الحافظ ابن كثير، وأما الحديث ( أول ما خلق الله نوري ) فقد قال السيوطي في الحاوي ج 1 ص 325 : ليس له إسناد يعتمد عليه، قال الغماري في المغير على الجامع الصغير وهو حديث موضوع، لو ذكر بتمامه لما شك الواقف عليه في وضعه وبقيته تقع في نحو ورقتين كبيرتين مشتملتين على ألفاظ ركيكة ومعان منكرة . وبذلك يتهدم كل ما بناه الحاتمي على هذا الحديث الموضوع، وانتهبه التجانيون من الحاتمي وفرحوا به وبنوا عليه قصر ختم الأولياء وأمدادهم وتفضيل أنفسهم على الأمة كلها، ما عدا الصحابة ولم يشعروا أنهم بنوا قصرهم على جرف هار فانهار بهم . وقول الحاتمي بناء على ما استنبطه من الحديث الموضوع، جمع الله في هذا النور المحمدي جميع أرواح الأنبياء جمعا أحديا قبل التفضيل في الوجود العيني . قال محمد تقي الدين : أقول له وبالله التوفيق؛ الحديث الذي بنيت عليه هذا التقول موضوع ولو صح ما دل على ما زعمت فمن أين لك أن جميع أرواح الأنبياء والمؤمنين الذين تسميهم أولياء كانت في أول خلقها مجموعة جمعا أحديا لا تفضيل فيه ولا تعيي ، فقولك هذا رجم بالغيب وكذب على الله، وظواهر الكتاب والسنة تدل على خلافه قال تعالى في سورة آل عمران آية 59 : { إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) } ( 60 ) وقال تعالى في سورة ص آية 71 ، 72 : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) } . وفي تفسير الجلالين عند هذه الآية ما نصه : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)(92/88)
} هو آدم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أتممته { M÷‚xےtRur } أجريت { فِيهِ مِنْ رُوحِي } فصار حيا وإضافة الروح إليه تشريف لآدم والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) } سجود تحية بالانحناء اهـ .
وفي حديث الشفاعة الذي أخرجه البخاري وغيره، أن الناس يذهبون إلى آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا عند ربنا . الحديث، وهذا خلاف ما زعم ابن عربي الحاتمي وأخذه منه التجانيون كأنه تنزيل من حكيم حميد . وقوله : ( وذلك في مرتبة العقل الأول ثم تعينت الأرواح في مرتبة في اللوح المحفوظ الذي هو النفس الكلية الخ ) اهـ .
تعبيره بالعقل الأول والنفس الكلية من عبارات الفلاسفة اليونانيين وهم أجهل الناس بالله تعالى وبرسوله وبكتبه، وقد كانوا وثنيين، فالعقل الأول لا وجود له في الحقيقة كما لا وجود لمسماه وهو الأرواح المجموعة جمعا أحديا قبل التفضيل والتفضيل العين ، أما اللوح المحفوظ فالذي يجب على كل مسلم أن يعتقده، هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفسرون الأولون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وقد ذكر المفسرون فيه أقوالا نقتصر منها على ما ذكره الحافظ ابن كثير نقلا عن الطبراني بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه من نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويدل ويفعل ما يشاء .(92/89)
أما تفسيره بكلام الفلاسفة الكفرة الجاهلين بدين الله فهو من الإلحاد في كلام الله والنفس الكلية لاوجود لها في الأعيان، وإنما توجد في الأذهان فهي من التخيلات التي لا حقيقة لها، وهذا الهوس وأمثاله يسمونه علوم العارفين، فما هي علوم الجاهلين إذا ؟ والذي جرأ هؤلاء على اختراع هذه الوساوس وإيهام الناس أنها من الدين خُلو الأوطان التي كانوا يبثُّون فيها ضلالهم من علماء الكتاب والسنة الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وفي مثل ذلك ينشد :
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
لا بد من أخذك يوما فاحذري
وبقية كلامه يُعرف بطلانها مما سبق، أما زعمه أن خاتم الأولياء كان بالفعل عالما بولايته وآدم بين الماء والطين الخ (1)
__________
(1) وانظر تفصيل حكم الأولياء في كتاب : " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وقد طبعه المكتب الإسلامي طبعة محققة .(92/90)
تقدم بطلان المقيس عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أنه نبي إلا بعد أن أنزل الله عليه القرآن، وإذا بطل المقيس عليه فالمقيس أولى بالبطلان، يضاف إلى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني حسبما في كتب التجانيين، وخصوصا جواهر المعاني كان ينتقل من طريقة إلى أخرى وهو في بلاد المغرب، وكذلك فعل حين سافر إلى المشرق ولم يُفتح له في أي طريقة، فلو كان يعلم أنه خاتم الأولياء من الوقت الذي كان فيه آدم بين الماء والطي ، ما أخذ تلك الطرائق كلها واستمر في كل واحدة منها برهة من الزمان حتى يئس أن يُفتح عليه فيها ثم انتقل إلى غيرها وهكذا دواليك بل كان يمكث بدون طريقة يعبد الله حتى يصل إلى مرتبته التي هو على يقين أنه يصل إليها وهي الختمية التي تدَّعونها له، ولا يعلم إلا الله هل ادعاها لنفسه كما تزعمون أم هو برئ من هذه الدعوى كما يقتضيه قوله، ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فما وافق فهو عني سواء قلته أم لم أقله، وما خالف فليس عني سواء قلته أم لم أقله، ومن كان معظما له محسنا للظن به لابد أن ينفي عنه تلك الأباطيل والله المستعان .
وليكن هذا الاستدراك ( المسألة الثانية عشرة )
المسالة الثالثة عشرة(92/91)
قال صاحب الرماح في صفحة (30) نقلا عن شيخه أنه قال : ( أعطاني الله في السبع المثاني ما لم يعطه إلا للأنبياء ) قال محمد تقي الدين، ماذا أعطاه الله في السبع المثاني فالسبع المثاني هي الفاتحة على الراجح من أقوال المفسرين، بل على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في البخاري ومسلم فهل هذا الذي أعطاه الله بزعمكم من العلوم النافعة أو من العلوم الضارة أو من العلوم التي لا نفع فيها ولا ضرر، فإن كان من العلوم النافعة فهو علمكم إياه أو كتمه عنكم فإن علمكم إياه فما هو ؟ وإن لم يعلمكم إياه بل كتمه عنكم فإنكم جعلتموه داخلا في من كتم العلم النافع وفي ذلك وعيد شديد، وهو لعن الله تعالى للكاتم والملائكة والناس أجمعين كما في سورة البقرة رقم 159 : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) } وروى أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا ( من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وإن كان من القسمين الآخرين فلا ينبغي أن يُتَبجح به لأن الجهل به خير من معرفته .
المسالة الرابعة عشرة
ونقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال في صفحة 30 ما نصه ( أعطاني الله تعالى الشفاعة في أهل عصري من حين ولادتي إلى حين مماتي ) ثم نقل ذلك عن مؤلف "جواهر المعاني" علي حرازم وفيه : وزيادة عشرين سنة بعد وفاته اهـ .(92/92)
قال محمد تقي الدين، تقدم أن الشيخ أحمد التجاني ولد سنة (1150) وتوفي سنة (1230) للهجرة وبزيادة عشرين سنة يكون الحاصل أن جميع بني آدم الموجودين في الدنيا من سنة ألف ومائة وخمسين إلى سنة ألف ومائتين وخمسين كلهم يدخلون الجنة بلا عذاب بشفاعة الشيخ التجاني ومدة هذه الشفاعة مائة سنة، ولم يشترط صاحب الرماح ولا من نقل عنه أن يكونوا مسلمين، فلا ندري هل الشرط معتبر عندهم أو غير معتبر، وأظن أنه يبعد أن يراد جميع الناس مسلمهم وكافرهم، لما يلزم عليه من تعطيل الشريعة ومن الشناعة العظيمة، وإذا فرضنا أن المراد بهم المسلمون فقط، يكون ذلك في غاية البطلان لأن هذا الفضل لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو سيد الشفعاء على الإطلاق وبيان ذلك ما أخرجه البخاري في كتاب الوضوء من صحيحه، عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يعدبان وما يعدبان في كبير ، ثم قال بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة) ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منها كسرة، فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)، ومن ذلك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُشفِّعه الله تعالى في أهل عصره لا في كافرهم ولا في مسلمهم، وعمره الشريف (63) سنة، وعمر الشيخ التجاني كان نحو (80) سنة، وزعموا أن الله زاد عشرين سنة فبلغت مائة سنة، لا نعلم أن الله أعطى هذه المزية خير خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في جميع الناس على التفصيل المتقدم ولو ليوم واحد فكيف بشهر ؟ فكيف بسنة ؟ فكيف بمائة سنة ؟ إن هذه الدعوة مناقضة لقواعد الإسلام، وفيها جرأة عظيمة على الله، وبعد عن خشيته، ولم يسبق إليها أحد من خلق الله، وسيجيء إن شاء الله حديث : ( يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت وأنقذي نفسك من(92/93)
النار لا أغني عنك من الله شيئا )؛ يأتي ذلك أن شاء الله تعالى في الفصل الذي نعقده في فضل المتعلقين بالشيخ التجاني .
لا يقال أن الإنسانين الذين سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتهما كانا كافرين، لأن نقول قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه ( وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين )، ففي رواية ابن ماجة ( مر بقبرين جديدين ) فانتفى كونهما في الجاهلية وفي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع قال : ( من دفنتم اليوم ههنا )، فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين والخطاب للمسلمي ، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم ، ويقوي كونهما مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح ( يعذبان وما يعدبان في كبير ) (1) وبلى وما يعدبان إلا في الغيبة والبول، فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين،
__________
(1) وتمام الحديث في جـ / 5 صفحة 266 من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، طبع المكتب الإسلامي هو : (( ..عن أبي أمامة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد ، قال : فكان الناس يمشون خلفه ، قال : فلما سمع صوت النعال وقر ذلك في نفسه ، فجلس حتى قدَّمهم أمامه لئلا يقع في نفسه من الكبر ؛ فلما مر ببقيع الغرقد إذا بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين ؛ قال : فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من دفنتم هنا اليوم ؟ قالوا يا نبي الله فلان وفلان . قال : إنهما ليعذبان الآن ويفتنان في قبريهما . قالوا : يا رسول الله فيم ذاك ؟ قال أما أحدهما فكان لا بتنزه من البول ؛ وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة . وأخذ جريدة رطبة ؛ فشقها ؛ثم جعلها على القبرين . قالوا : يا نبي الله ؛ ولم فعلت ؟ قال ليخففن عنهما . قالوا يا نبي الله ؛ وحتى متى يعذبهما الله ؟ قال : غيب لا يعلمه إلا الله ؛ قال ولولا تمريغ قلوبكم أو تزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع )) .(92/94)
لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب على الكفر بلا خلاف اهـ .
المسألة الخامسة عشرة
قال صاحب الرماح صفحة ( 32 ج 2 ) ما نصه عن شيخ التجاني أن النبي أخبره بقوله عليه الصلاة والسلام بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من رآك في اليومين تكتب الملائكة اسمه في ورقة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة اهـ .
قال محمد تقي الدين : لا يستطيع أحد أن يعتقد هذا الخبر إلا إذا تجرد من العقل والدين والمروءة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الزخرف آية (72) : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) } ورؤية الشيخ ليست من العمل في شيء؛ ولم يثبت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بقرآن ولا حديث صحيح أو ضعيف؛ فإن الكفار والمنافقين كانوا يرونه كل يوم ولم ينفعهم ذلك فلا أنجاهم من عذاب اله ؛ ولا جعلهم من أهل الجنة؛ بل دعاؤه لهم أخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم قال الله تعالى في سورة التوبة آية (80) : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) } .
المسألة السادسة عشرة
روى صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أعطاه الطريقة وأمره أن يلقنها الناس ما نصه : أنه ما تنزل إلى إفادة الخلق بعد ما خبره صلى الله عليه وسلم بذلك إلا بعد قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ، إن كنت بابا لنجاة كل عاص مسرف على نفسه تعلق بي فنعم وإلا فأي فضل لي، فقال صلى الله عليه وسلم أنت باب لنجاة كل عاص تعلق بك وحينئذ طابت نفسه لذلك . قال محمد تقي الدين : في هذا الكلام أمور تدل على بطلانه .(92/95)
أولهما : أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل عاص مسرف على نفسه بابا ليس عليه بواب ولا حرس ولا يتوقف على أحد من البشر وهو باب التوبة؛ وفي الحديث الصحيح أنه مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها؛ وفي ذلك يقول الله سبحانه في سورة الزمر ؛ آيات : ( 53، 54 55 ) : { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) } ففي هذه الآيات إرشاد من الله تعالى لجميع العصاة المسرفين على ما يجب عليهم أن يفعلوه لتغفر ذنوبهم .
فأول ذلك : أن يتوبوا إلى الله تعالى توبة نصوحا بشروطها وقد تقدم ذلك .
ثانيها : أن ينيبوا إلى الله تعالى ويسلموا له أنفسهم ويعملوا بطاعته ويتبعوا رضوانه وإلا جاءهم العذاب ولم يجدوا من ينصرهم أو يدفعه عنهم .(92/96)
ثالثها : أن يتبعوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإلا جاءهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون؛ ولا يصح لهم الإتباع إلا بترك البدع؛ والطرائق كلها؛ ومنها الطريقة التجانية من أقبح البدع؛ وادعاء أن بعض البشر باب لنجاة كل عاص مسرف على نفسه بدعة وتكذيب للقرآن؛ والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله ليس بابا لنجاة كل عاص مسرف على نفسه إلا إذا وحد الله تعالى واتبع الرسول . وبيان ذلك أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما أكثر من محبته لأولاده؛ وقاسى الشدائد في الدفاع عنه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على نجاته؛ ولكنه لما أبى أن يقول (( لا إله إلا الله )) لم يستطيع النبي صلى الله عبيه وسلم أن ينجيه من عذاب الله وقد أخبر أنه يكون في ضحضاح من النار يصل إلى كعبيه يغلي منه دماغه؛ وفي صحيح البخاري قصة وفاة أبى طالب على الكفر واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له إلى نهاه الله عن ذلك بقوله عز وجل في سورة التوبة آية (113) : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) } ولما مات أبو طالب على الكفر حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا فأنزل الله تعالى عليه : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } وقد تقدم الكلام في ذلك .(92/97)
الأمر الثاني : أن الله تعالى قد أكمل الدين وبلغه رسوله البلاغ المبين ولم يبق شيء منه خافيا ولا مكتوما، فكيف يقول له النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الناس، وقد قال الله ذلك في كتابه؛ وقاله ولغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه . فمن ذلك قوله تعالى في سورة يوسف في آخرها : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : ( ليبلغ الشاهد الغائب ) وقد فعلوا ما أُمروا به فلم تبق حاجة إلى أمر جديد لأنه يكون من تحصيل الحاصل وهو محال .
الأمر الثالث : كيف يتصور أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم مسلما صادقا في إسلامه محبا للرسول صلى الله عليه وسلم معظما له بأمر فيقول له أنا لا أفعل هذا الأمر إلا بشرط . هذا لو كان ذلك الشرط صحيحا؛ فكيف وهو شرط باطل يهدم قواعد الدين . وفي ذلك من سوء الأدب ما ينزه عنه أقل المؤمنين إيمانا؛ فكيف بسيد الأولياء على زعمكم .
الأمر الرابع : أن النجاة التي اشترطها الشيخ التجاني بزعمهم على النبي صلى الله عليه وسلم هي بيد الله وحده وليست في يد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يهبها للتجاني أو يمنعه منها ؛ وقد تبين بطلان هذه الحكاية من أساسها والحمد لله رب العالمين .
المسالة السابعة عشرة(92/98)
زعم صاحب الرماح ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تفضل على شيخه التجاني بدائرة الإحاطة؛ التي هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمقامه، ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكنز المطلسم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم وبمقامه . ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخريدة الفريدة؛ التي هي خاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه رضي الله تعالى عنه في إعطاء جميع أوراده من الإسم الأعظم الكبير وما دونه لمن شاء؛ ومنعها ممن شاء؛ ومضى إلى أن قال : ( إنه لما كان دائرة الإحاطة الذي هو الساري في جميع أسماء الله تعالى الظاهرة والباطنة والاسم الذي لا يُلقَّنه إلا القطب وهو الكنز المطلسم الذي ما أُنزل في القرآن ولا في جميع الكتب الإلهية مثله ) انتهى بلفظه صفحة 33 .(92/99)
أقول تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي ولا يمنع؛ وإنما هو مبلِّغ عن الله تعالى؛ وقد بلغ أمته البلاغ المبين وما ترك شيئا يقربهم من الله تعالى إلا بينه لهم قبل وفاته؛ ولا ترك شيئا يبعدهم عن الله إلا حذرهم منه؛ وهذه الأسماء المذكورة هنا ليس لها مسميات؛ وإنما اخترعت وذكرت تهويلا على الجاهلي ؛ وإرهابا لهم وتخديرا لأعصابهم ليزدادوا خضوعا وطاعة ويعبدوا شيخهم بغاية الإخلاص فهي كالغول والعنقاء؛ وأسماء الله تعالى توقيفية؛ ولا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومن سمى الله باسم لم يرو ويصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الذين يلحدون في أسماء الله سيجزون ما كانوا يعملون؛ وقد اطلعت على كلمتين خنفشاريتين في كتاب مخطوط للشيخ المختار الكنتي؛ زعم أنها اسم الله الأعظم ثم بعد ذلك أعطاني الشيخ أحمد سكيرج هاتين الكلمتين وأخبرني أنهما اسم الله الأعظم؛ فعلمت أن تلك الكلمتين تدوران عند جميع أصحاب الطرائق؛ ويتشددون في إعطائهما ويهولون أمرهما حتى أنني حين خرجت من الطريقة التجانية زعم بعض التجانيين أن الشيخ سكيرج حين أعطاني الإسم الأعظم اشترط علي ألا أذكره في كل يوم إلا مرات معدودة فلم أف له بشرطه وذكرته أكثر مما حدد لي فسلبت . إلى هذا الحد بلغ بهم الجهل؛ وقد صدقوا؛ فإني سلبت الشرك والبدعة والضلالة؛ ورزقت التوحيد واتباع السنة والعلم المستند إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا يجوز إطلاق ذلك الإسم على الله تعالى؛ ومن أطلقه عليه فهو ضال ملحد في أسماء الله تعالى؛ فإن قلت أيها القارئ ما معنى قولك خنفشاريتين ؟ فالجواب : أن جماعة من الأدباء زارهم رجل كذاب محتال إلا أنه كان فصيح اللسان؛ وادعى لهم أنه من أهل العلم فما سألوه عن مسألة إلا أفاض في جوابها ارتجالا بما حير ألبابهم . فقال أحدهم : تعالوا نمتحنه لنعلم صدقه من كذبه؛ وكانوا ستة؛(92/100)
فقالوا : ليكتب كل واحد منا حرفا ثم نجمعها فتصير كلمة ونسأله عن معناها . فكتب كل واحد منهم حرفا ثم جمعوا الأحرف فتألفت منها كلمة هي ( خنفشار ) فقالوا أيها الأديب هل تعرف الخنفشار ؟ فقال نعم هو نبات يطول إلى مقدار ذراع وله أوراق مستديرة؛ وفيه لبن وهو صالح يوضع في اللبن الحليب فيحسن طعمه؛ وتطيب رائحته قال الشاعر :
لقد حلت محبتكم بقلبي كما نفع الحليب الخنفشار
وله خواص طبية ونقل عن الأطباء اليونانيين منافع كثيرة لهذا النبات؛ ثم قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع أحدهم يده على فمه؛ وقال أيها الرجل حسبك بهتانا؛ كذبت على علماء اللغة وعلى الشعراء وعلى الأطباء والآن تريد أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا يسمون كل كلمة مهملة؛ مثلوا لذلك؛ بديز؛ مقلوب زيد؛ وهذه الألفاظ التي ذكرها صاحب الرماح ليست مهملة ولكنها وضعت لمعان غير المعاني التي يريد أن يحملها إياها صاحب الرماح؛ أما ما يزعمون أنه الإسم الأعظم فهو كاخنفشار تماما؛ وكيف يمكن أن يتفضل النبي صلى الله عليه وسلم على الشيخ التجاني بما هو خاص به؛ فحينئذ لا يكون خاصا به؛ فإن خصائصه عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون لغيره أبدا لأن الله خصه بها؛ ولو أعطاها غيره لزالت الخصوصية ولكن هؤلاء القوم يزعمون أن علومهم خارجة عن دائرة العقل؛ فمن شاء أن يعرف كلامهم فليترك عقله؛ ومن أراد أن يصدقهم فلينبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنعوذ بالله من الخذلان .(92/101)
كلام شيخ الإسلام إمام المحققين أحمد بن تيمية في القطب والغوث قال رحمه الله في كتابه : ( رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ) ما نصه : يقال ثلاثة أشياء ما لها من أصل باب النصيرية ومنتظر الرافضة وغوث الجهال فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم أنه الذي يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى : { xك™â'ur قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } وموسى لم يكن يعرف الخضر والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وأنى بأرضك السلام فقال له أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال إنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل .(92/102)
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيا عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم : ( لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء وحضوره مع المسلمين ، وقال : (كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها) ، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حيا دائما فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين(1) .
__________
(1) ومما لاشك فيه أن عيسى عليه السلام سيحكم بالكتاب والسنة ؛ لا كما يزعم الضالون من أنه سيحكم بالإنجيل ؛ ولا ما بما زعمه بعض الجهال من أنه سيحكم بالمذهب الحنفي بعد أن يتعلمه من صندوق أودعه الخضر في نهر جيحون ؛ كما ذكر ذلك الحصكفي في مقدمة كتبه (( الدر المختار )) .(92/103)
وقول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر وقال إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان انتهى المراد منه .
قال محمد تقي الدين الهلالي : قول الإمام احمد من أحالك على غائب فما أنصفك لما ذكر له وجود الخضر في زمانه؛ ومعناه من أخبرك بوجود شخص لا تراه ولا تسمعه ولا تدركه بشيء من الحواس ولا جاء خبر عن الله ورسوله بوجوده كالملائكة والجن؛ فقد كلفك مالا تطيق وظلمك حين أراد منك أن تصدقه فيما ادعاه بلا دليل؛ وقد أحسن الإمام أحمد في إنكاره وجود الخضر في زمانه وقد بين شيخ الإسلام عدم وجوده بالأدلة القاطعة وكذلك يقال في القطب وما ادعاه التجانيون لشيخهم من كونه سيد الأولياء وخاتمهم وممدهم؛ وأن قدميه على رقابهم كل ذلك باطل وتضليل فقد تهدم كل ما بنوه من الأباطيل بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم بحكم شيخهم عليهم : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } (1)
فصل في تخريج الأحاديث التي وردت في هذا الفصل وبيان حالها .
أولها حديث ( أول ما خلق الله نوري؛ وفي رواية أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ) تقدم أنه موضوع؛ لا يحل أن ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مقرونا ببيان وضعه
__________
(1) الإسراء آية 81 .(92/104)
ثانيها : حديث ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) قال الحافظ ابن حجر في : (تسديد القوس في تخريج مسند الفردوس ) هذا حديث مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عبلة؛ فقال العجلوني في كشف الخفاء؛ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر؛ ورواه الخطيب في تاريخه بلفظ : قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة فقال عليه الصلاة والسلام ( قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ قالوا وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد هواه ) والمشهور على الألسنة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ دون بقيه وفيه اختصار . الجزء الأول 424 من كشف الخفاء .
ثالثها : حديث ( لولاك ما خلقت الأفلاك ) وأليه أشار البوصيري بقوله :
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
قال الصنعاني موضوع . انتهى من كشف الخفاء(1) .
رابعها : ( خير هذه الأمة أولها وأخرها ) (2) قال السيوطي أنه ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية عن عروة بن الزبير مرسلا . اهـ الفيض ج 3 ص 493 .
__________
(1) قال الألباني في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة )) الحديث رقم 282 : موضوع والقول بأن معناه صحيح : لا يليق .
(2) قال المناوي في (( التيسير بشرح الجامع الصغير )) ص 1 / 532 طبع المكتب الإسلامي : عن عروة بن رويم مرسلا .(92/105)
عود إلى حديث ( أول ما خلق الله نوري ) قال محمد تقي الدين بطلان هذا الحديث يظهر بأدنى تأمل فقد قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وتكرر مثل هذا في القرآن في مواضع لا تحصى إلا بتعب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم؛ وآدم من تراب لا من نور فما هو هذا النور الذي ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أهو روحه الشريفة أم جسمه؛ أم شيء آخر فالجسم كما تقدم من تراب؛ والروح جسم لطيف لا يعلم حقيقته إلا الله وقد جاء في كتاب الله تعالى تسمية النبي صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا؛ وقال الله تعالى في سورة المائدة آية 15 : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } قال بعض المفسرين إن المذكور في أول الآية هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وقال بعضهم هو القرآن؛ عطف الكتاب عطف تفسير كقول الشاعر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا ونورا لا تقتضي أن يكون خارجا عن النوع البشري مخلوقا من النور لأن ذلك خلاف الواقع؛ وخلاف نص القرآن؛ إنما سماه الله سراجا منيرا؛ تشبيها لما أتاه من العلم والهدى بالنور؛ وتشبيها لظلمات الكفر والجهل بالظلمة الحسية فكما أن السراج يبين للناس الطريق المستقيم الذي يسلكونه آمنين مستبصرين لا يخافون ويوصلهم إلى غايتهم المرغوبة فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليمه وإرشاده وتزكيته لمن اتبعه شُبِّه بالسراج وبالنور الذي يحفظ متبعه من مهاوي الهلاك ولا معنى للنور إلا هذا .
الفصل الثاني في فضل المتعلقين بالشيخ أحمد التجاني(92/106)
اعلم أن التجانيين رووا عن شيخهم فضائل تحصل للمتعلقين به مصادمة للكتاب والسنة وإجماع الأمة وزعموا أن الشيخ التجاني كتب تلك الفضائل بيده وسلمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يقرأها ويضمنها له فقرأها وضمنها له وقع ذلك يقظة لا مناما انظر صفحة 44 من الجزء الثاني من الرماح . وهذه الفضائل زعموا أن الله يعطيهم إياها بسبب تعلقهم بشيخهم وسأسرد هنا هذه الفضائل وعددها 39؛ أربع عشرة فضيلة تحصل لكل من اعتقد فيه الخير ولم يعترض على طريقه وكان محبا له ولأصحابه ولكل من أطعمه أو سقاه أو قضى له حاجة إذا استمر على محبته حتى الموت وإن لم يأخذ ورده ولم يصر من أصحاب طريقته وسائر الفضائل وهي خمس وعشرون خاصة بمن أخذ الطريقة والتزم شروطها .
الفضيلة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن له أن يموتوا على الإيمان والإسلام .
الفضيلة الثانية : أن يخفف الله عنهم سكرات الموت .
الفصيلة الثالثة : لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم .
الرابعة : أن يؤمنهم الله تعالى من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة .
الخامسة : أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر .
السادسة : أن يؤدي الله تعالى عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم .
السابعة : ألا يحاسبهم الله تعالى ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير يوم القيامة .
الثامنة : أن يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم القيامة .
التاسعة : أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة .
العاشرة : أن يسقيهم الله تعالى من حوضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
الحادية عشرة : أن يدخلهم الله تعالى إلى الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى
الثانية عشرة : أن يجعلهم الله تعالى مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس وجنة عدن .(92/107)
الثالثة عشرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب من كان محبا له .
الرابعة عشر ة : أن محبه لا يموت حتى يكون وليا قال أي (أحمد التجاني) أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن كل من أحبني فهو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون وليا قطعا؛ وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمني ؛ أنت حبيبي ومن أحبك حبيبي؛ وكل من أخذ وردك فهو محرر من النار؛ وقال ابشروا إن كل من كان في محبتنا إلى أن مات عليها يبعث من الآمنين على أي حالة كان ما لم يلبس حلة الأمان من مكر الله وقال : وأما من كان محبا ولم يأخذ الورد فلا يخرج من الدنيا حتى يكون من الأولياء؛ فلنجعل هذا أخر القسم الأول ونشرع فيما أختص به أهل طريقته المتمسكون بأذكاره فنقول :
الخامسة عشرة : أن أبوي آخذ ورده وأزواجه وذريته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب مع أن أحدا منهم لم يكن له تعلق به بوجه من وجوه التعلقات وإنما نالوا الفضل العظيم والخير الجسيم بسبب هذا الآخذ المتمسك بأذكاره اللهج بها قال ومن أخذ عني الورد المعلوم الذي هو لازم الطريقة أو عمن أذنته يدخل الجنة ووالداه وأزواجه وذريته المنفصلة عنه لا الحفدة بلا حساب ولا عقاب بشرط أن لا يصدر منهم سب ولا بغض ولا عداوة؛ وبدوام المحبة للشيخ بلا انقطاع إلى الممات وكذا مداومة الورد إلى الممات؛ ثم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا الفضل هل هو خاص بمن أخذ عني الذكر مشافهة أو لكل من أخذه ولو بواسطة فقال لي كل من أذنته له وأعطى لغيره فكأنما أخذ عنك مشافهة وأنا ضامن لهم؛ وهذا الفضل شامل لمن تلا الورد سواء رآني أو لم يرني وقال من أخذ وردنا يبعث من الآمنين ويدخل الجنة بلا حساب هو ووالداه وأزواجه وذريته المنفصلة عنه لا الحفدة بشرط الاعتقاد وعدم نكس المحبة .
السادسة عشرة : أنهم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم .(92/108)
السابعة عشرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم أصحابا له صلى الله عليه وسلم وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم : فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأصحابك أصحابي وكل آخذ وردك فهو محرر من النار؛ قال صاحب الرماح قلت ولهذا صار أهل طريقته صحابيين بهذا المعنى حتى قال صلى الله عليه وسلم في حقهم مثل ما قال في الصحابة رضوان الله عليهم لا تؤذوني في أصحابي .
الثامنة عشرة : أن كل ما يؤذيهم فإنه يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن محاورة وقعت ببين رجلين من أصحابه فأمر أن يُصلحوا بينهما فوراً ثم أخبر أنه وقع لي الأمر بالصُّلح بينهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ما يؤذي أصحابه .
التاسعة عشرة : أن الإمام المهدي المنتظر أخ لهم في الطريقة؛ قال صاحب الرماح أخبرني محمد الغالي أن واحدا من أصحاب الشيخ قال لآخر بحضرة الشيخ أن الإمام المهدي يذبحنا إذا ظهر فقال له الشيخ لا يذبحكم لأنه أخ لكم في الطريقة وإنما يذبح علماء السوء وقال إذا جاء المنتظر يطلب من أصحابنا الفاتحة اهـ .
قال محمد تقي الدين : مقتضى قولهم واعتقادهم أن علماء السوء هم علماء الكتاب والسنة الذين يردون ضلالهم وباطلهم بحجج الوحي وهذا قلب للحقائق فنعوذ بالله من الخذلان اهـ .
الموفية عشرين : أن أهل طريقته كلهم أعلى مرتبة من أكابر الأقطاب؛ وقال لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الأكابر؛ ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الحادية والعشرون : لا تستحق الذكر؛ وكذلك ما بعدها إلى الخامسة والعشرون بدخول الغاية .(92/109)
السادسة والعشرون : أن الله تعالى يعطيهم من عمل كل عامل تقبل الله تعالى عمله منه أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطي صاحب ذلك العمل؛ قال كل من عمل عملا صالحا من أعمال البر وتقبل منه يعطينا الله تعالى ولأصحابنا على ذلك العمل أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطي صاحب ذلك العمل سواء قل ذلك أو كثر مفروضا كان أو غير مفروض ونحن رقود ولله الحمد اهـ .
ثم ذكر صاحب الرماح آيات كثيرة تدل على سعة فضل الله ولكن ذلك لا يجديه فتيلا لأن فضل الله لا يجوز أن يثبت إلا من طريق الوحي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومن زعم أنه يتلقى الأخبار بالثواب أو العقاب من غير الكتاب والسنة فخبره باطل مردود عليه لا يساوي فتيلا بإجماع أئمة المسلمين ولا يقبل مثل هذا إلا الباطنية الذين يزعمون أنهم يتلقون الوحي من غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كفار بإجماع المسلمين قال الله تعالى في سورة الزخرف آية 45 : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } فلا سبيل إلى معرفة ثواب أو عقاب إلا من القرآن وكلام المعصوم فالاستدلال بتلك الآيات مغالطة مخادعة وتضليل لا يروج مثله إلا في سوق الجاهلين { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) } .
السابعة والعشرون : أنهم لا يحضرون أهوال الموقف؛ ولا يرون صواعقه وزلازله بل يكونون مع الآمنين عند باب الجنة حتى يدخلون -كذا - مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الزمرة الأولى مع أصحابه ويكون مستقرهم في جواره صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين مجاورين أصحابه صلى الله عليه وسلم .(92/110)
الثامنة والعشرون : أن أكثرهم يحصل له في كل يوم فضل زيارته صلى الله عليه وسلم في روضته الشريفة وزيارة جميع أولياء الله تعالى الصالحين من أول الوجود إلى وقته؛ قال أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة تسمى بجوهرة الكمال من ذكرها اثنتي عشرة مرة وقال هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زاره في روضته الشريفة وكأنما زار أولياء الله تعالى والصالحين من أول الوجود إلى وقته .
التاسعة والعشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع أهل هذه الطريقة كل يوم ذكرهم المسمى بالوظيفة حين يقرؤون جوهرة الكمال وكل من قرأها منهم سبع مرات فأكثر يكون النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة معه ما دام يذكرها .
الموفية ثلاثين : أن لهم علامة يتميزون بها عن غيرهم ويعرف بها أنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراؤه وهي أن كل واحد منهم مكتوب بين عينيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه الطريقة التجانية منشأها الحقيقة المحمدية .
الحادية والثلاثون : أن لهم من الله تعالى لطفا خاصا بهم أخبرني محمد الغالي أن النبي قال للشيخ من نظر إلى وجهك غفر الله تعالى له؛ وأن الشيخ قال لأهل هذه الطريقة من الله تعالى لطفا خاصا بهم بعد لطفه العام لهم ولغيرهم ولذلك قال إن صاحبي لا تأكله النار ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعدها .(92/111)
الثانية والثلاثون : أن كل من لم يحترمهم وكان يؤذيهم طرده الله عن قربه وسلبه ما منحه؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يغار لآهل هذه الطريقة غيرة خاصة كما كان صلى الله عليه وسلم يغار لأصحابه لأن أهلها فقراؤه وتلاميذه كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كذلك؛ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له إذا مر أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط وأما غيرهم من الأولياء فلا؛ وذلك كله لشدة اعتنائه بأهلها لأجل حبيبه وولده الذي قال له أنت ولدي حقا، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه يعني (التجاني) أنت ابن الحبيب ودخلت في طريقة الحبيب؛ وقال صلى عليه وسلم لمن أرسله إلى الشيخ يقظة لا مناما قل لحبيبي التجاني ولشدة محبته صلى الله عليه وسلم فيه أخبره أن كل من أحبه لا يموت حتى يكون وليا وضمن صلى الله عليه وسلم له أن كل من سبه ودوام على ذلك لا يموت إلا كافرا؛ وهذه المحبة منه لشيخنا هي التي سرت منه صلى الله عليه وسلم لأهل طريقته حتى قال صلى الله عليه وسلم قل لأصحابك لا يؤذوني بإذاية بعضهم بعضا .
قال الشيخ التجاني : إن لنا مرتبة عند الله تناهت إلى حد يحرم ذكره ليست هي ما أفشيته لكم؛ ولو صرحت بها لأجمع أهل الحق والعرفان على كفري فضلا عمن عداهم وليست هي التي ذكرت لكم بل هي من ورائها؛ ومن خاصية تلك المرتبة أن من لم يتحفظ على تغيير قلبي بعدم حفظ حرمة أصحابنا طرده الله تعالى عن قربه وسلبه ما منحه .
قال محمد تقي الدين : لم يستوفي صاحب الرماح الفضائل التي وعد بذكرها بل اقتصر على ذكر ثلاث وثلاثين وفي ما ذكره من الطوام والضلالات ما لا يُبقي شكا في أن هذه الطريقة على الحال الراهنة يستحيل أن تجتمع في قلب شخص واحد مع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحنيف المبني على الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ وسنعقب عليها بالنقد والنقض حتى يتضح بطلانها وتنجلي ظلمتها؛ بحول الله وقوته وحسن توفيقه .(92/112)
اعلم أيها القاري الموفق لمعرفة الحق واتباعه مع من كان وحيث كان؛ أن ما ذكره صاحب الرماح من الفضائل بزعمه له ولإخوانه في الطريقة ولشيخهم بزعمهم مردود من وجوه بعضها إجمالي وبعضها تفصيلي؛ ولنبدأ بالإجمالي فنقول :
كل ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار هو من شر أقسام الموضوع المفترى وقد خاب من افترى؛ فإن الأمة بعلمائها وأئمتها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة، أجمعت على أنه لا طريق لتلقي خبر من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع والمشاهدة في حياته الدنيوية؛ أو بواسطة الثقاة الأثبات بالسند المتصل وما ذكروه من الأخبار ليس له أصلا سند وما زعموه من السماع كذب بإجماع الأئمة؛ ومن خرق إجماعهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم؛ وكان مشاقا للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعا غير سبيل المؤمنين ومن ذلك أن تلك الأخبار مناقضة لكتاب الله وللأخبار الصحيحة المروية بأسانيد معلومة التواتر؛ أو الصحة العالية وإذا قرأت ما تقدم من الرد تبين لك من خلاله فساد تلك الأخبار وبطلانها واضمحلالها .
أما الرد التفصيلي : فسأذكر ما تمس الحاجة إليه ولا أتعرض لما هو واضح البطلان؛ أو تقدم رد مثله؛ وكل ما ذكره واضح البطلان بالنسبة إلى الخاصة؛ أما العامة فيحتاجون إلى زيادة بيان؛ وينحصر ذلك في أمور :(92/113)
الأول : قوله في الفضيلة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن له أن يموتوا على الإيمان والإسلام : فيه جهل بالإيمان لأن من مات على الإيمان فلا حاجة إلى ذكر الإسلام بعد الإيمان لأن الإيمان الصحيح يتضمنه ولم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم الموت على الإيمان لأحد . إلا من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة يلزم أن يموت على الإيمان؛ وفي حديث ابن عباس عند مسلم حين قال عكاشة بن محصن للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يجعلني منهم - أي من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب - فقال له أنت منهم قام رجل من أصحابه عليه الصلاة والسلام فقال مثلما قال عكاشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة ولم يتجرأ أحد بعده أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بصفتهم وهي أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون . فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب على أعمال من وفق لها حصل له ذلك . فالتجانيون بزعمهم أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل المحبون للتجاني المسلمون بما جاء به حسب زعم التجانيين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولو فعلوا من الذنوب ما فعلوا ولم يشترط عليهم إلا أن يداوموا على محبته الشيخ التجاني وتعظيمه؛ وهذا مضاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .(92/114)
الأمر الثاني : نقل صاحب الرماح في الفضيلة الثانية عن شيخه أنه قال : إن اتباعه يخفف الله عنهم سكرات الموت؛ ونقل عنه في الفضيلة الثالثة والثلاثين أنهم لا يذوقون حرارة الموت وهي المعبَّر عنها بسكرات الموت؛ وهذا من أعظم الجهالات فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله ذاق سكرات الموت؛ أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأخرج عنها أيضا أنها كانت تقول أن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك فقلت أخذه لك فأشار برأسه أن نعم فتناوله فاشتد عليه وقلت ألينه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته فأمره وبين يديه ركوة أو علبة بشك عمر فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده .
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر الحديث : وعند أحمد والترمذي وغيرهما من طريق القاسم عن عائشة قالت : رأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت فيُدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : ( اللهم أعني على سكرات الموت ) وفي رواية شقيق عن مسروق عن عائشة قالت : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم اهـ .
فتبين مما ذكراه أن الفضيلة الثانية والثالثة والثلاثين جهل بالفضيلة وجهل بما فطر الله عليه عباده وكذب عليه لآن سيد خلق الله لم يحصل له ذلك بل حصل له ضده فالخير والفضل في ما حصل له عليه الصلاة والسلام .(92/115)
الأمر الثالث : في الفضيلة الثالثة؛ وهي أن التجانيين لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم وهو رجم بالغيب وتقوُّل على الله إذ لا سبيل لمعرفة ذلك إلا بطريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولن يجدوا إلى إثبات ذلك عنه عليه الصلاة والسلام سبيلا حتى يلج الجمل في سم الخياط .
ومثل ذلك يقال في الرابعة؛ فهو تأمين ممن لا يملك لنفسه أمنا و لا خوفا فكيف يملك لغيره
الأمر الرابع : في الفضيلة الحادية عشرة؛ وهي زعمهم أن الله سبحانه وتعالى يدخلهم الجنة بلا حسب ولا عقاب في أول الزمرة الأول ؛ هذا تكذيب لنصوص الكتاب والسنة وتخصيص عمومها والتخصيص نسخ لبعض الأفراد التي يشملها الحكم؛ وقد أجمع علماء الأصول أنه لا ُيخصَّص الكتاب والسنة إلا بالكتاب والسنة لأنه استثناء فلا يجوز أن يكون إلا لمن له الأمر والنهي؛ وهذا ينسحب على جميع الفضائل التي ادعاها التجانيون لأنفسهم وتقولوا بها على الله ورسوله وعلى شيخهم الذي أساءوا إليه كل الإساءة بنسبة هذه الأقوال الخارجة عن العقل والنقل المكذِّبة لكتاب الله وسنة رسوله الصحيحة المتواترة بنسبة ذلك إلى هذا الشيخ .(92/116)
وقال البخاري في كتاب التفسير من صحيحه؛باب وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك؛ ألن جناحك؛ وروى بسنده إلى بن عباس لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا وجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي؛ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش؛ فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ قالوا نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال إني نذير لكم بين عذب شديد؛ قال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) } وروى بسنده إلى أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } قال يا معشر قريش أو كلمة مثلها؛ اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا فاطمة بنت محمد ساليتي من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا .(92/117)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الشعراء ما نصه؛ يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ومخبرا أن من أشرك به عذبه؛ ثم قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين الأدنين إليه وإنه لا يخلِّص أحدا منهم إلا إيمانه بربه عز وجل وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين؛ ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه؛ ولهذا قال : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) } وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرض من أجزائها ومضى إلى أن قال : وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ثم ذكر الحديث السابق من رواية الإمام أحمد ثم قال الحديث الثان ؛ قال الإمام أحمد بسنده إلى عائشة قالت لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب؛ يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ) انفرد بإخراجه مسلم؛ ثم ذكر حديث أبي هريرة المتقدم ومن خرجه إلى أن قال أخرجاه في الصحيحين وهو الحديث الثالث فيما ذكر ابن كثير؛ ثم ذكر هذا الحديث نفسه بروايات مختلفة في الأسانيد والألفاظ متفقة في المعنى من حديث بن عمرو وعلي بن أبي طالب اهـ .(92/118)
قال محمد تقي الدين : تعالوا نتأمل هذه الآية وما جاء في تفسيرها من امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه نجد فيها أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخص بالإنذار بعد التعميم أقرب الناس إليه؛ فاطمة وصفية والعباس وبني هاشم؛ ومن بعهدهم الأقرب فالأقرب فماذا فهم النبي صبى الله عليه وسلم من أمر الله له فهم أن الله أمره بعد الإنذار العام لجميع الناس أن يخص أقرب الناس إليه بإنذار خاص؛ و لماذا أمره بذلك ؟ أمره بذلك لئلا يتَّكِل الأقربون على قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقصروا في العمل أو يرتكبوا المحذور اعتمادا على تلك القرابة فاخبرهم الصادق المصدوق تبليغا لأمر ربه أنه لا يملك لهم من الله شيئا وأن قرابتهم منه لا تنقذهم من النار؛ وإنما ينقدهم إيمانهم وعملهم الصالح فهب أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب التجاني أشد المحبة ويعترف أنه من ذريته فإنه لا يبلغ جزء من ألفَ ألف مما بلغه أولئك من القرب والمحبة؛ ولم يضمن لأحد منهم دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب . ولا سكت عن هذا الأمر حتى يدخل في الحسبان أو تمتد المطامع إليه؛ بل أمره الله بالتصريح بنفيه فنفاه على رؤوس الأشهاد؛ فكيف يجيء التجانيون في آخر الأزمنة وشرها وأرذلها فيحاولون إثبات ما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم لمن لا يساوي فتيلا ولا نقيرا من فضل الله أولئك الأقارب الأكرمين؛ فأي عاقل يصدق قولهم ولو لم يكن مسلما؛ فكيف بمن آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر إنكم لتقولون قولا عظيما؛ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا؛ فأوبوا إلى رشدكم وتوبوا إلى ربكم من هذه المقالة الفظيعة؛ والحكاية الشنيعة؛ وبرئوا الشيخ التجاني منها؛ ولا تلوثوا سمعته؛ فإن أبيتم فقد تبرأ منكم كما تقدم منقولا من الإفادة الأحمدية فإنما بغيكم على أنفسكم ووبال كذبكم لا يعود إلا عليكم والهدى بيد الله .(92/119)
وقد أشار الحافظ رحمه الله على ما تضمنه آية الشعراء من أن من عصى هذا الإنذار فقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر ربه سواء أكان من الأقارب أم الأباعد؛ فإن عصوك فقل إني برء مما تعملون ؛ فإن لم يتب التجانيون من هذا البهتان يكونون داخلين دخولا أوليا فيمن تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وحسبهم ذلك خزيا ومقتا عند الله وعند المؤمنين؛ وبهذا تتهدم جميع القصور التي بناها التجانيون على الرمال بل على شفا جرف هار { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (82)؛ وقد بدا لي أن أثبت هنا قصيدة تائية قلتها بعد توبتي من الطريقة التجانية يفرح بإنشادها الموفق المهتدي ويغص بها المخذول المعتدي وهذا نصها :
خليلي عوجا بي على كل ندوة بها قول الرسل يروي بقوة
ولا تقربا مجلس الرأي إنه ضلال يحيط التابعيه بهوة
على مجمع فيه كتاب الهنا يفسر تفسيرا بعلم وحكمة
لدى ثلة قد نور الله قلبهم وخصهم بالهدى أفضل نعمة
فصانوا كتاب الله جل جلاله عن اللغو والتحريف اسوأ بدعة
وردوا افتراء الخلف من ضل سعيهم وقد فرقوا من شؤمهم خير شرعة
وأصلوهم حرب الفرنج بهمة كسيف صقيل في مضاء ولمعة
إليهم أجوب البَر والبحر آويا لا نظر من فازا بنور ونظرة
وأقبس من أنوارهم علم سنة وذلك قصدي في اغترابي وهجرتي
وأبعد عن أهل البدائع والخنا وأدرك روحا من عناء وغربتي
وليس مرادي غربة البعد والنوى ولكنها في الدين أعظم كربة
ولما أبان الله لي نور دينه وأنقذني من طرق أصحاب خرقة
أولئك قوم بدلوا الدين بالردى وقد مرقوا من هدية شر مرقة
وأبغضني الأقوام حين نبذتهم وملت إلى قفو الكتاب وسنة
وقد قلبوا ظهر المجن وخشنت صدورهم لي واستعدوا لمحنتي
وقد زعموا هجري وشتمي قربة وكل جليس لي سيرى بسرعة(92/120)
وقد جزموا أني أموت على الردى وأخلد في النيران من أجل رجعتي
أماني حمق تضحك الثاكل التي بواحدها سارت ركاب المنية
نبذتهم نبذ النوى وتركتهم وهاجرت كي أحظى بسؤلي ومنيتي
ومالي ولي رفيق مصاحب ولا ناصر ألا إله البرية
عليه اعتمادي لا على أحد سوا ه فهو قدير أن يجود ببغيتي
وما أطلب المال الذي هو زائل سوى بلغة لا بد منها لخلتي
سفرت إلى مصر لأخبر خبرها وانظر هل فيها شفاء لغلتي
ومن قبل قد أخبرت أن في ربوعها رجال لنصر الدين أصحاب شدة
وصلت فلم ألق سوى أهل بدعة وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يدرس جهرة بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة قبورا عظاما ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة
لها جعلوا قسما بمال والدة فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حثالة مستضعفين رأيتهم تسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ويدعون ما اسطاعوا لبيضا نقية
وما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم لأنهم أهل النفوس الأبية
أقمت بها عاما إلى الله داعيا فأرشد رب الناس قوما بدعوتي
يعدون بالآلاف في الريمون كلـ ـهم أهل إخلاص وأهل فتوة
ومن بعد ذا سافرت للحج راجيا قبولا من الله الكريم لحجتي
فأتممته والحمد لله سائلا من الله يهديني سواء المحجة
وكنا سمعنا أن بالهند فرقة على السنة الغرا بصدق وحجة
فقلت عسى منشودتي عندهم ترى وهزتني الأشواق أية هزة
بلغت فألفيت المخبر صادقا وشاهدت سنات تجلت بعزة
قد اخترت دهلي للإقامة إنها بلاد علوم الدين فيها تسنت
وقد شفيت نفسي وزال سقامها غداة رأت عيني مساجد سنة
فلا تسمعن فيها سوى قال ربنا وقال رسول الله خير البرية
لقد مثلوا خير القرون لناظر بقول وفعل واجتهاد ونية
إمامهم خير الأئمة كلهم عليه من الرحمن أزكى تحية(92/121)
الأمر الخامس في الفضيلة الرابعة عشر؛ وهي زعمهم أن محب الشيخ لا يموت حتى يكون وليا تقدم أن الولي بالمعنى الذي يقصونه لا وجود له في دين الإسلام لأن المؤمنين كلهم أولياء الله؛ والكافرون كلهم أعداء الله؛ فقد اتعبوا أنفسهم في غير طائل؛ وبقية الكلام في الرابعة عشر تقدم إبطاله إلا قولهم إن آخذ الورد التجاني يحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة فيقال لهم كذبتم على النبي إذ ليس لكم دليل على هذا بإجماع المسلمين؛ ثم كيف يعرف النبي صلى الله عليه وسلم كل من أخذ الورد هل هو بكل شيء عليم ؟!! لا يعلم الغيب إلا الله فإن زعمتم أنه يعلم الغيب فقد كفرتم ورددتم القرآن والسنة الصحيحة .
أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه بسنده عن ابن عمر رضي الله عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تفيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم الساعة إلا الله ) .(92/122)
وهذا الحديث يفسر قوله تعالى في سورة الأنعام : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } وتقدم الاحتجاج على ذلك بقوله تعالى في سورة الأنعام : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } ونصوص الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة؛ وقال القسطلاني قال الزجاجي من زعم أن أحدا غير الله يعلم شيئا من هذه الخمسة فقد كفر بالقرآن العظيم؛ وأما الوِرد أيُّ وِرد كان فهو بدعة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) فأخذ الورد في النار لنص الحديث؛ فكيف يكون محررا من النار سبحانك هذا بهتان عظيم . وكل ما رتبوه على أخذ الورد من دخول آخذه الجنة بلا حساب ولا عقاب ودخول ذريته وأزواجه وغير ذلك ينطبق حديث كل بدعة ضلالة وبذلك ينهار بنيانهم؛ والحمد لله رب العالمين .(92/123)
ويقال زيادة على ذلك من أخذ الأوراد المشروعة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن له دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب فكيف بوالديه وأزواجه وأولاده بل لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشهد على أحد بأنه من أهل الجنة إلا إذا شهد له المعصوم صلى الله عليه وسلم . أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مضعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان عندنا فمرضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل وقال رسول الله صلى عليه وسلم : (وما يدريك أن الله تعالى أكرمه) فقالت لا أدري بأبي أنت وأمي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ) قالت والله لا أزكي أحدا بعده أبدا؛ وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم ( ذاك عمله ) .
قال بن كثير انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم وفي لفظ له : ( ما أدري ورسول الله ما يفعل به ) وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسُراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وأمثالهم .
الأمر السادس : في السادسة عشرة وما بعدها زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لشيخهم تلاميذك تلاميذي وفقراؤك فقرائي وأصحابك أصحابي وأنا مربيهم وبنى على ذلك صاحب الرماح قوله أن جميع التجانيين صحابة .(92/124)
قال محمد تقي الدين : وهذا هوس عظيم لأن التلميذ هو الذي يتلقى العلم من شيخه وكيف يكون كل تجاني من أواخر القرن الثاني عشر إلى آخر الدهر تلميذ للنبي صلى الله عليه وسلم ولم ير أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمع منه حرفا واحدا؛ و لا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم؛ وهل هذا إلا مثل من يقول إن جميع بني آدم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء بل تلاميذ آدم وهذا كذب بحت يُستحيى من قوله لو كانوا يعقلون؛ وأما قولهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن التجانيين كلهم فقراؤه؛ فهو كلام من يهرف بما لا يعرف فإنه لا يجوز أن يكون أحد فقيرا إلا لله تعالى و لا يستثنى من ذلك أحد قال الله تعالى في سورة فاطر : { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } وأعجب من ذلك أن يكون التجانيون كلهم من الصحابة وبين أوائلهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم زهاء ألفٍ ومائتي سنة (1200) فما أشبه هذا الكلام بالهذيان؛ والصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات على ذلك؛ وأما قولهم : إن من آذى أحدا من التجانيين فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو فرية بلا مرية وتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا علم؛ وقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا مربيهم فكيف يربيهم والتربية الصوفية باطلة وبدعة وأما التربية المحمدية وهي تعليم العلم فإنها مستحيلة كما تقدم فإن أرادوا بالتربية توجيه قلوبهم إلى الله تعالى والتصرف فيها بالهداية فهو شرك بالله إذ لا يقدر على ذلك إلا الله كما تقدم؛ ولكن القوم تعودوا أن يتكلموا بكلام لا معنى له يضلون به جهلة الناس وعوامهم؛ ويهولون عليهم به ليستعبدوهم ويستتبعوهم .(92/125)
الأمر السابع : في الثامنة عشرة؛ قال تخاصم اثنان من التجانيين على عهد الشيخ التجاني فظهر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك للشيخ التجاني وأمره أن يصلح بينهما؛ وقال له ما يؤذي أصحابه يؤذيه عليه الصلاة والسلام .
أقول : قال الله تعالى في سورة الأحزاب : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) } والوعيد الذي في هذه الآية ينطبق على التجانيين لأنهم آذوا الله ورسوله بالكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبالابتداع في الدين والإتيان بشرع لم يأذن به الله؛ وآذوا جميع المؤمنين بل جعلوهم من أهل النار وأنهم يموتون كفارا إذا لم يؤمنوا بباطلهم وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف فإن لم يتوبوا من ذلك كما تبت أنا وكما تاب شيخنا محمد بن العربي العلوي وكما تاب الشيخ الصالح الورع الزاهد محمد أبو طالب الإدريسي الحسنى رحمة الله عليه وتاب كثير من العلماء لا يمكن حصرهم ويطول تعدادهم فإنهم موعودون بما في هذه الآية والتي بعدها، من اللعن والعذاب المهين؛ ومتصفون باحتمال البهتان والإثم المبين .
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ** وهات حديثا ما حديث الرواحل(92/126)
الأمر الثامن : في التاسعة عشرة؛ وهي زعمهم أن الأمام محمد بن عبد الله المهدي المنتظر كما جاء في الأخبار ح يكون تجانيا؛ بهتان عظيم لا يوافقهم عليه أحد؛ لا من الأولين ولا من الآخرين؛ وما لهم عليه دليل إلا الرجم بالغيب وبطلانه واضح؛ لأن هذا الإمام يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بالكتاب والسنة وحاشاه أن يركب البدعة وطريقتهم مبتدعة ظلمات بعضها فوق بعض لا يرتضيها أحد متمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان قليل العلم بعيدا من مرتبة الإمام فكيف بإمام المسلمين؛ الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة الكاملة وإقامة العدل والإحسان والقضاء على الضلالة والعدوان .
بالملح يصلح ما فسد ** كيف إذا الملح فسد
فدعوا بالله عليكم هاته الترهات فإنها لا تجلب عليكم إلا المقت من الله والسخط والاحتقار من الناس وكونوا أذنابا في الحق فهو خير لكم من أن تكونوا رؤوسا في الباطل؛ ولعمري لقد نصحت ولكن كم نصيح مشبه بظنين؛ وقد صدق ذلك التجاني الذي قال عن المهدي سيذبحهم فما أعقله لأن المهدي لا بد أن يقطع دابر المبتدعين كلهم من التجانيين وغيرهم ولا يترك ولا يوالي إلا المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم :
أهل الحديث عصابة الحق فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم عز منضرة لألاؤها كتألق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ما أدركوه بها من السبق
ـــــــــــ
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
الأمر التاسع : في السادسة والعشرين؛ وهي من أعظم الطوام وهي زعمهم أن كل من عمل عملا وتقبل منه ذلك العمل يعطي الله سبحانه كل تجتني مائة ألف ضعف من الثواب على ذلك العمل وهو راقد في فراشه .
تعلقوا بأماني وما علموا أن المنى رأس أموال المفاليس
ـــــــــ
لا تغتر بالأماني واكتسب عملا إن الأماني والأحلام تضليل(92/127)
هذه الدعوى من أعرق الدعوى في البطلان وبطلانها كالشمس في رابعة النهار لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح فيها عنزان؛ وقد أتعب صاحب الرماح نفسه فنقل عن شيخ الإسلام أحمد ابن تيميّة رحمه الله؛ وجوها كثيرة في حصول الثواب للإنسان من غير عمله يريد أن يموه بذلك ليثبت مثل هذه الدعوى؛ فيقال له : لقد أبعدت النجعة ونفخت في غير ضرم؛ واستسمنت ذا ورم(1) فإننا : لا ننكر انتفاع الإنسان بعمل غيره إذا أخبر به الصادق المصدوق وقد أجمع المسلمون على أن الدعاء والصدقة ينفعان الميت وليسا عمله أما ما ادعيتم في هذه الطامة التي هي من بنات غيركم فليس لكم عليه دليل لأن أمر الثواب من أمور الغيب لا يُعلم إلا من طريق الوحي ولا يثبت بوحي الشياطين البتة؛ والشيخ التجاني الذي كذبتم عليه لا ينزل عليه الوحي لأن الوحي انقطع بوفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجب على كل مسلم أن يقتنع بما جاءنا به ففيه الغنية والكفاية فقد دليتم أنفسكم بالغرور { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) } فالبصير هو المتبع للوحي والأعمى هو الذي يطلب الشراب من السراب؛
__________
(1) إن هذا التستر ببعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ ليس إيمانا بما يقول . وإنما تزلفا للمسلمين لتروج بضاعتهم ؛ كما يفعله كثير من تلامذة الكوثري من أمثال عبد الفتاح أبو غدة حيث يخلط كلام شيخ الإسلام أبن تيمية مع كلام شيخه الكوثري الضال ليروج ذلك عند الذين لم يطَّلعوا على أباطيل الكوثري ؛ وكثير ما يُحيل على كتب الكوثري مع أن في هذه الصفحات الطعن بالصحابة ؛ والإمام أحمد وابنه عبد الله وبابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من علماء الإسلام .(92/128)
والنور في الوحي والظلمات في المبتدعات المخترعات والظل الظليل في الاكتفاء بهدى الرسول الجليل والحرور في الابتداع والخروج عن سواء السبيل والأحياء هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأموات هم المغترون بآرائهم وآراء شيوخهم .
تنبيه
السابعة والعشرون تقدم الجواب عن أمثالها؛ والثامنة والعشرون كذلك؛ أما قولهم فيما يسمى بجوهرة الكمال فسيأتي الكلام عليها في فضل الأذكار والأوراد إن شاء الله .
الأمر العاشر : في الموفية ثلاثين؛ زعم صاحب الرماح وأهل طريقته أن لهم علامة يتميزون بها . وهي أنهم مكتوب بين عيني كل واحد منهم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه : الطريقة التجانية منشأها الحقيقة المحمدية .
قال محمد تقي الدين : أناشدكم الله الذي خلق السماوات والأرض والذي جعل الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أيكم قرأ هذه الكتابات ؟ ألا تخافون الله لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وفقد خاب من افترى . إن هذا الخبر لا يمكن أن يصدقه مسلم إلا إذا جاء من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله يطلعه على ما شاء من غيبه كما جاء في الحديث الصحيح : أن الدجال مكتوب على جنبيه (كافر ) لقد أطلقتم العنان لخيالكم فتوبوا إلى بارئكم ولا تقفوا ما ليس لكم به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائكم تكونون عنه مسؤولين يوم تكونون بين يدي الله واقفين وكيف ترغبون عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تصديق هذه الأباطيل التي لا تقوم على أساس . وإنما هي من الخرص والإفك المبين .(92/129)
الأمر الحادي عشر : في الحادية والثلاثين ؛ زعموا أن لله لطفا خاصا بالتجانيين غير اللطف العام لجميع المسلمين ويقال في هذا مثل ما قيل في ما تقدم ؛ وزعم صاحب الرماح أن محمد الغالي أخبره أن الشيخ التجاني قال صاحبي لا تمسه النار ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعد ذلك مفهومه إن لم يتب تمسه النار ؛ وهذا يهدم كل ما تقدم من أن آخذ ورده فهو محرر من النار وأنه من الآمنين وأن الله يغفر له ما تقدم من ذنوبه وينجيه من جميع عذابه وتخويفه وأن الله يؤذي عنه جميع تبعاته من فضله لا من حسناته وأنه لا يرى أهوال الموقف وأنه يدخل الجنة في أو ل الزمرة الأولى هو ووالداه وأولاده وأزواجه وهذه معضلة يجب على التجانيين أن يحلُّوها ولن يستطيعوا إلى حلها سبيلا فقد أُخذوا بإقرارهم هكذا يقال أولا ويقال ثانيا : إن كان القتل الذريع تتوقف مغفرته على التوبة فما لكم فيه من فضل؛ فإنَّ كل قاتل باب التوبة أمامه مفتوح ويجب مع ذلكم أن تؤمنوا بقوله تعالى في سورة النساء آية 92 : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } وحسب عقيدتكم أن هذا العموم مخصوص لا بالتوبة وحدها بل يكون القاتل تجانيا؛ وهكذا يقال في كل ما ادعيتم لأنفسكم من الفضائل؛ واسمعوا ما يقوله المفسرون في هذه الآية إن كنتم بها مؤمنين قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيرها؛ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } الآية . وقال تعالى : { * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }(92/130)
إلى أنْ قال : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } في أواخره سورة الأنعام؛ والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا؛ فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء ) وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال المؤمن معتقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإن أصاب دما حراما بلح )
أي وقع في الهلاك؛ وفي حديث آخر ( لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبَّهم الله في النار ) وفي الحديث الآخر ( من أعان على قتل المسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) .
قال محمد تقي الدين : وكل تجاني يَكتب ذلك الخبر أو يصدقه أو يقتني كتابا هو مدرج فيه مع تصديقه يلحقه هذا الوعيد لأنه يعين على قتل المسلمين بكلمات كثيرة شطر واحدة منها يجعله يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله؛ فهذه الكتابة حق أخبر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ أما الكتابة التي زعموها فهي مكذوبة .(92/131)
ثم قال ابن كثير : وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا؛ وقال البخاري بسنده إلى ابن جبير قال اختلف أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس؛ فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء؛ ورواه مسلم و أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال ما نسخها شيء وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الآية لقد نزلت من آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قُبض رسول لله صلى لله عليه وسلم وما نزل وحي بعد رسول الله؛ قال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجئ يوم القيامة آخذ قاتله بيمينه أو بيساره أو أخذا رأسه بيمينه أو بشماله تخشب أوداجه دما من قبل العرش يقول يا رب سل عبدك فيم قتلني ؟ وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاجم وروى أحمد والنسائي بسنديهما إلى معاوية يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل أن يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ) والذي عليه جمهور سلف الأمة أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله إن تاب وأناب اهـ .(92/132)
قال محمد تقي الدين : وما ادعاه التجانيون من أن الواحد منهم لا تمسه النار ولو قتل سبعين نفسا إن تاب لا خصوصية لهم في ذلك وادعاؤهم لا يساوي فتيلا وقد أساؤوا فيها كل الإساءة في ذلك القول الأثيم الذي فيه تحريض على قتل المسلمين وتهوين لأمر القتل وذلك خلاف ما جاء عن الله ورسوله ولم يسبقهم إلى ذلك سابق ولا لحقهم في ذلك لاحق وليس لهم أن يحتجوا بحديث الذي قتل مائة نفس لأن ذلك جاء تائبا فأفتاه المفتي الأول الذي أتم به المائة بأنة لا توبة له وقد اخطأ في ذلك؛ أما التجانيون فلم يجئهم أحد يريد التوبة بل أخذوا يحرضون الناس على القتل ابتداء فافهم الفرق .
الأمر الثاني عشر في الثالثة والعشرين : زعم صاحب الرماح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشيخ التجاني إذا مر أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط وأما غيرهم من الأولياء فلا .(92/133)
قال محمد تقي الدين الهلالي : هذا الكلام ركيك لا يصدر عن عالم يعرف ما يقول فكيف يصدر عن أحد الأئمة فضلا عن الصحابة فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم هو على ظاهره مستحيل؛ إذ لا يمكن أن يمر أحدُ التجانيين بأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البتة؛ لأن التجانيين لم يوجدوا إلا في أواخر القرن الثاني عشر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي آخرهم قبل ذلك بأكثر من ألف سنة؛ فإن قيل المراد أنهم يمرون بقبورهم فلا حاجة إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها )رواه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب السلمي وهذا أمر استحباب لجميع المسلمين فلا حاجة إلى تكراره إلا إذا أرادوا أن يرتبوا عليه ما زعموه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة قبور المؤمنين إلا أصحابه عليه الصلاة والسلام وحينئذ يقعون في هوة لا خلاص لهم منها فإنهم ينسخون الحديث المتقدم الذي هو عام لجميع المسلمين أن يزوروا قبور جميع المسلمين عموما وقد نشأ عن هذا تشريع جديد يخص التجانيين وهو تحريم زيارة قبور الصالحين وسائر المسلمين ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا حكم خارج عنة الشريعة الإسلامية شريعة التجانيين لأنفسهم فكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرقوا إجماع المسلمين فنعوذ بالله من الجهل والخذلان : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) } .
وليكن هذا آخر هذا الفصل والله يهدينا صراطه المستقيم .
الفصل الثالث في فضل الأذكار والأوراد التجانية(92/134)
اعلم حفظني الله وإياك من أمراض البدع الفتاكة وشرور المحدثات المضلة وحبب إلينا التمسك بالسنة الغراء والعض بالنواجذ عليها في السراء والضراء؛ أن للتجانيين أذكار وأورادا زعموا أن شيخهم أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما؛ وهو الذي أخبره بفضائلها وقد تقدم أن الشيخ التجاني أمر بعرض كل ما ينسب إليه أو يروى عنه على كتاب الله وسنة رسوله فما وفقهما فهو عنه وإن لم يقله وما خالفها فهو بريء منه وإن قاله وهذا فيصل التفرقة بين الحق والباطل والحالي والعاطل وهو سيف مسلول على رقاب المبتدعين وبراءة وتنزيه للشيخ التجاني من أقوال المتقولين؛ فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه على أقوم طريق .(92/135)
قال مؤلف جوهر المعاني في (الجزء الأول صفحة 92) بعدما ذكر ما تقدم منقولا من كتاب الرماح أن كل من أحسن إلى الشيخ التجاني بمثقال ذرة أو أخذ طريقته يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن للشيخ التجاني ذلك ضمانا لا يخلف حتى يكون الشيخ التجاني وأهل محبته في أعلى عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم . قال ما نصه اعلم أني بعدما كتبت هذا من سماعه وإملائه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه اطلعت على ما رسمه بخطه ونصه وأسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب في أول الزمرة الأولى أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي وجميع آبائي وأمهاتي من أبوي إلى الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة من جهة أبي ومن جهة أمي من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام من جميع الذكور والإناث والصغار والكبار؛ وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر؛ وكل من نفعني بنفع حسي أو معنوي من مثقال ذرة فاكثر؛ من خروجي من بطن أمي إلى موتي وكل من له علي مشيخة في علم أو قرآن أو ذكر أو سر من كل من لم يعاديني من جميع هؤلاء وأما من عاداني أو أبغضني فلا وكل من أحبني ولم يعاديني؛ وكل من والاني واتخذني شيخا؛ أو أخذ عني ذكرا وكل من زارني وكل من خدمني وقضى لي حاجة أو دعا لي؛ كل هؤلاء من خروجي من بطن أمي إلى موتي وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم وأولاد أزواجهم وكل من أرضعني وأولادهم وبناتهم ووالديهم ووالدي أزواجهم يضمن لي سيد الوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن نموت أنا وكل حي منهم على الإيمان والإسلام وأن يؤمننا الله وجميعهم من جميع عذابه وعقابه وتهويله وتخويفه ورعبه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة؛ وأن تُغفر لي ولجميعهم جميع الذنوب ما(92/136)
تقدم منها وما تأخر؛ وأن تُؤدي عني وعنهم جميع تبعاتهم وتبعاتي وجميع مظالمنا ومظالمهم من خزائن فضل الله لا من حسناتنا وأن يؤمننا الله عز وجل من جميع محاسبته ومناقشته وسؤاله عن القليل والكثير يوم القيامة؛ وأن يظلني وجميعهم في ظل عرشه يوم القيامة وأن يجيزني ربي وكل واحد من المذكورين على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة؛ وأن يسقيني الله وجميعهم من حوض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ وأن يدخلني ربي وجميعهم في جنته بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة؛ وأن يجعلني ربي وجميعهم مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس ومن جنة عدن؛ أسأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله أن يضمن لي ولجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب جميع ما طلبته من الله لي ولهم بكماله كله ضمانا يوصلني وجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب إلى كل ما طلبته من الله لي ولهم؛ فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله الشريف كل ما في هذا الكتاب ضمانة لا تتخلف عنك وعنكم أبدا إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في أعلى عليين؛ وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانة لا يخلف الوعد فيها والسلام.
قال رضي الله عنه كل هذا وقع يقظة لا مناما وأنتم وجميع الأحباب لا تحتاجون إلى رؤيتي وإنما من لم يكن حبيبي ولا أكلت طعامه وأما هؤلاء فقد ضمنهم لي بلا شرط رؤية مع زيادة أنهم في أعلى عليين اهـ .
قال محمد تقي الدين : المراد بالأحباب هنا كل من أخذ الورد وصار من أهل الطريقة التجانية؛ سواء رأى التجاني أم لم يراه؛ وأما الذي يحتاج إلى رؤيته من لم يكن تجانيا ولا أكل طعامه ولا أحسن إليه بمثقال ذرة فأكثر .
والتجانيون يطلقون على كل واحد منهم حبيب الشيخ؛ وأنشد محمد النظيفي المراكشي من نظمه :
نحن ضيوف الله لا نخاف ولا نضام بل ولا نخاف
نحن ضيوف المصطفى العدنان نحن ضيوف أحمد التجاني
يعني بذلك جميع التجانيين .(92/137)
وأكثر ما ذكر تقدم الرد عنه ؛ وبقي ضمان النبي صلى الله عليه وسلم لأقارب الشيخ التجاني من جهة أبيه وأمه من الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة إلى موت عيسى بن مريم عليهما السلام فينبغي أن نذكر ما يبطل ذلك ويقضي عليه قضاء تاما ويغسل من درنه قلب كل مسلم أراد الله به خيراً وسبقت له السعادة؛ أما من كُتب عليه الشقاء فلا ينفعه ما نذكره من آيات الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وما يذَّكر إلا أولوا الألباب .
أخرج ومسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال : ( في النار ) قال فلما قفى الرجل دعاه فقال : ( إن أبي وأباك في النار ) .
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة التوبة : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية.
عن الإمام أحمد بسنده إلى سليمان بن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال يا رسول الله مالك ؟ قال ( إني استأذنت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار ) ورواه ابن جبير من طريق علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى على قبر فجلس عليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال : ( إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ) فما رئي باك أكثر من يومئذ .(92/138)
وقد تقدم حديث وفاة أبي طالب وحرص النبي صلى اله عليه وسلم على نجاته فسبق القلم ومات أبو طالب كافرا، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ مات كافرا فأنزل الله تعالى عليه { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } الآية؛ وتقدم أيضا إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين بأمر الله تعالى، وقوله لفاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت وأنقدي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئا، فيا لله العجب يعجز النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل والديه وعمه الجنة ويقول لابنته ما سمعتم ثم يضمن الجنة لكل جد للتجاني من الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة من الأب والأم إلى موت عيسى بن مريم سبحانك هذا بهتان عظيم . ولا شك أنهم كذبوا على الشيخ التجاني وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما تقدم من الإفادة الأحمدية ولا يروج مثل هذا البهتان ألا على أجهل الجاهلين بدين الإسلام .
فصل في صلاة الفاتح لما أُغلق(92/139)
قال مؤلف جواهر المعاني علي حرازم في الجزء الأول (94) وأما فضل صلاة الفاتح لما أُغلق الخ فقد سمعت شيخنا يقول كنت مشتغلا بذكر صلاة الفاتح لما أُغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطبا، قال إن من ذكرها ولم يدخل فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى بني سمغون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أُغلق واشتغلت بها وهي ( اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاما يعدل سلامهم) لما رأيت فيها من كثرة الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليم وسلم إلى صلاة الفاتح لما أُغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ثم أخبرني ثانيا أن المرة الواحدة تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الذكر اهـ .
قال محمد تقي الدين قال الله تعالى في سورة الزمر: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) } وقال تعالى في هذه السورة نفسها : { فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قال ابن كثير واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم هو القرآن و؛ وقال في فضائل القرآن قال صلى الله عليه وسلم : ( إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) رواه البزار من حديث أبي سعيد الخدري .(92/140)
قال محمد تقي الدين : لما كان القرآن صفة من صفات الله كان أفضل من كلام المخلوقين كلهم لأن الكلام المخلوق لا يساوي كلام الله الذي هو غير مخلوق . وقد ذكر أئمة الحديث في فضائل القرآن شيئا كثيرا وعقدوا لذلك كتبا في مؤلفاتهم وهي مشهورة معروفة عند الخاص والعام، وأجمع المسلمون من أهل السنة ومن أهل البدعة على أن كلام الله تعالى أفضل من كلام الأنبياء فكيف بغيرهم حتى القائلون بخلق القرآن في هذا فمن جعل كلام الناس كصلاة الفاتح مثل كلام الله تعالى فقد ضل ضلالا بعيدا وخرق إجماع المسلمين واتبع غير سبيلهم فكيف بمن يجعل صلاة الفاتح أفضل من القرآن بستة آلاف مرة فيا عجبا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر كيف يؤمن بهذه العقيد الفاسدة ؟ وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقرأه ويدارسه مع جبريل فاته التجانيون في الأجر والثواب وسبقوه بأضعاف مضاعفة تفوق الحصر وجميع أصحابه صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل الأذكار كما أخبرهم ربهم سبحانه وأخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ضاعت أعمارهم بالنسبة إلى أقل التجانيين ذكرا فإن كل تجاني يذكر صلاة الفاتح إذا اقتصر على ما يجب عليه منها كل يوم مائة وخمسين مرة فعلى قولهم يكون له أجر من قرأ القرآن تسع مائة ألف مرة (900000) ولا يستطيع أحد أن يختم القرآن بقراءة صحيحة مقبولة إلا في ثلاثة أيام وأي ضلال يساوي ضلال من يثبت لنفسه من الأجر والثواب أكثر من جميع الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين فيا هادي الطريقة ضللت وأضللت .(92/141)
قال محمد تقي الدين وصلاة الفاتح كما أشار إليها صاحب الجواهر أول من تكلم بها محمد البكري الصديقي وحكى التجانيون عنه أن زعم أنه نزلت عليه من السماء في ورقة مكتوبة بقلم القدرة قالوا فهي من كلام الله تعالى وليست من تأليف مخلوق وعلى زعمهم هذا لا بأس بتفضيلها عن القرآن إلا أنه يلزمهم أن صلاة الفاتح التي نزلت على البكري وهي أربع وعشرون كلمة أفضل من القرآن الذي أنزل على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وهو زهاء مائة ألف كلمة ( 100000) وهل ينزل وحي بعد خاتم النبيين لم يقل بهذا إلا المتنبئون الزنادقة المحتالون وكيف يقول الله تعالى اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما اغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم لأن الله هو السيد ومحمد عبده ورسوله وهو أفضل عباد الله وفي كمال عبوديته لله تمكن سيادته وفضله على سائر الخلق فلا يليق بذي الجلال والإكرام أن يخاطب نفسه ويقول اللهم صل على سيدنا محمد فإن قالوا إن الله أنشأ هذه الصلاة لعباده لا لنفسه فلا يلزم ما ألزمتمونا به قلنا لو كان الأمر كذلك لقال الله تعالى فيما أوحينا به إلى البكري أو كتبه له بقلم القدرة، يا أيها البكري قل لعبادي يقولوا : اللهم صل على محمد الخ .(92/142)
كما قال تعلى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } على أني أيها القراء الأعزاء أثبت لكم بالبرهان القاطع أن هذه الصلاة ليست من كلام الله تعالى ولا كتبها قلم القدرة ولا من كلام البكري بل قيلت قبله بنحو ألف سنة (1000) ففي كتاب الشفا للقاضي عياض رواية بسند منقطع إلى بن أبي طالب، أنه قال كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والمعلن الحق بالحق الخ .
ولما كان سند هذه الصلاة منقطعا لم تصح نسبتها إلى علي ومن الأدلة على بطلانها بطلان نسبتها إليه أنه لم يكن ليعدل عن الصلاة الإبراهيمية التي علَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوه قائلين، أن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم الخ .(92/143)
وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون والأئمة المجتهدون ومن تبعهم بإحسان على تفصيل هذه الصلاة والإتيان بها في الصلوات المفروضة والنوافل وغيرها وإذا ثبت أن كلام الله تعالى أفضل من كلام الخلق كلهم فكلام سيد الخلق سيد الكلام، ومن سوء الفهم وسوء التقدير أن يبحث الإنسان عن صلاة تعدل هذه الصلاة فكيف بصلاة تكون أفضل منها وهي من لفظ من أُوتي جوامع الكَلِم واختُصِر له الكلام اختصارا وهو أفصح خلق الله، فأهم صلاة الفاتح مأخوذة من كتاب الشفا الذي ألفه القاضي عياض وهو من علماء القرن الخامس الهجري، وقد روى هذه الصلاة عمن قبله فلا بد أن تكون من كلام التابعين أو من دونهم بقليل، فاثنتا عشرة كلمة وهي اللهم صلى الله عليه وسلم على محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بإبدال ناصر مكان المعلن وأما الهادي إلى صراطك المستقيم فهو من القرآن قال تعالى في سورة الشورى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهذه أربع كلمات تضاف إلى اثنتي عشرة فيصير المجموع ست عشرة كلمة، ومعنى (صل) موجود في الصلاة التي رواها عياض فيصير المجموع سبع عشرة كلمة فلا يبقى إلا ثماني كلمات وهي سيدنا وعلى آله بل على آله مأخوذة من الصلوات العامة فلا يبقى إلا سيدنا وحق قدره ومقداره العظيم وهي خمس كلمات أما لفظ سيدنا فغير مشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أهل القرون المفضلة لم يستعملوا لفظ سيدنا في صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي زائدة على ما علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولن يأتي آخر هذه الأمة بمثل ما كان عند سلفها فكيف بأفضل منه ؟ وعلى ذلك لا يبقى إلا أربع كلمات وهي حق، قدره، ومقداره، العظيم، وبذلك تهدم كل ما بناه التجانيون من القصور الخالية .(92/144)
أما زعمهم أن ذلك الفضل الذي ادعوه لصلاة الفاتح خاص بمن أخذها بالإذن من الشيخ التجاني مباشرة أو بوسائط فهو أعجب وأغرب، وليس في الشريعة الإسلامية، لأن الذكر والدعاء إما أن يكونا مشروعين بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بهما وهما من دينه الذي بعثه الله به فلا يحتاجون إلى إذن، لأن الإذن قد حصل من الله تعالى بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) } الأحزاب 41-42 ، وقال تعالى في سورة الأعراف آية 55 : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) } وهذا إذن عام لكل مؤمن من الله سبحانه وتعالى بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، لجميع المؤمنين، وقال تعالى في سورة الأحزاب آية 56 : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } فكل من ذكر الله تعالى بذكر مشروع أو دعاه بدعاء مشروع أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وتقبل الله منه ذلك أثابه عليه ولا يشترط أن يأخذه من شيخ، بل أخذه من الشيخ مبطل لثوابه لأنه بدعة والعبادات إذا قارنتها البدعة ليس لها ثواب، بل يكون أهلها متعرضين لعذاب الله، لأن البدعة شر من المعاصي كما حققه الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام، وقد أكمل الله دينه وبلغه أفضل الخلق فكل من نصب نفسه لإعطاء الأوراد والأذكار فقد ابتدع في دين الله وعرض نفسه لعذاب الله، وكذلك من أخذ عنه تلك الأوراد قال تعالى في سورة المائدة آية 3: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فالأوراد والأذكار إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بها فما شأن هذا الطُّفيلي الذي نصب نفسه واسطة بين الحق والخلق،(92/145)
وأراد أن يجود بمال غيره الذي لا يملك منه شيئا فهو محتال كذاب يريد أن يستعبد الجاهلين وينهب أموالهم ويفسد عقولهم ويضلهم عن صراط الله المستقيم الذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عليه قال الله تعالى في سورة الأنعام آية 153 : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } روى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال، هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال، هذه سُبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: { وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن هذا الحديث رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال على شرط الشيخين .
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اكمل الله الدين وترك أمته على أحسن ما يريده لها ولم تكن هناك أوراد، ولا شيوخ طرق، ولا زويا، ولا تكايا فيجب على كل مسلم أن يكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يزيد على ذلك شيئا، لأن الزيادة في الكامل نقص وعيب، وبدعة ضلالة وبذلك يتبين لك بطلان ما جاء في فضل صلاة الفاتح مع اشتراط الإذن فيها كما يدعي التجانيون وقد تبين الصبح لذي عينين : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .(92/146)
وهاهنا عبارة نسوقها، ليتعجب القراء منها ويحمدوا الله على العافية، وهي قول صاحب الجواهر في الصفحة 96 من الجزء الأول في سياق فضل صلاة الفاتح، إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملَك بهده الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة قال الشيخ وقد أخبرني صلى الله عليه وسلم عن ثواب الإسم الأعظم فقلت : إنها أكثر منه فقال صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة .
وفي هذا الكلام دليل على أن هذا البكري الذي زعموا أنه توجه إلى الله تعالى وابتهل إليه مدة طويلة ليمنحه صلاة فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات كان أجهل من حمار أهله إن صح عنه هذا الخبر، لأن الله تعالى قد أعطى جميع المسلمين صلاة هي من أفضل الصلوات ولا تعدلها صلاة أصلا، إلا إذا كان هناك من يزعم أن محمد صلى الله عليه وسلم الذي علمنا إياها يوجد من يعدله أو يكون أفضل منه وهذا كفر .
فالذي أمرنا بالصلاة هو الله سبحان وتعالى ولو سكت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسألوه عن صفة أداء هذا الواجب لكان لكل مصل أن يصوغ صلاة وحينئذ لا يجوز لأحد أن يدَّعي أن صلاته التي صاغها أفضل من صلاة غيره أو أكثر ثوابا، لأن ذلك لا يُعلم إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يمكن أن يقال إن عبارة هذه الصلاة أبلغ من عبارة صلاة أخرى ولكن ذلك لا يقتضي زيادة ثواب أو فضل .(92/147)
أما وقد سأل الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم كيف نصلي عليك؟ وعلمهم كيف يصلون عليه فالصلاة التي علمهم هي أفضل الصلوات كما أنه عليه الصلاة والسلام أفضل المعلمين هذا لو كانوا يعقلون، ولكنهم يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، الحمد الله الذي عافانا مما أصيبوا به ونسأله سبحانه وتعالى أن يفك أسرهم من هذه القيود والأغلال كما فك أسرنا ويردهم إلى توحيد الله واتباع النبي الكريم وترك التقول عليه .
قال محمد تقي الدين وقد أطال صاحب الجواهر وما أطاب فيما زعم أن شيخه حدَّثه به من فضل صلاة الفاتح لما أُغلق، فمن شاءه فلينظره.
فضل جوهرة الكمال
قال صاحب الرماح صفحة 89 وأما فضل جوهرة الكمال فقد قال الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لها خواص منها أن المرة الواحدة، تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومنها أن من قرأها سبعاً فأكثر يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة ما دام يذكرها، ومنها أن من لازمها كل يوم أزيد من سبع مرات يحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة ولا يموت حتى يكون من الأولياء، وقال الشيخ من داوم عليها سبعا عند النوم على طهارة كاملة وفراش طاهر يرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ التجاني: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة تسمى جوهرة الكمال من ذكرها اثنتي عشرة مرة وقال هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زاره في قبره يعني في روضته الشريفة وكأنما زار أولياء الله والصالحين من أول الوجود إلى وقته ذلك اهـ .(92/148)
ونص جوهرة الكمال كما في الرماح (ص224 ج1) اللهم وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرباح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم صل وسلم على طلعة الحق بالحق الكنز العظم إفاضتك منك إليك إحاطة النور المطلسم صلى الله عليه وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه .
اعلم أيها القاري الذي حفظه الله من ظلمات البدع والشرك وأنار بصيرته بنور التوحيد والاتباع، أن هذه الصلاة التي زعم التجانيون أن شيخهم أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا لها ما تقدم من الفضل يستحيل أن تكون من كلام العرب الفصحاء وهي بعيدة منه بعد السماء من الأرض، وكل من يعرف كلام العرب معرفة حقيقية لا يكاد يصدق أن ذلك الكلام الركيك يقوله أحد من العرب وفيها كلمتان إحداهما سب لا يجوز أن يُطلق على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتناسب مع ما قبله وهي كلمة ( الأسقم ) فإن الصراط لا يوصف بالسقم إذ لا يقال صراط مريض وهذا الصراط أمرض من ذلك وإنما يقال صراط مستقيم أو قويم وهذا الصراط أقوم من ذلك .
وقد رد العلماء على التجانيين وعابوا عليهم هذه الكلمة القبيحة فقال الشيخ الكمليلي الشنقيطي في أرجوزته التي انتقد بها الطريقة التجانية:
ولم يجز إطلاق لفظ موهم == نقصا على النبي مثل الأسقم
كذا مطلسم وما يدريكا == لعله كفر عنى الشريكا(92/149)
ولم يتفطن أولئك العلماء إلى سبب هذا الخطأ ولو تفطنوا له لانحل الإشكال بلا كلفة فسببه أن مؤلف هذه الصلاة مغربي وأهل المغرب في لغتهم العامية يقولون (سر مسقم) يريدون امش مستقيما ويقولون كذلك (سر أسقم) بعضهم ينطق بها قافا وبعضهم ينطق بها كافا، ولما كان منشئ هذه الصلاة غير عالم بالعربية وقد ذكر الأقوم من قبل في قوله عين المعارف الأقوم وقال بعدها صراطك التام، أراد أن يصف الصراط بالاستقامة مع المحافظة على السجع لمقابلة الأقوم واستثقل أن يكرر الأقوم عبر بالأسقم ظنا منه أنهما في المعنى سواء كما يفهمه عامة المغاربة، وقد علمت من مصاحبتي للشيخ أحمد سكيرج وهو من كبار المقدمين في الطريقة التجانية وكنت في ذلك الوقت تجانيا لا يخفى علي سرا، أن هذه الصلاة وجدت لأول أمرها عند شخص يسمى محمد بن العربي التازي ويسميه التجانيون الواسطة المعظم لأنه بزعمهم كان واسطة بين النبي صلى الله عيه وسلم وبين الشيخ أحمد التجاني يحمل الرسائل من الشيخ إلى النبي ومن النبي إلى الشيخ وفي ذلك الوقت وقت الوساطة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظهر للشيخ التجاني وإنما كان يظهر لمحمد بن العربي وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للواسطة محمد بن العربي لولا محبتك لحبيبي التجاني ما رأيتني وكان الواسطة يُخبر الشيخ التجاني بأنه إذا جاء الوقت الموعود يظهر النبي صلى الله عليه وسلم له بلا واسطة يُحدِّثه ويُكلِّمه وسنذكر شيئا من الرسائل التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم على محمد بن العربي وأمره بكتابتها ليحملها إلى الشيخ التجاني ويقرأها عليه وحينئذ لا يبقى عندك شك بجهل هذا الرجل بالعربية وأنه السبب في ركاكة هذه الصلاة التي هي من إنشائه، وقد تكلف أحمد أمين مؤلف كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، فألف جزءا في دعوى صحة بناء أفعل التقضيل من المستقيم على أسقم بإثبات السين الزائدة وحذف عين الكلمة وهي الواو، وركِب في ذلك الصعب(92/150)
والذلول ونقل عن علماء اللغة نقولا ظن أنها تؤيد ادعاءه وأخبرني الشيخ محمد بن أمين الحسني الشنقيطي أن صاحب الوسيط في آخر عمره تاب إلى الله من الطريقة التجانية وصار يخجل عندما يذكر له أحد أنه كان تجانيا وألف ذلك الجزء في الدفاع عن الأسقم، وهذا يزيدك أيضا أن الكلمة عامية مغربية وأنت إذا نظرت في كلمات هذه الصلاة من أولها إلى آخرها وجدتها في غاية البُعد عن الكلام الفصيح ولم تستبعد صدور الأسقم والمطلسم من مؤلفها وإذا ظهر السبب بطل العجب، وكل ما ذكروا في فضلها فهو كذب على الله ورسوله وحسب ما تقدم كذب على الشيخ التجاني أيضا، وما معنى قولهم لا يموت حتى يكون من الأولياء ؟ فهل هو من أعداء الله الآن ؟ وإذا داوم عليها يصير من أولياء الله وقد تقدم أن كل من لم يكن ولي الله وبلغته الدعوة فهو عدو الله، ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وجلوسهم أمام قارئها كذب نشأ عن بلادة، فإنْ كان مقصودهم بالأجساد فلا يرتاب أحد في أنه بهتان، ولا يصدقه عاقل، لأن الجسد لابد أن يرى بالعين ويلمس باليد، وأن كان مقصودهم أن أرواحهم تجيء فهو من بنات غيرهم لأنه لا دليل عليه وكيف تترك أرواحهم الطاهرة جنة الفردوس وتخرج منها ثم تجيء لتجلس أمام قوم جاهلين يشركون بالله ويستمدون من غيره { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) } . فسبحان الله كيف تمسخ عقول البشر، حتى تصل إلى هذه الدركة التي يتنزه عنها البقر، ومن يضل الله فما له من سبيل .
قال صاحب الرماح : ولا تُقرأ جوهرة الكمال إلا بالطهارة المائية من الحدث والخبث وطهارة الثوب والمكان، قال محمد تقي الدين:(92/151)
ومعنى ذلك أن من كان فرضه التيمم لا يجوز له أن ينطق بجوهرة الكمال وإن كان يجوز له أن يقرأ القرآن كله وأن يُصل الصلوات الخمس فهذا تشريع جديد واستدراك على الله ورسوله فإن شريعة الله تجعل الطهارة الترابية كالمائية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنيين فإن وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) رواه البزَّار من حديث أبي هريرة وصححه القطان وأقره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، ومفهومه أن من لم يكتفي بالصعيد في عبادته لله تعالى ولم يعتبره وضوء فليس بمسلم، فقد أراد هؤلاء أن يرفعوا قدر الصلاة ليرفعوا بذلك قدرهم بجهلهم فأخرجوا أنفسهم من الشريعة الإسلامية ثم من الإسلام نفسه .(92/152)
ولما كانت جوهرة الكمال جزءا من الوظيفة المفروضة على كل تجاني، وكانت لا تقرأ إلا بالطهارة المائية لا الترابية وجب على من عجز عن استعمال الماء أولم يجد ماء أن يقرأ بدلها عشرين مرة من صلاة الفاتح، وفي ذلك تناقض لا يخفى وبيانه أن صلاة الفاتح هي أفصح لفظا وأحسن معنى من جوهرة الكمال لأنها من كلام المتقدمين كما سلف، وقد زعموا أنها أفضل من القرآن ومن جميع الأذكار بأضعاف مضاعفة فما بالها تُقرأ بالطهارة الترابية وجوهرة الكمال التي هي دونها في الفضل بمراحل لا ُتقرأ إلا بالطهارة المائية، وَيقرأ التجاني عوضا عن جوهرة الكمال اثنتي عشرة مرة، عشرين مرة من صلاة الفاتح، فأنت ترى أن المرة الواحدة من قراءة جوهرة الكمال، تعدل أكثر من مرة ونصف من الفاتح وذلك من نسبة عشرين إلى اثنتي عشر ة، فإن كنت أيها القارئ تجانبا فبادر بالخروج من الطريقة واغسل يديك منها بالزلال العذب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كنت معافا منها فاحمد الله على العافية وانبذ الطرق كلها واستقم على الطريقة المحمدية التي قال الله تعالى فيها في سورة الجن: { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) } .
قال مؤلف هذا الكتاب محمد تقي الدين: وللتجانيين أذكار خاصة بالخاصة منهم غير لازمة لعامتهم، أذكر شيئا منها، الصلاة الغيبية في الحقيقة الأحمدية، ( اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية بأنواع كمالاتك البهية في حضرة ذاتك الأبدية على عبدك القائم بك منك إليك بأتم الصلوات الزكية المصلي في محراب الهوية التالي السبع المثاني إلى آخره .(92/153)
ومن هذه الألفاظ تعلم أن التجانيين من المعتقدين وحدة الوجود وبيان ذلك أن الوجود عندهم واحد، فالرب هو العبد والعبد هو الرب كما تقدم عن ابن عربي الحاتمي فإذا اعْتَبَرْتَ الصور والأشكال كالشمس والقمر والكواكب والإنسان وأنواع الحيوان والنبات والبُحور تسمِّي ذلك خلقا وإذا اعتبرت الهيولا وهي المادة التي منها أنشأت تلك الصور وإليها تعود بعد فنائها لتنشأ منها صور أخرى فتلك الهيولا عندهم هي الله، ومثََّل لِذلك ابن عربي بالخشب فهو مادة واحدة فإذا صَنَعتَ منه أشياء كسرير وخزانة وكرسي لم تخرج تلك الأشياء عن كونها خشبا بعد الصَّنْعَة وحُدوث الأشكال والصور صارت لها أسماء أخرى ولو لم يكن في الطريقة التجانية إلا هذا الاعتقاد لكان كافياً في ضلال أهلها .
كنت في القاهرة والإسكندرية ولم أظهر خروجي من الطريقة التجانية في سنة 1341هـ وكان الشيخ محمد الدادسي الأزهري يكرمني لاعتقاده أني تجاني، فكان يغسل رأسي مرة فقال هنيئا لكم معشر أهل البيت، وكان قد سألني عن نسبي، فأخبرته أن نسبنا ينتهي إلى الحسين بن علي، فقلت له: ولم هذه التهنئة قال لأنكم تدخلون الجنة قطعا، وقد حرم الله على النار أن تمس أجساد أهل البيت، فقلت له: وما الدليل على ذلك ؟ فقال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } فقلت: وهل هذا يدل على أن أهل البيت لا تمسهم النار، قال نعم بذلك فسرها الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي، فقلت له أن تفسيره غير صحيح لأنه يجعل أهل البيت خارجين عن الوعيد الوارد في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي وسيدنا أحمد التجاني يوافقه على ذلك التفسير، فقلت له: فقلت وهل هو معصوم من الخطأ فتلوَّن وجهه وسكت، وأمسك عن غسل رأسي قبل أن يُتِمَّه، واعتبرني من ذلك الحين غير تجاني .(92/154)
ومن الأحاديث التي يزعم التجانيون أن شيخهم نسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، وهذا الحديث باطل لما تقدم، لحديث الصحيحين الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت وأنقذي نفسك من النار لا أُغني عنك من الله شيئا ) وقال مثل ذلك في عمته صفية وعمه العباس، والأسانيد التي روى بها الحديث المتقدم الذكر واهية من رواية الروافض، وقد ضعفها الأئمة، ولو لم يضعفوها لما كان في استطاعتها أن تُعارض نصوص القرآن المفسرة بما في الصحيين وسيأتي تخريجه في نهاية الفصل إن شاء الله .
قراءة فاتحة الكتاب بنية الإسم الأعظم
قال في الرماح (ج 2 ص90): قال في جواهر المعاني سألته يعني التجاني عمن احتلم في السفر ولم يقدر على الاغتسال بوجه من الوجوه، هل يذكر جمع ما عنده من الأوراد فأجاب: أنه يتيمم ويذكر جميع أذكاره كالسيفي وغيره إلا فاتحة الكتاب بنية الإسم فلا يقرأها ولو طال الحال إلى الأبد إلا بالطهارة مائية كاملة .
قال محمد تقي الدين: يا أيها المحدِّثون ويا أيها الأصوليون ويا أيها الفقهاء انظروا واعجبوا هل سمعتم في الشريعة الإسلامية مثل هذا فاتحة الكتاب إذا نوى بقراءتها الإسم الأعظم لا يجوز له أن يقرأها إلا بطهارة مائية، وإذا قرأها دون أن ينوي الاسم الأعظم جازت قراءتها بطهارة ترابية، وقد تقدم الدليل على أن لا فرق بين الطهارة المائية والطهارة الترابية لمن كان فرضه التيمم، والدليل هو الكتاب والسنة والإجماع . وليس اللوم على من اخترع هذه الأكاذيب على الله ورسوله ودينه، ولكن اللوم على شرار الدواب الصم البكم العمي الذين تجوز عليهم هذه الترهات، فنحمدك اللهم على العافية.
ثم قال التجاني وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أذكر الإسم الأعظم بالتيمم للمرض إذا أصابني ولم أقدر على الوضوء، قال لا إلا أن تذكر بالقلب دون اللسان . اهـ(92/155)
الخاتمة نسأل الله حسنها في مسائل متفرقة
اعلم أيها القارئ الذي أنجاه الله من الوقوع في حبائل الطرق، وأنت أيها القارئ المسكين الأسير العاني المكبول بكبل الطريقة إذا وفقك الله لقراءة هذا الكتاب أنَّنِي وجدت في جوهر المعاني وغيره من كتب الطريقة ضلالات وموبقات كثيرة جدا يضيق الوقت عن وضعها في الميزان، فأردت أن أختار منها نبذة أرجو أن تكون كافية بتحذير الناس من الطريقة إن كانوا سالمين من الدخول فيها ولإنقاذ من أراد الله به خيرا ممن ابتلوا بها، وسأقتصر في هذه الخاتمة على جواهر المعاني الذي زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هو كتابي وأنا ألفته للأحباب يعني التجانيين، فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى أقوم طريق.
المسالة الأولى ما يسمى بقطب الأقطاب والغوث الجامع:(92/156)
تقدم بطلان وجود القطب وأنه من عقيدة الجهال وأريد هنا أن أذكر ما نسبه صاحب جوهر المعاني إلى شيخه التجاني في تفسير قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) } ليطلع القراء ويعلموا إلى أي حد بلغ الضلال ببعض الناس قال صاحب الجوهر (ج 2 ص 181) ما نصه: وسألته عن معنى قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الآية، فأجاب بما نصه قال الأمانة هي القيام بحقوق مرتبة الحق في كلية معانيها خلقية وإلاهية فلم تطق حمل هذه الأمانة السماوات والأرض، فأشفقن منها، وحملها الإنسان الكامل الذي يحفظ الله به نظام الوجود وبه يرحم جميع الوجود وبه صلاح جميع الوجود وهو حياة جميع الوجود، وبه قيام جميع الوجود، ولو زال عن الوجود طرفة عين واحد لصار الوجود كله عدما في أسرع من طرفة عين، وهو المعبر عنه بلسان العامة ( بقطب الأقطاب والغوث الجامع ) ومعنى قوله ظلوما جهولا يعني ظلوما بتخطيه حدود البشرية وحدود الخلقية وخروجه إلى القيام بحقوق مرتبة الحق حيث لا أين ولا كيف ولا صورة ولا حد، فإن هذا لا قدرة لأحد عليه إلا الله وحده فهذا معنى ظُلْمِه لكونه تخطى مرتبة البشرية من الخلقية وهو لا يقدر لأن الأمر الذي تخطى إليه لا غاية له ولا نهاية، لكون الإحاطة مستحيلة فيه قال سبحانه: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } فهذا معنى الجهل والظلم الذي نسب إليه هو نفي الإحاطة بكنه جلاله، وذلك غاية المعرفة بالله فإن معرفته من وراء خطوط الدوائر كلها يعني دوائر الصديقية . اهـ(92/157)
فانظر كيف خلع هؤلاء الضالون على الشخص الخيالي المسمى بالقطب صفة الحي القيوم، الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهن من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ولولا حلمه سبحانه لخسفت الأرض تحت من يقول هذا القول ويعتقد هذه العقيدة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
والآن دونك التفسير الصحيح للآية : ذكر الإمامان ابن جرير وابن كثير في تفسير هذه الآية أقوالا وأحاديث مروية بالأسانيد إلى الصحابة والتابعين، بعضها مرفوعا، وبعضها موقوف، وقد لخص الجمل في حاشيته على الجلالين الموقوف منها فأحببت أن أنقله مختصرا كراهية التطويل . ونص تفسير الجلالين : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } الصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب وتركها من العقاب { عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } بأن خلق فيها فهما ونطقا، { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ } خِفن { مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } آدم بعد عرضها عليه { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا } لنفسه بما حمله جَهُولًا { } به { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ } اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم { الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } المضيعين الأمانة { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } المؤدين الأمانة { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } للمؤمنين { رَحِيمًا } بهم . اهـ قال الجمل في حاشيته على هذا الكلام قوله: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله تعالى، على عباده عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث وقضاء الدين والعدل في المكيال، وأشد من هذا كله الودائع، وقيل هي جميع ما أمروا(92/158)
به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة، وفي رواية ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن ألا يغش مؤمنا ولا معاهدا لا في قليل ولا في كثير، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها فقلن: وما فيها قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن، قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله تعالى لئلا يقوموا بها لا معصية ومخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما، ولو الزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله تعالى مطيعة لأمره ساجدة له.
ثم قال: وفي القرطبي واللام متعلقة بحملها أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع، وقيل متعلقة بعرضنا أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم الله وإيمان المؤمن ليثيبه الله. اهـ(92/159)
قال محمد تقي الدين: ولم يزل يظهر لي أن المراد بالإنسان هنا الجنس، كما قال تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) } وكقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) } ، ولكني تهيَّبت أن أُحدث قولا لم ينقل عن السلف حتى وقفت على كلام القرطبي فرأيته يشير إلى ذلك كما ترى، واتصاف جنس الإنسان بكثرة الجهل والظلم أولى من قصره أحد أفراده، وإبعاد الأنبياء والصديقين واستثناؤهم من الظلم والجهل مستحسن عندي جدا، كما وقع في آية العصر وآية التين، ويا لله العجب كيف يستطيع رجل من بني آدم أن يمسك السماوات والأرض، ويدبر شؤونها بحيث لو غفل عنهما طرفة عين لصرنا عدما ولا تلاشينا ولم يبق لهن أثر، سبحانك هذا بهتان عظيم، أرأيت لو حبس هذا القطب في مكان لا يجد فيه سبيلا لقضاء الحاجة فهل يستطيع أن يخرج من ذلك الحبس الضيق إلى عالم من العوالم التي يدبر شؤونها ويقضي حاجته أم يبقى في (حيص بيص ) حتى يتغوط على ثيابه ويبول عليها وحينئذ، يسخر منه الشيطان الذي أغواه وأمره بادعاء ذلك الأمر العظيم، الذي لا يقدر عليه إلا الله، ليس اللوم على هؤلاء الدجاجلة إذا ما ادعوا مثل هذه الدعوى ليسلبوا بها عقول الناس وأديانهم وأموالهم وأعراضهم، ولكن اللوم كل اللوم على شرار الدواب الذين يصدقونهم، وأذكر هنا والأسف يحز في نفسي أن في بلادنا سجلماسة، في الوقت الحاضر، دجالا يبتز أموال الناس ويهتك أعراضهم بدعوى أنه من آل البيت ومن الأولياء الذين رفع عنهم القلم يفعلون ما يشاءون من المحرمات ويتركون كل الفرائض ومنها الصلوات وهم محبوبون عند الله، وأخبرني أمير المنطقة محمد بن المهدي العلوي رحمه الله وحاكم السدد السيد الكبير الذي كان بالريصاني ثم نقل أنهما وجدا عند هذا الدجال خمس عشرة امرأة، عقد عليهن كلهن عقد النكاح الفاسد، وجمعهن في بيت، فقبضا عليه وسجناه، حكم بسجنه حاكم السدد السيد الكبير(92/160)
ونفذه الأمير السيد محمد بن المهدي. قال لي حاكم السدد أن الدجال عندما حُبس، وجئت أتفقده قال لي أبيت كل ليلة في بيتي، قال: فأخذت مفتاح السجن وجعلته في جيبي، وقلت للدجال إن كنت تستطيع الخروج فقد سمحت لك به فاخرج وابق في بيتك ولا ترجع فإنني لا أبعث أحدا في طلبك أبدا، ثم جاءنا الخبر بأن الدجال قد مات وأراح الله العباد من شره .
وأخبرني السلطان السابق مولاي عبد العزيز رحمه الله قال في معرض شيوع الخرافات ورواج التدجيل، لا على العامة فقط بل على الخاصة من العلماء قال: جاءني فقيه مشهور اسمه الخصاصي فقال لي: يا سيدي قد ظهرت كرامة عظيمة في ضريح الوالي الصالح أبي العباس السبتي، بمدية مراكش، فنحب أن تشاهدها فقلت: وما هي فقال : إن التابوت المنصوب على ضريح هذا الوالي يرتفع كل ليلة بعد غروب الشمس إلى السقف ويبقى معلقا في الهواء، ويبقى القبر مكشوفا طول الليل، حتى إذا طلعت الشمس نزل التابوت، فانتصب على القبر كما كان .(92/161)
قال فقلت له أيها الفقيه أنت شاهدت ذلك فقال: لا يا سيدي ولكنه خبر متواتر، حدثني به كثير من الناس الذين لا أشك في صدقهم، قال فقلت له: اذهب وأنا أجهزك بكل ما تحتاج إليه وامكث عند الضريح من قبل غروب الشمس إلى طلوعها ليلة أو أكثر، فإذا شاهدت ارتفاع التابوت فارجع إلي وخَبِّرْني به فإنني أصدقك ولا حاجة لي أن أشاهده بنفسي، وكان السفر في ذلك الزمن على الدواب فغاب نحو شهرين ثم رجع إلي، قال: فقلت ما وراءك يا عصام ؟ فقال يا سيدي راقبته ليالي عديدة فلم أشاهد شيئا، فقلت له كنت أعلم هذا ولا أَشُك فيه حين حدثتني بهذه القصة المُختلقة، ولكني أحببت أن تشاهد الأمر بنفسك حتى لا تغتر بما يشيعه الجهال، وأنت فقيه يقتدي الناس بك، فإذا كنت تعتقد مثل هذه الضلالات فماذا نقول في الجهال ؟ والحكايات في هذا كثيرة، وحكاية صاحب الجواهر في شان القطب، قطب الجهال كما سماه شيخ الإسلام أحمد بن تيميَّة رحمه الله هي من جنس هذه الحكايات .
قال مؤلف جواهر المعاني، (ج1 ص 215 س 9 ) فيما يتعلق بالقطب أيضا ناقلا عن شيخه التجاني في الكلام على الوحي وأقسامه ما نصه :(92/162)
ثم لتعلم أن من تجلى الله له بالسر المصون والغيب المكنون، عصم من المعاصي بكل وجه وبكل اعتبار فلا تتأتى منه المعصية التي هي مخالفة أمر الله تعالى صريحا أو ضمنا، وليس له فيها إلا العصمة من مخالفة أمر الله تعالى، ولذا ثبتت العصمة للنبيين وفي ضمنهم الأقطاب، ولم يصرح بهم صلى الله عليه وسلم في قوله حيث قال لا عصمة إلا لنبي فقد ستر الأقطاب هناك، من كونهم لا تعرف مراتبهم، وما أخبر الله الخلق بها، أعني بمرتبة الأقطاب، ولا وصل العلم إليهم بها فهي مكتومة لذلك لم يصرح بعصمة أهلها صلى الله عليه وسلم، لكن السر المصون مانع لمن ذاقه أن يعصي الله حتى طرفة عين، وأما من عداهم من الصديقين الذين نزلوا عن رتبتهم فلا عصمة عندهم، وتجري عليهم الأقدار كما تجري على غيرهم، كما قال الجنيد حيث قيل له: أيزني العارف فأطرق ساعة ثم قال: وكان أمر الله قدرا مقدورا . اهـ
قال محمد تقي الدين: هذه طامة أخرى وهي ادعاء العصمة للأشخاص المتخيلين المتسمين بالأقطاب الذين شاركوا الأنبياء في العصمة، وكتم النبي صلى الله عليه وسلم هذا العلم ولم يبح به لأحد حتى لأبي بكر الذي هو أفضل الصديقين،فلم يكفهم ادعاء العصمة للأقطاب المزعومين، حتى أضافوا إليه كتمان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وليث شعري كيف علمه التجاني، أمن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصفه بالكتمان، أم من الله بلا واسطة، وظاهر قوله فيما زعموا أن من ذاق السر المصون يستحيل أن تصدر منه معصية، أنه أدرك ذلك من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم مما يسمونه بالذوق وقد قيل لأحمد بن حنبل عن بعض المتصوفة أنه إذا سئل عن شيء لا دليل عليه من الشرع زعم أنه أدركه بالدوق فقال رحمه الله : من أحالك على غائب فما أنصفك، وما أحسن قول العلامة الصنعاني في القصيدة الدالية التي مطلعها :
سلامي على نجد ومن حل في نجد == وإن كان تسليمي من البعد لا يجدي
وذلك حيث يقول :(92/163)
يقولون أدركناه بالدوق ليتهم == يذوقون طعم الحق فالحق كالشهد
وقال صاحب الجواهر في الموضوع نفسه (ج 2ص 74 ): وسألته رضي الله عنه عن حقيقة القطبانية فأجاب بقوله: اعلم أن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقا في جميع الوجود جملة وتفصيلا، حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ألوهية الله تعالى،ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق فلا يصل إلى الخلق شيئا كائنا من كان من الحق إلا بحكم القطب وتوليته ونيابته عن الحق في ذلك، وتوصيله كل قسمة إلى محلها، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود جملة وتفصيلا، فترى الكون كله أشباحا لا حركة لها إنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلا، وقيامه فيها في أرواحها وأشباحها، ثم تصرفه في مراتب الأولياء فيذوق مختلفات أذواقهم فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه، فهو المتصرف فيها جميعا، والمعد لأربابها، وله الاختصاص بالسر المكتوم الذي لا مطمع لأحد في دركه والسلام.
قال محمد تقي الدين: وهذا الكلام بلغ من الوضوح حدا لا يحتاج إلى شرح، فحكايته شرحه، ونترك الحكم عليه للقارئ والله المستعان .
المسالة الثانية: نعيم أهل النار في النار. وفي جوهر المعاني مما نسب إلى الشيخ التجاني أنه قال في تفسير قوله تعالى في سورة العنكبوت : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ے¾دmح!$s)د9ur أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } ج 1ص141 ما نصه :(92/164)
وما ورد في قوله تعالى ما يناقض عموم الرحمة في قوله تعالى سبحانه وتعالى : { ْïد%©!$#ur كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ے¾دmح!$s)د9ur أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } فالرحمة في هذه الآية التي يئسوا منها هي الجنة فقط، فإنها محرمة على كل كافر، وليست الجنة هي غاية رحمة الله تعالى فإن رحمة الله لا تحيط بها العقول يرحم الكفار حيث يشاء، وقد ذكر بعض أهل الحقائق أن بعض أحوال الرحمة في أهل النار من الكفار أنه يُغمى عليهم في بعض الأوقات فيكونون كالنائم لا يحسون بأليم العذاب، ثم تحضر بين أيديهم أنواع الثمار والمآكل، فيأكلون في غاية أغراضهم، ثم يفيقون من تلك السكرة فيرجعون إلى العذاب فهذا من جملة الرحمة التي تنال الكفار . اهـ
المسالة الثالثة: شطحات الزنادقة الذين يسمون أنفسهم أولياء، وفي جوهر المعاني (ج 2 ص 59 )ما نصه، وذلك في الجواب عن قول أبي يزيد البسطامي: خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله، فاعلم أن في الشطحات التي صدرت من أكابر العافين ما يوهم أو يقتضي أن لهم شفوفا وعلوا على المراتب النبيين والمرسلين، ومثل قول أبي يزيد البسطامي : خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله، ومثل قول الشيخ عبد القادر الجيلي: معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوه، ومثل قول ابن الفارض:
ودونك بحرا خضته وقف الألي == بساحله صونا لموْضع حرمتي
وأني وإن كنت ابن آدم صورة == فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
وفي المهدي حزبي الأنبياء وفي عنا == صر لوحي المحفوظ والفتح سورتي
وقوله أيضا:
فحي على جمعي القديم الذي به == وجدت كهول الحي أطفال صبوتي
ومن فضل ما أسأرت شرب معاصري == ومن كان قبلي فالفضائل فضلتي
وكقوله في الكافية:
كل من قي حماك يهواك لكن == أنا وحدي بكل من في حماك
وكقول بعض العارفين: نهاية أقدام النبيين بداية أقدام الأولياء.(92/165)
والجواب عن هذه الشطحات أن للعارف وقتا يطرأ عليه الفناء والاستغراق حتى يخرج بذلك عن دائرة حسه وشهوده ويخرج عن جميع مداركه ووجوده، لكن تارة يكون في الذات الحق سبحانه وتعالى فيتدلى له من قدوس اللاهوت من بعض أسراره فيض يقتضي منه أن يشهد ذاته عين ذات الحق لمحقه فيها واستهلاكه فيها ويصرح في هذا الميدان بقوله: سبحاني لا إله إلا أنا وحدي الخ من التسبيحات، كقوله : جلت عظمتي وتقدس كبريائي، وهو في ذلك معذور لأن العقل الذي يميز به الشواهد والعوائد ويعطيه تفصيل المراتب كل بما يستحقه من الصفات غاب عنه وانمحق وتلاشى واضمحل، وعند فقد هذا العقل وذهابه وفيض ذلك السر القدسي عليه تكلم بما تكلم به، فالكلام الذي وقع فيه خلقه الحق فيه نيابة عنه فهو يتكلم بلسان الحق لا بلسانه، ومعربا عن ذات الحق لا عن ذاته، ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني، وقل الحلاج: وأنا الحق، وما في الجبة إلا الله وكقوله بعضهم : فالأرض أرضي والسماء سمائي وكقول التستري :
انظر شيء عجيب لمن يراني == أنا المحب والحبيب ما ثم ثاني
وكقوله أيضا (أنا من أهوى ومن أهو أنا) البيت، وأقوال ابن الفارض كثيرة مثل هذه وهذا مما يعطيه الفناء والاستغراق في ذات الحق وهذا أمر خارج عن المقال يدرك بالذوق وصفاء الأحوال فلا يعلم حقيقته إلا من ذاقه. اهـ بلفظه(92/166)
قال محمد تقي الدين: هذه الشطحات كل واحدة منا كفر صريح، وقد اعتذر التجانيون عن أصحابها بزعمهم حين قالوها كانوا قد فنوا في الله ولم يبق عقل ولا شعور، فسقط عنهم التكليف، فأما أن يكونوا مجانين فقدوا عقولهم أو ولدوا مجانين، فكيف يُدوِّنون هذيانهم، ولسيما ما هو كفر، ويُعظِّمُونهم ويمدحونهم على ذلك الهذيان الكفري والمجنون، كالبهيمة لا ُيحمد ولا يُذم، ولا يُقال أنه ولي الله ولا عدو الله إلا باعتبار ما كان قبل فقد عقله، وهم لا يسلمون أنهم مجانين بل يصفونهم بالعلم والولاية والصلاح وبلوغ أعلى المراتب، وذلك لا يكون إلا إذا كانوا عقلاء فإن كانوا عقلاء فقد كفروا بالله، وإن كانوا مجانين فلا فضل لهم، ومن دوَّن كفرياتهم وعظَّمهم بسببها من العقلاء فهو مثلهم في الكفر، والعادة جارية أن المجنون إذا كان قبل الجنون صالحا يذكر الله ويعظمه فإنه يبقى بعد الجنون كذلك في حكم العادة، ولا يكاد يتكلم بكفر أو فجور لأنه لم يتعود شيئا من ذلك، وأما إذا كان قبل إصابته بالجنون كافرا أو فاجرا فإن لسانه يبقى منطلقا لما كان عليه قبل الجنون، وقد رأيت في بلدة (عسلة) من بلاد الجزائر شيخا متصوفا يطعم كل من ورد عليه، وزرته في زمان الضلال مرارا فكان يقدمني لأصلي به ومن معه، فكنا إذا كبرنا للصلاة بدأ يسب الله ويصفه بالخداع والغدر، وما أشبه ذلك رافعا صوته، فإذا فرغنا من الصلاة أكب الناس عليه يقبلون يديه، ويلتمسون منه الدعاء والبركة، لاعتقادهم أنه كان في حضرة الله، وأنه بلغ من علو المقام عند الله إلى حد أنه كان يخاصمه على سبيل الدعابة والتذلل، أما أنا فبقيت حيران في أمره، ولم أجزم بشيء، وذلك لفرط جهلي وعدم معرفتي لتوحيد الله تعالى، وما يليق بجلاله سبحانه، هذا وكنت أُعد من فقهاء الشبان إلا أن الطريقة وبدعها أعمت بصيرتي، وأقبح من ذلك أنني كنت شديد الغلو في تعظيم شيخ الطريقة التجانية حتى أني مرة كنت في قرية (أبي سمغون) وهي(92/167)
من البلدان المقدسة عند التجانيين يشدون الرحال إليها، لأن فيها بيتا يسمى خلوة الشيخ، وهو مفروش بالزرابي الفاخرة، ويعظم بالبخور وإيقاد الشموع، زعموا أن الشيخ التجاني لقي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ورآه عيانا يقظة لا مناما لأول مرة، وفي ذات يوم جاء رجل من (عين ماضي) وهي البلدة التي ولد فيها الشيخ التجاني وفيها أولاده وأحفاده إلى يومنا هذا، فأخبر أن أولاد الشيخ يبعثون إلى مدينة الأغواط يشتري لهم الخمر بمقادير كبيرة، وتأتيهم البغايا من تلك المدينة، فتقيم عندهم الشهر والشهرين، فقلت له: كذبت، فقال لي والله لقد رأيت ذلك بعيني، ولم أقله عيبا لهم ولا إنكارا عليهم، ولا استخفافا بقدرهم العلي، معاذ الله من ذلك، وإنما أخبرتك بما رأته عيني، فقلت له : كذبت، فقال لي: وكيف عرفت أني كذبت؟ فقلت له : إما أن أُكذِّبك أو أُكذِّب الشيخ أحمد التجاني، وأنا لا أستطيع تكذيبه، فقال لي، وكيف ذلك ؟ فقلت: قال الشيخ أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، ضمن لي أن كل من بلغ الحلم من ذريتي يصيرا وليا لله فبهت الرجل وسكت، فانظر إلى أي حد يبلغ الضلال بالطرقيين.
إبطال ما زعم التجانيون من نعيم أهل النار في النار(92/168)
قال تعالى في سورة البقرة آية 161-162: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) } قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ما نصه : ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) } أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي { لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } فيها أي لا ينقص عما هم فيه { وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم، فنعوذ بالله من ذلك، وقال تعالى في سورة فاطر آية 36-37 : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) } . قال ابن كثير في تفسيرها: لما ذكر الله حال السعداء شرع في بيان ما للأشقياء فقال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } كما قال تعالى: { ںw يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } وثبت في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، انتهى كلامه. وفي تفسير الجلالين ما نصه : { ûïد%©!$#ur كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ } بالموت { #qè?qكJuٹsù } يستريحوا { وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ(92/169)
مِنْ عَذَابِهَا } طرفة عين { } كَذَلِكَ كما جزيناهم { نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } كافر بالياء والنون المفتوحة مع كسر الزاي ونصب "كل"، { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } يستغيثون بشدة وعويل يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا } منها { نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فيقال { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا } وقتا { يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } الرسول فما أجبتم { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ } نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم. انتهى
قال تعالى في سورة الزخرف آية 74-75: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) } قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ما نصه: لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي ساعة واحدة { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي آيسون من كل خير. اهـ
قال محمد تقي الدين: فماذا يقول التجانيون في هذه الآيات البينات، أيؤمنون بها أم يكفرون بها ؟ فإما أن يؤمنوا بالقرآن ويكفروا بما في جواهر المعاني فيهتدوا، وأما أن يعكسوا فيكفروا بالله، فكيف يجمعون بين الإيمان بالله وكتابه، والإيمان بما في كتابهم من الضلال.
ومراده ببعض أهل الحقائق هو ابن عربي الحاتمي، وقال صاحب المعاني ناقلا بزعمه عن شيخه التجاني في الجواب عن شطحات الزنادقة فيتدلى له من قدوس اللاهوت الخ، عبارة نصرانية سرقها زنادقة المتصوفة من النصارى، فإن النصارى يزعمون أن عيسى عليه السلام له طبيعتان، طبيعة الناسوت وهو الجسم المكتسب من أمه مريم وبهذه الطبيعة كان يأكل ويشرب، ويمرض ويتعب، وينام ويخاف، وطبيعة اللاهوت اكتسبها من أبيه، وهو الله، وبها كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.(92/170)
"وفعلوت" مصدر يستعمل كثيرا في السريانية كالجبروت (كبوروثا) جاءت من (جبر) وهو الرجل ومنه جبرائيل (كفرائيل) فمعناه بالسريانية رجل الله أي الرجل الذي يبعثه الله لتبليغ رسالته، فالجبروت هو الرجولة الكاملة (وكبور) جبار رجل عظيم، ومن ذلك جاء لفظ لاهوت من اسم الله تعالى وإنما استعملوا تلك الكلمة للتمويه على العوام والتشبع بما لم يعطوا.
المسالة الرابعة: محبة الكفار.
قال صاحب الجواهر ج1ص132: وسألته عن قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فأجاب بما نصه: اعلم أن محبة الحق سبحانه تعالى لعبيده إما ما يعهده في محبة المخلوقات التي هي شدة الميل والشغف بالشيء حتى لا يجد عنه صبرا، وشدة الاشتياق إلى المحبوب عند فقده، والولوع به، حتى يذهب عن عقله هائما في حب المحبوب فهذه كلها مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى لا يتأتى في ذاته العلية أن يطرأ فيها ميل أو شغف أو شوق، إذ هو في مرتبة ذاته جلا وعلا في العلو الذاتي والكبرياء الذاتي والعز الكامل، والجلال الذي لا يوصف، ولا يكيف، وكل هذه الصفات من حيث ما هي هِي في الذات اقتضت أنْ لا يوجد شيء معه من الأكوان، لأن الكبرياء الذاتي والعز الذاتي في العلو الذاتي والجلال الذاتي تقتضي كلها غيرة من وجود غيره سبحانه وتعالى معه فضلا عن أن يلتفت إليه بمحبة أو شوق لما هو عليه من الصفات المذكورة، وفيها يقول سبحان هو تعالى ( كنت كنزا لم أعرف ) إذ هو في تلك الغيرة بوجود تلك الصفات يأنف من وجود غيره معه . اهـ
وقفة مع هذا الحديث(92/171)
الذي يعتقده التجانيون أن شيخهم بلغ أعلى درجات القطبية ولم يبلغ أحد من الأقطاب منزلته كما تقدم، وقد تقدم مما نسبوه إلى شيخهم أنه قال: أن القطب الغوث الفرد هو الخليفة عن الله سبحانه وتعالى في جميع مملكته وهو الحامل للعالم كله، ولو غفل عن الكون طرفة عين لاندك الكون وصار محض العدم ، فيلزم على ذلك أن يكون القطب عالما بكل ما يجري في كل ذرة من العالم بل من العالمين، ولا يجوز أن يكون جاهلا بشيء منها فلا يجوز عليه أبدا أن يجهل شيئا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يعرفها صبيان أهل الحديث فضلا عن علمائهم، فإن صح هذا الكلام عن الشيخ لزم أن يكون جاهلا بعلم الحديث فإنه ذكر هذا الحديث في مواضع كثيرة، واحتج به، فاسمعوا الآن أيها القراء ما قاله الحفاظ النقاد فيه، قال العجلوني في كشف الخفاء ما نصه:
(1) حديث (كنت كنزا لم أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني ) (1)
وفي لفظ ( فتعرفت إليهم فبي عرفوني) قال ابن تيمية ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وتبعه الزركشي والحافظ ابن حجر في اللآلي والسيوطي، قال القاري: وهو (أي هذا الحديث) واقع كثيرا في كلام الصوفية واعتمدوه وبنوا عليه أصولهم.
عودة إلى الموضوع
__________
(1) قال ونصه عند شيخ الإسلام ابن تيمية ، كنت كنزا لا أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا، فعرفتهم بي، فبي عرفوني.
انظر أحاديث القصاص لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد الصباغ .(92/172)
قال محمد تقي الدين: فيا عجبا لهؤلاء المتصوفة يحيطون بكل شيء من علوم الغيب بزعمهم ويجهلون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فينسبون إليه الموضوعات التي يعرفها أقل الناس معرفة بالحديث ( وكيف يكون النوك إلا كذلك ) النوك هو الحماقة فكيف يكون التناقض والتهافت إلا كذلك فسبحان من طبع على قلوبهم . ومضى إلى أن قال وفي هذه المحبة جميع العوام، حتى الكفار، فإنهم محبوبون عنده، ثم مضى إلى أن قال جوابا عن سؤال اعترض به على نفسه، وهو قوله : إذا كانت نفوس الكفار عالمة بالله قبل اتصالها بالأجساد، وارتكبت الكفر والمعاصي، فما ذنب الأجساد حتى تحرم من محبة الله تعالى، فالجواب: أن أجسام الكفار ليس فيها جهل بالله تعالى وإنما لها إدراك وحدها خلاف إدراك الروح وبذلك الإدراك صارت عارفة بالله تعالى. اهـ
والحاصل: أن أرواح الكفار وأجسادهم تشملها محبة الله وهذا مناقض للقرآن أتم المناقضة، قال تعالى في نهاية هاتين الآيتين: فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين، ومثل ذلك في القرآن كثير فقبَّح الله علما يصل بصاحبه إلى تكذيب القرآن تكذيبا صريحا، فيا أيها القوم اتقوا الله وعودوا إلى الإسلام فهذه المراتب العالية بزعمكم لا يصل إليها أحد إلا إذا كذَّب القرآن وجهل السنة المحمدية وجهل عليها.
الولي الكبير يرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر والكذب وقتل النفس وغير ذلك من الدواهي .(92/173)
قال صاحب الجوهر في (ج1ص115) ناقلا عن شيخه ما نصه: اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو ؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله : أما ما هو حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رُفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا، فأول الأمر هو محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة، وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية، ولا يبقى للغير والغيرية عينا وأثرا، وهو مقام الحق والمحق والدك، وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق للحق بالحق.
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ثم موصول ولا ثم واصل(92/174)
ثم حياة وهي تمييز المراتب بمعرفة جميع خصوصياتها ومقتضياتها ولوازمها وما يؤول إليه أمرها وهو مقام إحاطة العبد بعينه ومعرفته بجميع أسراره وخصوصياته ومعرفة ما هي الحضرة الإلهية وما هي عليه من العظمة والجلال والنعوت العلية والكمال، معرفة ذوقية، ومعاينة يقينية، وصاحب هذه المرتبة هو الذي تشق المهامة في طلبه، لكن مع هذه الصفة فيه كمال أذن الحق له سبحانه وتعالى إذنا خاصا في هداية عبيده، وتوليته عليهم بإرشادهم إلى الحضرة الإلهية فهذا هو الشيخ الذي يستحق أن يُطلب، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة: (سل العلماء وخالط الحكماء واصحب الكبراء) وصاحب هذه المرتبة هو المعبر عنه بالكبير ومتى عثر المريد على من هذه صفته فاللازم في حقه أن يلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة ولا عطاء له ولا إفادة، وليجعل همته منه تخليصه من البلية التي أُغرق فيها، إلى كمال الصفاء بمطالعة الحضرة الإلهية بالإعراض عن كل ما سواها، ولينزه نفسه عن جميع الاختيارات والمرادات مما سوى هذا، ومتى أشار عليه بفعل أو بأمر فليحذر من سؤاله بلم ؟ وكيف ؟ وعلام ؟ ولأي شيء ؟ فإنه باب المقت والطرد وليعتقد أن الشيخ أعرف بمصالحه منه . وأي مدرجة أدرجه فيها فإنه يجري به في ذلك كله على ما هو لله بالله بإخراجه عن ظلمة نفسه وهواها، وأما الشيخ الذي هذه صفته كيف يتصل به وبماذا يعرف ؟ فالجواب أن الشيوخ المتصفون بهذا الأمر كثيرون، وأغلبهم في المدن الكبار فإنها مقرهم وأما معرفتهم والاتصال بهم فإنه عسير أغرب وجودا من الكبريت الأحمر، لأنهم اختلطوا بصور العامة وأحوالهم، من سألهم عن هذه الحال نَفَّروه وطردوه، وحلفوا له ما عندهم من هذا الأمر شيء، والعلة الموجبة لهم لهذا أنه قد فسد نظام الوجود بمشيئة الحق سبحانه وتعالى التي لا مُنازع لها، ليس لكل آدمي إلا السعي في أغراضه وشهواته بالإعراض عن الحضرة الإلهية، وما(92/175)
تستحقه من توفية الحقوق والآداب وليس للعامة في هذا الوقت من السعي للأولياء إلا لأغراض فاسدة يريدونها من التمتع بالدنيا ولذاتها وشهواتها والنجاة من المصائب والعطب في هذا الدار، مع إقامتهم وإصرارهم على الدواهي والمهلكات العظام، من الكبائر الفاحشة التي لا عقبى لصاحبها إلا دار البوار، وليس لهم عن هذا الميدان خروج ولا لهم فيه الرجوع إلى الحضرة الإلهية ولوج، فلما عرف العارف ما في العامة، من هذا الأمر احتجبوا عن العامة وطردوهم بكل وجه وبكل حال، وكان اقتضاء ذلك أن يسكنوا في البراري والقفار، وكانة مراد الحق منهم أن يبقوا في وسط العامة ويسكنوا في وسطهم لأمور أرادها الحق منهم سبحان وتعالى، وحكم بها عليهم فلا منازع له في حكمه، ولم يجدوا مساغا في الخروج عن العامة في البراري والقفار لما عليهم من حكم الله الذي لا خروج لهم عنه ولا يجدون سبيلا إلى إصلاح العامة، وردهم إلى الحضرة الإلهية، فهم بمنزلة من أقيم بين جماعة الحمقى، يرمونه بالحجر، وكلف بالصبر، والإقامة بينهم، فهم في عذاب، فلهذا احتجبوا عن العامة وطردوهم بكل حال، وربما شم العامة روائح وصولهم من وراء الحجب، فنهضوا للتعلق بهم فيما يريدونه من أغراضهم فخلَّط العارفون عليهم بوجوه من التَّخليط، استِتَارا عن العامة بإظهار أمور من الزنا والكذب الفاحش والخمر وقتل النفس وغير ذلك من الدواهي التي حُكم على صاحبها أنه في سخط الله وغضبه، والأمور التي يقتحمها العارفون في هذا الميدان إنما يُظهرون صورا من الغيب لا وجود لها في الخارج إنما تصورات خيالية يراها غيرهم حقيقة فيفعلون في تلك الصور أمورا منكرة في الشرع، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئا فاستتروا بذلك عن العامة حفظا لمقامهم وتحريرا لآدابهم، وإذا عرفت هذا فقد اختلط الصادقون والكاذبون في هذا الميدان ولا يعرف هذا من هذا ولا حيلة لأحد في معرفة العارف الواصل أصلا رأسا إلا في مسالة نادرة في غاية الندور،(92/176)
وهو أن بعض الكمل ظهورا في مظهر الصور الشرعية الكاملة فمن ظهر بهذا المظهر وادعى المشيخة بالمعرفة فيه أنه يعرف بدلالته على الله تعالى والرجوع إليه والتزهيد في الدنيا وأهلها وعدم المبالاة بها وبوجودها مع ظهور صفة الفتح في غيره على يديه الخ اهـ .
في هذا الكلام ضلالات وأباطيل قوله الشيخ الواصل هو الذي رفعت الحجب له عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية إلى قوله فلم يبقى إلا الله البيت ... يعني أن الشيخ الواصل إلى الله تعالى العارف به حق المعرفة تنكشف له كل الحجب حتى يشاهد حقيقة الذات الإلهية ثم يرتقي بعد ذلك إلى مقام الفناء فيفنى عن نفسه وعن فنائه ويمتزج بالله فتتم الوحدة ولا يبقى هنالك غير( وإنما حق في حق )، وهذه عقيدة وحدة الوجود، واعتقادها كفر كما تقدم، وهيهات أن يمتزج الحق بالباطل، والخالق بالمخلوق، والسيد بعبده، بل العبودية لازمة لغير الله تعالى لا تنفك عنه طرفة عين، وفي الحديث الصحيح:( أصدق كلمة قالها الشاعر؛ ألا كل شي ماخلا الله باطل) أي يلزمه الفقر والعجز، فإذا خيل للمتصوف المتكلف، أنه أمتزج بالله تعالى وصار شيئا واحدا كما استشهد بالبيت فلا واصل ولا موصول ولا خالق ولا مخلوق ولا كامل ولا ناقص بل هما شيء واحد، فقد كَذََبته نفسه، وأضله شيطانه، وسلك غير سبيل المؤمنين، وصار من الزنادقة المضلين، فإن هذا الأمر الذي ادعاه لم يجئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعين ولا الأئمة المجتهدين، وكانوا أفضل هذه الأمة وأعلمها بالله وأتقاها له، فعلى قول هذا القائل يكون الصحابة لم يبلغوا درجة الشيخ الواصل، لأنهم كانوا يفرقون بين الحق والخلق وهذا كما ترى واضح، والله المستعان .(92/177)
الثانية: أن هذا الشيخ الواصل بل الدجال الخائض في الباطل لا يجوز له أن يدعو الناس إلى ضلالته التي سموها هداية إلا بإذن خاص من الله تعالى بزعمهم فهذه الهداية المزعومة إما تكون من دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن لا تكون منه، فإن كانت منه فقد أمر الله رسوله وجميع العلماء أن يبينوا العلم لجميع الناس، ولا يكتموه، وأخذ عليهم العهد والميثاق على ذلك، كما في آية البقرة : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ yح´¯"s9'ré& يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) } والأدلة على هذا كثيرة معلومة من الكتاب والسنة، وإما أن لا تكون هذه الهداية المزعومة من الدين فلا يجوز لمسلم فضلا من عالم أن ينطق بها ولا أن يبثها في الناس فبطل كل ذلك الهذيان وبالله التوفيق .
الثالثة: وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة: سل العلماء الخ ....، لم أجد هذا الحديث فيما عندي من الكتب ولعلي أجده وأذكره فيما بعد وعلى فرض ثبوته فالدجال الذي يبيح الكذب الفاحش وقتل النفس والزنا وشرب الخمر لغرض خيالي سخيف باطل، ليس من العلماء، بل هو من أجهل الجاهلين وأكفر الكافرين، فكيف يكون مرادا بقوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت: سل العلماء ...الخ..، ولعمر الله ما هو بكبير، بل هو صغير حقير ومردود بقوله تعالى في سورة التوبة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } وهذا من الكاذبين الفاسقين .(92/178)
الرابعة: قوله ومتى ما عثر المريد على من هذه صفته فاللازم في حقه أن يلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله الخ ... هذا من أصول دجاجلة المتصوفة فإنهم يقولون من قال لشيخه: لم ؟ لا يفلح أبدا، وينشدون:
وكن عنده كالميت عند مغسل == يقلبه ما شاء وهو مطاوع
ويقولون: إذا رأيت امرأة حسناء دخلت على شيخك وخلا بها فقم سَخِّن الماء له ليغتسل.
وأقوالهم في هذا كثيرة موجودة في كتاب (الإبريز) الذي ألفه أحمد بن مبارك اللمطي في مناقب شيخه عبد العزيز الدباغ وحَشاه بالأكاذيب، وهو مُضاد لما جاء به رسول الله صلى الله عيه وسلم من تقييد الطاعة بالمعروف، قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } مع أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يأمر إلا بالمعروف والمراد تنبيه أمته أن لا يطيعوا أحدا غيره وإن علت رتبته إذا أمرهم بمنكر، وقد لعن الله الذين كفروا على لسان داود وعيسى بن مريم لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وفي صحيح البخاري في قصة أمير السرية الذي أمر أصحابه أن يجعلوا حطبا ثم أمرهم أن يوقدوا نارا ثم أمرهم أن يقتحموها، فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال، لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا إنما الطاعة في المعروف، فهذا أمير أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة وأوجب عليهم طاعته بقوله عليه الصلاة والسلام: (من أطاع أميري فقد أطاعني ) الحديث وهو في الصحيح، ومع ذلك حين أمرهم بمعصية الله بإحراق أنفسهم كانت معصيته واجبة عليهم، وماذا عسى أن يكونَ هذا الشيخ ؟ الواصل إلى الدَّرك الأسفل من ولاية الشيطان وعداوة الرحمن حتى يُطاع طاعة مطلقة { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) } .(92/179)
المسالة الخامسة: وفي الجواهر (ج1ص131) قيل أن أبا يزيد البسطامي باسطه الحق في بعض مباسطته قال له يا عبد السُّوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة فقال وعزَّتك لو أخبرت الناس بما كُشف لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد فقال له لا تفعل فسكت، انتهى ما أملاه علينا شيخنا أبو العباس التجاني رضي الله عنه وأرضاه .
قال محمد تقي الدين: هذه الضلالة أقل شئنا مما سبقها ومع ذلك نطرحها على بساط البحث فنقول كيف وقعت هذه المحادثة بين أبي زيد وبين الله تعالى، وعهدنا بالوحي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى هذه الحكاية أن أبا يزيد كان الوحي ينزل عليه ثم يقال بأي وجه من الوجوه اطلع أبو زيد على سعة رحمة الله التي لا يعرفها رسول الله ولا أصحابه والتابعون ولا من اتبعهم بإحسان، أطلع عليها بواسطة الوحيين أم بطريق أخر ولا يمكن أن يكون اطلاعه على ذلك بطريقة الوحيين أبدا، إذا كان الأمر كذلك لما اختصه هو بهذا الإطلاع فلا بد أن يكون بوحي أُوحي إليه ليس في القرآن، ولا في السنة، وهذه فرية بلا مرية بإجماع المسلمين، ثم يقال ثالثا كيف يتجرأ رجل يخاف الله أن يحاج ربه بهذه المحاجة المغمورة بالوقاحة، ثم يدعي أنه حاجَّ ربه، أي غلبت حُجته حُجة الله تعالى، هذه غاية معرفة الله والوصول إلى حضرته بزعمكم، فماذا تركتم للجهال .
المسألة السادسة : أمور نذكرها بالمعنى مجملة تبتدئ من (ص 134 من ج1) من الجواهر، الأمر الأول: ادعاؤهم أن الكفار محبوبون عند الله تعالى محبة عامة ولم يخرجوا عن محبته سبحانه وتعالى، واستدلوا لذلك فيما نقلوه عن شيخهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر سُهيْل بن عمرو قيل له انزع ثنيتي سيهيل حتى لا يقوم خطيبا عليك بعدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أُمثِّل به فيُمثِّل الله بي وإن كنت نبيا، فعُلم أنه ما خرج عن محبة الحق ولو كان كافرا إذ لو لم يكن محبوبا عنده ما صحت عُقوبة نبيه لأجله .(92/180)
قال محمد تقي الدين، وهذا الاستدلال لا يخفى فساده وفي عبارته تهور وطيش لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر التي توجب العقاب فعقاب الله لنبيه الذي أطلقوه زور وباطل، لأن الله لم يعاقب نبيه ولن يعاقبه أبدا، ومعنى هذا الخبر أن غير النبي المعصوم إذا مَثَّل بقتيل أو بشخص حي يُعاقبه الله تعالى، وهذا كقوله تعالى في سورة الزُّمر : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) } فإحباط العمل مشروط بشيء مستحيل وجوده وإذا استحال وجود الشرط استحال وجود المشروط .
الأمر الثاني: حاصله أن اليهود والمشركين يحبون الله تعالى إلا أن اليهود يحبونه مع معرفتهم بألوهيته والمشركين غلطوا في نسبة الألوهية إلى غيره تعالى، لأنه تجلى لهم في تلك الالباس لكمال ألوهيته فأحبوه وعبدوه من حيث لا يشعرون، فلولا أنه تحلى لهم في تلك الالباس بذلك التجلي إلى محبة ألوهيته ما كانوا يلتفتون إلى تلك الأوثان ولا أن يلموا بها فضلا عن أن يعبدوها فهم محبوبون لله عابدون له من حيث لا يشعرون اهـ .
هذا لا يحتاج إلى تعليق ولا شرح وفي (ص 136 من ج 1) بعد ذكر ما تقدم وهو كالاستدلال له قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، والإله في اللغة هو المعبود بالحق وقوله لا إله إلا أنا يعني لا معبود غيري وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبدوا غيري ولا توجهوا بالخضوع والتدلل لغيري بل أنا الإله المعبود اهـ .(92/181)
وهذا الكلام مأخوذ من كلام ابن عربي الحاتمي في فتوحاته فإنه قال: عن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله تعالى ثم قال التجاني كما في الجواهر بعدما تقدم مباشرة يريد يعني الله تعالى إياك أن تعتقد ما يعتقده الجهال من أنهم يعبدون غيري، أو أنهم يتوجهون لغيري، فالمحبة لهؤلاء حافظة لهم لأنهم محبوبون عنده، وتوجهوا إليه بهمهم، وما توجهوا لغيره سبحانه وتعالى .اهـ
قال مؤلف هذا الكتاب: وماذا يقول التجانيون الذين يعتقدون أن الله يحب الكافرين وان المشركين ما عبدوا إلا الله، في قوله تعالى : { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) } إلى غير ذلك من الآيات التي بلغت في التوكيد والوضوح إلى حد أنه لا يقرأها لا مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مشرك إلا أيقن أنها تدل أن الله لا يحب الكافرين، والذين عبدوا غير الله من النبيين والصالحين و الأوثان قد عبدوا غير الله، وحبطت أعمالهم، ولم يعبدوا الله قط، حتى فيما يفردونه به من العبادات، قال الله تعالى في سورة الأنعام : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا $oYح!%x.uژà³د9 فَمَا كَانَ ِNخgح!%ں2uژà³د9 فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى َOخgح!%ں2uژà° سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) } وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، وقال تعالى في سورة الأنعام بعد ذكر إبراهيم ومن بعده من الرسل : { وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ(92/182)
َOخgح!$t/#uن وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) } فإذا كان المشرك في عبادته لله خاسرا لا يَقبل الله منه شيئا من تلك العبادة، لأنه عَبَد معه غيره، فكيف يكون في عبادته للصَّنم عابدا لله تعالى، ومحبوبا عنده، سبحانك هذا بهتان عظيم . اهـ
المسالة السابعة: قصة قارون مع موسى عليه السلام :
قال في (ص 139 ج 1) ما معناه أن الله قال لموسى: ( إني أمرت الأرض أن تطيعك فافعل بقارون ما تشاء) فدخل موسى دار الذهب على قارون وحوله عظماء بني إسرائيل فقال موسى لبني إسرائيل من كان مواليا لي فليخرج ومن كان مواليا لقارون فليبقى فخرجوا ولم يبق مع قارون إلا قليل وقال موسى يا أرض خذيهم وكان قارون جالسا على كرسي من ذهب، فأخذت الأرض تبتلع الكرسي، قال وكان الملعون عالما بالأمر فتاب، فلم يجد للتوبة سبيلا فقال له: يا موسى ناشدتك الله والرحم فلم يلتفت له، وموسى يقول: يا أرض خذيهم حتى أكمل قارون سبعين مرة يناشد موسى وموسى مستمر على قوله يا أرض خذيهم، فلما أتم السبعين ابتلعته الأرض، وغاب فيها بكرسيه، فهو يتجلجل فيها إلى قيام الساعة لا يبلغ قعرها إلى النفخ في الصور، فعاتب الله موسى عليه السلام عتابا شديدا قال له سبحانه وتعالى : هل تدري لما لم ترحمه، لأنك لم تخلقه ولو خلقته لرحمته، ثم قال له وعزتي وجلالي لا جعلت الأرض بعدك طوعا لأحد فوجه الشاهد قول الحق لموسى عليه السلام: لأنك لم تخلقه ولو خلقته لرحمته، فدل هذا على أن الخلق محبوبون لله تعالى مؤمنهم وكافرهم.
قال محمد تقي الدين: قبل أن أورد ما قاله أئمة التفسير في الآية أهمس في أذن التجانيين همستين :(92/183)
إحداهما : زعمتم أن شيخكم قال أن الكفار محبوبون عند الله، ومرحومون برحمته، فكيف قال شيخكم (وكان الملعون عالما بالأمر) ومن أحبه الله ورحمه لا يكون ملعونا أبدا لأن اللعن طرد من رحمة الله ولا يجتمع مع المحبة والرحمة أبدا .
الثانية: رويتم عن شيخكم أنه قال إن الكرسي الذي كان عليه قارون ابتلعته الأرض والله تعالى يقول فخسفنا به وبداره الأرض، ولم يقل فخسفنا به وبكرسيه الأرض .
فما جوابكم عن هاتين الهمستين ؟ هذه القصة ذكرها غير واحد من المفسرين كالخازن والقرطبي وابن كثير وغيرهم وعزيت إلى ابن عباس .
ولم نر أحدا منهم ذكر لها سندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها مما نقل عن بني إسرائيل فلا حجة فيها والأمر الذي سيقت له وهو ثبوت محبة الله تعالى لقارون وغيره من الكفار دونه خرط القتاد، فلو كان قارون محبوبا عند الله ومرحوما برحمته، ما أهلكه في الدنيا وجعله في الآخرة مع فرعون وهامان وأُبي بن خلف كما جاء في الحديث.
المسألة الثامنة: تفسير التجانيين لقوله تعالى فأولئك يئسوا من رحمتي .(92/184)
قال صاحب الجواهر (ج 1ص 141) في تفسير قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ے¾دmح!$s)د9ur أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } وما ورد في قوله تعالى مما يناقض عموم الرحمة في قوله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ے¾دmح!$s)د9ur أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) } فالرحمة في هذه الآية التي يئسوا منها هي الجنة فقط، فإنها محرمة على كل كافر وليست الجنة غاية رحمة الله تعالى ثم أحتج على إثبات الرحمة للكفار بما نقله عن ابن عربي الحاتمي من أن أهل النار يتنعمون فيها أحيانا، وهذا كلام زنادقة وقد تقدم إبطاله وآيات القرآن التي تدل على اختصاص رحمة الله بالمؤمنين كثيرة جدا منها قوله تعالى في سورة الأعراف : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وقوله تعالى فيها : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } وهذه نصوص من كلام الله سبحانه وتعالى لا تحتمل تأويل، وأجمع المسلمون على أن رحمة الله في الآخرة خاصة بالمؤمنين، وحجتهم في ذلك الكتاب والسنة والإجماع، والتجانيون يريدون أن يخرقوا إجماع المسلمين ويشاقوا(92/185)
الرسول، فيجعلوا رحمة الله شاملة لمن كفر به وكذبه وحارب رسوله، فنعوذ بالله من عمى البصائر . وفي ص 142 ما نصه ( تنبيه وبيان ) في الاستدلال على أن الكفار محبوبون ومرحومون كما سبق في شرح قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله الآية إلى أن قال شيخنا رضي الله عنه وفي هذه المحبة جميع العوالم حتى الكفار، فإنهم محبوبون عنده إلى أخر ما ذكر في حقهم .
المسألة التاسعة : ادعاؤهم أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم كلهم مؤمنون.
وفي (ص 153 ج 1) ما نصه: وسألته رضي الله عنه هل في أجداده عليه الصلاة والسلام من ليس بمؤمن كما يفهم من جهال أهل السير، فأجاب رضي الله عنه بقوله اعلم أن أجداده صلى الله عليه وسلم كلهم مؤمنون من أبيه عليه السلام إلى سيدنا آدم عليه السلام، فقال له السائل: ما معنى قوه تعالى: وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر ؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله أن آزر هو عمه، ولو كان أباه أصليا ما ذكر آزر بعد أبيه، يكفيه الأب ويدل على هذا استغفاره لوالديه في آخر عمره اهـ . قال محمد تقي الدين تقدم حديث مسلم أن أبي وأباك في النار، وحديث استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه فأذن له واستئذانه في الاستغفار لها فلم يأذن له فبكى.(92/186)
أما ادعاؤهم أن آزر إنما هو عم إبراهيم فهي دعوى باطلة لا تقبل إلا بدليل عن المعصوم، وما استدلوا به من ذكر آزر بعد الأب ساقط لقوله تعالى في سورة البقرة: { قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح!$t/#uن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } فقد ذكر الله تعالى اسم إبراهيم بعد ذكر أبوته ليعقوب وقال تعالى في سورة يوسف حكاية عنه عليه السلام: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } فذكر سبحانه يعقوب بعد ذكر أبوته ليوسف، والأصل في دلالات الألفاظ أن تدل على ما وضعت له ولا تصرف عنه إلا بقرينة، وفي تفسير الجلالين مع حاشيته ما نصه واذكر { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ } هو لقبه واسمه تارح { د‚Gs?r& أَصْنَامًا آَلِهَةً } تعبدها استفهام توبيخ { ن 'خoTخ) أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } باتخاذها { فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } اختلف العلماء في لفظة آزر فقال مجاهد آزر اسم أبي إبراهيم وهو تارح ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالحاء المعجمة وقال البخاري في تاريخه الكبير إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ فعلى هذا يكون لأبي إبراهيم اسمان آزر وتارخ مثل يعقوب وإسرائيل اسمان لرجل واحد فيحتمل أن يكون اسمه آزر، وتارخ لقبه له، أو بالعكس فالله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك وكان آزر أبو إبراهيم من كوثي، وهي قرية من سواد الكوفة اهـ .(92/187)
وما رأيت أحدا من المفسرين ذكر ما ادعاه التجانيون من أن آزر عم إبراهيم فأهل الكتاب مجمعون على أن اسمه تارح هو بالحاء المهملة، يقينا، لأني قرأته كذلك في التوراة، وأئمة التفسير في أرجح الأقوال قالوا: يحتمل أن يكون له اسمان آزر وتارح، ويحتمل أن يكون أحدهما لقبا، ولا يجوز القول بأنه عمه، إلا إذا صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا كان تكذيبا للقرآن، فبطل كل ما زعموه من أن أباء النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم كانوا مؤمنين، وزعمهم أن إبراهيم استغفر لأبيه منقوض بقوله تعالى في سورة التوبة : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } .
والدعاوى ما لم يقيموا عليها == بينات أبنائها أدعياء
المسألة العاشرة : في (ص 154 ج 1) ما نصه: قال شيخنا رضي الله في فضل سيدنا علي كرم الله وجهه قال: وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كنت أنا وعلي نورين بين يدي الله تعالى ثم أودعنا في صلب آدم فلم يزل ينقلنا من صلب إلى صلب إلى عبد المطلب فخرجت في عبد الله وخرج علي في أبي طالب، ثم اجتمع نورنا في الحسن والحسين فهما نوران من نور رب العالمين، وقال سيدنا رضي الله عنه ما يصل شيء في الوجود من العلم مطلقا إلا من صهريج علي رضي الله عنه، لأنه باب مدينة علمه صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الأربعة ولا الصحابة بأجمعهم .
قال محمد تقي الدين: في هذا الكلام مآخذ:
الأول: هذا الحديث من رواه ومن صححه، قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في منهاج السنة في هذا الحديث: (إنه كذب مفتري من وضع الشيعة) ورواه الخطيب في المؤتلف والمختلف بمعناه، قال الحافظ في تلخيص مسند الفردوس لوائح الوضع واضحة فيه اهـ .(92/188)
تنزيه الشريعة (ج 1ص 397) وفي الفوائد المجموعة للشوكاني ص 342 حديث آخر لمعناه قال الشوكاني: هو موضوع وضعه جعفر بن أحمد بن علي بن بيان وكان رافضيا وضاعا. والظاهر أنه مسروق من غلاة الشيعة سرقه التجانيون ونسبوه إلى شيخهم فأساءوا إليه من حيث أرادوا رفع ذكره وإثبات فضله بجهلهم وفي مثل هذا يُقال عدو عاقل خير من صديق جاهل .
الثاني وقوله ما يصل شيء من العلم مطلقا إلا من صهريج علي واحتج لذلك بالحديث الضعيف: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، رواه جماعة من أهل الحديث بألفاظ مختلفة والمعنى متقارب، قال العجلوني في كشف الخفاء: هذا الحديث مضطرب غير ثابت كما قاله الدارقطني في العلل، وقال الترمذي منكر، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح. ونقل الخطيب البغدادي عن يحيى بن معين أنه قال: أنه كذب لا أصل له اهـ .(92/189)
قال محمد تقي الدين: وقد حسن الحديث بعض المتأخرين لكثرة طرقه، إلا أن الذين ضعفوه أو قالوا أنه موضوع أعلم وأجل وأكثر، وعلى فرض ثبوته نقول في المأخذ الثالث لم يقل أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين بمثل ما قاله به التجانيون، أنه لا يصل شيء من العلم إلى أحد إلا من صهريج علي لأن الله تعالى يقول في سورة المائدة: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وحذف المعمول يدل على العموم أي بلغ ما أنزل إليك من ربك جميع الناس لا عليا وحده الذي هو باب المدينة، وسائر الناس يجب أن يأخذوا العلم من علي، وغلاة الشيعة يوافقون التجانيين، أو يوافقهم التجانيون في أنه لا يصل شيء من العلم إلى أحد إلا من علي، وقد صرح لي بذلك الشيخ عبد المحسن الكاظمي في المحمرة، التي تسمى اليوم بالفارسية، خرم شهر أي مدينة التمر حين ناظرته في الحسينية وهي دار يجتمعون فيها للبكاء على الحسين بن علي رضي الله عنهما فإنه احتج عليَّ بالحديث المتقدم، وقال إنه متواتر عندنا وعندكم قلت له أما عندنا فهو ضعيف أو موضوع، وقلت له أما معناه: فإن أريد به علي أحد أبواب هذه المدينة فهو صحيح، وإن أريد به أنه لا باب لهذه المدينة إلا علي فهو باطل، فإن أبوبها كثيرة، فقد أمر الله نبيه أن يبلغ الرسالة جميع الناس وذكرت له آية المائدة، فقال بلغ ما أنزل إليك إلى علي، فقلت هذه زيادة في القرآن فقال أن قريشا حذفت من القرآن كثيرا، فقلت إن كانوا قد حذفوا منه كثيرا فلا بد أن يكونوا قد زادوا فيه كثيرا، فقال أما الزيادة فلا، فقلت له: إن الله تعالى يقول: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } فكيف يحفظه من الزيادة ولا يحفظه من النقصان، فقال إن الإمام المعصوم أخبر بذلك، فقلت : ليس عندنا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت له: لو أن قائلا قال(92/190)
لك بلغه لأبي بكر بدل علي فماذا تقول ؟ فسب أبا بكر بكلمة لا أريد ذكرها، وزعم أنه جاهل لا يعرف معنى الأب في قوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) } فكيف يقارن بأمير المؤمنين علي عليه السلام، فقلت إن الشتم سلاح العاجز وأن أبا بكر لم يجهل معنى الأب الذي تعرفه العرب وإنما خاف أن يكون له معنى خاص فتوقف ورعا وهذه المناظرة طويلة نقتصر على هذا القدر الذي سقناه للمناسبة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب كل سائل، ويعلم الصغير والكبير، والرجال والنساء، وأهل الحضر وأهل البادية، ولو كان الأمر كما قول غلاة الشيعة والتجانيون لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم آلاف الأحاديث بلا واسطة وكذلك غيره من الصحابة، منهم المُكثر والمقِّل وقد أخذوا القرآن والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة علي، ولا غيره، ولو كان الأمر كما زعموا ما جاز ولا صح أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم سائلا، ولا أن يعلم أحدا شيئا، بل كان ينبغي أن يحيل كل من سأله على الباب وهو علي، وهذا باطل بإجماع المسلمين .
المسالة الحادية عشرة : ادعاؤهم أن غير الله تعالى من الأنبياء وغيرهم يعلم مفاتيح الغيب.
قال (ص 170 ج 1) يعني شيخه التجاني المراد بالعلم الذي نفاه الله عن ...الخمسة وغيرها من المغيبات هو العلم المكتسب الذي يتوصل إليه الخلق بأحد أمور ثلاث - كذا - أما من أخبار سمعية، أو بأدلة فكرية، أو بمعاينة حسية، فهذه الطرق هي التي حجر الله عن صاحبها أن يعلم الغيب، وأما من وهبه الله العلم اللدني فإنه يعلم بعض الغيب كهذه المذكورات أو غيرها، كما في قصة الخَضر وموسى عليهما الصلاة والسلام اهـ .(92/191)
قال مؤلف هذا الكتاب هكذا قال التجانيون عن شيخهم والآن نسمع ما يقوله أهل الحق قال الحافظ ابن كثير، في تفسير هذه الآية : وقوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } قال البخاري : ( حدثنا عبد العزيز بن بعبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سالم ابن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، أن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري بأي أرض تموت)، وفي القسطلاني على صحيح البخاري قال الزجاجي من زعم أن أحدا غير الله يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن العظيم، وقال الله تعالى في سورة النمل : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) } وأجمع علماء المسلمين على مضمون الآية والحديث، فويل لمن خرق إجماعهم، وأما احتجاجهم بقصة الخَضر فلا يجديهم نفعا، لأن الخَضر نبي أَوحى الله إليه بما ذُكِر في الكتاب العزيز وأُمِر بذلك لقوله : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي )، ولِمَا جاء في الحديث الصحيح من قول الخضر: ( يا موسى إنك على علم علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه ) ولا نزاع في تعليم الله بعض عباده شيئا من الغيب.
المسألة الثانية عشرة : زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نظم شعرا بعد وفاته(92/192)
قال في الجواهر (ص 132 ج 2) وهذه الأبيات التي نذكرها بعد، علمها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في المنام للولي الصالح ذي السعي الرابح صاحب المشهد الكريم الواضح أبي عبد الله سيدي محمد بن العربي التازي فلما استيقظ وجدها في فيه يذكرها فحفظها فبعد ذلك لقي مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، وكان يلاقيه في اليقظة كثيرا . فسأله عن هذه الأبيات وطلب منه شرح الأبيات فأجابه لذلك مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحبته في شيخنا، وأستاذنا مولانا أحمد بن محمد التجاني وهو تلميذ له وصرح له سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن قال له: لولا محبتك في التجاني ما رأيتني قط وقال شرح هذه الأبيات للتجاني وهذا نص الأبيات:
فالمجد والتحميد تنجلي ذاته == وبالقصد كان المنع لي وحدي
وبحق الحق بالحق ترى حقيقة == وبالحق لا بالحق احتجب عني زندي
وفي تدبير أمره أحاطت قدرته == وبالقصد لا بالقصد احتجب عنهم اخذي
فاغرق في بحر الوحدة ترى وحدته == ترتفع عنك الحجب حتى ترى الأسود بالضد
ونص شرح سيد الوجود ولفظه صلى الله عليه وسلم: اسمع ما أقول لك واحتفظ على كل ما تسمعه مني في هذه الأبيات التي أمرتك بحفظها في المنام فاكتب معناها بالتحقيق، و اعطه للتجاني وقل له باب هذه الأبيات هو أعظم البيان، وقل له لا يدخلون على الباب إلا أهل التوحيد المحققين، وأهل التجريد الصابرين، وأهل الوفاء المخلصين، وأهل التحقيق الموقنين، وأهل الصبر الكاتمين، الخ .(92/193)
قال محمد تقي الدين: ليس من مقصدي أن أستقصي كل ما في كتاب الجواهر والرماح من الأباطيل، لأن ذلك كثير ومن ألهمه الله رشده، وكشف عن بصيرته غطاء الجهل والضلال، يكفيه بعض ما تقدم، ليعرف بطلان هذه الطريقة من أساسها، أما من طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فلو كتبت له مجلدات ، وذكرت له آلاف الحجج القاطعات والبراهين الساطعات، لما رجع عن غيه ولا تاب إلى رشده، ومن يضلل الله فما له من هاد، وإنما اخترت من الجزء الثاني ذكر هذه الأبيات لأنها كانت تُنغص علي عيشي وتكدر صفوي حين كنت مؤمنا بالطريقة، لأن روائح الكذب كانت تفوح منها لأمور كثيرة لا تخفى على من له أدنى علم فمن ذلك ركاكة ألفاظها، فإن كل من يعرف شيئا يعتد به من اللغة العربية يجزم أن هذه الأبيات وشرحها يستحيل أن يتكلم به أحد من المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم أو من بعدهم من القرون التي كانت اللغة العربية فيها صحيحة فصيحة، ثانيها: أن هذا الإنشاء لا يصدر عن أحد له نصيب من اللغة العربية ولا في هذا الزمان، ثالثها: تفاهة معانيها، رابعها: تسميتها شعرا وليست من الشعر في شيء فإنها لا توفق أي بحر من البحور التي نظم عليها العرب، أو المولدون الذين جاءوا من بعدهم، كما لا توافق أي وزن يمكن أن يحدث، خامسها: أنها مناسبة لإنشاء راويها لأنه من العوام الذين يعرفون القراءة والكتابة ولا علم لهم بالكلام الفصيح السالم من الخطأ، وإنما نقلتُ من الشرح نموذجا ليطلع عليه القراء فمن شاء أن يقف عليه فليقرأه في الكتاب المذكور.(92/194)
وقد بدأ ظل الطريقة التجانية يتقلص في البلاد العربية فقد نبذها خلق كثير ممن كانوا متمسكين بها، أما في إفريقيا غير العربية فلا تزال منتشرة فقد سمعت أن عدد المتمسكين بها في نيجيريا اثنا عشر مليونا، وفي سينكال مليونان وقس على ذلك ؟ واليوم أخبرني طالب من تشاد أن ثلث المسلمين في تلك البلاد أو أكثر تجانيون، فنسأل الله جلت عظمته أن يخرج أهل هذه الطريقة وغيرها من الطرق الضالة من ظلمات الشرك والبدعة إلى نور التوحيد والسنة، ويهدينا جميعا صراطه المستقيم .
تفشي الشرك الأكبر عند التجانيين
لا أقول إن الشرك خاص بالتجانيين بل هو عام في جميع الطرقيين وغيرهم من الجهال الذين يأكلون خير الله، ويعبدون غير الله، ولم يقدروا الله حق قدره؛ إذ اتخذوا من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم نفعا ولا ضرا يدعونهم لقضاء الحاجات ويستغيثون بهم لتفريج الكربات وأكثرهم غلب عليهم الجهل بتوحيد الله تعالى وإفراده بالربوبية والعبادة، لكني لما كنت تجانيا وعرفت أهل هذه الطريقة أكثر من غيرهم خصصتهم بالذكر ومن المصائب أن الشرك فاش في خاصتهم وعامتهم، عالمهم وجاهلهم، وهذه القصيدة نظمها أجل علماء القرويين في زمانه كما حدثني بذلك شيخنا أبو مصطفى محمد ابن العربي العلوي ألا وهو محمد كَنُّون تشهد بصحة ما ذكرته، قال محمد كنون من بحر الكامل:
إن شئت أن تحظى بكل مؤمل وتفوز بالإسعاد والإيناس
وتجار من ضيم الزمان وضيقه ومن المضرة والبلاء والباس
فعليك بالحبر الهمام المنتقى غوث الورى أعني أبا العباس
ذاك التجاني حاز كل فضيلة بالختم ميزه إله الناس
أصحابه مغفورة زلاتهم سيان في ذا عامد والناسي
ومقامهم أعلى وأعظم مفخرا من رتبة الأقطاب والأجراس
خير الورى المختار يحضر ذكرهم ووضيفة مع حضرة الأكياس
وأجور طاعة غيرهم تكتب لهم أضعافا وهم بحال نعاس
قد بشر الهادي النبي المصطفى بجميع ذا الشيخ الهمام الآسي(92/195)
فاعلق به لا تعد عن أعتابه تظفر بفضل لم يقاس بقياس
وإذا تصبك خصاصة فبه استغث متضرعا ينجيك من إفلاس
واهتف به مستعطفا ومناديا إني ببابك يا أبا العباس
أنقذ غريقا في بحار ذنوبه وامنن عليه بعطفك يا آسي
يا سيد السادات يا غوث الورى عالج بفضل منك قلبي القاسي
وأنل عبيدك نفحة تجلو الصدا لا تتركنه عرضة الأدناس
ثم الصلاة على النبي وآله وصحابه أهل التقى والباس
فانظر إلى أي حد بلغ الإغراق في الشرك والضلال بعلمائهم، فكيف بعامتهم، وهذه أبيات من بحر الرجز،كنا ننشدها جماعة بلسان واحد عند ختم الوظيفة وهي:
يا أحمد التجاني يا نور القلوب == أما ترى ما نحن فيه من كروب
أما ترى الضيم الذي أصابنا == وأنت غوث لم تزل مجابا
العجل العجل بالإغاثة == يا من له كل العلا وراثة
قال محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني السجلماسي : هذا آخر ما يسر الله إملاءه نصيحة للمسلمين، وحرصا على إنقاذ المتورطين وفكاك الأسارى المكبولين ،أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع به كل من قرأه، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وموجبا لرضوانه الأكبر في جنات النعيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
وكان الفراغ منه بين العشاءين لليلة بقيت من شهر
شعبان سنة تسع وثلاثمائة وألف بالمدينة
النبوية على من شرفها الله به أفضل
الصلاة والسلام وأزكى التحية.
- - -(92/196)
بحث حمد الجاسر الذي زلزل بقايا الصوفية في الحجاز !!
كتبه سليمان الخراشي
---
بسم الله الرحمن الرحيم
ألقى الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - " علامة الجزيرة في التاريخ " محاضرة في (جامعة أم القرى) بمكة بعد مغرب ليلة الأربعاء 13 جمادى الآخرة سنة 1402هـ ، ثم نشرها كبحث في مجلة العرب ( س 17 ج 3-4) ؛ أحدث هزة وربكة بين أساطين التصوف في الحجاز بسبب نسفه - تاريخيًا - لكثير من خرافاتهم التي يوردونها كحقائق ليُضلوا بها البسطاء ؛ ولذا فقد حاولوا الرد عليه والتهويش ، متناسين شهادة الجميع له بالتفرد والتفوق على أبناء عصره في هذا المجال التاريخي .
وقبل أن أنشر أهم ماجاء في بحثه ؛ لابد من ذكر 3 تنبيهات :
الأول : أن الصوفية في الحجاز شرذمة قليلة حاولت خداع الناس بأنها تمثل أبناء تلك المنطقة ! مستغلة الأحداث السياسية المعروفة في بداية تشكيل المملكة . وهذا أمر مجانب للحقيقة ؛ إذ أن أهل الحجاز - وفقهم الله - هم من أهل السنة - ولله الحمد - ؛ كما يشهد بذلك تاريخهم وعلماؤهم الذين حاول دهاة التصوف إخفاء صوتهم . ومن أراد معرفة هذه الحقيقة المغيبة فليرجع إلى رسالة ( جهود بعض علماء البلد الحرام في تقرير العقيدة السلفية في القرن الرابع عشر الهجري ) للأستاذ عبدالمحسن الحربي . وأبشر الإخوة بطلائع حجازية قادمة تعيد الحق إلى نصابه ، وتسهم في كشف الحقيقة ؛ كما رأينا في رد الشريف حاتم العوني على مي يماني وغيرها من الصوفية ، وكما في ردود الشيخ الموفق سمير مالكي على قريبه محمد علوي مالكي .. وآخرين غيرهم ؛ زادهم الله توفيقًا .(93/1)
الثاني : قد لايعرف كثيرون أن زناد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قد انقدح من الحجاز ، وأن شيوخه الحجازيين ( كابن سيف ومحمد حياة السندي المدني ومحمد البرهاني وغيرهم ) هم أول من لفت نظره إلى أهمية التوحيد ، وأيدوه على دعوته إليه . ( انظر : عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية .. للشيخ صالح العبود، 1/150-169) . وأن أبرز وأكثر من عارضه هم شيوخ نجد ! . فمايسمى بالدعوة ( الوهابية ) حجازية المنشأ ؛ لا كما يحاول الصوفية ترويجه ؛ بغية صد الناس عن الحق .
الثالث : قد يقال : ألا نكتفي بالنصوص وأقوال العلماء الشرعيين في الرد على هؤلاء الصوفية ؟ فأقول : يكفي هذا مع طلاب الحق ، أما الممارون المجادلون كالمتصوفة ؛ فلا يكفيهم أن تورد عليهم الأدلة الشرعية وأقوال العلماء ؛ لأنهم سيتخلصون منها بحيل كثيرة ؛ إما بصرف المعنى ، أو بتعدد الأفهام ، أو .. الخ . أما الرد التاريخي الذي ينسف خرافاتهم من أساسها فلن يستطيعوا له دفعًا ولا تحويلا . والله الموفق .
الآثار الإسلامية في مكة المشرفة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الآثار –أيها الإخوة- في هذه البلدة المشرفة نوعان:
1 - مشاعر العبادة المقدسة، في مكة ومِنَى ومزدلفة وعرفات، ومواقيت الحج المكانية، وقد تكفل الله بصيانتها وحفظها، لارتباطها بما تعبّد عباده بالقيام به من أنواع العبادة.
2 - ونوع آخر من الآثار، له ارتباط بحياة من عاش على تراب هذه البلدة الطاهر، كالمساجد والموالد والقبور والأمكنة، وهذا ما سأحاول حصر الحديث حوله، متوخياً الإيجاز ، مشيراً إلى أمرٍ هام وثيق الصلة به، بل هو أساس يقوم عليه هذا الحديث عن هذا النوع من الآثار :(93/2)
هو أن سلفنا الصالح في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ما كانوا يهتمون بالمحافظة على آثارهم، ولا يعتنون بتحديد مواقعها أو أزمانها، بل كانوا في كثير من الأحيان عندما يخشون المبالغة في تعظيمها يسعون لإزالتها، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رأى الناس ينتابون بالزيارة شجرة الرضوان، التي بايع المسلمون المصطفى –عليه الصلاة والسلام- تحتها، وأنزل الله في تلك البيعة قوله عز وجل: )لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة( فأمر الفاروق رضي الله عنه بقطعها.
وقد أوفى المحققون من العلماء هذا الأمر إيضاحاً وتحقيقاً، وتحسن الإشارة أيضاً إلى أن لتساهل العلماء في رواية ما يتعلق بفضائل المواضع أثراً كبيراً في حدوث كثير من الآثار، كما أن التنافس بين أهل المدن في بعض الأحيان زاد تلك الفضائل كثرة وشهرة، بوسائل مختلفة.
ولا أريد التوسع في الحديث عن هذا، وحسب القارئ أن يستعرض جوانب منه في تشابه كثير من الآثار في المدينتين الكريمتين، ككثرة المساجد المنسوبة إلى بعض المتقدمين، ونسبة كثير من القبور لبعض المشاهير في مقبرتي المعلاة والبقيع، بل حتى في الآبار، كبئر زمزم –مثلاً-.
الموالد في مكة المكرمة :
لعل أشهر هذه المواضع وأقدمها المكان الذي يرى كثير من متقدمي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد فيه، الواقع في شعب بني هاشم بقرب سوق الليل، وهو مكان لا يزال معروفاً، مع كثرة ما طرأ عليه من التغيير، غير أن نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم محل شك لدى كثير من العلماء.(93/3)
ولعل القائلين بصحة تلك النسبة اعتمدوا على القرائن في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أهل مكة –لا شك في ذلك- وبنوهاشم عشيرته الأقربون كان ربعهم معروفاً في الشِّعب الذي عُرف بهم، ثم بأبي طالب أحدهم، والدار التي يقع فيها المولد كانت في ذاك الشعب، وكانت للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر استولى عليها ابن عمه عقيل بن أبي طالب كما في الحديث الشريف: "وهل ترك لنا عقيل من دار"؟ من هنا قال بعض العلماء ومنهم ابن القيم في كتاب: "زاد المعاد": (لا خلاف في أنه r وُلد بجوف مكة).
غير أن ممن تقدم ابن القيم من العلماء من ذكر الخلاف في ذلك، فقد نقل مؤرخ مكة تقي الدين الحسني الفاسي في "شفاء الغرام" وفي مقدمة "العقد الثمين" أن مُغُلطاي العالم الحنفي المصري (689/762) وهو من حفَّاظ الحديث ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد بعُسفان.
ولمغلطاي مؤلف في السيرة في مكتبة الحرم المكي هو كتاب "الإشارة إلى سيرة المصطفى، وتاريخ من بعده من الخلفاء"(1)ورد فيه: (وُلد صلى الله عليه وسلم بمكة، في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ويقال: بالشِّعب، ويقال بالرَّدم، ويقال: بعُسفان).
وعلى القول بأنه –عليه الصلاة والسلام- وُلد في مكة، فهناك اختلاف بين العلماء في تحديد الموضع الذي وُلد فيه، فقد ذكر محمد بن محمد بن سيد الناس (734-671هـ) في كتاب "عيون الأثر في سيرة سيد البشر" ما نصه: (وولد في الدار التي تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إنه ولد في شعب بني هاشم) كذا أورد الخبر بصيغة: (قيل) . وقال الإمام السهيلي (581-508) في كتاب "الروض الأنف": (وولد بالشِّعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدًا، حين حجَّت).(93/4)
وأورد تقي الدين الفاسي هذا القول واستغربه فقال: (مولد النبي صلى الله عليه وسلم، بسوق الليل وهو مشهور، وذكر السهيلي في خبر مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ما يُستغرب) ثم أورده وأضاف: (وأغرب منه ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم، ولد في الردم، ردم بني جمح).
ويقصد الردم الذي ردم في عهد عمر بن الخطاب t سنة 17 لصيانة المسجد الشريف من دخول السيل، موقعه في أعلى المُدَّعا الموضع الذي ذكر بعض العلماء أن المحرم يقف فيه للدعاء، إذ منه كانت تشاهد الكعبة المطهرة.
وهذا الاختلاف في الموضع الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على القول بأن الجزم بأنه الموضع المعروف عند عامة الناس باسم المولد لا يقوم على أساس تاريخي صحيح، وهذا أمر أوضحه الشيخ عبدالله العياشي (1090-1037هـ) في رحلته فقال ما نصه: ( وقد عُلم من كتب السير ما وقع من الاختلاف في مولده صلى الله عليه وسلم هل هو بمكة أو بالأبواء، وعلى أنه بمكة فقيل بالشِّعب وقيل المحصَّب إلى غير ذلك من الأقوال .
ولا أدري من أين أخذ الناس تعيين هذا المحل بالخصوص، اللهم إلا أن يثبت أن تلك دار والده أو جده صلى الله عليه وسلم فيترجح القول بأنه في مكة في قضية عادية، وهي أن ولادة الإنسان في الغالب في منزل والده، وإن أُريد بالشِّعب شِعب أبي طالب الذي انحاز إليه مع بني هاشم وبني المطلب في قضية الصحيفة، فلا يبعد ذلك؛ لأن هذه الدار قريبة من الشعب من أسفله.
والعجب أنهم عيّنوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وسلم !! ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف، لما تقدم من الخلاف في كونه في مكة أو غيرها، وعلى القول بأنه فيها ففي أي شعابها ؟! وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟! وعلى القول بتعيين الدار يبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار، بعد مرور الأزمان والأعصار، وانقطاع الآثار.(93/5)
والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعتني بحفظ الأمكنة، سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام فقد عُلم من حال الصحابة وتابعيهم ضَعفُ اعتنائهم بالتقييد، بالأماكن التي لم يتعلق بها عمل شرعي، لصرفهم اعتناءهم رضي الله عنهم لما هو أهم : من حفظ الشريعة، والذب عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام، من مساجده عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاهد الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية؟! لا سيما مالا يكاد يحضره أحد إلا من وقع له، كمولد علي ، ومولد عمر، ومولد فاطمة –رضي الله عنهم جميعهم- فهذه أماكن مشهورة عند أهل مكة، فيقولون: هذا مولد فلان، هذا مولد فلان، وفي ذلك من البعد أبعد من تعيين مولده صلى الله عليه وسلم، لوقوع كثير من الآيات ليلة مولده صلى الله عليه وسلم ، فقد يتنّبه بعض الناس لذلك بسبب ما ظهر من الآيات، وإن كانوا أهل جاهلية، وأما مولد غيره ممن ولد في ذلك العصر فتكاد العادة أن تقطع بعدم معرفته، إلا أن يرد خير عن صاحب الواقعة بتنبهه أو أحد من أهل بيته ) . انتهى كلام العياشي ، وهو شامل لجميع الموالد المنسوبة لمن عاش في عهد المصطفى –عليه الصلاة والسلام- فلا داعي للحديث عنها.
المساجد:
وفي مكة مساجد، كانت تُقصد للزيارة، منها: مسجد بأعلى مكة عند الردم - المدَّعا - يدعى مسجد الراية، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وركز رايته حين فتح مكة بقربه.
ومسجد عند المُدَّعا –أيضاً- على يمين الهابط إلى مكة ويسار الصاعد منها، ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى فيه المغرب.
ومسجد المختبا في سوق الليل بقرب ما يُزعم بأنه المولد ، يقال بأن النبيصلى الله عليه وسلمكان يختبئ فيه من الكفار.(93/6)
ومسجد بأسفل مكة بقرب بركة الماجن، ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ،ومسجد الجن، ويسمى مسجد البيعة، ومسجد الحرس، ومسجد الإجابة في شعب بقرب ثنية أذاخر.
وهناك مساجد أخرى، وكلها وردت منسوبة له صلى الله عليه وسلم أو لأحد من أصحابه في أخبار لا تثبت أمام النقد، من حيث صحة نسبتها إلى من نسبت إليه.
وكذا المساجد المذكورة في منى، باستثناء مسجد الخيف، وهذا لا ينافي قدم تاريخ إنشاء تلك المساجد، واعتبارها من الأماكن القديمة ، فيدرس تاريخها على هذا الأساس، ويهتم بها بصفتها أماكن للعبادة.
أماكن أثرية :
ومن أشهر المواضع الأثرية جبلا حِراء وثور –من جبال أم القرى- ففي غار الأول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد، وفيه نزل عليه الوحي.
وفي غار الثاني اختبأ هو وأبو بكر حين هاجرا من مكة، وفيه نزل قوله تعالى: )إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا(.
ومن أشهر المواضع الأثرية قرب مكة وادي حُنين (يدعان) أعلى وادي الشرائع ، الذي حدثت فيه الوقعة المذكورة في القرآن الكريم: )ويوم حنين إذ أجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً( الآية. وتحسن الإشارة إلى التفريق بين موضعي حُنينٍ وأوطاس، حيث وقع من بعض المؤرخين ما يُفهم منه اعتبارهما موضعاً واحداً، مع تغايرهما ، فأوطاس يقع شرق سلسلة جبال الحجاز، أقرب المواضع المأهولة منه عُشيرة، يقع غرب وادي العقيق، على مقربة من البركة شمالها بميل نحو الغرب .
القبور:
لا شك أن مقبرة المعلاة في مكة المشرفة حوت من رفات الأجسام الطاهرة من المؤمنين ما لم تحوه مقبرة من حيث الفضل، باستثناء مقبرة البقيع.(93/7)
وقد ألف الفيروز آبادي صاحب "القاموس المحيط" رسالة دعاها: "إثارة الحَجون، لزيارة الحَجون" ذكر الصحابة المدفونين في تلك المقبرة، ونظم هذه الرسالة علي بن أبي بكر الصايغ، أحد علماء مكة في صفر سنة 1287 بأرجوزة سماها: "اللؤلؤ المكنون، في ذكر أسماء أهل الحجون" وذكر أن عدد الصحابة المدفونين في مقبرة الحجون ثمانية وثلاثون رجلاً وسبع نسوة، سرد جميع أسمائهم نقلاً عن رسالة الفيروز آبادي، التي تضمنت تراجم أولئك.
ولكن مما تجب ملاحظته:
1- الاختلاف في موقع الحجون الوارد في كتب المتقدمين، فقد ذكر الفاسي أن الحجون جبل على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى منى على ما ذكر الأزرقي والفاكهي، وهما أقدم مؤرخي مكة ممن وصلت إلينا مؤلفاتهم(2).
وإذن فهو مخالف لما عليه الناس من أن الحجون الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة المعلاة.
وأضاف الفاسي: ولعل الحجون على مقتضى كلام الأزرقي والفاكهي والخزاعي هو الجبل الذي يقال: فيه قبر ابن عمر رضي الله عنهما أو الجبل المقابل له، الذي بينهما الشعب المعروف بشعب العفاريت انتهى.
ويرى مؤرخ مكة في عصرنا الأستاذ الشيخ أحمد السباعي أن ثنية الحجون تقع في الجبل المتصل بشعب عامر، وأن إطلاق اسم الحجون على ما هو معروف عند الناس الآن حدث بعد الإسلام(3).
2- ليس كل من مات في مكة قبر في مقبرة الحجون كما يُفهم من رسالة صاحب "القاموس" إذ لمكة عند ظهور الإسلام مقابر غير مقبرة الحجون التي هي مقبرة المعلاة ؛ منها: المقبرة العليا بين المعابدة وثنية الحرمانية –ثنية أذاخر- وكان يدفن فيها في الجاهلية وصدر الإسلام.
ومنها: مقبرة المهاجرين، بالحصحاص، بين فخّ والزاهر (الشهداء).
ومنها: مقبرة الشبيكة، وكانت تعرف بمقبرة الأحلاف، بينما تعرف مقبرة المعلاة بمقبرة المطيبين.
لهذا لا يمكن الجزم بأن من توفي في مكة مقبور بمقبرة المعلاة (الحجون)(93/8)
3- نص المتقدمون من مؤرخي مكة على عدم معرفة قبر أحدٍ من الصحابة إلا قبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في سرف.
قال الفاسي: ولا أعلم في مكة، ولا فيما قرب منها قبر أحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى قبر ميمونة، لأن الخلف يأثره عن السلف، وقال ابن ظهيرة في "الجامع اللطيف": عن مقبرة المعلاة: لما حوته من سادات الصحابة والتابعين، وكبار العلماء والصالحين، وإن لم يعرف قبر أحد من الصحابة تحقيقاً الآن. انتهى
وفي عصرنا –بل قبله بنحو ستة قرون- عُرف قبر أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها ، معرفة قائمة على أساس من الجهل، إن صحَّ أن للجهل أساساً، فشُيِّدت قبة عظيمة تحمل ذلك الاسم الطاهر، ثم أقيم بجوار تلك القبة في أول القرن الحادي عشر قُبَّتان تحمل إحداهما اسم (عبد المطلب) وتعرف الأخرى باسم قبة (أبي طالب) !!
وارتباط هذه الأسماء الثلاثة بحياة المصطفى عليه الصلاة والسلام أضفى عليها هالة من الإجلال، حتى اعتقد كثير من الجهال صحة وجود قبر خديجة وقبر عبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي طالب عمه، وهو اعتقاد خاطيء كما أشرت إلى ذلك في كلمة لي بعنوان: (خرافة قبة اليهودية) (4) قلت فيها: ( من الأمور التي لا حقيقة لها ما يصبح بمرور الزمان ذا تاريخ تتناقله الأجيال، حتى يُعد بطول الزمن وبتناقل ذكره بين الناس من الأمور الثابتة التي لا يسوغ إنكارها.(93/9)
فقبر أم المؤمنين خديجة –رضي الله عنها- كان مجهولاً لدى مؤرخي مكة حتى القرن الثامن الهجري ، أي طيلة سبعة قرون بل تزيد، ثم أصبح معروفاً محدد المكان، في القرون الخمسة الماضية حتى يومنا هذا، بعد أن رأى أحد العارفين في المنام(5) كأن نوراً ينبعث من شُعبة النور، في مقبرة المعلاة، ولما علم أمير مكة في ذلك العهد بخبر تلك الرؤيا أمر ببناء قبة فوق المكان الذي رأى ذلك العارف أن النور ينبعث منه، جازماً ذلك الأمير أن ذلك المكان ما هو سوى قبر خديجة رضي الله عنها(6) !!!
ويورد المرجاني في كتاب "بهجة النفوس والأسرار" الخبر باختصار ويعقب عليه: (ولا كان ينبغي تعيينه على الأمر المجهول).
ويدور الزمان فيصبح المكان وما حوله مقبرة للعظماء من أهل مكة ! ؛ فيقبر فيه في القرن الحادي عشر في سنة 1010هـ عبد المطلب بن حسن بن أبي نُمي، ثم في سنة 1012هـ يموت أحد أمراء مكة ممن عرف بالظلم والجبروت، وهو أبو طالب بن حسن بن أبي نمي، وتُبنى فوقه قبة تعرف بقبة أبي طالب، بجوار قبة خديجة الخرافية وقبة عبدالمطلب، ويدور الزمان فيُجهل أمر صاحبي القبة، فتنشأ خرافة قبة عبدالمطلب جد الرسول r الذي مات في زمن الفترة، وقبة أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي عليه الصلاة والسلام، الذي مات مشركاً بنص القرآن الكريم.(93/10)
ويُدون التاريخ تلك الخرافات الثلاث باعتبارها حقائق تاريخية، وتتناقلها الأجيال إلى يومنا هذا، بل تزداد رسوخاً وقوة حين تصدى عالم جليل من علماء العصر(7) بكتابة سفر نفيس دعاه "في منزل الوحي" إذ تطغى عاطفة التدين على ذلك العالم حين يشاهد مقبرة مكة (المعلاة) فتنتابه الذكريات عمن ضمَّت من أجساد عظماء الأمة خلال الثلاثة عشر قرناً وما فوقها من السنين، وتنطلي عليه خرافة قبر عبدالمطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام، وقبر أبي طالب عمه، وقبر أم المؤمنين خديجة زوجه، فيتقبل القول على عِلاَّته، ويريح نفسه من عناء البحث والتحقيق، فيجري يراعه السيال بكتابة الصفحات التي يعدد فيها أمجاد السادة الذين ضم تراب تلك المقبرة رفاتهم !!
ويخص بالذكر منهم أولئك الثلاثة، وينحي باللائمة على من أزال تلك القباب الخرافية !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن الباحثين ممن جاؤوا بعد ذلك العالم اتخذوا كتابه مصدراً يُعتمد عليه في آثار مكة وأخبارها، بحيث أن إحدى المجلات(8) الدينية تقوم بنشر كُتيب عن الحج في كل عام منذ بضع سنوات، وتعدد فيه آثار قبور المعلاة الثلاثة القبور الخرافية !
وقل أن كتب عن هذه البلدة الكريمة أحدٌ من غير العارفين من أهلها فلم ينظر إلى هذه الآثار ونحوها نظرة الواثق بصحة ما يقال عنها، لِمُلامستها للعواطف.
أما مثقفو هذه البلاد، وأولوا الرأي فيها ؛ فهم يدركون أنها لا سند لها من التاريخ ، وأن ما يروى عنها غير صحيح(9).
حمد الجاسر
*****************************************************
الهوامش :
1 - رقمها (87) سيرة) في 67 ورقة. مخطوطة سنة 810 مصححة ومقابلة على الأصل المقرؤ على المؤلف تنتهي بخبر قتل المستعصم سنة 656 من قبل التتار.
ولمغلطاي كتاب آخر مطول في السيرة هو "الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم" منه مخطوطة في مكتبة (ليدن) في (هولندا) رقمها في فهرس المخطوطات الشرقية (370).(93/11)
2 - انظر مجلة "العرب" س 16 ص 237.
3 - محاضرة ألقاها سنة 1388هـ في نادي الوحدة الرياضي بمكة بعنوان: (عبدالله بن الزبير صاحب فكرة في تاريخ مكة) "العرب" س 2 ص 865.
4 - " العرب" س 10 ص 278.
5 - انظر كتاب "البحر العميق في العمرة والحج إلى بيت الله العتيق" لمحمد بن أحمد بن الضياء القرشي المكي الحنفي ج 1 الورقة (20) مخطوطة مكتبة الحرم المكي. رقم (40) فقه حنفي فقد أشار إلى هذا الخبر، وأورده مفصلاً أحد مؤرخي مكة المتأخرين.
6 - ذكر كثير من المؤرخين المتأخرين أن خديجة –رضي الله عنها- قبرت بمقبرة المعلاة، وذكر التجيبي في رحلته أنه شاهد (سنة 696هـ) في طرف مقبرة المعلاة شعباً ذكر أن فيه قبر خديجة وقال: (وليس لها بالشعب المذكور قبر ظاهر، ولكنهم يقولون إنها به والله أعلم) انتهى. ولهذا فإن المحققين من المؤرخين نصوا على أنه لا يعرف في مكة من قبور الصحابة سوى قبر أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، في سرف خارج مكة بقرب التنعيم، وقبر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في ثنية أذاخر مما يلي باب المعلى (رحلة التجبي ص339) والله أعلم.
7 - هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا –رحمه الله-.
8 - هي مجلة "الوعي الإسلامي" التي تصدر في الكويت.
9 - "منزل الوحي" ص 204 و 205.(93/12)
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
من كتاب البدع الحولية
إعداد
عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد التويجري
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي : ويشمل على ستة مباحث :
المبحث الأول : أول من أحدث هذه البدعة .
المبحث الثاني : حالة المجتمع في ذلك العصر .
المبحث الثالث : بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة والجواب عنها .
المبحث الرابع : طريقة إحياء المولد .
المبحث الخامس : حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم .
المبحث السادس : موقف أهل السنة من هذه البدعة .
للحصول على كتاب البدع الحولية
http://saaid.net/book/index.php
المبحث الأول
أول من أحدث هذه البدعة
مضت القرون المفضلة الأولى ، والثاني والثالث ، ولم تسجل لنا كتب التاريخ أن أحداً من الصحابة ، أو التابعين ، أو تابعيهم ومن جاء بعدهم- مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، كونهم أعلم الناس بالسنة ، وأحرص الناس على متبعة شرعه صلى الله عليه وسلم احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .(94/1)
وأول من أحدث هذه البدعة هم بني عبيد القداح(1) الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين ، وينتسبون إلى ولد علي أبي طالب- رضي الله عنه-،وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية ، فجدهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز(2)وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق،ثم رحل إلى المغرب،وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله ، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة،ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر بن جعفر الصادق ، فقبلوا ذلك منه، مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يعقب ذرية(3)، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة(4)، ثم لما تمادت بهم الأيام ، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح،فغيَّر اسمه ونسبه وقال لأتباعه:أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فظهرت فتنته بالمغرب(5) .
قال البغدادي : ( وأولاده اليوم مستولون على أعمال مصر )ا.هـ(6) .
وقال ابن خلِّكان : ( وأهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب ) ا.هـ(7) .
__________
(1) - سمي القداح : لأنه كان كحَّالا يقدح العيون إذا نزل فيها الماء . يراجع : وفيات الأعيان (3/118) ، والبداية والنهاية (11/202) ، ولسان العرب (2/556) مادة (قدح).
(2) - الأهواز : سبع كور بين البصرة وفارس ، وسوق الأهواز من مدنها والتي فتحها أبو موسى الأشعري سنة 17هـ ، قيل عن أهلها : أنهم أبخل الناس وأحمقهم وهي كثيرة الحمى . يراجع : معجم البلدان (1/384- 386) .
(3) - يراجع : فضائح الباطنية ص( 16) .
(4) - فرقة من فرق الباطنية . وقد تقدم الكلام عن الباطنية
(5) - يراجع : الفرق بين الفرق ص(266، 267) ، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه ص(20 ، 21) .
(6) - يراجع : الفرق بين الفرق ص(267)
(7) - يراجع : وفيات الأعيان (3/117، 118) .(94/2)
وفي سنة 402هـ كتب جماعة من العلماء والقضاء ، والأشراف والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين ، محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين – العبيديين – وشهدوا أن الحاكم بمصر هو : منصور بن نزار الملقب بـ(( الحاكم ))- حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بن سعيد- لا أسعده الله -،فإنَّهُ لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله ، وتلقب بالمهدي ، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج ، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ولا يعلمون أحداً من أهل بيوتات على بن أبي طالب-رضي الله عنه- توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبه ، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين ، وفي أول أمرهم بالمغرب ، منتشراً انتشاراً يمنع أن يدلس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادَّعوه ، وأن هذا الحاكم بمصر- هو وسلفه-كفار فساق فجار ، ملحدون زنادقة ، معطلون ، وللإسلام جاحدون ، ولمذهب المجوسية والوثنية معتقدون ، قد عطَّلُوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وأحلوا الخمر ، وسفكوا الدماء ، وسَبُّوا الأنبياء ، ولعنوا السلف، وادَّعُوا الربوبية،وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة للهجرة ، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير(1) ا.هـ.
__________
(1) - منهم :
من العلويين : المرتضى ، والرضى ، وابن الأزرق الموسوي ، وأبو طاهر بن أبي الطيب ، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى .
ومن القضاء: أبو محمد بن الأكفاني ، وأبو القاسم الجزري ، وأبو العباس بن الشيورى .
ومن الفقهاء : أبو حامد الإسفراييني ، وأبو محمد بن الكسفلي ، وأبو الحسن القدوري ، وأبو عبد الله الصميري ، وأبو عبد الله البيضاوي ، وأبو علي بن حكمان .
ومن الشهود : أبو القاسم التنوخي . يراجع : البداية والنهاية (11/386-387) .(94/3)
وقد صنَّف القاضي الباقلاني كتاباً في الردِّ على هؤلاء وسماه :(كشف الأسرار وهتك الأستار).بيَّن فيه فضائحهم وقبائحهم، وقال فيهم : هم قوم يظهرون الرفض ، ويبطنون الكفر المحض(1) .
وقد سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- عنهم ، فأجاب :( بأنهم من أفسق الناس ، ومن أكفر الناس، وأن من شهد لهم بالإيمان والتقوى ، أو بصحة النسب ، فقد شهد لهم بما لا يعلم ، وقد قال تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ......}(2) . وقال تعالى : {.....إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }(3) .
وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة ، وأئمتها ، وجماهيرها ، أنهم كانوا منافقين زنادقة ، يظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر ، فالشاهد لهم بالإيمان ، شاهد لهم بما لا يعلمه ؛ إذ ليس معه شيء يدلّ على إيمانهم ، مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم .
وكذلك النسب : قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم ، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود ، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وأهل الحديث ، وأهل الكلام ، وعلماء النسب ، والعامة ، وغيرهم . وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم ، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم ؛ كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه ، فإنَّه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم .
__________
(1) - يراجع : البداية والنهاية (11/387) .
(2) - سورة الاسراء: الآية36.
(3) - سورة الزخرف: الآية86.(94/4)
وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين ، حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه ، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم ، وكذلك ابن الجوزية ، وأبو شامة ،وغيرهم من أهل العلم بذلك.حتى صنَّف العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم؛كالقاضي أبي بكر الباقلاني في كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم،وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بيَّن فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدَّ إلهية عليّ أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم ، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي- رحمه الله- في كتابه الذي سمَّاه ( فضائل المستظهرية ، وفضائح الباطنية ) قال : ( ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض )(1) .
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد ، وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على عليِّ غيره ، بل يفسِّقون من قاتله ولم يتب من قتاله . يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة ، فهذه مقالة المعتزلة في حقهم ، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة ؟!! ، والرافضة الإمامية ، مع أنهم أجمل الخلق ، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل ، ولا دين صحيح ، ولا دنيا منصورة – يعلمون أن مقالة هؤلاء الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرّ من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية على – رضي الله عنه - .
وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف .
__________
(1) - يراجع : فضائح الباطنية ص (37) .(94/5)
وهؤلاء -بنو عبيد القدح-ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع ،فإن لهم في هذا شركاء كثيرين ،بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية،الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية ، وأمثالهم من الكفار المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والذين أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة. فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان، فأقل ما في شهاداته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم ، وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ، ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم : دليل على بطلان نسبهم الفاطمي ، فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته ، لا تكون معاداته لدينه كمعادة هؤلاء ، فلم يعرف في بني هاشم ، ولا بني أمية : من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام ، فضلاً عن أن يكون معادياً كمعاداة هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم آدم، الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف دينه هذه المعاداة ؟!. ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطناً وظاهراً معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله ، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله ، وهذا مما يدل على كفرهم، وكذبهم في نسبهم .ا.هـ(1).
فأوّل من قال بهذه البدعة الاحتفال بالمولد النبوي – هم الباطنية الذين أرادوا أن يُغيِّروا على الناس دينهم ، وأن يجعلوا فيه ما ليس منه ؛ لإبعادهم عمَّا هو من دينهم ، فإشغال الناس بالبدع طريق سهل لإماتة السنة والبُعْد عن شريعة الله السمحة ، وسنته صلى الله عليه وسلم المطهرة .
وكان دخول العبيديين مصر سنة 362هـ ، في الخامس من رمضان(2) ، وكان ذلك بداية حكمهم لها .
__________
(1) - يُراجع : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (35/ 120-132) .
(2) - يراجع : البداية والنهاية (11/306) .(94/6)
وقيل : يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة 362هـ(1)، فبدعة الاحتفال بالموالد عموماً ،ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً ، إنَّما ظهرت في عهد العبيديين ، ولم يسبقهم أحدٌ إلى ذلك .
قال المقريزي : (ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية ، وتكثر نعمهم .
وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي :
موسم رأس السنة ، وموسم أول العام ، ويوم عاشوراء ، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومولد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومولد الحسن ، ومولد الحسين عليهما السلام ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ، ومولد الخليفة الحاضر ، وليلة أول رجب ، وليلة نصفه ، وليلة أول شعبان ، وليلة نصفه ، وموسم ليلة رمضان ، وغرة رمضان ، وسماط رمضان ، وليلة الختم ، وموسم عيد الفطر ، وموسم عيد النحر ، وعيد الغدير ،وكسوة الشتاء ، وكسوة الصيف ، وموسم فتح الخليج ، ويوم النوروز ، ويوم الغطاس ، ويوم الميلاد ، وخميس العدس ، وأيام الركوبات ).ا.هـ(2) .
ثم تكلم عن كل موسم ، ومراسم الاحتفال فيه .
__________
(1) - يراجع : اتعاظ الحنفا (1/134) .
(2) - يراجع الخطط المقريزية (1/490) .(94/7)
فهذه شهادة ظاهرة واضحة من المقريزي- وهو من المثبتين انتسابهم إلى ولد علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- ومن المدافعين عنهم - أن العبيديين هم سبب البلاء على المسلمين ، وهم الذين فتحوا باب الاحتفالات البدعية على مصراعيه ، حتى أنهم كانوا يحتفلوا بأعياد المجوس والمسيحيين كالنوروز ،والغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وهذا من الأدلة على بعدهم عن الإسلام، ومحاربتهم له ، وإن لم يجهروا بذلك ويظهروه . ودليل أيضاً على أن إحياءهم للموالد الستة المذكورة-ومنها المولد النبوي-، ليس محبة له صلى الله عليه وسلم وآله كما يزعمون ، وكما يظهرون للعامة والسذَّج من الناس ، وإنما قصدهم بذلك نشر خصائص مذهبهم الإسماعيلي الباطني ، وعقائدهم الفاسدة بين الناس ، وإبعادهم عن الدين الصحيح ، والعقيدة السليمة بابتداعهم هذه الاحتفالات ، وأمر الناس بإحيائها ، وتشجيعهم على ذلك ، وبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك .
فخلاصة ما سبق أن أول من احتفل بالمولد النبوي هم بنو عبيد القداح ( الفاطميون ) ، ويدلُّ على ذلك : ما ذكره المقريزي في خططه – وسبق وذكرته – وما ذكره القلقشندي في صبح الأعشى(1) .
وقد رجع هذا وأخذ به جماعة من العلماء المتأخرين(2) وصرَّحُوا به .
__________
(1) - يراجع : صبح الأعشى (3/498، 499) .
(2) - منهم : محمد بخيت المطيعي في كتابه أحسن الكلام ص(44) ، وعلي محفوظ في كتابه الإبداع ص(251) ، وحسن السندوبي في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص (62) ، وعلي الجندي في كتابه نفح الأزهار ص(185، 186) ، وإسماعيل الأنصاري في كتابه القول الفصل ص (64) ، وغيرهم من المؤلفين في هذا المجال .(94/8)
وأمَّا ما ذكره أبو شامة في كتابه ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ): من ثنائه على الاحتفال بالمولد النبوي ، وأنه من أحسن ما ابتدع في زمانه(1)، وأن أول من احتفل بذلك بالموصل(2)، والشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين ، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل(3): فلا يدلُّ على أن أول من احتفل بالمولد النبوي ، هو صاحب إربل ؛ لأمرين :
أحدهما : أن أبا شامة – رحمه الله – قيَّد هذه الأولوية بقوله : (أول من فعل ذلك بالموصل)(4). فكلامه يدلُّ على أن أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل هو صاحب إربل اقتداءً بالشيخ عمر بن محمد الملا ، وليس فيه دلالة على أن أول من احتفل بالمولد النبوي على الإطلاق هو صاحب إربل .
__________
(1) - ما ذكره أبو شامة هو وغيره من الاستحسان للاحتفال بالمولد النبوي خطأ واضح ، مخالف لما عليه المحققون من علماء هذه الأمة ، ويعتبر من زلات العلماء وأخطائهم ، عفا الله عنا وعنه .
(2) - هي المدينة المشهورة ، ومحط الركبان ، وهي باب العراق ، ومفتاح خرسان وسميت بالوصل ؛لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق ، أو بين دجلة والفرات ،وتقع على نهر دجلة ، وأول من عظمها من الخلفاء : مروان بن محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية ، وصفها العلماء بصحة الهواء ، وعذوبة . يراجع : معجم البلدان (5/223-225).
(3) - إربل : - بالكسر ثم السكون ثم ياء مكسورة -: من الربل أو الريبال ، وهو نوع من أنواع النبات ، وهي قلعة حصينة ، ومدينة كبيرة ، على تل عال من التراب وهي من أعمال الموصل ، وبينهما مسيرة يومين ، وقد قام بعمارتها الأمير كوكبوري ، فأقام بها وقامت بمقامه بها – وهو المراد بقول أبي شامة : صاحب إربل – وأكثر أهلها من الأكراد . وتقع في شمال العراق شرقي مدينة الموصل . يراجع : معجم البلدان (5/127-139).
(4) - يراجع : الباعث الحثيث ص(21) .(94/9)
ولكن السيوطي-رحمه الله- أطلق ذلك في كتابه (حُسن المقصد في عمل المولد )- الذي ضمنه كتابه الحاوي- فقال :(وأوَّلُ من أحدث فعل ذلك- الاحتفال بالمولد النبوي- صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين علي بن بكتكين ، أحد الملوك الأمجاد ).ا.هـ(1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ :( وهذه البدعة- الاحتفال بالمولد- أول من أحدثها أبو سعيد كوكبوري في القرن السادس الهجري ) .ا.هـ(2) .
وقال الشيخ حمود التويجري : ( إن الاحتفال بالمولد بدعة في الإسلام أحدثها سلطان إربل في آخر القرن السادس من الهجرة ، أو في أول القرن السابع ) .ا.هـ(3) .
فإذا عرفنا ذلك، فلا شكَّ أن العبيديين هم أول من احتفل بالمولد النبوي، حسب ما ورد في كتب التاريخ والسير؛ لأنَّ العبيديين دخلوا مصر وأسسوا ملكهم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، واستمرت دولتهم القرن الخامس، ونصف القرن السادس الهجري .
فقد دخل المعز معد بن إسماعيل القاهرة في سنة 362هـ(4) في رمضان ، وكان ذلك بداية حكمهم في مصر(5) . وقيل : في سنة 363هـ(6).
وكان آخر خليفة فيهم هو العاضد ، توفي سنة 567هـ(7).
__________
(1) - يراجع : الحاوي (1/189) الكتاب رقم (24) .
(2) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم (3/59) .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(89) .
(4) - يراجع : البداية والنهاية (11/306) ،واتعاظ الحنفا (1/134) .
(5) - أما أول من حكم منهم : فهو المهدي عبيد الله ، وكان ذلك سنة 296هـ وبنى المهدية وذلك في المغرب ، ثم جاء بعده ابنه القائم محمد ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل منهم ديار مصر وأول من ملكها منهم .
يراجع : البداية والنهاية (11/283) .
(6) - يراجع : أخبار ملوك بني عبيد ص (88) .
(7) - يراجع : البداية والنهاية (11/280) ،واتعاظ الحنفا (1/324، 332) .(94/10)
وأما مظفر الدين صاحب إربل ، فلولادته كانت في سنة 549هـ . وتوفي سنة 630هـ(1) .
فهذا دليلٌ قاطعٌ على العبيديين سبقوا صاحب إربل – الملك المظفر – بالاحتفال بالمولد النبوي .
فصاحب إربل ليس أول من احتفل بالمولد النبوي ، وإنما سبقه إلى ذلك العبيديون بحوالي قرنين من الزمان ، وهذا لا يمنع أن يكون صاحب إربل هو أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل ؛ لأنَّ احتفالات العبيديين كانت في دولتهم – وهي في مصر كما ذُكِرَ في كتب التاريخ - ، والله أعلم .
المبحث الثاني
حالة المجتمع في ذلك العصر
كانت سياسة العبيديين موجهة إلى غاية واحد، هي العمل بكل جدِّ وإخلاص لحمل الناس على اعتناق مذهبهم، وجعله سائداُ في كافة أنحاء الديار المصرية ، وغيرها من البلاد التي كانوا يحكمونها ، والمجاورة لهم .
فقد كان عبد العزيز يعطف على النصارى واليهود ، كما كان أبوه – المعز معد أبو تميم – قبله ، ولكن العزيز كان أكثر عطفاً على النصارى ، لِما كان بينه وبينهم من صلة النسب(2) .
ورفع العزيز عيسى بن نسطورس إلى كرسي الوزارة ، كما عيَّن منشأ اليهود ، والياً على الشام ، فأظهر ابن نسطورس ومنشأ محاباة جليَّة لبني ملتهم ، فعينوهم في مناصب الدولة بعد أن أقصوا المسلمين عنها ، فقدم المسلمون الاحتجاجات على تلك المحاباة التي أظهرها الخليفة لغير المسلمين وبلغ من حال هؤلاء الساخطين أن كتبت امرأة إلى العزيز : بالذي أعز اليهود بمنشأ، والنصارى بعيسى بن نسطورس ، وأذل المسلمين بك ألا كشفت ظلامتي(3) .
__________
(1) - يراجع : وفيات الأعيان (4/120) .
(2) - فقد تزوج بنصرانية واستعمل أخويها على بعض الكنائس . يراجع الدولة الفاطمية ص(202) .
(3) - يراجع : البداية والنهاية (11/358) ،والمنتظم (7/190) ،واتعاظ الحنفا (1/297) .(94/11)
فأمر بالقبض على ابن نسطورس، وكتب إلى الشام بالقبض على منشأ وغيره من الموظفين اليهود، وأمر برد الدواوين والأعمال إلى الكتاب المسلمين ، وعيَّن القضاة للإشراف على أعمالهم في جميع أنحاء الدولة، لكن الأمير ست الملك ابنة الخليفة شفعت لابن نسطورس فردّ العزيز الوزارة إليه ثانية،وشرط عليه استخدام المسلمين في الحكومة .
ولقد تقلد أهل الكتاب أرقى المناصب وأعلاها في عهد العزيز (365-376) ، وشغلوا في عهد المستنصر (427-487) ، ومن جاء بعده من الخلفاء ، معظم المناصب المالية في الدولة ، بل تقلَّدُوا الوزارة أيضاً .
ولم تقتصر هذه المعاملة على ما تقدم، فقد ولع بعض الخلفاء العبيديين: كالحافظ مثلاً(524-544هـ)بزيارة أديرة(1) النصارى، وكان الآمر ( 495- 524هـ ) يعطي الرهبان(2) في بعض الأديرة عشرة آلف درهم كلما خرج للصيد ، بل قد ازدادت موارد الكنائس(3) المصرية زيادة عظيمة في عهد العبيديين(4) .
فقد كان العبيديون يعاملون النصارى معاملة تنطوي على العطف والرعاية والمحاباة، فإذا كان هذا موقفهم من اليهود والنصارى فما موقفهم من أهل السنة ؟!
__________
(1) - أديرة : جمع دير ، وهوخان النصارى ، وبيت يتعبد فيه الرهبان ، ويكون في الصحاري ورؤوس الجبال ، وإذا كان داخل المصر فهو كنيسة أو بيعة . يراجع : لسان العرب (4/300، 301) مادة ( دير ) ، ومعجم البلدان (2/495) .
(2) - الراهب : المتعبد في الصومعة ، وأحد رهبان النصارى ، وكانوا يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا ، وترك ملاذها ، والزهد فيها .يراجع :لسان العرب (4/437، 438).
(3) - الكنائس : جمع كنيسة ، والكنيسة متعبد اليهود أو النصارى أو الكفار . يراجع : القاموس المحيط (2/256) باب السين فصل الكاف .
(4) - يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص (202-216) .(94/12)
لقد عمل العبيديون على لعن الخلفاء الثلاثة- أبي بكر ، وعمر ، وعثمان -رضي الله عنهم أجمعين- وغيرهم من الصحابة ؛ إذ عدّوهم أعداءً لعلي -رضي الله عنه-، وتفشت فضائل علي وأولاده من بهده على السكة(1) وعلى جدران المساجد، وكان الخطباء يلعنون الصحابة على كافة منابر مصر .
وقد ألزم العبيديون جميع الموظفين المصريين أن يعتنقوا المذهب العبيدي الباطني ، كما حتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق قوانين هذا المذهب .
بل إن الحصول على مناصب الدولة مشروط بالتحول إلى المذهب الشيعي ، مما دفع بعض الذميين(2) إلى اعتناق الإسلام ، واتخاذ التشيع مذهباً لهم(3) .
وكان من عدائهم للسنة وأهلها: أن أمر العزيز بقطع صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية، وذلك سنة 372هـ. وكذلك في سنة 393هـ قبض على ثلاثة عشر رجلاً، وضربوا وشهروا على الجمال، وحبسوا ثلاثة أيام، من أجل أنهم صلُّوا صلاة الضحى.
وفي سنة 381هـ ضرب رجل بمصر ، وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس -رحمه الله-.
__________
(1) - السكة : حديدة منقوشة ، يضرب عليها الدراهم ، وتطلق ويُراد بها الدينار والدرهم المضروبين ، سمي كل واحد منهما سكة ؛ لأنه طبع بالحديدة المعلمة له . يراجع : القاموس المحيط (3/316) فصل السين ، باب الكاف ، ولسان العرب (10/440، 441) مادة (سكك) .
(2) - الذميين : نسبة إلى الذمَّة والذمام : وهما بمعنى العهد والأمان والضمان والحركة والحق ، وسمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم ، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وكذلك المجوس ؛ لأن لهم شبهة كتاب . يراجع : النهاية في غريب الحديث والأثر (2/168) ، والإفصاح لابن هبيرة (2/292) .
(3) - يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(218) .(94/13)
وفي سنة 395هـ في شهر صفر كتب على سائر المساجد ، وعلى الجامع العتيق(1)بمصر ،من ظاهره وباطنه، ومن جميع جوانبه ، وعلى أبواب الحوانيت ، والحجر ، وعلى المقابر ، سبّ السلف ولعنهم ، ونقش ذلك ، ولون بالأصباغ والذهب ، وعمل ذلك على أبواب الدور ، والقياسر(2)وأكره الناس على ذلك(3) .
فكان لعن السنيين تفيض به ألسنة الناس من على المنابر في كافة أنحاء مصر طوال الحكم العبيدي تقريباً ، حتى أن العاضد – آخر الخلفاء العبيديين – كان شديد التشيع ، متغالياً في سبّ الصحابة- رضوان الله عليهم- وإذا رأى سنياً استحل دمه(4).
وأشد من ذلك كله أن الحاكم العبيدي قد ادَّعى الألوهية ، فأمر الناس أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه ،إعظاماً لذكره ،واحتراماً لاسمه،وقد فُعِل ذلك في سائر ممالكه ،حتى في الحرمين الشريفين ، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له ، حتى أنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ، ممن كان لا يصلي الجمعة ، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ، ويسجدون للحاكم ، حتى أن قوماً من الجهال إذا رأوه يقولون له : يا واحدنا يا واحدنا، يا محيي يا مميت .
__________
(1) - ويقع بمدينة فسطاط مصر ، ويقال له : تاج الجوامع ، وجامع عمرو بن العاص ، وهو أول مسجد أسس بديار مصر في الملة الإسلامية بعد الفتح . يراجع : الخطط المقريزي (2/246) .
(2) - القياسر : هي كالخان العظيم تغلق عليها أبواب حديد ، وتطيف بها دكاكين وبيوت بعضها على بعض ، وهي في الواقع مجموعة من المباني العامة على هيئة رواق ، وبها حوانيت ، ومصانع ، ومخازن ، وأحياناً مساكن . يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(620) .وقد ذكرها المقريزي في الخطط بشيء من التفصيل في (2/86-91) .
(3) - يراجع : الخطط المقريزي (2/341) .
(4) - يراجع : وفيات الأعيان (3/110) .(94/14)
وأمر السودان أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال ، والمتاع ، والحريم ، فامتثلوا لأمره ، وسبوا النساء ، وفعلوا فيهن الفاحشة ، والمنكرات ، وأحرقوا ثلث مصر ، ونهبوا نصفها(1).
فما تقدَّم يعطي فكرة موجزة عن حالة المجتمع في عهد العبيديين ، الذي هم أول من ابتدع الاحتفال بالموالد ، وسبق وذكرت أن احتفالاتهم تلك ليست نابعة من محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وآله؛لأنَّ من بدر منه ما سبق ذكره آنفاً- وإن ادَّعى محبته- صلى الله عليه وسلم ومحبة آله ،فليس صادقاً ولا يعقل أن يصدر منه ذلك.
وإنما كان هدفهم الوحيد هو بلوغ أغراضهم السياسية، ونشر مذهبهم الإسماعيلي الباطني، واستمالة عامة الناس بإقامة الاحتفالات التي تتجلى فيها مظاهر الكرم ، والهدايا النفسية من النقود ، والجوائز للشعراء ، وكتَّاب القصر ، والعلماء ، وكذلك الإحسان للفقراء ، وإقامة الولائم . وكل هذه الأمور جديرة بأن تستميل كثيراً من الناس إلى اعتناق مذهبهم .
وبما أن نفقاتهم تلك على الاحتفالات والولائم كان القصد منها محاربة دين الله ورسوله ، وإبعاد الناس عن العقيدة الصحيحة ، والمنهج السليم ، فقد ابتلاهم الله بالجوع ونقص الأموال والثمرات . فالبرغم من رخاء مصر ، وعظم ثرائها ،والأموال التي كانت تفيض بها خزائن العبيديين ، والتي كانوا ينفقونها على ملذاتهم ، وقصورهم ، وبطانتهم الفاسدة ، واحتفالاتهم وموالدهم البدعية ، فقد حصل لأهل مصر من المجاعة ما تحدثت به كتب التاريخ ، ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في ( المنتظم) فقال في حوادث سنة 462هـ - وهي من سني خلافة المستنصر -:
__________
(1) - يراجع : البداية والنهاية ( 12/ 10، 11) ، والمنتظم (7/298) .(94/15)
( وفي ذي القعدة ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء ، هاربين من الجرف(1) والغلاء ، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت ، وأن الناس أكل بعضهم بعضاً ، وظُهِرَ على رجل قد ذبح عدة من الصبيان والنساء وطبخ لحومهم وباعها ، وحفر حفيرة دفن فيها رؤوسهم وأطرافهم ، فقتل . وأكلت البهائم فلم يبق إلا ثلاثة أفراس لصاحب مصر – المستنصر -بعد ألوف من الكراع ، وماتت الفيلة ، وبيع الكلاب بخمسة دنانير ، وأوقية(2) زيت بقيراط(3)، واللوز والسكر بوزن الدراهم ، والبضة بعشرة قراريط ، والراوية من الماء بدينار لغسل الثياب ، وخرج وزير صاحب مصر إلى السلطان ، فنزل عن بغلته وما معه إلا غلام واحد لعدم ما يطعم الغلمان ، فدخل ، وشُغِل الركابي(4)عن البلغة لضعف قوته فأخذها ثلاثة أنفس ومضوا بها فذبحوها وأكلوها ، فأنهى ذلك إلى صاحب مصر فتقدم بقتلهم وصلبهم ، فصُلِبُوا ، فلما كان من الغد وجدت عظامهم مرمية تحت خشبهم وقد أكلهم الناس، وباع رجل داراً بمصر كان ابتاعها بتسعمائة ديناراً فاشترى بها دون الكارة(5) من
__________
(1) - الجرف : الأخذ الكثير ، وجرفت الشيء أجرفه أي : ذهبت به كله أو جله وقد جرفه الدهر أي : اجتاح ماله وأفقره . يراجع : لسان العرب (9/25، 26) .
(2) - الأوقية:زنة سبعة مثاقيل ، وزنة أربعين درهماً ، أو نصف سدس الرطل . يراجع : النهاية (5/217) ، باب الواو مع القاف . يراجع : لسان العرب(15/404)مادة (وقى).
(3) - القيراط :جزء من أجزاء الدنيا ،وهو نصف عشره في أكثر البلاد . وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين.يراجع :النهاية (4/42)،يراجع :لسان العرب(7/375).
(4) - الركابي : نسبة إلى الركاب ، والركاب : هو ما يركب من دابة . يراجع : لسان العرب(1/430) مادة (ركب).
(5) - الكارة : هي من الثياب ما يجمع ويشد ، وهي مقدار أو معلوم من الطعام يحمله الرجل على ظهره . يراجع : الإفصاح في فقه اللغة (2/722) .(94/16)
الدقيق).ا.هـ(1).
فخلاصة الكلام : أن العبيديين لما دخلوا مصر وأرادوا نشر مذهبهم الباطني ، متخذين التشيع ستاراً يحجب أنظار الناس عن حقيقة دعوتهم، استعملوا في سبيل ذلك شتى الوسائل:فأغروا العامة ورعاع الناس بالهدايا والولائم والاحتفالات كأداة من أدوات نشر مذهبهم ، وبالمقابل استعملوا القتل والسجن والأذى لمن عارضهم من أهل السنة المدركين لحقيقة دعوتهم. فعامة الناس كانوا متطلعين إلى هذه الاحتفالات البدعية لحاجتهم لما يُنْفق فيها من الأموال، ولرغبتهم في ترويح أنفسهم، والاستجابة لهواها.والخوف من السلطان ومن يعلم بدعية هذه الاحتفالات وغيرها من المحدثات لا يستطيع الإنكار لما ينتظره من القمع والتعذيب .
فكان مناخاً مناسباً لانتشار البدع ، وتعويد الناس عليها ، وتعليقهم بها ، لما يعلموا من وراء ذلك من الترغيب والترهيب من السلطان الظالم .
بالإضافة إلى أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم -والله أعلم- بأنهم أدعياء على النسب الشريف ، فظنُّوا- وتحقق ظنهم – أن إقامة الموالد للنبي صلى الله عليه وسلم وآله تثبت للناس صحة نسبهم وانتسابهم إلى آل البيت ، فابتدعوا تلك الموالد وأنفقوا عليها الأموال الطائلة ، والله أعلم .
المبحث الثالث
بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة
والجواب عنها .
__________
(1) - يراجع : المنتظم (8/257، 258) . يراجع كذلك : وفيات الأعيان (5/230) ترجمة المستنصر ، البداية والنهاية (12/107) ، واتعاظ الحنفا (1/279، 296- 299) .(94/17)
لما أحدثت بدعة الاحتفال بالمولد النبوي في عهد العبيديين ، وفشت وانتشرت بين الناس لوجود الفراغ الروحي والبدني معاً ، وترك المسلمون الجهاد وتأصلت هذه البدعة في النفوس، وأصبحت جزءاً من عقيدة كثير من أهل الجهل ، لم يجد بعض أهل العلم كالسيوطي -رحمه الله– بُدا من محاربة تبريرها بالبحث عن شبه يمكن أن يُستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه ، وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضاً من جهة ، وتبريراً لرضى العلماء بها ، وسكوتهم عن إنكارها لخوفهم من الحكام والعوام من جهة أخرى .
ومن هذه الشبه :
1- الشبهة الأولى :
قال اليسوطي- رحمه الله - :(وقد استخرج له- أي المولد -إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر- العسقلاني- أصلاً من السنة ، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً .... فقد سُئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر – العسقلاني – عن عمل المولد ، فأجاب بما نصه :(94/18)
( أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن ، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا . قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو :ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هو يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجَّى موسى ، فنحن نصومه شكراً لله تعالى(1) ،فُيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة- عليه السلام - في ذلك اليوم .
وعلى هذا ، فينبغي أن يُتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى - عليه السلام-في يوم عاشوراء ، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قومٌ فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله...).ا.هـ(2) .
الجواب عن هذه الشبهة : من وجوه :
الوجه الأول :
أن ابن حجر-رحمه الله- صرح في بداية جوابه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح، من القرون الثلاثة، وهذا كافٍ في ذمِّ الاحتفال بالمولد ؛ إذا لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون ، وأئمة العلم والهدى من بعدهم .
الوجه الثاني :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (4/244) كتاب الصوم ، حديث رقم (2004) . ورواه مسلم في صحيحه (2/796) كتاب الصيام ، حديث رقم (1130) (128) وفيه : (( فصامه موسى شكراً لله )) بدلاً من : (( فنحن نصومه شكراً لله تعالى )) .
(2) - يراجع : الحاوي (1/196) كتاب رقم (24) .(94/19)
أن تخريج ابن حجر في فتواه عمل المولد على حديث صوم عاشوراء ، لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول تلك الفتوى بأن ذلك العمل بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً؛ إذا لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف الصالح،ويفهمه من بعدهم.
كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه ؛ إذا لو كان دليلاً عليه لعمل به السلف الصالح ، فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي من حديث صوم يوم عاشوراء ،مخالف لما أجمع عليه السلف ، من ناحية فهمه، ومن ناحية العمل به ، وما خالف إجماعهم فهو خطأ ؛ لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى .
وقد بسط الشاطبي – رحمه الله – الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه الموافقات في أصول الأحكام(1).
الوجه الثالث :
أن تخريج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء ، إنما هو من التكلُّف المردود ؛ لأنَّ العبادات مبناها على الشرع والاتباع ، لا على الرأي والاستحسان والابتداع(2) .
الوجه الرابع :
أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ورغب فيه ، بخلاف الاحتفال بمولده ، واتخاذه عيداً ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولم يرغّب فيه ، ولو كان في ذلك شيء من الفضل لبين ذلك لأمته لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا خير إلا وقد دلَّهم عليه ، ورغَّبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذَّرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه، وحذرهم منه.
__________
(1) - يراجع : الموافقات (3/41-44) ، المسألة الثانية عشرة من كتاب : الأدلة الشرعية .
(2) - يراجع : الرد القوي ص(32) .(94/20)
قال صلى الله عليه وسلم : (( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(1) .
قال صلى الله عليه وسلم : (( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة))(2) . (3) .
2- الشبهة الثانية :
قال السيوطي – رحمه الله – بعد ذكره تخريج ابن حجر عمل المولد على صوم يوم عاشوراء : وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو : ما أخرجه البيهقي عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة(4). مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية ، فُيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعاً لأمته ، كما كان يصلي على نفسه ،لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام ، ونحو ذلك من وجوه القربات ، وإظهار المسرات(5) .
الجواب عن هذه الشبهة :
أن هذا الحديث لم يثبت عند أهل العلم :
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18)، المقدمة . وفي سنده عبيد بن ميمون المدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545).
(2) - رواه أحمد في مسنده (3/310)ورواه مسلم في صحيحه (2/592) كتاب الجمعة ، حديث (867). ورواه النسائي في سننه (3/188،189) كتاب صلاة العيدين ، باب كيف الخطبة . ورواه ابن ماجه في سننه (1/17) المقدمة ، حديث (45) .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(32) .
(4) - رواه البيهقي في سننه (9/300) كتاب الضحايا ، وقال : قال عبد الرزاق : إنما تركوا عبد الله بن محرر لحال هذا الحديث ، وروي من وجه آخر عن أنس وليس بشيء .
(5) - يراجع : الحاوي (1/196) كتاب رقم (24) .(94/21)
أ-فقد قال عبد الرزاق في مصنفه:أنبأنا عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن نفسه بعد النبوة(1)
قال ابن قيم الجوزية بعد إيراده هذا الحديث وعزوه إلى عبد الرزاق في مصنفه قال عبد الرزاق : ( إنَّما تركوا ابن محرر لهذا الحديث )(2) .
ب- وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري : أن هذا الحديث لا يثبت ، ونسبه للبزار ، وقال : قال البزار : تفرد به عبد الله – محرر – وهو ضعيف(3).
جـ - قال النووي في المجموع شرح المهذب: وأما الحديث الذي ذكره في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبد الله بن محرر- بالحاء المهملة ، والراء المكررة - ، عن قتادة ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة . وهذا حديث باطل ، وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه ، وقال الحفاظ : متروك . والله أعلم(4) .
د- قال الذهبي في ميزان الاعتدال- بعد أن ذكر ترجمة عبد الله بن المحرر ،وكلام الحفاظ فيه ،وأنه متروك، وليس بثقة – ومن بلاياه – عبد الله بن المحرر – روى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بُعِث(5).
3- الشبهة الثالثة :
قال السيوطي: ثم رأيت إمام القرَّاء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف)ما نصه:
__________
(1) - رواه عبد الرزاق في مصنفه (4/329) حديث رقم (7960) .
(2) - يراجع : تحفة المودود ص(88) . ودكره ابن حجر في فتح الباري (9/595) .
(3) - يراجع : فتح الباري (9/595) .
(4) - يراجع : المجموع شرح المهذب (8/431، 432) .
(5) - يراجع : ميزان الاعتدال (2/500) ترجمة رقم ( 4591) .(94/22)
( قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم ، فقيل له ما حالك ؟ فقال : في النار،إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص بين أصبعي ماء بقدر هذا- وأشار لرأس أصبعه-وأن ذلك بإعتاقي لثويبة ،عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له .فإذا كان أبو لهب الكافر ، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحة ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به ،فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم ) .ا.هـ(1) .
الرد على هذه الشبهة :
__________
(1) - يراجع : الحاوي (1/196، 197) .(94/23)
أن هذا الخبر رواه البخاري مرسلاً في باب :{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ }(1)، و(( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))(2) من صحيحة،بعد أن ذكر الحديث بسنده عن عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله ! انكح أختي بنت أبي سفيان ،فقال : (( أو تحبين ذلك ؟)) .فقلت : نعم ، لست لك بِمُخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن ذلك لا يحل لي )) . قلت : فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال : (( بنت أم سلمة ؟ )) . قلت : نعم . فقال : (( لو أنها لم تكن ربيبتي(3) في حجري ما حلَّت لي ، إنها لابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكنّ ))(4) .
__________
(1) - سورة النساء: الآية23.
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/253) كتاب الشهادات ، حديث رقم (2645) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1071) كتاب الرضاع ، حديث رقم (1447) .
(3) - الربيبة : بنت الزوجة من غير زوجها الذي معها . يراجع : النهاية (2/180) باب الراء مع الباء .
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/140) كتاب النكاح ، حديث رقم (5101) ، واللفظ له . ورواه مسلم في صحيحه (2/1072) كتاب الرضاع ، حديث رقم (1449) .(94/24)
قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب ، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة(1) ، قال له : ماذا لقيت ؟ قال : أبو لهب : لم ألق بعدكم ، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة(2).
قال الحافظ ابن حجر : وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ، لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}(3).
وأجيب عن هذا من وجوه منها :
أن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثهُ به – كما تقدم - .
وعلى تقدير أن يكون موصلاً ، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ، ولعلَّ الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به(4).
أن ما ورد في مرسل عروة هذا من إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكره ابن الجزري من أنه أعتقها عندما بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم(5): يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبي لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل .
__________
(1) - الحيية – بكسر الحاء المهملة وفتح الباء - ، أي : بشر حال ، والحيبة والحوبة : الهم والحزن . يراجع : النهاية (1/466) باب الحاء مع الياء . وقال ابن منظور : أي بحال سوء ، وقيل : إذا بات بشدة ، وحال سيئة لا يقال إلا في الشر . يراجع : لسان العرب (1/339) مادة (حوب ).
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (9/140) كتاب النكاح ، حديث رقم (5101).
(3) - سورة الفرقان:23 .
(4) - يراجع : فتح الباري (9/145) .
(5) - وهذا وجه الاستشهاد عند القائلين ببدعة الاحتفال بالمولد النبوي ، وأن ما حصل لأبي لهب كان بسبب فرحه بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه لثويبة بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب هذا الفرح . وهذا باطل حقيقة ومعنى .(94/25)
قال ابن سعد : ( وأخبرنا محمد بن عمر – الواقدي – عن غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها ، وهي يومئذٍ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها، فأبي أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أعتقها أبو لهب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة ، حتى جاءه خبرها أنها قد تُوفيت سنة سبع مرجعة من خيبر )(1) .
وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكره إرضاع ثويبة للرسول صلى الله عليه وسلم : ( وأعتقها أبو لهب بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة )(2) ا.هـ .
وقال ابن الجوزي : ( وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة فيكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة ، وهي يومئذٍ أمة ، ثم أعتقها أبو لهب )(3) ا.هـ .
أنه لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن ثويبة بشرته بولاته ، ولا أنه أعتق ثويبة من أجل البشارة بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم ذلك – فكل هذا لم يثبت ، ومن ادّعى ثبوت شيء من ذلك ، فعليه إقامة الدليل على ما ادَّعاه ، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً(4) .,
الشبهة الرابعة :
__________
(1) -يراجع : الطبقات (1/108، 109) .
(2) - يراجع : الاستيعاب (1/12) .
(3) - يراجع : الوفا بأحوال المصطفى (1/178، 179) .
(4) - يراجع : الرد القوي ص(57) .(94/26)
ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الذي جاء فيه: وسئل عن صوم الاثنين ؟ . قال :(( ذاك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت )) أو (( أنزل عليه فيه ))(1). فقالوا : هذا دليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده ، وكان يعبر عن هذا التعظيم بالصوم ، وهذا في معنى الاحتفال به(2) .
الجواب عن هذه الشبهة :
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته ، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول – إن صح أنه كذلك - ، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات ، وبناء على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول ، بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع ، يعتبر استدراكاً على الشارع ، وتصحيحاً لعلمه ، وما أقبح هذا إن كان !!!- والعياذ بالله -(3) .
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/297) . ورواه مسلم في صحيحه (2/819، 820) كتاب الصيام ، حديث رقم (1162) (197، 198) . ورواه ابن خزيمة في صحيحة (3/298، 299) حديث رقم (2117) .
(2) - يراجع : المدخل لابن الحاج (2/2، 3) ، وحوار مع المالكي ص(47) ، والرد القوي ص (61) .
(3) - يراجع : الإنصاف للجزائري ص (44) .(94/27)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص يوم الاثنين بالصيام ، بل كان يتحرى صيام الاثنين والخميس(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ))(2).
فالاستدلال بصوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال ببدعة المولد في غاية التكلف والبعد(3) .
إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به ، وهو الصوم وعليه فلنصم كما صام ، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه ؛ لأنَّ الصيام فيه مقاومة لشهوات النفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب ، وهم يريدون ذلك-الطعام والشراب- فتعارض الغرضان،فآثارون ما يحبون على ما يحب الله،وهذا بعينه أعظم الزلل عند أهل البصرة(4).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (6/80) . ورواه الترمذي في سننه (2/124) أبواب الصوم ، حديث رقم (742) ، وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي في سننه (4/152، 153، 202، 203) كتاب الصيام ، باب (36) ، وباب (70) . ورواه ابن ماجه في سننه (1/553) كتاب الصيام ، حديث رقم (1739) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/201) . ورواه أبو داود في سننه (2 /814)كتاب الصوم ، حديث ( 2436) . ورواه الترمذي في سننه (2/124) أبواب الصوم ، حديث رقم (744) ، وقال : حديث حسن غريب. ورواه النسائي في سننه (4/201، 202) كتاب الصيام .
(3) - يراجع : الرد القوي ص(62) .
(4) - يراجع : الإنصاف ص(44)(94/28)
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد ، من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب ، أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيها ويسعها ما وسعه ؟ وهل يقدر عاقل أن يقول : لا . وإذن فلم الافتيات على الشارع ، والتقدم بالزيادة عليه ، والله سبحانه وتعالى يقول : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1) .
ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلاله))(3).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها ))(4) .
5- الشبهة الخامسة :
__________
(1) - سورة الحشر: الآية7.
(2) - سورة الحجرات:1.
(3) - رواه ابن ماجه في سننه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1/18) المقدمة . وفي سنده عبيده بن ميمون الدني ، قال ابن حجر : مستور . تقريب التهذيب (1/545) .
(4) - رواه البيهقي في سننه (10/12، 13) كتاب الضحايا . مرة موقوفاً ، ومرة مرفوعاً . وذكره النووي في الأربعين وقال : ( حديث حسن رواه الدار قطني وغيره . وقال ابن رجب : وله علتان : إحدهما : أن مكحولاً لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة . والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة الخشني ) ا.هـ .
يراجع : جامع العلوم والحكم ص (242) الحديث رقم (30) .(94/29)
ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي قولهم :إن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن، من قوله تعالى :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}(1). فالله أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(2).(3).
الجواب عن هذه الشبهة :
أن الاستدلال بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ، من قبيل حمل كلام الله تعالى على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه، في العمل به ، وهذا أمرٌ لا يليق؛ لما بينه الشاطبي في كتابه (الأدلة الشرعية من الموافقات ) وهو أن الوجه الذي يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه ، لا يقبل ممن بعدهم دعوى دلالة النص عليه . قال: إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادقاً لمقتضى هذا المفهوم، ومعارضاً له ، ولو كان ترك العمل(4)، فما عمل به المتأخرين من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنَّة والأمر المعتبر، وهو الهدى ، وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف... وكثير ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلُّون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء ، ولذلك أمثلة كثيرة :
__________
(1) -سورة يونس: الآية58.
(2) - سورة الانبياء:107.
(3) - يراجع : القول الفصل ص(32، 33) .
(4) - أي : ولو كان عملهم ترك العمل بمعنى الكف عنه .(94/30)
منها : استدلال التناسخية(1) على صحة ما زعموا بقوله تعالى:{ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}(2) .
__________
(1) - التناسخية : فرقة من الفرق الخارجية عن فرق الإسلام ، وهم القائلون بتناسخ الأرواح في الأجساد ، والانتقال من شخص إلى شخص ، وما يلقى من الراحة والتعب فمرتب على ما أسلفه قبل وهو في بدن آخر ، جزاء على ذلك ، وأجازوا أن ينقل روح الإنسان إلى كلب ، وروح الكلب إلى إنسان ، وأن أرواح الصديقين تسري في عمود الصبح إلى النور الذي فوق الفلك في سرور دائم ، وأرواح أهل الضلال ترد إلى السفل ، فتتناسخ في أجسام الحيوانات . وهم جملة من القدرية ، وجملة من الرافضة الغالية . كالبيانية والجناحية والخطابية والراوندية ، وأول من قال بها في دولة الإسلام السبابية من الرافضة ، لدعواهم أن علياً صار إلهاً حين حلَّ روح الإله فيه . وزعمت البيانية أن روح الإله دارت في الأنبياء ثم في الأئمة إلى أن صارت في بيان بن سمعان . يراجع الكلام عنهم في : الفرق بين الفِرق ص(253- 259) .
(2) - سورة الانفطار:8.(94/31)
واستدلال كل من اخترع بدعة ،أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح ،بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكره الأصوليون في أصل المصالح المرسلة ، فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين ، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك ، إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها، وهذا الأخير هو الصواب؛ إذ المتقدمون من السلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم ، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ، ولا عملوا بها ، فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال ، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالاهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة ...... الخ(1) .
أن كبار المفسرين قد فسَّرُوا هذه الآية الكريمة ، ولم يكن في تفسيرهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ، ما عنته الآية السابقة لهذه الآية ، وهو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(2).
__________
(1) - يراجع : الموافقات (3/41-44) .
(2) - سورة يونس ، الآيتان:57 ،58.(94/32)
قال ابن جرير في تفسيره :(القول في تأويل قوله تعالى :{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} قال أبو جعفر :يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ)) يا محمد لهؤلاء المكذبين بك، وبما أنزل إليك من عند ربك . ((بِفَضْلِ اللَّهِ)) أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ، ودعاكم إليه . ((وَبِرَحْمَتِهِ)) التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم وذلك القرآن (( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ))يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها )(1).ا.هـ.
وقال القرطبي – رحمه الله – في (( الجامع لأحكام القرآن )) : قوله تعالي :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}. قال أبو سعيد الخدري وابن عباس – رضي الله عنهم - : فضل الله القرآن ، ورحمته الإسلام . وعنهما أيضاً : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله .
وعن الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة : فضل الله الإيمان،ورحمته القرآن - على العكس من القول الأول )(2) ا.هـ .
__________
(1) - يراجع : تفسير ابن جرير الطبري (15/105) .
(2) - يراجع : الجامع لأحكام القرآن (8/353) .(94/33)
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير : (يقول الله تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم ، على رسوله الكريم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، أي : زاجر عن الفواحش .{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}أي:من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس .{ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي : يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدِّقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}(1)، قوله تعالى{.. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ..... }(2)، قوله تعالى{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}(3)، أي : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنَّهُ أولى ما يفرحون به )(4)ا.هـ .
وقال ابن قيم الجوزية في تفسير يقوله تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}:(وقد دارت أقوال السلف ، على أن فضل الله ورحمته : الإسلام والسنة)(5) ا.هـ .
وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي:(...ولا يجوز إحداث تأويل في آية، أو في سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ، ولا بيَّنُوه للأمة ،فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه ؟ .....)(6)ا.هـ .
__________
(1) - سورة الاسراء:82.
(2) -سورة فصلت: الآية44.
(3) - سورة يونس ، الآيتان:57 ،58.
(4) - يراجع : تفسير ابن كثير (2/420، 421) .
(5) - يراجع : اجتماع الجيوش الإسلامية ص(6) .
(6) - يراجع : الصارم المكني ص(427) .(94/34)
والشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي كثيرة ، وليس هذا مجال حصرها ؛ لأن استقصاءها والإحاطة بها ، تحتاج إلى مؤلف منفرد خاص بها ، والقصد هنا هو الإشارة والتنبيه إلى بعض هذه الشبه، وقد ذكرت بشكل موجز ردود العلماء على هذه الشُّبه ، وأنه ليس في أي واحدة منها دليل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي .ولكن القائلين بهذه البدعة أرادوا إضفاء الصبغة الشرعية على هذا الأمر المبتدع ، فاستشهدوا بهذه الأدلة، وفسَّرُوها بما يوافق هواهم ، وعقيدتهم الفاسدة، فكانوا كما قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}(1) - والله أعلم -.
المبحث الرابع
طريقة إحياء المولد
قال المقريزي في (( الخطط )) يصف جلوس الخليفة في الموالد الستة :
(( فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ، تقدَّم – الخليفة – بأن يعمل في دار الفطرة(2): عشرون قناطراً من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها ، وتعبأ في ثلاثمائة صينية من النحاس ، وهو مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب ، وكل صينية في قوارة(3)
__________
(1) - سورة الجاثية:23.
(2) - تقع خارج القصر ، بناها العزيز بالله ، وقرر فيها ما يعمل ، مما يحمل إلى الناس في العيد ، وهي قبالة باب الديلم من القصر ، الذي يدخل منه إلى المشهد الحسيني .
يراجع : الخطط المقريزي (1/425) .
(3) - القوارة : مشتقة من قوارة الأديم والقرطاس ، وهو ما قورت من وسطه ورميت ما حواليه ، كقوارة الجيب إذا قورته وقرته ، وكل شيء قطعت من وسطه خرقاً مستديراً فقد قورته .
يراجع : لسان العرب (5/123) مادة ( قور ) .(94/35)
، من أول النهار إلى ظهره ، فأول أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة ، ويدخل في ذلك القراء بالحضرة والخطباء ، والمتصدرون بالجوامع ، وقومة المشاهد ........
فإذا صلَّى الخليفة،ركب قاضي القضاة،والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر(1)، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة ، ثم يستدعى قاضي القضاة ومن معه ، وقد كنست الطريق ، ورشت بالماء رشاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة(2)
__________
(1) - هو أول مسجد أسس بالقاهرة ، والذي أنشأه القائد جوهر الصقلي مولى المعز لدين الله ، لما اختط القاهرة ، وشرع في بنائه سنة 359هـ وكمل بناؤه سنة 361هـ .
يراجع : الخطط المقريزي (2/273) .
(2) - المنظرة : موضع في رأس جبل فيه رقيب ينظر العدو ، والمنظرة المرقبة . يراجع : لسان العرب (5/217) مادة (نظر ) .
والمراد بها هنا : هي الأماكن التي كان يشرف منها الخلفاء العبيديون على الاحتفال ببعض الأعياد . يراجع : تاريخ الدولة الفاطمية ص(634) .(94/36)
الرمل الأصفر ، فيقربون من المنظرة ويترجلون قبل الوصل إليها بخطوات ، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات(1)،فيظهر منها وجهه-الخليفة-وما عليه من المنديل وعلى رأسه عدة من الأستاذين(2) المحنكين، وغيرهم من الخواص ، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً : أمير المؤمنين يرد عليكم السلام . فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته ، وبصاحب الباب بعده كذلك،وبالجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد،فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون قياماً في الصدر، وجوههم للحاضرين ، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدم خطيب الجامع الأنور(3)
__________
(1) - الطاقات : جمع طاق ، وهو ما عطف من الأبنية ، هو الذي يعقد بالآجر . يراجع : لسان العرب (10/232، 233).
(2) - هم الخدم والطواشية ، ومنهم أرباب الوظائف المختصون بشئون الخليفة واحتياجاته ، وأعظمهم مكانه الأستاذون المحنكون الذين يديرون عمائمهم على أحناكهم ، وهم أقرب الخدام إلى الخليفة ، ومنهم من يحمل رسائل الخليفة إلى الوزير ، ومن يشرف على إعداد مجلسه ....... الخ . يراجع : صبح الأعشى (3/477) .
(3) - ويقع خارج باب الفتوح – أحد أبواب القاهرة - ، وأول من أسسه العزيز بالله ، وخطب فيه وصلى بالناس الجمعة ، ثم أكمله ابنه الحاكم بأمر الله ، وكان تأسيسه سنة380هـ ، وانتهى بناؤه على يد الحاكم سنة 403هـ .
يراجع : الخطط المقريزي (2/277) .(94/37)
المعروف بجامع الحاكم ، فيخطب كما يخطب فوق المنبر،إلى أن يصل إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : وإن هذا يوم مولده إلى ما من الله به على ملَّة الإسلام من رسالته ،ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة ، ثم يؤخر ، ويقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك ، ثم خطيب الجامع الأقمر(1) فيخطب كذلك ، والقراء في خلال خطابة الخطباء ، يقرأون !!! .
فإذا انتهت خطابة ، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته ،وردّ على الجماعة السلام ،ثم تغلق الطاقتان فتنفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام ، إلى حين فراغها على عدتها من غير زيادة ولا نقص ))(2)ا.هـ .
وقال ابن خلكان في وصف احتفال مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري صاحب إربل بالمولد النبوي :
__________
(1) - بناه الآمر سنة 519هـ بواسطة وزيره المأمون بن البطائحي ، وكان مكانه دكاكين علافين ، وأول جمعة أقيمت فيه سنة 799هـ بعد أن جدده الأمير أريلبغا أحد المماليك الظاهرية . يراجع : الخطط المقريزي (2/290) .
(2) - يراجع : الخطط المقريزي (1/433) .(94/38)
(( وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ الوصف يقصر عن الإحاطة به ،لكن نذكر طرفاً منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه ، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل(1)خلق كثير من الفقهاء والصوفية(2) والوعاظ والقراء والشعراء ، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول ، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات ،ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر، منها قبة له ، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زيَّنُوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق(3)من المغاني، وجوق من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي ، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبُوا فيها جوقاً ، وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم .....، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ، ويقف عليها قبة قبة إلى آخرها ، ويسمع غناءهم ، ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه(4)، ويعمل السماع(5)
__________
(1) - مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين ، وبلاد العجم وغيرها من النواحي .
(2) - الصوفية: التصوف : طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص ، وهم بين الكفر والبدع ، وتشعبت بهم الطرق حتى فسدت عقائدهم حتى قالوا بالحلول والاتحاد . يراجع : تلبيس إبليس ص(161-169) .
(3) - الجوق : الجماعة من الناس ، وقال ابن سيده : أحسبه دخيلاً . يراجع : لسان العرب (10/37) مادة (جوق) .
(4) - الخناقاه : رباط الصوفية . معرب مولد استعمله المتأخرون . يراجع : شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص(113) .
(5) - السماع : ما يتخذه بعض الناس طريقاً ، يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب ، والتشويق إلى المحبوب ، والتخويف من المرهوب ، والتخزين على فوات المطلوب ، فتستنزل به الرحمة ، وتستجلب به النعمة ، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان وتستجلي به مشاهد أهل العرفان ، حتى يقول بعضهم : إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه ، حتى يجعلونه قوتاً للقلوب ، وغذاء للأرواح ، وحادياً للنفوس ، يحدوها إلي السير إلى الله ، ويحثها على الإقبال عليه .
والسماع : أمر محدث حدث في أواخر المائة الثانية ، فأنكره الأئمة ومنهم الشافعي وأحمد ولم يحضره الصالحون كابن أدهم والفضيل ، وقال الشافعي : أنه من إحداث الزنادقة كابن الراوندي ، والفرابي ، وابن سينا ، والمتخذين للسماع هم الصوفية .
يراجع : : مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/562- 571) ، وتلبيس إبليس ص(242-250) ، ومجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (1/47- 48) .(94/39)
، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد ، ثم يرجع إلى القلعة(1) قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد.وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، والسنة في الثاني عشر؛ لأجل الاختلاف الذي فيه ،فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً على الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان،ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ، ويطبخون الألوان المختلفة ، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ، ثم ينزل وبين يديه الشموع المشتعلة شيء كثير ، وفي جملتها شمعتان أو أربع -أشك في ذلك- من الشموع الموكبية(2) ، التي تحمل كل واحدة منها على بغل ، ومن ورائها رجل يسندها ،وهي مربوطة على ظهر البغل ، حتى ينتهي إلى الخانقاه . فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل واحد منهم بقجة(3)، وهم متتابعون ، كل واحد وراء الآخر ، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده ، ثم ينزل إلى الخانقاه ، وتجتمع الأعيان والرؤساء ، وطائفة كبيرة من بياض الناس ، وينصب كرسي للوعَّاظ ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي في غاية الاتساع ، ويجتمع فيه الجند ، ويعرضهم ذلك النهار ، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم ، فعند يقدم السماط في الميدان للصعاليك ، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخير شيء كثير لا يحد ولا يوصف ، ويمد سماطاً ثانياً
__________
(1) - وهي قلعة إربل المشهورة .
(2) - نسبة إلى الموكب ، والموكب : جماعة من الناس ركباناً ومشاة ، وكذلك القوم الركوب على الإبل للزينة ، وكذلك جماعة الفرسان . يراجع : لسان العرب (1/802) مادة (وكب) .
(3) - بقبجة : من المولد . وهي ظرف من القماش المعروف . . يراجع : شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل ص(79) .(94/40)
في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي ، وفي مدة العرض ، ووعظ الوعاظ يطلب واحداً واحداً من الأعيان والرؤساء ، والوافدين لأجل هذا الموسم ، من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ، ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله ، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره ، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها ، ثم يبيت تلك الليلة هناك ، ويعمل السماعات إلى بكرة ...... هكذا يعمل في كل سنة ، وقد لخصت صورة الحال، فإن الاستقصاء يطول ، فإذا فرغوا من هذا الموسم ،تجهز كل إنسان للعودة إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئاً من النفقة ))(1) ا.هـ .
وقال ابن كثير في ترجمة المظفر كوكبوري : (قال السبط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد ، كان يمد ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي ، وعشرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية ، وثلاثين ألف صحن حلوى ، قال : وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم،ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة ، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار )(2) ا.هـ .
__________
(1) - يراجع : وفيات الأعيان (4/117-119) . وكان من ولع الملك المظفر بعمل المولد أن صنف له أبو الخطاب بن دحية مجلداً في المولد النبوي سماه : كتاب التنوير في مولد البشير النذير ، فأجازه على ذلك بألف دينار .
يراجع : وفيات الأعيان (3/449، 450) .
(2) - يراجع : البداية والنهاية (13/131) ، والحاوي للسيوطي (1/189، 190) .(94/41)
وقال السندوبي في وصف الاحتفال بالمولد النبوي في القاهرة(1) سنة 1250هـ- في هذا العهد كان العالم الإنجليزي (ادوارد وليم لين ) يزور القاهرة فشاهد الاحتفال بالمولد النبوي -، فوصفه وصفاً شيقاً ......
(( قال- وليم لين- (( في أول ربيع الأول والشهر الثالث من شهور السنة الهجرية ، يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأناً : الجزء الجنوبي الغربي المعروف ببركة الأزبكية ، وفي هذه الساحة أقيمت صيوانات(2) كثيرة للدراويش(3)، وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر ما دام الاحتفال بالمولد ، وبين هذه الصيوانات ينصب صاري(4) يثبت بالحبال ويعلق فيه من القناديل اثنا عشر أو أكثر ، وحول هذا الصاري تقوم حلقة الذكر ، وهي تتكون عادة من نحو خمسين أو ستين درويشاً .
__________
(1) - هي المدينة الكبيرة التي أحدثها جوهر الصقلي غلام المعز – الخليفة العبيدي – وذلك فور دخوله مصر سنة 358هـ ، وقد فصل ابن تغزي بردي الكلام عنها في بنائها وصفتها وحاراتها وأسواقها فليراجع في كتابه (( النجوم الزاهرة )) (4/34- 54) . وكذلك المقريزي في الخطط والآثار (1/359-380) . وهي الآن عاصمة مصر . ويزيد سكانها عن ثمانية ملايين نسمة . تقع على نهر النيل .
(2) - لم أعثر معنى لهذه الكلمة في المعاجم اللغوية المشهورة ، ولعلها من الدخيل . والذي يتبادر إلى الذهن – والله أعلم – أن الصيوانات جمع صيوان : والصيوان هو الخيمة الكبيرة من الصوف أو القماش ، والتي تستعمل عادة في المناسبات وتضرب عادة خارج المنازل .
(3) - لم أعثر معنى لهذه الكلمة على معنى في الكتب التي اطلعت عليها . ولعل المراد بهم – والله أعلم – عوام الصوفية .
(4) - صاري السفينة :الخشبة المتعرضة في وسطها . وهو دقل السفينة الذي ينصب في وسطها قائماً ، ويكون عليه الشراع . يراجع : لسان العرب (14/460) مادة (صرى) .(94/42)
وفي اليوم الثاني من الشهر ينتهون من إقامة معالم الاحتفال ومعداته – في العادة – ثم يشرعون في اليوم التالي في مظاهر الاحتفال ليلاً ونهاراً إلى الليلة الثانية عشرة من الشهر ، وهي ليلة المولد الكبرى .... ففي النهار يتسلى الناس في الساحة الكبرى بالاستماع إلى الشعراء ، والتفرج على الحواة(1) ونحوه .
أما الغواني فقد أكرهتهن الحكومة من عهد قريب على التوبة وترك مهنتهن من رقص ونحوه ، فلا أثر لهن في احتفال هذه السنة ، وكن في الموالد السابقة من أكثر العالمين في الاحتفال اجتذاباً للمتفرجين !!!.....
أما في الليل فتضاء الشوارع المحيطة بساحة المولد، بقناديل كثيرة، تعلق غالباً في فوانيس من الخشب، ومن دكاكين المأكولات ، ونصبات الحلوى ما يبيت مفتوحاً طوال الليل ، وكذلك القهاري التي قد يكون في بعضها ، وفي غيرها من الأماكن : شعراء ومحدثون ، ينصت إليهم كل من أراد من المارة .
أما في الليلتين الأخيرتين فيكون المولد أكثر زحاماً وأسباب التفرج والمسليات أعظم منها في الليالي السابقة(2) .
__________
(1) - الحواة : جمع حاوي ، وهو الذي يرقي الحيات ويجمعها ، والرجل يقوم بأعمال غريبة (مولد ) والجمع حواة .
يراجع : المعجم الوسيط (1/209) مادة (حوى) .
(2) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(174- 177) .(94/43)
ثم وصف المؤلف الإنجليزي – ادوارد وليم لين – مجلساً كاملاً من مجالس الذكر التي تعمل في الموالد وغيرها فقال : وفي ليلة المولد الكبرى ذهبت إلى الساحة الرئيسة ، فرأيت ذكراً قوامه ستين درويشاً ، حول صاري ، وكان ضوء كافياً لإنارة الساحة ، وكان الدرويش حول الصاري من طوائف مختلفة وكانوا يقولون : [يا الله] ثم يرفعون رؤوسهم ، ويصفقون جميعاً بأيديهم أمام وجوههم ، وكان داخل حلقة الذكر خلق كثير قد جلسوا على الأرض ، ولبث الذكيرة يذكرون على هذا النحو مقدار نصف ساعة، ثم انقسموا جماعات، كل جماعة من خمسة أو ستة، ولكنهم بقوا يكونون حلقة واسعة، ثم أمسك أفراد كل جماعة بعضهم ببعض كل منهم ، ما عدا الأول قد وضع ذراعه اليمنى على ظهر من يليه يساراً ، ويده على الكتف اليسرى – كتف من يليه – ثم اتجهوا إلى النظارة-المتفرجين-خارج الحلقة ، وأخذوا يذكرون (الله) بصوت أجش عميق ، وهم في هذه الحالة يتقدمون إلى الأمام خطوة ، ثم إلى الوراء خطوة ، مع تحرك كل منهم قليلاً إلى اليسار فكانت الحلقة كلها تدور ولكن ببطء شديد ، وكان كل منهم يمد يده اليمنى نحو النظارة خارج الحلقة مشيراً بالتحية ، وهؤلاء أو أغلبهم كانوا يردون السلام على الذكيرة ، وأحياناً كان بعضهم يقبل اليد الممتدة إليه إذا قابلت وجهه متى كانوا قريبين منهم.......، ومن الوائد المتبعة عندهم أن يسكت من في الصواوين من الذكيرة ، متى كان الذكر حول الصاري ))(1) ا.هـ .
وقال السندوبي – أيضاً – في كتابه (( تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي )) :
__________
(1) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(188- 189) .(94/44)
(( ومن الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364هـ الموافق 24فبراير سنة 1945م(1) والتي تُعدُّ بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام : فقد شهدت في ساحة المولد(2) معالم الزينة التي تأخذ بالألباب،ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم، ونظام جليل هناك ،وفي هذا الميدان المترامي الأطراف ، أُقيم السرادق(3) الملكي البديع ، وقد تجلَّى في زخارفه وماس(4)في أستاره ومطارفه(5)، وفرش بالطنافس(6) الثمينة،وصفت في رحابه الأرائك(7)
__________
(1) -أي : في عهد الملك فاروق الأول – آخر ملوك مصر - .
(2) - ذكر السندوبي أنها تقع بصحراء قايتباي – المعروف عند العامة بصحراء الخفير - .
(3) - السرادق : ما أحاط بالبناء ، وقيل : كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب ، أو الحائط المشتمل على الشيء ، وهو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء .
يراجع : لسان العرب (10/157) مادة (سردق) . والمراد به هنا – والله أعلم - : المخيم الكبير .
(4) - ماس : الميس التبختر ، وماس يميس ميساناً : يراجع واختال .
يراجع : لسان العرب (6/244) مادة (ميس) .
(5) - المطارف : جمع مطرف ، وهي أردية من خز مربعة لها أعلام ، وقيل : المطرف من الثياب : ما جعل في طرفيه أعلام . يراجع : لسان العرب (9/220) مادة (طرف) .
(6) - الطنافس : جمع طنفسة : وهي البساط الذي له خَمْلٌ رقيق . يراجع : لسان العرب (6/127) مادة (طنفس) .
(7) - الأرائك : جمع أريكة : وهي سرير منجد في قبة أو بيت . وقيل : كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة .
يراجع : لسان العرب (10/389، 390) مادة (أرك) .(94/45)
المحلاة بالذهب،وانتثرت في جنباته النمارق(1) الموصوفة، واسترسلت في ساحته الكلل(2)الحريرية، ورفعت على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار ،وفي سماواته الثريات الآخذة بالأبصار ....، كما فُرشت أرض الميدان بالرمل الأصفر والأحمر ، ووقف على أبوابه رجال الحرس الملكي في ملابسهم المزركشة...ووفد على هذه السرادق وزراء الدولة، وشيخ الأزهر ،وطوائف العلماء!!، ووكلاء الوزارات، وكبار الموظفين، وكبراء الأمة، وأعيان الناس، من ذوي المراتب والألقاب، وجميع هؤلاء قد وقف في جلال ووقار، انتظاراً لتشريف حضرة الملك المعظم ، أو من ينتدب للإنابة عنه في حضور الاحتفال.
وقبيل الظهر بساعة بينما هذا الجمع الحاشد في الانتظار .... وصل الركب الملكي الفخم ، وقد أقبل جلالته بوجهه المشرق على هذه الجموع ، مشيراً بيده الكريمة إشارة التحية والسلام ، واستقبله بعد ذلك كبار الشخصيات الموجودة في السرادق.....، وعندما وصلت المركبة الملكية قبالة السرادق الملكي العظيم، سمعت طلقات المدافع تدوي تحية الملك ، وتعالت أصوات قوات الجيش هاتفة بحياته ، ثم أخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية بالسلام الملكي ...... ، وبعد الانتهاء من عرض الجيش تقدمت بين يدي الملك مشايخ الطرق الصوفية برجالها ومريديها ،حاملين لأعلامهم وشاراتهم ،وكل شيخ يمر بين يديه يقف هنيهة لقراءة الفاتحة ، وتلاوة بعض الأدعية المأثورة بطريقتهم المعروفة في القراءة والدعاء ،ثم يهتفون جميعاً بحياة الفاروق ثلاثاً.
__________
(1) - النمارق : هي الوسائد ، ومنها ما يفرش تحت الراكب على الراحلة . يراجع : لسان العرب (10/361) مادة (نمرق) .
(2) - الكلل : جمع كلة ، وهي الستر الرقيق يضرب على القبور ، وقيل : هي ما خيط من الستور فصار كالبيت ، وقيل : هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البعوض . يراجع : لسان العرب (11/595) مادة (كلل) .(94/46)
ولما انتهى مرور أصحاب الطرق ، عاد الملك إلى السرادق الملكي ، حيث قدمت صنوف الحلوى ، وأنواع المرطبات ، فتناول منها جميع الحاضرين وبعد فترة قصيرة بارح جلالته السرادق الملكي قاصداً تشريف سرادق السادة البكرية(1)، وما إن أشرف عليه حتى نهض شيخ مشايخ الطرق الصوفية(2) ، وحوله جماعة من كبار المشايخ لاستقبال جلالته بما يليق بمقامه الكريم ، ثم ألقيت قصة المولد الشريف ، وما إن وصل القارئ إلى ذكر مولده صلى الله عليه وسلم حتى نهض الملك واقفاً إجلالاً وإعظاماً لهذه الذكرى الكريمة وبوقوفه وقف الجمع الحاشد في كمال الخشوع والإكرام ، وعند الانتهاء من إلقاء القصة والدعاء للملك ، بدأ القرَّاء في تلاوة ما يتيسر من القرآن الكريم ، بترتيل حسن ، وتنغيم مطرب جميل!!! وجميع القراء من مشهوري المجودين، ومذكوري الملحنين !!، وأصحاب الأصوات الشجية ، والأنغام العذبة الندية ، ثم تقدم الخدم والفراشون بصواني الحلوى ، وأكواب المرطبات إلى بين يدي الملك ليتناول منها ما يشاء ، كما أديرت بعد ذلك على سائر الحاضرين فتناول كل أحد منهم ما لذَّ وطاب ،وفي أثناء إلقاء القصة الشريفة لم تنقطع المدافع عن دويها المطلق بنظام محكم ، وترتيب بديع ، كما أخذ المذيع بالراديو في ترديد القصة من أبواقه لإسماع الجمهور ، وبعد ذلك نهض الملك وقرأ الفاتحة ، وشاركه في قراءتها جميع الحاضرين))(3) ا.هـ .
وقال السندوبي – أيضاً – في معرض كلامه عن المولد سنة 1366هـ :
__________
(1) - وكان لبيت السادة البكرية في إحياء المولد النبوي الشأن العظيم والقدح المعلى ، والعناية الفائقة منذ دهر . قاله السندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(190) .
(2) - وهو في ذلك الوقت أحمد مراد البكري . يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(190) .
(3) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(196- 200) .(94/47)
((وفي صبيحة يوم اثنا عشر من ربيع الأول عطلت أعمال الحكومة في وزاراتها ودواوينها ومصالحها، كما عطلت الأعمال في الدوائر المالية والتجارية احتفالاً بذكرى المولد النبوي الشريف على جاري العادة ))(1) ا.هـ.
فما تقدم من النصوص التي وصفت طريقه إحياء المولد النبوي في عصور مختلفة ، يؤكد لنا أن هذه الاحتفالات ليست إلا تلبية لشهوات ورغبات النفوس المريضة من الناس، ومراسم هذه الاحتفالات من الأكل والشرب وإنشاد القصائد،واختلاط النساء بالرجال، وأعمال اللهو وما يؤول على القائمين على هذه الاحتفالات من الأموال، والعطايا والهدايا، خير شاهد على ما ذكرت.
فليس القصد كما يدعُون تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والفرح بذكرى مولده ، وإحياء ذكره ، وإثبات محبتهم له صلى الله عليه وسلم بتلك الاحتفالات المبتدعة .
وكون هذه الاحتفالات أمر محدث مبتدع فهذا كاف في ذمِّها ، والتحذير منها، لاسيما وأن من ابتدعها إنما ابتدعها بسوء نية، كما تقدم بيان ذلك(2).
وربَّما شذَّ عن هذه القاعدة أناس فعلوا ذلك عن حسن نية ولكن حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ، فمن قبلنا من الملل كانوا يبتدعون قي دينهم أموراً بقصد التعظيم وحسن النية ،حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم ، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا ،وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبراً وذراعاً بذراع ،لضاع أصل ديننا ، لاسيما وأن هذه الاحتفالات لا تخلو من الشرك الأكبر وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به ، ودعاؤه ، واللجوء إليه ، ومن المعلوم أن الشرك الأكبر مُخْرِجٌ من الملة .
__________
(1) - يراجع : تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص(212) .
(2) - في المبحث الأول من الفصل الثالث في هذا الكتاب .(94/48)
ولكن الله تكفل بحفظ هذا الدين ، وجعل السلف الصالح من تبع نهجهم وآثارهم سبب هذا الدين . ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقة والصادقة هي طاعته فيما أمر ، وترك ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ، وتعظيمه يكون بالصلاة عليه ، والالتزام بسنته ، والعمل بها ، والذبِّ عنها ، كما سنوضح ذلك في المبحث التالي – إن شاء الله – والله أعلم .
المبحث الخامس
حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم
اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست تراجع في الحقيقة إلى اختلاف مقال ، ولكنها اختلاف أحوال :
فقال سفيان : ( المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
وقال بعضهم : محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، وهيبة مخالفته .
وقال بعضهم : المحبة دوام الذكر للمحبوب .
وقال آخر : إيثار المحبوب .
وقال بعضهم : المحبة : مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ويكره ما كره .
وقال آخر : المحبة : ميل القلب إلى موافق له(2) .
وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .
__________
(1) - سورة آل عمران:31.
(2) - يراجع : شرح الشفا (2/578،579) .(94/49)
وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ،كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها ، مما كل طبع مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل المعروف ، والمأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم ، والتشيع من أمة في آخرين ، ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان ، وهتك الحرم ، واخترام(1) النفوس .
أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له ، وإنعامه عليه ،وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر هذا : نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة: أما جمال الصورة ، والظاهر ، وكمال الأخلاق ، والباطن فهو أعلى الناس فيها قدراً، وأكملهم محاسن وفضلاً(2) .
وأما إحسانه وإنعامه على أمته ، فقد ذكره الله في كتابه العزيز في مواطن عدَّة ، والتي وصفه الله-سبحانه وتعالى- بأمور ، منها:
رأفته بأمته ، ورحمته لهم ، وهدايته إياهم ، وشفقته عليهم ، واستنقاذهم به من النار ، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ورحمة للعالمين ، ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ،وسراجاً منيراً ويتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدراً ، وأعظم خطراً ، من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟
__________
(1) - اخرمته المنية : أي أخذته ، واخترم فلان : مات وذهب . وخرمته الخوارم : إذا مات . يراجع : لسان العرب (12/172) مادة (خرم) .
(2) - يراجع : الشفا (2/ 79-109) .(94/50)
وأي إفضال أعم منفعة ، وأكثر فائدة من إنعامه – بعد الله – سبحانه وتعالى – على كافة المسلمين ؛ إذ كان ذريعتهم(1) إلى الهداية ، ومنقذهم من العماية(2)، وداعيهم إلى الفلاح ، ووسيلتهم إلى ربهم ، وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم ، فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً ؛ لما ورد في ذلك من النصوص ، كقوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(3).
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))(4) .
وقوله صلى الله عليه وسلم:(( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...)) الحديث(5)
__________
(1) - الذريعة : الوسيلة ، والجمع : الذرائع . يراجع : لسان العرب (8/96) مادة (ذرع) .
(2) - العماية : الضلال ، وهي فعالة من العمى ، وعماية الجاهلية : جهالتها . يراجع : لسان العرب (15/97، 98) مادة (عمي) .
(3) - سورة التوبة:24.
(4) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/ 58) كتاب الإيمان ، حديث رقم (15) .ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/ 67) كتاب الإيمان ، حديث رقم (44) .
(5) - - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (1/ 60) كتاب الإيمان ، حديث رقم (16) .ورواه مسلم في صحيحه المطبوع مع شرح النووي (1/ 66) كتاب الإيمان ، حديث رقم (43) .(94/51)
وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لما قال له عمر : يا رسول الله ! ، لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لا ، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك )) . فقال عمر : فإنه الآن والله لأنت أحبّ إليَّ من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الآن يا عمر ))(1).
وكذلك هو مستوجب للمحبة الحقيقية عادة وجبلة بما ذكرناه آنفاً لإفاضته الإحسان ، وعمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً ، أو استنقذه من هلكة أو مضرة- مدة التأذي قليل منقطع - فمن كان سبباً لمنحه ما لا يبيد من النعيم ، وسبباً لوقايته مما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب(2).
وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما – رحمه الله عليهم - :( المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ، ومحبة مشاكلة(3) واستحسان كمحبة سائر الناس ، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته ، قال ابن بطال – رحمه الله - : ومعنى الحديث(4) أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار ، وهدينا من الضلال(5) .
فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (11/ 523) كتاب الإيمانوالنذور، حديث رقم (6632) .
(2) - يراجع : الشفا للقاضي عياض (2/578-581) .
(3) - المشاكلة : الموافقة ، والشاكلة : الطريقة والمذهب . يراجع : لسان العرب (11/357).
(4) - وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))
(5) -يراجع : شرح النووي على صحيح مسلم (2/16،17) .(94/52)
الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه ، في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى :{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
إيثار ما شرعه عليه الصلاة والسلام ، وحض عليه ، على هوى نفسه ، وموافقة شهواته ، قال تعالى :{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }(2) .
كثرة الذكر له صلى الله عليه وسلم فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره ، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(3).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم :محبة من أحب النبي- عليه والسلام- من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من عاداهم ، وبغض من أبغضهم ،فمن أحب شيئاً أحب من يحبه. قال صلى الله عليه وسلم:((الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً(4)
__________
(1) - سورة آل عمران:31.
(2) - سورة الحشر: الآية9.
(3) - سورة الأحزاب:56.
(4) - الغرض : شدة النزاع نحو الشيء ، أو الهدف : أي لا تتخذوا أصحابي هدفاً ترموهم بقبيح الكلام كما يرمى الهدف بالسهم .
يراجع : النهاية ( 3/360) مادة (غرض ) . وتحفة الأحوذي (10/365) أبواب المناقب .(94/53)
بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه)) (1).
وقال صلى الله عليه وسلم:(( آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بُغض الأنصار))(2).
وقال – عليه الصلاة والسلام - : (( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ))(3).
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم : بُغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته ، وابتداع في دينه ، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته ، قال تعالى :{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(4).
ومنها : أن يحب القرآن الذي أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم ويحب سنته ويقف عند خدودها ، قال سهل بن عبد الله : ( علامة حب الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة بُغض الدنيا ، وعلامة بُغض الدنيا ألاَّ يدَّخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة)(5).
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (5/54، 55) ، ورواه الترمذي في سننه (5/358) أبواب المناقب ،حديث رقم (3954) ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
(2) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(7/ 113)كتاب مناقب الأنصار،حديث رقم (3784).ورواه مسلم في صحيحه(1/ 85)كتاب الإيمان،حديث رقم(74).
(3) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(7/ 113)كتاب مناقب الأنصار،حديث رقم (3783).ورواه مسلم في صحيحه(1/ 85)كتاب الإيمان،حديث رقم(75).
(4) -سورة المجادلة: الآية22.
(5) -يراجع : الشفا (2/571-577) .(94/54)
وإذا استعرضنا هذه العلامات ، وجدنا أن الذين ابتدعوا الاحتفال بالمولد النبوي ، لم تظهر عليهم أي علامة من هذه العلامات ، ولم يتَّصفوا بإحداها ، بل كانوا يتصفون بضدها . فلم يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في القول والفعل ، ولم يمتثلوا أمره بلزوم السنة ، ونهيه عن الإحداث في الدين ، بل اطرحوا سنته جانباً ، وقدموا ما تهوى أنفسهم وما يشتهونه على ما أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ، واشتغلوا بالمعاصي والملذات عن ذكره صلى الله عليه وسلم ، وسبُّوا صحابته وأنصاره- بل كفَّرُوهم - ، وجاهروا بذلك ، وقرَّبُوا أعداء الله ورسوله ، وأظهروا لهم المودة ، وولوهم أمور المسلمين(1)، فهل يبقى أدنى شك في كذبهم فيما يزعمون من أن إقامتهم للمولد النبوي لأجل محبتهم له صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ذكراه؟؟!!؛لأن المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بطاعته فيما أمر ، والابتعاد عمَّا نهى عنه والانقياد للشرع الذي جاء به ، فلا يعبد الله إلا بما شرع ، وكذلك الإكثار من الصلاة والسلام عليه ، والتمسك بسنته ، والعمل بها ، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، وتقديم قوله على كل قول ، فإنَّهُ لا أحد من الأمة معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيجب أن يؤخذ قوله كله ولا يُردّ منه شيء ، وأمور الدين إنَّما العمدة فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا مكان للاعتماد على الهوى والاستحسان من غير دليل شرعي .
__________
(1) - يراجع : المبحث الأول والثاني من هذا الفصل في هذا الكتاب(94/55)
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1)، والله أعلم
المبحث السادس
موقف أهل السنة من هذه البدعة
اتفق العلماء من السلف الصالح-رحمهم الله- على أن الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من المواسم غير الشرعية ، أمر محدث مبتدع في الدين ، ولم يؤثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابة ، ولا عن التابعين وتابعيهم ، ولا علماء الأمة المشهورين ؛ كالأئمة الأربعة ونحوهم .
وسنذكر فيما يلي بعض أقوال السلف الصالح في هذا الشأن ، ملحقين بها أقوال بعض المتأخرين من علماء الأمة :
*قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول ، التي يقال إنها المولد ، أو بعض ليالي رجب ، أو ثامن عشر ذي الحجة ، أو أول جمعة من رجب ، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار ، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ، ولم يفعلوها ، والله سبحانه وتعالى أعلم )(2) ا.هـ .
* وقال – أيضاً – في (( اقتضاء الصراط المستقيم )) : (( فصل . ومن المنكرات في هذا الباب : سائر الأعياد والمواسم المبتدعة ، فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم، أو لم تبلغه؛ وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها؛ لسببين:
أحدهما : أن فيها مشابهة الكفار .
والثاني : أنها من البدع . فما أحدث من المواسم و الأعياد هو منكر ، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب ؛ لوجهين :
__________
(1) - سورة النساء:59.
(2) - يراجع : مجموعة الفتاوى (25/298) .(94/56)
أحدهما : أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات ، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر – رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ، ويقول : (( بُعثت أنا والساعة كهاتين – ويقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى – ويقول : (( أما بعد ،فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ))(1) وفي رواية للنسائي : ((وكل بدعة ضلالة في النار))(2)
وفيما رواه مسلم – أيضاً – في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(3). وفي لفظ في الصحيحين :(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(4).
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه (2/592) كتاب الجمعة ،حديث (867) ، ولفظه : (( خير الحديث كتاب الله .......)) ورواه ابن ماجه (1/17) المقدمة ، حديث رقم (45) ، ولفظه : (( خير الأمور كتاب الله .......))
(2) - رواه النسائي في سننه (3/188،189) كتاب صلاة العيدين ، باب كيف الخطبة .
(3) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(4) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري(5/301)كتاب الصلح ،حديث رقم(2697).ورواه مسلم في صحيحه(3/1343)كتاب الأقضية ،حديث رقم ( 1718).(94/57)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنه من يعش منكم فسير اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،تمسكوا بها، وعضُّو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(1) .
وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع ، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً . قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ...}(2). فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله ، من غير أن يشرعه الله ، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله ، شرع من الدين ما لم يأذن به الله (3).........
إلى أن قال-والكلام في ذم البدع لما كان مقرراً في غير هذا الموضوع لم نطل النفس في تقريره،بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم:
فصل : قد تقدم أن العيد يكون اسماً لنفس المكان ، ولنفس الزمان ، ولنفس الاجتماع ، وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياً :
أما الزمان فثلاثة أنواع ، ويدخل فيها بعض أعياد المكان والأفعال :
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/127) .ورواه أبو داود في سننه (5/13- 15) كتاب السنة والحديث رقم (4607)، ورواه الترمذي في سننه (4/ 149-150). أبواب العلم ،حديث رقم (2816) وقال حديث حسن صحيح ، ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة حديث رقم (42) . ورواه الحاكم في المستدرك (1/95،96) كتاب العلم ، وقال حديث صحيح ليس له علَّة ، ووافقه الذهبي.
(2) - سورة الشورى: الآية21.
(3) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/578 ،579) .(94/58)
أحدها : يوم لم تعظمه الشريعة الإسلامية أصلاُ ، ولم يكن له ذكر في السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه ، مثل : أول خميس من رجب ، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب(1).
النوع الثاني : ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ،من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظمونه: كثامن عشر ذي الحجة(2) الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغدير خم(3)مراجعة من حجة الوداع ..... وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى-عليه السلام-،وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد(4)
__________
(1) - سيأتي الكلام عن بدعة صلاة الرغائب من هذا الكتاب .
(2) - سيأتي الكلام عن بدعة عيد غدير خم من هذا الكتاب .
(3) - غدير خم : يقع بين مكة والمدينة بالجحفة ، سيأتي الكلام عنها من هذا الكتاب .
(4) - قال الشيخ محمد حامد الفقي في تعليقه على اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية : (كيف يكون لهم ثواب على هذا ؟ وهم مخالفون لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهدي أصحابه ، فإن قيل : لأنهم اجتهدوا فأخطأوا ، فنقول :أي اجتهاد في هذا ؟ وهل تركت نصوص العبادات مجالاً للاجتهاد ؟والأمر فيه واضح كل الوضوح، وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء ، حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين اليهود والنصارى والوثنيين ..... وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه ، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية ؟ ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك لأعياد الوثنية ؟ .
هل هم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ...... أو غيرهم من أئمة الهدى – رضي الله عنهم- ؟ حتى يعتذر لهم ولأخطائهم . كلا . بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى ، وأنهم كانوا وبالاً على المسلمين ، وعلى أيديهم وبدسائسهم ، ومانفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم ، وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف مل يقول من إثابتهم ...... إلخ . فليراجع.
يراجع : تعليق على اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص(294، 295) .
وكذلك يراجع : الرد القوي للشيخ حمود التويجري ص(149-153) ، والقول الفصل ص(38، 101 ،104) ، ولعل سبق قلم من الشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، لاسيما وأنه لا أحد يستطيع إنكار جهود الشيخ في قمع البدع والتحذير منها ومحاربتها باللسان والقلم والسيف ، وأنه من المبرزين في هذا المجال ، والله أعلم .(94/59)
لا على البدع – من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع فيه لو كان خيراً ، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم- أحق به منا ،فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا ،وهم على الخير أحرص،وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته،وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،والذين اتبعوهم بإحسان،وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرَّاصاً على أمثال هذه البدع-مع ما لهم فيها من حُسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة(1)- تجدهم فاترين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عما أُمروا بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ،أو يصلي فيه قليلاً ،وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تُشرع ،ويصحبها من الرياء والكِبْر ،والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها))(2)ا.هـ .
وقال الشاطبي في((الاعتصام)) بعد أن عرف البدعة بأنها :طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه : (وقوله في الحد : [ تضاهي الشرعية ] ، يعني : أنها : أنها تشابه الطريقة الشرعية ، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة ، منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد ، ضاحياً لا يستظلّ والاختصاص في الانقطاع للعبادة ، والاقتصاد من المأكل والملبس على صنف من غير علَّة .
__________
(1) - يراجع تعليق الشيخ حمود التويجري في الرد القوي ص(149) .
(2) - يراجع : اقتضاء الصراط المستقيم (2/612 ،616) .(94/60)
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، وما أشبه ذلك ...... إلخ )(1)ا.هـ .
وقال ابن الحاج في (( المدخل )) : ( فصل في المولد : ومن جملة ما أحدثوه من البدع ، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات ، وأظهر الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد ، وقد احتوى على بدع ومحرمات جملة .
فمن ذلك : استعمالهم المغاني ، ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر(2) والشبابة(3) وغيرهم ذلك ، مما جعلوه آلة السماع ...... ، فانظر – رحمنا الله وإياك – إلى مخالفة السنة المطهرة ما أشنعها وأقبحها ، وكيف تجر إلى المحرمات ، ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطرة ، وفعلوا المولد ، لم يقتصروا على فعله ، بل زادوا عليه ما تقدم ذكره من الأباطيل المتعددة ، فالسعيد السعيد من شدَّ يده على امتثال الكتاب والسنة والطريق الموصلة إلى ذلك ، وهي اتباع السلف الماضين – رضوان الله عليهم أجمعين - ؛ لأنهم أعلم بالسنة منَّا ، إذ هم أعرف بالمقال ، وأفقه بالحال .......)ا.هـ(4) .
وقال الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي المشهور بالفاكهاني – بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهل له ، والصلاة والسلام على نبيا محمد عبد الله ورسوله وآله وصحبه أجمعين : ( أما بعد ، فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد ، هل له أصل في الشرع ؟ أو هو بدعة وحدث في الدين ؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً ، والإيضاح عنه معيناً ، فقلت وبالله التوفيق :
__________
(1) - يراجع : الاعتصام (1/39) .
(2) - الطار المصرصر : أي المشدود . يراجع : لسان العرب (4/450-455) .
(3) - الشبابة – بالتشديد : قصبة الزمر المعروفة . (مولد ) . يراجع : شفاء الغليل لما في كلام العرب من الدخيل ص(156) .
(4) - يراجع : المدخل (2/2-10) .(94/61)
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في الكتاب ولا سنة ، ولا ينقل(1) عمله عن أحد من علماء الأمة ، الذين هم القدوة في الدين ، المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بدعة أحدثها البطالون(2)، وشهوة نفس اعتنى بها الأكَّالُون ، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا : إما أن يكون واجباً ، أو مندوباً ، مباحاً ، أو مكروهاً ، أو محرماً ، وليس بواجب إجماعاً ، ولا مندوباً ؛ لأنَّ حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت ، ولا جائز أن يكون مباحاً ؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين ، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين :
* أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله ،لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ،ولا يقترفون شيئاً من الآثام ،وهذا الذي وصنفاه بأنه بدعة مكروهة وشناعة ؛ إذا لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة ، الذي هم فقهاء الإسلام ، وعلماء الأنام ، سُرُج الأزمنة، وزين الأمكنة.
__________
(1) - هكذا وردت في كتاب الحاوي (1/190) . لعل صحة العبارة – والله أعلم - : (ولم ينقل ) .
(2) - البطالون : جمع بطال ، ورجل بطال : ورجل بطال : ذو باطل ، وباطل بين البطول . والتبطل : فعل البطالة : وهواتباع اللهو والجهالة . يراجع لسان العرب (11/56) مادة (بطل ) .(94/62)
* والثاني : أن تدخله الجناية ، وتقوى به العناية ، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه ، وقلبه يؤلمه ويوجعه ، لما يجد من ألم الحيف ، وقد قال العلماء : أخذ المال بالحياء كأخذ بالسيف . لاسيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء ، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات ، واجتماع الرجال مع الشباب المرد ، والنساء الفاتنات ، إما مختلطات بهم أو مشرفات ، والرقص بالتثني والانعطاف ، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخالف ، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهنَّ رافعات أصواتهم بالتهنيك(1)والتطريب في الإنشاد ، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد ، غافلات عن قوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(2).
__________
(1) - هكذا وردت في الأصل ، وربما في الكلمة تصحيف أو خطأ مطبعي ، ولعل المراد : التنهيك من النهك : وهو المبالغة في الشيء . يراجع : لسان العرب (10/500، 501) مادة (نهك ) – والله أعلم .
(2) - سورة الفجر:14.(94/63)
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان ، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب ، وغير المستقلين من الآثام والذنوب ، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات ، لا من الأمور المنكرات المحرمات ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون . (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ ...))(1). هذا مع أن الشهر الذي ولِدَ فيه صلى الله عليه وسلم- وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي تُوفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه ،وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حُسن القبول ) ا.هـ(2) .
__________
(1) - هذا حديث رواه الإمام أحمد في مسنده(1/398) .ورواه مسلم في صحيحه(1/130) كتاب الإيمان ،حديث رقم (145) . ورواه الترمذي في سننه (4/129) أبواب الإيمان ، حديث رقم (2764) ، وقال : وهذا حديث حسن غريب صحيح . ورواه ابن ماجه في سننه (2/1320) كتاب الفتن ، حديث رقم (3988) .
(2) - يراجع : الحاوي للسيوطي (1/190-192 ) .(94/64)
وقال محمد عبد السلام خضر الشقيري في كتابه (( السنن والمبتدعات )) : ( في شهر ربيع الأول وبدعة المولد فيه : لا يختص هذا الشهر بصلاة ولا ذكر ولا عبادة ولا نفقة ولا صدقة ، ولا هو موسم من مواسم الإسلام كالجمع والأعياد التي رسمها لنا الشارع – صلوات الله وتسليماته عليه ، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين -، ففي هذا الشهر ولِد صلى الله عليه وسلم ، وفيه تُوفي ، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته ؟! فاتخاذ مولده موسماً ، والاحتفال به بدعة منكرة ، وضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل ، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي – رضوان الله عليهم - ، وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم ، والأئمة وأتباعهم ؟ لا شك أن ما أحدثه المتصوفون الأكَّالون البطَّالُون أصحاب البدع ، وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله ، ووفقه لفهم حقائق الإسلام ، ثم أي فائدة تعود ، وأي ثواب في هذه الأمور الباهظة، التي تعلق بها هذه التعاليق ، وتنصب بها هذه السرادقات ، وتضرب بها الصواريخ ؟ وأي رضا لله في اجتماع الرقاصين والرقاصات والطبالين والزمَّارين ، واللصوص والنشالين ، والحاوي والقرادتي(1)، وأي خير في اجتماع ذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء، أهل الإلحاد في أسماء الله، والشخير والنخير والصفير بالغابة ، والدقّ بالبازات والكاسات ، والشهيق والنعيق [ بأح أح يا ابن المرة ، أم أم ،أن أن، سابينها يا رسول الله ، يا صاحب الفرح المدا آد يا عم يا عم اللّع اللْع ](2)
__________
(1) - لأن اجتماع هؤلاء يعتبر من مراسم الاحتفال بالموالد عموماً ، فعلى ماذا يدل اجتماع هؤلاء العصاة وربما الكفرة ؟؟. يراجع :تاريخ الحبرتي(1/304)ترجمة عبد الوهاب العفيفي المتوفى سنة 1172هـ . ذكر فيها ما يفعلونه في مولده ، وهو مشابه لما ذكره الشقيري في كتابه مما يدل على أن ذلك أمر متفق عليه عند المتخلفين بالموالد منذ دهر طويل .
(2) - لعل هذه العبارات الغريبة مما يردده هؤلاء الصوفية في موالدهم ، وبعض مفرداتها واضح المعنى ، وبعضها غريب .(94/65)
كالقرود ، ما فائدة هذا كله ؟! فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا ، وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوروبا ،فيفهمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم – حاشاه حاشاه – كان كذلك هو وأصحابه ، فإنا للهِ وإنا إليه راجعون .
ثم هو خراب ودمار ، فوق ما فيه الناس من فقر وجوع وجهل وأمراض ، فلماذا لا ننفق هذه الأموال الطائلة في تأسيس
مصانع يعمل فيها الألوف من العاطلين ؟أو لماذا لا ننفق هذه النفقات الباهظة في إيجاد آلات حربية نقاوم بها أعداء الإسلام
والأوطان ؟ وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر ، بل وأقروه ؟ ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه المخازي
وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين ؟ فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة )ا. هـ(1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في جواب على سؤال عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل فعله أحد من أصحابه أو التابعين وغيرهم من السلف الصالح :
( لا شك أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثة في الدين ، بعد أن انتشر الجهل في العالم الإسلامي ، وصار للتضليل والإضلال ، والوهم والإيهام مجال عميت فيه البصائر ، وقوي فيه سلطان التقليد الأعمى ، وأصبح الناس في الغالب لا يرجعون إلى ما قام الدليل على مشروعيته ، وإنما يرجعون إلى ما قاله فلان وارتضاه علان ، فلم يكن لهذه البدعة المنكرة أثر يذكر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا لدى التابعين ، وتابعيهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضُّو عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ))(2)
__________
(1) -يراجع : السنن والمبتدعات ص (143) .
(2) - رواه الإمام أحمد في مسنده (4/126، 127) .
ورواه أبو داود في سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358- 360) كتاب الفتن ، واللفظ له .
ورواه الترمذي في سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي (7/ 438-442). وقال هذا حديث حسن صحيح ، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة .
ورواه ابن ماجه في سننه (1/ 15، 16 ) ، المقدمة .(94/66)
. وقال – عليه السلام – أيضاً- : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))(1). وفي رواية : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(2).
وإذا كان مقصدهم من الاحتفال بالمولد النبوي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء ذكره، فلا شك أن تعزيره(3) وتوقيره يحصل بغير هذه الموالد المنكرة، وما يصاحبها من مفاسد وفواحش ومنكرات، قال الله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }(4). فذكره مرفوع في الأذان والإقامة ، والخطب والصلوات ، وفي التشهد والصلاة عليه في الدعاء وعند ذكره ، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( البخيل من ذُكرت عنده فلم يصل علي ))(5).
وتعظيمه يحصل بطاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع .
__________
(1) - رواه البخاري في صحيحه المطبوع مع فتح الباري (5/301) كتاب الصلح ، حديث رقم (2697). ورواه مسلم في صحيحه (3/1343) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(2) - ورواه مسلم في صحيحه (3/1343، 1344) كتاب الأقضية ، حديث رقم ( 1718).
(3) - كلمة التعزير مأخوذة من قوله تعالى : { )لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح:9) . وقوله تعالى :{ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(لأعراف: من الآية157)
(4) - سورة الشرح:4.
(5) - رواه الإمام أحمد في مسنده (1/201) . ورواه الترمذي في سننه (5/211) أبواب الدعوات ، حديث رقم (3614) ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح .(94/67)
فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط ، ولو كان هذه الاحتفالات خيراً نحضاً ، أو راجحاً لكان السلف الصالح – رضي الله عنهم – أحق بها منا ، فإنهم كانوا أشدّ منا محبة وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم على الخير أحرص ، ولكن قد لا يتجاوز أمر أصحاب هذه الموالد ما ذكره بعض أهل العلم : من أن الناس إذا اعترتهم عوامل الضعف والتخاذل والوهن ، راحوا يعظمون أئمتهم بالاحتفالات الدورية،دون ترسم مسالكهم المستقيمة؛لأن تعظيمهم هذا لا مشقة على فيه النفس الضعيفة، ولا شك أن التعظيم الحقيقي هو طاعة المعظم ، والنصح له ، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ، ويعتز بها دينه، إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكاً .
وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم للخلفاء الراشدين من بعده ، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل ،إلا أن تعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ، لم يكن كتعظيم أهل هذه القرون المتأخرة ، ممن ضاعت منهم طريقة السلف الصالح في الاهتداء والاقتداء ،وسلكوا طريق الغواية والضلال في مظاهر التعظيم الأجوف ،ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحقّ الخلق بكل تعظيم يناسبهم ، إلاَّ أنه ليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص ،أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به ، كما أنه ليس من تعظيمه- عليه الصلاة والسلام - أن نصرف له شيئاً مما لا يصلح لغير الله من أنواع التعظيم والعبادة ........
والخلاصة : أن الاحتفال بالمولد من البدع المنكرة ، وقد كتبنا فيها رسالة مستقلَّة فيها مزيد تفصيل ...والله ولي التوفيق )ا.هـ(1)
__________
(1) - يراجع : فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن لإبراهيم (3/54-56) . وللشيخ – رحمه الله – ورسائل كثيرة في إنكار بدعة المولد ، بعضها مطول ، وبعضها مختصر ، فلتراجع في الجزء الثالث من الفتاوى .
وممن كتب أيضاً في إنكار بدعة المولد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – وذلك في رسالة لطيفة ، وكذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – وذلك من خلال الصحف والمجلات ، وله رسائل مطبوعة في هذا الموضوع ....... إلى غير هؤلاء من العلماء الذين لا يتسع المجال لذكر كتاباتهم التي جاءت على شكل ردود على القائلين بشرعية الاحتفال بالمولد النبوي .(94/68)
.
فمن خلال هذه الشواهد من آثار السلف الصالح ، ومن على نهجهم ، يتبين لنا أنهم اتفقوا على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة ، لم تؤثر على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه- رضوان الله عليهم - ، ولا عن التابعين وتابعيهم ومن تبعهم من الأئمة الأعلام من سلفنا الصالح- رحمة الله عليهم .
والبدعة مهما عمل الناس بها ، ومهما مرَّت عليها الأزمنة والعصور ، ومهما عمل بها أو رضي بها من يدَّعي العلم ، لا يمكن أن تكون في يوم من الأيام سنَّة يؤجر على فعلها .
والذين يحتفلون بهذه الموالد قد آثروا أقوال علماء الغواية والجهالة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن استشهدوا بهما فهم يؤولون معانيهما على ما يوافق شهواتهم وهوى أنفسهم ، ويدلُّ على ذلك تعصبهم لأقوال مشايخهم الذي ضلُّوا وأضلُّوا ،ولو كانوا يبحثون عن الحق ،لسألوا أهل العلم واستفسروا منهم ، وفحصوا الأدلة والبراهين ، وإذا اتضح لهم الطريق المستقيم اتبعوه ، ولكن المكابرة سلاح الجاهل يطعن به نفسه .(94/69)
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه : {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}(1).
__________
(1) - سورة النور والآيات :47- 52 .(94/70)
والقائل سبحانه وتعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }(1) .
والقائل – أيضاً -في محكم كتابه : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(2).
وهل قام الذين يحتفلون بالموالد بكل تعاليم الإسلام كبيرها وصغيرها من الأركان والفروض والواجبات والسنن ،حتى يبحثوا عن بدعة حسنة- كما يزعمون- رغبة في زيادة الأجر والثواب من الله؟! الله أكبر!!!.
__________
(1) - سورة النساء الآيات :60- 65 .
(2) - سورة النساء:115.(94/71)
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق إلى صراطه المستقيم ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والله أعلم .(94/72)
بدعة المولد
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله نحمده ونستعينة ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تتساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الامر محدثاتها ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(95/1)
وبعد فقد بدا لي أن أجعل كلمتي في هذه الليلة بديل الدرس النظامي حول موضوع احتفال كثير المسلمين بالمولد النبوي وليس ذلك مني كل قياما بواجب التذكير وتقديم النصح لعامة المسلمين فإنه واجب من الواجبات كما هو معلوم عند الجميع، جرى عرف المسلمين من بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية على الاحتفال بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الاحتفال بطريقة وانتهى اليوم إلى طريقة وليس يهمني في هذه الكلمة الناحية التاريخية من المولد وما جرى عليه من تطورات إنما المهم من كلمتي هذه أن نعرف موقفنا الشرعي من هذه الاحتفالات قديمها وحديثها فنحن معشر أهل السنة لا نحتفل احتفال الناس هؤلاء بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ولكننا نحتفل احتفالاً من نوع آخر ومن البدهي أنني لا أريد الدندنة حول احتفالنا نحن معشر أهل السنة وإنما ستكون كلمتي هذه حول احتفال الآخرين لأبين أن هذا الاحتفال وإن كان يأخذ بقلوب جماهير المسلمين لأنهم يستسلمون لعواطفهم التي لا تعرف قيداً شرعياً مطلقا وإنما هي عواطف جانحة فنحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين كاملا وافيا تاما والدين هو كل شئ يتدين به المسلم وأن يتقرب به إلى الله عز وجل ليس ثمة دين إلا هذا، الدين هو كل ما يتدين به ويتقرب به المسلم إلى الله عز وجل ولا يمكن أن يكون شئ ما من الدين في شئ ما إلا إذا جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه أما ما أحدثه الناس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا سيما بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية فهي لاشك ولا ريب من محدثات الأمور وقد علمتم جميعا حكم هذه المحدثات من افتتاحية دروسنا كلها حيث نقول فيها كما سمعتم آنفا "خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ونحن وإياهم مجمعون على أن هذا الاحتفال أمر حادث لم يكن ليس فقط في عهده صلى الله عليه وسلم بل ولا في عهد(95/2)
القرون الثلاثة كما ذكرنا آنفا ومن البدهي أن النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يكن ليحتفل بولادته ذلك لأن الاحتفال بولادة إنسان ما إنما هي طريقة نصرانية مسيحية لا يعرفه الإسلام مطلقا في القرون المذكورة آنفا فمن باب أولى ألا يعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن عيسى نفسه الذي يحتفل بميلاده المدعون إتباعه عيسى نفسه لم يحتفل بولادته مع أنها ولادة خارقة للعادة وإنما الاحتفال بولادة عيسى عليه السلام هو من البدع التي ابتدعها النصارى في دينهم وهي كما قال عز وجل { ابتدعوها ما كتبناها عليهم} ربنا عز وجل هذه البدع التي اتخذها النصارى ومنها الاحتفال بميلاد عيسى ما شرعها الله عز وجل وإنما هم ابتدعوها من عند أنفسهم فلذلك إذا كان عيسى لم يحتفل بميلاده ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضا كذلك لم يحتفل بميلاده والله عز وجل يقول {وبهداهم اقتده} فهذا من جملة الإقتداء نبينا بعيسى عليه الصلاة والسلام وهو نبينا أيضا ولكن نبوته نسخت ورفعت بنبوة خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهما ولذلك فعيسى حينما ينزل في آخر الزمان كما جاء في الأحاديث الصحيحة المتواترة إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإذاً محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بميلاده وهنا يقول بعض المبتلين بالاحتفال غير المشروع الذي نحن في صدد الكلام عليه يقولون محمد صلى الله عليه وسلم ما راح يحتفل بولادته طيب سنقول لم يحتفل بولادته عليه السلام بعد وفاته أحب الخلق من الرجال إليه وأحب الخلق من النساء إليه ذا لكما أبو بكر وابنته عائشة رضي الله عنهما ما احتفلا بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الصحابة جميعا كذلك التابعون كذلك أتباعهم وهكذا إذا لا يصح لإنسان يخشى الله ويقف عند حدود الله ويتعظ بقول الله عز وجل، {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} فلا يقولن أحد الناس الرسول ما احتفل لأنه(95/3)
هذا يتعلق بشخصه لأنه يأتي بالجواب لا أحد من أصحابه جميعا أحتفل به عليه السلام فمن الذي أحدث هذا الاحتفال من بعد هؤلاء الرجال الذين هم أفضل الرجال ولا أفضل من بعدهم أبدا ولن تلد النساء أمثالهم إطلاقا من هؤلاء الذين يستطيعون بعد مضي هذه السنين الطويلة ثلاثمائة سنة يمضون لا يحتفلون هذا الاحتفال أو ذاك وإنما احتفالهم من النوع الذي سأشير إليه إشارة سريعة كما فعلت آنفا فهذا يكفي المسلم أن يعرف أن القضية ليست قضية عاطفة جانحة لا تعرف الحدود المشروعة وإنما هو الاتباع والاستسلام لحكم الله عز وجل ومن ذلك { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فرسول الله ما احتفل إذا نحن لا نحتفل إن قالوا ما احتفل لشخصه نقول ما احتفل أصحابه أيضا بشخصه من بعده فأين تذهبون؟ كل الطرق مسدودة أمام الحجة البينة الواضحة التي لا تفسح مجالاً مطلقا للقول بحسن هذه البدعة وإن مما يبشر بالخير أن بعض الخطباء والوعاظ بدأوا يضطرون ليعترفوا بهذه الحقيقة وهي أن الاحتفال هذا بالمولد بدعة وليس من السنة ولكن يعودهم ويحتاجون إلى شئ من الشجاعة العلمية التي تتطلب الوقوف أمام عواطف الناس الذين عاشوا هذه القرون الطويلة وهم يحتفلون فهؤلاء كأنهم يجبنون أو يضعفون أن يصدعوا بالحق الذي اقتنعوا به ولذلك لا تجد يروق ولا أريد أن أقول يسدد ويقارب فيقول صحيح أن هذا الاحتفال ليس من السنة ما احتفل الرسول ولا الصحابة ولا السلف الصالح ولكن الناس اعتادوا أن يحتفلوا ويبدو أن الخلاف فقري، هكذا يبرر القضية ويقول الخلاف شكلي لكن الحقيقة أنهم انتبهوا أخيرا إلى أن هذا المولد خرج عن موضوع الاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان حيث يتطرف الخطباء أمورا ليس لها علاقة بالاحتفال بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم أريد ألا أطيل في هذا ولكني أذكر لأمر هام جدا طالما غفل عنه جماهير المسلمين حتى بعض إخواننا الذين يمشون معنا على(95/4)
الصراط المستقيم وعلى الابتعاد من التعبد إلى الله عز وجل بأي بدعة، قد يخفى عليهم أن أي بدعة يتعبد المسلم بها ربه عز وجل هي ليست من صغائر الأمور ومن هنا نعتقد أن تقسيم البدعة إلى محرمة وإلى مكروهة يعني كراهه تنزيهيه هذا التقسيم لا أصل له في الشريعة الإسلامية كيف وهو مصادم مصادمة جلية للحديث الذي تسمعونه دائما وأبدأ (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) فليس هناك بدعة لا يستحق صاحبها النار ولو صح ذلك التقسيم لكان الجواب ليس كل بدعة يستحق صاحبها دخول النار لم؟ لأن ذاك التقسيم يجعل بدعة محرمة فهي التي تؤهل صاحبها النار وبدعة مكروهة تنزيها لا تؤهل صاحبها للنار وإنما الأولى تركها والإعراض عنها والسر وهنا الشاهد من إشارتي السابقة التي لا ينتبه لها الكثير، والسر في أن كل بدعة كما قال عليه الصلاة والسلام بحق ضلالة هو أنه من باب التشريع في الشرع الذي ليس له حق التشريع إلا رب العالمين تبارك وتعالى فإذا انتبهتم لهذه النقطة عرفتم حينذاك لماذا أطلق عليه الصلاة والسلام على كلأ بدعة أنها في النار أي صاحبها ذلك لأن المبتدع حينما يشرع شيئا من نفسه فكأنه جعل نفسه شريكا مع ربه تبارك وتعالى والله عز وجل يأمرنا أن نوحده في عبادته وفي تشريعه فيقول مثلاً في كتابه { ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أندادا في كل شئ من ذلك في التشريع ومن هنا يظهر معشر الشباب المسلم الواعي المثقف الذي انفتح له الطريق إلى التعرف على الإسلام الصحيح من المفتاح لا إله إلا الله وهذا التوحيد الذي يستلزم كما بين ذلك بعض العلماء قديما وشرحوا ذلك شرحا بينا ثم تبعهم بعض الكتاب المعاصرين أن هذا التوحيد يستلزم إفراد الله عز وجل بالتشريع يستلزم ألا يشرع أحد مع الله عز وجل أمرا ما سواء كان صغيرا أم كبيرا جليلا أم حقيراً لأن القضية ليست بالنظر إلى الحكم هو صغير أم كبير وإنما إلى الدافع إلى هذا التشريع فإن كان هذا التشريع صدر من الله(95/5)
تقربنا به إلى الله وإن كان صدر من غير الله عز وجل نبذناه وشرعته نبذ النواة ولم يجز للمسلم أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء من ذلك وأولى وأولى ألا يجوز للذي شرع ذلك أن يشرعه وأن يستمر على ذلك وأن يستحسنه، هذا النوع من إفراد الله عز وجل بالتشريع هو الذي اصطلح عليه اليوم بعض الكتاب الإسلاميين بتسمية بأن ألحا كمية لله عز وجل وحده لكن مع الأسف الشديد أخذ شبابنا هذه الكلمة كلمة ليست مبينة مفصلة لا تشتمل كل شرعة أو كل أمر أدخل في الإسلام وليس من الإسلام في شئ أن هذا الذي أدخل قد شارك الله عز وجل في هذه الخصوصية ولم يوحد الله عز وجل في تشريعه، ذلك لأن السبب فيما أعتقد في عدم وضوح هذا المعنى الواسع لجملة أن ألحا كمية لله عز وجل هو أن الذين كتبوا حول هذا الموضوع أقولها مع الأسف الشديد ما كتبوا ذلك إلا وهم قد نبهوا بالضغوط الكافرة التي ترد بهذه التشريعات وهذه القوانين من بلاد الكفر وبلاد الضلال ولذلك فهم حينما دعوا المسلمين وحاضروا وكتبوا دائما وأبدا حول هذه الكلمة الحقة وهي أن ألحا كمية لله عز وجل وحده كان كلامهم دائما ينصب ويدور حول رفض هذه القوانين الأجنبية التي ترد إلينا من بلاد الكفر كما قلنا لأن ذلك إدخال في الشرع ما لم يشرعه الله عز وجل هذا كلام حق لاشك ولا ريب ولكن قصدي أن ألفت نظركم أن هذه القاعدة الهامة وهي أن ألحا كمية لله عز وجل لا تنحصر فقط برفض هذه القوانين التي ترد إلينا من بلاد الكفر بل تشمل هذه الجملة هذه الكلمة الحق كل شئ دخل في الإسلام سواء كان وافدا إلينا أو نابعا منا مادام أنه ليس من الإسلام في شئ، هذه النقطة بالذات هي التي يجب أن نتنبه لها وأن لا نتحمس فقط لجانب هو هذه القوانين الأجنبية فقط وكفرها واضح جدا نتنبه لهذا فقط بينما دخل الكفر في المسلمين منذ قرون طويلة وعديدة جدا والناس في غفلة من هذه الحقيقة فضلاً عن هذه المسائل التي يعتبرونها طفيفة لذلك فهذا الاحتفال(95/6)
يكفي أن تعرفوا أنه محدث ليس من الإسلام في شئ ولكن يجب أن تتذكروا مع ذلك أن الإصرار على استحسان هذه البدعة مع إجمال جميل كما ذكرت آنفا أنها محدثة فالإصرار على ذلك أخشى ما أخشاه أن يدخل المصر على ذلك في جملة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} وأنتم تعلمون أن هذه الآية لما نزلت وتلاها النبي صلى الله عليه وسلم كان في المجلس عدي بن حاتم الطائي وكان من العرب القليلين الذين قرأوا وكتبوا وبالتالي تنصروا فكان نصرانيا فلما نزلت هذه الآية لم يتبين له المقصد منها فقال يا رسول الله كيف يعني ربنا يقول عنا نحن النصارى سابقا (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ما اتخذناهم أحبارنا أربابا من دون الله عز وجل كأنه فهم أنهم اعتقدوا بأحبارهم ورهبانهم أنهم يخلقون مع الله يرزقون مع الله وإلى غير ذلك من الصفات التي تفرد الله بها عز وجل دون سائر الخلق فبين له الرسول عليه السلام بأن هذا المعنى الذي خطر في بالك ليس هو المقصود بهذه الآية وإن كان هو معنى حق يعني لا يجوز للمسلم أن يعتقد أن إنسانا ما يخلق ويرزق لكن المعنى هنا أدق من ذلك فقال له (ألستم كنتم إذا حرموا لكم حلالاً حرمتموه؟ وإذا حللوا لكم حراما حللتموه؟ قال أما هذا فقد كان فقال عليه السلام، فذاك اتخاذكم إياهم أربابا من دون الله " لذلك فالأمر خطير جدا استحسان بدعة المستحسن وهو يعلم أنه لم يكن من عمل السلف الصالح ولو كان خيرا لسبقونا إليه، قد حشر نفسه في زمرة الأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون الله عز وجل والذين أيضا يقلدونهم فهم الذين نزل في صددهم هذه الآية أو في أمثالهم { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } غرضي من هذا أنه لا يجوز للمسلم كما نسمع دائما وكما سمعنا قريبا معليش الخلاف شكلي، الخلاف جذري وعميق جدا لأننا نحن ننظر إلى أن هذه البدعة وغيرها داخلة أولاً في عموم الحديث السابق "كل بدعة ضلالة وكل(95/7)
ضلالة في النار" وثانيا ننظر إلى أن موضوع البدعة مربوط بالتشريع الذي لم يأذن به الله عز وجل كما قال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وهذا يقال كله إذا وقف الأمر فقط عند ما يسمى بالاحتفال، بولادته عليه السلام بمعنى قراءة قصة المولد أما إذا انضم إلى هذه القراءة أشياء وأشياء كثيرة جدا منها أنهم يقرءون من قصته عليه الصلاة والسلام قصة المولد أولا مالا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وثانيا يذكرون من صفاته عليه السلام فيما يتعلق بولادته ما يشترك معه عامة البشر بينما لو كان هناك يجب الاحتفال أو يجوز على الأقل بالرسول صلى الله عليه وسلم كان الواجب أن تذكر مناقبه عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وجهاده في سبيل الله وقلبه لجزيرة العرب من الإشراك بالله عز وجل إلى التوحيد من الأخلاق الجاهلية الطالحة الفاسدة إلى الأخلاق الإسلامية كان هذا هو الواجب أن يفعله لكنهم جروا على نمط من قراءة الموارد لا سيما إلى عهد قريب عبارة عن أناشيد وعبارة عن كلمات مسجعة ويقال في ذلك من جملة ما يقال مثلا مما بقى في ذاكرتي والعهد القديم "حملت به أمة تسعة أشهر قمرية" ما الفائدة من ذكر هذا الخبر؟ وكل إنسان منا تحمل به أمه تسعة أشهر قمرية، القصد هل أفضل البشر وسيد البشر عليه الصلاة والسلام يذكر منه هذه الخصلة التي يشترك فيها حتى الكافر إذا خرج القصد من المولد خرج عن هدفه بمثل هذا الكلام الساقط الواهي، بعضهم مثلا يذكرون بأنه ولد مختونا مشروع وهذا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة فهكذا يمدح الرسول عليه السلام؟ يعني نقول أن الاحتفال في أصله لو كان ليس فيه مخالفة سوى أنه محدث لكفى وجوبا الابتعاد عنه للأمرين السابقين لأنه محدث ولأنه تشريع والله عز رجل لا يرضى من إنسان أن يشرع للخلق ما يشاء فكيف وقد انضم إلى المولد على مر السنين أشياء وأشياء مما ذكرنا ومما يطول الحديث فيما لو استعرضنا الكلام(95/8)
على ذلك فحسب المسلم إذا التذكير هنا والنصيحة أن يعلم أن أي شئ لم يكن في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد السلف الصالح فمهما زخرفه الناس ومهما زينوه ومهما قالوا هذا في حب الرسول وأكثرهم كاذبون فلا يحبون الرسول إلا باللفظ وإلا بالغناء والتطريب ونحو ذلك مهما زخرفوا هذه البدع فعلينا نحن أن نظل متمسكين بما عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين وتذكروا معنا بأن من طبيعة الإنسان المغالاة في تقدير الشخص الذي يحبه لاسيما إذا كان هذا الشخص لا مثل له في الدنيا كلها ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن طبيعة الناس الغلو في تعظيم هذا الإنسان إلا الناس الذين يأتمرون بأوامر الله عز وجل ولا يعتدون فهم يتذكرون دائما وأبدا مثل قوله تبارك وتعالى { وتلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } فإذا كان الله عز وجل قد اتخذ محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا فهو قبل ذلك جعله بشرا سويا لم يجعله ملكا خلق من نور مثلاكما يزعمون وإنما هو بشر وهو نفسه تأكيداً للقرآن الكريم { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي... الخ الآية} هو نفسه أكد ذلك في غير ما مناسبة فقال "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني " وقال لهم مرة "لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها وإنما ضعوني حيث وضعني ربي عز وجل عبداً رسولاً" لذلك في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " هذا الحديث تفسير للحديث السابق "لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله بها " فهو يقول لا تمدحوني كما فعلت النصارى في عيسى بن مريم كأن قائلا يقول كيف نقول يا رسول الله كيف نمدحك؟ قال "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " ونحن حينما نقول في رسولنا صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله فقد رفعناه ووضعناه في المرتبة التي وضعه الله عز وجل(95/9)
فيها لن ننزل به عنها ولم نصعد به فوقها هذا الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم متا ثم نجد النبي صلوات الله وسلامه عليه يطبق هذه القواعد ويجعلها حياة يمشي عليها أصحابه صلوات الله وسلامه معه فقد ذكرت لكم غير ما مرة قصة معاوية بن جبل رضي الله عنه حينما جاء إلى الشام وهي يومئذ من بلاد الروم بلاد النصارى يعبدون القسيسين والرهبان بقى في الشام ما بقى لتجارة فيما يبدو ولما عاد إلى المدينة فكان لما وقع بصره على النبي صلى الله عليه وسلم هم ليسجد لمن؟ لسيد الناس فقال له عليه الصلاة والسلام "مه يا معاذ- شو هذا- قال يا رسول الله إني أتيت الشام فرأيت النصارى يسجدون لقسيسيهم وعظمائهم فرأيتك أنت أحق بالسجود منهم فقال عليه الصلاة والسلام "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها " وهذا الحديث جاء في مناسبات كثيرة لا أريد أن أستطرد إليها وحسبنا هنا أن نلفت النظر إلى ما أراد معاذ بن جبل أن يفعل من السجود للنبي صلى الله عليه وسلم ما الذي دفعه على هذا السجود ؟ هل هو بغضه للرسول عليه السلام؟ بطبيعة الحال لا إنما هو العكس تماما هو حبه للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنقذه من النار لولا، هنا يقال الواسطة لا تنكر لولا الرسول عليه السلام أرسله الله إلى الناس هداية لجميع العالم لكان الناس اليوم يعيشون في الجاهلية السابقة وأضعاف مضاعفة عليها فلذلك ليس غريبا أبداً لاسيما والتشريع بعد لم يكن قد كمل وتم ليس غريبا أبدا أن يهم معاذ بن جبل بالسجود للنبي صلى الله عليه وسلم كإظهار لتبجيله واحترامه وتعظيمه لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان قرر في عقولهم وطبعهم على ذلك يريد أن يثبت عمليا بأنه بشر وأن هذا السجود لا يصلح إلا لرب البشر ويقول لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها، في بعض روايات الحديث "ولكن لا يصلح السجود إلا لله عز وجل "(95/10)
إذا نحن لو استسلمنا لعواطفنا لسجدنا لنبينا صلى الله عليه وسلم سواء كان حياً أو ميتا لماذا؟ تعظيما له لأن القصد تعظيمه وليس القصد عبادته عليه السلام ولكن إذا كنا صادقين في حبه عليه الصلاة والسلام فيجب أن تأتمر بأمره وأن ننتهي بنهيه وألا نضرب بالأمر والنهي عرض الحائط بزعم أنه نحن نفعل ذلك حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف هذا؟ هذا أولاً عكس للنص القرآني ثم عكس للمنطق العقلي السليم ربنا عز وجل يقول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فإذا اتباع الرسول عليه السلام هو الدليل الحق الصادق الذي لا دليل سواه على أن هذا المتبع للرسول عليه السلام هو المحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال الشاعر قوله المشهور:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لاطعته إن المحب لمن يحب مطيع(95/11)
هناك مثال دون هذا ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه عليه ذلك أن الناس في الجاهلية كانوا يعيشون على عادات جاهلية وزيادة أخرى عادات فارسية أعجمية ومن ذلك أنه يقوم بعضهم لبعض كما نحن نفعل اليوم تماما لأننا لا نتبع الرسول عليه السلام ولا نصدق أنفسنا بأعمالنا أننا نحبه عليه الصلاة والسلام وإنما بأقوالنا فقط ذلك أن الناس كان يقوم بعضهم لبعض أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان أصحابه معه كما لو كان فرداً منهم لا أحد يظهر له من ذلك التبجيل الوثني الفارسي الأعجمي شيئا إطلاقا وهذا نفهمه صراحة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم و كانوا لا يقومون لما يعلمون من كراهيته لذلك " أنظروا هذا الصحابي الجليل الذي تفضل الله عليه فأولاه خدمة نبيه عشرة سنين أنس بن مالك كيف يجمع في هذا الحديث بين الحقيقة الواقعة بينه عليه السلام وبين أصحابه من حبهم إياه وبين هذا الذي يدندن حوله أن هذا الحب يجب أن يقيد بالإتباع وأن لا ينصاع وأن لا يخضع صاحبه من هوى وحبك الشيء يعمي ويصم فهو يقول حقا ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حقيقة لا جدال فيها لكنه يعطف على ذلك فيقول وكانوا لا يقومون لما يعلمون من كراهيته لذلك إذا لماذا كان أصحاب الرسول عليه السلام لا يقومون له؟ إتباعا له تحقيقا للآية السابقة (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) فاتباع الرسول هو دليل حب الله حبا صحيحاً ما استسلموا لعواطفهم كما وقع من الخلف الطالح نحن نقرأ في بعض الرسائل التي ألفت حول هذا المولد الذي نحن في صدد بيان أنه محدث جرت مناقشات كثيرة مع الأسف والأمر كالصبح أبلج واضح جداً فناس ألفوا في بيان ما نحن في صدده أن هذا ليس من عمل السلف الصالح وليس عبادة وليس طاعة وناس تحمسوا واستسلموا لعواطفهم وأخذوا يتكلمون كلاماً لا يقوله إلا إنسان ممكن أن يقال في(95/12)
مثله إن الله عز وجل إذا أخذ ما وهب أسقط ما أوجب لماذا؟ لأن في المولد حتى الطريقة القديمة ما أدري الآن لعلهم نسخوها أو عدلوها كانوا يجلسون على الأرض فكانوا إذا جاء القارئ لقصة ولادة الرسول عليه السلام ووضع أمه إياه قاموا جميعاً قياماً وكانوا يبطشون بالإنسان إذا لم يتحرك وظل جالساً فجرت مناقشات حول هذا الموضوع فألف بعضهم رسالة فقال هذا الإنسان الأحمق قال لو استطعت أن أقوم لولادة الرسول عليه السلام على برأسي لفعلت، هذا يدري ما يقول الحق ما قال الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(95/13)
ترى إذا عملنا مقابلة بين هذا الإنسان الأحمق وبين صحابة الرسول الكرام حسبنا واحد منهم مش الصحابة حتى ما نظلمهم ترى من الذي يحترم ويوقر الرسول عليه السلام أكثر أذاك الصحابي الذي إذا دخل الرسول عليه السلام لا يقوم له أم هذا الخلف الأحمق يقول لو تمكنت لقمت على رأسي؟ هذا كلام إنسان مثل ما قلنا آنفاً يعني هايم ما يدري ما يخرج من فمه وإلا إذا كان يتذكر سيرة الرسول عليه السلام وأخلاقه وتواضعه وأمره للناس بأنه ما يرفعوه إلى آخر ما ذكرنا آنفاً كما تجرأ أن يقول هذه الكلمة لاسيما وهو يقول ذلك بعد وفاته عليه السلام حيث الشيطان يتخذ طريقا واسعا جدا لإضلال الناس وإشكال الناس لنبيهم بعد وفاته أكثر منه في حياته عليه السلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يرى فينصح ويذكر ولمعلم وهو سيد المعلمين فلا يستطيع الشيطان أن يتقرب إلى أحد بمثل هذا التعظيم الذي هو من باب الشرك أما بعد وفاته عليه السلام فهنا ممكن أن الشيطان يتوغل إلى قلوب الناس وإخراجهم عن الطريق الذي تركهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ما يقوم له أحد وهو أحق الناس بالقيام لو كان سائغاً فنحن نعلم من هذا الحديث حديث أنس أن الصحابة كانوا يحبون الرسول عليه السلام حبا حقيقياً وأنهم لو تركوا لأنفسهم لقاموا له دائما وأبداً ولكنهم هم المجاهدون حقاً تركوا أهواءهم إتباعاً للرسول عليه السلام ورجاء مغفرة الله عز وجل ليحفظوا بحب الله عز رجل لهم فيغفر الله لهم هكذا يكون الإسلام فالإسلام هو الاستسلام هذه الحقيقة هي التي يجب دائما نستحضرها وأن نبتعد دائماً وأبداً عن العواطف التي تفق الناس كثيراً وكثيراً جداً فتخرجهم عن سواء السبيل لم يبق الآن من تعظيم الرسول عليه السلام في المجتمعات الإسلامية إلا قضايا شكلية أما التعظيم من حق كما ذكرنا وهو إتباعه فهذا أصبح محصوراً و محدوداً في أشخاص قليلين جداً وماذا(95/14)
يقول الإنسان في الاحتفالات اليوم رفع الصوت والتطريب وغناء لو رفع صوته هذا المغني واضطرب وحرك رأسه ونحو ذلك أمام الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذلك لا أقول هل هو الكفر وإنما هو إهانة للرسول عليه السلام لكان ذلك لا أقول هل هو الكفر وإنما هو إهانة للرسول عليه السلام وليس تعظيما له وليس حبا له لأنه حينما ترونه يرفع صوته ويمد ويطلع وينزل في أساليب موسيقية ما أعرفها وهو يقول يفعل ذلك حبا في رسول الله أنه كذاب ليس هذا هو الحب، الحب في اتباعه ولذلك الآن تجد الناس فريقين فريق يقنعون لا ثبات أنهم محبون للرسول عليه السلام على النص على الصمت وهو العمل في أنفسهم في أزواجهم في ذرياتهم وناس آخرون يدعون هذا المجال فارغا في بيوتهم في أزواجهم في بناتهم في أولادهم لا يعلمونهم السنة ولا يربونهم عليها كيف وفاقد الشيء لا يعطيه؟ وإنما لم يبق عندهم إلا هذه المظاهر إلا الاحتفال بولادة الرسول عليه السلام ثم جاء الظغث على إبالة كما يقال فصار عندنا أعياد واحتفالات كثيرة كما جاء الاحتفال بسيد البشر تقليداً للنصارى كذلك جرينا نحن حتى في احتفالنا بمواليد أولادنا أيضاً على طريقة النصارى وإن تعجب فعجب من بعض هؤلاء المنحرفين عن الجادة يقولون النصارى يحتفلوا بعيساهم بنبيهم نحن ما نحتفل بميلاد نبينا عليه الصلاة والسلام؟ أقول هذا يذكرنا بما حينما كان في طريق في سفر فمروا بشجرة حنخمة للمشركين كانوا يعلقون عليها اسلحتهم فقالوا كلمة بريئة جداً ولكنها في مشابهة لفظية قالوا "يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال عليه السلام الله أكبر هذه السنن لقد قلتم كما قال قوم موسى لموسى أجعل لنا إلها لما لهم آلهة" قد يستغرب الإنسان كيف الرسول عليه السلام يقتبس من هذه الآية حجة على هؤلاء الذين ما قالوا أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وإنما قالوا اجعل لنا شجرة نعلق عليها أسلحتنا كما لهم شجرة فقال له هذه السنن – يعني(95/15)
بدأتهم تسلكون سنن من قبلكم كما في الأحاديث الصحيحة- قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فكيف بمن يقول اليوم صراحة النصارى يحتفلوا بعيساهم نحن ما نحتفل بنبينا عليه السلام؟ الله أكبر هذه السنن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعا بذراع حتى دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى هم قال فمن الناس؟ " أخيرا أقول إن الشيطان قاعد للإنسان في المرصاد فهو دائماً وأبداً يجتهد لصرف المسلمين عن دينهم ولا يصرفهم معلنا"(95/16)
??O1بدع رجب
الحمد لله الواحد القهار والصلاة والسلام على النبي المختار وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار . وبعد:
فالحمد لله القائل : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } ، والاختيار هو الاجتباء والاصطفاء الدال على ربوبيته ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته0
ومن اختياره وتفضيله اختياره بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض ، وقد اختار الله من بين الشهور أربعة حُرما قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم }0 وهي مقدرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله الكفار0
والأشهر الحرم وردت في الآية مبهمة ولم تحدد اسماؤها وجاءت السُنة بذكرها: فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وقال في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القَعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان0 رواه البخاري رقم (1741) في الحج باب الخطبة أيام منى ، ورواه مسلم رقم (1679) في القسامة باب تحريم الدماء .
وسمي رجب مضر لأن مضر كانت لا تغيره بل توقعه في وقته بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيّرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم وهو النسيء المذكور في قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله }0
وقيل أن سبب نسبته إلى مضر أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك0
- سبب تسميته:
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ص445) :
رجب: الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته ... ومن هذا الباب: رجبت الشيء أي عظّمته ... فسمي رجبا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضا ..أ.هـ.(96/1)
وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة ( كوم من تراب ) ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب. [رواه البخاري]
قال البيهقي: كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه .ا.هـ.
– رجب شهر حرام:
إن للأشهر الحرم مكانةً عظيمة ومنها شهر رجب لأنه أحد هذه الأشهر الحرم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام }0
أي لا تحلوا محرماته التي أمركم الله بتعظيمها ونهاكم عن ارتكابها فالنهي يشمل فعل القبيح ويشمل اعتقاده .
وقال تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي في هذه الأشهر المحرمة . والضمير في الآية عائد إلى هذه الأربعة الأشهر على ما قرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري – رحمه الله -
فينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة ، ولأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله ؛ ولذلك حذرنا الله في الآية السابقة من ظلم النفس فيها مع أنه – أي ظلم النفس ويشمل المعاصي – يحرم في جميع الشهور .
– القتال في الشهر الحرام :
قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير }0
جمهور العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتالهم مطلقا0
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم0(96/2)
وقال آخرون: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها فإنه يجوز. وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك لأن أول قتالهم في حنين في شوال.
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود فيه الدفع ، فإذا دهم العدو بلدا للمسلمين وجب على أهلها القتال دفاعا سواء كان في الشهر الحرام أو في غيره .
العَتِيرَة:
كانت العرب في الجاهلية تذبح ذبيحة في رجب يتقربون بها لأوثانهم.
فلما جاء الإسلام بالذبح لله تعالى بطل فعل أهل الجاهلية واختلف الفقهاء في حكم ذبيحة رجب فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن فعل العتيرة منسوخ واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا فرع ولا عتيرة. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وذهب الشافعية إلى عدم نسخ طلب العتيرة وقالوا تستحب العتيرة وهو قول ابن سيرين.
قال ابن حجر: ويؤيده ما أخرجه ابوداود والنسائي وابن ماجة وصححه الحاكم وابن المنذر عن نُبيشة قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا. قال: اذبحوا في أي شهر كان ……الحديث.
قال ابن حجر : فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم العتيرة من أصلها وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب.
الصوم في رجب:
لم يصح في فضل الصوم في رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه.(96/3)
وإنما يشرع فيه من الصيام ما يشرع في غيره من الشهور ، من صيام الاثنين والخميس والأيام الثلاثة البيض وصيام يوم وإفطار يوم ، والصيام من سرر الشهر وسرر الشهر قال بعض العلماء أنه أول الشهر وقال البعض أنه أوسط الشهر وقيل أيضا أنه آخر الشهر. وقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن صيام رجب لما فيه من التشبه بالجاهلية كما ورد عن خرشة بن الحر قال : رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. ( الإرواء 957 وقال الألباني: صحيح )
قال الإمام ابن القيم: ولم يصم صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأشهر سردا ( أي رجب وشعبان ورمضان ) كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه .
وقال الحافظ ابن حجر في تبين العجب بما ورد في فضل رجب: لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معيّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ وكذلك رويناه عن غيره.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلا في الشرع.
العُمرة في رجب:
دلت الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب كما ورد عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فسئل: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربعا إحداهن في رجب. فكرهنا أن نرد عليه قال: وسمعنا إستنان عائشة أم المؤمنين ( أي صوت السواك ) في الحجرة فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن ؟ قالت: ما يقول ؟ قال: يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهنّ في رجب. قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد ( أي حاضر معه ) وما اعتمر في رجب قط. متفق عليه وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم.(96/4)
قال النووي: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه أو نسي أوشك.
ولهذا كان من البدع المحدثة في مثل هذا الشهر تخصيص رجب بالعمرة واعتقاد أن العمرة في رجب فيها فضل معيّن ولم يرد في ذلك نص إلى جانب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه اعتمر في رجب قال الشيخ علي بن إبراهيم العطار المتوفى سنة 724هـ: ومما بلغني عن أهل مكة زادها الله شرفا اعتياد كثرة الاعتمار في رجب وهذا مما لا أعلم له أصلا بل ثبت في حديث أن الرسول صلى الله عليه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاويه: أما تخصيص بعض أيام رجب بأي شيء من الأعمال الزيارة وغيرها فلا أصل له لما قرره الإمام أبو شامة في كتاب البدع والحوادث وهو أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لا ينبغي إذ لا فضل لأي وقت على وقت آخر غلآ ما فضله الشرع بنوع من العبادة أو فضل جميع أعمال البر فيه دون غيره ولهذا أنكر العلماء تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار فيه ا.هـ.
ولكن لو ذهب الإنسان للعمرة في رجب من غير اعتقاد فضل معيّن بل كان مصادفة أو لأنّه تيسّر له في هذا الوقت فلا بأس بذلك.
البدع المحدثة في شهر رجب:
إن الابتداع في الدين من الأمور الخطيرة التي تناقض نصوص الكتاب والسنة فالنبي صلى الله عليه لم يمت إلا وقد اكتمل الدين قال تعالى: { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. متفق عليه وفي رواية لمسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. وقد ابتدع بعض الناس في رجب أمورا متعددة فمن ذلك:(96/5)
- صلاة الرغائب وهذه الصلاة شاعت بعد القرون المفضلة وبخاصة في المائة الرابعة وقد اختلقها بعض الكذابين وهي تقام في أول ليلة من رجب قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث وغيرهم والحديث المروي فيها كذب بإجماع لأهل المعرقة بالحديث .ا.هـ.
- وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ، ولم يصح شيء من ذلك ؛ فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد في أول ليلة منه ، وأنه بعث في ليلة السابع والعشرين منه ، وقيل: في الخامس والعشرين ، ولا يصح شيء من ذلك ، وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي كان في السابع والعشرين من رجب ، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره. فأصبح من بدع هذا الشهر قراءة قصة المعراج والاحتفال بها في ليلة السابع والعشرين من رجب ، وتخصيص تلك الليلة بزيادة عبادة كقيام ليل أو صيام نهار ، أو ما يظهر فيها من الفرح والغبطة ، وما يقام من احتفالات تصاحبها المحرمات الصريحة كالاختلاط والأغاني والموسيقى وهذا كله لا يجوز في العيدين الشرعيين فضلا عن الأعياد المبتدعة ، أضف إلى ذلك أن هذا التاريخ لم يثبت جزما وقوع الإسراء والمعراج فيه ، ولو ثبت فلا يعد ذلك شرعا مبررا للاحتفال فيه لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا عن أحد من سلف هذه الأمة الأخيار ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، والله المستعان . .
- صلاة أم داود في نصف رجب.
- التصدق عن روح الموتى في رجب.
- الأدعية التي تقال في رجب بخصوصه كلها مخترعة ومبتدعة.
- تخصيص زيارة المقابر في رجب وهذه بدعة محدثة أيضا فالزيارة تكون في أي وقت من العام.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظّمون حرماته ويلتزمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(96/6)
محمد صالح المنجد
بدعة رجب
لفضيلة الشيخ
محمد بن صالح المنجد
أبو علي ـ دار السنة 8946749ـ حفظه الله تعالى ـ(96/7)
بسم الله الرحمان الرحيم
بدعة قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة
تأليف الشيخنا الهمام بركة الزمان و حسنة الأيام محمد تقي الدين الهلالي
الحمد لله رب العلمين ، مالك يوم الدين ، لا إله الا هو اياه أعبد ، وإياه استعين ، وصلاته و سلامه على محمد عبده و رسوله النبي الأمين أرسل رحمة للعالمين وأنزل عليه في الكتاب المبين ( يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) و أمره بجهاد الكفار و المنافقين وعلى آله وأصحابه الذين كانوا أشداء على الكفار ، رحماء بالمومنين ، وعلى كل من اتبعهم بإحسان الى يوم الدين .
أما بعد : فيقول العبد الفقير إالى رحمة ربه العلي الكبير محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي
اعلم أن الإجتماع لقراءة القرآن في المسجد في غير أوقات الصلاة مشروع لقول النبي صلى الله عليه و سلم (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). رواه مسلم في حديث ابي هريرة .
لكن الإجتماع لقراءة القرآن الموافقة لسنة النبي صلى الله عليه و سلم وعمل السلف الصالح أن يقرأ أحد القوم والباقون يستمعون ، ومن عرض له شك في معنى آية استوقف القارئ وتكلم من يحسن الكلام في تفسيرها حتى ينجلي تفسيرها ، ويتضح للحاضرين ، ثم يستأنف القارئ القراءة ،هكذا كان الأمر في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وبعده إلى يومنا هذا في جميع البلاد الإسلامية ما عدا بلاد المغرب في عصرنا الأخير ،
فقد و ضع لهم أحد المغاربة ويسمى عبد الله الهبطي ، وقفا محدثا ليتمكنوا به من قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة ، فنشأ عن ذلك بدعة القراءة جماعة بأصوات مجتمعة على نغمة واحدة وهي بدعة قبيحة تشتمل على مفاسد كثيرة :(97/1)
الأولى : أنها ، وقال النبي صلى الله عليه و سلم (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ...الحديث)
الثانية : عدم الإنصات فلا ينصت أحد منهم إلى الآخر ، بل يجهر بعضهم على بعض بالقرآن ؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عم ذلك بقوله
(كلكم يناجي ربه ، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ، ولا يؤذ بعضكم بعضا )
الثالثة: أن اضطرار القارئ إلى التنفس واستمرار رفقائه في القراءة يجعله يقطع القرآن ..، فتفوته كلمات في لحظات تنفسه ، وذالك محرم بلا ريب .
الرابعة : أنه يتنفس في المد المتصل مثل "جآء" و "شآء" و "أنبيآء" و "آمنوا"..وما أشبه ذلك ، فيقطع الكلمة الواحدة نصفين ، ولاشك في أن ذلك محرم وخاج عن آداب القراءة ، وقد نص أئمة القراءة على تحريم ما هو دون ذلك ، وهو الجمع بين الوصل و السكت ، كتسكين "باء":"لاريب"، ووصلها بقوله تعالى :"فيه هدى" ؛ قال الشيخ النهامي بن الطيب في نصوصه :
الجمع بين الوصل و الوقف حرام ****نص عليه غير عالم همام(97/2)
الخامسة : أن في ذلك تشبها بأهل الكتاب صلواتهم في كنائسهم، فواحدة من هذه المفاسد تكفي لتحريم ذلك و الطامة الكبرى أنه يستحيل التدبر في مثل تلك القراءة وقد زجر الله عن ذلك بقوله في سورة محمد << أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها >> ، ونحن نشاهد معظم من يقرأ على تلك القراءة لايتدبر القرآن و لا ينتفع به ، و تالله شاهدت قراء القرآن على القبر فلم يتعظوا بمشاهدته ولا برؤية القبر ولا بما يقرؤونه من القرآن ، قال أبو اسحاق الشاطبي في "الإعتصام" :(واعلموا أنه حيث قلنا إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا له أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : أما بالقصد ، وإما بالعادة ، وإما بالشرع و النقصان . أما بالعادة كالجهر والإجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان ، فإنه بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذا هما كالمتضادين عادة ، وكالذين حكى عنهم ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا وهللوا عشرا ، فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أضل ؟ <<يعني أضل>>.وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول : رحمه الله من قال كذا و كذا مرة الحمد لله ؛ قال فمر بهم عبد الله بن مسعود فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ، وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة . وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل بين يديه كوما من حصى ، قال: فلم يزل يحصيهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ، ويقول : لقد أحدثتم بدعة و ظلما ، وقد قفلتم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم علما ) انتهى.
تعليق: وقد روي هذا الحديث عن ابن مسعود من طرق كثيرة بعبارات مختلفة لفظا ، متفقة معنى ، بعض الروايات مطول وبعضها مختصر ، وفيه فوائد:(97/3)
1- هذا الحديث موقوف ولكنه في حكم مرفوع ، لأن ابن مسعود صرح بأن ذلك مخالف لسنة النبي صلى الله عليه و سلم ، ففي بعض الروايات :<<ويحكم يا أمة محمد ما اسرع هلكتكم ، هذه ثيابه لم تبل بعد و آنيته لم تكسر ونساؤه شواب ، وقد أحدثتم ما أحدثتم >>. وفي رواية أخرى : أن عبد الله بن مسعود لما طردهم من مسجد الكوفة ورماهم بالحصباء ، خرجوا لى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدا وأخذوا يعملون ذلك العمل ، فأمر عبد الله بن مسعود بهدمه ، فهدم.
2-أن البدعة وإن كانت إضافية ، شر من المعاصي ، كما حققه أبو إسحاق الشاطبي ، فهي حرام ، وإنما كانت شرا من المعاصي ، لان المعصية يفعلها صاحبها وهو معترف بذنبه فيرجى له أن يتووب منها.
3-أن المبتدع يستحق العقاب و الطرد من المسجد ، إن كان الإبتداع فيه.
-4أن كل مسجد بني على قبر أو بني لارتكاب البدع فيه فيجب هدمه ، لأنه مثل مسجد الضرار الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بهدمه و إحراقه ، فهدمه أصحابه وجعل كناسة ترمى فيه الجيف ، وقد نقل غير واحد عن ابن حجر الهيثمي أنه قال : (إن هذه المساجد المبنية على القبور هي أحق بالهدم من مسجد ضرار). وان حجر هذا كان مبتدعا ضالا.ولكنه في هذه المسألة قال الحق ، و الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها ، أما الامام ابن حجر العسقلاني فهو إمام محقق ، لم يشرح احد صحيح البخاري مثل شرحه المسمى ب"فتح الباري" ولذا قال العلماء : لاهجرة بعد الفتح .ثم قال أبو إسحاق عاطفا على البدع المنكرة :(..ومن أمثلة ذالك أيضا قراءة القرآن على صوت واحد ، فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة ، وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الرواية )انتهى.(97/4)
قال محمد تقي الدين : و العجب من هؤلاء المشركين المبتدعين الضلال ، فإنهم يتلونون تلون الحرباء لا يستقرون على حال أبدا ، فتارة يدعون أنهم مقلدون لمالك ، ويرون من خالف مذهبه كمن خالف القرآن و السنة الثابتة المحكمة . ويغلون في ذلك إلى أن جعلوا البسملة و التعوذ وقراءة الفاتحة خالف الإمام في الجهرية و الجهر بالتأمين ووضع اليمنى على اليسرى ورفع اليدين عند الركوع و الرفع منه وبعد القيام من التشهد الأول ، و السلام تسليمتين ( السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ) وما أشبه ذلك من السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم التي يراها من له أدنى إلمام بالفقه في الدين كالشمس في رابعة النهار كأنه يشاهد النبي صلى الله عليه و سلم يفعله لا يشك في ذلك ولا يرتاب فيه ، يجعلون ذلك في المنكرات التي يجب أن تغير . ويكتب فيها من بلد إلى بلد مع أن مالكا في الحقيقة قائل ببعضها تفصيلا وبسائرها إجمالا ، ثم يخالفون فيما ينهى عنه ويكرهه كراهة تحريم من البدع التي لاتسند إلى أي دليل كعبادة القبور وزيارتها زيارة بدعية ، وقراءة القرآن على الميت بعد موته وعلى قبره ، وقراءة القرآن جماعة بصوت واحد ، وقراءة الأذكار و الأوراد كذلك . وقد صرح بذلك خليل الذي يعدون مختصره قرآنا يتلى غلوا منهم وضلالا. قال في مختصره عاطفا على المكروهات . وجهر بها في مسجد كجماعة . ولا يبالون بخلافه فيما اعتادوه من البدع ، فيحلون عاما ويحرمونه عاما . وما أحسن قوله تعالى في سورة القصص يخاطب رسوله صلى الله عليه و سلم ( فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين) .
ويليه
بيان أن كل بدعة في الدين ضلالة(97/5)
إعلم أن أبو إسحاق الشاطبي- رحمه الله - ، ألف كتابا سماه "الإعتصام" أقام فيه الحجج الدامغة و البراهين القاطعة على أن البدع كلها إذا كانت في الدين فهي ضلالة ، وهي شر من الكبائر ، وبين إنقسامها الى إضافية وحقيقية وبين أن حكمها واحد ، فكل من قرأه وتمسك بعد ذلك ببدعة فلا يخلوا من أمرين : إما ان يكون جاهلا لم يفهم معناه ، وإما منافقا يبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ويدعي الإسلام لأغراض دنيوية خسيسة ، ولايتسع الوقت لنقل كثير منه وإنما أقتصر على قليل ، ولكنه كاف شاف لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قال الشاطبي في الرد على القرافي وشيخه العز بن عبد السلام اللذين زعما أن البدع تعتريها الأحكام الخمسة (1/147) :
<< فمثلا للواجب بتدوين القرآن و الشرائع إذا خيف عليهما الضياع ، ومثلا للمندوب بصلاة التراويح ، ومثلا للمكروه بتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة ، ومثلا للمباح باتخاذ المناخل للدقيق>>.(97/6)
قال الشاطبي في الرد عليها :<<و الجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع و لا من قواعده ، إذا لو كان هنالك من الشرع ما يدل على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء وبين كل كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافين >>. وفي حاشية الإعتصام قال بعض العلماء : << البدعة اللغوية تعتريها الأحكام الخمسة ، وتنقسم إلى حسنة و سيئة ، وأما البدعة الشرعية فلا تكون إلا سيئة>>. قال محمد تقي الدين : و العجب من القرافي كيف نقل إجماع الماكية وغيرهم من أئمة السلف على أن البدعة كلها ضلالة ، ثم خرق إجماعهم وستحسن بعضها . وقد رأيت الرد المفحم الذي رد به الإمام الشاطبي ، وأزيد ذلك وضوحا فأقول : قال الشاطبي في "الإعتصام" : << قال مالك - رحمه الله - : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم ان محمد صلى الله عليه و سلم خان الرسالة ، لأن الله يقول (اليوم أكملت لكم دينكم) وما لم يكن يومئذ دينا لايكون اليوم دينا >> . وهذا الكلام المحكم يقطع دابر المبتدعين فقد تضمن الإحتجاج بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب فكما قال الإمام مالك - رحمه الله - : لم ينتقل الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم من هذه الدار الفانية حتى أكمل الله الدين و بلغه الرسول البلاغ المبين ، فمن استحسن شيئا من البدع فإنما يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يكمل الله الدين ويتم النعمة أو يزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة بكتمان ما أمر بتبليغه ، بيد أنه لو زعم ذالك واقعا لم ينفعه .(97/7)
وختاما أسأل الله العظيم أن يجعلنا معتصمين بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وأن يزيدنا حرصاعليهما ، وعملا بهما إنه هو السميع المجيب . والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته
كتبه أخوكم أحمد ابو الحسن الأكاديري المغربي - عفا الله عنه -(97/8)
- مقدمة
- بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإنني ماسمعت بمفتاح التجاني حتى اتصل بي ذات مساء اليدالي ولد أبيه وقال عندي في هذا المساء نقاش حول مسألة التوسل مع شخص يدعى مفتاح ولزمني ملازمة الغريم حتى أجبته إلى ما خطب، فوعدته ماطلب، ثم سألت الناس عن هذا المفتاح فقالوا:هذا تجاني يؤمن بوحدة الوجود، وغاية أمنيته وحدة الشهود، ويفضل صلاة الفاتح على القرآن، ويعتقد تنعم الكفار في النيران، ويصفه - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان، ويدعي رؤيته - - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والعيان، وأن أشياخه يعلمون خطرات الجنان؛ وهلم جرا …(98/1)
فقلت هذا لا يمنع من مناظرته، والالتقاء به ومحاورته، فربما أبصر عميّت، وآمن عفريت، ومضيت بمفردي إليه، فوجدته في بيت مع رفقة قد إجتمعت عليه، وقد شرع في فتواه، وأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وقد أبدى شقاشقه وغطى مخارقه، ورفع عقيرته بالنكير، و - { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير - } ، فاستصغرني لأن شاربي بعد ما طر، وعارضي ما اخضر، ولكني أمهلته حتى أكمل هذيانه فقذفته بصواعق الوحي المنزل حتى صار باطله كرماد إشتدت به الرياح في يوم عاصف، وما إن شرعت في الكلام حتى عرفني إذ كان يسمع بي، فحشا الله قلبه رعبا حتى عقل الخوف جنانه، وقيد أركانه، كأنه رأى الليث طالعا من غابه، منتفخا في إهابه، مكشرا عن أنيابه، بطرف قد ملئ صلفا، وأنف قد حشي أنفا، وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرعب، فكان كل همه انتهاز فرصة للهرب، فأظهرالغضب، بل اشتاط، وأول العِي الاحتلاط، وقال لما عجز عن الجواب من عند نفسه بأن عنده كتابا في هذه المسألة، فلما قرئ المزبور إذا به لا يسمن ولا يغني من جوع، فنقضته عروة عروة، ورددت عليه فقرة فقرة، ثم قلت له إنه من الواجب قبل بحث مسألة التوسل أن نعرف الإله الذي نتوسل إليه هل هو الرحمن المستوي على عرشه أم هو الوجود المطلق، والرسول الذي تريد أن تتوسل به هل هو المتبوع وحده أم هنالك من المشاييخ من هم أولى بالإتباع منه، وهذا القرآن الذي نستدل به على مسألة التوسل هل هو كلام الله المنزل أم أنه يوجد ما هو أفضل منه ستة آلاف مرة ونحو ذلك من المسائل التي تترتب عليها مسألة التوسل.
فلما أفحم وانقطع جعل يقول هذه مسائل كبيرة تحتاج إلى وقت آخر فطلبنا منه أن يحدد الزمان والمكان فقال يوم الإثنين في نفس البيت والنية ألا يعود ولسان حاله يقول:
فرجّي الخير وانتظري إيابي
إذا ما القارظ العنزي آبا(98/2)
فلما حل الأجل المضروب، جئت أستنجز الوعد المكذوب، فقال من كان موجودا من الحضور، لن يرجع إليك أبد الدهور، وقد صدق ذلك الظن فلم نره حتى الآن:
وعدت وكان الخلف منك سجية
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
وبعد ذلك بسنوات حاول المفتاح أن يعيد لنفسه بعض المصداقية فكتب وريقات حول حديث الأعمى في الرد على العلامة محمد الحسن بن الددو فكان:
تخرصا وأحاديثا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
وقد تهجم فيه على العلماء الراسخين والدعاة البارزين لتغطية جهله وتقصيره وكان من حقه أن لا يتكلم عندهم:
إذا صاح باز كاسر ترك السجعا
حمام غصون الأيك إذ يختشي الفجعا
فكتبت له أنصحه فيما بيني وبينه مذكرا له بما قلت له في المناظرة من أن هناك ماهو أولى بالنقاش من مسألة التوسل وقد حرصت في هذه الرسالة أن أنقل له من كتبهم المعتمدة بالجزء والصفحة وبعد أكثر من سنة وقفت على ماكتبه هذا المفتاح يرد به علي فإذا به قد أساء الأدب، وأورد نفسه موارد العطب، وخاض ما لا علم له به ولا دراية، فأخطأ طريق الرشد والهداية، وسلك سبيل الإضلال فاضطر إلى التزوير والتحريف وتردى رداء التناقض والهذيان، فانخرط في سلك المرفوع عنهم الملامة والتكليف وغلب عليه هواه فطعن فيما تواتر من أمور الدين، وكذب بما انعقد عليه الإجماع بين المسلمين.
ولما أمعنت النظر فيما كتب فإذا ردوده مسروقة من كتاب "رشق السهام" دون أبسط إشارة إلى ذلك فما أدري هل السبب هو ما شاع أخيرا من تراجع صاحب هذا الكتاب عن التجانية؟ أم بسبب الصراعات الداخلية بين طوائف التجانية المتناحرة؟ أم أنه مجرد التشبع بما لم يعط لإظهار نفسه بمظهر العالم؟ أم كل ذلك مجتمعا ؟.(98/3)
وقد تتبعت أباطيله في كتابي هذا فرددت عليها فقرة فقرة متبعا في ذلك إيراد فقرة كلها أو بعضها وأحيل على باقيها ثم أرد عليها بالكتاب والسنة وأقوال أهل العلم وقد اعتمدت في هذا البحث على أكثر من مائتي كتاب سائلا المولى عز وجل أن يهدينا إلى مافيه صلاح ديننا ودنيانا وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه العظيم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الرد على مقدمة مفتاح التجاني
قال مفتاح التجاني:
" وبعد فإنني وقفت على محاضرتين لأحد علمائنا المعاصرين ضعف فيهما حديث الضرير وأعله بأربع علل واهية، فأفردت بحثا بينت فيه صحة الحديث وبعثت به إليه وبعد ذلك بمدة وقفت على منشور غير موقع باسم أحد تنزل صاحبه فيه منزلة ضل بن ضل وهيان بن بيان وسلك فيه مسلك سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان ومشى فيه مشية الخزل والرسفان فسولت له نفسه فيه أن يخرج الأولياء الراسخين في العلم والفهم من دائرة الإيمان وأن يجعلهم كعبدة الطبيعة والأوثان وقد شحنه بالدس والتلفيق وتهرب فيه من مواطن التحقيق فحرم الإصابة والتوفيق وحرف فيما نقل ودلس وتحامل وتقول وقدم وأخر واقتضب وبتر ثم افترض أن في كتب طريقتنا التجانية سبع مسائل ينبغي لنا -في نظره- أن نبدأ ببحثها قبل مسألة التوسل فبحثت عنه حتى عرفته فاقتضى النظر عندي أنه من الواجب علي أن أرد عليه وعلى كل من زين له سوء عمله-وإن كان لا يستحق جوابا- وقد بسطت الكلام في الجواب على تساؤلاته إفادة للعالم المنصف لا الجاهل المتهور المرجف... " اهـ ص1
أقول: في هذه الخطبة التي هي مفتاح كتابه وعنوان خطابه أوهام قبيحة وأغلاط شنيعة لا تصدر عن عاقل يفهم ما يكتب أو متيقظ يعقل ما يقول والرد عليه من ثمانية أوجه:
الوجه الاول:(98/4)
أما تعلقك بحديث الأعمى كدليل على مسألة التوسل بالجاه أو بالذات أو بالحرمة فإليك الرد عليه وعلى كل شبهة يمكن أن يتعلق بها المتوسلون بالجاه بدء بالآيات القرآنية ثم الأحاديث الصحيحة ثم الأحاديث الضعيفة والموضوعة ثم الشبه العقلية.
( من القرآن الكريم:
- الآية الأولى:
قال الله تعالى - { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه والوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون - } المائدة الآية 35.
أ- قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: " يأيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعد من الثواب وأوعد من العقاب - { اتقوا الله - } يقول أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من أعمالكم - { وابتغوا إليه الوسيلة - } يقول اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه " تفسير الطبري 4/566 اهـ
ب - قال ابن كثير:
" - { وابتغوا إليه الوسيلة - } قال سفيان الثوري ثنا أبي عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي القربة وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه وقرأ ابن زيد - { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة - } وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلا ف بين المفسرين فيه وانشد عليه ابن جرير قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل " تفسير ابن كثير 2/898 اهـ
جـ - قال القرطبي:
" - { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة - } الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت قال عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
أن يأخذوك تكحلي وتخضبي" تفسير القرطبي 6/104
د - قال الشوكاني:(98/5)
" - { ابتغوا - } اطلبوا - { إليه - } لا إلى غيره - { الوسيلة - } فعيلة من توسلت إليه إذا تقربت إليه... فالوسيلة القربة التي ينبغي أن تطلب وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وروي عن ابن عباس وعطاء وعبد الله بن كثير، قال ابن كثير في تفسيره:وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلا ف بين المفسرين فيه... والظاهر أن الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب العباد بها إلى ربهم "اهـ فتح القدير 2/38 بتصرف
هـ قال آبّ ولد أخطور الشنقيطي:
" وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين وتلاعب بكتاب الله تعالى واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار كما صرح به تعالى في قوله عنهم - { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى - } وقوله - { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون - } فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضى الله وجنته ورحمته هي اتباع رسول - - صلى الله عليه وسلم - ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل - { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به - } " أضواء البيان 2/77 اهـ
فتلخص مما سبق أن احتجاجهم بهذه الآية الكريمة باطل من ثمانية أوجه:
1- إجماع المفسرين على أن الوسيلة هي القربة كما تقدم.
2- اتفاق أئمة اللغة على أن معنى توسل إلى الله أي تقرب إليه بعمل كما في القاموس القاموس المحيط 4/64 واللسان لسان العرب 11/724 وغيرهما من كتب اللغة.
3- قوله تعالى: - { ابتغوا إليه الوسيلة - } تدل على أن المراد هو الطاعة والقربة لا جعل الأشخاص وسائط.(98/6)
4- توسط الوسيلة بين التقوى والجهاد يدل على أن المعني بها هو الاعمال الصالحة التي تقرب إلى الله تعالى كالجهاد وغيره.
5- واعجبا لهم كيف استجازوا ترك بعض الأوامر الواردة في الآية - { وجاهدوا في سبيله - } مع تشنيعهم على من ترك الأمر الآخر حسب فهمهم له .
6- أن رسول - - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله لم يثبت عنه هذا التوسل الذي يريدونه فدل على أنه غير مقصود في الآية الكريمة.
7- لوكان المراد بالوسيلة غير الطاعة لكانت لفظا مجملا والمجمل لا يعمل به حتى يأتي ما يبينه.
8- أن الآية الأخرى والأحاديث الثابتة تبين نوع التوسل المشروع فتفسر هذه الآية، وأول ما يفسر به القرآن هو القرآن والسنة الثابتة.
- الآية الثانية:
قال تعالى - { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا - } (الإسراء 56-57)
أ- قال ابن كثير:" روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله في قوله: - { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة - } قال ناس من الجن كانوا يُعبدون فأسلموا، وفي رواية قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم.وقال قتادة عن معبد بن عبد الله الرماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله - { أولئك الذين يدعون - } الآية، قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت هذه الآية " تفسير ابن كثير 3/1672- 1673 اهـ
ب - قال الشوكاني:" الوسيلة القربة بالطاعة والعبادة أي يتضرعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين - { أيهم أقرب - } مبتدأ وخبر قال الزجاج: المعنى أيهم أقرب.(98/7)
بالوسيلة إلى الله أي يتقرب إليه بالعمل الصالح؛ ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في - { يبتغون - } أي يبتغي من هو أقرب إليه تعالى وسيلة فكيف بمن دونه..." فتح القدير 3/237اهـ
ج - قال القرطبي:" - { يبتغون - } يطلبون من الله الزلفة والقربة ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة وهي الوسيلة أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم..." تفسير القرطبي 10/181اهـ
د- قال الحافظ ابن حجر في شرح أثر ابن مسعود السابق:" أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة " فتح الباري 10/12-13 اهـ
هـ - قال آبّ ولد أخطور الشنقيطي:" بين جل وعلا بهذه الآية الكريمة أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ويشفعون لهم عنده، لا يملكون كشف الضر عن عابديهم أي إزالة المكروه عنهم - { ولا تحويلا - } أي تحويله من إنسان إلى آخر أو تحويل المرض إلى الصحة والفقر إلى الغنى والقحط إلى الجدب ونحو ذلك، ثم بين فيها أيضا أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته ويبتغون الوسيلة إليه أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته وكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم " أضواء البيان 3/436-437 اهـ
ويتحصل مما سبق رد استدلالهم بهذه الآية من سبعة أوجه:
1- أن تفسير ابن مسعود له حكم الرفع.
2- اتفاق المفسرين على أن الوسيلة هنا هي القربة والطاعة.
3- أن آية المائدة بينت أن الوسيلة هي القربة والقرآن يفسر بعضه بعضا.
4- قوله: - { يبتغون إلى ربهم - } تدل على أن المتوسل به هو العمل الصالح لا غير.
5- قد صرحت الآية بأن الوسيلة هي القربة لقوله - { أيهم أقرب - } .
6- قوله: - { ويرجون رحمته ويخافون عذابه - } يدل على التجائهم إلى الله وعدم جعل الوسائط بينهم وبينه تعالى.(98/8)
7- أول الآية رد على التوسل بالأشخاص ودعائهم من دون الله فدل على أن الوسيلة ليست ذات شخص ولا جاهه.
- الآية الثالثة:
قال تعالى: - { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما - } [ النساء 64 ].
أ - قال ابن كثير:" يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن ياتوا إلى الرسول - - صلى الله عليه وسلم - فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم " تفسير ابن كثير 1/713اهـ
ب - قال الشوكاني: - { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم - } بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك - { جاءوك - } متوسلين إليك متنصلين من جناياتهم ومخالفتهم - { فاستغفروا الله - } لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم واستغفرت لهم ولهذا قال - { لوجدوا الله توابا رحيما - } " فتح القدير 1/483 اهـ
ج - قال الرازي:" يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاءوا الرسول فأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه - { واستغفر لهم الرسول - } بأن يسأل الله أن يغفر لهم عند توبتهم - { لوجدوا الله توابا رحيما - } " التفسير الكبير 3/253 اهـ
د - قال أبو السعود: " جاءوك من غير تأخير كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جناياتهم القديمة والحادثة ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها بالإعتذار الباطل والأيمان الفاجرة - { فاستغفروا الله - } بالتوبة والإخلاص وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم " تفسير أبو السعود بهامش التفسير الكبير 3/191 اهـ
فتلخص مما سبق أنه يرد على استدلالهم بهذه الآية من عشرة أجه:(98/9)
1- الآية خطاب لقوم معينين وليس فيها لفظ عموم حتى نقول العبرة بعموم اللفظ وإنما فيها ضمائر والضمائر لا عموم لها.
2- أما المجيء إلى القبر لا يتناوله المجيء إلى الشخص لا شرعا ولا لغة ولا عرفا فالمجيء إليه إنما يكون في حياته فقط.
3- أن الاستغفار عمل وفي الحديث ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلى من ثلاثة: صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له )) صحيح مسلم ح(1223) وأبو داود ح (1880) والنسائي 6/210 والبخاري في الأدب المفرد ص 28 والطحاوي في مشكل الآثار 1/85 والبيهقي في سننه 6/278 من حديث أبي هريرة..
4- لو استقام استدلالهم بهذه الآية لكان قوله تعالى - { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم - } [الحجرات 5] أولى، فما كان ردهم على هذه الآية فهو ردنا على الاستدلال بتلك.
5- ثم المتوسل به بعد موته - - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يناديه من وراء الحجرة والله يقول - { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون - } [الحجرات 4].
6- لو جاز الاستدلال بهذه الآية بعد موته - - صلى الله عليه وسلم - لجاز الاستدلال على بيعته بعد موته لقوله تعالى - { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا - } الآية [ الممتحنة 10].
7- هذا الأمر لم يفعله أحد من السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان من أئمة الإسلام وهداة الأنام بل أجمعوا على تركه.
8- لو سلمنا جدلا أنه - - صلى الله عليه وسلم - يسمع الشخص الآن فيستغفر له لكان هذا من التوسل بدعاء عباد الله الصالحين.
9- لو كان - - صلى الله عليه وسلم - يسمع ويتكلم ما سكت عن الصحابة في الفتن العظيمة ولما ترك الدعوة والجهاد في سبيل الله.(98/10)
10- الآية تعني المنافقين الذين امتنعوا عن حكم الله ورسوله فلا بد لهم من استغفار الله واستغفار الرسول الذي تحدوه بامتناعهم عن حكمه كما دل على ذلك سياق الآيات - { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا... - } الآيات [النساء 61-63 ].
- الآية الرابعة:
قوله تعالى: - { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - } [البقرة 89 ].
قال ابن كثير:" - { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - } أي وكانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم " تفسير ابن كثير 1/182 اهـ
ويرد على استدلالهم بهذه الآية من أربعة أوجه:
1- الإستفتاح في اللغة الإستنصار لسان العرب 2/538 والقاموس ص 212 وهو طلب الفتح والنصر وطلب الفتح به - - صلى الله عليه وسلم - هو دعاء الله أن يبعثه فيقاتلونهم معه.(98/11)
2- أن هذا هو المعتمد في كتب التفسير بالماثور انظر تفسير الطبري 1/454-457 تفسير ابن كثير 1/186 والدر المنثور 1/216- 218 ودلائل النبوة دلائل النبوة للبيهقي 2/84- 86 دلائل النبوة لأبي نعيم 1/96- 97 والسيرة النبوية انظر سيرة ابن هشام 1/211- 214 والروض الأنف للسهيلي 2/326- 329 قال أبوالعالية وغيره كان اليهود إذا استنصروا بمحمد - - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يقولون " اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ونقتلهم فلما بعث الله محمدا رأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول - - صلى الله عليه وسلم - فقال الله - { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - } تفسير الطبري 1/456.
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الانصاري عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام ـ مع رحمة الله وهداه ـ ما كنا نسمع من رجال اليهود وكنا أهل شرك أصحا ب أوثان وكانوا أهل الكتاب عندهم علم ليس عندنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض مايكرهون قالوا تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم كثيرا ما كنا نسمع ذلك منهم فلما بعث الله محمدا رسولا من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة - { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - } سيرة ابن هشام 1/211 وتفسير الطبري 1/455 والروض الانف 2/326 .
ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 225 .(98/12)
3- أن ما خالف هذا فهو باطل لأنه من رواية عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود فعاذت بهاذا الدعاء ( اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ) فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان فلما بعث النبي - - صلى الله عليه وسلم - كفروا به فأنزل الله تعالى - { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به - } رواه الحاكم في مستدركه وقال " أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه "اهـ فرد عليه الذهبي بقوله " قلت لا ضرورة في ذلك فعبد الملك متروك هالك " مستدرك الحاكم 2/ 263 .
قلت ومن العجيب أن الحاكم قال في المدخل 1/170 عن عبد الملك هذا " روى عن أبيه أحاديث موضوعة " ثم يروي له هنا في المستدرك ؛ وقال أبو حاتم في عبد الملك:" متروك ذاهب الحديث " وقال ابن حبان " يضع الحديث " وقال السعدي:"دجال كذاب " انظر ترجمته في الجرح والتعديل5/374 والميزان 2/514 والمجروحين لابن حبان 2/133 .
4- ولو ثبت هذا فلا أسوة لنا في فعل اليهود لعنهم الله.
( السنة:
الأحاديث الصحيحة:
1- قال البخاري حدثنا الحسن بن محمد حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري ثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس " أن عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون ". صحيح البخاري كتاب الإستسقاء باب 3ح (1010 ) وفي فضائل الصحابة ح ( 3710 ) وفي طبقات ابن سعد 4/28-29 وفي السنن الكبرى 3/ 88 عن أنس بن مالك.
والرد عليهم من أربعة أوجه:(98/13)
أ- أن التوسل في قوله " إنا كنا نتوسل إليك بنبينا" هو بدعاء النبي - - صلى الله عليه وسلم - كما بينته رواية حديث أنس بحديث الإستسقاء على المنبر يوم الجمعة وحديث عائشة قالت شكا الناس إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة فخرج رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر وكبر وحمد لله ثم قال:" إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله ان تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم... " الحديث. سنن أبي داود ح (1173)
ب- ويدل على ذلك عدول عمر وغيره من الصحابة عن التوسل به - - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بالعباس لأنهم إنما يريدون التوسل بالدعاء وذلك غير ممكن منه - - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته.
ج- قوله في الحديث " وإنا نتوسل إليك بعم نبينا " بينت الروايات الصحيحة أن عمر بن الخطاب إنما توسل بدعاء العباس قال ابن حجر: " قد بين الزبير بن بكار في الانساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال " اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث " فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الارض وعاش الناس " فتح الباري 3/150
د- ومن أصرح الأدلة على أن توسلهم إنما كان بدعائه - - صلى الله عليه وسلم - رواية الإسماعيلي لهذا الحديث بلفظ " كانوا إذا قحطوا على عهد النبي - - صلى الله عليه وسلم - استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون... " فتح الباري 2/399
2- أحاديث الشفاعة الكبرى:(98/14)
عن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - عنه حدثنا محمد - - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون: اشفع إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول لست لها، ولكن عليكم بمحمد - - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيأذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال يا محمد: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه نثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمد بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يارب أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه ذرة أو خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل...)) الحديث صحيح البخاري ح ( 7510 ) وما في معناه من أحاديث الشفاعة.
والرد على استدلالهم بأحاديث الشفاعة من ثمانية أوجه:
1- أن هذه الشفاعة في الآخرة لا في الدنيا.
2- أن هذه شفاعة وليست توسلا بذات ولا بجاه.
3- أن الشفاعة العظمى خاصة به - - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأنبياء، فكيف بسواهم من الأولياء والصالحين.
4- هذا من قياس الدنيا على الآخرة ولو كان القياس كله حقا لكان هذا منه عين الباطل.
5- أن تلك الشفاعة لا تقع إلا بعد إذن الله له - - صلى الله عليه وسلم - فمن الذي أذن لكم أنتم.
6- أن هذه الشفاعة من باب التوسل بدعاء الأخيار وهذا النوع مشروع إجماعا.
7- أن هذا قياس في العقائد وهو ممنوع إتفاقا.(98/15)
8- أن هذا من باب التوسل بالعمل الصالح لأنه - - صلى الله عليه وسلم - يخر ساجدا ويحمد الله بتلك المحامد فيؤذن له بالشفاعة.
( الأحاديث الضعيفة والموضوعة:
- الحديث الأول:
حديث الأعمى: قال عبد الله بن أحمد حدثني أبي مسند الإمام أحمد 4/190ـ191 ، وقال الترمذي سنن الترمذي 5/229 ح ( 3649 ) والنسائي عمل اليوم والليلة ص 417 حدثنا محمود بن غيلان، وقال ابن ماجه سنن ابن ماجه ص 197 ح ( 1385 ) حدثنا أحمد بن محمد بن منصور وقال الحاكم مستدرك الحاكم 1/519 حدثنا أحمد بن سليمان الفقيه عن الحسن بن مكرم.
أربعتهم عن عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف - - رضي الله عنه - عنه "أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقال ادع الله أن يعافيني، قال:(( إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك )) قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء (( اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي اللهم شفعه في )) هذا لفظ النسائي وللترمذي نحوه".
والرد عليه من سبعة عشر وجها:
1- إضطراب إسناده فقد رواه شعبة وحماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف - - رضي الله عنه - ؛ قال النسائي: خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فقالا عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف - - رضي الله عنه - اهـ عمل اليوم والليلة ص 418
ومن كان مثل أبي جعفر لا يحتمل منه هذا الإختلاف لأنه لم يوصف بالحفظ والضبط وإنما وصف بالصدق فقط.(98/16)
2- اضطراب متنه: فبعضهم زاد " يصلي ركعتين" عمل اليوم والليلة للنسائي ح (658) وح ( 660) وابن ماجه ح (1385) وأكثرهم لا يذكرها وبعضهم يقول " فشق علي ذهاب بصري" الترمذي ح (3649) والنسائي ح (659) وعامتهم يحذفونها وبعضهم يقول "شفعني في نفسي" عمل اليوم والليلة ح (660) والبيهقي في الدلائل 6/166 وبعضهم يحذفها وبعضهم يقول:" فرجع وقد كشف له عن بصره" عمل اليوم والليلة ح 660 وأكثرهم لا يذكر ذلك وفي رواية بعضهم "إني توجهت بك يا محمد " ابن ماجه ح (1385) والنسائي في عمل اليوم والليلة ح (658) وغيره يحذفها، وفي بعض الطرق " أن يقضي حاجتي أو حاجتي إلى فلان أو حاجتي في كذا وكذا " عمل اليوم والليلة ح (658 ) وعند بعضهم " وشفعني فيه " أحمد 4 /138 وابن خزيمة 2 /225 وفي رواية "ثم ما كانت حاجة فافعل مثل ذلك " ابن أبي خيثمة كما في مجموع الفتاوى 1/275 وفي بعض الطرق " فكان يقول هذا مرارا " مسند الإمام أحمد 4/190ـ 191 وفي رواية " وإن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك " المصدر السابق كل هذه الألفاظ المختلفة مدارها على أبي جعفر وهذا مما يؤكد عدم ضبطه للحديث.
3- نكارة متنها لأن الصحابي لن يعرض عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أمران ويقول له إن أحدهما خير له في الآخرةثم يتركه أبدا وفي رواية أحمد أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال للأعمى (( إن شئت أخرت ذلك وهو أفضل لآخرتك )) ومما يؤيد ذلك قصة المرأة التي كانت تصرع وقال لها النبي - - صلى الله عليه وسلم - (( إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك )) فقالت أصبر…الحديث البخاري ح (5652) ومسلم ح (2576) .
خاصة أن الصحابي يسمع الأجر العظيم الذي ورد في الصبر على فقد البصر لحديث أنس بن مالك أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة )) صحيح البخاري ح (5653) يريد عينيه.(98/17)
فهذا يدل على أن الخير الذي وعد به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - الأعمى إذا صبر هو الجنة أو ما هو أعم منها.
وعلى تقدير صحته فهو واضح وضوح الشمس في الدلالة على التوسل بالدعاء لا غير يدل على ذلك:
4- مجيء الأعمى إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - صريح في أن المقصود هو التوسل بالدعاء لأنه لو قصد التوسل بالجاه لما تجشم عناء المجيء إليه - - صلى الله عليه وسلم -.
5- قول الأعمى:" ادعو الله أن يعافيني " نص صريح في أنه إنما يريد دعاءه - - صلى الله عليه وسلم -.
6- قوله - - صلى الله عليه وسلم - في الرد على الأعمى (( إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك )) فخيره بين الدعاء والصبر على البلاء فلم يذكر له التوسل بالجاه ولا بالذات من قريب ولا بعيد.
7- قول الأعمى: " ادع " وفي رواية النسائي من طريق حماد "ادع الله لي " مرتين أو ثلاثا وفي رواية أحمد " لا بل ادع الله لي " فهذا واضح في أن مقصود الأعمى هو الدعاء.
8- قول الصحابي "فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء " يدل على أن المسالة متعلقة بالدعاء ليس إلا ولا علاقة لها بجاه ولا غيره.
9- قال الأعمى: "إني توجهت بك" بعد قوله "أتوجه إليك " فيه معنى قوله - { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه - } فيكون خطابا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه الذي هو عين شفاعته ولذلك أتى بصغة الماضوية بعد الصغة المضارعية المفيد كل ذلك: أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه فكأنه استحضره وقت ندائه انظر الضياء الشارق ص 540 .
10- قوله في الحديث " اللهم شفعه في " صريح في أن هنالك داعيان هما رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - والأعمى حتى يكون العدد شفعا قال في اللسان لسان العرب 8/184 : " وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه تشفيعا قال حاتم يخاطب النعمان:
فككت عديا كلها من إسارها
فأفضل وشفعني بقيس بن جحدر"(98/18)
11- قوله في الحديث " وشفعني فيه " وفيه أوضح دليل على أن المقصود هو الدعاء منهما فلذلك يطلب من الله قبول تلك الشفاعة لأن معنى شفع قبل شفاعته قال في القاموس قاموس المحيط ص 661 :" وشفعته فيه تشفيعا حين شفع كمنع شفاعة قبلت شفاعته ".
وعلى هذا يكون المعنى اللهم اقبل دعائي في أن تقبل شفاعته في.
12- هذا لو صح من معجزاته - - صلى الله عليه وسلم - وخصائصه ولذلك رواه أصحاب دلائل النبوة كالبيهقي وأبو نعيم وابن كثير دلائل النبوة البيهقي6/166 وابن كثير في دلائل النبوة من البداية 6/248 وغيره.
13- لو صح لكان خاصا بحال حياة النبي - - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يتصور منه - - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بعد موته.
14- المستدلون بهذا الحديث يقيسون جاه صاليحهم بجاه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وشتان ما بين اليزيدين.
15- لو كان الحديث صحيحا لورد أن بعض الصحابة فعله مع كثرة العميان فيهم كابن أم مكتوم وابن عباس وجابر وغيرهم.
16- لوصحت هذه القصة لتواتر نقلها وكثر ذكرها واشتهر أمرها ولما تفرد بها صحابي واحد مع أنها معجزة عظيمة وآية باهرة.
في رواية الطبراني " فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط " الترغيب والترهيب 1/175 .(98/19)
17- وقد روى الطبراني انظر الكبير 9/17ـ18 والصغير 1 /184 هذا الحديث فذكر في أوله قصة منكرة وهي أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان - - صلى الله عليه وسلم - في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي وتذكر حاجتك ورح إلي حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال ما حاجتك فذكر حاجته فقضاها له ثم قال ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال ما كانت لك من حاجة فاتنا ثم إن الرجل خرج من عندي فلقي عثمان بن حنيف فقال له جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل ضرير..." الحديث.
وإنما قلت إنها منكرة لأمور:
أ - قوله "وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته " وقوله في آخر القصة " ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في..." فهذا باطل قطعا لأنه يدل على مداومة عثمان لذلك .
ولعل محمد مفتاح لم يلتفت إلى هذا اللفظ عمدا لحاجة في نفسه ! فراح يرد على اتخاذ الحاجب وأغمض عينيه عن هاتين الجملتين الصريحتين فأين الأمانة العلمية !!!
ب - الحديث من رواية روح بن صلاح وهو غير معروف بالصلاح يقال له بن سبابة ويكنى أبا الحارث ضعفه الجمهور قال بن يونس رويت عنه مناكير قال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين:" له أحاديث كثيرة في بعضها نكارة وقد ضعفه الدار قطني وابن عدي وغيرهما أنظر ترجمته في لسان الميزان 2 /573 والكامل 3/146 .(98/20)
ج - وبهذا تعلم أن هذه الزيادة منكرة لأن روح معروف برواية المناكير كما قال ابن عدي وابن يونس.
د- وجاءت هذه القصة عند الطبراني في الصغير ص 184 من طريق ابن وهب عن شبيب بن سعيد عن أبي جعفر، لكن هذه الطريق لا يفرح بها أن رواية ابن وهب عن شبيب فيها مناكير كثيرة وقد بين ابن عدي سبب ذلك فقال:" لعل شبيبا لما قدم مصر في تجارته كتب عنه ابن وهب من حفظه فغلط ووهم وأرجو أن لا يتعمد الكذب" وقال الذهبي عن شبيب:" صدوق يغرب" وقال ابن حجر لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب عنه " اهـ انظر ترجمته في الميزان 2/202 والتهذيب 4/206 والتقريب ص 205
د - لو صحت القصة لتسابق الناس إلى فعل ذلك لأن النفوس مولعة بقضاء حوائجها فتتشبث بكل ما تقدر عليه. الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص 543
- الحديث الثاني:
قال أحمد ثنا يزيد أنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال (( من قال إذاخرج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إيه لا يغفر الذنوب إلا أنت أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك)) .
وأسنده ابن ماجه من طريق الفضل بن الموفق أبي الجهم حدثنا فضيل بن مرزوق به. مسند الإمام أحمد 3/21 وابن ماجه 1/256 ح ( 778 ) وابن السني في عمل اليوم واللييلة ص 42.
والرد عليه من خمسة أوجه:
1- هذا حديث باطل إسناده مسلسل بالضعفاء، قال البوصيري " هذا إسناد مسلسل بالضعفاء ؛ عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء " مصباح الزجاجة 2/52 .
فالحديث له أربع علل:(98/21)
أ - عطية العوفي: قال الإمام أحمد " بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنى بأبي سعيد فيقول قال أبو سعيد، يوهم الخدري " وقد ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي وقال ابن حبان:"لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب " قال الذهبي إنه مجمع على ضعفه وكذا قال شيخ الإسلام في القاعدة الجليلة ص 215 انظر ترجمته في الكبير للبخاري 8/7 والضعفاء للذهبي1/88 والميزان3/79 وتهذيب التهذيب 5 /591 ـ 592
والضعفاء للنسسائي ص 225 .
ب - فضيل بن مرزوق قال ابن حجر "صدوق يهم رمي بالتشيع من السابعة" ضعفه أبو حاتم والنسائي وقال ابن حبان: " يخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات " التقريب2/113 وتهذيب الكمال 6/55 وتهذيب التهذيب 8/268-269
ج - الفضل بن الموفق: قال أبو حاتم :" كان شيخا صالحا ضعيف الحديث " قال ابن حجر:" فيه ضعف من صغار التاسعة " التقريب 2/ 34 وتهذيب الكمال 6/44 وتهذيب التهذيب 8/259 .
د ـ ذكر له الألباني علة أخرى وهي الإضطراب ؛ فروي تارة مرفوعا وأخرى موقوفا على أبي سعيد كما عند ابن أبي شيبة في المصنف (12/ 110 /1 )وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/184) "موقوف أشبه" .
2- ولو سلمنا جدلا بصحة الحديث لما كان فيه حجة على التوسل بالجاه من قريب ولا بعيد.
3- هذا من باب التوسل بأسماء الله وصفاته لأن حق السائلين عليه إجابتهم - { ادعوني استجب لكم - } - { أجيب دعوة الداع إذا دعان - } .
4- وهو أيضا من باب التوسل بالعمل الصالح لأنه يمشي إلى المسجد ويتضرع إلى الله تعالى وهذا من أعظم العبادات.
5- أن أحسن أحوال الحديث أن يكون ضعيفا والضعيف لا يحتج به في العقائد اتفاقا.
- الحديث الثالث:(98/22)
ماروى ابن السني من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال مؤذن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قال:"كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - إذاخرج إلى الصلاة قال: ((بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا حول ولاقوة إلا بالله اللهم بحق السائلين عليك وبحق مخرجي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا....)) " الحديث عمل اليوم والليلة لابن السني ح 82
يرد عليه من وجوه أربعة:
1- هذا حديث موضوع آفته الوازع ؛ قال الحاكم:" يروي أحاديث موضوعة " وقال ابن أبي حاتم:" كان ممن يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته " وقال البخاري:" منكر الحديث " وقال النسائي:" متروك " وقال ابن عدي:" عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ وقال أحمد وابن معين:" ليس بثقة" انظر ترجمته في الكبير للبخاري 8/205 والميزان 4/299 واللسان 6/213 والمغني 2/718 والكامل 7/94
2- هذا حديث مضطرب السند قال الحافظ:"قد اضطرب في هذا الحديث فأخرجه أبو نعيم في اليوم والليلة من وجه آخر عنه فقال عن سالم بن عمر عن بلال محل قوله في الطريق الأول عن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال؛ - وقال الحافظ - لم يتابع عليه " صيانة الإنسان ص 122 .
3- ولو سلمنا جدلا بصحته فهو كسابقه من باب التوسل بأسماء الله وصفاته.
4- وهو ايضا من باب التوسل بالعمل الصالح لأنه ما قال ذلك إلا بعد الخروج من المسجد ؛فالدعاء والعمل له سبحانه وتعالىسبب لحصول مقصود العبد وهو كالتوسل بدعاء النبي - - صلى الله عليه وسلم - والصالحين من أمته انظر مجموع الفتاوى 1/341
- الحديث الرابع:(98/23)
عن أبي أمامة قال كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: ((اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد... أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك... )) قال الهيثمي 10/117 :" رواه الطبراني وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه"اهـ الحديث.
الرد عليه من وجهان:
1- هذا حديث باطل آفته فضال بن جبير أبو المهند قال ابن حبان:" شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة يروي عنه ما ليس من حديثه " وقال أيضا " لا يجوز الإحتجاج به بحال يروي أحاديث لا أصل لها " وقال ابن عدي:" أحاديثه غير محفوظة " وقال أبو حاتم " ضعيف الحديث " انظر ترجمته في الكامل لابن عدي 25/13 والميزان 3/347ـ 548 واللسان 4/434
2- أن الحديث لو صح فهو من باب التوسل بأسماء الله وصفاته لأن حق السائلين عليه تعالى هو الإجابة.
- الحديث الخامس:
عن ابن عباس قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فقال:(( سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه )) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 394ـ395 .
والرد عليه من أربعة أوجه:
1- هذا خبر موضوع آفته عمرو بن ثابت بن هرمز أبوثابت الكوفي قال ابن معين:" ليس بشيء " وقال مرة:" ليس بثقة ولا مأمون " وقال النسائي:" متروك الحديث " وقال ابن حبان:" يروي الموضوعات " قال أبو داود:" رافضي " وقال ابن المبارك:" لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت فإنه يسب السلف ". انظر ترجمته في الكبير للبخاري 6/319 والميزان 3 /249 والضعفاء الصغير للبخاري ص 87
2- أن الراوي شيعي وقد روى ما يؤيد مذهبه مما يدل على أن هذا الخبر مما عملت يداه وقد تقرر في أصول الحديث أن رواية المبتدع لا تقبل فيما يؤيد بدعته.
3- أن هذا لو ثبت لكان خاصا بمن ذكر إذ لا دليل على العموم.(98/24)
4- مما يدل على بطلان هذا الحديث مخالفته للقرآن الكريم الذي بين هذه الكلمات - { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين - } [ الأعراف 23 ].
- الحديث السادس:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم - أم علي رضي الله عنه - دعا أسامة بن زيد وأبو أيوب الانصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود يحفرون...فلما فرغ دخل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه فقال: (( الله الذي يحيي ويميت وهو حي لايموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين...)) قال الهيثمي في المجمع 9/257 " رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح " ؛ومن طريقه أبو نعيم في الحلية 3/121 .
والرد عليه من ثلاثة أوجه:
1- الحديث تفرد به روح بن صلاح وقد ضعفه الجمهور ولم يوثقه إلا بن حبان والحاكم وهما متساهلان؛ قال ابن يونس:" رويت عنه مناكير" وقال الدار قطني:"ضعيف في الحديث " وضعفه ابن عدي وقال:" له أحاديث كثيرة في بعضها نكارة". انظر ترجمته في اللسان 2/465 اهـ
2- الحديث من منكرات روح بن صلاح الكثيرة، فكيف يكون حجة في باب الإعتقاد.
3- لو سلمنا جدلا بصحته لما كانت فيه حجة على التوسل بالجاه وإنما هو من باب التوسل بصفات الله لأن حق الرسل على الله إثابتهم.
- الحديث السابع:
قال الطبراني: حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بصعاليك المهاجرين الطبراني في الكبير 1/81 /2 .
والجواب من وجوه ثلاثة:
1- أمية هذا لم تثبت صحبته فالحديث مرسل كما قال ابن عبد البر في الإستيعاب (1/38) " لا تصح عندي صحبته والحديث مرسل ".(98/25)
وقال الحافظ في الإصابة (1/133) " ليست له صحبة ولا رواية " وفي التهذيب (1/385) أن ابن الجارود قال:" ليس له صحبة ".
2- اختلاط أبي إسحاق وعنعنته فإنه كان مدلسا إلا أن سفيان سمع منه قبل الإختلاط فبقيت العلة الثانية وهي العنعنة.
3- ثم الحديث لو صح فإنما هو من باب التوسل بدعاء العبد الصالح كما روى النسائي أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال:((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )) النسائي في سننه بسند صحيح 2/15 .
- الحديث الثامن:
روى الحاكم من طريق عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : - - صلى الله عليه وسلم - (( لما اقترف آدم الخطيئة قال:يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال:يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه قال يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا:لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك )) المستدرك 2/615 ثم قال الحاكم صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بقوله:" بل موضوع وعبد الرحمن واه " .
والرد عليه من ثلاثة أوجه:
1- هذا خبر موضوع قطعا وبيان ذلك:
أ- عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال البخاري ضعفه عليّ جدا وقال النسائي:"ضعيف " وقال الحاكم:" روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه " وقال ابن حبان:"كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم ذلك حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فأستحق الترك، قال الإمام الشافعي:" قيل لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أحدثك أبوك عن جدك أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلفه ركعتين، فقال نعم ".(98/26)
وفي الضعفاء للعقيلي أن رجلا ذكر لمالك رحمه الله تعالى حديثا فقال: من حدثك ؟ فذكر إسنادا له منقطعا فقال: "اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح !! " وقال ابن الجوزي: " أجمعوا على ضعفه " انظر ترجمته في الميزان 2/534 والكبير 5/284 والصغير للبخاري ص 74 والتهذيب 5/90 وتهذيب الكمال17/118 اهـ
ب - عبد الله بن مسلم الفهري قال الذهبي:" لا أدري من ذا " قال الحافظ:" قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته " والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رشيد ذكره بن حبان وقال:"متهم بوضع الحديث وقال حدثنا عنه جماعة، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة لا يحل كتب حديثه وهو الذي روى عن ابن هدبة نسخة كأنها معمولة " انظر ترجمته في الميزان 2/387 ولسان الميزان للحافظ ابن حجر 3/441 اهـ
وهكذا اتفقت كلمة الحفاظ كابن تيمية والذهبي والعسقلاني وابن عبد الهادي والسهسواني والألباني وغيرهم على بطلان هذا الحديث.
ج - قال ابن عبد الهادي رادا على من صحح الحديث:" وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم في تصحيحه مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث ضعيف الإسناد جدا وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بصحيح بل مفتعل على عبد الرحمن " الصارم المنكي في الرد على السبكي ص 32 اهـ
د - الاضطراب: فقد اضطرب عبد الرحمن أو من دونه فتارة يرفعه كما سبق وتارة يجعله موقوفا على عمر كما عند الآجري. الشريعة للآجري ص 427(98/27)
2- أن هذا الخبر مخالف للقرآن قال تعالى: - { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم - } [البقرة 37 ] قال ابن عباس:" قال أي رب ألم تخلقني بيدك قال: بلى، قال ألم تنفخ في من روحك قال بلى، قال: ألم تسبق رحمتك غضبك، قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: بلى، قال: فهو قوله - { فتلقى آدم من ربه كلمات - } " المستدرك 3/ 545 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي والألباني. اهـ
وقول ابن عباس هذا له حكم الرفع من وجهين:
أ - أنه تفسير صحابي.
ب - أن هذا الأمر من الغيب الذي لا يمكن أن يقال بمجرد الرأي.
والظاهر إن الكلمات هي قوله تعالى - { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين - } [ الأعراف 23 ] وبهذا جزم رشيد رضا في تفسيره (1/279).
3 - أن هذ من الإسرائليات رفعه بعض الضعفاء.
- الحديث التاسع:
(( توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم )) وبعضهم يرويه (( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم )).
والرد عليهم من وجوه خمسة:
1 - هذا خبر باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين " قاعدة جليلة ص 252 وممن حكم ببطلان هذا الخبر السهسواني والألباني وغيرهما.
2- ثبوت جاهه لا يدل على جواز التوسل به كما لا يجوز لنا السجود له ولا الركوع.
3 - أن تعظيم جاهه - - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون باتباعه وطاعته وقد ثبت أنه - - صلى الله عليه وسلم - قال :(( ما تركت شيئا يقربكم من الله إلا أمرتكم به )) رواه الشافعي والطبراني وغيرهما وصححه الألباني.(98/28)
فلو كان التوسل بجاهه من القربات لعلمنا إياه - - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه علمنا كل شيء حتى الخراءة كما في مسلم صحيح مسلم ح (606) .
4- لم يثبت عن أحد من الصحابة أومن بعدهم من السلف الصالح أنه فعل هذا التوسل الممنوع ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
5- قال السهسواني: "لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وما رواه القشيري عن معروف الكرخى – قدس الله سره - أنه قال لتلاميذه إن كانت لكم إلى الله حاجة فأقسموا عليه فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن، لايوجد له سند يعول عليه عند المحدثين " صيانة الإنسان ص 188ـ189 اهـ
- الحديث العاشر:
(( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور )) وفي رواية (( فاستغيثوا بأصحاب القبور ))
والرد عليه من ستة أوجه:
1 - هذا أثر باطل لا أصل له ذكره العجلوني وعزاه للأربعين لابن كمال باشا كشف الخفاء 1/85 وقال شيخ الإسلام:" كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء " اقتضاء الصراط المستقيم 2/196 وقال في موضع آخر:" هذا الحديث كذب مفترى على النبي - - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة " مجموع الفتاوى 1/356 .
2 - مما يدل على بطلانه مناقضته للشرع قال تعالى: - { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير - } [فاطر 13-14]وقال تعالى: - { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون - } [النحل 19-21].
3 ـ الأصل في الأموات أنهم لا يسمعون قال تعالى: - { وما أنت بمسمع من في القبور - } [ فاطر 22 ]وقال تعالى: - { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين - } [النمل 85 ].(98/29)
4 - أن أصحاب القبور قد انقطع عملهم من الدنيا فلا يملكون منها شيئا، كما في صحيح مسلم (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة...)) الحديث.
5 - أن في هذا جعل قدرة لأصحاب القبور فوق قدرة الله؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
6 - الحديث من باب الإستغاثة بغير الله وهي مجمع على تحريمها لأنها شرك وليست من التوسل في شيء.
- الحديث الحادي عشر:
(( لولا عباد ركع وصبية رضع وبهائم رتع لصب عليكم البلاء صبا )) أسنده البيهقي في سننه (3/345) عن إبراهيم بن خثيم يعني ابن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعا (( مهلا عن الله مهلا فأنه لولا شباب خشع وبهائم رتع وشيوخ ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا )) رواه الطبراني والطيالسي وابن منده وابن عدي والديلمي كما في تمييز الطيب من الخبيث ص 254 ح (1133) .
والرد عليه من وجوه أربعة:
1 - هذا خبر موضوع وإفك مصنوع آفته إبراهيم بن خثيم قال ابن التركماني:" وأهل هذا الشأن غلظوا فيه القول لقول النسائي: متروك " وقال أبو الفتح الأزدي:" كذاب" وقال الجوزقاني:" اختلط بآخرة " وذكره صاحب الميزان وذكر هذا الحديث من مناكيره هامش سنن البيهقي 3/345 ؛ قال النسائي:" متروك الحديث " قال الجوزقاني:" كان غير مقنع واختلط بآخرة " وقال الدوري: " سمعت ابن معين يقول: كان الناس يصيحون به لا شيء وكان لا يكتب عنه وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا مأمون " انظر ترجمته في الميزان 1/55 وضعفاء النسائي ص 147 واللسان 1/43 اهـ
وللحديث علة أخرى وهي جهالة مالك وأبيه فمن يدري لعلهما من الكذابين كابنهما وعلة ثالثة أيضا وهي اضطراب متنه.
2- هذا الحديث ذكره العسقلاني في مناكير إبراهيم بن خثيم لسان الميزان 1/43 فهو خبر منكر باطل.(98/30)
3- أن هؤلاء المطيعين لهم فضل ومنزلة لكنهم لايردون عذاب الله عن العامة إذاعصت بل يهلك الجميع لقول الله تعالى: - { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب - } [ الأنفال 25 ] وفي الصحيحين أن زينب قالت له: أنهلك وفينا الصالحون قال: (( نعم إذا كثر الخبث )) البخاري ح (3598) ومسلم (2880) .
فتبين أن هذا الخبر الموضوع مناف للقرآن والسنة.
4- هذا الخبر لا علاقة له بالتوسل بالجاه أو الذات أو الحرمة أو الإقسام على الله بالمخلوق بل غاية ما فيه الترغيب في الطاعات التي تقرب من الله كالخشوع والركوع.
- الحديث الثاني عشر:
(( إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا علي فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم )) أخرجه الطبراني (3/81) وأبو يعلى في مسنده ( 1/254 ) وعنه ابن السني في عمل اليوم والليلة ص 50 كلاهما من طريق معروف بن حسان السمرقندي عن سعيد بن عروبة عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن ابن مسعود.
والرد عليه من وجوه ثلاثة:
1- هذا حديث ضعيف له علتان:
أ - أن معروفا غير معروف لسان الميزان 6/61 والميزان 4/133 بل مجهول قال ابن أبي حاتم (8/323) عن أبيه " مجهول " قال ابن عدي ( 6/325):" منكر الحديث قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة " قال الهيثمي في المجمع (10/132):" هو ضعيف ".
ب - الإنقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود نقله ابن علان عن الحافظ كما في شرح الأذكار لابن علان (5/150).
2 - وله شاهد عند ابن أبي شيبه في المصنف (12/153/2) عن محمد بن إسحاق عن إبان بن صالح أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره.
وهذا له ثلاث علل:
أ - عنعنة ابن إسحاق.
ب - أنه معضل.
ج - الصواب وقفه على ابن عباس.
فالحديث ضعيف بل منكر لا تقوم به حجة، فكيف تبنى عليه العقائد.(98/31)
3 - لو ثبت فلا يدل إلا على الإستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لأن هؤلاء الملائكة يستطيعون هذا العمل ولا علاقة لهذا بالتوسل بالجاه أو الذات أو الحرمة أو الإقسام على الله بالمخلوق.
- الحديث الثالث عشر:
(( إذا أضل أحدكم شيئا أوأراد أحدكم غوثا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أغيثوني فإن لله عبادا لا يراهم )) رواه الطبراني (6/55/1) من طريق عبد الرحمن بن شريك قال حدثني أبي عن عبد الله بن عيسى عن ابن علي عن عتبة بن غزوان مرفوعا.
والرد عليهم من وجوه ثلاثة:
1- هذا حديث ضعيف له ثلاث علل:
أ - ب: عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله القاضي هو وأبوه ضعيفان قال الحافظ في التقريب (ص284)عن الأول:" صدوق يخطئ " وقال (ص 207)عن الأب:" صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة " اهـ
ج - الإنقطاع: قال الهيثمي:" رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف فيهم؛ إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة مجمع الزوائد 10/132 " اهـ
وقال الحافظ في تخريج الأذكار:" أخرجه الطبراني بسند منقطع عن عتبة بن غزوان ولكن له شاهد عند البزار كما في الزوائد ص 303 من طريق حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد عن إبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس وله علتان:
أ - أسامة بن زيد وإن كان من رجال مسلم فقد قال الحافظ في التقريب ص 38:"صدوق يهم ".
ب - وخالف حاتم بن إسماعيل - الذي قال عنه في التقريب ص 84:"صدوق يهم "- جعفر بن عون وهو أوثق منه فهو من رجال الصحيحين قال الحافظ:" صدوق " فوقفه على ابن عباس كما عند البيهقي في الشعب (2/455/1)فالصحيح أنه موقوف إذا. راجع السلسلة الضعيفة 656(98/32)
2 - وإذا علمت بطلان هذا الخبر فلا تعارضه بما سمعت من تجربة، قال الشوكاني:" السنة لا تثبت بالتجربة ولا يخرج الفاعل للشيء معتقدا أنه سنة عن كونه مبتدعا وقبول الدعاء لا يدل على أن سبب القبول ثابت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فقد يجيب الله الدعاء من غير توسل بسنة وهو أرحم الراحمين وقد تكون الإستجابة استدراجا " تحفة الذاكرين ص 140 اهـ
3 - روى الهروي في ذم الكلام (4/68/1) أن عبد الله بن المبارك ضل في بعض أسفاره في طريق وكان قد بلغه أن من اضطر في مفازة فنادى عباد الله أعينوني أعين، قال: فجعلت أطلب الجزء انظر في إسناده " قال الهروي:" فلم يستجز أن يدعوا بدعاء لا يرى إسناده " اهـ
- الحديث الرابع عشر:
ما روى عبد الملك ابن هارون ابن عنترة عن أبيه عن جده أن أبا بكر الصديق أتى النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقال إني أتعلم القرآن ويتفلت مني فقال له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قل:(( اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وبموسى نجيك وعيسى روحك وكلمتك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد بكل وحي أوحيته وقضاء قضيته...)) الحديث.
والرد عليه من وجوه أربعة:
1 - قال شيخ الإسلام "وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدلي في جامعه ونقله ابن الأثير في جامع الأصول جامع الأصول لابن الأثير 4/302 ح (2302) ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين لكنه قد رواه من صنف في عمل اليوم والليلة كابن السني وأبي نعيم وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الإعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة مكذوبة وموضوعة ". قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 164ـ 165 اهـ(98/33)
2 - هذا خبر موضوع آفته عبد الملك بن هارون قال ابن معين:" كذاب " وقال السعدي:" دجال كذاب " قال أحمد:" ضعيف " وقال ابن عدي:" له أحاديث لا يتابعه عليها أحد "وقال الحاكم في المدخل:" عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحديث موضوعة " التاريخ لابن معين2/376 وأحوال الرجال ص 68 والمجروحين 2/133 كتاب الضعفاء والمتروكين ص 166 والكامل 5/1942 .
وله علة أخرى وهي ضعف والد عبد الملك كما قال الدار قطني:"وأبوه أيضا متروك " الضعفاء والمتروكين ص 289 رقم ( 362 )
فتحصل مما سبق أنه خبر باطل لا يحتج به.
- الحديث الخامس عشر:
ما روى موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن ابن عباس مرفوعا (( من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر وليشربه على الريق وليصم ثلاثة أيام وليكن إفطاره عليه ويدعو به في أدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك خير مسؤول لم يسأل مثلك ولا يسأل وأسألك بحق محمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك....)) الحديث .
ويروى نحوه عن ابن مسعود انظر ابن الجوزي في الموضوعات 2/174 وابن عراق في تنزيه الشريعة 2/322 .
والرد عليهم من وجوه خمسة:
1 - موسى بن عبد الرحمن الصنعاني هو آفة هذا الخبر الموضوع.
قال ابن حبان:" دجال وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل " وقال ابن معين:" كذاب " قال الدار قطني " متروك " وقال ابن حبان:" كان مغفلا يلقن فيتلقن فاستحق الترك " الميزان 4/194 واللسان6/124 والضعفاء للعقيلي4/166 وقاعدة جليلة ص 178 والكامل 6/349 اهـ
2 - قال السيوطي:" موضوع، المتهم به عمر بن صبح " كما في اللآلئ المصنوعة (2/356).(98/34)
3 - قال ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/322):" رواه أبو الشيخ في الثواب من حديث أبي بكر الصديق من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني الدجال.." اهـ
4 - أن هذا الحديث معضل والمعضل من قسم الضعيف لأنه ما سقط منه راويان على الولاء.
5 - لا طريق لحفظ القرآن إلا بالمداومة على تكرار ترتيله وتعلمه كما قال - - صلى الله عليه وسلم -: (( إنما العلم بالتعلم)) علقه البخاري ووصله غيره.انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 342 .
- الحديث السادس عشر:
(( قال داود عليه السلام أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال أما إبرهيم فألقي في النار فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك، وأما إسحاق فبذل نفسه ليذبح فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك وأما يعقوب فغاب عنه يوسف وتلك بلية لم تنلك )) قال الهيثمي في المجمع 8/202 رواه البزار من رواية أبي سعيدم عن علي بن زيد وأبو سعيد لم أعرفه وعلي بن زيد
ضعيف وقد وثق .
والرد عيه من وجوه ستة:
1 - هذا خبر منكر لأن في سنده أبا سعيد واسمه الحسن بن دينار، قال ابن حبان:"تركه وكيع وابن المبارك فأما أحمد ويحي فكانا يكذبانه قال عباس سمعت يحي يقول ليس بشيء ؛ وقال أبو حاتم: "متروك الحديث كذاب " وقال أبو خيثمة:"كذاب ". انظر ترجمته في الميزان 1/487 والكبير 2/222 والضعفاء الصغير للبخاري ص33 واللسان 203-205 اهـ
2 - وله طريق أخرى عند الطبري ذكرها ابن كثير في تفسيره (4/17) عن طريق زيد بن الحباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب به؛ وقال ابن كثير عقبه لا يصح ؛ في إسناده ضعيفان وهما: الحسن بن دينار متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث.(98/35)
3 - وله طريق ثالث عند الحاكم (2/526) من طريق زيد بن الحباب عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا وفيه علي بن زيد وهو ضعيف منكر الحديث. راجع السلسلة الضعيفة 1/342- 343 والميزان 3/125 والتقريب ص 340
4 - ولو ثبت هذا الأثر لكان ردا واضحا عليهم إذ لم يقره على هذا التوسل بل بين له أنهم إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه طاعتهم فلنسلك نحن طريقهم في ذلك كما بين له أنه لا علاقة له بطاعتهم هم وأعمالهم الصالحة.
5 - أنه منكر المتن لأن الذبيح هو إسماعيل كما دل عليه الكتاب والسنة.
- الحديث السابع عشر:
" ما روي عن أبي صالح السمان عن مالك الدار وكان خازن عمر قال أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له ائت عمر...."
وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/31- 32 وانظر البداية والنهاية لأبن كثير 7/101
والرد عليه من وجوه خمسة:
1 - هذا الأثر ضعيف لا يثبت بوجه من الوجوه، فمالك الدار هذا مجهول لا يدرى من هو، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر له راويا غير أبي صالح ولم يذكر فيه جرحا ولا توثيقا ولا ينافي ذلك قول الحافظ " بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار"، لأنه يعني صحة الإسناد إلى أبي صالح وقال الهيثمي في المجمع (3/125) والمنذري في الترغيب (2/41) ومالك الدار لا أعرفه.
2 - أن هذا الأثر مخالف لما ثبت من صلاة الإستسقاء التي ثبتت في النصوص الكثيرة والدعاء.
3 - مخالف للقرآن يقول تعالى: - { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا.. - } [ نوح 10-11 ].(98/36)
4 - مخالف لهدي السلف إذ كانوا يصلون ويدعون في الإستسقاء كمافعل العباس بحضور الصحابة وفعل معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي.
5 - هذه القصة لا حجة فيها لأن الرجل الذي فعل هذا مجهول لا ندري هل هو شيطان رجيم أم عفريت مارد أم زنديق شارد وتسميته بلالا إنما وردت عن سيف بن عمرو الضبي الأسدي... مصنف الفتوح والدرة وغير ذلك قال يحي:" ضعيف "، وقال مرة:"فلس خير منه"، قال ابن حبان:" يروي الموضوعات عن الأثبات وقالوا إنه كان يضع الحديث "، قال أبو حاتم:" متروك "، وقال ابن حبان:" اتهم بالزندقة "، وقال ابن عدي:" عامة حديثه منكر "، وقال أبو داود:" ليس بشيء " انظر ترجمته في الميزان 2/197 وضعفاء النسائي187 اهـ
- الحديث الثامن عشر:
قال الدارمي في سننه سنن الدارمي 1/43 : "حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد بن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق "
والرد عليهم من وجوه خمسة:
1 - هذا خبر ضعيف لا يثبت من وجه، له ثلاث علل:
أ - ضعف سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد قال يحي بن سعيد:"ضعيف " قال السعدي:" ليس بحجة يضعفون حديثه " وقال النسائي وغيره:" ليس بالقوي" وقال أحمد:" ليس به بأس " وكان يحي بن سعيد لا يستمرئه انظر الميزان 2/138 والكبير3/472 وضعفاء النساء ص 190
ب - الوقف على عائشة فلو ثبت وهيهات له ذلك لكان اجتهادا منها لا حجة فيه.
ج - أبو النعمان محمد بن الفضل اختلط في آخر عمره ذكره برهان الدين الحلبي في المختلطين فلا ندر هل سمع منه هذا الحديث قبل الإختلاط أم بعده فوجب رده.(98/37)
2 - أنه مخالف للكتاب والسنة حيث بينا طريقة الإستسقاء وأنها تكون بالصلاة والدعاء لا غير أو الدعاء وحده.
3 - ومما يدل على بطلان هذا الخبر ما ثبت في الصحيح هدا إشارة إلى حديث عائشة عند البخاري ح (546) بلفظ:" كان يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في حجرة لم يظهر الفيءبعد "
وما في معناه من الأحايث الكثيرة . أن حجرة عائشة كان سقفها مكشوفا وبعضها مسقوفا منذ حياة النبي - - صلى الله عليه وسلم - فكيف توقف المطر ؟.
4 - لوكان هذا الخبر ثابتا لاستمر المطر عليه - - صلى الله عليه وسلم - في حياته وهو حي عند ما يخرج وقد وقعت في حياته مجاعات وجدب مع بروزه للشمس ؟!.
5 - لو صح ذلك الخبر لجعلها الناس سنة يفعلونه في كل جدب أو قحط.
- الحديث التاسع عشر:
ما روي في الدر المنظم " أن أعرابيا وقف على القبر الشريف فقال: اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك فإن غفرت لي...سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك وأنت يا رب... أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك... فقال بعض الحاضرين ياأخا العرب إن الله قد غفر لك بحسن السؤال ".
الرد عليه من وجوه ثلاثة:
1 - هذا خبر باطل لا أصل له في شيء من كتب السنة فهو إفك مفترى لا خطم له ولا زمام هذا فضلا عن تلفيق متنه الذي يدل على أنه مصنوع وما حواه من الأباطيل والمشاكل.
وقصارى أمره أن يكون من وضع بعض المتوسلين من المحرفين ولا وجود له إلا في إدمغتهم.
2 - ثم من هذا الأعرابي ومتى كان كلامه حجة على العالمين والله يقول: - { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم - } [ التوبة 97 ].(98/38)
وقد ثبت في الصحيحين أن أعرابيا بال في المسجد النبوي متفق عليه: البخاري (220- 221 ) ومسلم ( 659- 660 ) وأن أعرابيا آخر جبذه - - صلى الله عليه وسلم - برداء حتى أثر في عنقه وقال أعطني من مال الله مسند أحمد 2/288 فهل تقتدي بهؤلاء في ذلك ؟.
3 – قوله: " وغضب حبيبك ":يعني رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - باطل لأنه لا يغضب من حكم الله بل يرضى به ولا يغضب منه ويسخطه إلا الكافرون.
- الحديث العشرون:
ماروى البيهقي من طريق أبي معمر سعيد بن أبي خيثم عن مسلم الملاء عن أنس - - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - يستسقي به وأنشده أبياتا أولها
أتيناك والعذراء يدمي لبانها
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
إلى أن قال:
وليس لنا إلا إليك فرارنا
وأنى فرار الخلق إلا إلى الرسل
فلم ينكر - - صلى الله عليه وسلم - هذا البيت بل قال أنس لما أنشد الأعرابي قام - - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى رقي المنبر فخطب ودعا لهم فلم يزل يدعو حتى أمطرت السماء رواه البيهقي في دلائل النبوة ومن طريقه ابن كثيرفي البداية والنهاية 6/79 .
الرد عليهم من ثلاثة أوجه:
1 - هذا خبر واه تفرد به مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الأعور المكي قال الفلاس:" متروك الحديث" وقال أحمد:" لا يكتب حديثه " وقال يحي:" ليس بثقه " وقال أيضا: "زعموا أنه اختلط" وقال البخاري:" يتكلمون فيه " وقال النسائي وغيره "متروك "وقال الذهبي:" أنه روى حديث الطائر الذي أهدته أم أيمن لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وحديث الطائر موضوع عند أهل الحديث " انظر ترجمته في الميزان 4/99 والكبير 7/271 والضعفاء والصغير للبخاري ص 111 اهـ
- قال في التقريب " موسى بن كيسان الضبي الملائي البراد الأعور أبو عبد الله الكوفي ضعيف من الخامسة " تقريب التهذيب ص 463 اهـ(98/39)
2 - والحديث لو صح - وأنى له ذلك - ليس فيه إلا التوسل بدعائه - - صلى الله عليه وسلم - والحمد لله رب العالمين.
3 - لو كان متوسلا بذاته - - صلى الله عليه وسلم - أو بجاهه لما احتاج إلى المسير إليه من البادية إلى المدينة.
- الحديث الواحد والعشرون:
ما روى الطبراني في الكبير والبيهقي في الدلائل دلائل النبوة للبيهقي 2/34 وقال في الرواية الصحيحة غنية عن هذه الروايات. أن سواد بن قارب أنشد الرسول - - صلى الله عليه وسلم - قصيدته التي فيها التوسل ومنها:
وأشهد أن الله لا رب غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فامرنا بما يأتيك يا خير مرسل
وإن كان فيما فيه شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
والرد عليه من وجوه ثلاثة:
1 - هذه خرافة باطلة وإن كثرت طرقها وإليك بيان ذلك أنظر التوصل إلى حقيقة التوسل ص 308 :
أ - رواية البيهقي في الدلائل(2/34) فيها زياد بن يزيد بن بادويه ومحمد بن تراس الكوفي، قال الذهبي في التاريخ (1/206):" هذا حديث منكر بالمرة ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لاتقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعا على أبي بكر بن عياش " اهـ
ب - رواية أبي يعلى رواها ابن كثير في سيرته " السيرة المطولة " (1/44- 346) قال " هذا منقطع من هذا الوجه " وقد أوضح الذهبي في تاريخ الإسلام (1/207-208) علة هذه الطريق فقال:" أبو عبد الرحمن اسمه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي متفق على تركه وعلي بن منصور فيه جهالة مع أن الحديث منقطع " اهـ
وعثمان هذا قال البخاري:"تركوه" وقال ابن معين:" ليس بشيء - وقال مرة - يكذب " وقال النسائي والدار قطني "متروك ". انظر ترجمته في الميزان3/44 والكبير 6/238 اهـ(98/40)
ج - رواية ابن عدي في الكامال (2/628)في ترجمة الحكم بن يعلى من طريقه عن عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال الذهبي في تاريخ الإسلام (1/208):" فيه سعيد يقول أخبرني سواد بن قاربة وبينهما انقطاع وعباد ليس بثقة يأتي بالطامات " اهـ
د - رواية محمد بن السائب الكلبي عند ابن كثير في السيرة (1/348-349) وهو" متهم بالكذب ورمي بالرفض " كما في التقريب ص 415 قال الجوزقاني وغيره:" كذاب " قال الدارقطني وجماعة:" متروك "قال البخاري: "تركه يحي وابن مهدي" وقال يزيد بن زريق :" حدثني الكلبي وكان سبئيا " وقال ابن حبان :" كان الكلبي سبئيا من أولئك الذين يقولون إن عليا لم يمت وأنه راجع إلى الدنيا ويملؤها عدلا كما ملئت جورا وإن رأوا سحابة قالوا :أمير المؤمنين فيها"وقال ابن معين:" الكلبي ليس بثقة" وقال:" مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه وقال لا يحل ذكره في الكتب فكيف الإحتجاج به " الميزان 3/533- 534 .
ه - رواية أبي بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في هواتف الجان وهي عند ابن كثير (1/346) وفيها الشعر سوى بيت " وكن لي شفيعا...." وهو محل استدلالهم.
و - رواية الفضل بن عيسى القرشي عن العلاء بن يزيد، قال السيوطي في شرح شواهد المغني (2/255):" والعلاء بن يزيد المديني كان يضع الحديث وقال البخاري وغيره: " منكر الحديث " وقال أبو حيان: " روى نسخة موضوعة "، وأورد له الذهبي في الميزان عدة مناكير " ميزان الإعتدال 3/105 . اهـ
ز - رواية الحسن بن سفيان في مسنده من طريق الحسن بن عمارة، قال السيوطي في شرح شواهد المغني (2/255):" والحسن بن عمارة ضعيف جدا ". اهـ(98/41)
قال شعبة:" يكذب " وقال أحمد:"متروك " قال ابن معين:" ليس حديثه بشيء " وذهب ابن المديني إلى أنه كان يضع الحديث، وقال الجوزقاني:" ساقط " وقال أبو حاتم ومسلم والدار قطني وجماعة:" متروك ". انظر ترجمته في الميزان1/507- 508 والكبير 3/303 اهـ
2 - ثم لو صح هذا الخبر فلا حجة لهم فيه لأنه إنما تضمن الشفاعة ورسول - - صلى الله عليه وسلم - سيشفع في أمته يوم القيامة.
3 - أما قوله " أدنى العالمين وسيلة..." فإن الوسيلة هنا هي المنزلة والمكانة العالية والوسيلة في اللغة تطلق على ذلك كما في القاموس (4/64) .
- الحديث الثاني والعشرين:
" مرثية صفية رضي الله عنها التي فيها:
ألا يارسول الله كنت رجاءنا
وكنت بنا برا ولم تك جافيا مجمع الزوائد 9/38ـ 39 وعزاه إلى الطبراني وحسنه.
والرد عليهم من ثلاثة أوجه:
1 - هذا خبر ضعيف لانقطاعه إذ هو من رواية عروة بن الزبير عن صفية وعروة إنما ولد سنة 29 هـ كما في التهذيب أي بعد وفاته - - صلى الله عليه وسلم - ب 19 سنة والقصيدة إنما قيلت عند الوفاة وصفية ماتت سنة 20 هـ قبل ولادة عروة ب 9 سنين فكيف يروي عنها، وبذلك تعلم تساهل الهيثمي في تحسينه للحديث.
2 - ولا متعلق لهم بهذا الخبر فلما أيقنوا ذلك قام شيخهم دحلان بتحريف البيت إلى: " أنت رجاؤنا..." بدل "كنت رجاءنا " وما ذهب إليه لا يوجد في شيء من روايات هذه القصة.
3 - ومعنى الرجاء التوقع والأمل ورسول الله - - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يستحق من صفية وغيرها أن تؤمل فيه كل خير.
قال في القاموس:" الرجاء ضد اليأس كالرجو والرجاءة والرجاوة والترجي والإرتجاء والترجية " القاموس ص 1158
وقال ابن الأثير:" وقد تكرر فيه الرجاء بمعنى التوقع والأمل " النهاية في غريب الحديث 2/207 اهـ
- الحديث الثالث والعشرون:(98/42)
" ما روي عن محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره ثم قال:يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: - { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم - } إلى قوله - { رحيما - } وإني جئتك مستغفرا ربك من ذنوبي مستشفعا بك وفي رواية وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف، قال فرقدت فرأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - في نومي وهو يقول إلحق بالرجل وبشره بأن الله غفر له بشفاعتي فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده " وفاء الوفاء للسمهودي 4/1136 .
والرد عليه من ستة أوجه:
1- هذه حكاية باطلة، قال ابن عبد الهادي:" وهي الحكاية التي ذكرها - يعني السبكي - بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب بلا إسناد عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي وذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري،حدثني أبو حرب الهلالي قال حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجده - - صلى الله عليه وسلم - أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ثم ذكر نحو ما تقدم وقد وضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي ابن أبي طالب - - رضي الله عنه - وفي الجملة ليست الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به الحجة وإسنادها مظلم ولفظها مختلف أيضا ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض ولا يصلح الإحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الإعتماد على مثلها عند أهل العلم وبالله والتوفيق الصارم المنكي ص 212 " اهـ
2- ليس في هذه الأسطورة ذكر للتوسل بالذات أو الجاه وإنما فيها شفاعة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - .(98/43)
3 - وهذه منامات وأضغاث أحلام ولا علاقة لذلك بشريعة الله ولا تبنى عليها الأحكام الشرعية.
4 - والعجب أنهم يتعلقون بما ينسب إلى الأعراب الأجلاف ويعرضون عما ثبت عن أئمة السلف فهل يعتقدون أن هذا الأعرابي وأمثاله أعلم بالدين من أبي بكر وعمر وسائر الصحابة الذين لم يفعلوا هذا الأمر ؟.
5 - يلزم من يستدل بفعل هذا الأعرابي أن يبول في المسجد النبوي الشريف لما ثبت في الصحيحن أن أعرابيا بال في المسجد...الحديث صحيح البخاري ح (220) .
6 - فإن قيل قد روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن أبي الصادق عن علي بن أبي طالب قال قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام... الحديث .(98/44)
قال ابن عبد الهادي " هذا خبر منكر موضوع وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الإعتماد عليه ولا يحسن المصير إليه وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض والهيثم جد أحمد بن محمد بن الهيثم أظنه ابن عدي الطائي فإن يكه فإنه متروك كذاب وإلا فهو مجهول وقد ولد الهيثم بن عدي في الكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ثم انتقل إلى بغداد فسكنها قال عباس الدوري سمعت يحي بن معين يقول الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة كان يكذب وقال العجلي وأبو داود :( كذاب ) وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي:( متروك الحديث ) وقال السعدي:( ساقط قد كشف قناعه ) وقال أبو زرعة ( ليس بشيء ) وقال البخاري:( سكتوا عنه ) أي تركوه وقال ابن عدي:( ما أقل ماله من المسند إنما هو صاحب أخبار وأسمار ونسب وأشعار ) وقال ابن حبان:( إنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعات يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها ) وقال الحاكم أبو أحمد:( ذاهب الحديث ) وقال الحاكم أبو عبد الله:( حدث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة ) وقال العباس بن محمد ( سمعت بعض أصحابنا يقول قالت جارية الهيثم كان مولاي يقوم الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب )" انظر ترجمته في الكبيرالبخاري 8/218 والميزان 4/296- 297 والكامل لإبن عدي 7/104 وضعفاء النسائي 244
- الحديث الرابع والعشرين:(98/45)
روى ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي عن سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي أنه قال:" لقد رأيت عجبا كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم ليقم كل رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من ساعته ؛ ثم قالوا قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة فقام فأخذ الركن اليماني فقال:اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك ألا تميتني من الدنيا حتى تولني الحجاز ويسلم علي بالخلافة ؛ثم جاء فجلس ثم قام مصعب فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك رب كل شيء وإليك يصير كل شيء أسألك من قدرتك على كل شيء ألا تميتني من الدنيا حتى تولني العراق وتزوجني سكينة بيت الحسين ؛ ثم قام عبد الملك فأخذ بالركن اليماني ثم قال:اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض ذات النبت بعد القفر أسألك بماسألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك وبحق الطائفين حول عرشك...الأثر كتاب مجابي الدعاء لابن أبي الدنيا ( 120ـ121). .
والرد عليهم من وجهين:
1- هذا خبر موضوع وكذب مصنوع آفته إسماعيل بن أبان، قال أحمد: " كتبت عنه ثم حدث بأحاديث موضوعة فتركناه " وقال يحي بن معين:" وضع حديثا على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة - يعني المأمون - " وقال البخاري ومسلم وأبو زرعة والدار قطني:" متروك " وقال الجوزقاني:" ظُهر منه على الكذب " وقال أبو حاتم:" كذاب " وقال ابن حبان:" يضع على الثقات وكان أحمد بن حنبل شديد الحمل عليه " انظر ترجمته في الميزان 1/232 والجرح والتعديل 2/160 والضعفاء والمتروكين ص 132 وأحوال الرجال ص 84
والمجروحين من المحدثين الضعفاء والمتروكين 1/128 . اهـ
وله علة أخرى وهي جهالة طارق بن عبد العزيز فلا ذكر له في شيء من كتب الرجال التي بين يدي .(98/46)
2 - أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/91) بإسناد ضعيف لكنه خير من الإسناد السابق وليس فيه السؤال بالمخلوقات من طريق الأصمعي " حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا فقال عبد الله ابن الزبير: أما أنا فأتمنا الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، قال فنالوا كلهم ما تمنوا ولعل ابن عمر قد غفر له " اهـ.
- الحديث الخامس والعشرون:
قال الحاكم: حدثنا علي بن حمشاد العدل إملاء ثنا هارون بن العباس الهاشمي حدثنا جندل بن والق حدثنا عمرو بن أوس حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام ياعيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به ولولا محمد ماخلقت الجنة والنار ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.
قال الذهبي:" أظنه موضوعا على سعيد " الحاكم في المستدرك 2/615 ط: دار الكتاب العربي اهـ
والرد عليهم من وجوه ثلاثة:
1 - قال الحافظ الذهبي:" عمرو بن أوس يجهل حاله، وأتى بخبر منكر أخرجه الحاكم في مستدركه وأظنه موضوعا من طريق جندل بن والق...وذكر هذا الخبر " الميزان 3/240 واللسان 4/408 ، وقال الصنغاني: "موضوع " كما نقله الشوكاني عنه وأقره الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 326 ، وكذلك حكم عليه بالوضع العسقلاني وغيره.
2 - أن الله أخبر في كتابه بسبب خلق الكون كله فقال تعالى: - { وما خلقت الحن والإنس إلا ليعبدون - } [ الذاريات 56 ] وقال - { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا - } [ الملك 02 ].
3 - لا علاقة لهذا الحديث بالتوسل أصلا.
- الحديث السادس والعشرون:(98/47)
روى الخطيب في تاريخه (1/123) من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم أنبأنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تباعد عني حتى تقضى حاجتي.
والرد عليهم من وجهين:
1 - أن هذه رواية باطلة فإسحاق غير معروف ولا ذكر له في شيء من كتب الرجال إلا أن يكون هو والد عمرو بن إسحاق بن إبراهيم وهذا مجهول أيضا. انظر السلسلة الضعيفة 1/297-298
2 - قال شيخ الإسلام:" هذا كذب معلوم كذبه بالإضطرار عند من له معرفة بالنقل، فالشافعي لما قدم بغداد لم يكن بعدُ القبر يُنتاب للدعاء عنده البتة بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها وإنما يضع هذه الحكايات من يقل علمه ودينه وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف " اقتضاء الصراط المستقيم ص 165 اهـ
- الحديث السابع والعشرون:(98/48)
روى أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال ثنا أبو الحسن علي بن فهر ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ثنا بن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب أقواما فقال: - { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبئ... - } ؛ وذم قوما فقال: - { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات.. - } الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر فقال يا أبا عبد الله: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله قال الله تعالى: - { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما - } .
والرد عليهم من وجوه أربعة:
1 - هذه حكاية موضوعة آفتها محمد بن حميد الرازي كذبه أبو زرعة وابن وارة وقال صالح بن محمد الأسدي: "ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه" وقال يعقوب بن أبي شيبة: " كثير المناكير" وقال ابن حبان:" يتفرد عن الثقات بالمقلوبات " قال ابن خراش:"حدثنا ابن حميد وكان والله يكذب "وقال:" وقال النسائي:" ليس بثقة " انظر ترجمته في تهذيب الكمال 3/1190ـ 1191 والمجروحين 2/204 وتاريخ بغداد 2/260 والميزان 3/58-59 اهـ
2 - وهذا الخبر منقطع: ابن حميد لم يدرك مالكا لا سيمى في زمن أبي جعفر فإن أباجعفر توفي بمكة سنة 158هـ وتوفي مالك سنة 179هـ بينما توفي ابن حميد سنة 248هـ انظر المجروحين 2/303 والكاشف 3/326 وتهذيب التهذيب 9/131 الميزان 3/531 .(98/49)
3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه القصة: " كذب على مالك وليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره " مجموع الفتاوى 1/353 اهـ
4 - ثم لو صح فمعنى "وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة " شفاعته لهم يوم القيامة وعليه فلا متعلق لهم بهذه الأسطورة.
- الشبه العقلية:
الشبهة الأولى قياس الخالق على المخلوق :
وتقرير هذه الشبهة أنهم يتوسلون إلى الله بالأنبياء والأولياء لأنهم أقرب إلى الله منهم كما يتوسل إلى الملوك بالمقربين منهم.
والرد على ذلك من أربعة أوجه:
1 - هذا قياس للخالق على المخلوق بل على المجرمين الجائرين لأن العادلين لا يحتاجون إلى وسائط وهذا من أبطل القياس وأشده كفرا قال تعالى: - { فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون - } [ النحل 74 ] وقال: - { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير - } [ الشورى 11 ].
2 - مما يبطل هذه الشبهة وينسفها من أصلها أن الله تكفل بإجابة من دعاه فلم يحتج إلى وسائط يتوسل بهم من مخلوقاته قال تعالى: - { وقال ربكم ادعوني استجب لكم - } [ غافر 60 ] وقال: - { أجيب دعوة الداع إذا دعان - } [ البقرة 186 ].
3 - أن المتوسل إلى الرؤساء والملوك لا بد أن يأتي بالوسيط ليقوم بالشفاعة له أما لو جاء إلى الملك وقال أسألك بعمل فلان أو جاهه لكان من أسخف الناس ولما قضى له حاجة، وكذلك التوسل لا بد أن تذهب إلى العبد الصالح الحي فيدعو الله لك.
4 - أن هؤلاء الذين يشفعون عند الملوك إنما قبل الملك شفاعتهم خوفا أو طمعا والله تعالى غني عن العالمين قال تعالى: - { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير - } [ سبأ 22 ] .
الشبهة الثانية: وهي قولهم " هل هناك مانع من التوسل بالجاه أو بالذات أو بالحرمة؟ "(98/50)
فهم يقرون أنه لم يثبت ما يدل على استحباب هذا النوع من التوسل لكن لا مانع منه أيضا والرد عليهم من أربعة أوجه:
1 - الوسيلة الشرعية عبادة ولا بد من دليل عليها، قال - - صلى الله عليه وسلم -:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " متفق عليه.
2 - لماذا تتركوا أنواع التوسل المشروع الثابتة في الكتاب والسنة إلى أنواعه المبتدعة - { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير - } [ البقرة 61 ] ألم تسمعوا قول النبي - - صلى الله عليه وسلم -: (( كل بدعة ضلالة )).
3 - التوسل بالأشخاص قياس للخالق على المخلوق وهو من أبطل القياس مع أنه لا قياس في العقائد أصلا.
4 - لو كان في هذا النوع من التوسل خير لسبقنا إليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وتابعيهم بإحسان إذ الدين قد كمل - { اليوم أكملت لكم دينكم... - } [ المائدة 03 ].
- الشبهة الثالثة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح .
إذ يقولون: إذا كان التوسل بالعمل الصالح جائزا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز،والرد عليهم من ثلاثة أوجه:
1 - هذه مغالطة مكشوفةلأننا لا نجيز التوسل بعمل الغير وإنما الجائز توسل الداعي نفسه بعمله الصلاح.
2 - هذا القياس باطل لمصادمته للشرع لأن القياس لا يجوز في العقائد.
3 - في هذا الكلام استدراك على الشرع وتسوية بين ما فرق الله بينه لأن التوسل بالعمل الصالح ثابت بالكتاب والسنة وأما التوسل بذات الغير فلا أصل له في شريعة الله.
- الشبهة الرابعة قياس التوسل على التبرك:
إذ يقولون إذا جاز لنا التبرك بآثاره - - صلى الله عليه وسلم - فمن باب أولى يجوز لنا التوسل بجاهه العظيم، والرد عليهم من أربعه أوجه:
1 - أن التبرك إنما يرجى به الخير الدنيوي بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من خيري الدنيا والآخرة فظهر الفرق بينهما.(98/51)
2 - أن التبرك هو إلتماس الخير العاجل وأما التوسل فهو مصاحب للدعاء الذي هو أساس العبادة أما التبرك فلا يصاحبه دعاء .
3 - أما التبرك لا يكون بأحد من الأشخاص إلا الرسول - - صلى الله عليه وسلم - بإجماع السلف الصالح كما ذكر الشاطبي في الإعتصام وأنتم تريدون التوسل بذات وجاه غيره - - صلى الله عليه وسلم -.
4 - هذا قياس وهو في العقائد مردود.
الوجه الثاني:
لقد صورت للقارئ أنه ما رد عليكم إلا شخص واحد مجهول وهذا باطل لعدة أمور:
أ- أن هذا الكلام قد قلته لك مشافهة في المناظرة.
ب - لو صرحت لك باسمي لجبنت وخفت من عاقبة الرد عليه بدليل هروبك ليلة المناظرة وعدم مجيئك للمناظرة الثانية مع أنك أنت الذي حددت زمانهاومكانها كما هو موجود على الشريط بصوتك ومنذ ذلك الوقت وأنا أتحداك أن تناظرني في هذه المسائل إلى الآن.
ج- عامة أهل العلم ببلدنا وغيره من بلاد الإسلام تصدوا للرد على طريقتكم المبتدعة الضالة نظما ونثرا وإليك أمثلة من ذلك:(98/52)
1 - مما خوفكم معاشر التجانيين من المناظرة ما وقع لكم في مناظرة أبي تلميت التاريخية ولندع القاضي والعلامة الأديب والشاعر المفلق الأريب محمد عبد الله بن محمد بن أحمذي ينقل لنا وقائعها إذ قال ما نصه:" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العلمين والسلامان على سيد المرسلين وبعد فقد بعث إلي الأمير أحمد بن الديد - حفظه الله ورعاه وحمد في الدارين مسعانا ومسعاه - لأحضرمجلس المناظرة بين أحمد سالم بن سيديا الجكني متكلما عن ابن مايابى والشيخ المختار بن محمد بن عم متكلما عن كتب الطريقة التجانية وألزمني النظر فيما يقع بينهما من إيراد ورد والإفصاح بما تبين لي من الحق في ذلك وألزم القاضي محمد محمود بن عبد الله مثل ما ألزمني فحكمنا بينهما، وزجرهما عن الإحتجاج من قبل أنفسهما وألزمهما أن يتراسلا بأن يملي أحمد سالم من كتاب ابن مايابى إحدى المسائل التي شنع فيها على التجانية وما استشهد به لبطلانها من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، ثم يسكت فيملي الشيخ المختار من كتابهم الذي ألفوه في الرد على ابن مايابى وما أجابوا به عن تلك المسألة ثم يملي أحمد سالم الثانية،ثم كذلك، فأمعنت النظر فيما جرى بينهما فتبين لي أن ما أجابوا به ابن مايابى ليس فيه جواب عما أورد فلما ضاق الشيخ المختار ذرعا بالجواب أخذ يجيب من عند نفسه بأن كلام الشيخ سيد أحمد التيجاني لا يفهمه أمثالنا من المحجوبين وأنه معذور بالشطح فسألته أكان يتكلم بالشطح وهو يقول:أن جميع ما يمليه عن أصحابه يمليه عليه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أفيملي عليه الشطح ؟ قال: يصح أن يكون في إملائه عليه في الحال يتكلم بالشطح ؛ وزعم أنه وجد ذلك في الكتب الموثوق بها فقلت أرنا ذلك، فقال: إن أريتكموه تبين لكم صحة جميع مذهب التجاني وبطلان حجج من يرد عليه، فقلت له: لا، فإن في كلام التجاني أمورا كذبها القرآن فكل من قال بها ارتد فأنكر ذلك،فقلت أرايت لو نطق أحد بأن(98/53)
الكفار تنالهم الرحمة الأخروية فقال: إن تكلم بذلك مثلي ومثلك ارتد وإن تكلم به الشيخ سيد أحمد لم يرتد فأقبل الجمع يتعوذون من عظم ما قال ويشهدون عليه به فراجع الشهادتين وتاب وانقطع، فأقامه الأمير أحمد المذكور من مجلسه وحلف له أنه لو لم يكن غريبا لعزره فزجره عن حضور مجلسه أبدا، فامتنع الأمير ابن الديد المذكور من البحث بعد ذلك فتحصل مما حصل من البحث والنظر أن في جواهر المعاني التجاني مسائل منها ماهو صريح لا يقبل تأويلا كمحبوبية الكفار عند الله تعالى وقد قال تعالى: - { والله لا يحب الكافرين - } ونومهم في النار وقد قال تعالى: - { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا - } وانقطاع الإحساس بالعذاب عنهم وقد قال تعالى: - { فلن نزيدكم إلا عذابا - } ، - { لا يفتر عنهم - } وأكلهم ما يشتهون فجميع هذا لا يقبل تأويلا ومثله نيل الرحمة الأخروية لهم وقد قال تعالى - { يئسوا من رحمتي - } ومنها ماهو مقتض وهو أكثر من ذلك كنسبة الكتمان له - - صلى الله عليه وسلم - وكون صلاة الفاتح من كلامه تعالى وتفضيلها على القرآن وعدم صلاحية معاصريه - - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة لما يصلح لحمله المتأخرون إلى غير ذلك، ومنها ما هو تحكم على الله تعالى وتكلم بما هو توقيفي من تحديد الأجور وتفضيل بعض الطاعات على بعض ففيه ما فيه من سوء الأدب، من غرور العوام وتأمينهم مكر الله وتجرئتهم على معاصي الله تعالى ما لا يخفى ومنها ماهو بدعة واعتزال كالمعية بالذات فالقول بها مذهب النجارية من المعتزلة كما نص عليه زروق وغيره إلى غير ذلك مما ينقم من اشتراط أهلها على من دخل فيها هجران زيارة أولياء الله تعالى البتة فهو شرط مراغم للسنة مفيت لكثير من الخير قد وعد به رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - المتزاورين في الله فالصواب عندي أن يمتثل أتباعه أمر الشرع بنبذ ما خالف السنة من كل مايقول وبالله تعالى التوفيق والهداية إلى سواء الطريق، ففيما(98/54)
صح عنه - - صلى الله عليه وسلم - من العبادات السالمة من البدع المقربة من الله تعالى ما فيه للمسلم كفاية فقد أقسم بالذي نفسه بيده ما ترك شيئا يقربنا من الجنة ويباعدنا عن النار إلا ودلنا عليه ولا ترك شيئا يقرب من النار ويباعد من الجنة إلا حذرنا منه فإن كانت الطريقة التجانية مما يقرب من الجنة فلا يصح أن يكون سكت عنها وكتمها وإن كانت مما ذكر لأصحابه فأخذها عنه - - صلى الله عليه وسلم - لا عن غيره وإن كانت مما سكت عنه ولم يبلغه فلا تقرب من الجنة ولا تباعد من النار لأنه بلغ كلما يقرب من الجنة ويباعد من النار فلا طائل حينئذ تحتها ".
وكتبه محمد عبد الله ولد محمد بن أحمذي لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى عام 1348 هـ انتهى من خط القاضي المذكور. تقاريظ مشتهى الخارف ص 16ـ 18
2- وممن أنكر عليكم هذه المسائل التي نبهتك عليها العلامة الجليل أفاه بن الشيخ محمد المهدي التنواجيوي الذي كان معروفا بالإنكار عليكم وقد رام بعض شعرائكم النيل منه فرد عليه الشاعر المجيد محمد ولد ابنُ ولد أحميده الحسني بهذه القصيدة التي هتكت أستاركم وكشفت أسراركم:
إن لم تكن قد أحست البين من سلمه
لا تجر دمعا فإجراء الدموع لمه
صن بعض دمعك إن الدمع فيه لمن
يعتاده الوجد ما يشفي به ألمه
الدمع علق نفيس غير أن به
يبدو من الصب للواشين ماكتمه
فقلت لا تحج دمع الصب صائنه
إما تبين كدا في الديوان وفي بعض النسخ "حتى تبين" أن الحِب قد صرمه
ما كان أجرى لدمع البين من طلل
تلتاح فيه بقايا الآي منثلمه
عاف كوشي فرند أو كوشم يد
أسف فيه النؤور الرجع من وشمه
لم تلف فيه أريما إن وقفت به
إلا رمادا ككحل العين أو حممه
لله عصر بذي الأثل انقضى ومضى
سقيت فيه العدو المستشيط دمه
قالت أمامة: إني صرت صارمة
حبل المودة والأحشاء مضطرمه
ولست أرضى بأن ألفى مخاللة
من ليس شيخي أو أنغي له كلمه
وصرت أحسب منك الوصل منقصة(98/55)
فقلت:هذا لمه،قالت: رويدك مه في الديوان "فقلت مادا لمه ؟قلت:رويدك مه"
إني غدرت وشيخي من شمائله
غدر وإني لأقفو دائما شيمه
فقلت: ما شاهدت عيناك فيه من السـ
يما علىما ادعاه الناس من عظمه
قالت: شريعته للشرع ناسخة
والأولياء به في الدهر مختتمه
بله الكرامات قد جلت وأعظمها
أن المحارم صارت غير محترمه
وصار دين النبي الهاشمي لقى
وصار لقيا الغواني للصلاح سمه!
وشارك الشيخ في الزوجات كل فتى
قسرا ولما تكن بالعدل مقتسمه
تلفى الخرائد في حافاته حلقا
أمواج أردانها بالمسك ملتطمه
تختال في نسج صنعاء المصور في
أرجائه، وتذم البرق مبتسمه
تأتيه ليلا فرادى كي ينال لما
يهوى وتاتي نهارا وهي ملتئمه
كأنهن زليخى وهو يوسف إلـ
ــلا أن يوسف رب العرش قد عصمه
وأنه عنده شطر الجمال وأن
ما بلغت أحدا هماته هممه
كأنه بينها لو لم يكن خرقا
عرس كريم علا الأقوام في الكرمه
قالت: أتنكر ماقد قلت فيه أمن
حزب الشريف يعني (أفاه ولد الشيخ محمد المهدي) المقاس في الضلال حمه؟
المقتفي نهج طه في فعائله
من لم يكن عاملا إلا بماعلمه
فقلت: لله هذاك الشريف وما
أجرى على من أتاه منكم ديمه
فكم كسى عاري الأوصال مكرمة
منكم وكم جند جوع عنكم في بعض النسخ عنه قد هزمه هزمه
لله قلب له مبيض كل رجا
قد أودع الله في سودائه حكمه
لله هيبة ليث منه واضحة
كأنه وهو ضاح هو في أجمه
يسطو على بدع قد شبن منتضيا
صمصامة الحق حتى فئن منهزمه
قالوا: اسمه في نوادينا المضلل لا
(أفاه) قلت لهم:ما كان ذاء سمه
ولو وسمتم بهذا الإسم شيخكم
لطابقت في اسمه السيما لمن وسمه
أما الشريف فلم يعبأ بقولكم
فيه وإن كان بعض منكم شتمه
ولست أحسبه يدعى المضلل إن
نفى عن المصطفى الكتمان والتهمه
أو قال ما قاله في الكتب إن له
كفا بقول رسول الله معتصمه
صلى عليه إلاه العرش ما نسمت
صبا وما بردت من الجوى نسمه ديوان الشاعر محمد بن ابنُ بن احميدة ص 760 ـ 763(98/56)
3 - من العلماء البارزين المعروفين الذين أنكروا عليكم هذه الكفريات العلامة العلم محمد بن حبيبنا التندغي الجكني حيث يقول:
شهدنا بأن الهاشمي مبلغ
وأن طريق التيجني جنون
طريق بهاكتم الرسالة واضح
وفيها من أنواع المجون فنون
لأن طريق الحق لما تكملت
ومرت لها بعد النبي قرون
حباهم رسول الله وردا وشيخهم
له الورد عن كل الأنام مصون
ومن زار هذا الشيخ من كافر الملا
يصيرشهيدا والحديث شجون
فيالك من شيخ حبيت مزية
سمت عن مزايا الكل وهي مجون
وفيها كلام يعدل النور فضله
وأنى له ذاك الفخار يكون
فإن المزايا الغر لا بد أن ترى
عليها من السمع الصحيح حصون
وغفران حوب الكل ذاك مزية
وتلك التي منها استهل شؤون
لأن رسول الله أنذر آله
وما قام بالإنذار وهو حجون
وإعطاء أعمال العباد لحزبه
ظنون وما تغني العباد ظنون
لما فيه من تكذيب خالقنا الذي
لتكذيبه تبكي الدماء جفون
وأن ليس للإنسان يقضي برده
لمن كان نحو الحق منه ركون
وإن قلتم قدر الثواب يرده
لو أنفق ما أن يعتريه فتون
فهذا ولو شئنا ملأنا دفاترا
تضيق لها عن كتب ذاك بطون
فيا نصرة الإسلام قوموا لقطعها
وخلوا سبيل النفس فهي حرون
ولا ترهبوا في الله لومة لائم
ألم تعلموا أن الإله مثيبكم
فذاكم عدو والعدو خؤون
وليس إلى غير الإله سكون
ألم تعلموا أن الإله مثيبكم
وليس إلى غير الإله سكون
وإن لم تراعوا الحق والحق واضح
تسير بكم نحو النجاة زبون
فيا ليت شعري ما يكون جوابكم
وأنتم بأحشاء التراب رهون حصول الأماني ص 38ـ39
4- ومن أشهر من رد عليكم العلامة الأديب اللغوي الأريب الشيخ محمد عبد الله بن محمد بن أحمذي بقصيدته المشهورة التي فلق بها هامكم وهي:
في باطل أو خفت الأحلام
لاغور أن رعفت لكم أقلام
ما هكذا الإيراد والإلزام
ألزمتمونا سب أحمد شيخكم
أقلامنا، فعلام فيه نلام
من بعد ماقد برأته من الخنى
لا تنقضي أو تنقضي الأيام
إن الملام لمن رموه بسبة
يقدى بها من دينه الإسلام(98/57)
لم يبق من كفر ولا من بدعة
لم يرع منكم للإمام ذمام
إلا وقد ألزمتوه إمامكم
غرضا تفوق منه فيه سهام
فنصبتموه لمن يسئ ظنونه
نشرته من تشنيعه الأقلام
حتى إذا ما ضقتم ذرعا بما
من مثلها تتضاحك الأقوام
أنشأتم تبدون عنه معاذرا
وجها فمنها تنفر الأفهام
بفسادها معنى وشدة بعدها
ئف نقدها منكم أتاه ملام
فمن استحال محالها أورد زا
مرض يخالطه عمى وزكام
ورميتموه بدائكم فبجسمه
ـإنصاف حادت فالبريء يلام
ذي خطة جدلية عن خطة الـ
ــها جائر وذوي الهدى ظلام
والحق فيها باطل والعدل فيـ
فلمثلها تتحير الأوهام
فيها الحقائق مستجاز قلبها
بديانة عنها الأنام نيام
أوما أتت من قبلها أربابها
طه عليه تحية وسلام
أخذت شفاها عن إمام الأنبيا
إذ لم تطقها صحبه الأعلام
قد صان عن أصحابه أسرارها
آل الفلال ومن نماهم حام
فأطاقها من بعده حمالها
وله بأطباق الجحيم منام
فيها الكفور محبب عند العلي
مما اشتهاه وتقطع الآلام
فيها يطاف على الردي بفواكه
وتزول عنه فما لهن دوام
فيها تجدد للقديم صفاته
ضعفا كلام الحق حين يرام
فيها كلام الخلق يرجح أجره
بالذات جل المالك العلام
فيها معية ذي الجلال لخلقه
لنواشز النسوان فيه رجام
فيها مجالسة الرسول بمشهد
ــعاتي المصر له رضى ومقام
فيها الكبائر لا تضير بخدنها الـ
عي من برته محبة وغرام
نهلة ولقلبه تهيام
فيها ينال المسرف العاصي مسا
فجفى المضاجع جنبه فدموعه
منهلة ولقلبه تهيام
فجفى المضاجع جنبه فدموعه
حزب له بجنابها إلمام
ينفي الحساب وتسقط التبعات عن
تجدي عن المتحالم الأحلام
تلك المنى لو أنها حق فما
كي ما ينال من الطغام حطام
نصبت حبائل للطغام مكيدة
حكما إذا ما بان منه خصام
أما حكومة من به لم تقنعوا
طرا فهو للمتقين إمام
فطوائف الإسلام راضية بها
لذوي الهوى وهم هم الحكام تقاريظ مشتهى الخارف الجاني ص 18ـ19
وأئمة الإسلام خصم كلهم(98/58)
5 - أما العالم الكبير واللغوي الشهير إدييج بن عبد الله الكمليلي انظر ترجمته في الوسيط في تراجم علماء شنقيط ص368ـ369 الذي قال فيه صاحب الوسيط " نابغة قطره وجرير عصره ادييج المشهور هاجى كثيرا من فطاحل تلك البلاد فظهر عليهم " الوسيط ص 31 فقد اشتهر بقصائده العصماء التي رد بها عليكم وله أرجوزة ذاع صيتها وشاع ذكرها لما فيها من الرد المؤصل على أباطيل التجانية وإليك منها نماذج:
ونسبة الكتمان للنبي
تعد من مناكر البدعي
فورده صين عن الصحابة
فيما ادعى وخص بالأصابة
وذاك ينفي "ما على الرسول
إلا البلاغ " محكم التنزيل
و"اليوم أكملت لكم " والمكمل
دين المخاطبين أو من يرسل
وقال أيضا:
وما ادعوا من أخد هذا الورد
عن الرسول يقظة لا يجدي
إذ لم تحقق في اللقاء الدعوى
ولم تنل كرامة بطغوى
ولم يرد عن النبي المصطفى
لقياه يقظة بنور من طفى
فصح أن يخاطب التجاني
شيطانه من جهة العدناني
فالروح من عالمنا العلوي
ولا يرى العلوي بالسفلي
كيف ترى الروح بعين الراس
وذا محال كان في القياس
وهكذا شرح ابن باديس نفى
سوى المنام من لقاء المصطفى
بل عده فائدة للنوم
ومثل ذا ينفي كلام القوم
من أن خير الخلق لا يغيب
عنهم وأن شخصه قريب
وكلما أوهم رؤية البصر
مؤول إذ في البصيرة انحصر مشتهى الخارف ص 71، 108، 110، 112، 113
وقال: مشتهى الخارف ص 311
ولم يجز إطلاق لفظ موهم
نقصا على النبي مثل الأسقم
كذا مطلسم وما يدريك
لعلها كفر عن الشريك
وقال: مشتهى الخارف ص 527
وفضلوا شيخهم على الخضر
وكونه شيخا لموسى لم يضر
والخلف في الخضر هل نبي
أو مرسل أو صالح ولي
وهو على كل يكون أفضلا
ممن عليه جعلوا مفضلا
6- وممن اشتهر بالرد عليكم وعلى غيركم من الفرق الصوفية الضالة العلامة المحدث باب ولد الشيخ سيديا من ذلك قوله:
كن للإله ناصرا
وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي
يرضاه منك دائرا
ولا تعد نافعا
سواءه أو ضائرا
واسلك سبيل المصطفى
ومت عليه سائرا
أما كفى أولنا(98/59)
أليس يكفي الآخرا
وكن لقوم أحدثوا
في أمره مهاجرا
قد موهوا بشبه
واعتذروا معاذرا
وزعموا مزاعما
وسودوا الدفاترا
واحتنكوا أهل الفلا
واحتنكوا الحواضرا
وأورثت أكابر
بدعتها أصاغرا
واحكم بما قد أظهروا
فما تلي السرائرا
وإن دعا مجادل
في أمرهم إلى مرا
فلا تمار فيهم
إلا مراء ظاهرا محمد يوسف مقلد في كتاب شعراء موريتانيا ص 339-340
وقال أيضا:
آمن أخي واستقم
ونهج أحمد التزم
واجتنب السبل لا
تغررك أضغاث الحلم
لا خير في دين لدى
خير القرون منعدم
أحدثه من لم يرد
نص بأنه عصم
من بعدما قد أنزلت
" اليوم أكملت لكم "
وبعد ما صح لدى
جمع على غدير خم
وادع إلى سبيله
وخص في الناس وعم
واذكر إذا ما أعرضوا
عليكم أنفسكم شن الغارات على أهل وحدة الوجود ومعية الذات ص 172، مخطوط.وكتاب السلفية وأعلامها في موريتانيا ص 296
وقال أيضا:
آكل مال الناس بالباطل
مزخرف القول بلا طائل
مميلهم عن سنة المصطفى
إلى طريق البدعة المائل
محصل المال بلا فترة
في جمعه المانع للحاصل
عجلان في حظ له عاجل
كسلان في منفعة الآجل
يصبو إلى زخرفه عاقل
كأنه من ليس بالعاقل
اتسع الخرق على راقع
واختلط الحابل بالنابل
هذا وذو التوحيد عنوانه
إسناده الفعل إلى الفاعل شن الغرات ص 185 وكتاب السفية وأعلامها في موريتانيا 297
7 - أن العلامة والشاعر المجيد محمد محمود بن الشيخ محمد بن أحمذي قد رد عليكم في قصيدته الشهيرة وأيد حكم أخيه:
حكم المصيب لنفسه ولجنسه
بالحق لا بهوى المريب وحدسه
فنفى الذي نسب المريب لربنا
سبحانه مما نفى عن نفسه
من حبه للكافرين ورحمة
تغشاهم يوم الجزا في حبسه
ومنامهم فيها وأكل فواكه
مع قطع إحساس العذاب ومسه
وتجدد الأوصاف ثم زوالها
عنه تعاظم في علاه وقدسه
ومعية بالذات منه وغير ذا
من ترهات أخي الضلال ورجسه
واحتج بالذكر الحكيم لحكمه
عن فهم أسرار الكتاب ودرسه
فمن ادعى بطلان ذا أو جوره
خاض المهالك ثم باء بتعسه
إذ كذب القرآن والإجماع والسـ(98/60)
نن الصحيحة من شقاه ونحسه
فليستتب أمد الثلاث فإن يتب
فليأتنف عقد النكاح لعرسه
وإذا يكون خلال ذلك مسها
فليأت باستبرائها من مسه
وبفوت كنه كلامه يحتج من
أعيته حجته فمال للبسه
من رام إفحام المناظر فليجن
عليه جاء بطرده وبعكسه
شتان ما بين احتجاج ملبس
بالشطح غاب بزعمه عن حسه
فرأى صواب المسلمين جميعهم
خطأ ومال إلى عماية نفسه
وملازم في جمعه وبفرقه
أدب الخطاب بفرعه وبأسه
من كانت العوراء مفزعه إذا
ما ترجمت سنن الهدى عن رجسه
معذور إن يفزع لها في مثل ذا
لكنه جان لثمرة غرسه
من في سبيل الله أوذي صادعا
بالحق فالباوي له عن جنسه
ولذاك وطن نفسه مستمسكا
بالصبر للمولى لزورة رمسه
وأقول ذا مستغفرا مستعصما
بالله من بلوى هوا ي وبأسه
مستدركا حمد الإله مع الصلا
ة على النبي بدر الوجوه وشمسه تقاريظ مشتهى الخارف 21ـ22
8- أن العالم الجليل والمحدث واللغوي الشهير محمد ولد أبي مدين الديماني قد ألف كتابه " شن الغارات على أهل وحدة الوجود وأهل معية الذات " فرد عليكم وعلى أمثالكم في عدة مسائل.
أ - معية الذات: حيث ذكر أن بعض الضلال يقول إن معية الله تعالى تكون بعلمه وبذاته أيضا ؛ فقال:" سبحان الله كيف يسوغ لعاقل إطلاق كلام موهم على الله عز وجل مخالف لإجماع المسلمين من أهل السنة إذ من المعلوم أن "بذاته"لم ترد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا خلاف بين المسلمين في منع إطلاق الموهم غير الوارد على الله تعالى وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء... شن الغارات ص 94 اهـ
قال: وقد نظمت أبياتا بينت فيها المذاهب الضالة التي يرجع إليها القول بمعية الذات فقلت:
أما المعية بذاته فما
يملأ ذو ديانة بها فما
لأنها من مذهب النجاري
ومن على مذهب جهم جار
ومذهب الغلاة والمعتزلة
وكل من يرضى بتلك المنزلة
كما عزاه لهم أبو الحسن
أي في الإبانة كتابه الحسن شن الغارات ص 153
ب - وحدة الوجود:(98/61)
قال: " كما أن من أهم مقالاتهم المؤذنة بكفرهم تصريحهم بأنهم يرونه تعالى في دار الدنيا يقظة وذلك مبني على زعمهم أنه سبحانه عين خلقه أو حال فيه كما نص على ذلك شيخهم الحلاج بقوله ( أنا الحق وما في الجبة إلا الله ) وقد أجمع العلماء في عصره على تكفيره بما قال وعلى وجوب قتله فرفعوا أمره إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله فأمر بضرب عنقه وقتل وأحرقت جثته ورمي برمادهافي دجلة وكان على نحو مذهب الحلاج جماعة آخرون فصلبهم أهل السنة وقتلوهم المرجع السابق ص156-157 ... - إلى أن قال - ودعوى أصحاب وحدة الوجود والحلول والإتحاد في غاية البطلان لأن الأدلة النقلية والبراهين العقلية قاطعة باستحالة ما يقولون على الله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - فمن زعم أن الله عز وجل هو عين مخلوقاته أو أنه حل في شيء منها فهو ضال وكافر بالإجماع " المرجع السابق ص165-167
ج - العلم اللدني :
قال رحمه الله تعالى:
ومن يقل من مدعي ولاية
أن له من ربه عناية
دون اتباع المصطفى خير البشر
في باطن وظاهر فقد كفر
وقصة الخضر والكليم لم
يكن لهم فيها احتجاج قد ألم
لأن موسى لم يكن بمرسل
للخضر النبي في القول الجلي
فما على الخضر أن يتبعه
لذاك لما اختلفا قد ودعه
مصرحا بأنه علم ما
لم يك موسى ذو العلوم علما
ومن يقل كمثل ما قال الخضر
للمصطفى نبينا فقد كفر
فالمصطفى عن البرايا فضلا
ولجميعهم بشيرا أرسلا
فلو أتى الخليل والكليما
وخضرا لاتبعوا الكريما
وما جرى من خضر إذا سبر
يوافق الكليم فافهم واعتبر
لذاك لما بين الأسبابا
وافقه وترك العتابا
فانظره في الزرقاني والفرقاني
تجده في الفرقان والزرقاني
وانظره في الفتح وفي الرياض
شرح الشهاب لشفا عياض
والقرطبي المرتضى للمسلم
بينه في شرحه لمسلم
وانظر له إن شئت في النهاية
لابن كثير تكمل الكفاية المرجع السابق 211(98/62)
9- وممن فند أباطيلكم في اتهاماتاكم له - - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان العلامة الشيخ أحمد ولد محمد حبيب الرحمن فقال:
وقول من قال من الأجلا
مبينا ما كتمه قد حلا
وإن تمشينا على ما زعما
لا يجب التبليغ فيما كتما
بل يجب التبليغ فيما سئلا
عنه من الأحكام أو ما أنزلا
وغير ذا تبليغه لم يجب
لو فرضت صحته في الكتب
ما ساغ بالتقييد ذا أن كتما
صلاة فاتح لما قد رسما
في منية الحبر التجاني أنزلت
من حضرة الغيب لمن له رست
ثم اعتقاد أنها كلام
رب الورى وما بذا ملام
وما على النبي صلى أحد
بمثلها قال النبي أحمد
يعني صلاة الفاتح التي اشتهر
رجحانها بكل ذكر مستطر
على الذي عزي لخير من هدى
في كتبه حزب التجاني أحمدا
فهي لما قال من المنزل
ومن كلام الله جل الأزل
وفضلها الهادي لذا لا يجهل
وصحبه عن الصلاة سألوا
بقولهم كيف نصلي فظهر
أن ليس سائغا لأنصح البشر
إيثار غير صحبه عليهم
بما من الخير الكثير يعلم
وكتم ما الفوز به يكتسب
نسبته إلى النبي عجب
إذ ما لنا به انتفاع لم ينم
عن شيء الأمين منه منكتم
والموت للوحي به انقطاع
كما عليه انعقد الإجماع
صلى وسلم على من صانه
بالصدق والتبليغ والأمانه
وأكمل النصح عن الخيانه
رب له قد أكمل الديانه التقاريظ ص 29ـ 30
10- وممن رد على عقائدكم المخالفة للشرع عالم أوانه وفريد زمانه شيخ الإسلام محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المعروف ب" آبّ " فمن ذلك قوله في تفسير سورة الكهف:"وما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة وذريعة إلى الإنحلال من دين الإسلام بالكلية بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره " أضواء البيان 4/123ـ124 اهـ(98/63)
وقال في تفسير سورة الحجر عند قوله تعالى: - { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - } [ الحجر 99 ]ما نصه: " التنبيه الثاني: اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة، إن تفسير لأية بهذا كفر وزندقة وخروج عن ملة الإسلام بالإجماع وهذا النوع لا يسمى في الإصطلاح تأويلا بل يسمى لعبا كما قدمنا في سورة آل عمران، ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته والله جل وعلا يقول - { إنما يخشى الله من عباده العلماء - } والعلم عند الله تعالى." أضواء البيان 3/157
11- من الرد البليغ على التجانية ماقاله العالم الديماني ابن بدح وسلمه جمع من العلماء كباب بن محمود بن محنض باب:
من لم يكن معتقد التجاني
لم يك في اعتقاده بالجاني
وغير آخذ طريقه برى
في الشرع من لوم ولم يكفر
لا سيما إن كان ذا توقف
وذا احتياط في الذي لم يعرف
ولم يك الشرف والولاية
في حقه بسنة أو آية
حتى يكون ناسخا للشرع
ما كان من أصل له وفرع
لأن أس ما بناه واه
وغير وارد عن الأواه
وما عليه دس أو عنه ثبت
عنه نصوص الشرع كلها أبت
وليس عن منقوده يجيب
تعصبا منتصر مجيب
فالدين جوهرأخي فرد وحق
وهو من سواه بالحري أحق
ولا هوادة ولا مداجنه
ولا محاباة ولا مداهنه
والله قد أكمله فلا تحد
عنه ولا تنقص أخي ولا تزد
فأمره مفوض للشارع
فلا تعارضه ولا تنازع
وليس مما بلغ العدناني
عن العلي طريقة التجاني
وإن يكن وليا أو شريفا
فاتبع السنة لا تحيفا
بل إنها طريقة مبتدعه
وملة شنيعة مخترعه(98/64)
ولم تكن شرط كمال ينعدم
بدونها من الكمال ما ختم
ولم تكن شرطا مصححا لما
من ديننا قد صح عند القدما
ولم تكن ركنا إذا ما انعدما
ينهدم الدين الذي ما انهدما
ولا تقل فيها الصلاة والصيام
وغير ذا من القواعد العظام
إذ لا بقا مع بدعة لقاعدة
ولم تكن للدين معها فائدة
لأن ذا البدعة ذو استدراك
على العلي فهو ذو إشراك
وكاذب على النبي مكذب
له وناف ماله قد يجب
من عصمة تستلزم الأمانة
وتمنع الكذب والخيانة
وذو اتهام للإله والرسول
فاردد عليه فعله وما يقول
واترك لتشريع العلي تشريعه
وأعلنن بين الورى تشنيعه
ولا بقا للفرع دون الأصل
في ديننا بالعقل لا والنقل
فلم تكن بما سوى المشروع
بمثبت الأصول كالفروع
للشرع الإيمان ككفر قد ثبت
من الفروع عنهما ما قد نبت
فبسوى السنة والكتاب لا
تثبت ولا تنف عن الله علا
إذ منهما قد يعلم الإيمان
ويعلم الإسلام والإحسان
ومنهما قد تعرف الهداية
كذا العدالة مع الولاية
كضدها لا إن ثم مثبت
من عقل أو هوى به قد يثبت
فكل مثبت بغير دين
لأحد حكما قرين مين
فمثبت الرتبة والمقام
دون الشريعة أخو ملام
هيهات فالتشريع دهره انقضى
وختمه قل جرى به القضا
ولم يك التشريع بالمنام
كلا ولا الكشف ولا الإلهام
فبالكتاب مسكنا والسنه
من ههنا إلى دخول الجنة حصول الأماني ص 49 ـ 51
وقد قرظ هذه الأرجوزة الشيخ بابا ولد محمود ولد محنض بابا فقال:
جزيت يا ابن بدح إحسانا
ونلت ما ترجوه من مولانا
نظمت نظما رائقا حسانا
نظما يحاكي الدر والعقيانا
به قمعت الغي والخسرانا
فوضح الحق به وبانا
ضمنته ما وافق القرآنا
وسنة المختار من عدنانا
ك
به ردعت البيض والسودانا
والقوم والنسوان والصبيانا
أن يصطلوا بالبدع النيرانا
لم تخش لوم لائم ما كانا
ولم تك مداهنا إنسانا
مخافة الإفلاس والليانا
إلى آخر الأبيات المرجع السابق ص 51(98/65)
12-كذلك من أشهر من رد عليكم الإمام العلامةمحمد رشيد رضا فقال:" كان من فساد هذا التصوف الذي بثه الشعراني وأمثاله في المسلمين أن وجد في المغرب الأقصى في القرن الثالث عشر للهجرة شيخ اسمه الشيخ أبو العباس أحمد التجاني صار له طريقة من أشهر الطرق امتدت من المغرب الأقصى إلى السودان الفرنسي والجزائر فتونس فمصر وصار لها مائات الألوف من الأتباع لما فيها من الغلو في الدعاوي والخرافات والإبتداع وتفضيل شيخها نفسه على جميع من سبقه من أقطاب الأولياء وكذا الأنبياء بأمور منها ضمان النبي - - صلى الله عليه وسلم - له ولأصوله وفروعه وأتباعه ولكل من يكرمه ويحسن إليه ولو بالطعام أعلى منازل الجنة مع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بغير حساب ولا عقاب لأن جميع معاصيهم وتبعاتهم تغفر لهم لاجله... إلخ، كأن الغرض من طريقته أكل أموال الناس وطعامهم والجاه عندهم خلافا لجميع صوفية العالم وقد ألف أحد أتباعه كتابا كبيرا في مناقبه وكراماته وأوراده تلقاها من لسانه وقلمه هدم بها هدي كتاب الله وسنة رسوله مدعيا أنه تلقاها منه رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - " تفسير المنار 11/426 .اهـ(98/66)
13- قال العلامة المبرز مفتي الديار المصرية سابقا وعضو هيئة كبار علماء الأزهر الشيخ محمد بخيت المطيعي الأزهري:"وقد سئلنا مند خمس سنين من أحد العلماء الأجلاء ممن يغارون على الدين عما نسب إلى التجاني وأتباعه... وملخص ما جاء في السؤال هو أن شيخ الطريقة التيجاينة قال عن صلاة الفاتح إنها من كلام الله القديم وأنها بمنزلة القرآن وأنه ينبغي لتاليها إعتقاد ذلك لينال ثواب قارئ كلام الله وأن من لم يعتقد ذلك لا يصح له الثواب وغير ذلك من المفتريات، فأجبت على ذلك بما يأتي: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسائر أتباعه وحزبه أما بعد فقد اطلعنا على ما جاء في هذا السؤال ونقول: قال الله تعالى: - { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم - } ...- إلى أن قال - فلا يجوز ولا يحل أن يطلق على شيء من كلام البشر بعد النبيين أنه من كلام الله القديم... – إلى أن قال - قال الله تعالى: - { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء - } قال أهل العلم وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده بأنه لا يمنع خصوص السبب من عموم الحكم إذا علمت ما تقدم فنقول إن صلاة الفاتح لما أغلق لا يصح ولا يجوز أن يقال إنها من كلام الله القديم وقوله أنها كالأحاديث القدسية ؛ فالمنقول عن علماء الأصول كما في شرح الحسامي (أن الأحاديث القدسية من الوحي الذي ليس بمتلو لم ينزل إلا معناه ) أي ليس لفظه من الله وفي حاشية ابن عابدين ( خرج بالمنزل غير المنزل كالأحاديث الإلهية ) وفي المرآة (أن الحديث القدسي من النظم غير المنزل) " تقاريظ المشتهى 9-11 بتصرف(98/67)
14- اعلم أن التجانيين في هذا البلد قد استأجروا الأديب محمد الحافظ ولد أحمد للدفاع عنهم فرد عليه العلامة والشاعر الشيخ محمد ناصر السنة في نفس البحر والقافية ردا مفحما فلم يستطع بعد ذلك أن ينبس ببنت شفة:
ألا حبذا أهل التقى والتحنف
على مهيع الهادي وأهل التهنف
هم المنكرون المحدثات وإنهم
لأهل صفاء خالص من تطرف
صدور بأنواع المعارف أفعمت
ففاضت يقينا لم يشب بتفلسف
أرف بهفهاف من الشوق نحوهم
وأرنو إلى لألائهم في تلهف
أولئك أقمار الولاية إنني
إلى نفحات منهم ذو تشوف
وهيهات لقياهم فلست أراهم
بغير حديث أو يراع مصنف
على رسمهم أبقى أرقرق أسجما
لعل رسيم الحب مسعف مقتف
فأجني به وصلا على درب سنة
وأطوي مسافات بسير مؤنف
ألا سدف من ذلك الهدي مسدف
لليل بتشريع الخرافة مشدف
ألا عبق من ذلك النشر فائح
يعمق في قلبي صريف التعرف
أعايش إشراق العقيدة منشدا
أهازيج توحيد ندي مشنف
رزينا إذ ما مِسْت من وقع آية
ولست بفنان ولا ذي تكلف
تفيأت أفنان المحجة لا أُرى
بأحضان هوف للشرائع جفجف
ودين السكارى عفت إني مكلف
وتلك خطابات لغير المكلف
نبذت وليا لا يوالي موحدا
ولي بتدجيل وأسرار أحرف
طروب إذا ما الغانيات تكشفت
وإن هد ركن الدين لم يتزنف!
دعي فناء في الهوى وفناؤه
عن الشرعة الغراء في كل متلف
سليل لحي رام مسخ عقيدتي
وأوَّل تشريعي بكل تعسف
تشبثت بالإسناد أبطل سحره
ورتلت فرقاني فألّت بمصحف
ظواهر آيات رجوما لكاهن
ومسترق من باطن اللفظ مسرف
أيا واهفا ميت الطريقة نافخا
به روح أسحار وعلم مزيف
أتبدل فيحاء الرياض منيرة
بقفر كئيب أغطف الليل مسنف
تنكرتَ للجهال في ثوب عابد
وأخفيت في الوجدان صلبان أسقف
أسقف
فبح باسم من تهوى وجاهر ببدعة
جراثيمَ في أسرار سرك تختفي
أقول لمن يحمي سخافات بدعة
عليك بتزويق وقول مزخرف
وأصل بأضغاث المنامات والهوى
ودع ذكر إسناد الحديث المشرف
فمالك والإسناد في عرض منهج
بحدثني قلبي عن الرب مكتف(98/68)
جعلتَ عمائي عن ضلالة محدث
عمىً أي قول في الخطيئة موكف
عن الذكر يعشو من يوزف قاصدا
قاصدا
جحيم صراط أسقم الحال مجنف
عن الذكر يعشو من تبلد عقله
يقول نعم تقليد كل مخرف
وما قال لا دهرا ولو في تشهد
أسير حلول للنصوص مجئِّف
ومن شدة التوحيد أصبح سارقا
بلا خجل من ربه بعض أحرف
ومن شدة التوحيد قدس ذاته
وقال: لنا في الكون كل التصرف
بجوهرة النقصان أضحى موظفا
وليس له في العلم أي توظف
أيا رب زلفى في الجنان عظيمة
لعبد ضعيف مشفق متزلف
وكأس اهتداء باقتداء مشعشع
لأحسوه في لذة وترشف
وفتحا نظيفا ليس فيه تخلع
ورنة مزمار وقرقف منزف
ووصلا بلا رقص وزحف إلىالخنا الخنا
وهزة رعبوب لكشح مهفهف
وطهرا من الأخطا وإن هي أسرفت
ببحر من الإحسان والصفح زعرف
صلاة على ماحي الضلالة ساطعا
بفجر جميل صادق المد مسدف
15- ومن أشهر من رد عليكم وعلى أمثالكم من الطرق الصوفية المبتدعة العلامة الجليل والشاعر المجيد محمد مولود ولد أحمد فال المباركي –رحمه الله – فقال:
هوى ما هوى ما ازداد في العمر يزدد
وليس له من مصدر بعد مورد
هوى لخلوب اللحظ ما أنا قبلها
وذكر الهوى هل ذو هوى منه مفتدي
سأعرب عنها باسمها اللذ إنها
زبيد فما أكني بليلى ومهدد
تصيدني منها وما كنت قبلها
وقوع الشوى في كفة المتصيد
مصائد غر تدّري طرر الورى
بساحل جن فوقها متمرد
تخيرها وهو الخبير حبالة
متى ما يضعها لا محالة يصطد
كأمنية المشتاق أنسا وبهجة
يديك على أمثالها ويك فاشدد
تنوء فتأتي بالتكاليف جيرة
لها ميس غصن البانة المتأود
كما الصنج أو نأي بكف كرينة
ولا بربط تغتاله يد معبد
بأشهى إلى الآذان من وقع نعلها
ووسواس حلي في قنى لم يخدد
فعدِّ وسل الهم عنها فإنما
حمى السنة الغراء همي ومقصدي
تفسخ منها أهلها وتواكلوا
رعايتها فاغتالها كل معتد
تسمى لنا باسم الولي جهالة
وإن تتفقد وصفه فيه تفقد
غوي مبين يأتلي لَعلى هدى
أما والهدايا إنه غير مهتد
وأي ولي كان أطيب كسبه(98/69)
رشى نزوات بين آم وأعبد
يروح ويغدو في المحارم دائبا
دؤوب مغيٍّ في الغواية مسئد
يدور به ما يشتهي من نواعم
ميامس وقح بين عون ونهد
تمتع قليلا ويك إنك مجرم
فما لك من الَاذوى لدى المضجع الردي
أفسقا بواحا وادعاء ولاية؟
(ألست تر ى أن قد أتيت بمؤيد؟)
ألم يعلموا أن الولي هو الذي
تولاه مولاه بنصر مؤيد
فقام بأمر الله يحمي ويحتمي
ويهدي إلى قصد السبيل ويهتدي
ولم يتخذ لهوا مدى الدهر دينه
ولا لعبا ما العارف الحق من دد
فباطنه سر مصون عن الورى
وظاهره نور مبين لمقتد
أولاك الألى إن جئت يغنيك لحظهم
عن اللفظ فانظر واصدق القصد تسعد
وهم أصفياء الله من أصفيائه
وهم جلساء الله في كل مقعد
ألا وا أمير المؤمنين لأمة
على أمة ليست بأمة أحمد
هم وضعوا فيها أحاديث لم ترد
عن الرسل إلا عن سجاح وأسود
فليس ابن مسعود لهم بمساعد
عليها ولا سهل بن سعد بمسعد
وقد فرق الفاروق في الدين فرقه
فأية دعوى يدعي الجاهل الردي
فأغووا بها غوغاء تحسب غيهم
من الرشد ما إن تعرف الأمس من غد
خداعا لهم عن مالهم فتفوقوا
بها ما لديهم من طريف ومتلد
وأيدهم من ليس يخشى من الذي
بناها بأيد فوقه بطش أيد
يريد وأنى للدني مرامه
ليغلب دين اللات دين محمد
أماني عند الزاهرات تسوقهم
إلى الحتف فاردي شيعة الغي وابعد
وتهدى إليهم بالمودة فرقة
رجاء لنصر منهم لم يؤيد
وأدهن أهل الرشد أو غاب عنهم
هداهم فهم في حيرة وتردد
فذو الرشد يهديهم إليه كمبصر
مع العُمي أو مستيقظ بين هجد
فلم تر منهم زاجرا عن غواية
ولا مكفهر الوجه في وجه ملحد
دعوت وغربت الدعاء لو أنني
دعوت سميعا أو مصيخا لمرشد
وأنذرتكم صماء إن لم تصبكم
تحل قريبا منكم أو كأن قد
وقد كنت –والمستغفر الله –مدهنا
فقدني من الإدهان في غيهم قد
هم الرجس فاحذرهم مقالة معرب
فصوب بها ما شئت عني وصعد
وهبكم مجيريهم وذو العز جاره
عزيز، عزيز جاركم لم يصرد
أترضون أن يلفى أخو الغي ضاربا
لديكم بأعطان الخنى لم يقرد(98/70)
وما حقه إلا نكالا ومن يزغ
عن الحق من أوزاغكم لم يفند
وأن تزجروا المفتون عن هفواته
ويطرد من ساحاتكم أي مطرد
فلو أدركوا خير الورى لأبادهم
بضرب طلفح أو بطعن مشرد
ولو أدركوا أصحابه لتجللوا
سناسن حدبار من الشر أنكد
وأقسم برا أيمنا لو تنالهم
يدي لأقرت عين أعدائهم يدي
فمعذرة مني إلى الله إذ يرى
هواني وعند الله غيبي ومشهدي
وإني وربي ناصري إن نصرته
على كل من يبغي علي ويعتد
لآوي إلى ركن شديد وعترة
فلا تحسبن الله مخلف موعدي
الوجه الثالث:
يدل كلامك على أن العلامة الشيخ محمد الحسن بن الددو - حفظه الله - لم يرد عليك وهذا كذب لأنه عندما التقى بك رد عليك ردا مسكتا مفحما فقال لك: " هل تتوسل به - - صلى الله عليه وسلم - في حالة الصحو أم في حالة المحو فقلت له أنك تتوسل به في حالة الصحو لأن حالة المحو أشرف من ذلك وأفضل، فقال لك:" فأنت لا تتوسل به إلا في أسوأ حالتيك ولا تعطي لأفضل الأنبياء والمرسلين إلا أرذل أحوالك " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.
والوجه الرابع:
قولك " فأفردت بحثا بينت فيه صحة الحديث" يفيد أنك ألفته بهذه المناسبة وهو باطل لأنك قرأته علي في المناظرة قبل سنوات وهو هو في الجوهر والمعنى إلا ما زدت فيه أو نقصت كما هو موجود في الأشرطة.
الوجه الخامس:
أما قولك " وقفت على منشور " فباطل أيضا لأنني عندما جمعت ذلك الرد وأعطيته لأحد الثقات من الإخوة ليطبعه ويعطيك نسخة منه ويرد إلي نسخة فقط، ليس إلا فأين النشر ؟ فما نشرته في وسائل الإعلام ولا في شبكة المعلومات الدولية ولا أرسلت منه نسخة لأحد لأن قصدي هو النصح فيما بيني وبينك والإصلاح ما استطعت ثم لو نشرته فلا ضير !.
الوجه السادس:
قولك:" غير موقع بسم أحد " كلام ممنوع لأنني:
أولا - أرسلته لك مع أحد الثقات.
ثانيا - قد شافهتك في المناظرة بمعناه.(98/71)
ثالثا - ينبغي أن يكون المهم عندك هو الحق بغض النظر عن معرفة القائل فالمؤمن يتعامل مع الأدلة والقول لا مع المستدل والقائل.
رابعا - أنني لو صرحت لك باسمي لخفت ولم تقم بهذا الرد بدليل أنك هربت من المناظرة.
الوجه السابع:
أما قولك بأنني حرفت الأنقال أو لفقتها أو دلستها فهذا كذب لم تأت عليه بمثال واحد - { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - } بل كنت أنقل الكلام بحروفه وأعزوه إلى أحد تكتبكم المعتمدة بالجزء والصفحة والواقع هو كما يقال:" رمتني بدائها وانسلت " فأنت الذي دلست ولفقت وحذفت ما فيه الحجة عليك في مواضيع كثيرة وإليك عشرة أمثلة منها:
1- في ص 19 حذفت من كلام الذهبي في ترجمة البسطامي من سير أعلام النبلاء (13/88) ما لا يوافقك وهو قوله:" وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها الشأن في ثبوتها أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر والغيبة والمحو فيطوى ولا يحتج بها إذ ظاهرها إلحاد مثل: (سبحاني، ما في الجبة إلا الله... ) إلخ " اهـ ثم قلت هذه عبارة الذهبي لتوهم أنك نقلت كلامه كاملا
2- في ص 24 حذفت من كلام التجاني في جواهر المعاني (1/188) ما هو حجة عليك وهو قوله:" إن الكفار والفجرة والمجرمين والظلمة فهم في ذلك التخليط الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهي فإنهم في ذلك ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومراده …" اهـ
3- في ص 24 أيضا حذفت من أول كلام التجاني في جواهر المعاني (2/239) ما سوى فيه بين الكافر والرسول في القرب من الله وهو قوله:" إن الخلق كله بالنسبة إلى الله في قربه منها كلها على حد سواء فالكافر والرسول على نسبة واحدة في ذلك كله والحق في ذلك كله لا متصل ولا منفصل فهو قريب في غاية القرب وأبعد من كل بعيد " اهـ(98/72)
4- في ص 28 بترت كلام التجاني لأنه نص لا يقبل التأويل في وحدة الوجود وهو قوله:" على ذلك وقد قلنا إن الحضرة في غاية الصفاء لا تقبل الغير والغيرية لأن الله تعالى إذا تجلى بكمال جلاله للعبد أماته عن جميع الألوان فلم يعقل لا غيرا ولا غيرية فهذا غاية الصفاء " اهـ
فانظر كيف كتب " ولم يقدر " وبترها عنما هو متعلق بها " على ذلك …"
5- في ص 31-32 بترت كلام ابن عربي وهو:" فإن قيل له: كيف الأمر ؟ قال: نسب تظهر فيه منه له فما ثم في ثم إلا هو وهو عين ثم وهذا مذهب أبي يزيد البسطامي بالحال " اهـ
6- في ص 35 حذفت أول الآية لصراحتها في النهي عن الإستغاثة ودعاء غير الله وهي قوله تعالى: - { ولا تدع مع الله إله آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون - } .
7- في ص 35 بترت آخر حديث من عادى لي وليا لأنه صريح في الرد على أهل وحدة الوجود كما قال الحافظ في فتح الباري (3/2858) .
8- في ص 35 حرفت حديث ((كان الله ولم يكن شيء قبله )) وفي رواية ((كان الله ولم يكن شيء غيره )) فرويته بلفظ ((كان الله ولا شيء معه )) وهذا الله اللفظ لا أصل له.
9- في ص36 جذفت من وسط كلام التجاني في الجواهر (1/91-92): " وهو آمن من كل ضرر يلحقه في الدنيا والآخرة " لصراحتها فيما أنكرت من دعوتكم إلى الأمن من مكر الله.
10- في ص 48 حذفت من وسط كلام ابن عربي الذي نقله صاحب جواهر المعاني (1/14-15):" وذلك معلوم عند أهل الله عز وجل ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفصيلها فإنه حظه من ربه عزل وجل …-إلى قوله- ولو أنك يا أخي سلكت على يد شيخ من أهل الله عزل وجل لأوصلك حضرة شهود الحق تعالى فتأخذ منه العلم بالأمور عن طريق الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر كما أخذه الخضر عليه السلام فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر وظن وتخمين " اهـ(98/73)
11- في ص 114 حذفت من أو ل كلام التجاني في الجواهر (1/64) في محبة الله للكفار وتنعمهم في النار ما فيه حجة عليك.
12- في صفحة 115 حذفت من أول كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/2370) ما فيه حجة عليك مما أخل بمعنى كلام الحافظ رحمه الله.
الوجه الثامن :
قولك "فاقتضى النظر عندي أنه من الواجب علي أن أرد عليه " فهذا دليل على أنك متبع لهواك ونظرك لا متبعا للكتاب والسنة ومن أنت حتى يكون لك نظر
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند ؟
الرد على قواعد المفتاح
قال مفتاح التجاني:(98/74)
" أما المحور الأول المتعلق بالقواعد التي تجب مراعاتها فمنه قول الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/160) (والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر) ومنه قول الإمام ابن السبكي في قاعدته في المؤرخين ص 79 ( فلا ينبغي أن يقبل قول مخالف في العقيدة على الإطلاق إلا أن يكون ثقة وقد روى شيئا مضبوطا عاينه أو حققه، فقولنا مضبوطا احترزنا به عن رواية ما لا ينضبط من الترهات التي لا يترتب عليها عند التأمل والتحقق شيء وقولنا عاينه أو حققه، ليخرج ما يرويه عمن غلا أو رخص ترويجا لعقيدته ) ومنه قوله أيضا في قاعدته في الجرح والتعديل ص 45-55 (ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح أيضا حال الجارح في الخبرة بمدلولات الألفاظ، فكثيرا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها والخبرة بمدلولات الألفاظ ولا سيما الألفاظ العرفية التي تختلف باختلاف عرف الناس وتكون في بعض الأزمنة مدحا وفي بعضها ذما أمر شديد لا يدركه إلا قعيد بالعلم ) ثم قال: ( لا شك أن من تكلم في إمام استقرت في الأذهان عظمته وتناقلت الرواة ممادحه فقد جر الملام إلى نفسه ) " اهـ ص3.
الوجه الأول:
اعلم أن هذا من مباحث علم مصطلح الحديث ولكن لجهل هذا المفتاح بالحديث وعلومه لم يأت البيوت من أبوابها فلم يحرر هذه المسائل من علم مصطلح الحديث ولما كان بهذه الدرجة من الجهل فهأنذا أتبرع له بذكر نبدة صالحة من مؤلفات هذا الفن الذي يجهله جهلا مركبا فأقول مستعينا بالله:
- أول من ألف فيه أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي (ت360هـ ) واسم كتابه ( المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) لكنه لم يستوعب لأنه هو أول من جمع هذا العلم.(98/75)
- ثم جاء بعده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري محمد بن عبد الله ( ت 405 هـ ) واسم كتابه ( معرفة علوم الحديث ) وهو أول من هذب هذا العلم حيث ذكر 52 نوعا ؛ وقد لخصه طاهر بن عاشور الجزائري (ت 1338هـ ) في كتابه توجيه النظر.
- ثم جاء أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني(ت 430هـ ) فعمل على الحاكم مستخرجا وبقيت عليه أشياء لم يذكرها.
- ثم الحافظ الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي (ت 463 هـ ) فصنف في قوانين الرواية كتابه ( الكفاية في قوانين الرواية ) وفي آدابها كتابه ( الجامع لآداب الشيخ والسامع )، وله كتب مفردة في أكثر فنون هذا العلم.
- ثم القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ ) فجمع كتابه ( الإلماع في ضبط الرواية وتقييد الأسماع ) وهو جزء لطيف.
- ثم أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانجي (ت 580 هـ) جمع جزءا سماه ( ما لا يسع المحدث جهله ).
وبعد كل هؤلاء وغيرهم جاء الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ( ت 643 هـ ) فصنف كتابه علوم الحديث المعروف بـ(مقدمة ابن الصلاح ) لما تولى تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية وجمع فيه ما تفرق في غيره من كتب الخطيب وغيره حيث ذكر فيه 65نوعا وقد اعتنى به أهل العلم تدريسا واختصارا وشرحا ونظما ومعارضة وانتصارا.
- فلكل من الزين العراقي (ت 806هـ ) والبدر الزركشي (ت 794هـ ) والحافظ ابن حجر ( 852هـ ) نكت عليه.
تسمى نكت العراقي (التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح ) وتسمى نكت ابن حجر ( الإفصاح عن نكت ابن الصلاح).
- واختصره الإمام النووي(ت 676هـ ) في كتابه الإرشاد ثم اختصره في (التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ) وهو الذي شرحه السيوطي (ت 911هـ ) بكتاب (تدريب الراوي) كما شرحه زين الدين العراقي والسخاوي وبرهان الدين القباقبي الحلبي ثم المقدسي (ت 851 هـ ) وللسيوطي أيضا كتاب ( التذنيب في الزائد على التقريب).(98/76)
- واختصره أبو الفداء اسماعيل بن كثير (ت 474هـ ) في كتابه (اختصار علوم الحديث) الذي شرحه أحمد محمد شاكر وسماه (الباحث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ).
- واختصره مع التهذيب والزيادات الحافظ البلقيني (ت 805هـ )وسماه (محاسن الإصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح )، واختصره علاء الدين المارديني وبهاء الدين الأندلسي وكثير من العلماء.
- واختصره بدر الدين محمد بن ابراهيم بن جماعة (ت 733 هـ ) بكتابه ( المنهل الروي في الحديث النبوي )وشرحه سبطه عز الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة ( ت 819هـ) وسماه (المنهج السوي في شرح المنهل الروي ).
- وقد نظمه زين الدين العراقي عبد الرحيم ابن الحسين وزاد عليه في ألفيته:(نظم الدرر في علم الأثر ) وشرحها شرحا مطولا ومختصرا طبع بسم (فتح المغيث في شرح ألفية الحديث ) وعلى شرحه حاشية لبرهان الدين عمر بن ابراهيم البقاعي (ت 885هـ) وبلغ بها النصف وتسمى ( النكت الوفية بما في شرح الألفية) وحاشية لقاسم بن قطلوبغا (ت 879هـ ).
وشرحها السخاوي (ت 902هـ ) في (فتح المغيث في شرح ألفية الحديث ) وهو أوفى شروحها وأفضلها.
- وشرحها زكريا الأنصاري (928هـ) واسمه (فتح الباقي بشرح ألفية العراقي ) وعلى شرحه حاشية لعلي بن أحمد العدوي (ت 1189هـ)في مجلد.
- وشرحها جلال الدين السيوطي في (قطر الدرر) وشرحها قطب الدين الخضيري (ت 894هـ) (صعود المراقي شرح ألفية العراقي ) وشرحها زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العيني (ت 983هـ ) وشرحها ابراهيم بن محمد الحلبي (ت 955هـ)وأبو الفداء إسماعيل بن جماعة (ت 861هـ).(98/77)
- وللسيوطي ألفية عارض بها ألفية العراقي جمع بها زيادات كثيرة وشرحها في كتابه (البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر) ولم يتم، وشرحها محمد محفوظ التمرسي واسمه (منهج ذوي النظر بشرح منظومة علم الأثر ) وفيه أوهام وأغلاط وللشيخ أحمد محمد شاكر حاشية على هذه الألفية وأجود شرح لها هو (إسعاف الوطر بشرح نظم الدرر في علم الأثر ) لمحمد بن علي بن آدم الأثيوبي المولوي في مجلدين وله شرح أكبر من ذلك.
ومن الكتب في هذا الفن مختصر لتقي الدين محمد بن علي بن دقيق العيد(ت702هـ)يسمي (الإقتراح) ؛ ولأبي الخير محمد بن محمد الجزري ت (833هـ)مقدمة في علوم الحديث وله أيضا (تذكرة العلماء في أصول الحديث ) ,(والخلاصة في أصول الحديث) لشرف الدين حسين بن محمد الطيبي (ت743هـ)؛(والمختصر ) المنسوب إلىالشريف الجرجاني(ت816هـ) وعليه شرح جيد لمحمد عبد الحي اللكنوي (ت1304هـ)سمي (ظفر الأماني شرح خلاصة الجرجاني) وليوسف بن عبد الهادي الدمشقي (ت 909هـ) مختصرا سماه (بلغة الحثيث في علوم الاحديث)؛ وكتاب (المختصر في مصطلح أهل الأثر) وشرحه المسمى (خلاصة الفكر في شرح المختصر)كلاهما لعبد الله بن محمد الشنشوري الفرضي (ت999هـ).
- ومن أنفع الكتب المختصرة ((نخبة الفكر في مصطلح علم الأثر)) للحافظ ابن حجر العسقلاني وقد شرحها في (نزهة النظر) وعلى شرحه حاشية للقاني (ت1041هـ) تسمى (قضاء الوطر من نزهة النظر)، وحاشية لابن قطلوبغا.
- وشرح لولدالمصنف كمال الدين محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني واسمه (نتيجة النظر في شرح نخبة الفكر)، وشرح لكمال الدين الشمني محمد بن حسن المالكي (ت821هـ) وشرح على شرح المصنف لعلي بن سلطان القاري (ت1014هـ)سماه (مصطلحات أهل الأثر على شرح نخبة الفكر ).(98/78)
وحاشية للعلامة ابن الصائر (ت1066هـ) وشرح لمحمد بن أكرم بن عبد الرحمن المكي سماه (إمعان النظر في توضيح نخبة الفكر) وشرح شرح المصنف لعبد الرؤوف المناوي (ت1031هـ) إسمه (اليواقيت والدرر في شرح نخبة الفكر )وشرح لمحمد صادق بن عبد الهادي السندي (ت 1138هـ)يسمى (بهجة النظر بشرح نخبة الفكر ) وعلى شرح المصنف حاشية عبد الله بن الحسين السمين العدوي تسمى (لقط الدرر) ولكمال الدين محمد بن محمد بن أبي شرف المقدسي حاشية على النخبة وشرحها
- وكذلك نظم النخبة كمال الدين الشمني وشرح ولده هذا النظم وهو أحمد بن محمد الشمني (ت872هـ) وسماه (عالي الرتبة في شرح نظم النخبة) ونظمها شيخ الإسلام محمد رضي الدين أبو الفضل الغزي (ت935هـ) وسماه (سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر ونظم نخبة الفكر ) لابن حجر.
- ونظمها أبو حامد سيدي العربي ابن أبي المحاسن الفاسي (1052هـ) وسماه (عقد الدرر في نظم نخبة الفكر) ونظمها شهاب الدين أحمد بن محمد الطوفي (ت893هـ) ونظمها الصنعاني (ت1182هـ) في يوم واحد وهو أكثر من 200 بيت نظما يسمى (قصب السكر) وهو مطبوع مع شرحه (ثج المطر) ونظمها الشيخ محمد بن أحمد بن سيد أحمد بن زاروق الكنتي في يومين وعدد أبياتها حوالي 150 بيتا واسمه (عقد الدرر في نظم نخبة الفكر ).
- ومن هذه المصنفات أيضا نظم (طلعة الأنوار) لسيد عبد الله ولد الحاج ابراهيم وشرحها للمشاط والقصيدة الغرامية لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن فرح الإشبيلي (ت699هـ) وشرحها لقطلوبغا الحنفي والبدر بن جماعة في (زوال الترح بشرح منظومة بن فرح ) ولكل من أبي العباس أحمد بن الحسين (810هـ) ومحمد بن ابراهيم التتائي المالكي(ت937هـ) شرحا عليها.(98/79)
- والمنظومة البيقونية لعمر بن محمد بن فتوح البيقوني الدمشقي وشرحها محمد محمود نشابة واسمه(البهجة الوضية شرح متن البيقونية) وشرحها محمد بن صعدان الحاجري (ت1229هـ) وشرحها الحموي وابن الميت الدمياطي وجمع بينهما وزاد عليهما محمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت1122هـ)وعلى شرحه حاشية لعطية الأجهوري (ت1190هـ) وشرحها محمد صديق حسن خان البخاري القنوجي (ت1307هـ) يسمى (العرجون في شرح البيقون ) ولجمال الدين القاسمي (ت1332هـ) كتاب (قواعد التحديث) جمع فيه فوائد مهمة.
- و(التذكرة) لسراج الدين بن الملقن (ت893هـ).
- (والروض المكلل والورد المعلل) للسيوطي.
ومن الكتب الجامعة المحررة: (كتاب تنقيح الأنظار) لمحمد بن إبراهيم المعروف بابن الوزير (ت840هـ)وشرحه للأمير الصنعاني (ت1182هـ)ويسمى (توضيح الأفكار) وذكر فيه مسائل أصولية واستطرادات ومذاهب علماء الزيدية.
ولشمس الدين الذهبي محمد بن أحمد (ت848هـ)كتاب (الموقظة) وقد نظمها العلامة الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديا أطال الله بقاءه.
الوجه الثاني:
لماذا لا ينقل هذه القواعد عن بعض مشاييخ التيجانية أم أنهم جاهلون بهذا الفن فاحتاج هو إلى أن يبحث في المزاد العلني عمن ينقل عنه هذه الأمور لا شك أن الجواب: نعم، لأنهم ينقلون عن الله مباشرة وعن رسوله - - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة في زعمهم فما فائدة علم مصطلح الحديث عندهم ؟!.
فأصل بأضغاث المنامات والهوى
ودع ذكر إسناد الحديث المشرف
فمالك والإسناد في عرض منهج
بحدثني قلبي عن الرب مكتف
الوجه الثالث:
لم تورد دليلا من كتاب أوسنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولاقياس ولا قول صاحب ولا تابعي...
مع أن أدلة هذه القاعدة معروفة معلومة عند صغار الأطفال فأن جهلتها فاحضر معي دروسي في علم الحديث حتى يلقنها لك بعض صغار الطلبة الذين يحضرون هذه الدروس.
الوجه الرابع:(98/80)
أن هذه القواعد أجنبية على موضوع البحث فأنا لم أنتقد أشخاصا وإنما انتقدت أفكارا وشتان ما بين انتقاد الشخص وانتقاد فكرته ولكن لا غرو إن لم تفرق بينهما فأنتم التيجانيون لا تفرقون بين الخالق والمخلوق بله الأفكار والأشخاص، وأذكر أني في بعض رحلاتي الدعوية في ولاية اترارزة تناظرت مع أحد مشايخكم فقال بأن الله هو كل شيء في الوجود لأنه لا يوجد إلا ظاهر أو باطن وقد قال تعالى - { هو الأول والآخر والظاهر والباطن - } فقلت له: حتى ما في المراحيض من النجاسات فقال:"إن لم تقل بأن ذلك هو الله فأنت مشرك " فقلت بل أنت هو تلك النجاسات فاستشاط غضبا وانتصر له أتباعه ؛ فقلت له: أترضى أن تصف الله بذلك وأنت لا ترضى به لنفسك فبهت الذي كفر ؟!.
الوجه الخامس:(98/81)
أما قوله نقلا عن السبكي" فلا ينبغي أن يقبل قول مخالف في العقيدة.." فهذا اعتراف ضمني منه بمخالفته هو وأهل طريقته لعقيدة كل المسلمين وهذا حقيقة واضحة للعيان ؛ لأن عقيدتهم أقرب إلى عقيدة النصارى من عقيدة المسلمين فوحدة الوجود ووحدة الشهود أصولهما نصرانية انظر الصوفية معتقدا ومسلكا / د. صابر طعيمة ص 217 ومجلة الرسالة: مقال د. زكريا إبراهيم السنة 12 مجلد2 ص 620 وعقيدة الجذبة لا توجد إلا في الديانة النصرانية وما تعتقده النصارى من تأليه عيسى عليه السلام يعتقدونه هم في محمد - - صلى الله عليه وسلم - جواهر المعاني 2/233 والدرة الخريدة 4/203 وانظر الصوفية مسلكا ومنهجا ص 167 وما يضفونه من تقديس على مشايخهم أنهم لا يسألون عما يفعلون الرماح 1/323و327و334و341و379 وبغية المستفيد ص 300 ـ 301 وجواهر المعاني 1/118 مقتبس من تقديس النصارى للقسيسين والرهبان وما يعتقدونه من أن الشيخ التجاني هو ممد هذا الكون بغية المستفيد ص 225 والرماح 2/142 هو اعتقاد النصارى في البابا بل عندهم تثليث النصارى انظر شرح الهمزية لعلي حرازم ص 61. حتى أنهم أخذوا طقوس النصارى كأعياد المواليد... انظر مجلة الأزهر سنة 29 1/8-10 ومجلة الفتح العدد 257 بتاريخ 16 صفر 1350 هـ
بل وصل بهم الأمر إلى التعاون مع المستعمر النصراني الفرنسي عند احتلاله كثير من بلاد الإسلام وخير دليل على ذلك الخطبة التي ألقاها الشيخ سيد محمد الكبير خليفة الشيخ التيجاني آنذاك بين يدي الكونونل (سكوني ) الفرنسي الذي ترأس بعثة من الضباط قامت بنزهة استطلاعية في الجنوب الجزائري أقام لهم الخليفة التجاني مأدبة فاخرة قرئت فيها بالنيابة عنه خطبة طويلة يقول فيها:
" ففي سنة 1838 كان جدي سيد محمد الصغير قد أظهر شجاعة نادرة في مقاومة أكبر عدو لفرنسا الأمير عبد القادر الجزائري..." المصدر السابق(98/82)
وكما قال:" وفي سنة 1864 م كان عمي سيدي أحمد مهد السبيل لجنود (الدوك دومال) وسهل عليهم السير إلى مدينة بسكرة وعاونهم على احتلالها " المصدر السابق .
وقال:" وفي سنة 1881م كان المقدم سي عبد القادر بن أحميدة مات شهيدا مع الكونونل (افلاتين) حيث كان يعاونه على احتلال بعض النواحي الصحراوية " المرجع السابق .
وقال:" وفي سنة 1894م طلب منا موسيو (جول كوميون) والي الجزائر العام يومئذ أن نكتب رسائل توصية فكتبنا عدة رسائل وأصدرنا عدة أوامر إلى أحباب طريقتنا في بلاد الهكار (الطوارق) و(السودان) يقصد بالسودان الدول الزنجية كمالي والسنغال... نخبرهم بأن حملة (فود ولامي )الفرنسية هاجمة على بلادهم ونأمرهم أن لا يقابلوها إلا بالسمع والطاعة وأن يعاونوها على احتلال تلك البلاد وعلى نشر العافية فيها المصدر السابق .
ويقول:" وفي سنة 1906-1907م أرسل موسيو (جونار)والي الجزائر العام يومئذ ضابطه المترجم مدير الأمور الأهلية بالولاية العامة سيدي (مورانت) برسالة إلى أبي المأسوف عليه سيدي البشير فأقام عنده في زاوية كوردان شهرا كاملا لأداء مهمة سياسية ولتحرير رسائل وأوامر أمضاها سيدي البشير والدي رئيس التجانية يومئذ ثم وجهت إلى كبراء مراكش وأعيانها وزعماء تلك البلاد وجلهم - أو قال أكثرهم - تجانيون من أحباب طريقتنا نبشرهم بالإستعمار الفرنسي ونأمرهم بأن يتقبلوه بالسمع والطاعة والإستسلام والخضوع التام وأن يحملوا الأمة على ذلك وأن يسهلوا على جيوش فرنسا تلك البلاد.
وفي الحرب العالمية الكبرى أرسلنا ووزعنا في سائر أقطار شمال إفريقية منشورات تلغرافية وبريدية استنكارا لتدخل الأتراك في الحرب ضد فرنسا الكريمة وضد حلفائها الكرام وأمرنا أحباء طريقتنا بأن يبقوا على عهد فرنسا وعلى ذمتها ومودتها.(98/83)
وفي سنة 1913م إجابة لطب الوالي العام للجزائر أرسلنا بريدا إلى المقدم الكبير للطريقة التيجانية في السنغال سيد الحاج مالك عثمان سي نأمره بأن يستعمل نفوذنا الديني الأكبر هنالك في السودان لتسهيل مأمورية (كلوزيل) الوالي العام للجزء الشمالي من افريقية الغربية أي لكي يسهل عليه احتلال واحة شنقيط موريتانيا حاليا .
وفي سنة 1916م إجابة لطلب المارشال (ليوتي)عميد فرنسا في مراكش كان سيدي علي - صاحب السجادة الرئيس الذي كان قبلي - كتب مائة وثلاث عشرة رسالة توصية وأرسلها إلى الزعماء الكبار وأعيان المغاربة يأمرهم بإعانة فرنسا في تحصيل مرغوبها وتوسيع نفوذها... - إلى أن قال - وبالجملة فإن فرنسا ما طلبت من الطائفة التيجانية نفوذها الديني إلا وأسرعنا بكل فرح ونشاط بتلبية طلبها وتحقيق رغائبها وذلك كله لأجل عظمة ورفاهية وفخر حبيبتنا فرنسا النبيلة والله المسؤول أن يخلد وجودها بيننا لنتمتع برضاها الخالد" مجلة الأزهر سنة 29. 1/8-10 ومجلة الفتح العدد 257 القاهرة 16/صفر 1350 هـ
ولم يقاوم المستعمر الفرنسي منهم إلا عمر الفوتي وقد تبرأوا منه وخذلوه وقالوا بأنه غير ماذون بذلك كشف الحجاب ص 336 .
الوجه السادس:
قوله ناقلا عن السبكي:" لا شك أن من تكلم في إمام استقرت في الاذهان عظمته وتناقلت الرواة ممادحته فقد جر الملام على نفسه..."(98/84)
أقول فكيف بمن تكلم في كل إمام أو ولي من أولياء الله واحتقره واستهزأ به بل جعله تحت قدميه ؟ ففي الرماح أن الشيخ التجاني قال ذات ليلة في مجلسه أين السيد محمد الغالي فجعل أصحابه ينادون أين السيد محمد الغالي على عادة الناس مع الكبير إذا نادى أحدا فلما حضر بين يدي الشيخ قال - - رضي الله عنه - وأرضاه وعنا به " قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى " وقال سيد محمد الغالي وكان لا يخافه لأنه من أكابر أحبائه وأمرائهم يا سيدي أنت في الصحو والبقاء أو في السكر والفناء فقال - - رضي الله عنه - وأررضاه وعنا به:" أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد " وقال قلت ما تقول بقول سيدي عبد القادر - - رضي الله عنه - قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى فقال " صدق - - رضي الله عنه - يعني أهل عصره " وأما أنا فأقول: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور..." الرماح 2/405
وفي هذا الكلام السخيف غاية الإحتقار والإزدراء لجميع أولياء الله تعالى من الأنبياء فمن دونهم من أهل العلم والصلاح.
ادعاء مفتاح وجوب الرد عن التجاني
قال مفتاح التجاني:
" المحور الثاني:
وأما المحور الثاني المتعلق بوجوب الرد عن الشيخ فالدليل عليه من طريق النظر والإستدلال جاء في آيات كثيرة منها قوله تعالى - { وكان حقا علينا نصر المؤمنين - } وقد روى ابن أبي حاتم بسنده إلى أبي الدرداء في تفسيرها أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من أمرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الآية " ومنها قوله تعالى - { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - } قال ابن جزي في تفسيرها (ج3 ص 42) ينصره أي ينصر دينه وأولياءه " ومنها قوله تعالى - { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم - } .(98/85)
وأما الدليل من السنة على وجوب الرد عن الشيخ فهو أكثر من أن يحصى أو يستقصى ويكفينا منه ما ساقه الإمام النووي في الأذكار (ص294-295) حيث بوب بقوله (باب أمر من سمع غيبة شيخه أو صاحبه أو غيرهما ) بردها وإبطالها ثم قال ( إعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها فإن لم ينزجر بالكلام زجره باليد فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك المجلس فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق أو كان من أهل الفضل والصلاح كان الإعتناء بما ذكرناه أكثر ثم استدل على وجوب الرد عنه بعدة أحاديث ) " اهـ بلفظه ص 4
قلت: ثم ذكر حديث عتبان في قصة مالك بن الدخشم وجزءا من حديث كعب بن مالك وحديث جابر وأبي طلحة عند أبي داود انظر ص 4-5 .
والرد عليه من أحد عشر وجها:
الوجه الأول:
أنه ورد في القرآن الكريم أكثر من مائة آية تتحدث عن هذا الموضوع ولم يستطع أن يذكر منها إلا ثلاثا ثم اختار الآيات التي يخبر الله فيها عن نفسه بنصرته للمؤمنين - { وكان حقا علينا نصر المؤمنين - } ، - { ولينصرن الله من ينصره - } وذلك إشارة منه إلى مذهبه الردي القائل بوحدة الوجود وعليه فلا فرق بين الخالق والمخلوق.
الوجه الثاني:
ذكر في تفسيير الآية الأولى حديثا ضعيفا ولما رأى سنده واضح الضعف حذفه وهذا غاية التدليس والتلبيس وإليك البيان:
قال ابن أبي حاتم تفسير ابن أبي حاتم9/3093 : " حدثني أبي حدثنا نفيل حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء - - رضي الله عنه - ".
ولهذا الحديث علتان:(98/86)
العلة الأولى: ليث هو ابن أبي سليم الكوفي قال أحمد:" مضطرب الحديث ولكن حدث عنه الناس " وقال يحي:" ضعيف " وقال ابن معين أيضا " لا بأس به " وقال ابن حبان:" اختلط في آخر عمره " وقال عبد الله بن أحمد:" حدثنا أبي قال:مارأيت يحي بن سعيد أسوأ رأيا في أحد منه في ليث ومحمد بن إسحاق، وهمام لايستطيع أحد أن يراجعه فيهم " وقال النسائي:" ضعيف " وإن وثقه بعض الأئمة فالجمهور على تضعيفه انظر التاريخ الكبير 7/247 والميزان 3/420 وقد لخص ابن حجر كلام العلماء فيه فقال:" صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك " التقريب ص 400
العلة الثانية:
شهر بن حوشب الأشعري قال أبو حاتم:" ليس بدون أبي الزبير ولا يحتج به " وقال أبوزرعة:" لا بأس به " وقال ابن عون:" إن شهرا تركوه " وقال ابن عدي والنسائي:" ليس بالقوي " وقال الفلاس:" كان يحي ابن سعيد لا يحدث عن شهر وكان عبد الرحمن يحدث عنه " ووثقه ابن معين وقال أحمد:" روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حسانا " واتهم بالسرقة من بيت المال " انظر التاريخ الكبير 4/258 والميزان 2/283 قال ابن حجر:" صدوق كثير الأوهام والإرسال " التقريب ص 210 وعندما ذكر الشوكاني الحديث في تفسيره أشار إلى تضعيفه فقال:" وهو من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء" فتح القدير4/233 اهـ
الوجه الثالث:(98/87)
ولجهله بعلم المصطلح لم يذكر الحديث بصيغة التمريض كما هي القاعدة عند المحدثين ولم يذكر إسناده مع أن الحديث في حكم شرعي هو وجوب الرد عن الشيخ قال بن الصلاح " إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقل فيه قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه - - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وإنما تقول فيه روي عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا أو بلغنا عنه كذا وكذا أو ورد عنه أو جاء عنه أو روى بعضهم وما أشبه ذلك وهكذا الحكم فيما تشك في صحته وضعفه وإنما تقول قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فيما ظهر لك صحته بطريقه الذي أوضحناه أولا" مقدمة ابن الصلاح ص 136
قال العراقي في ألفيته
وإن ترد نقلا لواه أو لما
يشك فيه لا بإسنادهما
فات بتمريض كيروى واجزم
بنقل ما صح كقال فاعلم فتح المغيث للسخاوي 1/330
وقال السيوطي في ألفيته
ومن روى متنا صحيحا يجزم
أو واهيا أو حاله لايعلم
بغير ما إسناده يمرض
وتركه بيان ضعف قد رضوا
في الوعظ أو فضائل الأعمال
لا العقد والحرام والحلال
قال الشارح" وحاصل المعنى أن من أراد رواية أو كتابة حديث ضعيف أو مشكوك في صحته بغير سنده فعليه أن يرويه أو يكتبه بصيغة التمريض كأن يقول روي عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أو بلغنا عنه وما أشبه ذلك لئلا يغتر به من لا يعرفه لو ذكره بصيغة الجزم " إسعاف ذوي الوطر 1/336
الوجه الرابع:
أي غيبة فيما كتبت وإنما أشرت إلى بعض المسائل التي يجب نقاشها لخطورتها ولم أتكلم عن أشخاص بأعيانهم وإنما تكلمت عن المسائل التي ذكروا، وهنالك فرق كبير بين الحكم على القول والحكم على القائل فقائل الكفر مثلا قد لا يكون كافرا لإكراه أو غيره من الأعذار الشرعية المعتبرة.
الوجه الخامس:(98/88)
أنكم معشر الصوفية تعترفون بأن العلماء في كل الأزمنة ينكرون عليكم بل قتلوا بعضكم بسبب الزندقة، قال الفوتي في الرماح "...وقد نفي أبو يزيد البسطامي من بلده سبع مرات بأمر الحسين بن عيسى لما تكلم أبو يزيد بعلوم لا عهد لأهل بلده بها في مقامات الأنبياء والأولياء ولم يعد البسطامي إلا بعد الحسين ثم بعد ذلك ألفه الناس وعظموه.
- وكذلك ذو النون المصري أخرجوه من مصر إلى بغداد مقيدا مغلولا وسافر معه أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة.
- وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بلخ لكون مذهبه مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل وتجسس على علم الله تعالى فيها ولما أخرجه أهل بلخ قال لهم: نزع الله من قلوبكم معرفته ولم يخرج بعد ذلك صوفي من بلخ مع أنها كانت أكثر بلاد الله صوفية.
وكذلك شهدوا على الجنيد بالكفر وكان يتكلم في علم التوحيد على رؤوس الأشهاد فصار يقرره في قعر بيته.
- وعقدوا على الشيخ ابن أبي جمرة مجلسا في الرد عليه حين قال: أنا أجتمع بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - فلزم بيته ولم يخرج إلا إلى الجمعة حتى مات ورموه بالكفر وبالقول بإباحة الخمر واللواط وأنه لبس في الليل الغيار وهو يشبه الزنار وأتوا به مقيدا مغلولا من الشام إلى مصر.
- ورموا أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان فمات ودفن بها.
- وأخرجوا الحكيم الترمذي حين صنف كتابه علل الشريعة وكتاب ختم الاولياء وانكروا عليه بسبب هذين الكتابين وقالوا إنه فضل الأولياء على الأنبياء وأغلظوا عليه فجمع الكتابين كليهما وألقاهما في البحر فابتلعتهما سمكة سنين ثم لفظتهما وانتفع بهما.
- ورموا سعد بن عبد الله بالقبائح وأخرجوه إلى مصر حتى مات.
- ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم والكفر بألفاظ وجدوها في كتبه.
- ورموا يوسف بن الحسين بالعظائم إلى أن مات لكنه لم يبال بهم لتمكنه.(98/89)
- وأخرجوا أبا الحسن البوسنجي إلى نيسابور فلم يزل بها حتى مات.
- ورموا سمنون المحب بالعظائم ورشوا بغيا فادعت أنه كان يأتيها هو وأصحابه.
- وشهدوا على الشبلي بالكفر مرارا حتى أن من كان يحبه شهدوا عليه بالجنون وأدخلوه المارستان ليرجع الناس عنه وقال أحد مشايخ بغداد: لو لم تكن لله تعالى جهنم لخلقها للذين آذوا الشبلي وكفروه وقال: إن لم يدخل الشبلي الجنة فمن يدخلها.
- وأخرج أهل المغرب الإمام أبا بكر القابسي من المغرب مقيدا إلى مصر وأخذ وسلخ حيا وهو يقرأ القرآن بتدبر وخشوع وكاد أن يفتتن به الناس فرفع الامر إلى السلطان فقال: اقتلوه واسلخوه.
- وكذا سلخوا النسفي بحلب وكان ينظر إلى الذي يسلخه ويبتسم وعمل خمسمائة بيت من موشحات التوحيد وهم يسلخونه وذلك حين كان يقطعهم بالحجج فاحتالوا له بأن كتبوا سورة الإخلاص في ورقة وخاطوا عليها نعلا فأهدوها إلى الشيخ من طريق بعيدة فلبسها وهو لا يشعر وقالوا لنائب حلب إن النسفي كتب - { قل هو الله أحد - } وجعلها في طباق نعله، فبعث النائب إليه فاستخرج الورقة فسلم الشيخ لله تعالى ولم يذب عن نفسه وعلم أنه لا بد أن يقتل على تلك الصورة.
- وأخرجوا أبا القاسم البهرباذي من البصرة وأبا عبد الله صاحب أبي حفص الحداد.
- وشهدوا على أبي الحسن البصري بالكفر.
- وتكلموا في ابن شمعون بالكلام الفاحش حتى مات فلم يحضروا له جنازة.
- وتكلموا في الإمام أبي القاسم بن جميل بالعظائم إلى أن مات ولم يتزلزل عما فيه من الإشتغال بالعلم والحديث وصيام الدهر وقيام الليل وزهده في الدنيا حتى لبس الحصير.
- وقال أبو بكر السمطاني كان أبو دينار يحط على الجنيد وعلى رويم وعلى سحنون وابن عطاء الله تعالى وعلى مشائخ العراق وكان إذا سمع واحدا يذكرهم تغيظ وتغير.
- وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من المغرب إلى مصر ورموه بالزندقة والإلحاد وتحليل المحرمات.(98/90)
وقتلوا الإمام أبا القاسم ابن قسي وابن حيان والجوني والمرجاني.
- وما زالوا ينكرون على ابن عربي الحاتمي وابن الفارض إلى وقتنا هذا.
وعقدوا على عز الدين ابن عبد السلام مجلسا في كلمة قالها في العقائد.
وحسدوا تقي الدين بن ليث الأغر وزوروا عليه كلاما في السلطان حتى هم بقتله ثم تداركه.
- وقال السيوطي ومما منّ الله تعالى علي به أنه قام لي عدو يؤذيني ويمزق عرضي لتكون لي أسوة بالأنبياء والأولياء " الرماح 2/512.طبعة دار الفكر 1421 وكاشف الألباس ص 63 ـ 64 ونحوه في الطبقات الكبرى للشعراني 1/15-17 اهـ بحروفه
الوجه السادس:
لو فرضنا أن ما قلناه غيبة فإن هؤلاء لا غيبة لهم لمجاهرتهم ببدعهم وضلالهم وقد جعل النووي هذا هوالخامس من المسائل التي تجوز فيها الغيبة فقال: " الخامس أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخد المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الامور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لوجوازه سبب آخر كما ذكرناه" رياض الصالحين ص 404 وانظر الأدكار ص341ـ 342 اهـ
قلت يستدل لذلك بحديث " بئس أخو العشيرة " البخاري ح 6131 ومسلم ح 2591 ونحن إنما ذكرنا ما نشروا في كتبهم مجاهرة منهم بالإثم والعدوان وإشاعة للفاحشة في الذين آمنوا.
الوجه السابع:
أنما قلناه يدخل في باب الإستعانة على تغيير المنكر قال النووي في المسائل التي تجوز فيها الغيبة "الثاني الإستعانة على تغيير المنكر فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك " رياض الصالحين 404 والأذكار ص 340ـ341 اهـ
قلت يستدل له بقوله تعالى - { وتعاونوا على البر والتقوى - } [ المائدة 02 ] ولحديث زيد بن أرقم حين بلغ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ما قاله ابن أبي فنزلت الآيات بتصديقه البخاري ح ( 4900 ) ومسلم ( 2772 ) .
الوجه الثامن:(98/91)
أن ما قلناه هو أيضا هو من باب النصح للمسلمين وتحذيرهم من الشر قال النووي:" الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم "؛ قلت: يستدل له بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت:" أتيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - فقلت إن أبا الجهم ومعاوية خطباني، فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -: (( أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما وأبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه…)) الحديث ومسلم ح ( 3697) .
الوجه التاسع:
أما استدلاله على وجوب الرد عن الشيخ بحديث عتبان، حيث قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - لمن قال بأن مالك بن الدخشم منافق: ((لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ))، فما أدري أجعل مالك بن الدخشم شيخا لرسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أم جعل ابن الدخشم مدافعا عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أم كيف استدل بهذا.؟
الوجه العاشر:
أن حديث عتبان وكعب بن مالك لا يدلان على الوجوب لأن الأول فعل والثاني تقرير وهذا يدل على السنية و الإستحباب لا الوجوب، لانه ليس في واحد منهما الأمر بالدفاع عن عرض المسلم.
الوجه الحادي عشر:
أما حديث جابر وأبي طلحة فعزاه إلى أبي داود مع أن إسناد أبي داود ضعيف ولغشه وتدليسه لم يذكر ما قال فيه لأن فيه إشارة إلى ضعفه؛ إذ قال رحمه الله بعد إخراجه للحديث: " قال أبو داود:يحي بن سليم هذا أبو زيد مولى النبي - - صلى الله عليه وسلم - وإسماعيل بن بشير مولى بني مغالة وقد قيل عتبة بن شداد موضع عقبة " سنن أبي دوود كتاب الأدب باب الرجل يذب عن عرض أخيه ح 4884 ص 689 فهذه هي العلة الأولى للحديث وهي الاختلاف الذي ذكره أبوداود.(98/92)
أما العلة الثانية: فهي إسحاق بن الصباح الأشعثي وهو ضعيف قال الذهبي " ضعفه يحي والدارقطني وغيرهما وقل ما روى " الميزان 1/216 ولهذا قال في التقريب " مقبول " التقريب ص 41 أي حيث توبع وإلا فلين الحديث كما قال في مقدمة التقريب التقريب ص14 .
أما العلة الثالثة: فهي يحي بن سليم ابن زيد فإنه مجهول قال الذهبي: "ماعلمت أحدا روى عنه سوى الليث " الميزان 4/350 وقال ابن حجر " مجهول " التقريب ص 521 .
أما العلة الرابعة: فهي إسماعيل بن بشير المدني فإنه مجهول أيضا قال الذهبي:" إسماعيل بن بشير المدني عن أبي طلحة وجابر في إثم خذلان المسلم وعنه يحي بن سليم بن زيد لا يدرى من ذا " الميزان 1/243 .
وقال ابن حجر " إسماعيل بن بشير الأنصاري مولى بني مغالة ( بفتح الميم والمعجمة ) مجهول " التقريب ص45 فبان ضعف هذا الإسناد والله أعلم.
ترجمة التجاني مغالطات مكشوفة
قال مفتاح التجاني:
" المحور الثالث وأما المحور الثالث المتعلق بالترجمة عن الشيخ التجاني فهو - - رضي الله عنه - عنه أجل قدرا وأعظم شأنا من أن تستوفى الترجمة عنه في هذا المقام... إلخ " اهـ ص 06 -10
والرد عليه من وجوه ستة:
الوجه الأول:(98/93)
اعلم أنهم يترضون على شيخهم لأنهم يعتقدون أنه يجالس النبي - - صلى الله عليه وسلم - في حال اليقظة بل لا يغيب عنه فهو بذلك من الصحابة بل يدعي أنه أفضل من الصحابة أجمعين، قال علي حرازم :"وسمعت منه - - رضي الله عنه - أن الإسم الخاص به إذا ذكره العارفون كلهم من لدن آدم إلى قيام الساعة سبعة وعشرون مائة سنة يذكرونه في كل يوم ألف مرة وجمعت تلك الاذكار كلها في تلك المدة كلها ما لحقوا مرة واحدة من ذكر سيدنا الخاص به " جواهر المعاني 1/54 وقال التجاني:" إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر وإن جميع الأولياء من الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيه من يصل مقامنا " الرماح 2/399 ط دار الفكر 1421 .
زاد في موضع آخر " ولا يقاربه لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول " الرماح 2/413 وقال:" قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ الصور " الرماح 2/399 وبغية المستفيد ص 225 ؛ وقال " وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي " المرجع السابق 2/413
وقال علي حرازم:" وأخبره - - صلى الله عليه وسلم - بقوله عليه الصلاة السلام: بعزة ربي يوم الإثنين ويوم الجمعة ؛ لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من يراك في اليومين يكتب الملائكة اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة " جواهر المعاني 1/98 دار الكتب العلمية 1417 .
قال التجاني:"... وهذا غاية إدراك النبيين والمرسلين والأقطاب يصلون إلى هذا المحل ويقفون ثم استأثرت بألباس من الأنوار الإلهية أخرى وبها سميت عقلا ثم استأثرت بألباس من الأنوار الإلهية أخرى فسميت بسببها قلبا ثم استأثرت بألباس عن الأنوار الإلهية الأخرى فسميت بسببها نفسا " المرجع السابق 1/107 .(98/94)
قال التجاني:" قال لي - - صلى الله عليه وسلم - لك في الجنة أربعون مقاما من مقامات الأنبياء "اهـ الدرة الخريدة 1/ 54
وقال صاحب بغية المستفيد " ومن ذلك الذي قصدت ذكره هنامما لسيدنا - - رضي الله عنه - من الكرامات المأثورة والمناقب المشهورة رؤيته واجتماعه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام في حال اليقظة والمشافهة لا في حال المنام وهي لدى الرجال الكاملين أجل مقصد وأسنى مرام ومن ذلك أيضا بلا شك ولا مين دوام شهوده له - - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا تغيب عنه صورته الشريفة طرفة عين " بغية المستفيد ص 209 ط دار الجيل بيروت .
وقال أيضا " من كرامات هذا الإمام ما اشتهر بين الأتباع مما تلقاه عنه الخاصة من أصحابه الكرام من أن طائفة من أهل طريقته هذه الأحمدية المنخرطين في سلك سلسلة المحمدية لو اجتمع أقطاب هذه الأمة الشريفة ما وزنوا شعرة مما اختص به الواحد منه من المقامات الرفيعة والأحوال السامية المنيفة قلت أكبر تلاميذه علي حرازم يقول له التجاني:" سببه ما تمكن من نفسك من الميل إلى الراحات واقتحام ما تقدر عليه من الشهوات
" كشف الحجاب 88.
وقال عنه:" وقد سامحته وتجاوزت عنه في جميع ما أكل وأخذ من متاعي بعلمه أو بغير علمه ظاهرا وباطنا وفي جميع مخالفته لنا ظاهرا وباطنا " كشف الحجاب ص 95..(98/95)
ومن أكبر تلاميذ التجاني أيضا محمد بن أبي النصر العلوي الذي كان خارجا مع محمد اكنوس لوادي فاس فمر على أحد أبواب فاس فوقفا بباب حانوت إنسان يبيع الفاكهة فقال لصاحب الحانوت بكم ذاك الجوز وذاك الثمر وأشار إلى شيء وراءه فالتفت ليناوله منه فصار يأخذ مما يليه من غير علم صاحب الحانون ويجعل منه في جيبه وكاد صاحبه يذوب حياء ثم ترك صاحب الحانوت بعد أن أظهر له أنه لم يصلح له ما أشار إليه. كشف الحجاب ص 160. فهؤلاء وأمثالهم هم الذين لو اجتمع أقطاب هذه الأمة الشريفة ما وزنوا شعرة من واحد منهم!!!. فكيف بقدوتهم وإمام سلسلتهم الآخد بأرسانهم وأزمتهم " بغية المستفيد ص 230 .
الوجه الثاني:
قوله " يرجع نسبه إلى الإمام محمد النفس الزكية بن عبد الله الكامل "
أقول من المعلوم أنه لم يدعي الشرف أحد من آبائه بل يعترفون أنهم برابرة ولم يستطع أن يسوق لنا أسماء آبائه إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - بل اكتفى بالوضع على النبي - - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح جواهر المعاني 1/26 وما لفق صاحب الدرة الخريدة لا يسمن ولا يغني من جوع لأنه ما نسبه إلى كتاب معتمد.
وما الفرق بينك وبين من قال إنه رأى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وقال له: إن التجاني بربري وليس بشريف.
واعلم أن السبب في ادعائه الشرف هو أن الدولة العبيدية التي حكمت فترة طويلة إنما حكمت بادعاء الشرف فصارت عادة كلما أراد شخص أن يجعل لنفسه مكانة ومنزلة ادعى الشرف
فبان أن الذي يحويه من شرف
قد صح لكنه بالهاء لا الفاء
الوجه الثالث:(98/96)
التجاني نسبة إلى (بني توجين) أصحاب (تاهرت) و(تاكدمت) من البربر إخوان (بني زبيان ) ملوك تلمسان و(بني مرين) ملوك المغرب الأقصى و(بنو توجين ) هم أخوال أحمد التجاني بحفة الزائر في تاريخ الجزائر ص 303 ط الثانية.الترجمانة الكبرى في المعمور برا وبحرا ص 460-461 فعلام يدل انتسابه لأخواله وتركه الإنتساب إلى آبائه ؟!.
الوجه الرابع:
أنه نقل عن صاحب شجرة النور الزكية قوله:" وله بالمغرب وما والاها أصحاب وأتباع كثيرون يتغالون فيه إلى حد يفوت الوصف ويعظمونه تعظيما بليغا " فانظر كيف أشار إلى غلوكم في شيخكم إلى حد يفوت الوصف ثم فات عليك ذلك فنقلته أم أن الله أراد أن يجعل تدبيركم تدميرا لكم.
الوجه الخامس:
من تلبيسك أنك لم تذكر سبب طرده من تلمسان إلى (أبي سمعون) لأنه قاصمة ظهرك ومهيض كسرك ولندع المؤرخ المغربي الشهير (الزياني ) هو أبو القاسم أحمد بن علي بن ابراهيم المؤرخ ولد بفاس سنة 1147هـ وكان سفيرا لبلاده في الإستانة سنة 1200هـ ومن كتبه
"الرحلة اكبرى"والترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب توفي بمدية فاس سنة 1249هـ كما في الأعلام للزركلي 6/6. يحكي لنا تفاصيل القصة فهو معاصر لذلك حيث يقول إن:" الباي محمد بن عثمان طرده - يعني أحمد التجاني - من تلمسان إلى أبي سمعون بسبب تدبيره الفضة وتدليسه على الناس فأقام بها مدة فعظم صيته وكثر فساده وعبثه فبلغ خبره الباي وهو أن عثمان بن محمد بن الباي محمد بن عثمان السابق الذكر كتب لأهل قرية (أبي سمعون) بالوعيد إن لم يطردوه فلما بلغه ذلك فر إلى المغرب في طائفة من أتباعه وتلاميذه " الترجمانة الكبرى في المعمور برا وبحرا ص 460- 461
فهو إنما كان مزورا للعملات مخادعا للمسلمين غاشا لهم وقد أشارت كتبكم إلى أنه كان يزور العملات بغية المستفيد ص 258 وكشف الحجاب ص 121و476 و477. ثم انتقل من تزوير العملات إلى التزوير في الديانات.
الوجه السادس:(98/97)
- أما ما ادعاه له من العلم فلم نر برهانا عليه إلا ما في جواهر المعاني وهو - على مافيه - مسروق من كتاب (المقصد الأحمد) إلا أن (مؤلفه) غير فيه قليلا ثم نسبه إلى نفسه وإليك البيان:
1- سرق خطبته وهي خمس صفحات فنقلها بالحرف الواحد (انظر صورة الخطبتين في الملحق).
2- ترتيب أبواب جواهر المعاني كترتيب أبواب المقصد الأحمد وعناوين الأبواب متطابقة في الكتابين إلا أن (مؤلف ) جواهر المعاني أجملها في ستة أبواب وصاحب المقصد ذكرها في تسعة أبواب؛ وقد اعترف بهذا أحد أقطاب التيجاينة وهو أحمد سكيرج فقال " ولقد عثرت على ثلاث نسخ من هذا المقصد وقابلته مع جواهر المعاني فوجدت خطبته كخطبته وجل ترتيب أبوابه على ترتيبه " جناية المنتسب العاني لأحمد سكيرج (2/53) .
وإليك أبواب كل واحد من الكتابين:
أولا: أبواب كتاب المقصد الأحمد
الباب الأول: في نسبه وأبويه وعشيرته الأقربين إليه.
الباب الثاني: في نشأته وبدايته وأخذ طريق هدايته.
الباب الثالث:في مواجيده وأحواله ومقامه المتصف به وكماله.
الباب الرابع: في سيرته السنية وجمل من أخلاقه السنية.
الباب الخامس: في كرمه وسخائه وعظيم فتوته ووفائه.
الباب السادس: في علو همته وورعه وزهده وحريته.
الباب السابع: في دلالته على الله وجمعه عليه وسوقه الأقوام بحاله ومقاله إليه.
الباب الثامن: في كلامه وإشاراته وبعض ما سمعته من تقريراته.
الباب التاسع: في جملة من كراماته وبعض ما جرى من تصرفاته.
الباب العاشر: في شيخه الهمام ومشايخ شيخه الأعلام.
الباب الحادي العاشر: في أسانيد طريقته وتحرير رفعتها وتحقيقه.
الباب الثاني عشر: في بعض ما قيل فيه من القصائد الشعرية المنبئة عن محاسنه السوية. المقصد الأحمد 1/5-6
ثانيا : أبواب كتاب جواهر المعاني:
الباب الأول: في التعريف به وبمولده وأبويه ونسبه وعشيرته الأقربين إليه ونشأته وبدايته ومجاهدته وأخذ طريق رشده وهدايته وفيه ثلاثة فصول.(98/98)
الباب الثاني: في مواجيده وأحواله ومقامه المتصف به وكماله وسيرته السنية وجمل من أخلاقه السنية وحسن معاملاته مع إخوانه وأهل مودته وفيه ثلاثة فصول.
الباب الثالث: في كرمه وسخائه وعظيم فتوته ووفائه وخوفه وعلو همته وورعه وزهده وموعظته وحريته ودلالته على الله وجمعه عليه وسوقه الأقوام بحاله ومقاله إليه وفيه ثلاثة فصول.
الباب الرابع: في ترتيب أوراده وأذكاره وذكر طريقته وأتباعه وفضل ورده وما أعده الله لتاليه وصفة المريد وحاله وما يقطعه عن أستاذه وكيفية الشيخ الذي يتبعه بسائر أقواله وأفعاله وكيفية السماع ومايتبعه من سائر لياليه وأيامه وأدعية شتى أجراها الله على لسانه كما هي عادته الكريمة على قلوب أهل عرفانه وفيه ثلاث فصول.
الباب الخامس: في ذكر أجوبته على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفي ذكر رسائله وكلامه وإشاراته وما سمعته من فيض علومه وتقريراته وفيه فصول.
الباب السادس: في جملة من كراماته وبعض ما جرى من تصريفاته وما اتفق لبعض أصحابه معه من مكاشفاته. جواهر المعاني 1/11
وتلاحظ معي أنه حذف الأبواب الثلاثة الأخيرة من (المقصد الأحمد) وما سوى ذلك فالتطابق فيه واضح إلا أنه دمج الباب الأول في الثاني الرابع في الثالث والسابع والسادس في الخامس.
3 - معظم الجزء الأول من (جواهر المعاني) منقول بالمعنى من (المقصد الأحمد) وكثير منه منقول بالحرف الواحد وإليك أمثلة على ذلك:
الجزء الأول من جواهر المعاني جواهر المعاني طبعة شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده المطبوعة بمصر سنة 1308 هـ
الجزء الأول من المقصد الأحمد المقصد الأحمد وهو مطبوع بالمطبعة الحجرية بفاس سنة 1351 هـ
الصفحة 2 -3
الصفحة 2 – 3
الصفحة 5- 7
الصفحة 3 – 5
الصفحة57
الصفحة 52 – 53
الصفحة 60
الصفحة 58
الصفحة67 – 68
الصفحة 79 – 80
الصفحة 76 -78
الصفحة 81 – 82
الصفحة 84 – 85
الصفحة 104
الصفحة 91 – 92
الصفحة 112 – 113
الصفحة 98 – 99(98/99)
الصفحة 133 – 134
الصفحة100
الصفحة 135
الصفحة105 - 110
الصفحة 154 - 158
وانظر صور أمثلة من هذه الصفحات في الملحق.
- وقد شهد التجاني على نفسه بأنه عامي كما في رماح حزب الرحيم (2/422):" وقد أخبرني سيد محمد الغالي - - رضي الله عنه - أن الشيخ - - رضي الله عنه - وأرضاه وعنا به قال يوما في مجلسه من كان يحبني لله ورسوله فليحبني ومن كان يحبني لغرض فبالله الذي لا إله إلا هو أنا عامي صرف لم يكن لي شيء "اهـ
- بل شهد التجاني على نفسه أنه ما شم رائحة الإسلام فقال كما في الدرة الخريدة (1/84):" والله ما شممنا رائحة الإسلام، فقيل له أنت ترى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - يقظة وتقول هذا فيقول كائن ذلك حقا لكن أمن أصاب إلخ " اهـ
ترجمة ابن عربي وبيان تكفير العلماء له
قال مفتاح التجاني:
" المحور الرابع المتعلق بالترجمة عن الشيخ محي الدين بن عربي فإنه رضي الله عنه قد شهد له الجمهور من علماء الأثر والفقه أنه بلغ رتبة المجتهد المطلق في العلوم النقلية والعقلية... " إلى آخر كلامه(ص 11- 14).
وقد اقتصر في هذه الترجمة على اليقل عن ابن حجر الهتمي الصوفي في فتاويه والشعراني في اليواقيت - وأطال النقل عنهما -كما نقل عن ابن العماد، فهؤلاء كل من نقل عنهم في هذه الترجمة.
والرد عليه من أكثر من أربعة أوجه:
الوجه الأول:
قوله:" قد شهد له الجمهور من علماء الأثر والفقه أنه بلغ رتبة المجتهد المطلق في العلوم النقلية والعقلية " اهـ
أقول بل شهدوا عليه بالكفر والزندقة والإلحاد وألفوا في ذلك التآليف الكثيرة ولهذا لم تستطع أن تنقل ترجمته من كتب التراجم وكتب التاريخ حتى اضطررت إلى النقل عن بعض كتب المتصوفين التي هي غير معتمدة عند علماء المسلمين وهأنذا أنقل تكفير العلماء المعتمدين له.(98/100)
1- ممن ألف في تكفيره العلامة برهان الدين البقاعي وسمى كتابه " تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي " قال في مقدمته:" وبعد فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف الموسوم عند أهل الحق بالوحدة ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرا حتى يعلم حاله فيهجر مقاله ويعتقد انحلاله وكفره وضلاله وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله " تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي ص 21
2- شيخ الإسلام زين الدين العراقي له كراسة في تكفير ابن عربي يقول فيها:" قوله – يعني ابن عربي – في قوم نوح - { لا تذرن آلهتكم... - } كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد فجعل تركهم لعبادة الأوثان التي نهاهم نوح عن عبادتها جهلا يفوت عليهم من الحق بقدر ما تركوا " تنبيه الغبي ص 52 وقال في نفس الكراسة:" وأما قوله - يعني ابن عربي - (فهو عين ما ظهر وعين ما بطن) فهو كلام مسموم ظاهره القول بالوحدة المطلقة وأن جميع مخلوقاته هي عينه ويدل على إرادته لذلك صريحا قوله بعد ذلك (وهو المسمى أباسعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات) وكذا قوله بعد ذلك (والمتكلم واحد وهو عين السامع) وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع المسلمين " اهـ المصدر الساسق ص 64
3- ممن أفتى بكفره بدر الدين بن جماعة حيث قال ردا على قول ابن عربي أنه - - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أذن له في تأليف كتابه الفصوص مانصه:" وحاشى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أن ياذن في المنام فيما يخالف أو يضاد قواعد الإسلام بل ذلك من وساوس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته وأما إنكاره - يعني ابن عربي - ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد فهو كافر به عند علماء التوحيد؛ وكذلك قوله في نوح وهود عليهما السلام قول لغو باطل مردود " اهـ انظر نص الفتوى في العلم الشامخ للمقبلي ص494(98/101)
4- وقال شمس الدين الذهبي في ترجمته:" محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي صاحب كتاب (فصوص الحكم)مات سنة 638هـ ورأيته قد حدث عن أبي الحسن بن الهذيل بالإجازة وفي النفس من ذلك شيء سمع منه التيسير لأبي عمرو الدامي شيخنا محمد بن أبي الذكر الصقلي المطرز بسماعه من أبي بكر بن أبي جمرة وبإجازته من ابن هذيل وروى الحديث عن جماعة ونقل رفيقنا أبي الفتح اليعمري وكان متثبتا قال سمعت الإمام تقي الدين بن دقيق العيد يقول سمعت شيخنا أبا محمد بن عبد السلام السلمي يقول وجرى ذكر أبي عبد الله بن عربي الطائي فقال: هو شيخ سوء شيعي كذاب فقلت له وكذاب أيضا ! قال نعم ؛ تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن فقال هذا محال لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف ثم بعد قليل رأيته وبه شجة فقال: تزوجت جنية فرزقت منها ثلاثة أولاد فاتفق يوما أني أغضبتها فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة وانصرفت فلم أرها بعد هذا أو معناه ؛ قلت نقله لي بحروفه ابن رافع من خط أبي الفتح " اهـ ميزان الإعتدال 3/629-630 ونقله الحافظ بن حجر في اللسان 5/352-353.
وقال الذهبي أيضا في ترجمة ابن عربي من السير:
" ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر نسأل الله العفو والنجاة " اهـ سير أعلام النبلاء 23/ 48
5- قال أبو زرعة ولي الدين العراقي في المسألة الحادية والعشرين من فتاويه المكية مانصه: " لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه وكذلك فتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك وقد صح عندي عن الحافظ المزي أنه نقل من خطه في تفسير قوله تعالى - { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - } [ البقر 6 ]كلاما ينبو عنه السمع ويقتضي الكفر وبعض كلماته لا يمكن تأويلها " تنبيه الغبي ص 124(98/102)
6- قال الإمام أبوعلي السكوتي:" وليحترز من مواضع كثيرة من كلام ابن عربي الطائي في فصوصه وفتوحاته المكية وغيرهما وليحترز أيضا من مواضع كثيرة من كلام ابن الفارض الشاعر وأمثاله مما يشيرون بظاهره إلى القول بالحلول والإتحاد لأنه باطل بالبراهين القطعية ثم قال وكل كلام وإطلاق يوهم الباطل فهو باطل بالإجماع فأحرى وأولى بطلانه إذا كان صريحا في الباطل فإن قالوا لم نقصد بكلامنا ورموزنا وإشاراتنا الإتحاد والحلول وإنما قصدنا أمرا آخر تفهم عنا قلنا لهم الله أعلم بما في الضمائر وما يخفى في السرائر وإنما اعترضنا نحن الألفاظ والإطلاقات التي تظهر فيها الإشارات إلى الإلحاد والحلول والإتحاد " كتابه ( نحت العوام فيما يتعلق بعلم الكلام) وعنه تنبيه الغبي ص 126-127
7- اتفق القضاة على تكفيره.
وذلك أن علامة زمانه علاء الدين محمد البخاري الحنفي ذكر عنده ابن عربي هذا فقال قاضي المالكية أنذاك شمس الدين محمد البساطي: يمكن تأويل كلامه، فقال له البخارى كفرت وسلم له أهل عصره ممن كان في مجلسه ومن غيرهم وما طعن أحد منهم فيه بكلمة واحدة وقد كان منهم حافظ العصر قاضي الشافعية شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني وقاض القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني وقاض القضاة محمود العيني الحنفي والشيخ يحي السيرامي الحنفي وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي وزين الدين أبو بكر القمي الشافعي وبدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي وشهاب الدين أحمد بن تقي المالكي وغيرهم من العلماء والرؤساء وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعقاد الإتحاد ومن طائفة الإتحادية وتكفيره لمن يقول بقولهم. المصدر السابق ص 127-128 وكتاب الصوفية متعقدا ومنهجا ص 237(98/103)
8- وألف في تكفيره جماعة منهم شهاب الدين أحمد بن يحي بن أبي حجلة التلمساني الحنفي والإمام سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان الصوفي وقال في كتابه " وقد كتب كل من راقب الله تعالى وخشيه وامتنع كل من التبسه مخافة غيره وغشيه فالذي كتب قام لله تعالى بلوازم فرضه والذي امتنع فهو المسؤول عن ذلك في يوم عرضه فإن زعم أنه ترك خوف الفتنة من المخالفين فتلك محنة في الدين بما وجب على كل عامل من التبيين ". مصرع التصوف 137-138
9- وممن ألف في تكفيره وتكفير أمثاله القدوة العارف عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي وله ثلاثة كتب في هذا الموضوع:
أ- أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص.
ب- لوامع الإسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد.
ج- البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد." المصدر السابق ص 140
10- وممن كفره العلامة شمس الدين محمد بن يوسف الجزري:
قال عنه:" وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر وقوله إن الحق المنزه هو الخلق المشبه كلام باطل متناقض وهو كفر وقوله عن قوم هود وحصلوا في عين القرب افتراء على الله تعالى ورد لقوله فيهم وقوله زال البعد وصيرورة جهنم في حقهم نعيما كذب وتكذيب للشرائع وأما من يصدقه فيما قال فحكمه كحكمه في التضليل والتكفير إن كان عالما وإن كان ممن لا علم له فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك ويجب تعليمه وردعه عنه مهما أمكن " انظر الفتوى في العلم الشامخ ص 495 .
11- وممن كفره الإمام القدوة برهان الدين إبراهيم بن معضاض الجعبري والعلامة زين الدين عمر بن أبي الحرم الكتاني الشافعي ومن جوابه قوله يعني ابن عربي في قوم هود كفر لأن الله تعالى أخبر في القرآن العظيم عن عاد أنهم كفروا بربهم والكفار ليسوا على صراط مستقيم فالقول بأنهم كانوا عليه مكذب لصريح القرآن ويأثم من سمعه ولم ينكره إذا كان مكلفا وإن رضي به كفر. المصدر السابق 496(98/104)
12- ممن كفره أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي عند تفسير قوله تعالى - { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم...ا - } [ المائة 17 ] مانصه: " ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالإتحاد والوحدة كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض وأتباع هؤلاء كابن سبعين...وعد جماعة ثم قال وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله -يعلم الله ذلك – وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه " البحر المحيط لأبي حيان 3/448 .
13- وممن كفره هو وأمثاله القاضي شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي فقال:" ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره فهم ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام فضلا عن العلماء " تنبيه الغبي ص 143 ونقله الكمال الدميلي والتقي الحصني.
14- وممن أحرق كتب ابن عربي الحافظ تقي الدين الفاسي الذي ألف كتابا يرد به على ابن عربي قال فيه:" وقد أحرقت كتب ابن عربي غير مرة " مصرع التصوف ص143 وممن صنع ذلك من العلماء المعتبرين الشيخ بهاء الدين السبكي المرجع السابق 143 .(98/105)
15- ومن العلماء الذين كفروه العلامة القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود الزواوي المالكي شارح صحيح مسلم الذي قال:" وأما ما تضمنه هذا التصنيف - يعني الفصوص - من الهذيان والكفر والبهتان فهو كله تلبيس وضلال وتحريف وتبديل فمن صدق بذلك أو اعتقد صحته كان كافرا ملحدا صادا عن سبيل الله مخالفا لسنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ملحدا في آيات الله مبدلا لكلماته فإن أظهر ذلك وناظر عليه كان كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن أخفى ذلك وأسره كان زنديقا فيقتل متى ظهر عليه ولا تقبل توبته إن تاب لأن توبته لا تعرف فقد كان قبل أن يظهر عليه يقول بخلاف ما يبطن فعلم بالظهور عليه خبث باطنه وهؤلاء القوم يسمون الباطنية لم يزالوا من قديم الزمان ضلالا في الأمة معروفين بالخروج من الملة يقتلون متى ظهر عليهم وينفون من الأرض وعادتهم التمصلح والتدين وادعاء التحقيق وهم على أسوأ طريق فالحذر كل الحذر منهم فإنهم أعداء الله وشر من اليهود والنصارى لأنهم قوم لا دين لهم يتبعونه ولا رب يعبدونه وواجب على كل من ظهر على أحد منهم أن ينهي أمره إلى ولاة المسلمين ليحكموا فيه بحكم الله تعالى ويجب على من ولي الأمر إذا سمع بهدا التصنيف البحث عنه وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها وأدب من اتهم بهذا المذهب أو نسب إليه أو عرف به على قدر قوة التهمة عليه حتى يعرفه الناس ويحذروه " العلم الشامخ ص 498(98/106)
16- وممن كفره نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي قال عن الفصوص:" وأما تصنيفٌ تذكر فيه هذه الأقوال ويكون المراد بها ظاهرها فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك بل هو كاذب فاجر كافر في القول والإعتقاد ظاهرا وباطنا وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها فهو كافر في قوله ضال بجهله ولا يعذر في تأويله بتلك الألفاظ إلا أن يكون جاهلا بالأحكام جهلا تاما عاما ولا يعذر في جهله لمعصية لعدم مراجعة العلماء والتصانيف على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم أعني معرفة الأدب في التعبيرات على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر أو يتعسر تأويله بل كلها كذلك " مصرع التصوف ص 144- 145
17 – وممن كفره نجم الدين محمد بن عقيل البالسي الذي قال:" من صدق هذه المقالة الباطلة أو رضيها كان كافرا بالله تعالى يراق دمه ولا تنفعة التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعية ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها بلسانه بل يجب عليه منع قائلها بالضرب إن لم ينزجر باللسان فإن عجز عن الإنكار بلسانه أو بيده وجب عليه إنكار ذلك بقلبه وذلك أضعف الإيمان " المرجع السابق ص 146 – 147 .(98/107)
18- وممن كفره العلامة أبو أمامة محمد بن علي بن النقاش المصري الذي قال:" وقد ظهرت أمة ضعيفة العقل نزرة العلم اشتغلوا بهذه الحروف وجعلوا لها دلالات واشتقوا منها ألفاظا واستدلوا منها على مدد وسموا أنفسهم بعلماء الحروف ثم جاءهم شيخ وقح من جهلة العالم يقال له البوني ألف فيه مؤلفات وأتى فيها بطامات ومن الحروف دخلوا للباطن وأن للقرآن باطن غير ظاهر بل وللشرائع باطنا غير ظاهرها ومن ذلك تدرجوا إلى وحدة الوجود وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ممن يجعل وجود الخالق هو الوجود المخلوق وقد لا يرضى هؤلاء بلفظ الإتحاد بل يقولون بالوحدة " تفسيره المسمى (السابق واللاحق) وعنه مصرع التصوف ص 147-148 اهـ ثم قال:" وهم متألهون للخيال معظمون له لا سيما ابن عربي منهم ويسميه أرض الحقيقة ولهذا يقولون بجواز الجمع بين النقيضين وهو من الخيال الباطل وقد علم المعتنون بحالهم من علماء الإسلام كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب وغيرهما أن الجن والشياطين تمثلت لهم وألفت كلاما يسمعونه وأنوارا يرونها فيظنون ذلك كرامات وإنما هي أحوال شيطانية لا رحمانية وهي من جنس السحر " اهـ المرجع السابق ص150
19- ومن العلماء الذين كفروه العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام النحوي اللغوي الشهير الذي كتب على نسخة من كتاب الفصوص:
" هذا الذي بضلاله
ضلت أوائل معْ أواخر
من ظن فيه غير ذا
لينأ عني فهو كافر
هذا كتاب فصوص الظلم ونقيض الحكم وضلال الأمم كتاب يعجز الذم عن وصفه وقد اكتنفه الباطل من بين يديه ومن خلفه لقد ضل مؤلفه ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا لأنه مخالف لما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وفطر عليه خليقته " المرجع السابق ص 150 .اهـ(98/108)
20- ومنهم العلامة القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الذي قال:"... والطريقة الثانية وهي مشوبة بالبدع وهي طريقة قوم من المتأخرين يجعلون الطريقة الأولى وسيلة إلى كشف حجاب الحس لأنها من نتائجها ومن هؤلاء المتصوفة ابن عربي وابن سبعين وابن برجان وأتباعهم ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم ولهم تآليف كثيرة يتداولونها مشحونة بصريح الكفر ومستهجن البدع وتأويل الظاهر لذلك على أبعد الوجوه وأقبحها مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملة أو عدها في الشريعة وليس ثناء أحد على هؤلاء حجة ولو بلغ المثني ما عسى أن يبلغ من الفضل لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلا أو شهادة من كل أحد وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة وما يوجد من نسخها بأيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي والبد لابن سبعين وخلع النعلين لابن قسي وعين اليقين لابن برجان وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض والعفيف التلمساني وأمثالهما أن يلحق بهذه الكتب وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض فالحكم في هذه الكتب وأمثالها اذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحى أثر الكتاب لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين بمحو العقائد المختلفة فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق " اهـ تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي ص 150-152 والعلم الشامخ ص 500(98/109)
21- وممن كفره العلامة شمس الدين محمد العيزرى الشافعي فقال عن الفصوص:" قال العلماء: جميع ما فيه كفر لأنه دائر مع عقيدة الإتحاد وهو من غلاة الصوفية المحذر من طرائقهم وهم شعبان: شعب حلولية يعتقدون حلول الخالق في المخلوق، وشعب اتحادية لا يعتقدون تعددا في الوجود في زعمهم أن العالم هو الله وكل فريق منهم يكفر الآخر ؛ وأهل الحق يكفرون الفريقين...ثم قال :ومنهم ابن الفارض صاحب الديوان وعد جماعة معه ثم قال :ذكر هؤلاء بالحلول والإتحاد جماعة من علماء الشريعة المتأخرين كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح وابن دقيق العيد وشيخ الفقهاء الزين الكتاني وقاضي القضاة الشيخ تقي الدين السبكي وحكم بتكفيرهم القضاة الأربعة بدر الدين ابن جماعة والزين الحنفي والشرف الزواوي والسعد الحنبلي " اهـ العلم الشامخ ص 495
22- الحافظ الرحالة شمس الدين أبو عبد الله الموصلي الشافعي قال:" وفي كلام ابن عربي من الكفر الصريح الذي لايمكن تأويله شيء كثير يضيق هذا الوقت من وصفه ومنه تفسير اسمه العلي؛ بأن قال العلي على من ؟ وما ثم إلا هو !! وهو المسمى أبا سعيد الخراز " اهـ مصرع التصوف ص 154
23- قال القاضي شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي في أول كتابه في أصول الدين ؛" في المسألة السادسة في حدوث العالم مانصه: وخالفنا في ذلك طوائف الأولى الدهرية والثانية متأخرو الفلاسفة كأرسطو ومن تبعه من ضلال المسلمين وابن سينا والفارابي ومن حلى كلامه وزخرفه بشعار الصالحين كابن عربي وابن سبعين " اهـ المرجع السابق154- 155(98/110)
24- ذكر شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في ترجمة ابن الفارض مانصه:" وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني عن ابن عربي فبادر بالجواب بأنه كافر، فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحب أن أتكلم فيه فقلت:ما الفرق بينهما والموضع واحد ؟ وأنشدته من التائية فقطع علي بعد إنشادي عدة أبيات بقوله هذا كفر، هذا كفر " اهـ لسان الميزان 4/365
25- وممن كفره أيضا العلامة برهان الدين السفاقيني صاحب الإعراب ونظم قصيدة طويلة رائعة في الرد عليه وعلى أمثاله يقول فيها:
فشيخهم الطائي في ذاك قدوة
يرى كل شيء في الوجود هو الحقا
وكم من غوي كابن سبعين مثله
وكلهم بالكفر قد طوقوا طوقا
وكالششتري القونوي وابن فارض
فلا برد الله ثراهم ولا أسقى تنبيه الغبي ص 160
26- وقال حافظ عصره وفريد دهره شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي بعد حط الحافظ سيف الدين بن المجد على الحريري الصوفي: " فكيف لو رأى الشيخ كلام ابن عربي الذي هو محض الكفر والزندقة لقال هذا الدجال المنتظر ولكن كان ابن عربي منقطعا عن الناس إنما يجتمع به آحاد الإتحادية لا يصرح بأمره لكل أحد ولم تشتهر كتبه إلا بعد موته ولهذا تمادى أمره فلما كان على رأس السبع مائة جدد الله لهذه الأمة دينها بهتكه وفضيحته ودار بين العلماء كتابه الفصوص وقد خط عليه الشيخ القدوة الصالح إبراهم بن معضاد الجعبري فيما حدثني به شيخنا ابن تيمية عن التاج البارنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم يذكر ابن عربي قال: (كان يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا) وحكى عنه ابن تيمية أنه قال لما اجتمعت بابن عربي: رأيت شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله " التاريخ الإسلامي للذهبي ج20 الورقة 57 إلى 62 اهـ(98/111)
27- وذكر تقي الدين الفاسي في كتابه " تحذير النبيه والغبي من الإفتتان بابن عربي " عددا من العلماء الذين كفروه منهم أبو بكر بن محمد بن صالح الجيلي المعروف بابن الخياط الشافعي المفتي والمدرس بالمعينية والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري الشافعي مفتي زبيد وفاضل اليمني شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي الذي نظم قصيدة رائعة تبلغ ستا وسبعين بيتا يقول فيها:
حوتهن كتب حارب الله ربها
وغر بها من غر بين الحواضر
تجاسر فيها ابن العُريبي واجترا
على الله في ما قال كل التجاسر
فقال بأن العبد والرب واحد
فربي مربوب بغير تغاير
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده
إله وعبد فهو إنكار فاجر
وقال تجلى الحق في كل صورة
تجلى عليها فهو إحدى المظاهر
فسبحان رب العرش عما يقوله
أعاديه من أمثال هذي الكبائر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن
وإلا فصدقه تكن شر كافر العلم الشامخ ص 504والرد على القائلين بوحدة الوجود للقاري ص 141 -152
28- وممن كفر ابن عربي وأمثاله نادرة الزمان علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي الذي صنف في ذلك رسالة سماها (فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين ) ونقل عن القاضي عضد الدين تكفيرهم فإنه قال في وصفه لأبن عربي " يحكى عنه أنه كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش " مصرع التصوف ص 164
29- وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة التونسي عالم إفريقية وقد سئل عن ابن عربي وعن بعض كلامه فقال:" إن من نسب إليه هذا الكلام لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته" المرجع السابق ص 175 اهـ
30- وممن صنف في تكفير ابن عربي وأضرابه: بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل اليمني الحسيني نسبا وبلدا وقد ألف كتابين الأول كشف الغطاء عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين والثاني: بيان حكم الشطح والنص على مروق ابن عربي وابن الفارض واتباعهما من الملحدين. انظر البدر الطالع للشوكاني 1/218-219(98/112)
31- قال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير:" محي الدين بن عربي صاحب الفصوص وغيره محمد بن علي بن محمد بن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلسي طاف البلاد وأقام بمكة مدة وصنف فيها كتابه المسمى (بالفتوحات المكية) في نحو عشرين مجلدا فيها ما يعقل ومالا يعقل وما ينكر ومالا ينكر وما يعرف وما لا يعرف وله كتابه المسمى بـ(فصوص الحكم )فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح " البداية والنهاية 13/135 اهـ
32- وممن ألف في تكفيره الملا علي القارئ واسم كتابه (الرد على القائلين بوحدة الوجود) وهو مطبوع.
33- وممن ألف في تكفيره العلامة إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي (ت 945) واسم كتابه (تسفيه الغبي في تنزيه ابن عربي) طبع بتحقيق علي رضى.
34- وممن كفره جلال الدين السيوطي بعد أن كان يدافع عنه، قال في كتابه (التحبير):" ويحرم تحريما غليظا أن يفسر القرآن بما لا يقتضيه جوهر اللفظ كما فعل ابن عربي المبتدع الذي ينسب إليه كتاب الفصوص الذي هو كفر كله " اهـ التحبير في علم التفسير ص 537 تحقيق د/ زهير عثمان علي نور 1416 هـ
وقال في كتابه إتمام الدراية شرح النقاية:" ونعتقد أن طريق أبي القاسم الجنيد سيد الصوفية علما وعملا وصحبة طريق مقوم فإنه خال من البدع دائر على التفويض والتسليم والتبري من النفس بخلاف طريق جماعة من المتصوفة كابن عربي الطائي وأضرابه فإنها زندقة منافية للكتاب والسنة " مجلة الحكمة العدد 11 ص 297 اهـ
فهذه جماعةتزيد على الخمسين من أكابر الأئمة والقضاة وهم:
برهان الدين البقاعي
شيخ الإسلام زين الدين العراقي
بدر الدين بن جماعة
شيخ الإسلام بن حجر العسقلاني
ولي الدين العراقي
الإمام أبو علي السكوني
علاء الدين البخاري الحنفي
قاضي القضاة زين الدين التفهني
قاضي القضاة محمود العيني الحنفي
الشيخ يحي السيرامي الحنفي
قاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي
زين الدين أبو بكر القمني الشافعي(98/113)
بدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي
شهاب الدين أحمد بن تقي المالكي
شمس الدين محمد البساطي المالكي
شهاب الدين أحمد بن يحي التلمساني الحنفي
الإمام سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان الصوفي
عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي
شمس الدين محمد بن يوسف الجزري
برهان الدين الجعبري
زين الدين عمر بن أبي الحرم الكتاني الشافعي
تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي
تقي الدين الفاسي المكي
بهاء الدين السبكي
الكمال الدميري
التقي الحصني
شرف الدين عيسى بن مسعود المالكي
نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي
نجم الدين محمد بن عقيل الشافعي
العلامة محمد بن علي بن النقاش المصري
جمال الدين بن هشام النحوي
قاضي القضاة عبد الرحمن بن خلدون
شمس الدين محمد العيزري الشافعي
عز الدين بن عبد السلام
أبو عمرو بن الصلاح
أبو الفتح بن دقيق العيد
شيخ الفقهاء الزين الكتاني
شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني
عماد الدين ابن كثير الدمشقي
الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الموصلي
الإمام أبو حيان الأندلسي
سراج الدين البلقيني
برهان الدين السفاقيني
شمس الدين الذهبي
القاضي عضد الدين
أبو بكر بن محمد بن صالح المعروف بابن الخياط
شهاب الدين أحمد بن علي الناشري الشافعي
بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل اليمني
شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقرئ
أبو عبد الله محمد بن عرفة التونسي
الملا علي القارئ
جلال الدين السيوطي
إبراهيم بن محمد الحلبي
فهل يمكن بعد هذا العدد الكثير من علماء المسلمين الذين تدور عليهم الفتوى أن يدعى أن جمهور علماء الأثر والفقه يثنون عليه.
الوجه الثاني(98/114)
قوله:" أن ابن عربي مكث ثلاثة أشهر على وضوء واحد" مهزلة تضحك الثكالى إذ هذا ضرب من الخرافات المستحيلة عقلا وعرفا وعادة ثم لو صحت لما كانت مدحا إذ لو كانت كذلك لكان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وصحبه والتابعون لهم بإحسان أحق بها وإنما الصواب أن هذا الزنديق مرت عليه هذه الأشهر ولم يتوضأ بل لم يتوضأ أكثر من ذلك لأن المرتد لا وضوء له وقد عرفت تكفير العلماء له.
الوجه الثالث:
أما قوله" أنه لما صنف كتابه الفتوحات المكية وضعه على ظهر الكعبة ورقا من غير وقاية عليه فمكث على ظهرها سنة لم يمسسه مطر ولا أخذ منه الريح ورقة واحدة مع كثرة الرياح والأمطار بمكة"
فنقول أولا: هذا كذب مفضوح لأن هذا الكتاب موجود وهو كسائر الكتب ومن كابر فليأتنا بنسخته نرش عليها ملء محجم من الماء ثم نرى ما يحدث.
ثانيا: هذه أصنام قريش كانت فوق الكعبة أزمانا طويلا لم تضرها الأمطار والرياح فهل هذا دليل على أنها على الحق ؟! ومانعلم له سلفا غيرهم.
الوجه الرابع:
قوله:" وسئل العماد بن كثير رحمه الله عمن يخطئ الشيخ محي الدين؛ فقال: أخشى أن يكون مخطؤه هو الخاطئ "
فالرد عليه من وجوه أولها أن هذا لم يثبت من طريق يحتج به لأن ناقله هو الشعراني الذي لو سلمنا ثقته فإخباره بهذا مردود لما تقرر في كتب المصطلح من أن رواية المبتدع لما يؤيد مذهبه مردودة. انظر مقدمة ابن الصلاح ص 149- 150 وتدريب الراوي 324- 325 والكفاية للخطيب 120- 121 وشرح ألفية السيوطي للأثيوبي1/362
ثانيهما: ما تقدم نقله عن ابن كثير من تكفيره لابن عربي.
ثالثها أن ابن كثير كان مع شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله ممن يشدد النكير على ابن عربي ولم يخطئهم.
رابعها: أنه لو سلمنا جدلا ثبوته لتعين تأويله بأن مجرد تخطئة ابن عربي قليل في حقه إذ حقه التكفير فمخطئه خاطئ من هذه الحيثية.
تعقيبات على ترجمة البكري
قال مفتاح التجاني:(98/115)
" المحور الخامس: وأما المحور الخامس المتعلق بالترجمة عن البكري فإنه - - رضي الله عنه - ترجمه جماعة من جلة العلماء..."ألخ (ص 15-18)
والرد على هذه الترجمة من ثلاثين وجها على سبيل البسط ترجع إجمالا إلى ستة أوجه.
الوجه الأول:
ما نقل عن البكري أنه قال:" إن لله عبدا بين أظهركم حاضرا معكم في مجلسكم هذا ينزل إليه في كل يوم ملك صبيحة يأمره بمكارم الاخلاق وينهاه عن مساوئها يعني نفسه "اهـ بلفظه. فهذا باطل:
أولا: من يدريه أنه ملك إذ الملك لو جاء في صورته الملائكية لما وسعته الأرض كلها بدليل أنه - - صلى الله عليه وسلم - لما رأى جبريل على صورته سد عنه الأفق البخاري بنحوه الأحاديث (4- 3238- 4922- 4923- 4924 – 4925 )
فإن قال: إن الملك جاءه في صورة بشر فكيف عرف أنه ملك، وقد قال تعالى: - { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون - } [ الأنعام 09].
ثانيا: أنه قد نص غير واحد من العلماء كعز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب وغيرهما أن الشياطين تتمثل لهؤلاء وألفت كلاما يسمعونه وأنوارا يرونها يظنون ذلك كرامات وإنما هي أحوال شيطانية لا رحمانية وهي من جنس السحر مصرع التصوف ص 148 .
وفي الرماح للفوتي ناقلا عن زين الدين مانصه: " والشيطان يجئ على صورة الصالحين كثيرا ولا يقدر على التمثل بصورة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - " الرماح 1/363
ثالثا: الرسول إلى كافة الناس محمد - - صلى الله عليه وسلم - لا نبي آخر ولا ملك ؛ لهذا غضب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على عمر حينما رأى معه صحيفة من التوراة فقال له:" لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه واتركتموني لضللتم " أحمد 3/387 والدارمي 1/115 وابن أبي عاصم في السنة 5/2وابن عبد البر 2/42.
وقال ابن حجر في الفتح 13/284" رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفا"اهـ(98/116)
وتعقبه الألباني في الإرواء 6/34 بقوله :" لكن الحديث قوي فإن له شواهد كثيرة "اهـ
رابعا: لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه أتاه ملك وأمره بشيء أونهاه عن شيء آخر ؛ نعم قد يسمع بعضهم تسليم الملك دون أن يراه كما وقع للصحابي عمران بن حصين أو يراه على صورة بشر كما في حديث جبريل الطويل ولو لم يخبرهم النبي - - صلى الله عليه وسلم - أنه جبريل لماعرفوه أما أن يراه على صورته الملكية فلا يستطيع ذلك.
الوجه الثاني:
ما نقل عن الشعراني أنه قال: جاورت بمكة المشرفة مع الأستاذ سيدي محمد البكري الصديق في بعض مجاوراته وكنت كثير الملازمة له شديد الإتصال به بينما هو جالس بالحرم الشريف بباب إبراهيم وأنا عنده إذ جاء الخادم من منزله فطلب شيئا من النفقة ولم يكن معه إذ ذاك ماينفق فقال للخادم نرسل الآن إن شاء الله فمضى الخادم ثم عاد ولح في الطلب فأجاب الشيخ بما أجاب به أولا وتكرر ذلك من الخادم فنهض الشيخ للطواف وأنا معه وهو يقول:
صوح النبت فاسقه
قطرة من سحائبك
وأغثنا فإننا
في ترجي مواهبك
وما زال يكررها في الطواف وإذا بشخص هندي أقبل على الشيخ وقبل يده ورفع له من جيبه صرة من الدنانير وقال: ياسيدي هذه هدية لك أرسلها معي ملك الهند، فسجد الشيخ شكرا لله تعالى وانقلب إلى أهله مسرورا " اهـ
نقول لك يا مفتاح:
أولا هذه ليست كرامة إذ حصول المال الكثير للشخص قد يكون ابتلاء واستدراجا كما وقع لقارون قال الله تعالى - { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون - } [ المؤمنون 55 ].
ثانيا: كونه ترك أهله وليس عندهم شيء وجلس في الحرم تضييع لأهله وقد قال - - صلى الله عليه وسلم - " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " صحيح مسلم في الزكاة باب النفقة على العيال والمملوك ح ( 2312 ) وأبو دود ح (1692) واللفظ له.(98/117)
ثالثا: تركه للتكسب واعتماده على سؤال الناس وهداياهم مخالف للشرع والعقل والفطرة، ولو حصل الرزق بدون كسب لحصل لمريم وهي في حال الولادة قال الله تعالى - { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا - } [ مريم 25 ].
رابعا:كان الأولى للشيخ أن يتكسب بعمل يده حتى يستغني عن الآخرين ففي الصحيحين أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - قال " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود ليه السلام كان يأكل من عمل يده " البخاري في البيوع باب كسب الرجل وعمل يده ح ( 2072 ).
خامسا: اشتغاله في الطواف بإنشاد الأشعار الهزيلة التي ليس فيها إلا طلب المال يدل على انحطاط همته التي قصاراها أن يحصل على المال من أي وجه.
سادسا: عدم اشتغاله بالأذكار والأدعية في الطواف وإبدالها بهذه الأشعار جهل كبير وتقصير عظيم.
سابعا: تقبيل يده يدل على تكبره وإعجابه بنفسه وعلى تقديس أتباعه وأشياعه له وإطرائهم له.
ثامنا: سجوده عند مجيء المال يدل على امتلاء قلبه من محبة الدنيا وأنها همه الأكبر ومقصوده الأعظم.
الوجه الثالث:
قوله أنه حج سنة من السنين وزار قبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - فلما جلس بين الروضة والمنبر خاطبه النبي - - صلى الله عليه وسلم - شفاها وقال له:" بارك الله فيك وفي ذريتك ".
أقول:
أولا: قولك جلس بين الروضة والمنبر باطل لأن الروضة هي ما بين المنبر وحجرة عائشة لقوله - - صلى الله عليه وسلم -:" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " البخاري ح ( 1195) و( 1196) ومسلم ح ( 1390 ) و( 1391 ) .(98/118)
ثانيا: زعمه أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - خاطبه كاذب فيه إذ لو كان مخاطبا أحدا لخاطب ابنته فاطمة مع شدة وجدها على فراقه أو أبا بكر أو غيره من الخلفاء ولخاطبهم في سقيفة بني سعادة أو عند وقعة الجمل وصفين وغيرها من الأمور المهمة إذ لا يعقل أن يكون النبي - - صلى الله عليه وسلم - يستطيع حقن دماء المسلمين ثم لا يفعل.
ثالثا من الذي قال له أنه النبي - - صلى الله عليه وسلم - لأنه إنما يسمع الصوت ولا يدري صوت من.
رابعا: لو وقع مثل هذا الحادث الجلل في هذا المكان المعمور دواما بالمسلمين خاصة في موسم الحج لتواتر ذكره وذاع واشتهر بين الناس أما وقد انفرد به تلميذه الشعراني فهيهات.
خامسا: مما يدل على بطلان زعمه هذا أنه لم يبارك فيه بل مات على بدعته وضلاله والمصطفى - - صلى الله عليه وسلم - مستجاب الدعاء.
الوجه الرابع:
عندما أراد أن يتبجح بعلمه ومعرفته لم يذكر أنه قرأ كتابا كاملا إلا الألفية والتنبيه للشرازي وأنه حضر بعض دروس والده في التفسير والحديث والفقه ؛ هل بهذا يكون علامة أساذ الأستاذين وشيخ الإسلام وإمام الأولياء والعارفين ؟!!.
الوجه الخامس:
وذكر في الترجمة " وقال - - رضي الله عنه - في الحجة الأخيرة: إن قدمت هذه المرة تكون شيخا مربيا فلما قدم تلقيته وقلت له يا والدي هل أنجزتني ما وعدتني فقال نعم،وزيادة عرضتك على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - وقلت: مالولدي محمد فقال لو أخبرت قريشا بما لها عند الله بطرت " اهـ (ص 17).
أولا: قوله إن قدمت هذه المرة تكون شيخا مربيا هذا متناقض لأنه ما دام لا يعرف هل سيعود أم لا فكيف يعرف حال غيره وأنه سيكون شيخا مربيا فتنبه لهذا فهو واضح ؟.
ثانيا: قال تعالى - { وما تدري نفس مادا تكسب غدا - } [ لقمان 34 ] فكيف خرج البكري عن ذلك حتى علم حال ابنه في المستقبل.(98/119)
ثالثا: قال تعالى - { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول - } [ الجن 26 ] فهل هو من أدعياء النبوة والرسالة ؟.
رابعا: قال تعالى - { وما كان الله ليطلعكم على الغيب - } [ آل عمران 179 ] فمن الذي أطلعه هو على الغيب ؟.
خامسا: قوله تعالى على لسان رسله - - صلى الله عليه وسلم -: - { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير.. - } [ الأعراف 188 ] فكيف علم الغيب الذي جهله سيد الأنبياء والمرسلين وإمام الحنفاء والمتقين محمد - - صلى الله عليه وسلم - ؟.
سادسا: قوله " عرضتك على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - كلا بل عرضته على شياطينك، ثم هذه بدعة أحدثتها ؛ فأي الصحابة عرض ابنه على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بعد موته أو التابعين أو تابعيهم أهل القرون المزكاة.
الوجه السادس:
قوله ثم إن الله تعالى وله المنة والفضل أنعم علي بالتكلم على نقطة البسملة في الجامع الأزهري في ألفي مجلس ومائتا مجلس وفي الألف في افتتاح الإسم الجامع من آية الكرسي أكثر من ذلك " اهـ ص 18.
أولا: ألم تذكر قوله تعالى - { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء - } [ النساء 49 ]وقوله تعالى - { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى - } [ النجم 32 ] وقوله - - صلى الله عليه وسلم - في حديث عياض بن حمار " إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " صحيح مسلم كتاب الجنة ونعيمها ح ( 7210 )
ثانيا: كم مجلس عقده رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - للكلام على نقطة الفاتحة ؟ نتحداكم أن تذكروا لنا مجلسا واحدا حولها أو حول الألف.
ثالثا: هل كتم رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - هذا العلم الكثير فنشرته أنت ؟ كتمه عن الصحابة أفضل هذه الأمة ونشرته أنت بين من لا يساوي صحابيا واحدا ؟.(98/120)
رابعا: أين هذه العلوم الجليلة ؟ أم أننا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا أم أنه مجرد تبجح وافتخار على المؤمنين ؟.
خامسا: ماهو الاسم الجامع ؟ وما الذي يجمعه ؟ هل تعني الإسم الأعظم الذي استأثر الله بعلمه ؟ أم هو اسم آخر ؟
سادسا:وأين آلاف التلاميذ الذين استوعبوا هذه العلوم الجليلة ؟! أم أنها إنما تدرس للعوام والجهال ؟.
ملاحظات على ترجمة البسطامي
قال مفتاح التجاني:
"المحور السادس وأما المحور السادس فهو المتعلق بأبي يزيد البسطامي - - رضي الله عنه - ..." اهـ ثم ذكر بعض ترجمة الذهبي له في الميزان والسير والعبر انظر ص 19.
والرد عليه من اثني عشر وجها:
الوجه الأول:
لقد حذفت من كلام الذهبي ما صرح فيه بأن ظاهر كلام البسطامي إلحاد، وهذا في قمة التلبيس والتدليس وإليك نص الكلام المحذوف قال الذهبي في السير (13/ 88 ) وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها الشأن في ثبوتها عنه أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر والغيبة والمحو فيطوى ولا يحتج بها إذ ظاهرها إلحاد مثل " سبحاني " "وما في الجبة إلا الله " ؛ " ما النار لأستندن إليها غدا وأقول اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتها ما الجنة لعبة الصبيان ومراد أهل الدنيا ما المحدثون إن خاطبهم رجل عن رجل فقد خاطبنا القلب عن الرب " وقال في اليهود:" ما هؤلاء هب هم لي أي شيء هؤلاء حتى تعذبهم " اهـ كلامه بحروفه.
الوجه الثاني:
وبعد أن حذفت من كلامه ماهو حجة عليك وقاصم لظهرك جاهرت بالكذب فقلت في آخر مانقلت عنه ما نصه (هذه عبارة الذهبي فيه).
لكي يفهم القارئ أنك نقلت عبارته كاملة تامة.
الوجه الثالث:
أما التشكيك في ثبوت هذه الكفريات فلا يصدر عن تجاني لأن أحمد التجاني أثبتها كلها أو معظمها في جواهر المعاني انظر جواهر المعاني 1/277 وكاشف الألباس ص 167و176 .
الوجه الرابع:
وأما تأويلها بأنه كان في حالة السكر والفناء فغايتها تنزيله منزلة المجانين المرفوع عنهم القلم وهذه رتبة لا يفرح بها.(98/121)
الوجه الخامس:
هذه ضلالات كفرية صريحة لا تقبل التأويل وكل من تأولها فقد تعسف قال الحافظ ابن كثير مانصه: " وقد حكي عنه شطحات ناقصات وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة وقد قال بعضهم إنه قال ذلك في حال الإصطلام والغيبة ومن العلماء من بدعه وخطاه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته والله أعلم " اهـ كلامه بحروفه. البداية والنهاية 11/30
الوجه السادس:
لقد صرح الذهبي بإنكار أهل العلم عليه وطردهم له من بلده وأنتم معاشر التجانية أول من يعترف بذلك قال في الرماح: وقد نفي أبو يزيد البسطامي من بلده سبع مرات بأمر الحسين بن عيسى لما تكلم أبو يزيد بعلوم لا عهد لأهل بلده بها في مقامات الأنبياء والأولياء ولم يعد البسطامي إلا بعد الحسين ثم بعد ذلك ألفه الناس وعظموه " اهـ الرماح 2/512
الوجه السابع:
لو كانت هذه زلات وشطحات في حال غيبة العقل لما كثرت وتنوعت وتعددت فإن ذلك يقوى ما أشار إليه ابن كثير من أنها حقائق نابعة عن عقائد مكتومة في القلب.
الوجه الثامن:
لم اقتصرت في نقل ترجمته على عالم واحد هو الذهبي مع أنه قد ترجم له غير واحد من الكتب المعتمدة مثل حلية الأولياء (10/33-42) والمنتظم (5/28-29) ووفيات الأعيان (2/531) والبداية والنهاية (11/30) وشذرات الذهب (2/143) وغيرهم كثير ؟
الوجه التاسع:
لماذا أخرته وقدمت أحمد التجاني عليهم جميعا مع أنه متأخر عنهم هل لأنك تعتقد بأنه أفضل منهم ؟ بل هم تحت قدميه كما قال عن نفسه ؟.
الوجه العاشر:
صرح من تأول هذه الشطحات على أنها لا يحتج بها بل غايتها أن يسلم صاحبها ويبقى في دائرة الإسلام ولهذا قال الذهبي كما تقدم:" أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر والغيبة والمحو فيطوى ولا يحتج بها إذ ظاهره إلحاد ".
الوجه الحادي عشر:
لم تذكر في الترجمة تاريخ مولده ولا وفاته وهذا غاية في التقصير.
الوجه الثاني عشر:(98/122)
افترت الصوفية على البسطامي وأناطوا به الكثير من باطلهم قصد ترويجه لعموم المسلمين.
إطراء مفتاح لبحثه
قال مفتاح التجاني:
" أن من كان بمثابته من الجهل والتعصب لا يمكنه بوجه من الوجوه أن يقيم أو يقوم بحثي الأصولي المحكم المشبك بقواعد علم الصناعة الحديثية الذي لم يترك شاذة ولا فاذة لمن حاول تضعيف حديث الضرير إلا جعلها كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف " اهـ ص 20
والرد عليه من وجوه ثلاث:
الوجه الأول:
أما شتمك لي فأنا لا أنتصر لنفسي وإنما انتصر لدين الله وأدافع عنه وشهادتك علي بالجهل والتعصب وغير ذلك من السب والشتم كتبت عليك وستسأل عنها بين يدي علام الغيوب.
الوجه الثاني:
إذا كنت جاهلا كما وصفت فلم لم تستطع الرد علي ليلة المناظرة فلجأت إلى ادعاء وجود بحث كتبته فأرسلنا له فلما قرئ ورددنا عليه ووقف حمارك في العقبة لجأت على ادعاء وجود أدلة أخرى لا يمكن أن تأتي بها الآن ولكن في المناظرة القادمة وكان ذلك أسلوبا ذكيا في الهروب لأنك لم تأت في الموعد الذي حددت للمناظرة.
الوجه الثالث:
أما البحث الذي بالغت في مدحه وإطرائه فهو صفحات قليلة لا تبلغ عدد أصابع اليدين وليس فيها إلا الطعن في أهل العلم والفضل مع ما شحنته به من التدليس والاغلاط الفاحشة والأوهام المنكرة وإليك أكثر من عشرة أمثلة على ذلك:
1- حاولت في البداية حصر الزيادات على الرواية الأصلية ولعل ما بقي عليك منها أكثر مما ذكرته فلم تذكر زيادة صلاة ركعتين وهي عند أحمد وابن ماجه والحاكم من طريق شعبة وعند النسائي من طريقي حماد وهشام الدستوائي.
2- غفلت عن رواية النسائي من رواية حماد والتي فيها " أن يقضي حاجتي أو حاجتي إلى فلان أو حاجتي في كذا وكذا " والظاهر أنك أهملت هذه الزيادة خوفا من تضعيف الحديث بسببها لأنك تعتبرمجرد الشك كاف في تضعيف الحديث كما قلت في تضعيفك لزيادة ((وشفعني فيه)).(98/123)
3- ثم لم تذكر الزيادة التي روى أحمد (4/190- 191) بلفظ ((وإن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك )) هل حذفتها لأنها تدل على نكارة الحديث إذ لن يقدم الصحابي شيئا من أمر الدنيا على أمر الآخرة إلى غير ذلك من الألفاظ التي تركتها وقد تقدم الكلام عليها في أول هذا البحث.
4- قولك بأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - معصوم من تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
هذا دليل على الجهل المركب لأن الحديث ليس فيه لفظ من ألفاظ العموم أصلا وهذه العبارة هي كل ما ذكرت مما يتعلق بعلم الأصول ومع ذلك لم تستح فقلت بلسان المغرور المتبجح " بحثي الأصولي المحكم "
وتعظم في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
5- ذكرت القصة التي وقعت في زمن عثمان - - رضي الله عنه - ولم تذكر إسنادها لأنك تعلم ضعفها ففيه روح بن صلاح ضعفه الجمهور كما تقدم في هذا البحث.
6- ذكرت طرق الحديث ولم تشر إلى الإختلاف الواقع فيها لأنه مشعر بعدم ضبط أبي جعفر الذي لم يوصف إلا بالصدق لا بالضبط قال ابن حجر في التقريب:" صدوق من السادسة " تقريب التهديب ص 368 وقد ذكر في مقدمة التقريب أن هذه المرتبة لمن كان دون مرتبة ثقة أو عدل أو نحوها المرجع السابق ص 14 .
أما الإختلاف فلأن الحديث رواه شعبةوحماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة وعن عثمان بن حنيف، ورواه هشام الدستوائي وروح بن القاسم عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان - - رضي الله عنه -.
7- قوله " أن هذا المحاضر ـ يعنى العلامة الشيخ محمد الحسن بن الددو ـ غير عبارة الترمذي (وهو غير الخطمي ) فأبدلها بقوله (وليس بالخطمي) " اهـ
قلت: بل ذلك في بعض النسخ بدليل قول حافظ الدنيا ابن حجر العسقلاني في التقريب مانصه " أبو جعفر عن عمارة ابن خزيمة قال الترمذي (ليس هو الخطمي) فلعله الذي بعده " المرجع السابق ص 554 .(98/124)
8- وأما قولك:بأن (وهو غير الخطمي) تحرفت على النساخ وأن صوابها وهو عين الخطمي.
فهذا كلام من لا علاقة له بسنن الترمذي لأن الترمذي لم يقل في راو واحد " وهو عين فلان " ولكن يقول "وهو فلان "أو "واسمه فلان" ونحو ذلك وأنا أتحداك أن تذكر لي موضعا واحدا في سنن الترمذي قال فيه "وهو عين فلان".
ثم ادعاء الوهم والغلط بدون حجة أو برهان تحكم باطل ووقاحة شديدة وطرده يؤدي إلى إبطال الدين وقلب الحقائق ولا يمارس مثل هذا إلا المستشرقون.
9- قوله:" كذلك لفظ الاحتجاب لم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بما في ذلك طريق القصة التي في خلافة عثمان فإن كان هذا المحاضر فهم الاحتجاب عن الناس من قول أبي أمامة فيها: فجاء البواب فأخذ بيده "
هذا كذب صراح وإفك مكشوف وتلبيس مفضوح لأنه في هذه القصة عند الطبراني وغيره:" أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان - - رضي الله عنه - في حاجة له وكان عثمان لا يلتف إليه ولا ينظر في حاجته " وفيها أيضا " ثم أن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي " فهذا هو الإحتجاب المنسوب ظلما وعدوانا إلى عثمان - - رضي الله عنه - ولا شك أنه مما عملت يدا روح بن صلا ح المصري إذ كثير من فسقة المصريين كانوا حربا على عثمان حتى قتلوه كماهو معروف،وروح قد تقدم أنه صاحب مناكير.
اقصر بطرفك لا تطمح إلي به
فشأن من ليس يدري الجري أن يقفا
10- قوله أن عبارة ((وشفعني فيه )) ماتثبت لأن شعبة هو الذي تفرد بها دون سائر الرواة ونقل عنه الشك فيها.
قلت بل الشك ممن فوق شعبة فقد رواها عنه روح بدون شك عند أحمد (4/190-191) والحاكم عن طريق محمد بن جغفر بدون شك كما في المستدرك (1/519) ولكن لجهلك بمبادئ علم الحديث لا تستطيع أن تعرف ممن وقع الشك ثم ليس كل شك سببا لرد الرواية.(98/125)
11- قوله " أن يكون الأعمى شافعا في النبي - - صلى الله عليه وسلم - وهذا مستحيل شرعا وعقلا " قلت: لم يقل باستحالته أحد بل كل مسلم يفعل ذلك في اليوم خمس مرات لأنه يسأل بعد كل أذان الوسيلة للنبي - - صلى الله عليه وسلم - وهي منزلة عالية في الجنة (( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته)) صحيح البخاري كتاب الأدان باب الدعاء عند النداء ح ( 614 ) .
12- لم تتناول في بحثك العلل الحقيقية لهذا الحديث وهي اضطرابه سندا ومتنا ونكارة متنه إلى غير ذلك مما سبق ومع ذلك قلت عن بحثك " لم يترك شاذة ولا فاذة لمن حاول تضعيف حديث الضرير"
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد
رمتني بدائها وانسلت
قال مفتاح التجاني:
" ثانيها أن عدوله وإعراضه عن موضوع التوسل إلى اختلاق مسائل خارجة عنه إن دل على شيء إنما يدل على ضعف حجته وتعصبه لرأيه وتهربه من مواطن التحقيق ورغبته عن صحيح السنة " اهـ من ص 20
والرد عليه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
يبدو أن سهام الرد أصابت منك مقتلا حتى فقدت صوابك فصرت تهرف بمالا تعرف وتهذي بمالا تضبط وتقول مالا تعقل وأنا أعذرك في ذلك لأن فيه تسلية لنفسك وتخفيف عليها.
لو لم تكن لي في القلوب مهابة
لم تكثر الأعداء في وتقدح
كالليث لما هيب حط له الزببى
وعوت لهيبه الكلاب النبح
يرمونني شزر العيون لأنني
غلست في طلب العلا وتصبحوا
الوجه الثاني:
أماتقديم النقاش حول الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ونحو ذلك مما هو محل إجماع بين المسلمين على مافيه خلاف بين المسلمين كالتوسل فصواب لثلاثة أمور:
أ- قوله تعالى - { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا ولا يتخد بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمين - } [ آل عمران64 ].(98/126)
ب- أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذا إلى اليمن قال له: (( إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذاجئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله …)) 1 البخاري كتاب الزكاة (باب وجوب الزكاة) ح (1395) و(4347) واللفظ لها وغير ذلك من المواضع ومسلم في كتاب الإيمان (باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام)< 1/196 النووي. الحديث.
ج- أن مسألة التوسل مترتبة على هذه المسائل لأن الله هو الذي نتوسل إليه والرسول - - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تريدون التوسل به والكتاب هو الذي تستدلون به على ذلك.
الوجه الثالث:
أنت تعلم في قرارة نفسك من المتهرب من مواطن التحقيق فإن كنت صادقا في قولك فتعال إلى مناظرة علنية في أي مكان شئت.
أليس الإيمان بالله وكتابه ورسوله من قواعد الدين ؟!
قال مفتااح التجاني:
" ثالثها أن قوله بأن الإيمان بالله والرسول - - صلى الله عليه وسلم - والقرآن والسنة قواعد هو أدل دليل على جهله المركب بمدلولات الألفاظ وتراكيب الكلام " ص 20.
الرد عليه من خمسة أوجه:
الوجه الأول:
بل هذا دليل على جهلك بلغة العرب قال ابن منظور مانصه:" والقاعدة أصل الأس والقواعد الإساس وقواعد البيت إساسه وفي التنزيل - { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل - } [ البقرة/127 ] وفيه - { فأتى الله بنيانهم من القواعد - } [ النحل/26 ] قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده " اهـ لسان العرب 3/361 وانظر القاموس المحيط ص 281-282 أفتنكر أيها المفتاح أن الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر من أسس الدين وقواعده فإن قلت: نعم كفرت، وإن قلت: لا، رجعت عن قولك الباطل السخيف وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما.
الوجه الثاني:(98/127)
كما يدل كلامك هذا على جهلك بالشرع قال - - صلى الله عليه وسلم -: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان " متفق عليه البخاري ح(8) ومسلم ح (16) قال ابن حجر قوله:" على خمس " أي دعائم صرح به عبد الرزاق في روايته، وفي رواية لمسلم على خمسة أي أركان اهـ فتح الباري ج1/275
قلت: انظر كيف جعل من قواعد الإسلام وأسسه وأركانه شهادة أن لا إله إلا الله
وهي الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله وهي الإيمان برسول الله - - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثالث:
أنه في صحيح مسلم (باب السؤال عن أركان الإسلام ) وفيه (باب أركان الإسلام ودعائمه العظام ) وذكر في هذا الباب الحديث السابق ثم روى فيه حديث أنس أن أعرابيا قال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق، قال: فمن خلق السماء قال :الله ، قال فمن خلق الأرض، قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال: الله، قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك... الحديث صحيح مسلم كتاب الإيمان ح ( 10 ) فانظر كيف جعل الإيمان بالله ورسوله من أركان الإسلام ودعائمه التي هي القواعد كما تقدم عن أهل اللغة.
الوجه الرابع:
كما يدل كلامك هذا على جهلك بكتب طريقتك التيجاينة فإنها تستعمل القواعد لنفس المعنى، قال في بغية المستفيد مانصه:" قال الشعراني - - رضي الله عنه - مانصه: قلت: هذا كلام جاهل بأحوال الأئمة الأربعة الذين هم أوتاد الأرض وقواعد الدين والله أعلم " اهـ بغية المستفيد ص 113 .
فتأمل كيف جعل هؤلاء العلماء قواعد للدين، فكيف لا يكون رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - أولى منهم بذلك.
الوجه الخامس:
من تناقضك المخزي أنك وقعت فيما أنكرت وارتكبت ما عنه تنهى حيث قلت في صفحة 3 " وأما المحور الأول المتعلق بالقواعد التي تجب مراعاتها..."(98/128)
انظر كيف أثبت في ص 3 ما أنكرته في ص 20 وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنك لم تتمكن من مراجعة أبواب البحث والتنسيق بينها بعد أن أنجز كلا منها من كان مكلفا به.
ومن العجائب والعجائب جمة
قرب الدواء وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
التضايق من السؤال علامة للعجز عن الجواب
قال مفتاح التجاني:
" وأما قوله في المسألة الأولى من المسائل التي تساءل عنها هل تعتقد أن الله هو الوجود المطلق وكل المخلوقات حتى الأوثان هي الله كما هو مسطور في كتبكم المعتمدة أو تعلم أن الله خالق كل شيء فالرد عليه من ثلاثة أوجه: أولها أن تلفظه بهذا السؤال الركيك المصدر بما يوهم التشكيك... إلخ " ص 21.
والرد عليه من أربعة أوجه:
الوجه الأول:
لقد أحرجك هذا السؤال حتى ارتبكت فلم تدر ما تقول لأن أشد شيء على المبتدع هوالسؤال فلجأت إلى الشتم والسب :
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
ولا سيما أن أوردوه المضايقا
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
الوجه الثاني:
قولك "...جملة فكل المخلوقات حتى الأوثان هي الله لا توجد في كتاب من كتب طريقتنا التيجانية على الجملة والتفصيل"
أقول بل هي موجودة في كتبكم وانكارك لها عجز ومكابرة
عجزت فأظهرت القبول كتابع عجوزا يصلي خلفها وهي حائض
وإليك أمثلة من ذلك:
أولا: قال التجاني في جواهر المعاني 1/137 مانصه:" قوله لا إله إلا أنا يعني لا معبود غيري وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبدوا غيري ولا توجهوا بالخضوع والتذلل لغيري بل أنا الإله المعبود فيهم " اهـ(98/129)
ثانيا: قوله قبل ذلك جواهر المعاني1/136 ما نصه:" المحبة الرابعة العامة وهي للكفار خاصة فإنهم يحبون الله محبة الألوهية لما هو عليه من كمال الألوهية وعمومها إلا أنهم مختلفون في هذه المرتبة، منهم من أحب الله تعالى مع معرفتهم بألوهيته كاليهود مثلا ومنهم من أحب الله تعالى غلطا منه بنسبة الأولوهية لغيره إلا أن الحق سبحانه وتعالى تجلى لهم في تلك الألباس لكمال ألوهيته فأحبوه وعبدوه من حيث لا يشعرون فلولا أنهم تجلى لهم في تلك الألباس وجذبهم بذلك التجلي إلى محبة ألوهيته ما كانوا يلتفتون إلى تلك الأوثان ولا أن يلموا بها فضلا عن أن يعبدوها وهم محبون لله عابدون له من حيث لا يشعرون " اهـ
انظر رحمك الله إلى هذا الدفاع المستميت عن عبدة الأوثان واليهود عليهم لعنة الله وقارنه بتهجم التيجانية على علماء المسلمين وتضليلهم إياهم لتعلم أنه لا علاقة لهم بالإسلام وإنما هم جزء ممن يدافعون عنه من الكفار.
ثالثا: وشيخ التجاني في هذه المسألة ابن عربي إذ يقول في الفصوص (ص72) مانصه:" - { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه - } [الإسراء 32 ] أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود " اهـ(98/130)
ولهذا يدافع عن قوم نوح فيقول كما في الفصوص (ص72-74): " - { مما خطيئاتهم - } [نوح 25 ] فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحور العلم بالله وهو الحيرة - { فأدخوا نارا - } [نوح 25 ]في عين الماء في المحمدين، - { وإذا البحار سجرت - } [ التكوير 6 ]سجرت التنور إذا أوقدته - { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا - } [ نوح 25 ] فكان الله عين أنصارهم... إلى أن قال: - { إنك إن تذرهم - } [ نوح 27 ]أي تدعهم وتتركهم - { يضلوا عبادك - } [ نوح 27 ] إلى الخير فيخرجوهم من العبودية إلى ما هم فيه من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدا فهم العبيد الأرباب " اهـ
وقال ابن عربي:
لقد صار قلبى قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديرا لرهبانى
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآنى
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالدين ديني وإيماني ابن عربي في ذخائر الأغلاق شرح ترجمان الاشواق ص 39
الوجه الثالث:
قوله:" وهو احتمال بعيد جدا لمغايرته معتقد أئمته في الحشو " اهـ
أقول هذه هي علامة زنادقة المبتدعة أنهم يسمون أهل السنة حشوية كما قال أبو حاتم: " وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الآثار " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 1/ 107 اهـ
وقال الحاكم أبو عبد الله: " وعلى هذا عهدنا في أسفارنا وأوطاننا كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة ويسميها الحشوية " اهـ معرفة علوم الحديث ص 4
الوجه الرابع:
أما قوله:" تساؤله هذا يعكس بجلاء مدى تأثره بمعتقد قدماء فلاسفة اليونان القائلين باتحاد العالم وخالقه "(98/131)
قلت هذه هي عقيدتكم معاشر التيجانية وأماتأثركم بالفلسفة اليونانية فحقيقة ثابتة يقول الكاتب الصوفي أحمد توفيق عياد:" للتصوف الإسلامي شخصيته ففيه من مسحة الفارسية عاطفته وقوته فقوامه المحبة والتفاني ولكنه يمتاز بالحكمة المصبوغة بصبغة فلسفية وفيه من الهندية تجريده وفناؤه فقوامه الفناء في الله بالإستعلاء بالصفات البشرية بتزكية الصفات الإلهية في النفس " التصوف الإسلامي تاريخه ومدارسه وطبيعنه وأثره ص 23ـ-24
ومن أين جئتم بوحدة الوجود التي تبنون طريقتكم عليها والتي تقتضي أن الله تصدر عنه مخلوقاته وهذا الصدور لا يمس جوهر الله مطلقا فقد كان هذا النوع موجودا عند الفلاطونية المحدثة أو عند المدرسة الإسكندرية التي أسسها الفيلسوف افلوطين انظر خريف الفكر اليوناني د: عبد الرحمن بدوي 1/166
فوحدة الوجود مذهب قديم أخذت به البراهماتية والرواقية والفلاطونية المحدثة والصوفية مع اختلاف كل فلسفة في إلباس الثوب الذي ترى لهذه الفكرة إلا أنه يجمع بينها قاسم مشترك كما يقول أبو الفيض المنوفي :"وهي أنها وحدة لا يتميز فيها ما هو إلهي مما هو طبيعي أو أن الله والأشياء شيء واحد أو أنه يحل فيها أو يتوحد معها " انظر كتاب الوجود لمحمود أبو الفيض المنوف 1/118 اهـ
وأما الفلسفة فتقول بأن الروح الأعظم والعالم المادي واحد وكل ما في العالم يجري من ذلك الروح وإليه يعود وهو الموجود الساطع الذي يرى في قرص الشمس كما يرى في عين الإنسان، هو النور الوضاء الذي يضيء في الأرض وفي نفس الإنسان هو الذات العاقلة الخالدة السعيدة التصوف بين الحق والخلق لمحمد فهد سقفه 1/49-50 .(98/132)
وأما الفلاطونية المحدثة فيقولون بأن الله واحد وأن العالم يفيض عنه كفيضان النور عن الشمس وأن للموجودات مراتب مختلفة إلا أنها لا تؤلف مع الله إلا موجودا واحدا المعجم الفلسفي د: جميل صليبا 2/569 ، ومن هذا أخذتم فكرة وحدة الوجود فالله عندكم هو الوجود كله ولا موجود غيره وما الفناء أو الإتحاد الذي يهدف إليه كل صوفي إلا تجريدا للشخصيات كلها ولمفردات الموجودات وفناء المخلوق في الخالق بل عوده إلى مصدر فيضه وتحقق ذاته فيه انظر دراسات في الفلسفة اليونانية والعربية لإنعام الجندي 1/283 .
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن البراهمة في الهند أول من وضع نظرية وحدة الوجود لاعتقادهم ظهور الكون وتجلي عناصره في الإله براهما وكان براهما جوهر العالم الفرد وكانت كافة الموجودات ومنها الإنسان تحمل جزءا أو جوهرا من براهما وكان هذا الإعتقاد عندهم مبدأ وحدة الوجود وتناسخ الأرواح قام عندهم على توجيه وتأثير معتقدهم في وحدة الوجود فانتشرت هذه العقيدة في إيران واليونان هدا هو الإسلام لمؤلفه فاروق الرملوجي 1/110 .
وقد فضحكم شيخ الإسلام إذ بين أن سلفكم هم متطرفو الفلاسفة فقال:" واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: أن الوجود واحد ورد ذلك وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين " مجموع الفتاوى 2/171 اهـ
الكلام على وحدة الوجود:
ثم شرع مفتاح التجاني في مسألة وحدة الوجود فركز على إنكارها وتأول كلامهم في ذلك على غير وجهه وفيما يلي أنقل له عشرين نصا من النصوص الصريحة في وحدة الوجود من كتب التيجانية المعتمدة عندهم حتى يعلم أن هذه حقيقة لا مرية فيها إذ أحمد التجاني نفسه يصرح بها في غير ما موضع بل ويدافع عنها:(98/133)
1- قال التجاني في جواهر المعاني (ج 1/57): " أن العارف بالله يصير حرفا من حروف الذات قيل له أن الحرف ذات والعارف ذات كيف يصير ذاتا واحدة ؟
قال معناه أن العارف يصير يتصرف بذاته كالحرف لا أنه يصير عين الحرف قيل له:ولماذا لم يتصرف بالأسماء العالية أو بعسكرة الأسماء ، قال - - رضي الله عنه -: أما الأسماء العالية فلا يعرفها ولا يطلع عليها إلا الفرد الجامع أما عسكرة الاسماء وغيرها من أسماء الله فيعرفها العارفون ولكن العارف يغلبه الحياء من الله أن يطلب حاجة بأسماء الله ولكن إذا أراد حاجة يوجه همته إليها فتقضى إن أراد قضاءها " اهـ
2- قال التجاني أيضا في جواهر المعاني (ج2/303):" وأما مرتبة الأحدية فلا توحيد فيها لأنها إن تجلت انمحق تحتها وذهب شعوره بنفسه وبفنائه فلا مشاهدة حينئذ إنما هو الحق بنفسه في نفسه لنفسه عن نفسه فأين الغير حتى تتجلى له الأحدية ولذا أجمع العارفون كلهم على أن التجلي بالأحدية غير ممكن كذلك الذات التجلي بها غير ممكن يعني الذات المطلقة الساذجة العارية عن النسب والإضافات إلا الفرد الجامع فإنه تتجلى له لأنه هو الحاجب بينها وبين الوجود والوجود كله عائش في ظله ولو زالت ظليته لانمحق الوجود كله في أسرع من طرفة عين " اهـ(98/134)
3- قال التجاني في الجواهر (2/442- 443) " - { واقترب - } معناه قرب النسبة لا قرب المسافة ومعناه هو مناسبه العبد للحضرة الإلهية فإن الحضرة قلنا حقيقتها هي محق للغير والغيرية فلا أين ولا كيف ولا رسم ولا وهم ولا خيال ولا عقل وتمييز إلا الطمس والعمى حيث لم يعقل هنالك إلا الله بالله لله في الله عن الله فهذه هي نسبة الحضرة الإلهية وهذا هو القرب الحقيقي لا قرب المسافة والعبد وضع في أول نشأته لا يخوض إلا في وجود الكون كيف ما تقلب أو كيفما تحرك أو سكن هو في غيبة عن الله تعالى وهذا هو البعد عن الله لا بعد المسافة فإنها مستحيلة فإذا عرفت هذا وتحققته فالعبد إذا دخل الحضرة الإلهية لا يدخلها إلا بنسبتها وهي محو الغير والغيرية من قلبه فحينئذ يناسبها ويدخلها " اهـ
4- وقال أيضا في جواهر المعاني (2/421) " قوله (الساري) معناه أنه - - صلى الله عليه وسلم - سار في جميع الموجودات كسريان الماء في الأشجار لا قيام لها بدونه وتلك السراية منه - - صلى الله عليه وسلم - في الموجودات لا مطمع للعقل في دركها ولا أن يحوم حول حماها فما وصل إليها أحد من خلق الله ولا عرف لها كيفية ولا صورة وكل الوجود في حجاب عن هذا الإدراك يعني إدراك السراية منه في الموجودات فما أدركتها أكابر الملائكة العالين ولا أكابر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يشموا لها رائحة فمن دونهم أحرى وأولى لا يذوق منها شيئا وغاية السريان أنه - - صلى الله عليه وسلم - لو فقد سريانه في ذاته من ذوات الأكوان لصارت محض العدم من ساعتها " اهـ(98/135)
5- وقال أيضا في جواهر المعاني (1/203): "وأما التعريف بباطن الألوهية فهو للصديقين والعارفين خرقوا أحجاب الظواهر وبلغوا من باطن الألوهية إلى رتبة حق اليقين فما الكون عندهم كله إلا صفات الله وأسماؤه حقيقة الإعتقاد فتجلى لهم سبحانه وتعالى بباطن أسمائه وصفاته وأفاض عليهم أسرارها فاختطفوا عن دائرة البشرية وصارت جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع تقلباتهم وأحولهم وأفعالهم وأقوالهم بالله محضا وحيث كانوا بالله كانوا في جميع أمورهم لله في الله عن الله موتى عن جميع ما سواه " اهـ
6- وقال أيضا في جواهر المعاني (1/214):" اعلم أن أذواق العارفين في ذوات الوجود أنهم يرون أعيان الموجودات - { كسراب بقيعة - } الآية فما في ذوات الوجود كله إلا الله سبحانه وتعالى تجلى بصورها وأسمائها وما ثم إلا أسماؤه وصفاته فظاهر الوجود صور الموجودات وصورها وأسماؤها ظاهرة بصورة الغير والغيرية وهو مقام أصحاب الحجاب الذين حجبوا بظاهر الموجودات عن مطالعة الحق فيها وإنما مرتبة الصديقين الكون عندهم معتقد فقط والظاهر المحض إنما هو وجود الحق وحده في كل شيء فإذا رأيت ما يظهر من صور الموجودات على اختلاف أحواله وتباين أشكاله وتشتيت أموره من مذمومه ومحموده فما فيها إلا تجليات الحق سبخانه وتعالى بشؤونه قال جل جلاله: - { كل يوم هو في شأن - } وتلك الشؤون في الموجودات هي تجلياته فيها سبحانه وتعالى بضروب أموره واختلاف شؤونه " اهـ(98/136)
7- وقال أيضا في جواهر المعاني (1/188):" واعلم أن حضرة الحق سبحانه وتعالى متحدة من حيث الذات والصفات والأسماء والوجود، والوجود كله بأسره متوجه إليه بالخضوع والتذلل والعبادة والخمود تحت سلطان القهر وامتثال الأمر والمحبة والتعظيم والإجلال فمنهم المتوجه إلى صورة الحضرة الإلهية نصا جليا في محو الغير والغيرية ومنهم المتوجه إلى الحضرة االعلية من وراء ستر كثيف وهم عبدة الأوثان ومن ضاهاهم فإنهم في توجههم إلى عبادة الأوثان وما توجهوا لغير الحق سبحانه وتعالى ولا عبدوا غيره لكن الحق سبحانه وتعالى تجلى لهم من وراء تلك الستور بعظمته وجلاله وجذبهم بحسب ذلك بحكم القضاء والقدر الذي لا منازع له فيه وهذا هو التوجه إلى الله كرها يقول سبحانه وتعالى - { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها - } [ الرعد 15 ] فالوجود كله متوجه إلى حضرة الحق سبحانه وتعالى بصفة ما ذكرنا فردا فردا وإن الكفار والفجرة والمجرمين والظلمة فهم في ذلك التخليط الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهي فإنهم في ذلك ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومراده إلا أنهم خرجوا عن صورة الأمر الإلهي ظاهرا وغرقوا فيه باطنا " اهـ
8- واستمع يامفتاح إلى شيخك التجاني يدافع عن وحدة الوجود ويستدل لها قال علي حرازم:" ومن كلامه - - رضي الله عنه - في إيضاح وحدة الوجود وبيانها على مذهب القوم رضي الله عنهم وإبطال ما قال أهل الظاهر من إحالة الوحدة وبطلان ما ألزموه لمن قال بها قال - - رضي الله عنه - بيانها من وجهين:(98/137)
الوجه الأول: أن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل فإنك إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة والخاصية من شعر وجلد ولحم وعظم وعصب ومخ وكذلك اختلاف جوارحه وطبائعه التي ركبت فيه وبها قيام بنيانه فإذا فهمت هذا ظهر بطلان كل ما ألزموه من نفي الوحدة لإستلزام تساوي الشريف والوضيع واجتماع المتنافيين والضدين إلى آخر ما قالوه، قلنا لا يلزم ما ذكره هنا لأنه وإن كانت الخواص متباعدة فالأصل الجامع لها ذات واحدة كذات الإنسان سواء بسواء.
الوجه الثاني: اتحاد ذات العالم في كونه مخلوقا كله للخالق الواحد سبحانه وأثرا لأسمائه فلا يخرج فرد من أفراد العالم عن هذا الحكم وإن إختلفت أنواعه فالأصل الذي برز منه واحد فبهذا النظر هو متساو فيلزم اتحاده وإن اختلفت أجزاؤه كما ذكر في ذات الإنسان وإنما تختلف نسبه بحسب ما فصلته مشيئة الحق فيه من بين شريف ووضيع وعال وسافل وذليل وعزيز وعظيم الشأن وحقيره إلى آخر النسب فيه ولم تخرجه تفرقة النسب عن وحدة ذاتية كما أن ذات الإنسان واحدة ووحدتها لا تنافي إختلاف نسب أجزائها وإختصاص كل جزء بخاصيته فإن خاصية اليد غير خاصية الرجل وخاصيتها غير خاصية العين وهكذا سائر الخواص والأعضاء والأجزاء وإن ارتفاع وجهه في غاية الشرف وانخفاض محله في غاية الضعة والإهانة لم يخرج عن كون ذاته واحدة مع اختلاف الخواص وهو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضا متحدا ثم تختلف خواصه وأجزاؤه بحسب ما نفصل ذلك الوجود فإنه يتحد في عين الجملة ويفترق في حال التفصيل مثاله في الشاهد مثال المداد فإن الحروف المتفرقة في المداد والكلمات المتنوعة والمعاني المختلفة التي دلت عليه صورة المداد لم تخرجه عن وحدة مداديته...."اهـ جواهر المعاني 2/297
9- نقل صاحب الرماح في أدب المريد مع شيخه ما نصه:(98/138)
"...وأن لا يدخل عليه خلوة إلا بإذن ولا يرفع الستارة التي فيها الشيخ إلا بإذنه وإلا هلك كما وقع لكثير وألا يزوره إلا وهو على طهارة لأن حضرة الشيخ حضرة الله تعالى " رماح حزب الرحيم 1/323 اهـ
10- وفي بغية المستفيد ص 18 مانصه:" وكان الشيخ أبو مدين - - رضي الله عنه - يقول لأصحابه إذا سمع أحدا منهم يقول أخبرني فلان لا تطعمونا القديد يريد بذلك رفع همة أصحابه، يريد لا تحدثوا إلا بفتوحكم الجديد الذي فتح الله تعالى به على قلوبكم في كلام الله تعالى وكلام رسوله - - صلى الله عليه وسلم - فإن الواهب للعلم الإلهي حي لا يموت ليس له محل في كل عصر إلا قلوب الرجال " اهـ
11- وقال في كشف الحجاب (ص289) مانصه:"حدثني سيدي ومولاي العارف بالله أحمد العبدلاوي نفعني الله به والمحبين ببركته أن العارف بالله الولي الكبير مولاي محمد بن أبي النصر الشريف العلوي كان مارا بحومة الشرابليين من مدينة فاس صانها الله من كل باس، ولما بلغ لباب درب زقاق الرواح وجد سيدنا - - رضي الله عنه - هنالك واقفا والناس ينظرونه من الطرق الاربعة فلمارأى سيدنا سلم عليه وبقي واقفا بجنب سيدنا - - رضي الله عنه - حتى ذهب معه لدار سكناه هناك ثم قال لسيدنا - - رضي الله عنه - يا سيدي ما سبب إطالة وقوفك في ذلك المحل فقال له: - - رضي الله عنه - قيل لي من الحضرة الإلهية اخرج لعبادي في صورتي فمن رءاك رآني " اهـ(98/139)
12- قال في كشف الحجاب نقلا عن شيخه ص 295 مانصه:" واعلم أنهم لو سألوني وقالوا لي من أين لك هذا ؟ لقلت من عند الله فإن قيل لي أبوحي أو برؤية أو بهاتف ؟ لقلت دفعت في ابتداء أمري إلى الحضرة الربانية دفعة واحدة مذ أنا يافع فصار أولى آخرى وآخرى أولى وبعضي كلي وكلي جزئي فكنت أنا هو من حيث أنا لا من حيث هو وحينئذ لو سئلت عن ألف ألف مسألة من أهم المسائل لأجبت عنها بجواب واحد إذ صرت كالمصباح لو شعلت مني جميع المصابيح ما نقصت من ضوئي شيء ولله الحمد " اهـ
13- وقال عبيدة بن محمد الصغير الشنقيطي عند شرحه لقول التجاني (إحاطة النور المطلسم):" مما يوحى إلى وحدة الوجود لتعلم صحة اعتقاد معتقدها وكماله ونقص اعتقاد منتقدها واعتلاله ولكن قد علم كل أناس مشربهم ومشرقهم ومغربهم " ميدان الفضل والإفضال ص66
14- وقال أيضا ص 66 مانصه :" والقائلون بوحدة الوجود أولو الذوق الصحيح والكشف الصريح وأهل هذا التصديق الجامع فإنهم قائلون بأن الله تعالى هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي " اهـ
15- وقال أيضا ص62 "... وأن هذا الإعتقاد ليس هو اعتقاد القائل بوحدة الوجود لأن ذلك اعتقاد صحيح شرعا يقبله العقل السليم بالوهب الإلهي والفيض الرحماني وإن لم يدركه بالنظر الفكري " اهـ
16- قال إبراهيم انياس:" والحضرات ثلاثة: ألوهية ونبوة وولاية والكل منهما عين الباقيتين حتى أن أنانية كل منهما أنانية الأخرى والأنانية كالأنانية...إلى أن قال: وقوله وابن جثماني كذلك جار على لسان الولاية إذ لا جثمان إلا من الولاية " جواهر الرسائل 1/120 اهـ
17- وقال أيضا:" بل ربما يكون رب العالمين في صورة رجل " اهـ المرجع السابق 2/10
18- وقال أيضا:" ولا فرق بين المعية والهوية هنا وقد علمت أن المعية بالذات وإذا بدت فلا معية" المرجع السابق 1/88 اهـ(98/140)
19- قال علي حرازم:" الوجود الذي هو الظل الإضافي ظهر عن حقيقتين الحقيقة الأولى: الذات المقدسة، والحقيقة الثانية مرتبة الأولوهية والوجود ظهر عنها وإلى هذا المعنى الإشارة لقوله سبحانه وتعالى في مفتح الإنجيل قال: }باسم الإب والأم والإبن إلها واحدا{ فركبه الجهلة بكفرهم بحقيقته وقالوا إن الإله مركب من ثلاثة أقانيم، أقنوم العلم وأقنوم الحياة وأقنوم الكلمة وأقنوم العلم عندهم هي الذات المقدسة وأقنوم الحياة هي مريم وأقنوم الكلمة هو عيسى تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا إنما المعنى الذي أراده الحق في كلامه: }باسم الإب والأم والإبن إلها{ فالأب ههنا هو اسم الجلالة لأنه هو أبو الوجود كله فعنه ظهر الوجود لأنه عين مرتبة الألوهية والأم ههنا هي الذات المقدسة فإنها من تصرفها ظهر الوجود فإنها تصرفت في الوجود بحكم المشيئة والقدرة والكلمة بقوله: كن، فإنها بمنزلة الأم للوجود الذي وجد عن اسم الجلالة وعن الذات هو الوجود الظاهر وأدرجه مع قوله إلها واحدا لأنه تجلى في حقائق الوجود بكمال ذاته وبصور صفاته وأسمائه فلهذا قال: }باسم الإب والأم والإبن إلها واحدا{ فإن الوجود كله ما فيه إلا الألوهية المحضة لأنه صور الصفات والأسماء " شرح الهمزية لعلي حرازم ص 61 اهـ(98/141)
20- قال إبراهيم انياس:" فلهذا العارفون أول مايهتمون للمريد به أن يجد الفناء في الله تبارك وتعالى ثم بعد ذلك يترقى حتى يصل بالشيخ لأنه صفة الله، المطلب من هذين الفنائَين أن العبد سوف يرجع إلى مقام لولا أنه التقى بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - وبالشيخ ما عرفها بعد إذا مضى هذا يرجع إلى شهود الكائنات يشهد عدما موجودا في آن واحد مثال ذلك ما يشاهد في سينما، من لم يكن منكم ما رأى سينما العارفين أحب أن يراها ولو مرة واحدة فيشاهد الشيء ويتيقن أن هذا مفقود وهو موجود ولولا أنه موجود ما تراه وهو في الحقيقة غير موجود والكائنات كلها هكذا بمنزلة السينما فقط يشاهد شيئا موجودا مفقودا فبهذا تكون في الوجود وتعمل الخيرات وتعلم أنك لم تعمل شيئا وتجتنب السيئات على أنك لم تفعل شيئا الواحد الله تبارك وتعالى هو الفاعل " جواهر الرسائل 2/60
21- قال في جواهر المعاني (1/117):" واعلم أن سيدنا - - رضي الله عنه - سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو ؟ فأجاب - - رضي الله عنه - بقوله ( أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عينا وأثرا وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق
فلم يبق إلا الله لا شيء غيره
فما ثم موصول ولا ثم واصل
" اهـ
قال مفتاح التجاني:(98/142)
" فتصرف هو فيه بجعله شذرة شذرة حيث أخر منه وقدم وتجاوز وبتر ليحرفه عنما وضع له وبيان ذلك أنه ساق منه ستة أسطر في مختم منشوره معلقا بها على مسألته السابعة التي هي الإخيرة عنده ثم تجاوز سطرين هما محل الإحتجاج عليه وهما: فهم - يعني عبدة الأوثان – محبون لله عابدون له من حيث لا يشعرون وهذه العبادة هي المعبر عنها بالسجود كرها قال سبحانه وتعالى: - { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال - } " اهـ ص 23-24
والرد عليه من سبعة وجوه:
الوجه الأول:
قوله بأني قدمت وأخرت كذب محض لم يستطع أن يذكر له مثالا واحدا وأنا لا يلزمني أن أذكر كل كلامه إنما أذكر موضع الإحتجاج منه.
الوجه الثاني:
أما قوله بأني بترت هذين السطرين مدعيا أنهما محل الإحتجاج علي فهو ادعاء الساعي إلى حتفه بظلفه:
فكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مدية تحت التراب تثيرها
فليس فيهما إلا الكفر البواح حيث ادعى أن الله يحب الكفار وأنهم يحبونه، وهذا مثل قول التجاني: "وهناك المحبة العامة منه سبحانه وتعالى وفي هذه المحبة جميع العوالم حتى الكفار فإنهم محبوبون عنده " جواهر المعاني 1/ 135 اهـ(98/143)
وقد قال الله تعالى: - { فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين - } [آل عمران 32 ] وقال تعالى: - { ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين - } [الروم 45 ] وقال: - { إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور - } [الحج 38 ] وقال تعالى: - { ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين - } [البقرة 190 ] وقال: - { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد - } [البقرة 205 ] وقال: - { يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم - } [ البقرة 276 ] وقال تعالى: - { وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين - } [ 57 آل عمران ] وقال تعالى: - { وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين - } [ 140 آل عمران ] وقال تعالى: - { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا - } [ النساء 36 ] وقال: - { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما - } [ 107 النساء ] قال تعالى: - { ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين - } [ 64 المائدة ] وقال: - { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين - } [ 31 الأعراف ] وقال: - { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين - } [ 55 الأعراف ] وقال: - { فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين - } [ 58 الأنفال ] وقال: - { لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين - } [ 33 النحل ] والآيات في الباب كثيرة معلومة.
الوجه الثالث:
إنما تركت هذين السطرين لأنهما يتعلقان بمسألة خارجة عن الموضوع الذي تكلمت عنه وهو وحدة الوجود مع أن فيهما من الكفر ما فيهما كمحبة الله الكفار ومحبة الكفار لله.
الوجه الرابع:(98/144)
لو ذكرتهما في موضوع وحدة الوجود فلا يسعني حينئذ السكوت عنهما لأنه سكوت على الباطل فحذفتهما إذ لا تعلق لهما بكلامي وأشرت إلى حذفهما بوضع نقاط حذف.
الوجه الخامس:
استدلال التجاني على أن الكفار يعبدون الله بالسجود القدري الكوني من أبطل الباطل وأمحل المحال كما قيل:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
الوجه السادس:
التجاني إنما يريد أن يثبت لعبدة الأوثان عبادتهم ويشرعها لهم لأنه قال: " فكل عابد أو ساجد لغير الله في الظاهر فما عبد ولا سجد إلا لله تعالى " ثم بين دليله بقوله "لأنه هو المتجلي في تلك الألباس " فهو يعتقد أن الله هو هذا الوجود بأصنامه وجميع مخلوقاته فلم يعرف الله كما أخبر تعالى عن نفسه وأخبر عنه نبيه - - صلى الله عليه وسلم - بأنه فوق عرشه بذاته بائن من خلقه وهو معهم بعلمه.
الوجه السابع:
ولذلك فتقصيرهم هو في عبادتهم لجزء من الوجود دون ماسواه ولهذا ينعمون في النار عند التجاني كما سيأتي.
قال مفتاح التجاني:
" ثم وضع نقاط استرسال، وتجاوز مرة أخرى أربعة أسطر فيها الحجة عليه مزيد تفصيل ما ساق من كلام الشيخ من هذه الفقرة وما تجوز منه هو قوله (وتعبده وتسبحبه خائفةمن سطوة جلاله سبحانه وتعالى ولو أنها برزت لعبادة الخلق لها وبرزت لها بدون تجليه فيها لتحطمت في أسرع من طرفة عين لغيرته سبحانه وتعالى لنسبة الألوهية لغيره تعالى قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام - { إنني إنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني - } والإله في اللغة المعبود بالحق " اهـ ص 24.
والرد عليه من خمسة أوجه:
الوجه الأول:(98/145)
أنه أثبت لعباد الأوثان الخوف من الله تعالى بقوله " خائفة من سطوة جلاله " والخائف من الله في أعلى مراتب الإيمان وهو آمن في جنان الخلد كما قال تعالى: - { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى - } [ النازعات 41 ] وقال تعالى: - { ولمن خاف مقام ربه جنتان - } [ الرحمن 46 ].
الوجه الثاني:
انظر كيف نفى عن عباد الأوثان عبادة المخلوق وأخبر أنهم ما عبدوا إلا الخالق،كيف يقرر هذا ويقرر فيما سبق أن الوجود واحد فالأوثان عنده هي الله تعالى عنما يقول علوا كبيرا .
الوجه الثالث:
قوله:" ولو أنها برزت..لتحطمت في أسرع من طرفة عين " كذب مفضوح لأن الكفار في عصور كثيرة ما عبدوا إلا غير الله عز وجل وقد أمهلهم الله سبحانه وتعالى واستدرجهم زمنا طويلا ولم يهلكهم في طرفة عين كما قال تعالى: - { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير - } [ الحج 48 ] وقال تعالى: - { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين - } [ آل عمران 178 ] وقال: - { ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا - } [ الرعد 32 ] وقال: - { فأمليت للكافرين ثم أحذتهم فكيف كان نكيري - } [ الحج 44 ]وقال: - { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم أن كيدي متين - } [ القلم 45 ].
الوجه الرابع:
قوله:" والإله في اللغة المعبود بحق " جهل باللغة بعد ما تقدم من الجهل بالشرع لأن الإله لغة هو المعبود مطلقا، قال ابن منظور: ( الإله: الله عز وجل وكل ما اتخذ من دونه معبودا إله عند متخذه، والجمع آلهة والآلهة الأصنام ) وقال في القاموس (ألِه إلاهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ومنه لفظ الجلالة واختلف فيه على عشرين قولا ذكرتها في المباسيط وأصحها أنه علم غير مشتق وأصله إله كفعال بمعنى مألوه،وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه ) اهـ .
الوجه الخامس:(98/146)
لقد وقعت أنت في ما رميتني به فحذفت من كلام التجاني في جواهر المعاني (1/188): " واعلم أن حضرة الحق متحدة..."
حذفت منه ما يفضح كذبك ويكشف عقيدتك؛ وهوقوله:" إن الكفار والفجرة والمجرمين والظلمة فهم في ذلك التخليط الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهي فإنهم في ذلك ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومراده إلا أنهم خرجوا عن صورة الأمر الإلهي ظاهرا وغرقوا فيه باطنا " اهـ
ترى فمن الذي يحذف من الكلام ما هو حجة عليه ؟!
ثم أشار مفتاح التجاني إلى جهل شيخه فقال:" ثانيها أن سجود وصلاة وتسبيح وإذعان جميع المخلوقات طوعا من المؤمنين وكرها من الكافرين جاء في إحدى عشرة آية محكمة احتج الشيخ التجاني بالآيتين السابقتين... " اهـ ص 24
والرد عليه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
نبه على جهل شيخه الذي لم يستطع أن يذكر من هذه الآيات الإحدى عشرة إلا آيتين وهو وإن لم يقصد ذلك لكن الجاهل يجني على نفسه.
الوجه الثاني:
ثم ظاهر كلامه حصر آيات هذا الباب في إحدى عشرة آية وهذا باطل فقد بقيت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: - { يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم - } [الحشر 24 ] وكقوله تعالى: - { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين - } [ 79 الأنبياء ] وكقوله: - { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب - } [ ص 18 ] وقال: - { والنجم والشجر يسجدان - } [ الرحمن 6 ]...إلخ
الوجه الثالث:(98/147)
هذه الآيات كلها تتحدث عن القهر والتسيير القدري الكوني أما التجاني فيعني الجانب التشريعي ولهذا يقول في جواهر المعانى(1/188): "وإن الكفار والفجرة والمجرمين والظلمة فهم في ذلك التخليط الذي خالفوا فيه نصوص الشرع وصورة الأمر الإلهي فإنهم في ذلك ممتثلون لأمر الله تعالى ليسوا بخارجين عن أمره ومراده إلا أنهم خرجوا عن صورة الأمر الإلهي ظاهرا وغرقوا فيه باطنا " فانظر كيف دافع عن الكفار في مخالفتهم لنصوص الشرع واعتبرهم مصيبين فيما فعلوا معرضا عن الآيات فأي دليل على ماقاله ؟! وانظر كيف هدم كلام شيخك بيوت العنكبوت التي نسجتها أنت من التأويل والتحريف.
قال مفتاح التجاني:
" ثانيهما أن الله لولا أنه تجلى لهم في الأصنام بحكم القهر لما عبدوها ويجاب عنه بأن التجلي لفظ أطلقه الله على نفسه في محكم كتابه في قوله تعالى: - { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا - } معنى تجلى ظهر وبان.اهـ ص 26
والجواب عنه من وجوه خمسة:
الوجه الأول:
هذا كفر صراح حيث جعل الله قاهرا للكفار على عبادة الأوثان والله يقول: - { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون - } [ الأعراف 28 ] وقال: - { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم - } [ الزمر 7 ] بل بين الله تعالى لهم طريق الحق وأمرهم بسلوكه والإستقامة عليه وبين لهم طريق الكفر ونهاهم عن سلوكه فاختاروا الكفر على الإيمان قال الله تعالى - { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا - } [الإنسان 3 ] وقال: - { فهدينا النجدين - } [ البلد 10] وقال: - { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها - } [ الشمس 3 ] .
الوجه الثاني:(98/148)
هذه عقيدة الجبرية وسلفهم فيها الجهم بن صفوان السمرقندي الذين يقولون " إن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش والعروق النابضة وحركات الأشجار وإضافتها إلى الخلق مجاز " شرح العقيدة الطحاوية ص 436 اهـ
الوجه الثالث:
وأما الآية التي أورد فهي قاصمة ظهره لأن الله عندما تجلى للجبل جعله دكا فلو تجلى لعبدة الأوثان لجعلهم دكا ومحقوا عن آخرهم.
الوجه الرابع:
أما تفسير التجلي الوارد في كلام التجاني بالتجلي اللغوي فهي مغالطة مكشوفة لأن التجاني نفسه صرح بمعنى التجلي عنده وهو وحدة الوجود لأنه تجلى ذات الله في مخلوقاته.(98/149)
فقال التجاني ما نصه جواهر المعاني 1/215 :" إعلم أن عند الصديق بل كل صدّيق من العلم القطعي من عند الله بطريق الوحي التحقيقي بما أفاض عليه من العلوم وعرفه من حقائقها كأنه يقول له سبحانه وتعالى: أنا الواحد الحق الذي لا شيء غيرى وأتجلى في كل مرتبة بما أشاء من الشؤون سواء طابقة الأغراض أوخالفتها. فكأنه يقول لكل صديق إن تجلياتي في فلان لك لا أعطيك منه إلا صورة المحبة وإفاضة الخيرات منه وآثرتك منه على نفسه وكذا في فلان ولا أتجلى لك فيهم إلا بصورة المحبة والنعمة وبذل الخيرات وكذا في بلد كذا لا أتجلى لك فيهم إلا بصورة المحبة والتعظيم والإجلال وما ثم غيري إنما هم صوري لا شيء فيها فأحمدني وأشكرني على ذلك وإن فلانا مثلا لا أتجلى لك فيه إلا بصورة العداوة المحضة والشر البالغ والقهر والقتل فخف مني وأحذرني فيه ولا تأمن مكري فيه فإنى لا أفعل بك في تلك الصورة إلا شرا ولا ترى مني فيها إلا شرا وكذا في بني فلان لا ترى مني فيهم إلا شرا وهلاكا وضررا وكذا في بلد كذا لا ترى مني فيها إلا ذلا وإهانة وإنخفاضا وإستكانة ولا ترى مني فيهم ما تحب أصلا فخف مني وأحذرني في جميعهم ولا تأمن مكري فيهم وكن شديد الإحتراز مني فيهم فما ثم غيري في جميعهم فأنا المتجلي فيهم بشؤوني فإنك إن أمنت مني فيهم أهلكتك ". اهـ(98/150)
وقال التجاني أيضا " وحقيقة التجلي هو الظهور وتجلي الحق بذاته في ذاته لذاته عن ذاته وهذا التجلي هو مرتبة كنه الحق ولا اطلاع لأحد عليه والتجلي الثاني تجليه لغيره في غيره بنفسه لنفسه عن نفسه فهذا التجلي هو الذي يدركه الخلق وكان تجلي المقادير الإلهية في صور الأكوان مطلقا إنما كان عن سبب وهو تعلق المشيئة وسبق الحكم منه سبحانه وتعالى وتعلق كلمة ( كن ) فهذ ا السبب هو الذي برزت به المقادير في صور الأكوان فإن تلك المقادير برزت لا عن ذاتها بذاتها وإنما برزت عن غيرها بغيرها فذلك السبب هو الذي تقدم عليها وبه وجدت أما تجلي الذات فلم يتقدمها شيء لأنها أجل من أن تكون منفعلة للمشيئة أو غيرها إنما تجلت بذاتها في الخلق " اهـ جوهر المعاني 2/341
فأنظر كيف صرح بأن تجلي الله بذاته في مخلوقاته تعالى الله عما يقول علوا كبيرا.
وجاء في الرماح مانصه:".... وذلك أن الله سبحانه وتعالى تجلى في كل مرتبة من مراتب خلقه بأمر وحكم لم يتجلى به في غيرها من المراتب وذلك التجلي تارة يكون كمالا في نسبة الحكمة الإلهية وتارة يكون صورته صورة نقص في نسبة الحكمة الإلهية فلا محيد لتلك المراتب من ظهور التجلي فيها بصورة ذلك النقص لأن ذلك ناشئ عن المشيئة الربانية وكل تعلقات المشيئة يستحيل تحولها لغير ما تعلقت به " الرماح 1 /326-327 اهـ
وفي كاشف الألباس نقلا عن ابن عربي:" ولذلك قال بعض العارفين في حق التلميذ الذي أستغنى بالله على زعمه عن رؤية أبي يزيد لأن يرى أبا يزيد مرة خير له من أن ير ى الله ألف مرة، فعبر أبو يزيد فقيل له هذا أبو يزيد فعندما وقع بصره عليه مات التلميذ فقيل لأبي يزيد في موته فقال رأى مالا يطيق لأنه تجلى له من حيث أنا فلم يطقه كما صعق موسى لأن الله من حيث أنا مجلاه أعظم من حيث المجلى الذي كان يشهده فيه ذلك المريد ".اهـ كاشف الألباس 172(98/151)
وقال التجاني :" القطب المكتوم له تجل يضاهي تجليات الأنبياء يتجلى له الحق سبحانه وتعالى في كل لحظة مائة ألف تجل كل تجل يعطى فيه ما يعطى لجميع أهل الجنة مائة ألف مرة أو أكثر منها " الدرة الخريدة 1/27 اهـ
فهكذا ترى أن التجلي عندهم هو وحدة الوجود وهو الكفر الصراح.
الوجه الخامس:
لو سلمنا صحة ماقال من تجلي الله في مخلوقاته لكان كفرا بإجماع المسلين قال القاضي البساطي المالكي " ولكن دعوى تجلى الله بصورة ما مكفر بها شرعا بإجماع المسلمين " مصرع التصوف ص159
الوجه السادس:
ما قلته يا مفتاح هو حجة الكفار قديما قال تعالى: - { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون - } [ الأنعام 148 ]
وقال تعالى: - { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين - } [ النحل 35 ]
قال مفتاح التيجاني:
" وأما إعتراضه على قول الشيخ التجاني في جواهر المعاني ج1 ص1 " فإن الحضرة القدسية في غاية الصفاء لا تقبل التلويث بوجه من الوجوه فإن من دخلها غاب عنه الوجود كله حتى نفسه تغيب عنه ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا هم ولا حركة ولا سكون لا رسم ولا كيف ولا أين ولا حد ولا علم فلو نطق العبد في هذا الحال لقال لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني لأنه مترجم عن الله عز وجل وفي هذا الميدان قال أبويزيد قولته التي قال في وسط أصحابه وهم دائرون به قال: (سبحاني ما أعظم شأني ) فهابوا أن يكلموه... إلخ" اهـ ص 28
فالرد عليهم من أربعة عشر وجها:
الوجه الأول:(98/152)
لقد بترت هذا الكلام عما قبله لأنه صريح في وحدة الوجود صراحة لا تقبل التأويل ونصه " وأما قولنا أن القرب قرب النسبة لا قرب المسافة وقولنا إن الخلق كله بالنسبة إلى الله في قربه منها كلها على حد سواء فالكافر والرسول على نسبة واحدة والحق في ذلك كله لا متصل ولا منفصل فهو قريب في غاية القرب وأبعد من كل بعيد وتلك الصفة تتبع حقيقة وجوده ولا يعرف الوجود المطلق ولا يصل عالم ولا غيره وأما النسبة المذكورة للرجال فإنها قرب النسبة فإن الحضرة القدسة في غاية الصفاء...إلخ " جواهر المعاني 2/239 اهـ فانظر كيف سوى بين الكافر والرسول !!
الوجه الثاني:
قوله ج1 ص1 باطل لأن هذا الكلام في الفصل الثاني من الباب الخامس فكيف يكون في الصفحة الأولى من ج1.؟!
الوجه الثالث:
ولا يفهم من كلامه إلا وحدة الوجود حيث قال:" فإن من دخلها غاب عنه الوجود الكله فلم يبق إلا الألوهية المحضة " فهذا في غاية الصراحة في وحدة الوجود وكذلك قوله:" ففي هذه الحال لا نطق للعبد " فهو صريح في أن هذا الناطق هو الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وهذا مصرح به في قوله " لأنه مترجم عن الله عز وجل " وهل يحتاج الله إلى من يترجم عنه إلا إذا قصد به الوجود المطلق ؟.
الوجه الرابع:
غاية ما اعتذر به عن أبي يزيد البسطامي أنْ حشرة في زمرة المجانين فاقدي العقل وأنه مرفوع عنه القلم بسبب ذلك حيث قال:
" يعني أن العبد في هذه الحال الذي زال عنه فيه التمييز " ص 29.
الوجه الخامس:
فانظر رحمك الله كيف جعل هذا المقام الذي هو أشرف مقام عندهم وما أفنوا أعمارهم إلا من أجل تحصيله فقدا للوعي والتمييز !!
الوجه السادس:
أبو يزيد البسطامي كان قطب زمانه على حد قولكم وأنتم تعتقدون أن القطب هو روح الموجودات والمتصرف فيها فلا يتحرك منها ساكن إلا به لأنه خليفة الله في تصريف الكون فليت شعري من الذي صرف الكون حال فقد البسطامي للتمييز والوعي ؟!(98/153)
قال عن القطب في جواهر المعاني:" هو الروح في جميع الموجودات فما في الكون ذات إلا وهو الروح المدبر لها ووالمحرك لها والقائم فيها ولا في كورة العالم مكان إلا وهو حال فيه متمكن منه " جواهر المعاني 2/339 اهـ
الوجه السابع:
أن ابن عربي وهو أدرى منك بالبسطامي قال بأنه قال ذلك في الصحو وأقره على ذلك زعيمكم في هذا العصر إبراهيم انياس إذ قال:" ومنها من ادعت ذلك على بصيرة وصحو وتحقق معرفة في مجلس لقرينة حال اقتضاها المجلس لما رأوا أن الحق عين قواهم وما هم هم إلا بقواهم وبقواهم يقولون ما يقولون فقواهم القائلة لاهم وهي عين الحق كما أخبر الحق وكما أعطاه الشهود بانخراق العادة في قولهم عندهم فقالوا: أنا الله وإني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون؛ كأبي يزيد ممن نقل عنه مثل هذا مع صحوه وثبوته وعلمه بأن الحق هو الظاهر بأفعاله في أعيان الممكنات " ملحق كاشف الألباس ص 171 اهـ
فهل نصدقك في قولك أنه كان في حال الغيبة والمحو أم نصدق شيخك إبراهيم انياس الذي تبع ابن عربي في أنه قاله في حال الصحو والثبوت ؟! أليس هذا هو التناقض يا تجانية ؟! - { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا - } [ النساء 82 ].
الوجه الثامن:(98/154)
ومما يؤكد كلام ابن عربي قول صاحب جواهر المعاني:" وأما قول السائل ما معنى قول الشيخ عبد القادر الجيلاني - - رضي الله عنه -: (وأمري بالله إن قلت كن، يكن ) وقول الشيخ زروق - - رضي الله عنه -:(في طي قبضتي) وكقول بعضهم:(يا ريح اسكني عليهم بإذني) إلى غير ذلك من أقاويل السادات رضي الله عنهم مثل هذا، قال - - رضي الله عنه -: معنى ذلك أن الله ملكهم الخلافة العظمى واستخلفهم على مملكته تفويضا عاما أن يفعلوا في المملكة كلما يريدون ويملكهم الله تعالى كلمة التكوين متى قالوا لشيء كن كان من حينه وهذا من حيث بروزه بالصورة الإلهية المعبر عنها بالخلافة العظمى فلا يستعصي عليهم شيء عن الوجود. جواهر المعاني 2/ 279-280 اهـ
- ومما يؤيد قولك ماقاله التجاني في جواهر المعاني ونصه:" والجواب عن هذه الشطحات أن للعارف وقتا يطرأ عليه الفناء والإستغراق حتى يخرج بذلك عن دائرة حسه وشهوده ويخرج عن جميع مداركه ووجوده لكن تارة يكون ذلك في ذات الحق سبحانه وتعالى فيتدلى له من قدس اللاهوت من بعض أسراره فيض يقتضي منه أن يشهد ذاته عين ذات الحق لمحقه فيها وإستهلاكه فيها ويصرح في هذا الميدان بقوله سبحاني لا إله إلا أنا وحدي إلخ... من التسبيحات كقوله جلت عظمتي وتقدس كبريائي وهو في ذلك معذور لأن العقل الذي يميز به الشواهد والعوائد ويعطيه تفصيل المراتب بمعرفة كل بما يستحقه من الصفات غاب عنه وانمحق وتلاشى واضمحل وعند فقد هذا العقل وذهابه وفيض ذلك السر القدسي عليه تكلم بما تكلم به فالكلام الذي وقع فيه خلقه الحق فيه نيابة عنه فهو يتكلم بلسان الحق لا بلسانه ومعربا عن ذات الحق لا عن ذاته ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني وقول الحلاج أنا الحق وما في الجبة إلا الله وكقول بعضهم فالأرض أرضي والسماء سمائي كقول التستري - - رضي الله عنه -:
أنظر أنا شيء عجيب لمن يراني
أنا المحب والحبيب ماثم ثان(98/155)
" جواهر المعاني ص2 /277 اهـ
فانظر إلى تناقضهم في هذه المسألة وحدها فكيف بغيرها !.
الوجه التاسع:
وأما قولك يا مفتاح:" وأنه بتر من كلام الشيخ أبي يزيد البسطامي ما فيه الحجة عليه ومزيد التفصيل وهو قوله: وعرفوا أنه غائب فلما صحا من سكرته وتحققوا منه الصحو أخبروه بما سمعوه منه فقال ما علمت بشيء وهلا قتلتموني في تلك الحالة فإنكم لو قتلتموني كنتم غزاة في سبيل الله وكنت شهيدا فقالوا لم نقدر " اهـ
فهذا باطل من وجهين:
أ- أنك حذفت بقية الكلام التي فيها الحجة عليك وهي قوله " على ذلك وقد قلنا أن الحضرة في غاية الصفاء لا تقبل الغير والغيرية لأن الله تعالى إذا تجلى بكمال جلاله للعبد أماته عن جميع الألوان فلم يعقل لا غير ولا غيرية فهذا غاية الصفاء " المصدر السابق 2/239 اهـ
فهذا هو الحذف والبتر حتى عن المتعلق " لم يقدر على ذلك " وذلك لأن في هذه الفقرة التصريح بعقيدة وحدة الوجود التي تنكرها.
ب- ما نقلت عن البسطامي حجة عليك لأنه أباح لهم قتله وما ذلك إلا لأنه يعلم أن ما قاله كفر مخرج من الملة وقد تقدم كلام الذهبي في أن ما قال البسطامي ظاهره إلحاد سير أعلام النبلاء13/88 وأن الشأن أو الشك في ثبوته وذلك قد انتفى بإثبات التجاني له كما تقدم.
الوجه العاشر:(98/156)
أن هذا النوع من الكفر البواح لا يتأول لصاحبه كما قال شيخ الإسلام زين الدين العراقي في رده على مسألة وحدة الوجود عند ابن عربي ما نصه:" ولا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره ولا نؤول له كلامه ولا كرامة، ولقد أحسن بعض من عاصرناه من العلماء العارفين وهو الشيخ الإمام العلامة علاء الدين علي ابن إسماعيل القونوي حيث سئل عن شيء من هذا فقال إنما نؤول كلام من ثبتت عصمته حتى نجمع كلاميه لعدم جواز الخطأ عليه وأما من لم تثبت عصمته فجائز عليه الخطأ والمعصية والكفر فنؤاخذه بظاهر كلامه ولا يقبل منه ما أول كلامه عليه مما لا يحتمله أو مما يخالف الظاهر وهذا هو الحق " انظر مصرع التصوف ص 65 اهـ
الوجه الحادي عشر:
قال الإمام أبو علي السكوتي ما نصه:" كل كلام وإطلاق يوهم الباطل فهو باطل بالإجماع فأحرى وأولى إذا كان صريحا بالباطل فإن قالوا لم نقصد بكلامنا ورموزنا وإشاراتنا الإتحاد والحلول وإنما قصدنا أمرا آخر يفهم عنا قلنا لهم الله أعلم بما في الضمائر وما يخفى في السرائر وإنما اعترضنا نحن الألفاظ والإطلاقات التي تظهر فيها الإشارات إلى الإلحاد والحلول والإتحاد " المرجع السابق ص 126-127 اهـ
الوجه الثاني عشر:(98/157)
قال أبو حامد الغزالي:" وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات وهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالالفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله - - صلى الله عليه وسلم - فإنما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر" إحياء علوم الدين 1/37 اهـ
الوجه الثالث عشر:
وأما ادعاؤه أن ابن القيم رحمه الله تعالى أجاب عن البسطامي فهو ادعاء عار من الصحة وكذب ما جرى منه حرف قط وإنما الذي قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره من العلماء هو أن هذا الكلام كفر وإلحاد فإن قاله في وعيه فهو كافر وإن قاله في حال فقدان العقل والتمييز فليس مخاطبا كسائر المجانين وهاك نص كلامه:"... ولكن في حال السكر والمحو والإصطلام والفناء قد يغيب عن التمييز في هذا الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن أبي يزيد أنه قال سبحاني أو مافي الجبة إلا الله ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقله معه لكان كافرا ولكن مع سقوط التمييز والشعور قد يرتفع عنه قلم المؤاخذة " اهـ مدارج السالكين 1/296
ونحوه ما تقدم عن الحافظ الذهبي في ترجمة أبي يزيد البسطامي حيث قال: " وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها، الشأن في ثبوتها عنه، أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر والغيبة والمحو فيطوى ولا يحتج بها إذ ظاهرها إلحاد مثل سبحاني، وما في الجبة إلا الله " سير أعلام النبلاء 13/88 اهـ
الوجه الرابع عشر:(98/158)
على أن كلام البسطامي لكثرته وصراحته في الكفر والإلحاد لا يمكن تأويله إلا بتعسف شديد قال ابن كثير في ترجمة البسطامي:" وقد حكي عنه شطحات ناقصات وقد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة وقد قال بعضهم إنه قال ذلك في حال الإصطلام والغيبة ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته " اهـ البداية والنهاية 11/30
الوجه الخامس عشر:
وقال الدكتور صابر طعيمة:" وهذا يشبه إلى حد كبير ما كان يقول به أبو يزيد البسطامي المتوفى 260 هـ الذي كان ينحدر من أصل زرادشتي وعنصر وحدة الوجود محدد عنده تحديدا واضحا فالله كما يقول(محيط لا قرار له ) وأنه هو نفسه العرش واللوح المحفوظ والقلم والكلمة "اهـ الصوفية معتقدا ومسلكا ص62
قال مفتاح التيحاني:
" وأما اعتراض هذا الجاهل المغرض على ما نقله الشيخ إبراهيم في كاشف الألباس ص 171 عن الإمام محي الدين بن عربي في الفتوحت المكية ونصه:
(فإن من لم تصبه الرؤية دائما مع الأنفاس لا يكون من هؤلاء الرجال وهذا مقام من يقول ما رأيت إلا الله فإن قيل من الرائي قال هو فإن قيل من القائل قال هو فإن قيل له من السائل قال هو...) " اهـ ص 31-32.
والرد عليه من وجوه تسعة إجمالا:
الوجه الأول:
لم تذكر آخر الكلام لأنه حجة عليك كما هي عادتك فقد قال بعد هذا مباشرة " فإن قيل له فكيف الأمر ؟ قال نسب تظهر فيه منه له فما ثم في ثم إلا هو وهو عين ثم وهذا مذهب أبي يزيد البسطامي - - رضي الله عنه - بالحال " اهـ والطبقات الكبرى للشعراني 1/5 كاشف الألباس ص 171
الوجه الثاني:
هذا الكلام صريح في وحدة الوجود لأن قوله " من لم تصبه الرؤية دائما " لا يصح إلا على قول أهل وحدة الوجود لأنهم يعتقدون أن ما يشاهدونه من الوجود هو الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.(98/159)
وقوله:" ما رأيت إلا الله " و" من الرائي قال هو " و" ومن السائل قال هو " وقوله " نسب تظهر فيه منه له فما ثم في ثم إلا هو "
كلها عبارات في غاية الصراحة لا تحتمل إلامعنى واحدا هو وحدة الوجود.
الوجه الثالث:
أما قوله بأنني نسبت الكلام لابراهيم انياس وهو إنما نقله عن ابن عربي فهوفخ سقط فيه مفتاح التجاني لأنكم معاشر التيجانية تقولون بوحدة الوجود وأن الخالق هو عين المخلوق فكيف تعيب علي مع ذلك التفريق بين مخلوقين أليس هذا دليل تنقاضكم في هذه الفكرة الباطلةواستحالة تطبيقها في الواقع لأنه إذا كان وجود المخلوق ليس هو وجود المخلوق الأخر فكيف يكون الخالق هو المخلوق ؟! ثم إبراهيم انياس إنما نقل هذا الكلام مستدلا به فهو قائل به قطعا.
الوجه الرابع:
أما قوله بأن ابن عربي ينفي الحلول والإتحاد فهذه مغالطة مكشوفة لأنه وإن نفى ذلك فقد أثبت وحدة الوجود وأثبتتها التيجانية كما تقدم والفرق واضح بين الحلول والإتحاد وبين وحدة الوجود ولكنك خلطت بينهم لجهلك وتلبيسك على الناس، فالحلول والإتحاد يقتضي وجود خالق ومخلوق وبمداومة المخلوق على رياضات روحية معينة حل في الخالق كحلول الزبدة في اللبن والماء في الإناء فهذا هو الحلول أواتحد به حتى صار شيئا واحدا وهذا هو الإتحاد وأما وحدة الوجود فهي أعظم كفرا من ذلك إذ لا تعترف بوجود خالق ومخلوق أصلا بل الوجود كله واحد هو الله.
الوجه الخامس:
أما هروبك من محل البحث والنقاش وهو وحدة الوجود إلى مسألة أجنبية عنها وهي وحدة الشهود فهو دليل على وقوف حمارك في العقبة وتبلد ذهنك وعجزك التام عن الجواب.
ثم وحدة الشهود التي هربت إليها لم تذكر لها دليلا صريحا من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ولا القياس ولا قول صاحب ولا تابع.
الوجه السادس:
أما الآيات الأربعة التي ذكرت فهي:(98/160)
الآية الأولى: قوله تعالى - { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم - } [ الحديد 03] وهذه الآية قد فسرها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - فقال ((... أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعد شيء وأنت الظاهر فليس فوق شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء..)) مسلم صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء باب الدعاء عند النوم ح ( 6889 )
هكذا فسرها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -فلم يذكر وحدة وجود ولا شهود ولم يذكرها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أتباعهم فلماذا وصلتم انتم إلى هذه الدرجة الرفيعة من الشهود التي لم يصل إليها واحد من هؤلاء ؟ ليس ذلك إلا من باب تفضيلكم معاشر المتصوفة أنفسكم على الأنبياء فمن دونهم مثل قول قائلكم:
" خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله " وقول آخر:" معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوه " وقال شاعركم:
ودونك بحرا خضته وقف الأولى
بساحله صونا لموضع حرمتي
وقول أحد عارفيكم: " نهاية أقدام النبيين بداية أقدام الأولياء ". جواهر المعاني 2/276- 277
وإليك أقوال المفسرين المعتمدين في هذه الآية:
- قال ابن جرير الطبري:
" يقول تعالى ذكره - { هو الأول - } قبل كل شيء بغير حد - { والآخر - } يقول و الآخر بعد كل شيء بغير نهاية وإنما قيل ذلك كذلك لأنه كان ولا شيء موجود سواه وهو كائن بعد فناء الأشياء كلها كما قال جل ثناؤه - { كل شيء هالك إلا وجهه - } وقوله: - { والظاهر - } يقول وهو الظاهر على كل شيء دونه وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه - { والباطن - } يقول هو الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه كما قال - { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد - } وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن - - صلى الله عليه وسلم -وقال به أهل التأويل " تفسير الطبري 11/670(98/161)
- وقال القرطبي عند هذه الآية:" وقد شرحها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - شرحا يغني عن قول كل قائل فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعد شيء وأنت الظاهر فليس فوق شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين واغننا من الفقر )) تفسير القرطبي17/154 .
- وقال النسفي: " - { هو الأول - } هو القديم الذي كان قبل كل شيء - { والآخر - } الذي يبقى بعد هلاك كل شيء - { والظاهر - } بالأدلة الدالة عليه - { والباطن - } لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئيا " تفسير النسفي 4/222
- وقال ابن كثير:" وقال البخاري قال يحي الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما وقال شيخنا الحافظ المزي يحي هذا هو ابن زياد الفراء له كتاب سماه معاني القرآن وقد ورد في ذلك أحاديث..." تفسيرابن كثير 4/2765 اهـ
- قال الشوكاني: " - { هل الأول - } قبل كل شيء - { والآخر - } بعد كل شيء أي الباقي بعد فناء خلقه - { والظاهر - } العالي الغالب على كل شيء أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة - { والباطن - } أي العالم بما بطن من قولهم فلان يبطن أمر فلان أي يعلم داخلة أمره ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي فتعين المصير إلى ذلك " فتتح القدير 5/165-166 اهـ
أما الآية الثانية فهي قوله تعالى: - { ولا تدع مع الله إله آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون - } القصص 88.
ولما كانت الآية حجة عليه في تحريم دعاء غير الله والإستغاثة به بتر أولها ووسطها ولم يذكر منها إلا - { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون - } فانظر إلى التحريف المتعمد من أجل ليّ أعناق النصوص. ثم الآية لا ذكر فيها لوحدة الشهود لا صراحة ولا ضمنا وإليك كلام أئمة المفسرين فيها:(98/162)
ـ قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري:" يقول تعالى ولا تعبد يا محمد مع معبودك الذي له عبادة كل شيء معبودا آخر سواه وقوله - { لا إله إلا هو - } يقول لا معبود تصلح له العبادة إلا الله الذي كل شيء هالك إلا وجهه واختلف في معنى قوله - { إلا وجهه - } فقال بعضهم معناه كل شيء هالك إلا هو وقال آخرون معنى ذلك إلا ما أريد به وجهه واستشهدوا لتأويلهم ذلك كذلك بقول الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
وقوله - { له الحكم - } يقول له الحكم بين خلقه دون غيره ليس لأحد غيره معه فيهم حكم، - { وإليه ترجعون - } يقول إليه تردون من بعد مماتكم فيقضي بينكم بالعدل فيجازي مؤمنكم جزاؤهم وكفاركم ما وعدهم " تفسيرالطبيري 10/119
- وقال القرطبي:" قوله تعالى - { ولا تدع مع الله إله آخر - } أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو نفي لكل معبود وإثبات لعبادته - { كل شيء هالك إلا وجهه - } قال مجاهد:( معناه إلا هو ) وقال الصادق (دينه ) وقال أبو العالية وسفيان (أي إلا ما أريد به وجهه أي ما يقصد إليه بالقربة ) " تفسير القرطبي 13/322 اهـ
قال النسفي: - { " كل شيء هالك إلا وجهه - } أي إلا إياه فالوجه يعبر به عن الذات وقال مجاهد يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله - { له الحكم - } القضاء في خلقه - { وإليه ترجعون - } " تفسير النسفي 3/249 اهـ
- قال ابن كثير قوله - { ولا تدع مع الله إلها آخر - } أي لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الألوهية إلا لعظمته وقوله - { كل شيء هالك إلا وجهه - } إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت كما قال تعالى - { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام - } فعبر بالوجه عن الذات وهكذا قوله ههنا - { كل شيء هالك إلا وجهه - } أي إلا إياه تفسير ابن كثير 3/2141 اهـ(98/163)
قال الشوكاني: " وكذلك قوله - { ولا تدع مع الله إلها آخر - } فإنه تعريض لغيره ثم وحد سبحانه نفسه ووصفها بالبقاء والدوام فقال - { لا إله إلا هو كل شيء - } من الأشياء كائنا ما كان - { هالك إلا وجهه - } أي إلا ذاته " فتح القدير 4/189 اهـ
قال أبو السعود: " - { ولا تدع مع الله إلها آخر - } هذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام لهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره عنه أصلا - { لا إله إلا هو - } وحده - { كل شيء هالك إلا وجهه - } إلا ذاته فإنما عداه كائنا ما كان ممكن في حد ذاته عرضة للهلاك والعدم - { له الحكم - } أي القضاء النافذ في الخلق - { وإليه ترجعون - } عند البعث بالجزاء بالحق والعدل " تفسير أبو السعود بحاشية التفسير الكبير 7/370 اهـ
- قال الرازي:" اختلفوا في قوله - { كل شيء هالك - } فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شيء سواه ومنهم من فسر الهلاك باخراجه عن كونه منتفعا به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت أجزاؤه باقية فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريدون به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعا به ومنهم من قال معنى كونه هالكا كونه قابلا للهلاك في ذاته فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلا للعدم فكان قابلا للهلاك فأطلق عليه اسم الهلاك نظرا إلى هذا الوجه..." 1 التفسير الكبير للرازي 6/462 اهـ
أما الآية الثالثة التي تعلق بها فهي قوله تعالى - { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير - } [لقمان 30 ].
وفي ما يلي ننقل لك أقوال المفسرين المعتمدين حتى يتبين أنه لا علاقة لها بالكشف والشهود الصوفي:(98/164)
- قال ابن كثير:" قوله - { ذلك بأن الله هو الحق وأن مايدعون من دونه الباطل - } أي إن ما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق أي الموجود الحق الإله الحق وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه لإن كل ما في السماوات والأرض الجميع خلقه وعبيده لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى - { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير - } أي العلي الذي لا أعلي منه الكبير الذي هو أكبر من كل شيء فالكل خاضع حقير بالنسبة إليه" تفسير ابن كثير 3/2205 اهـ
قال الشوكاني: " والإشارة بقوله - { ذلك - } إلى ما تقدم ذكره والباء في - { بأن الله - } للسببية أي ذلك بسبب أنه سبحانه - { هو الحق - } وغيره الباطل أو متعلقة بمحذوف أي فعل ذلك ليعلموا أنه الحق - { وأن ما يدعون من دونه الباطل - } قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان وقيل ما اشركوا به من صنم أو غيره وهذا أولى - { وأن الله هو العلي الكبير - } معطوفة على جملة - { أن الله هو الحق - } والمعنى أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدمة للإستدلال به على حقية الله وبطلان ما سواه وعلوه وكبريائه - { هو العلي - } في مكانته ذوالكبرياء في ربوبيته وسلطانه " فتح القدير 4/244 اهـ
قال الرازي: " قوله - { هو الحق - } إشارة إلى التمام وقوله - { وأن الله هو العلي الكبير - } أي فوق التمام وقوله - { هو العلي - } أي في صفاته، وقوله - { الكبير - } أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسما في مكان لأنه يكون حينئذ جسدا مقدرا بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرا بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير مطلقا أكبر من كل ما يتصور " التفسير الكبير 6/550 اهـ(98/165)
قال أبو السعود: " - { ذلك - } إشارة إلى ما تلى من الآيات الكريمة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى - { بأن الله هو الحق - } أي بسبب بيان أنه تعالى هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد - { وأن ما يدعون من دونه الباطل - } أي ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه تعالى لكونها بذلك شهادة بينة لا ريب فيها " تفسير أبي السعود حاشية التفسير الكبير 7/417-418 اهـ
قال الشنقيطي: " أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما والإحاطة بكل قول وفعل بسبب - { أن الله هو الحق - } أي الثابت الإلوهية والإستحقاق للعبادة وحده وأن كل ما يدعى إلها غيره باطل وكفر ووبال على صاحبه وأنه جل وعلا - { هو العلي الكبير - } الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علوا كبيرا " أضواء البيان للشنقيطي 5/505 اهـ
أما الآية الرابعة - { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب - } [ الرعد 39 ] فها أنذا أنقل لك أقوال المفسرين عند هذه الآية حتى ترى أنه لا حجة له فيها من قريب ولا من بعيد.(98/166)
- قال الطبري: " وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية وأشبهها بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد وذلك أن الله - تعالى ذكره - توعد المشركين الذين سألوا رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - الآيات بالعقوبة وتهددهم بها وقال لهم - { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب - } يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مثبتا في كتاب هم مؤخرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل ثم قال لهم فإذا جاء ذلك الأجل يجيء الله بما شاء ممن قد دنا أجله وأنقطع رزقه أو حان هلاكه أو إتضاعه من رفعة أو هلاك مال فيقضي ذلك في خلقه فذلك محوه ويثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأكله فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول - - صلى الله عليه وسلم - " تفسير الطبري 7/403 اهـ
- قال القرطبي: " قوله تعالى - { يمحو الله ما يشاء ويثبت - } أي يمحو من ذلك الكتاب ما شاء أن يوقعه بأهله ويأتي به ويثبت ما شاء أي يؤخره إلى وقته " تفسير القرطبي 9/329 اهـ
- قال ابن كثير: " قوله - { يمحو الله ما يشاء ويثبت - } أختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن بن عباس: " يدبر أمر السنة فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت " تفسير ابن كثير 2/1506 اهـ
- قال الشوكاني: وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما شاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أوشر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا - { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - } وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم " فتح القدير 3/88 اهـ
- قال الرازي: " المسألة الرابعة في هذه الآية قولان:(98/167)
الأول: أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود...القول الثاني أن هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون البعض " التفسير الكبير 5/210 اهـ
- قال أبو السعود: " - { يمحو الله ما يشاء - } أي ينسخ ما شاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت - { ويثبت - } بدله ما فيه المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما شاء إثباته مطلقا أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء أو يمحو من ديوان الحفظة الذين ديدنهم كتب كل قول وعمل ما لا يتعلق به الجزاء ويثبت الباقي أو يمحو سيئات التائب ويثبت مكانها الحسنة أو يمحو قرنا ويثبت آخرين أو يمحو الفاسدات من العلم الجسماني ويثبت الكائنات أو يمحو الرزق ويزيد فيه أو يمحو الأجل أوالسعادة والشقاوة وبه قال ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء وهذا رواه جابر عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل" تفسير أبي السعود بحاشية التفسير الكبير6/170-171 اهـ
الوجه السابع:(98/168)
وأما استدلاله بحديث ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها..)) هذا ما ذكره من الحديث فانظر إلى بتر الأحاديث والتصرف فيها وقطع أوصال النصوص وإليك نص الحديث، قال البخاري (6502) حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا خالد بن مخلد،حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولأن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته )) فالحديث لا دلالة فيه على وحدة الوجود ولا الشهود بل ولا على ما دون ذلك من الحلول والإتحاد:
أ- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:" وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفو من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهوده وإن لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للإتحادية ولا للقائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث ((ولإن سألني )) ((ولإن استعاذني )) فإنه كالصريح في الرد عليهم " فتح الباري 3/2858 اهـ
قلت: ولهذا حذف مفتاح التجاني هذه الجملة الأخيرة لصراحتها في الرد عليه كما قال ابن حجر العسقلاني وهذا قمة في التدليس والتحريف والعياذ بالله.(98/169)
ب- قال الطوفي:"اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ولهذا وقع في رواية ((فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي)) قال: والإتحادية زعموا أنه على حقيقته وأن الحق عين العبد واحتجوا بمجيئ جبريل في صورة دحية قالوا: فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه، تعالى الله عنما يقول الظالمون علوا كبيرا " فتح الباري 3/2857 اهـ
ج - قال ابن رجب: " فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به فهذا هو المراد بقوله (( كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها )) ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول أوالإتحاد والله ورسوله بريئان منه " جامع العلوم والحكم ص 684 اهـ
د- قال الخطابي:" هذه أمثال والمعنى والله أعلم توفيقه في الأعمال التي باشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه من موافقة ما يكره الله تعالى من الإصغاء إلى اللهو مثلا ومن النظر إلى ما نهى عنه ومن البطش بما لا يحل له ومن السعي في الباطل برجله..." عمدة القارئ 15/577 اهـ
الوجه الثامن:
وأما قوله " ويتحققون بمشاهدة ما في صحيحه - يعني البخاري - أيضا من قوله - - صلى الله عليه وسلم - (كان الله ولا شيء معه) وفي رواية ( كان الله ولم يكن شيء غيره ) " اهـ ص 35.(98/170)
قلت: هذه هي عادته، قطع أوصال النصوص مع تحريف ألفاظها وتبديل ما لا يوافقه منها وإليك نص الحديث: قال البخاري حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال دخلت على النبي - - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال ((اقبلوا البشرى يا بني تميم )) قالوا قد بشرتنا فاعطنا، مرتين ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم )) قالوا: قد قبلنا يا رسول الله قالوا جئنا نسألك عن هذا الأمر قال: ((كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ))فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها.
هذا لفظ البخاري من كتاب بدأ الخلق باب ما جاء في قوله تعالى: - { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه - } ورواه البخاري في كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء الحديث رقم ( 7418) بلفظ (( كان الله ولم يكن شيء قبله )).
أما لفظ (( معه )) الذي ذكره هو فلا أصل له انظر تخريج الألباني لشرح الطحاوية ص 133 بهذا اللفظ وإن كان في معنى الرواية الثابة ولفظ الحديث في المسند 4/ 431 (( كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء )) وأعلم أن المتصوفة لكي يستدلوا بهذا الحديث على باطلهم وضعوا في آخره زيادة وهي (( وهو الآن على ما عليه كان )) وهي كذب لا أصل لها قال ابن حجر: " وقع في بعض الكتب في هذا الحديث (( كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان )) وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث نبه على ذلك العلامة تقي الدين ابن تيمية وهو مسلّم في قوله (( وهو الآن إلى آخره...)) وأما لفظ ((ولا شيء معه )) فرواية الباب بلفظ (( ولا شيء غيره بمعناها )) " فتح الباري 2/1503 اهـ(98/171)
وقال الملا علي القاري: "... لكن الزيادة وهي قولهم (( الآن على ما عليه كان )) من كلام الصوفية يشبه أن يكون من مفتريات الوجودية القائلة بالعينية " الأسرار المرفوع ص 261 اهـ
الوجه التاسع:
أما قول مفتاح التجاني: " وقوله - - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري أيضا أصدق كلمة قالها الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وقوله - - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم وأصله في البخاري اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اهـ ص 35.
وأما الحديث الأخير فقد تقدم الكلام على معناه في تفسير آية سورة الحديد - { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم - } [ الحديد 03 ].
وأما الحديث الأول فقال البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال لي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -: (( أصدق كلة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم )) البخاري المناقب باب أيام الجاهلية ح (3841) وانظر في ح ( 6147 ) و( 6489 ) وصحيح مسلم ( 2256) . ولا حجة لهم في البيت لأن المقصود بالبطلان الموت والفناء والهلاك
1 - قال ابن حجر: " والمراد في البيت بالبطلان الفناء لا الفساد فكل شيء سوى الله جائز عليه الفناء لذاته حتى الجنة والنار وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما والحق على الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال ولعل هذا هو السر في إثبات الألف واللام في قوله ((أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق )) وحذفهما عند ذكر غيرهما والله أعلم اهـ فتح الباري 2/1713(98/172)
2- قال المناوي: " (( ألا كل شيء ما خلا باطل )): أي هالك مضمحل لأنه موافق لأصدق الكلام وهو قوله تعالى - { كل من عليها فان - } ولا ريب أن هذه الكلمة أصدق ما تكلم به ناظم أو ناثر مقدمتها كلية مقطوع بصحتها وشمولها عقلا ونقلا ولم يخرج من كليتها شيء قطعا إلا ما مر إستثناؤه وهو الله وصفاته وعقابه وثوابه " فيض القدير1/529 .
3 - وهكذا يتبين أن الحديث لا علاقة له بالفناء المزعوم ولا بما يسمى وحدة الوجود وإنما فيه أن ما سوى الله فان وزائل وأن الله هو الذي لا يفنى ولا يزول .
أما ابن القيم فقد رد عليكم في هذا الفناء إذ قال في مدارج السالكين (1/304):" ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده انسلخ من دين الله ومن جميع رسله وكتبه وإذلم يتميز عنده ما أمر الله به مما نهى عنه ولم يفرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين محبوبه ومبغوضه ولا بين المعروف والمنكر وسوى بين المتقين والفجار والطاعة والمعصية بل ليس عنده في الحقيقة إلا طاعة لاستواء الكل في الحقيقة التي هي المشيئة العامة الشاملة ثم صاحب هذا المقام يظن أنه صاحب الجمع والتوحيد وأنه وصل إلى عين الحقيقة وإنما وصل المسكين إلى الحقيقة الشاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده أجمعون وكل كافر ومشرك وفاجر...". اهـ
وقال أيضا (1/296):" وأما عدم الشعور والعلم بحيث لا يفرق صاحبه بين نفسه وغيره ولا بين الرب والعبد مع اعتقاده الفرق ولا بين شهوده ومشهوده بل لا يرى السوى ولا الغير فهذا ليس بمحمود ولا هو وصف كمال ولا هو مما يرغب فيه ويؤمر به بل غاية صاحبه أن يكون معذورا لعجزه وضعف قلبه وعقله عن احتمال التمييز والفرقان... " اهـ(98/173)
قال الذهبي في الميزان (3/630) آخر ترجمة ابن عربي:" فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات ويؤمن بالله وباليوم الآخر خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة " اهـ
قال الغزالي في الإحياء (1/36):" وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية (أحدهما) الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى انتهى قوم إلى دعوى الإتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب من أجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس ويستشهدون بقوله (أنا الحق ) وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قا ل: ( سبحاني، سبحاني ) وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوى فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدال، والعلم حجاب والجدل عمل نفسي وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا ومثله مما استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة " اهـ
قال مفتاح التجاني:
" أما اعتراض هذا الجاهل المغرض على قول عبيدة بن محمد الصغير في ميزاب الرحمة ص 66 فإذا عرفت أن وجود الله تعالى لا ماهية له وأنه يقبل التجلي في جميع الصور عرفت أن الوجود في هذه الصورة المرئية هو وجوده تعالى والصور ليست له بل من حكم الذات المتجلي عليها فيجاب عنه بأنه كلام صحيح المعنى والمبنى لأنه يتلخص في ثلاثة أمور... " اهـ ص 35(98/174)
والرد عليه من وجوه خمسة:
الوجه الأول:
أن هذا الكلام صريح في وحدة الوجود لأنه قال " عرفت أن الوجود في هذه الصورة المرئية هو وجوده تعالى ".
الوجه الثاني:
أن عبيدة قال قبل ذلك بقليل " والقائلون بوحدة الوجود أولي الذوق الصحيح والكشف الصريح وأهل هذا التصديق الجامع فإنهم قائلون بأن الله تعالى هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي " ميدان الفضل والإفضال ص 66 اهـ
فهل تستطيع تأويل هذا ؟!
الوجه الثالث:
وقال أيضا عند شرح إحاطة النور المطلسم ما نصه: " مما يوحي إلى وحدة الوجود لتعلم صحة اعتقاد معتقدها وكماله ونقص اعتقاد منتقدها واعتلاله ولكن قد علم كل أناس مشربهم ومشرقهم ومغربهم "3 اهـ فانظر كيف دافع عن وحدة الوجود ورد على منكرها مع ذلك ينكر مفتاح أنه يقول بها !!
الوجه الرابع:
من شدة جهل مفتاح بكتب التجانية أنه عزا هذا الكلام لميزاب الرحمة الربانية ظنا منه أنه ليس لعبيدة بن محمد الصغير التيشيتي إلا هذا الكتاب والكلام إنما هو في كتاب آخر هو " ميدان الفضل والإفضال في شم رائحة جوهرة الكمال " طبع بالمطبعة الرسمية العربية بحاضرة تونس 1329هـ 1911 م .
الوجه الخامس:
ومن كلام عبيدة الصريح في وحدة الوجود قوله "...وأن هذا الإعتقاد ليس هو إعتقاد القائل بوحدة الوجود لأن ذلك إعتقاد صحيح شرعا يقبله العقل السليم بالوهب الإلهي والفيض الرحماني وإن لم يدركه بالنظر الفكري" المصدر السابق .
حكم القائلين بوحدة الوجود
وإذا عرفت مما سبق أن التيجانية تقول بوحدة الوجود وتدافع عنها فلنشرع في بيان حكمها الشرعي:(98/175)
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم أنها كفر لم يفهم هذا اللفظ حالها فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة بل كفر كل كافر جزء من كفرهم ولهذا قيل لرئيسهم أنت نصيري فقال نصير جزء مني، وكان عبد الله بن المبارك يقول:(إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ) وهؤلاء شر من أولئك الجهمية فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان وهؤلاء قولهم: إنه وجود كل مكان ما عندهم موجودان أحدهما حال والآخر محل، ولهذا قالوا: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالإضطرار من دين المرسلين أن من قال عن أحد من البشر أنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل " مجوع الفتاوى 2/127 اهـ
قال أيضا " وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالإتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض في نفسه ولهذا يلبسون على من لم يفهمه فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين " المرجع السابق2/368 اهـ
2- وقد قال القاضي عياض :"فذلك كله كفر بإجماع المسلمين كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين وكذلك من ادعى مجالسة الله والعروج إليه ومكالمته أو حلوله في أحد من الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة" الشفاء للقاضي عياض 2/585-586 اهـ(98/176)
3- قال زين الدين العراقي في رده على ابن عربي:" وأما قوله (فهو عين ما ظهر وعين مابطن) فهوكلام مسموم ظاهره القول بالوحدة المطلقة وأن جميع مخلوقاته هي عينه ويدل على إرادته لذلك صريحا قوله بعد ذلك وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات وكذلك قوله بعد ذلك ( والمتكلم واحد وهو عين السامع ) وقائل ذلك المعتقد له كافر بإجماع العلماء " مصرع التصوف ص 64 اهـ
4- وفي المواقف للعضد مع شرح الجرجاني بعد أن ذكر المخالفين للمسلمين في مسألة الحلول والإتحاد مانصه: " ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره ويقول: لا حلول ولا اتحاد إذ ذاك يشعر بالغيرية ونحن لا نقول بها بل نقول ليس في ذات الوجود غيره وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجرم إذ يلزم من ذلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل ولا مميز أدنى تمييز " شرح المواقف 8/29 اهـ
5- قال أبو حيان الأندلسي:"ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالإتحاد والوحدة كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض واتباع هؤلاء كابن السبعين والتستري - وعد جماعة - ثم قال وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله - يعلم الله ذلك - وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه والرد على النصارى والحلولية والقائلون بالوحدة هو من علم أصول الدين " البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 3/448 اهـ(98/177)
6 - قال ابن النقاش في تفسيره: "...ومن ذلك تدرجوا إلى وحدة الوجود وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وبن الفارض ممن يجعل الوجود الخالق هو الوجود المخلوق وقد لا يرضى هؤلاء بلفظ الاتحاد بل يقولون بالوحدة لأن الاتحاد يكون افتعالا بين شيئين وهم يقولون الوجود واحد لا تعدد فيه ولم يفرقوا بين الواحد في العين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود ولكن ليس وجود هذا وجود هذا والقدر المشترك هو كلي والكلي المطلق لا يوجد كليا مطلقا إلا في الأذهان لا في الأعيان بل كل موجود من المخلوقات له وصف يختص به لا يشاركه فيه غيره في الخارج وأنقص المراتب عند هؤلاء مرتبة أهل الشريعة " مصرع التصوف ص147- 148 اهـ
7 - قال شمس الدين العيزري:" وهم شعبان: شعب حلولية يعتقدون حلول الخالق في المخلوق وشعب اتحادية لا يعتقدون تعددا في الوجود في زعمهم أن العالم هو الله وكل فريق منهم يكفر الآخر وأهل الحق يكفرون الفريقين " المرجع السابق ص 152 اهـ
8 - قال علاء الدين البخاري:"...إذ لا يخفى على العاقل أن ذلك من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى فإذن الكل هو الله لا غير فلا نبي ولا رسول ولا مرسل إليه ولا خفاء في امتناع النوم على الواجب وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام لكن لما كان لكل ساقطة لاقطة ترى طائفة من الجهال ذلت أعناقهم لها خاضعين أفرادا وأزواجا وشرذمة من الضلال يدخلون في فسوق الكفر بعد الإيمان زمرا وأفواجا مع أنهم يرون أنه اتخذ آيات الله وما أنذروا هزوا وأشرك جميع الممكنات حتى الخبائث والقاذورات بمن لم يكن له كفوا أحد " المرجع السابق ص 165 اهـ(98/178)
9 - وقال جلال الدين السيوطي في رسالته تنزيه الاعتقاد عن الحلول والاتحاد:" القول بالحلول والاتحاد الذي هو أخو الحلول أول من قال به النصارى إلا أنهم خصوه بعيسى عليه السلام أو به وبمريم أمه ولم يعدوه إلى أحد وخصوه باتحاد الكلمة دون الذات إلى أن قال: أما المتوسمون بسمة الإسلام فلم يبتدع أحد منهم هذه البدعة وحاشاهم من ذلك لأنهم أذكى فطرة وأصح لبا من أن يمشي عليهم هذا المحال وإنما مشى ذلك على النصارى لأنهم أبلد الخلق أذهانا وأعماهم قلوبا غير أن طائفة من غلاة المتصوفة نقل عنهم أنهم قالوا بمثل هذه المقالة وزادوا على النصارى في تعدية ذلك والنصارى قصروه على واحد فإن صح ذلك عنهم فقد زادوا في الكفر على النصارى " الحاوي للفتاوي 2/ 122 ـ 123 اهـ
10 - قال أبو حامد الغزالي: " ومن هنا نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال أنا الحق وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها أو حلولها فيها على ما اختلفت فيه عباراتهم وهو غلط محض " إحياء علوم الدين2/292 اهـ(98/179)
11 - قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" أما الفناء عن وجود السوى فهو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم غير وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة ونفي التكثر والتعدد عن الوجود بكل اعتبار فلا يشهد غيرا أصلا بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد وهو الواجب بنفسه ما ثم وجودان ممكن وواجب ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كون وجودها هو عين وجوده وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم والأمر والنهي تلبيس عندهم والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاص ما دام في مقام الفرق فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات لا معصية فيها لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية بل ارتفعت الطاعات والمعاصي لأنها تستلزم اثنينية وتعددا وتستلزم مطيعا ومطاعا وعاصيا ومعصيا وهذا عندهم محض الشرك والتوحيد المحض يأباه فهذا فناء هذه الطائفة " مدارج السالكين1/293 ـ 294 اهـ
12 - قال قاضي القضاة الماوردي:" القائل بالحلول والاتحاد ليس من المسلمين بالشريعة بل في الظاهر والتسمية ولا ينفع التنزيه مع القول بالاتحاد والحلول فإن دعوى التنزيه مع ذلك إلحاد " الحاوي للفتاوي 2/125 اهـ
13 - وقال عز الدين ابن عبد السلام في قواعده الكبرى:" ومن زعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر لأن الشرع إنما عفي عن المجسمة لغلبة التجسيم على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلول فإنه لا يعم الإبتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل فلا يعفى عنه" المرجع السابق 2/126 اهـ(98/180)
قال السيوطي معقبا عليه:" قلت مقصود الشيخ أنه لا يجري في تكفيرهم الخلاف الذي جرى في المجسمة بل يقطع بكفر القائلين بالحلول إجماعا وإن جرى في المجسمة خلاف " المرجع السابق 2/126 اهـ
14 - قال أبو نعيم الأصبهاني في أول الحلية:" وذلك لما بلغك من بسط لساننا وألسنة أهل الفقه والآثار في كل الأقطار والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة والفجار والمباحية والحلولية الكفار " حلية الأولياء 1 /4 اهـ
15 - قال - صاحب كتاب معيار المريدين - أبو محمد عبد الله بن محمد النوري:" والدليل على بطلان اتحاد العبد مع الله تعالى أن الاتحاد بين مربوبين محال فإن رجلين مثلا لا يصير أحدها عين الآخر لتباينهما في ذاتيهما كما هو معلوم فالتباين بين العبد والرب سبحانه وتعالى أعظم فإذن أصل الاتحاد باطل محال مردود شرعا وعقلا وعرفا بإجماع الأنبياء والأولياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين وليس هذا مذهب الصوفية وإنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله تعالى فشابهوا بهذا القول النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام اتحد ناسوته بلاهوته " الحاوي للفتاوي 2/126 اهـ
16 - وقال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد:" حدثني الشيخ كمال الدين المراغي عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال له مرة الكفار إنما انتشروا في بلادكم لانتشار الفلسفة هناك وقلة اعتنائهم بالشريعة والكتاب والسنة قال فقلت له في بلادكم ما هو شر من هذا وهو قول الاتحادية فقال هذا لا يقوله عاقل فإن قول هؤلاء كل أحد يعرف فساده " المرجع السابق2/127 اهـ(98/181)
17 - وقال العلامة محمد رشيد رضا: " وهذه المرتبة هي وحدة الشهود وما يذكرونه من مرتبة وراء هذه تسمى وحدة الوجود وهي عبارة عن كون وجود الخلق عين وجود الحق وكون ذات العبد هي ذات الرب أو لا عبد ولا رب ما ثم إلا شيء واحد له مظاهر وأطوار كظهور الماء في صورة الثلج الجامد والسائل والبخار وقد يحتجب بالانحلال إلى عنصري الأكسجين والهدروجين عن الأبصار فهذه فلسفة مادية باطلة اخترعتها مخيلات صوفية البوذية والبراهمة وهي كفر بالله وخروج من ملل جميع رسل الله وقد فتن بها بعض صوفية المسلمين ولهم فيها من الشعريات المنظومة والمنثورة وتأويل بعض الآيات والأحاديث المأثورة ما أضل كثيرا من الناس بهم وبها ..." تفسير المنار 10/240 اهـ
18 - وقال العلامة حافظ أحمد الحكمي:"... الطائفة الثالثة الاتحادية وهم القائلون إن الوجود بأسره هو الحق وأن الكثرة وهم بل جميع الأضداد المتقابلة والأشياء المتعارضة الكل شيء واحد هو معبودهم في زعمهم وهم طائفة ابن عربي الطائي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم وغيرهما مما حرف فيه الكلم عن مواضعه وتلاعب فيه بمعاني الآيات وأتى بكفر لا يشبه كفر اليهود الذين قالوا عزير ابن الله ولا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله وقالوا: هو الله وقالوا: ثالث ثلاثة؛ فإن النصارى وأشباههم خصوا الحلول والاتحاد بشخص معين وهؤلاء جعلوا الوجود بأسره على اختلاف انواعه وتقابل أضداده مما لا يسوغ التلفظ بحكايته هو المعبود فلم يكفر هذا الكفر أحد من الناس..." معارج القبول 1/301-302 اهـ(98/182)
19- وقد ألف العلامة الشيخ محمد بن أبي مدين في الرد عليكم كتابه شن الغارات على أهل وحدة الوجود وأهل معية الذات قال فيه: " قال جامعه وفقه الله إنما جمعت بين الكلام على معية الذات ووحدة الوجود لأني رأيت التصيرح بالثانية في كلام بعض أئمة الأولى وسمعت بعض مشائخي يقول إن القول بمعية الذات يفضي إلى القول بوحدة الوجود وكفى بمقالة تفضي إليها قبحا وفسادا فإن جل مقالات أهلها صريح في كفر من يقوله، فهم يقولون بقدم العالم وينكرون بعث الأجساد وحشرها... كما أن من أمهات مقالاتهم المؤذنة بكفرهم تصريحهم بأنهم يرونه تعالى في دار الدنيا يقظة وذلك مبني على زعمهم أنه سبحانه عين خلقه أوحال فيه كما نص على ذلك شيخهم الحلاج بقوله: (أنا الحق وما في الجبة إلى الله) شن الغارات154- 158 - إلى أن قال - فمن زعم أن الله عز وجل هو عين مخلوقاته أو أنه حل في شيء منها فهو ضال كافر بالإجماع " المصدر السابق 167 اهـ
المحظورات الشرعية المترتبة على القول بوحدة الوجود:
واعلم أنه يترتب على عقيدة وحدة الوجود محظورات كثيرة من أهمها:
1- لو كان الوجود وحدة واحدة لكان الخالق عين المخلوق فكيف يأمره وينهاه ؟ وكيف يرغبه ويرهبه ؟ إذ الآمر هو المأمور وهو الأمر الذي أمر به وهذا لا يقول به من له أدنى مسحة من عقل الله ذاتا وموضوعا لعبد الكريم الخطيب ص 219 .
يقول ابن عربي:
أنت عبد وأنت رب
لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب وأنت عبد
لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص
بحله من سواه عقد الفصوص ص 90(98/183)
2- في هذا القول إنكار أن يكون الله خلق شيئا من هذه المخلوقات لأنها ليست سواه فالمخلوقات عين المخلوق والمخلوق عين الخالق ومن الممتنع أن يكون خالقا لنفسه لأن الشيء لا يخلق نفسه قال تعالى متحديا للكفار: - { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون - } [ ] وقال شيخ الإسلام: " وعند هؤلاء الكفرة الملاحدة الفرعونية أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه وبرأه أو أبدعه إلا نفسه المقدسة ونفسه المقدسة لا تكون مخلوقة مربوبة مصنوعة مبروءة لامتناع ذلك في بدائه العقول وذلك من أظهر الكفر عند جميع الملل " مجموع الرسائل والمسائل ( ق 2/135 ) اهـ
3- ويلزم على هذا القول ألا يكون الله رب العالمين ولا مالك الملك لأنه لا يكون رب نفسه ولا يكون مالكا ممولوكا إذليس هنالك أحد سواه التجانية : على دخيل الله ص 91 .
4- يلزم منه أنه تعالى لم يرزق أحدا ولا هدى أحدا ولا علم أحدا علما فلم يصل إلى أحد منه خير ولا شر إذ هو الرزاق المرزوق والهادي المهدي والعالم المعلم إذليس في الوجود سواه التفسير القيم لابن القيم ص 51 .
5- وأن الله هو الذي يصوم ويقوم ويركع ويسجد ويموت ويمرض وتتسلط عليه الأعداء ويوصف بكل نقص وعيب - تعالى الله عما يقولون - إذ ليس في الوجود سواه. مجموع الرسائل والمسائل ق2/135
6- كما يلزم منه أن الذين عبدوا الأوثان وغيرها من كل ما عبد من دون الله ما عبدوا إلا الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقد صرح التجاني بذلك:" يعني لا معبود غيري وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبدوا غيري ولا توجهوا بالخضوع والتذلل لغيري " جواهر المعاني 1/185
7- كما يلزم منه تصحيح دعوى من ادعى الألوهية من البشر كفرعون والدجال المنتظر. مجموعة الرسا/ل والمسائل ق2/147
8- أن كل عابد للشيطان أو لهواه هو عابد لله إذ ليس الشيطان عندهم شيء سوى الرحمن فالمتبعين للهوى والشيطان هم المطيعون لله لأن الله هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي.(98/184)
9- يلزم منه أن تكون الكلاب والحمير والخنازير آلهة وكذا الأبقار وغيرها إذ ليس في الوجود أحد سواه الله ذاتا وموضوعا ص 205 تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
10- يلزم عليه اعتقاد ماهو مستحيل عقلا قال الرازي: "البارى لا يتحد بغيره لأنه حال الإتحاد إن بقيا موجودين فهما أثنان لا واحد وإن صارا معدومين فلم يتحدا بل حدث ثالث وإن عدم أحدهما وبقي الآخر فلم يتحد لأن المعدوم لا يتحد بالموجود " محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص 112 اهـ
11- يلزم عليه مناقضة الفطر والشرائع إذ لا تحله شريعة سماوية إطلاقا ولا تستسيغه فطرة سوية أبدا لأن الله فطر الناس على أنهم مخلوقين وأنه هو الخالق حتى الكافر يعلم ذلك وإن جحدها بعضهم منهم - { ولئن سألتهم من خلقهم ليقون الله - } [الزخرف 87 ].
دعوة التيجانية إلى الأمن من مكر الله وتجرئتهم على المعاصي:
قال مفتاح التجاني:
" وأما اعتراضه على ماقال سيدي علي حرازم في جواهر المعاني ج1ص104 ونصه:( فمن أراد الدخول في طريقنا فلا بد له من هذا الشرط ولا خوف عيله من صاحبه ولا من غيره أيا كان من الأولياء الأحياء والأموات في الدنيا والآخرة، لا من شيخه ولا من غيره ولا من الله ولا من سوله - - صلى الله عليه وسلم - بوعد صادق لا خلف فيه ) فيجاب عنه من ثلاثه أوجه أولها: أن هذا الوعد الذي قاله علي حرازم مشروط بما اشترطه الشيخ نفسه في طريقته من اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات...إلخ" اهـ ص36
والرد عليه من وجوه ثمانية:
الوجه الأول:(98/185)
لِمَ لم تذكر تمام كلام شيخك حتى يتضح مقصوده ؟! أم أن في كلامه الذي تركت صارحة لا تقبل التأويل ؟ فهل هذه هي الأمانة العلمية ؟ ونص كلامه: "واعلم أن هذا الورد العظيم لا يلقن لمن كان له ورد من أوراد المشايخ رضي الله عنهم إلا إن تركه وانسلخ منه ولا يعود إليه أبدا وعاهد الله على ذلك فعند ذلك يلقنه الورد من له الإذن الخاص من الشيخ - - رضي الله عنه - وإلا فلا يلقنه له إن لم ينسلخ عن ورده الذي بيده فيتركه وورده وطريقته لأن أوراد المشايخ رضي الله عنهم كلها علىهدى وبينة من الله وكلها مسلكة وموصلة إلى الله تعالى وهذا ليس منا تكبرا واستعلاء على المشايخ رضي الله عنهم حاشا وكلا ومعاذ الله بل هذا الشرط مشروط في طريقتنا لا غير فمن أراد الدخول في طريقتنا فلا بد له من هذا الشرط ولا خوف عليه من صاحبه ولا من غيره أيا كان من الأولياء الأحياء والأموات في الدنيا والآخرة وهو آمن من كل ضرر يلحقه في الدنيا وفي الآخرة لا من شيخه ولا من غيره ولا من الله ولا من سوله - - صلى الله عليه وسلم - بوعد صادق لا خلف له ". جواهر المعاني 1/91ـ92 والرماح 1/372ـ373 وبغية المستفيد ص 329 والدرة الخريدة 2/123 اهـ
الوجه الثاني:
أنك حذفت من وسط الكلام ما فيه حجة عليك دون أن تشير إلى ذلك وهو قوله:"وهو آمن من كل ضرر يلحقه في الدنيا والآخرة لا من شيخه ولا من غيره ولا من الله ولا من سوله - - صلى الله عليه وسلم - بوعد صادق لا خلف له " المرجع السابق . اهـ
فهل بعد هذا درجة من التزوير والتحريف والكذب ؟!!.
الوجه الثالث:
أما قوله أن هذا مشروط بالامتثال والإجتناب قلنا هذا تحريف بين يفرغ كلام شيخك من محتواه ويصبح لا فائدة فيه إذ لا فرق بين صاحب طريقتكم وغيره وهذا خلاف المقصود من السياق.
الوجه الرابع:
هذه خديعة مكشوفة في جمع الأتباع السذج بالترغيب والترهيب وقد عفا عليها الزمن.
الوجه الخامس:(98/186)
قوله أنه آمن فهذا باطل وضلال حتى لو كان أعبد الناس فينبغي أن يكون أشدهم خوفا وأبعدهم عن الأمن من مكر الله.
الوجه السادس:
إذا كانت طرق المشايخ هدى من الله كيف تلزمه بتركها ومعاهدة الله على أن لا يعود إلى ذلك الهدى الذي في تلك الطرق ؟!!.
الوجه السابع:
إذا كانت طرق المشايخ هدى فلم لا يمكن جمعها مع الهدى الذي عندك كيف يكون كله هدى والجمع بينه محرم وممنوع.
الوجه الثامن:
وأما استدلاله بأن التجاني في موضع آخر نهى عن الأمن من مكر الله فهذا من باب ذر الرماد في العيون وإلا فعامة كلامه حث على الأمن من مكر الله وبما أنك نقلت عنه ثلاثة أنقال فأنا أنقل لك عنه ثلاثين كلها في الحث على الأمن من مكر الله:
1. ما تقدم من قوله:"وهو آمن من كل ضرر يلحقه في الدنيا والآخرة...الخ"
2. قال التجاني:" من ترك وردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله تعالى ولا من رسوله - - صلى الله عليه وسلم - ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات " الرماح 1/378و2/413 والدرة الخريدة 2/124 اهـ
3. قال التجاني: " وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنه بغيرحساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ماعملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي" الرماح 2/413و2/422 والدرة الخريدة 1/87 اهـ
4. قال التجاني:" كل من عمل عملا لله تعالى فرضا أو نفلا وتقبل منه يعطينا الله على ذلك العمل أزيد مما يعطيه لعامله بأكثر من مائة ألف ضعف ونحن رقود " بغية المستفيد ص 279. اهـ
5. قال التجاني: " أخبرني سيد الوجود يقظة لامناما قال لي أنت من الآمنين وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب " جواهر المعاني 1/96 اهـ(98/187)