اللهم إني أسألك بنيِّر هدايتك الأعظم، وسر إرادتك المكنون من نورك المطلسم، مختارك منك لك قبل كل شيء، ونورك المجرد بين مسالك اللقِيْ، كنزك الذي لم يحط به سواك، وأشرف خلقك الذي بحكم إرادتك كونت من نوره أجرام الأفلاك وهياكل الأملاك، فطافت به الصافون حول عرشك تعظيماً وتكريماً، وأمرتنا بالصلاة والسلام عليه...وزجيت به في نور ألوهيتك العظمى، خليفتك بمحض الكرم على سائر مخلوقاتك، وشيدت به قوائم عرشك المحوط بحيطتك الكبرى... بحر فيضك المتلاطم بأمواج الأسرار(1)....
* الصلاة المسماة بالصلوات الزاهرة:
اللهم صل وسلم على الجمال الأنفس، والنور الأقدس، والحبيب من حيث الهوية، والمراد في اللاهوتية، مترجم كتاب الأزل، والمتعالي بالحقيقة عن حقيقة الأثر حتى كأنه المثل، الجلس الأعلى، والمخصوص الأولى، والحكمة السارية في كل موجود...روح صور الأسرار الملكوتية...محمدك وأحمدك وتر العدد، ولسان الأبد، العرش القائم بتحمل كلمة الاستواء الذاتي فلا عارض، المتجلي بسلطان قهرك على ظلل ظلم الأغيار لمحق كل معارض، النقطة التي عليها مدار حروف الموجودات بجميع الاعتبارات،...لوح الأسرار، ونور الأنوار...ومظهر أنوار اللاهوت في ناسوت المثل، القائم بكل حقيقة سرياناً وتحكيماً... المتجلي بملابس الحقائق الفردانية...الحافظ على الأشياء قواها بقوتك، الممد لذرات الكائنات بما به برزت من العدم إلى الوجود بقدرتك، كعبة الاختصاص الرحماني، محج التعين الصمداني، قيوم المعاهد التي سجدت لها جباه العقول، أقنوم الوحدة ولا أقنوم، إنما نورك بنورك موصول... منتهى كمال النقطة المفروضة في دوائر الانفعال، ومبدأ ما يصح أن يشمله اسم الوجود القابل لتنوعات القضاء والقدر، على ما سواك من حيث أنت أنت بما شئت من فيوضاتك العلية...وسر سرائر الكنز الأحدي الصمدي(2).
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:131، 132).
(2) أفضل الصلوات، (ص:134، وما بعدها).(78/263)
- لننتبه إلى عبارة: مدار حروف الموجودات بجميع الاعتبارات، والتي تحمل نفس معنى: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا) و(اجتمع فيه النجو مع الورد).. وغيرها..
* الصلاة السقافية لسيدي عبد الله السقاف:
اللهم صل وسلم على سلم الأسرار الإلهية، المنطوية في الحروف القرآنية، مهبط الرقائق الربانية، النازلة في الحضرة العلية...صاحب اللطيفة القدسية، المكسوة بالأكسية النورانية، السارية في المراتب الإلهية المتكملة بالأسماء والصفات الأزلية، والمفيضة أنوارها على الأرواح الملكوتية، المتوجهة في الحقائق الحقية، النافية لظلمات الأكوان العدمية المعنوية، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الكاشف عن المسمى بالوحدة الذاتية...صاحب الصورة المقدسة، المنزلة من سماء قدس غيهب الهوية الباطنة، الفاتحة بمفتاحها الإلهي لأبواب الوجود القائم بها من مطلع ظهورها القديم، إلى استواء إظهارها للكلمات التامات، اللهم صل وسلم على حقيقة الصلوات وروح الكلمات، قوام المعاني الذاتيات، وحقيقة الحروف القدسيات، وصور الحقائق الفرقانية التفصيليات...موصل الأرواح بعد عدمها إلى نهايات غايات الوجود والنور(1)...
* صلاة (يتعبد بها كل الصوفية):
اللهم صل على طامة الحقائق الكبرى، سر الخلوة الإلهية ليلة الإسراء...ينبوع الحقائق الوجودية، بصر الوجود، وسر بصيرة الشهود، حق الحقيقة العينية، وهوية المشاهد الغيبية، تفصيل الإجمال الكلي...نفس الأنفاس الروحية، كلية الأجسام الصورية، عرش العروش الذاتية، كتابك المكنون...يا فاتحة الموجودات، يا جامع بحري الحقائق الأزليات والأبديات...يا نقطة مركز جميع التجليات، يا عين حياة الحُسن الذي طارت منه رشاشات، فاقتسمتها بحكم المشيئة الإلهية جميع المبدعات(2)...
* صلاة (يتعبد بها كل الصوفية):
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:155، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات، (ص:166، 167).(78/264)
اللهم صل على مولانا محمد نورك اللامع، ومظهر سرك الهامع...الذي فتحت ظهور العالم من نور حقيقته...ولولا هو ما ظهرت لصورةٍ عينٌ من العدم الرميم(1)...
* صلاة (لكل الصوفية):
اللهم صل على عين بحر الحقائق الوجودية المطلقة اللاهوتية، ومنبع الرقائق اللطيفة المقيدة الناسوتية، صورة الجمال، ومطلع الجلال، مجلى الألوهية، وسر إطلاق الأحدية، عرش استواء الذات، وجه محاسن الصفات، مزيل برقع حجاب ظلمات اللبس بطلعة شمس حقائق كنه ذاته الأنفس، عن وجه تجليات الكمال الإلهي الأقدس، كتاب مسطور جمع أحدية الذات الحق، في رق منشور تجليات الشئون الإلهية المسمى كثرة صورها بالخلق(2)...
* صلاة (لكل الصوفية):
اللهم صل على سلطان حضرات الذات، مالك أزمة تجليات الصفات، قطب رحى عوالم الألوهية...جبال موج بحار أحدية الذات، طلسم كنوز المعارف الكنهيات الذاتيات، سقف مرفوع الكمالات الأسمائية، بحر مسجور العلوم اللدنيات، حوض الألوهية الأعظم الممد لبحار أمواج صور الكون الظاهرة من فيوض حقائق أنفاسه، قلم القدرة الإلهية العظموية، الكاتب في لوح نفسه ما كان وما يكون من محاسن مبدعات العالم وتقلباته، وجمال كل صورة إلهية وسر حقيقتها غيباً وشهادة...جمع الجمع وفرق الفرق من حيث لا جمع ولا فرق(3)...
* الصلاة الكبرى لسيدنا عبد القادر الجيلاني:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:167، 168).
(2) أفضل الصلوات، (ص:168).
(3) أفضل الصلوات، (ص:169، 170).(78/265)
...اللهم صل وسلم وأفلح وأنجح وأتم وأصلح وزك وأربح وأوف وأرجح، أفضل الصلاة وأجزل المنن والتحيات، على عبدك ونبيك ورسولك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو فلق صبح أنوار الوحدانية، وطلعة شمس الأسرار الربانية، وبهجة قمر الحقائق الصمدانية، وحضرة عرش الحضرات الرحمانية، نور كل رسول وسناه...سر كل نبي وهداه...السيد الكامل الفاتح الخاتم، حاءُ الرحمة، وميم الملك، ودال الدوام، بحر أنوارك، ومعدن أسرارك، ولسان حجتك، وعروس مملكتك، وعين أعيان خلقك، وإمام الحضرة، وأمين المملكة، وكنز الحقيقة، طلسم الفلك الأطلس في بطون {كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف} طاوُس الملك المقدس في ظهور {فخلقت خلقاً فتعرفت إليهم فبي عرفوني} ...اللهم صل وسلم صلاة ذاتك على حضرة صفاتك الجامع لكل الكمال، المتصف بصفات الجلال والجمال، من تنزه عن المخلوقين في المثال، ينبوع المعارف الربانية، وحيطة الأسرار الإلهية، غاية منتهى السائلين...مظهر سر الجود الجزئي والكلي، وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، روح جسد الكونين، وعين حياة الدارَين...اللهم إنا نتوسل إليك بنوره الساري في الوجود أن تحيي قلوبنا بنور حياة قلبه الواسع لكل شيء...وتسري سرائره فينا بلوامع أنوارك حتى تغيبنا عنا في حق حقيقته فيكون هو الحي القيوم فينا بقيوميتك السرمدية، فنعيش بروحه عيش الحياة الأبدية...اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد جمال لطفك وحنان عطفك وجلال مُلكك وكمال قدسك، النور المطلق بسر المعية التي لا تتقيد، الباطن معنىً في غيبك، الظاهر حقاً في شهادتك، شمس الأسرار الربانية، ومجلس حضرة الحضرات الرحمانية...الذي خلقته من نور ذاتك، وحققته بأسمائك وصفاتك، وخلقت من نوره الأنبياء والمرسلين...اللهم صل وسلم على بهجة الكمال وتاج الجلال...وحياة كل موجود، عز جلال سلطنتك، وجلال عز مملكتك، ومليك صنع قدرتك...سر الله الأعظم...والظاهر في ملكك، والغائب في ملكوتك،(78/266)
والمتخلق بصفاتك...الحضرة الرحمانية، والبردة الجلالية(1)...
- هذه الصلاة الكبرى للشيخ عبد القادر الجيلاني شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي، ونقلها يوسف النبهاني من ذلك الشرح، وكلهم أقطاب مكاشفون عارفون يعلمون علم اليقين!
* ومن صلاة الأنس لأحمد الرفاعي أيضاً:
...اللهم صل على ألف أنس إنسان الأزل، بحكمة باء برهان من لم يزل أصل الأشياء الكلية...المتصدر في رحاب الأسرار في مركز دائرة القبول والألطاف، المنفرشة بسطها في حومة العز...أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه، خزانة الأسرار، فالوارد والذاهب عنه وعليه(2)...
- ومن شعر لشيخ الإسلام وغوث الزمان الحاج إبراهيم ابن الشيخ الحاج عبد الله الكولخي:
حرف الباء:
فما لي غير المصطفى البدر مأرب ……وفي جائزات الغير ما لي مرغب
هو الكل منه الكل بطناً وظاهراً ……فبحر سواه ما لنا فيه مشرب
فمن نوره الكونان، منه تفجرت ……علوم جميع الرسل والكل يشرب
هو الكامل المحمود والسؤلُ والمنى ……وأنت الحبيب المصطفى والمقرب(3)
* ومن الأوراد التجانية (الصلاة الغيبية في الحقيقة الأحمدية)، فإنها برزت من الغيب من غير إنشاء أحد، وهي:
اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية، بأنواع كمالاتك البهية، في حضرة ذاتك الأبدية، على عبدك القائم بك منك لك إليك، بأتم الصلوات الزكية، المصلي في محراب عين هاء الهوية، التالي السبع المثاني بصفاتك النفسية...الداعي بك لك بإذنك لكافة شئونك العلمية...المفيض على كافة من أوجدته بقيومة سرك، المدد الساري في كلية أجزاء موهبة فضلك، المتجلي عليه في محراب قدسك وأنسك، بكمال ألوهيتك في عوالمك وبرك وبحرك(4)...
ويقول عبيدة بن أنبوجة الشنقيطي:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:174، وما بعدها).
(2) قلادة الجواهر، (ص:263، 264).
(3) الدواوين الست، (ص:51).
(4) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:25).(78/267)
...نعم حقيقة مقصد هذه الطريقة العثور على معرفة بعض أسرار الحقيقة المحمدية من مراتب بطونها الأربع، ولا مطمع في خامستها كما تقدم، فالحقيقة المحمدية هي عين جميع المعارف الربانية، فلم تشذ شاذة منها، وصورتها البشرية هي باب تلك الحقيقة، فكما لا تؤخذ أحكام الله إلا من أفعال تلك الصورة البشرية وأقوالها...كذلك لا توجد المعارف إلا من تلك الحقيقة وأحوالها(1)..
* ومن الصلوات الأحمدية الإدريسية (الصلاة الخامسة): اللهم صل على الذات الكنه، قبلة وجوه تجليات الكنه، عين الكنه في الكنه، الجامع لحقائق كمال كنه الكنه(2)...
* ومنها (الصلاة السادسة):
اللهم صل على أم الكتاب، كمالات كنه الذات، عين الوجود المطلق الجامع لسائر التقييدات، صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات والجزئيات، كوثر سبيل منهل حوض مشارب جميع التجليات، الملتذ بصورة نفسه في جنة فردوس ذاته بنظره به منه إليه فيه، بحر قاموس الجمع المطمطم، وطراز رداء الكبرياء المطلسم، وراء الوراء، ودون الدون بلا دون(3)...
- قوله: (وراء الوراء)، إشارة إلى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)) [البروج:20]، ومحمد
وراء الوراء، أي (هومن وراء الله محيط)!!
ومما يقوله محمد بهاء الدين البيطار، في شرحه على الصلوات الأحمدية الإدريسية:
__________
(1) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:155).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:102، 103).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:106، وما بعدها).(78/268)
...وللقوم رضوان الله عليهم في الحقيقة المحمدية أقاويل كثيرة، من أحسنها قول العارف أفضل الدين، تلميذ سيدي علي الخواص رضي الله عنهما: الحقيقة المحمدية هي سر وجوب الوجود الذاتي، الممدة لحقائق الممكنات الأسمائية والصفاتية من عالم البطون إلى عالم الظهور، بالتدريج القابل لتفصيل المظاهر الكونية وتفصيل حقائقها الإنسانية(1).
* للعلم: الصلوات الأحمدية الإدريسية هي من أوراد الطريقة الرشيدية، والميرغنية، والختمية...وغيرها، مع العلم أيضاً أن أكثر أصحاب الطرق- إن لم يكن كلهم- يستعملون جميع الأوراد الموجودة في جميع الطرق، أو أكثرها، ومن الأدلة على ذلك: الأوراد الدرديرية، وكتاب: دلائل الخيرات.
ومما يقوله الوارث المحمدي الجامع الغوث محمد مهدي الصيادي الرواس:
وبويعت في الحضرة، على الإيمان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وبحياة جميع النبيين والمرسلين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الموت بالانتقال من هذه الدار إلى دار الآخرة، ورد الله عليه روحه، فهو في حضرة القرب عند مليكٍ مقتدر، يفعل بإذن الله في فلك الله ما يريد، وله التصرف المحض بأمر الله تعالى في ملك الله وملكوته، وهو شرارة الأزل والأبد...وعليه تعرض الأعمال وإليه تنتهي الأحوال(2)...
- الجواب: هو أولاً سؤال: هل الرؤى الشيطانية التي يشاهدها المتصوفة في حالة غيبوبة هلوسية(3) تنسخ آيات الله وقرآنه؟!
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:12) ومحمد بهاء الدين البيطار دمشقي توفي سنة (1314هـ)، وأفضل الدين هو أخو عبد الوهاب الشعراني.
(2) فصل الخطاب، (ص:142).
(3) أطلق أحد الأدباء الشباب على الجذبة الصوفية اسم (التحشيش الروحاني)، وهي تسمية صحيحة.(78/269)
- والجواب ثانياً هو من كتاب الله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128]، ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) [الجن:21].
- والجواب ثالثاً: هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم..}.
- والجواب رابعاً: إن ما يذكره الرواس من رؤياه الهذيانية منقول بدون تغيير من عقيدة النصارى بالمسيح عيسى صلوات الله عليه، وكل ما فعله الرواس هو تبديل الاسم بالاسم، ولنتذكر توجيهه للآية الذي مر معنا: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، وكيف جعلها تعني: الله هو (أي: محمد) قل إي وربي إنه الله!
ولعلهم لم يكتفوا بالحقيقة المحمدية، فأضافت بعض الطرق إليها الحقيقة العلوية، فمن أقوال جلال الدين الرومي (الطريقة المولوية):
منذ كانت صورة تركيب العالم: كان علي.
منذ نقشت الأرض وكان الزمان: كان علي.
ذلك الفاتح الذي انتزع باب خيبر بحملة واحدة: كان علي.
كلما تأملت في الآفاق ونظرت فيها أيقنت بأنه في الموجودات: كان علي.
إن سر العالمين الظاهر والباطن الذي بدا في شمس تبريز: كان علي(1).
- أما الطريقة البريلوية والطريقة البكتاشية فقد أحرزتا قصب السبق في تأليه علي بن أبي طالب، ومن أدعيتهما الرئيسية والأساسية، دعاء السيف: (ناد علياً مظهر العجائب، تجده عوناً لك في النوائب، كل هم وغم سينجلي بولايتك يا علي يا علي).
ومن جهة أخرى، أحرزت البكتاشية أيضاً قصبة السبق بإعلان التثليث، فصارت الأقانيم عندهم ثلاثة: صورة الله، محمد، علي.
والبكتاشيون يعترفون بخطاياهم أمام مشايخهم فيغفرونها لهم، ويحللون الخمر، ويعتقدون تناسخ الأرواح(2).
ويقول آية الله الخميني:
__________
(1) الصلة بين التصوف والتشيع، (ص:79).
(2) الفكر الشيعي والنزعة الصوفية، (فصل البكتاشية).(78/270)
...وبالمشيئة ظهر الوجود، وهي اسم الله الأعظم...وهي الحبل المتين بين سماء الإلهية والأراضي الخلقية، والعروة الوثقى المتدلية من سماء الواحدية، والمتحقق بمقامها الذي أفقه أفقها هو السبب المتصل بين السماء، وبه فتح الله وبه يختم، وهو الحقيقة المحمدية والعلوية صلوات الله عليه، وخليفة الله على أعيان المهيات، ومقام الواحدية المطلقة والإضافة الإشراقية(1)...
نختم هذه النبذ بالنصوص التالية:
يقول ابن قضيب البان(2) في كتابه المواقف الإلهية:
__________
(1) شرح دعاء السحر، (ص:110).
(2) عبد القادر محمد أبي الفيض السيد الأفضل أبو محمد، يتصل نسبه بقضيب البان الموصلي، ولد بحماة سنة (971هـ)، وتوفي في حلب في حدود سنة (1040هـ).(78/271)
موقف الحقيقة المحمدية: أوقفني الحق على مرتبة بيان الحقيقة المحمدية، وكشف لي عن حقائق الأسماء في مسمياتها العلوية، ثم قال لي: انظر إلى كل اسم من حيث صورته ومعناه! فرأيت الأسماء الإلهية قامت في الأعين الثابتة (أي: في المخلوقات)، وقال لي: هي أربابها. وقال لي رب الأرباب: الاسم الأعظم وسر الحقيقة المحمدية هو سر قلبك وقطب وجودك. ثم كشف لي عن جملة التجلي الأول ومظاهر التجليات ومجمع صور المربوبات...ثم كشف لي عن صور العقل الأول -وهذا من اليونانيات- فإذا هو شيء لا يكيف عند النظر، وكليات الوجود مندرجة تحت إشراقه، ورأيته قد قابل شيئاً مثله في الصورة، وقد اشتمل على الجزئيات، فقال لي: هو لوح القضاء، والدرة البيضاء. وقال لي: الحقيقة المحمدية هي الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي أم الكتاب، وحضرة العلم الجامع، وإنسان العين السامع، ومنها كشف لي عن أسرار النور والوجود والعلم، فقال لي: كل ذلك مظاهرها وكلمتها الجامعة وصحيفتها الكاملة...ثم كشف لي منها عن نار العشق الأزلي والاتحاد العيني، وأراني تعلقه في الهمم الإنسانية، وقال لي: هو إنشاء الإرادة، وبه توجه الحب، وقال لي: هو أصل كل موجود وعدته، ثم كشف لي عن ينبوع ذلك، فإذا هي المركز والنقطة التي في فؤاد القطب المحمدي...وكشف لي عن سر عرش الحقيقة المحمدية، وقال لي: هو القلب الذي هو بيت عزتي، ومخزن سري ومنبع نوري، ومظهر سعة علمي وسرير سلطة اسمي. وقالى لي: قالبه الهيكل الذي بنيته بيدي، وهو مجمع البحرين، وقاب قوسين، وكشف لي فيه عن خزائن الرحمة وتنزل الآيات، وكيفية حلولها من غير ممازجة، وسريانها في الأسماع والأبصار بسر التجريد في قوالبها، ورأيت حكم سريانها في مرآة الخيال، وقيامها في مظاهر النبوة(1).
ويقول مصطفى بن محيي الدين نجا(2)، في شرحه (على الممزوجة بصلاة ابن بشيش):
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:195، 196، 197).
(2) من تلاميذ علي اليشرطي.(78/272)
اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار.
(إنه) أي: المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(سرك) أمرك الخفي الذي لا يحيط به غيرك.
(الجامع لكل الأسرار) أي: لجميع حقائق الوجود بحقيقته التي هي مادة كل موجود،
(ونورك) أي وإنه مظهرك الأتم الذي نشأ من حضرتك بدون واسطة. (الواسع لجميع الأنوار) أي المملوء بأنوارك القدسية التي سرت بك منه إلى سائر المظاهر الكونية، أو الذي وسع صور الكائنات كلها لاندراجها في حقيقته، وانطوائها في عين ماهيته انطواء الأشعة في الضياء؛ والنور من أسمائه(1)...
(وأصير بها مجلاه) أي محلاً لظهور كمالاته العلية ومحاسنه السنية، فيكون من رآني كأنما رآه، لأن الكاملين هم مرايا للكمال المحمدي، وهو مرآة للكمال الإلهي، ولا يكون التكميل لكل كامل إلا من الحضرة المحمدية(2)...
...والحاصل أن الله تبارك وتعالى جعل الحقيقة المحمدية واسطة الإيجاد لمخلوقاته تفضلاً منه وإحساناً، فالأرواح التي لا تشاهد ذلك ولا تدرك أنه صلى الله عليه وسلم روحها وعين حياتها كأنها أموات(3)... (الله منه بدئ الأمر) أي الشأن الكلي الجامع لكل الشئون، وهو النور المحمدي الشريف، وهو أول صادر عنه سبحانه...ويسمى بالقلم الأعلى، وبالدوة البيضاء، وبالعقل الأول، وبروح الأرواح، وبالأب الأكبر، وبإنسان عين الوجود، وبالإنسان الكامل، وغير ذلك من الأسماء المشهورة عند العارفين(4).
- الرجاء أن يلاحظ القارئ في هذه النصوص: الكذب على الله ورسوله، والشرك الأعظم، واليونانيات (العقل الأول).
والذي يريد استقصاء أقوالهم في الحقيقة المحمدية يستطيع أن يملأ منها مجلدات.
إذن، فالمتصوفة كلهم، من دون استثناء، يؤمنون بالحقيقة المحمدية، وقد وهم الذي خصوا بذلك جماعة منهم دون آخرين. لأن الصوفية مذهب واحد.
__________
(1) كشف الأسرار، (ص:102، 103).
(2) كشف الأسرار، (ص:112).
(3) كشف الأسرار، (ص:126).
(4) كشف الأسرار، (ص:139).(78/273)
* وملخص أقوالهم هو: إن الله (سبحانه وتعالى عما يصفون) عندما أراد أن يجعل قسماً من ذاته متعيناً بشكل مخلوقات، كان أول شيء فعله هو أنه قبض قبضة من نور وجهه وقال لها: كوني محمداً، فكان محمد هو أول التعينات. وهذه القبضة من النور هي التي يطلقون عليها اسم (الذات المحمدية). ومن هذه الذات المحمدية انبثقت السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، التي يسمونها فيما يسمونها (تعينات) فهي كلها تصدر عن الذات المحمدية ثم تعود إليها. وهذا هو ما يسمونه (الحقيقة المحمدية).
وأكرر، إنهم كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، وإن أنكر أحدهم ذلك فهو مخادع يستعمل التقية.
ولننتبه إلى الشبه التام بينهم وبين الهنادكة الذين يقولون: إن الخلائق صدروا من وجه براهمان، ومن يديه ومن فخذيه، ثم من قدميه (حسب الطبقات الهندوكية).
وأعيد فأكرر، إنهم كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، كلهم بدون استثناء، وما مضى براهين.
وبعض الباحثين الذين خصوا بذلك جماعة منهم دون آخرين كانوا واهمين.
وكثيراً ما يعبرون عنها بعبارة (أسبقية النور المحمدي).
والمولد المكذوب على ابن الجوزي والذي كانت قدسيته متزاملة مع دلائل الخيرات، إن لم تتقدمها في كثير من الأحيان، والذي كان يؤمن بما فيه كل المسلمين، إلا من رحم ربك، هذا المولد المكذوب فيه تفصيل للحقيقة المحمدية يستطيع الرجوع إليه كل من يريد ذلك، فهو متداول وصغير الحجم ومحشو بالشرك بالله والكذب على رسوله، وكذلك مولد البرزنجي.
الفصل الخامس
غاية التصوف
الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.
عبد القادر الجيلاني
في النصوص السابقة، أكثر بكثير من الكفاية، ولكننا أمام مخادعات ومراوغات لا تعرف حدوداً، ولا تعرف منطقاً، ولا تستحيي، وأمام مسلمين غافلين عن واقعهم خدعوا بالكلمات المنمقة.(78/274)
لذلك، وسداً للذرائع، ومنعاً للمراوغات والمخادعات، وإسكاتاً لمقولتهم: لعل ولعل ولعل..، نقدم براهين أخرى من أقوالهم، على أن غاية التصوف هي استشعار وحدة الوجود، وأنه لا غاية للتصوف غير هذه الغاية (وسنحاول الاختصار كثيراً):
- والشائع بين أهل الشريعة أن غاية التصوف هي الزهد والتوكل والصبر...إلخ.
وقد سَرَت هذه الأغلوطة في الغافلين من أهل الشريعة (أهل الأوراق)، مما يردده عليهم أهل الحقيقة (أهل الأذواق).
لكن لو رجعنا إلى عباراتهم المخصصة لأبناء طائفتهم، وللمريدين الذين قطعوا الشوط المطلوب في السلوك، لرأينا -وبوضوح- أن غاية التصوف هي التحقق بالألوهية، وهو ما يسمونه المعرفة، ولا غاية غيرها.
يقول عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور (لجنة نشر الأصول الصوفية):
طرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من غيرها، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة!(1).
- فما هي هذه الغاية؟
يقول أبو الحسن الشاذلي:
كنتُ يوماً جالساً بين يديه (أي: بين يدي ابن مشيش)، وفي حجره ابن له صغير يلاعبه، فخطر ببالي أن أسأله عن اسم الله الأعظم، قال: فقام إلي الولد ورمى بيده في طَوْقي، وهزني وقال:
يا أبا الحسن، أنت أردت أن تسأل الشيخ عن اسم الله الأعظم، ليس الشأن أن تسأل عن اسم الله الأعظم! إنما الشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم!؟!
...قال: فتبسم الشيخ وقال لي: جاوبك فلان عني..(2).
- إذن فالشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم!!
- ورغم وضوح العبارة، فلا بأس من أن نزيدها وضوحاً.
- اسم الله الأعظم عند القوم هو (الله).
يقول ابن عطاء الله السكندري:
إن هذا الاسم...أعني (الله) عز ذكره هو اسم الذات العلية...وهو أعظم الأسماء(3).
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:13).
(2) أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود، (ص:25).
(3) القصد المجرد، (ص:13).(78/275)
ويقول: ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ)) [الأنعام:91] وهو الاسم الأعظم(1).
والآن لنبدل العبارة (اسم الله الأعظم) بالاسم نفسه (الله)، فتكون الجملة: (إنما الشأن أن تكون أنت هو الله).
- هذا حكم واضح المدلول، يقرره، حسب المرجع الذي أخذ منه، أربعة أقطاب:
عبد السلام بن مشيش، وأبو الحسن الشاذلي، وابن الصباغ (مؤلف درة الأسرار) وعبد الحليم محمود.
ويقول الغزالي:
...ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم: العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد، أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون وألقوها إليهم، فأما العلم الحقيقي، الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب(2)؟!
ويقول: ...وفرقةٌ أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق، وتطهير النفس من عيوبها، وصاروا يتعمقون فيها، فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خُدَعها علماً وحرفة، فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس، واستنباط دقيق الكلام في آفاتها...
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة، وابتدءوا سلوك الطريق، وانفتح لهم أبواب المعرفة، فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها، وأعجبتهم غرابتها، فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها، والتفكر فيها، وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم، وكل ذلك غرور، لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية، فلو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها قَصُرتْ خطاه وحُرِم الوصول إلى المقصد...
__________
(1) القصد المجرد، (ص:29).
(2) الإحياء: (1/255)، وفي هذا النص إنكار صريح للعقيدة الإسلامية (العقائد التي استمر عليها أكثر الناس لمجرد التقليد..)، وهي جملة تصفع وجوه الذين يسمون الغزالي (حجة الإسلام)، ويدرسون (إحياء علوم الدين).(78/276)
وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء، ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق، ولا إلى ما يتيسر لهم من العطايا الجزيلة، ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها، جادين في السير، حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القُربة من الله، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله، فوقفوا، وغلطوا...سر القلب الذى تتجلى فيه حقيقة الحق كله...وتنجلي فيه صورة الكل، وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه...فإذا تجلى نوره، وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه، ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة، فيقول: (أنا الحق)(1).
- الرجاء من القارئ أن ينتبه إلى الجملة الأخيرة.
ويقول الغزالي أيضاً:
...فغاية المعاملة المكاشفة، وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى، ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً، ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مرواغات الخصوم كما هو غاية المتكلم، بل ذلك نوع يقين، هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث...فكن حريصاً على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين(2).
- علينا مع هذا النص، أن نتساءل: ماذا يعني بقوله: ...الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفاً؟ (أترك تحليلها للقارئ). والجملة: (.. السر الخارج عن بضاعة الفقهاء) تسهل التحليل وتوضحه، كما يجب أن ننتبه جيداً إلى قوله:.. عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث التي تعني بوضوح أن تطهير الباطن عند الغزالي يكون بالمجاهدة، أي: بالرياضة الصوفية، لا بالعبادة! فنسأل: ما هو الكفر؟ لننتبه أن كلمة (العامي) تعني عندهم: عالم الشريعة.
__________
(1) الإحياء: (3/349، 350).
(2) الإحياء: (1/46).(78/277)
ويقول: ...فالقسم الأول علم المكاشفة، وهو علم الباطن، وذلك غاية العلوم...فهو عبارة عن نور يظهر في القلب...وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات(1)...
ويقول أبو عثمان الهجويري(2).
فاعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية، وقد أكد هذه الحقيقة كل الشيوخ وإن اختلفت عباراتهم في ذلك. وكان محمد بن علي الحكيم هو أول من طبق هذا الاصطلاح. وقد ألف الشيوخ كتباً في هذا الموضوع ولكنها نادرة...فمِن هذا نرى أن الله تعالى اختار له أولياء اختصهم بصحبته، واختارهم حُكاماً لمملكته، ومنحهم أنواع الكرامات...وجمع أفكارهم فيه ومعرفتهم به، كانوا فيما مضى، وهم الآن كذلك، وإلى ما شاء الله إلى يوم القيامة(3)...
- هذا النص، يبين لنا غاية التصوف، وبين إلى جانبها حقيقةً تاريخيةً هي: أن محمد بن علي الترمذي الحكيم هو أول من أطلق صفة الولاية على الصوفية، وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن، والفرق بينهما كالفرق بين خداع الشيطان وهدى الرحمن.
ويقول أبو حيان التوحيدي:
...لأن غاية المجهود ان يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويقصى عن المعهود، ليجد من يغنيه عن هذا كله بعطاء ممدود، ورفد مرفود، وركن موطود، وحد غير محدود(4). ويقول أبو مدين الغوث:
من أقرب رحلة تكون للمريد إلى حضرة الحق الخاصة، دوام الذكر، فقد أجمعوا على أن من دامت أذكاره صفت أسراره، ومن صفت أسراره كان في حضرة الله قراره(5)...
ويقول أيضاً:
__________
(1) الإحياء: (1/18).
(2) أبو عثمان الجلالي الهجويري الفارسي، من شيوخ الطريقة الحكيمية، مات عام (465 أو (469هـ)).
(3) كتاب الرياضة وأدب النفس، (ص:22).
(4) الإشارات الإلهية، رسالة (يا)، (ص:115).
(5) الأنوار القدسية (1/144)، (في قواعد الصوفية).(78/278)
ليس للقلوب إلا وجهة واحدة، متى توجه إليها حجب عن غيرها، فإن توجه للدنيا حجب عن الآخرة، وإن توجّه للآخرة حجب عن الدنيا، وإن توجه إلى حضرة الله حجب عن الدارين(1).
- إذن، فالآخرة ليست غايتهم!
ويقول الشطيبي(2) (ومعه ابن عجيبة):
...ومن الناس من تحجبه المجاهدة عن المشاهدة، فتسطو عليه الأحوال، فتحول بينه وبين الغاية القصوى(3).
- إذن، فالغاية القصوى هي المشاهدة. ونعرف الآن ما معنى (المشاهدة) عندهم. ويقول، ومعه ابن عجيبة أيضاً:
...إن الإنسان إذا جال مع النفس في ميدانها، فجاهدها حتى هذبها وطهرها من الأوصاف الحاجبة لها، رجعت نفسه حينئذ إلى أصلها، وهي الحضرة التي كانت فيها، إذ لم تكن بينها وبين الحضرة إلا الحجب الظلمانية، فلما تخلصت منها، رجعت إلى أصلها(4)....
ويقول عبد الله اليافعي:
إن الحقيقة هي مشاهدة أسرار الربوبية، ولها طريقة هي عزائم الشريعة، فمن سلك الطريقة وصل إلى الحقيقة(5)...
- أقول: في كلام الشيخ هنا مغالطة جريئة، فهو يجعل الطريقة (الخلوة والجوع والسهر والذكر والشيخ) يجعلها عزائم الشريعة، فنسأله: متى؟ وفي أي موضع عزمت الشريعة هذه العزائم؟ ويُنْسَب لعبد القادر الجيلاني (أتباع الطريقة القادرية يؤمنون أنها له):
قطعتُ جميعَ الحجب لله صاعداً ……فما زلت أرقى سائراً في المحبة
تجلى لي الساقي وقال إلي قم ……فهذا شراب الوصل في حان حضرتي
وشاهدتُ معنى لو بدا كشف سره ……بصم الجبال الراسيات لدكت(6)
- ما زال يسير حتى وصل إلى الغاية التي بينها، وطبعاً هذا هو عقيدة كل أهل الطريقة القادرية.
ويقول عمر بن الفارض في نظم السلوك:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ……ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلى أن يقول:
__________
(1) الأنوار القدسية: (1/142).
(2) لم أقف على ترجمته.
(3) إيقاظ الهمم، (ص:348).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:349).
(5) نشر المحاسن الغالية، (ص:77).
(6) فتوح الغيب، (ص:236).(78/279)
فغاية مجذوبي إليها ومنتهى ……مرادي ما أسلفته قبل توبتي
أي إن غاية مجذوبه هو ما سلف من قوله: فما زلت إياها وإياي لم تزل.
وكان الشيخ داوُد بن باخلا يقول:
احذر أيها المريد أن يكون قصدك مِن ذكرك وعبادتك الأجر والثواب، فإن ذلك حاصل لا محالة، وإنما ينبغي أن تكون همتك في التلذذ بمناجاته..(1).
وكان يقول:
المريد أولاً يسمع، وثانياً يفهم، وثالثاً يعلم، ورابعاً يشهد، وخامساً يعرف(2).
ويقول ابن خلدون في المقدمة، فصل (علم التصوف):
...ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة...ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك الشيء منها.
- ويقول ابن البنا السرقسطي في (المباحث الأصلية):
وإنما القوم مسافرون ……لحضرة الحق وظاعنون
فعندما مالت إلى الزوال ……أدخل في خلوة الاعتزال
وقيل قل على الدوام (الله) ……واحذر كطرف العين أن تنساه
حتى إذا جاء بطور القلب ……خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقال لو عرفتني بكوني ……قيل، إذن، فاخلع نعال الكون
ثم فني عن رؤية العوالم ……ولم ير في الكون غير العالِم
ثم انتهى لفلك الحقيقة ……فقيل هذا غاية الطريقة
ثم امتحى في غيبة الشهود ……فأطلق القول: (أنا معبودي)
حتى إذا رد عليه منه ……أثبت فرقاً حيث لم يكنه
ويقول عبد الوهاب الشعراني:
...ومعلوم أن مقصود القوم القرب من حضرة الله الخاصة، ومجالسته فيها من غير حجاب. وأما الثواب فحُكمه حُكم علف الدواب، قال تعالى: {أنا جليس من ذكرني}...والمراد بالمجالسة انكشاف الحجب للعبد(3)...
- لننتبه إلى قوله: وأما الثواب فحكمه حكم علف الدواب!! ولنسأل: ما هو سبب فساد الأمة؟
ويقول ابن عجيبة:
__________
(1) الأنوار القدسية (1/129)، (في قواعد الصوفية).
(2) الأنوار القدسية: (1/130).
(3) الأنوار القدسية (1/34).(78/280)
...والأعمال عند أهل الفن ثلاثة أقسام: عمل الشريعة، وعمل الطريقة، وعمل الحقيقة...أو تقول: عمل أهل البداية، وعمل أهل الوسط، وعمل أهل النهاية. فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده، والحقيقة أن تشهده...فإذا تطهر من أوصاف البشرية تجلى بأوصاف الربوبية(1)...
ويقول أيضاً:
...وأما موضوعه (أي: التصوف) فهو الذات العلية، لأنه يبحث عنها باعتبار معرفتها، إما بالبرهان، وإما بالشهود والعيان(2).
وبقول ابن عربي:
سَجَدَ الملائكة الكرام لديهم ……دون اعتقاد وجود رب ثان
للذات كان مسيرهم فحباهم ……بشهودها عيناً بلا أكوان
وصلوا إليه وعاينوا ما عاينوا ……من غيب سر السركالإعلان(3)
ويقول علي نور الدين اليشرطي:
يصل الفقير إلى مقامٍ يقول فيه للشيء كن فيكون...والبعض عند الخاطر(4).
- أي: يحصل الشيء عندما يمر بخاطر الفقير فقط، دون أن يتعب لسانه يقول: (كن). وطبعاً يحصل له هذا بالكشف لا بالواقع.
ويقول: ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيب العبد عن وجوده حساً ومعنى(5).
- أقول: كل من رأينا، ومن قرأنا له، ممن انطوت فيهم العبدية بالربية وظهرت عليهم صفات الرب، كلهم إما بلهاء، أو تنقصهم المقدرة على التفكير السليم، فهل هذه هي صفات الرب؟!
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:10).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:5).
(3) كتاب الإسرا، فصل (مناجاة قاب قوسين)، (ص:22).
(4) نفحات الحق، (ص:99).
(5) نفحات الحق، (ص:110).(78/281)
...إن الوجود وحدة ظاهِرها الكائنات المتعددة، وباطنها الحقائق المتوحدة المقومة للكل...ولذا نرى أن أخص خصائص الكون، النزوع للترقي: فباطنه ينزع طالباً للظهور، وظواهره تتحول طلباً للاستبطان والخفاء. فالكائنات كلها تمثل على التحقيق دائرة واحدة، مركزها فعال في محيطها، ومحيطها آيل إلى مركزها. تلك الحقيقة العليا هي غرض الدين، وأمنية الفلسفة، وموضع دهشة العلم، وهي نفسها غاية الإنسان الكامل من الوجود، وهي هي بالذات موضوع بحث التصوف الحق(1).
- نسأل هذا العارف: ما هو دليله من الكتاب والسنة على أن وحدة الوجود هي غرض الدين؟؟ ولنتذكر أن مركزها الفعال في محيطها هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ومر معنا قول حسن رضوان:
وحسبه من ذلك المقصود ……إشراق نور وحدة الوجود
ويقول أحمد الصاوي (المالكي الخلوتي):
...وأما الحقيقة فهي ثمرة الطريقة، من فهم حقائق الأشياء، كشهود الأسماء والصفات وشهود الذات(2)...
ومن الأوراد الخلوتية التي مرت في فصل سابق:
وجُد لي بجمع الجمع فضلاً ومنةً ……وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
ومن علينا يا ودود بجذبة ……بها نلحق الأقوام من كان قبلنا
ويقول محمد بن سليمان البغدادي النقشبندي:
...تحقق بالتجربة والعيان لدى أساطين العلم والكشف والشهود والعرفان، من أن الطريقة النقشبندية أقرب وأسهل على المريد للوصول إلى درجات التوحيد، لأن مبناها على التصرف وآلقاء الجذبة المقدمة على السلوك(3)...
- هذه هي غاية التصوف، إنها التحقق بالذات والصفات، إنها وحدة الوجود، التي تشرق بالغيبة عن الحس الطبيعي (الجذبة).
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:116).
(2) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:69).
(3) الحديقة الندية، (ص:12). وكلمة آلقاء لم أجدها فيما بين يدي من معاجم، ولعلها تصحيف من أَلَقات، بمعنى لمعات.(78/282)
ولو أردنا استقصاء أقوال القوم في غاية التصوف وهدفه، الذي هو الوصول ومعرفة وحدة الوجود، لاحتجنا إلى مئات الصفحات، وقد نحتاج إلى ألوفها. ولكن في هذا القدر كفاية، بالإضافة لما نراه في فصلي (المدخل إلى فهم النصوص الصوفية)، و(وحدة الوجود)، بل وفي شتى فصول الكتاب.
وهذا يعني، أننا عندما نسمع أحد الأولياء الأوفياء، الأتقياء الأنقياء، الصادقين الصديقين، المقربين العالِمين، العارفين المحققين، الأغواث الأقطاب، الأشراف الأسياد، الأشياخ الصالحين، الخاشعين المتعبدين، الذاكرين المتضرعين، المحبين المحبوبين، المطمئنين الموقنين، الواصلين الموصولين، المكاشفين المشاهدين، الطاهرين المطهرين، المحظيين الموحدين، المؤمنين المستنيرين، الراضين المرضيين، الزاهدين المتوكلين، العاشقين المعتصمين، المتقين الدالين على الله، الداعين إليه، الذين يمسون في حضرة الحق ويصبحون، المتحكمين في الكون، القائلين للشيء: كن فيكون، المتحققين بأسماء الله الحسنى حتى الاسم الأعظم (الله)، ذوي الأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة...إلى آخر هذه الأوصاف التي يصفون بها أنفسهم والتي تجاوزت كل حدود رسمتها الشرائع، حتى الوثنية، وتجاوزت كل حدود الذوق والمنطق والعقل والحياء والخجل والأخلاق والضمير، بل وتجاوزت حدود الهزء بالإنسان وعقله وقلبه ونفسه وسره وسمعه وبصره، بل وتجاوزت حدود السخرية بوجود الإنسان ووجود الدين الإسلامي، والوحي الذي نزل بالدين الإسلامي.
أقول: عندما نسمع أحد هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات يقول: إن غاية التصوف هي الزهد والعبادة والاستقامة...فيجب أن نعلم أنه يستعمل التقية، وما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية، ثم ما أدراك ما التقية؟!
ولنتذكر حكمة الغزالي:
إذا كان قد صح الخلاف فواجب ……على كل ذي عقل لزوم التقية(78/283)
وقبل الانتقال إلى الفصل التالي أنبه إلى أن هذه الأوصاف التي أوردتها هي جزء مما يصفون به أنفسهم، وكلها من كتبهم وأقوالهم وأشعارهم وحكمهم.
وجواباً عليها نذكرهم ونذكر من يغتر بهم وبأقوالهم بقوله سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50]، وقوله: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].
والآن، أرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل بيت ورد سابقاً مأخوذاً عن مجدد الألف الثاني، وهو:
إن كنت لم تقطعْ بـ(لا) عنق السوى ……في قصر (إلا الله) لست بواصل(1)
ولتسهيل التحليل: (لا) و(إلا الله) مأخوذتان من (لا إله إلا الله) و(قصر) من قصر يقصر.
وفي هذا البيت ثلاث فوائد:
1- أسلوب من أساليب العبارة الصوفية الملغزة المشيرة إلى وحدة الوجود.
2- كيف يفسرون (لا إله إلا الله).
3- من هو الواصل في اصطلاحاتهم، وبالتالي ما هي غاية التصوف.
وأخيراً.. وحدة الوجود هي الصوفية، وهي الصوفية الحقة، وهي غاية التصوف، ولا غاية للتصوف غيرها، وواهم من ظن أو يظن خلاف ذلك، واهم واهم.
يقول عبد القادر الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد(2).
وهذا كلام واضح صريح أن الزهد والورع ليسا من الغاية في شيء، وأن المعرفة هي الغاية ولا غاية غيرها! فما هي المعرفة؟! ومن هو العارف؟!
الفصل السادس
العارف
كلنا نسمع بالعارف بالله فلان، ونقرأ في الكتب عن العارف بالله علان، كما نرى مكتوباً على أبواب بيوت الأوثان المنتشرة في بلاد المسلمين طولاً وعرضاً: هذا مقام العارف بالله....
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:17).
(2) فتوح الغيب، (ص:171).(78/284)
وليس لهذه العبارة (العارف بالله) مدلول واضح في أذهان كثيرين! وإنما تبعث في النفوس صوراً شاحبة لنوع ما من التزكية على الله تزكية عريضة وغامضة مبهمة، هذا هو الشعور الذي تبعثه هذه العبارة في الأكثرية من الناس، الذين يعطونها تفاسير انطباعية غير موضوعية، تتناسب مع هوى المفسر ونفسيته ومستواه العلمي.
فما هو معنى هذا المصطلح؟ وماذا يريدون به وله وفيه ومنه وعليه وإليه وعنه؟
الجواب، بكل بساطة، العارف بالله هو من عرف أن الله هو الكون!! وأن كل ما نرى ونسمع ونحس، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهم وهن ونحن وأنتم وأنتن - ونسيت أن أذكر (أنتما) - وبما في ذلك الحيوانات والحشرات والنباتات والجمادات، والأرض والشمس والقمر والنجوم والكواكب...كل هؤلاء هم أجزاء من الله! مع العلم أن بعض القوم لا يجيزون أن يقال: (أجزاء من الله) لأن الله كل لا يتجزأ، إنه وحدة غير قابلة للتعدد ولا للتجزؤ، ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [المؤمنون:91]، فالعارف، وبكل بساطة، هو من توصل إلى معرفة وحدة الوجود بالذوق والمشاهدة. قال الجنيد: المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا، قال: هو العارف وهو المعروف(1).
وسئل الجنيد أيضاً عن العارف، فقال: لون الماء لون الإناء(2).
وسئل الحسين بن علي بن يزدانيار: متى يكون العارف بمشهد الحق؟
قال: إذا بدا الشاهد وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الإحساس(3). معنى: بدا الشاهد: يعني شاهد الحق. وفناء الشواهد: بسقوط رؤية الخلق عنك. وذهاب الحواس: هو معنى قوله: {فبي ينطق وبي يبصر}(4).
وسئل ذو النون عن نهاية العارف فقال: إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون(5).
وسئل الشبلي: متى يكون العارف بمشهد من الحق؟
__________
(1) التعرف، (ص:66).
(2) التعرف، (ص:138).
(3) التعرف، (ص:136).
(4) من شرح الكلاباذي في التعرف، (ص:136).
(5) التعرف، (ص:137).(78/285)
قال: إذا بدا الشاهد، وفنيت الشواهد، وذهبت الحواس، واضمحل الإحساس بالسوى، ولم يبق إلا شعور الذات بالذات(1).
ويقول الشبلي كذلك: المعرفة أولها الله وآخرها ما لا نهاية له(2).
وسئل أبو يزيد البسطامي عن صفة العارف؟ فقال: إن لون الماء من لون إنائه(3).
- يلاحظ أن قول ابن يزدانيار هو نفس قول الشبلي إلا قليلاً، وقول الشبلي أكمل منه وأوضح. كما أن قول البسطامي هو نفس قول الجنيد؛ ولا غرو! فمن البدهي أن يأخذوا عن بعضهم الأقوال والأفعال. وأظن أن معاني أقوالهم صارت الآن مفهومة تماماً للقارئ.
ويقول الغزالي:
...فمن عرف الحق رآه فى كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق..(4). ثم يلوك الغزالي بعد هذا الكلام كلاماً يقصد به التمويه على غير أهل الحقيقة.
ويقول: ...العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذوقاً وحالاً، وانتفتْ منهم الكثرةْ بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم! فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله(5). ويقول: ...من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى(6)...ويقول: ...قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم، ولا رجاؤنا للحور العين، وإنما مطالبنا اللقاء، ومهربنا من الحجاب فقط(7)...
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).
(2) طبقات الشعراني: (1/104).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:113).
(4) الإحياء: (1/254).
(5) مشكاة الأنوار، (ص:122).
(6) مشكاة الأنوار، (ص:55).
(7) الإحياء (4/22).(78/286)
- بتأمل النص الأخير، نلاحظ أن الغزالي يريد أن يقول: ...ولا رجاؤنا للجنة؛ لكنها كانت ستكون شديدة الوقع على سمع المسلم وعلى عقيدته، (فشلبنها) لتكون أخف وقعاً وقال: ولا رجاؤنا للحور العين، والمعنى واحد طبعاً.
ويقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
...فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء(1)...
..والعارف المكمَّل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو فلك(2).
...فمن رأى الحق فيه بعينه (أي: بعين الحق) فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل(3)....(أرجو التمعن جيداً).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...فلما صح تعرفه صح تصرفه، وهذا أعز في الأحوال من الكبريت الأحمر(4)...
ويقول عبد الكريم القشيري:
...وعند هؤلاء القوم، المعرفة صفة مَن عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته...
ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله...وانقطع عن هواجس نفسه، ولم يُصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبياً، ومن آفات نفسه برياً...وصار محدثاً من قبل الحق سبحانه، بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك: عارفاً، وتسمى حالته: معرفة(5).
ومما أورده اليافعي للقشيري:
__________
(1) الفصوص، (فص حكمة إمامية في كلمة هارونية)، (ص:192).
(2) نفسه ونفس الفص، (ص:195).
(3) الفصوص، (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:113).
(4) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/150).
(5) الرسالة القشيرية، (ص:141).(78/287)
...لا يُسمى العبد في هذه الطريقة عارفاً حتى يحصل بينه وبين الله تعالى أحوال زائدة على العلم، من فنون الكشوفات وصنوف التعريفات.. والعارف يبدو في قلبه في ابتداء التعريف لوائح، ثم لوامع، ثم كشوفات وبصائر وطوالع(1)...
- أقول: القشيري هنا حذر يستعمل الرمز، لكن عن مدى غير بعيد.
ويورد القشيري أيضاً في الرسالة:
قال ذو النون المصري: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى! يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله عز وجل(2)...
ومما يورده:
...قال الحسين بن منصور (أي: الحلاج): إذا بلغ العبد إلى مقام المعرفة، أوحى الله تعالى إليه بخواطره وحرس سره أن يسنح فيه غير خاطر الحق(3).
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
...والمعرفة رؤية لا علم، وعين لا خبر، ومشاهدة لا وصف، وكشف لا حجاب، ما هُمْ هُمْ، ولا هُمْ بإياهم، كما قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) [الزخرف:59]. {فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً}(4)....
- يظهر من القراءة الساذجة لهذا النص أن فيه تنافراً بين جمله! لكن هذا يزول إذا تذكرنا أنهم يعنون بعبارة: (أنعمنا عليه)، أي: بالولاية والقرب. وعبارة: (كنت له سمعاً وبصراً)، أي: جعلته يستشعر ويتحقق أنه أنا. وأن (هو) من الأسماء الحسنى.
ويقول أيضاً:
إن ما سوى الله تعالى عند أهل المعرفة، لا يوصف بوجود ولا فقد، إذ لا يوجد معه غيره، لثبوت أحديته، ولا فقد لغيره؛ لأنه لا يفقد إلا ما وجد، ولو انهتك حجاب الوهم، لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان(5)....
ويقول لسان الدين بن الخطيب:
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:69).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:142).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:142).
(4) القصد المجرد، (ص:86).
(5) كشف الأسرار لتنوير الأفكار، (ص:139).(78/288)
ومحصول السعادة عندهم أن ينكشف الغطاء، وتظهر للعارف إنِّيَّة الحق، وأنه عين إنية كل شيء، ويعقل إنية ذاته وما هي عليه، ومن عرف نفسه عرف ربه(1)...
- كلمة (إنية) منحوتة من قول القائل: إني إني..
ويقول ابن خلدون:
...ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة، التي هي الغاية المطلوبة للسعادة(2).
وقال داوُد الكبير بن ماخلا (أو باخلا):
...ما لاح كوكبُ كونٍ إلا عند غيبة شمسِ المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار، وغابت نجوم الأغيار(3)...
...أولاً: تسمع، ثانياً: تفهم، ثالثاً: تعلم، رابعاً: تشهد، خامساً: تعرف..(4).
ويقول ابن عجيبة:
...وأما العارفون فقد ظفروا بنفوسهم ووصلوا إلى شهود معبودهم، فهم يستأنسون بكل شيء، لمعرفتهم في كل شيء، يأخذون النصيب من كل شيء، ويفهمون عن الله في كل شيء، فإذا مُدِحوا انبسطوا بالله، لشهودهم المدح من الله وإلى الله، ولا شيء في الكون سواه(5).
...فإذا تطهر من الأغيار ملئ بالمعارف والأسرار، فالمعارف هي العلوم، والأسرار هي الأذواق، فمَنْ رآها وذاقها يقال له: عارف، ومن لم يصل لهذا المقام وكان من أهل الدليل يقال له: عالم(6)...
...وحقيقة العارف هو الذي فني عن نفسه وبقي بربه، وكَمُل غناه في قلبه؛ لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جمعه، يعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه(7)...
ويقول عبد العزيز الدباغ(8) (قطب الواصلين):
__________
(1) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:611).
(2) مقدمة ابن خلدون، (علم التصوف).
(3) طبقات الشعراني: (1/191).
(4) طبقات الشعراني: (1/194).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:215).
(6) الفتوحات الإلهية، (ص:412).
(7) الفتوحات الإلهية، (ص:413).
(8) الشيخ عبد العزيز بن مسعود بن أحمد الدباغ، مغربي من فاس، ولد سنة (1095هـ)، وتوفي سنة (1132هـ).(78/289)
...إن الله تعالى لا يحب عبداً حتى يعرفه به، وبالمعرفة يطَّلع على أسراره تعالى، فيقع له الجذب إلى الله تعالى(1).
ويقول مصطفى العروسي:
...العارف: هو مَن أشهده الله تعالى ذاته وصفاته وأفعاله، إذ المعرفة حالة تحدث عن شهود، والعالم من أطلعه الله على ذلك لا عن شهود، بل عن يقين مستند إلى دليل وبرهان، والعلماء بهذا المعنى هم العامة في اصطلاح الصوفية(2)...
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
وحاصل المعرفة: أن الله هو النبع السامي لكل شيء، وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله(3).
- يقول: وليس شيء من الأشياء جميعها هو الله؛ لأن الله في عقيدتهم هو جميع الأشياء لا شيء واحد منها فقط. وهو يستعمل هنا لفظ الجلالة (الله) بمعناه الكلي. بينما ذاك الذي قال: (أنا الله) استعمل لفظ الجلالة (الله) من باب إطلاق اسم الكل على الجزء. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وسبحان الله عما يصفون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولو أراد باحث أن يجمع أقوالهم في العارف ومعنى المعرفة لاحتاج إلى مئات الصفحات. وفي القدر الذي مر كفاية لسد الطرق أمام مراوغاتهم، التي تخلو من الحياء والمنطق والعقل السليم، بل وتخلو من الخوف من الله!
وزيادة في التوضيح، نذكر نصاً لابن عطاء الله في حِكَمه (بل نقمه) مع شرح عليه لابن عجيبة، يقول ابن عطاء الله:
...إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منته، فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته، وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة:
غافلٌ منهمك في غفلته، قويت دائرة حسه، وانطمست حضرة قدسه، فنظر الإحسان من المخلوقين، ولم يشهده من رب العالمين، أما اعتقاداً فشرك جلي، وأما استناداً فشرك خفي.
__________
(1) الإبريز، (ص:217).
(2) حاشية العروسي: (1/8).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:115).(78/290)
وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق، وفني عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فهذا عبد مواجه بالحقيقة، ظاهر عليه سناها، سالك للطريقة، قد استولى على مداها، غير أنه غريق الأنوار، مطموس الآثار، قد غلب سكره على صحوه، وجمعه على فرقه، وفناؤه على بقائه، وغيبته على حضوره.
وأكمل منه عبد شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً، فلا جمعه يحجبه عن فرقه، ولا فرقه يحجبه عن جمعه، ولا فناؤه يصده عن بقائه، ولا بقاؤه يصده عن فنائه، يُعطي كل ذي قسط قسطه، ويوفي كل ذي حق حقه(1).
ومن شرح ابن عجيبة لهذه الحِكَم الضلالية:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:385، وما بعدها)، والكتاب شروح وتعليقات لابن عجيبة على الحكم العطائية.(78/291)
...عينُ القلب هي البصيرة، ومن شأنها أن لا ترى إلا المعاني دون المحسوسات، كما أن البصر لا يرى إلا المحسوسات دون المعاني، والحُكْمُ للغالب منهما، فمن غلب بصره على بصيرته لا يرى إلا الحس، وهو الغافل؛ ومن غلبت بصيرته على بصره لا يرى إلا المعاني، وهي معاني التوحيد وأسرار التفريد؛ فالبصيرة لا ترى إلا نور الحق دون ظلمة الخلق، لكن لا بد من إثبات الحكمة، وقد تقدم قوله: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فلا بد من إثباتها قياماً بالحكمة ونفيها قياماً بالوحدة...(وأن الناس في ذلك على أقسام ثلاثة)، إما واقف مع الحس ناظر للأسباب، أو غائب عن الحس وعن رؤية الأسباب، أو جامع بينهما؛ أو تقول: إما عامة أو خاصة أو خاصة الخاصة...الحقيقة هي شهود نور الحق في مظاهر الخلق، أو شهود نور الربوبية في قوالب العبودية، فصاحب الحقيقة هو الذي يغيب عن الخلق بشهود نور الملك الحق، ويفنى عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فإن كان مع مراعاة الحكمة فهو كامل، وإن كان من غير مراعاة الحكمة، فإن كان غائباً مصطلماً، فهو معذور...(ظاهر عليه سناها)، أي: نورها، فلما دهته الأنوار سكر وأنكر الحكمة؛ فهو باعتبار ما قبله، كامل لاستغراقه في بحر الوحدة، وهو معذور في نفيه الحكمة لغلبة وجده وظهور سكره، وباعتبار ما بعده ناقص لقصور نفعه على نفسه(1)...
- بين هنا حالة الفناء، بأنها تعتبر كمالاً بالنسبة لما قبلها الذي هو حالة الفرق، أي: التفريق بين الخالق والمخلوق، وهي نقص بالنسبة لما بعدها، وهو الحال الذي يسمونه: الفرق الثاني: أي الاعتقاد بالوحدة وبالحكمة، والحكمة عندهم هي وجود التعينات التي يجب أن نسميها (خلقاً) أو (عبودية) مراعاة للحكمة!
- وواضح أن هذا الكلام هو اتهام لله سبحانه وشريعته بالكذب والمتاقاة.
ويقول ابن عجيبة متمماً كلامه:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:385- 387).(78/292)
...فمن الناس من يكون صدره ضيقاً فلا يحتمل تلك الأنوار، ولا يطيق مشاهدة تلك الأسرار، فيغيب في شهود الوحدة، وينكر الحكمة، ومن الناس من يكون واسع الصدر قوي النور، فإذا أشرقت عليه أنوار الحقيقة لم تغلبه عن القيام بالحكمة، وصار برزخاً بين حقيقة وشريعة، هكذا يكون سيره بين فناء وبقاء، حتى يتمكن فيهما ويعتدل أمره بينهما، وهذه حالة الأقوياء...(1).
- إذن فالكامل هو بين فناء (أي: في الوحدة)، وبين بقاء (أي: يحس بالحكمة)، وهي أن في الوجود تعينات يجب أن يقول: إنها خلق، ويجب أن يرى نفسه ويراها عباداً لله، لتتم الحكمة. فهو غارق في الوحدة ومتظاهر بالفرق. وهذا هو العارف.
- حتى يقول:
...الجمع رؤية الحق بلا خلق، والفرق رؤية الخلق بلا حق، فإن كان بعد الجمع فهو رؤية الخلق والحق، والحاصل أن أهل الجمع لا يشهدون إلا الحق، وأهل الفرق لا يشهدون إلا الخلق، ويستدلون على الحق، وأهل الفرق في الجمع يشهدون الخلق والحق، أعني يشهدون الواسطة والموسوط من غير فرق بينهما(2)...
- في هذا النص شرح لمصطلحات (الجمع، والفرق، والفرق في الجمع).
فـ(الجمع) هو رؤية الحق بلا خلق، وأهله هم الذين يقولون: (أنا الله، وسبحاني...).
و(الفرق) هو رؤية الخلق بلا حق، أي: أنهم ليسوا هم الحق، وهؤلاء هم المحجوبون.
وأهل الفرق في الجمع هم الذين يعرفون أنهم هم الله، وأن الكون هو الله، وأن الواسطة هي نفس الموسوط لا فرق بينهما، ولكنهم مع ذلك يعترفون بالعبودية، ويقولون: إنهم خلق وعبيد، وهؤلاء هم العارفون.
ومثله قول سعيد حوى:
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:388).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:388).(78/293)
نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق(1).
- هذا قول واضح في تعريف الصوفي الكامل، الذي يسمونه: العارف، ويسمونه أسماء كثيرة، منها: الولي، والصديق، والمقرب...وغيرها وغيرها مما مر معنا، ومما لم يمر، وعلى رأسها (الإنسان الكامل) أي: الواصل إلى مقام الفرق الثاني.
ويجب أن نلاحظ الاستدراك الذي يستدركه على توضيحه للحقيقة، التي عبَّر عنها بقوله: يحس أحدية الذات، يستشعر اسم الله الصمد، يستشعر فناء كل شيء، ثم استدرك ليلتزم بالقاعدة التي يتواصون بها، فقال: ولكن...يجب أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق، هذا الاستدراك صريح (بشيء من التأمل) في أن تلك الحالات التي يحس بها أحدية الذات الإلهية ينعدم فيها فكرة الخالق والمخلوق، فالكل واحد، وهذا ما يعبرون عنه بأحدية الذات، واستشعار اسم الله الصمد، وفناء كل شيء وقد مرت كل هذه التعابير؛ كما أن هذا الاستدراك ما هو إلا التزام بالقاعدة القائلة: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، مع تطوير لها.
إذ معنى قوله هنا هو: إن وحدة الوجود هي واقع الوجود، وإن الواصل يحس بها ويذوقها ويستشعرها وبالتالي سيعتقد بها، لكن يجب عليه أن يعتقد بالنقيضين معاً! يجب عليه أن يعتقد أن الخالق هو المخلوق، وأن يعتقد معها أن الخالق غير المخلوق! انظر إليه يقول:.. ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه.
الشعور بماذا؟ بأحدية الذات الإلهية، باستشعار الصمدانية، باستشعار فناء كل شيء، أي: باستشعار وحدة الوجود.
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:79). والكتاب هو اقتباسات وتفريعات وزيادات على كتابي ابن عجيبة: (إيقاظ الهمم، والفتوحات الإلهية).(78/294)
وبدهي أن الإنسان إذا استشعر شيئاً وذاقه وأحس به فسيعتقد به اعتقاداً جازماً.
ومع ذلك، فالشيخ يطلب من السالك أن يعتقد مع هذا الاعتقاد (أن يرافقه) نقيضه، أي أن يعتقد النقيضين معاً! وهذا منطق جديد وتطوير جريء للعقيدة الصوفية وعبارتها.
* النتيجة:
من كل ما تقدم، ومما يمكن أن يملأ مئات الصفحات مما لم يتقدم، يظهر بوضوح تام أن معنى المعرفة عند القوم: هو معرفة وحدة الوجود، وأن العارف عندهم: هو الذي يعرف أن الكون هو الله ذوقاً واستشعاراً، أي يذوق الألوهية ويستشعرها ويحس بها ويتحقق بها.
* خلاصة كل ما تقدم:
- الصوفية مذهب واحد فقط، فقط، فقط.
- هذا المذهب هو سر يجب كتمانه، وهم يقولون بقتل من يبوح به لغير أهله.
- هذا السر هو (وحدة الوجود)، أي: أن الله هو الكون، والخالق هو عين ما نتوهم أنه المخلوق.
- لهم أسلوب خاص للتعبير عن هذا السر بين بعضهم، بحيث لا يفهمه إلا من كان منهم، ويسمون هذا الأسلوب: (العبارة)، وهي تشمل الإشارة والرمز واللغز، أي إنهم يعبرون في كلامهم عن وحدة الوجود بالإشارة والرمز واللغز، من أجل التعمية على غيرهم. وكلما كانت العبارة أكثر إيغالاً في الإشارة والرمز واللغز، كلما كانوا أكثر تقديساً لها وأكثر إعجاباً بصاحبها، ونجد قمة العبارة عند شهاب الدين السهروردي البغدادي، ثم عند أستاذه عبد القادر الجيلاني والجنيد وأفراد غيرهم.
- كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكنهم يكتمونها، حسب القاعدة، ويتظاهرون أنهم يؤمنون بالمخلوقية والعبودية، ويسمون ذلك: (الفرق الثاني) أو (الفرق في الجمع) أو (صحو الجمع) أو (الصحو بعد المحو)...كما يطلقون على وحدة الوجود اسماً آخر هو: (وحدة الشهود)، وكثيراً ما يستعملون الاسم الثاني: (وحدة الشهود) للمغالطة، ويتقيدون بالشريعة من أجل ستر حقيقتهم، ويعتقدون أن الله سبحانه هو الذي يريد هذه المخادعة التي يسمونها: (الحكمة).(78/295)
- كلهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية، التي تعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلِّي الأعظم للذات الإلهية، وأن كل التعينات (أي: الأشياء) تصدر عنه ثم تعود إليه، يقول شاعرهم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ……ومن علومك علم اللوح والقلم
- للتصوف غاية واحدة فقط، ولا يوجد في التصوف أية غاية أخرى غيرها على الإطلاق، وهذه الغاية هي الوصول إلى الجذبة التي يذوقون بها وحدة الوجود، أي يذوقون الألوهية.
وحسبه من ذلك المقصود ……إشراق نور وحدة الوجود
وما يقولونه: من أن الغاية هي الزهد والتوكل والورع وأخواتهن، ما هو إلا أسلوب دعائي لا أكثر ولا أقل، يخادعون به الله والذين آمنوا. ولنتذكر قول الجيلاني: الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.
- والعارف: هو من وصل إلى معرفة وحدة الوجود، يذوق الألوهية واستشعارها والتحقق بها ومشاهدتها، لا بالدليل والبرهان.
وحجة الكلام كلام حجة الإسلام، الإمام الهمام، بل أكثر من خمسين ألف ألف إمام، بدر التمام، أبي حامد، بل أبي المحامد الغزالي، يقول:
...حتى إن مشايخ الصوفية صرحوا ولم يتحاشوا، وقالوا: من يعبد الله لطلب الجنة أو للحذر من النار فهو لئيم، وإنما مطلب القاصدين إلى الله أمر أشرف من هذا، ومن رأى مشايخهم وبحث عن معتقداتهم وتصفح كتب المصنفين منهم، فهم هذا الاعتقاد من مجاري أحوالهم على القطع...(1).
هذه هي الصوفية، ومئات الصفحات السابقة هي براهين من أقوالهم على ذلك، وكل من يقول خلاف ذلك، إن كان منهم فهو مراوغ مخادع، وإن كان من غيرهم فهو جاهل بالصوفية، جاهل بالصوفية.
ونسأل الذين يزكون بعض المتصوفة مثل الجنيد وغيره، نسألهم: هل كان الجنيد صوفياً أم لا؟ إن كان صوفياً فهذه هي الصوفية ولا شيء غيرها، وإن تجرأ متجرئ ونفى عنه الصوفية! نقول له: إن كل الذين كتبوا عن الجنيد كتبوا عنه على أنه صوفي. ويتوصلون إلى هذه الغاية بالطريقة.
__________
(1) ميزان العمل، (ص:16).(78/296)
فما هي الطريقة؟
لا وصول للحقيقة إلا بعد سلوك الطريقة (ابن عجيبة)
الباب الثاني
الطريقة
* تمهيد:
طريقتان:
لا يوجد في الصوفية إلا طريقتان هما:
1- طريقة الإشراق:
هي الطريقة الوحيدة الأزلية التي استعملها المتصوفة في كل الأمم.
فما إليه أبداً نشير ……هو علاج النفس والتطهير
وهذه طريقة الإشراق ……كانت وتبقى ما الوجود باقي(1)
بالرغم من أن معنى العبارتين (علاج النفس والتطهير) يجب أن يكون الآن، وبعد مئات الأمثلة، واضحاً تماماً، ومع ذلك فلا بأس من شرحهما.
علاج النفس: سياسة النفس، ومعاملتها، بإخضاعها مرحلة بعد مرحلة، إلى ما يوصلها إلى الجذبة.
تطهير النفس: هو تطهيرها مما يسمونه: (الصفات المذمومة)، وقد مرت عليها أمثلة كثيرة، وهي كل ما يعيق السالك عن الوصول إلى الجذبة وتذوق الوحدة.
2- طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، أو التصوف السني:
وفرقة قالت بأن العِلْما ……من خارجٍ بالاكتساب أسمى
وشرطوا العلوم في اصطلاحه ……إذ لا غنى للباب عن مفتاحه
فليس للطامع فيه مطمع ……ما لم تكن فيه علومٌ أربع
وهي علوم الذات والصفات ……والفقه والحديث والحالات
وهذه طريقة البرهان ……وهي لكل حازم يقظان(2)
أي إن طريقة البرهان هي نفس الطريقة الإشراقية التي يعبر عنها هنا بـ(الباب)، أي الباب الذي يمر به السالك كي يصل الجذبة، يضاف إليها العلوم الإسلامية، مع الملحوظةأنه يعبر عن الجذبة ورؤاها بكلمة (الحالات).
ولا بأس من زيادة في التوضيح.
طريقة الإشراق:
__________
(1) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.
(2) من قصيدة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي.(78/297)
هي الطريقة القديمة المستمرة (كانت وتبقى ما الوجود باقي)، وُجدت مع وجود الصوفية في أعماق التاريخ، وهي الطريقة الوحيدة في الحقيقة، ولا طريقة غيرها. يقول عنها الدكتور عبد الحليم محمود: ...فإن الصوفية جميعاً وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورس وأفلاطون، (بل هي أقدم منهما بكثير)، إلى يومنا هذا يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً، ويثقون فيه ثقة تامة، ذلك هو المنهج القلبي أو المنهج الروحي، أو منهج البصيرة، وهو منهج معروف أقرته الأديان جميعها واصطفته مذاهب الحكمة القديم منها والحديث(1) اهـ.
وأسلويها الأممي التاريخي القديم الحديث، هو أن يميت السالك إحساساته وأعصابه بإرهاقها إرهاقاً شديداً جداً، حتى يصل إلى ما يشبه العته- وأقول (ما يشبه العته)، لأنه عته اصطناعي غير ناتج عن مرض طبيعي، وإلا فله كل مظاهر العته، وذلك بأن يخضع نفسه للرياضة، وهي، كما يقول الغزالي: الخلوة والصمت والجوع والسهر(2): وقد يضاف إليها شيء من التعذيب الجسدي. كما كان يفعل الشبلي وغيره، مع العلم أن متصوفة المسلمين جعلوا الذكر بدل الصمت، لأنه أسرع في الوصول إلى الجذبة، حتى إذا وصل فقد يأمرونه بالصمت. أما الجوع الذي يطبقونه فقد يمتد إلى عشرات الأيام، وفي سبيل السهر ومقاومة النوم يستعملون أية وسيلة يمكن أن تساعدهم على ذلك: كضرب السالك جسمه أو حرقه، أو الجلوس على الشوك، أو الوقوف على رجل واحدة مع التعلق بوتد اجتناباً للسقوط، أو تعليق القدمين في الأعلى والرأس مدلى إلى أسفل...أو أخذ وضع من أوضاع (اليوغا)، أو أخذ مادة طاردة للنوم كالشاي والقهوة المركَّزين تركيزاً عالياً، أو غيرهما من المواد الكيماوية.
__________
(1) أبو العباس المرسي، (ص:10).
(2) الإحياء: (3/65).(78/298)
يداوم السالك على هذه الحال، واضعاً أمامه غاية واحدة، حتى يصل إليها، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا الله)، وهذا لا يمنعه أن يحصل معه أمر آخر غير الغاية المرجوة التي هي الجذبة ورؤاها.
قد يكون مفيداً إيراد بعض شرح لابن عجيبة:
...فعند ذلك (بعد رياضاتٍ ذكرها) يُدْخِله (الشيخ) إلى الخلوة، أي يأمره بها، ويحضه على ذكر الاسم المفرد (الله) حتى لا يفتر عنه ساعة...وهذا التدريج ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة (أي: دون الرياضة التي ذكرها قبل هذا الكلام) إذا رأى الفقير أهلاً له، ويأمره بقتل نفسه مع ذكر ربه، بحيث يجعل له وقتاً يذكر فيه ربه، ووقتاً يقتل فيه نفسه، وهذا الذي أدركنا عليه أشياخنا: يأمر الفقير بالخلوة في أول النهار إلى وقت العصر، ثم يخرج إلى السوق ويعمل من الأحوال ما تموت به نفسه، فيكمل فناؤه في الاسم مع موت نفسه، فيقرُب فتحُه.
ومن المريدين مَن لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة، والفتح من الله من غير توقفٍ على الأسباب، إلا أن الحكمة جارية مع القدرة. والله تعالى أعلم(1). انتهى.
- ولعل القارئ يعرف الآن أن (الفتح) هو الجذبة ورؤاها.
- وعادة قد يسبق الجذبة أو يرافقها أمور خارقة للعادة، كأن يرى أشخاصاً أو أشكالاً مختلفة، أو يسمع أصواتاً...وقد يحدث مع بعضهم أن يسير على الماء أو يطير في الهواء...وهو موجود في كل الأمم، وفي الكافرة قبل المسلمة، ودور الشياطين واضح فيها.
- والمشاهد الجذبية مع خرق العادة هي التي تجعلهم يتشبثون بالتصوف، ذلك التشبث الذي لا يقبل النقاش، حتى يصل بهم الأمر إلى تأويل آيات القرآن الكريم
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:338).(78/299)
ووضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتأويل الصحيح منها: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)) [النساء:46]، لتتفق مع رؤاهم الإشراقية التي يسمونها: كشفاً وعلوماً لدنية، وقد يسمونها: (حكمة الإشراق)(1).
أما طريقة البرهان:
فهي طريقة الإشراق نفسها مزجوها بالإسلام، وفلسفها حجتهم الغزالي بذكاء ودهاء. فصار عالمهم يتعلم، إلى جانب الإشراق، العلوم الإسلامية، وذلك بقصد التستر، واعتقاداً منهم أن الله سبحانه يريد ذلك.
وهم في علم التوحيد (علوم الذات والصفات) ينقسمون ظاهراً إلى قسمين: أشعرية وماتريدية. أما باطناً فالتوحيد عندهم هو وحدة الوجود، وقد رأينا مئات الأمثلة على ذلك في الفصول السابقة.
أما الحديث فلهم فيه أسلويهم الخاص!
فقد نرى بعضهم- مع الندرة- يحفظ ركاماً من الأحاديث، وقد يحفظها بأسانيدها، وقد يكون حافظاً لعدة كتب من كتب الحديث، ولكنه لا يستطيع أن يفقه الحديث ولا أن يميز بين صحيحه وضعيفه وموضوعه! وذلك لسببين:
1- أنه لا يحفظ الحديث من أجل العلم والعمل به ولمعرفة الحق من الباطل، إنما يحفظه ليتستر به، وليكون مقبولاً عند الناس، ويستطيع أن ينتزع منه ما يخال أنه يؤيد به مذهبه، وليزاود على منتقديه من أهل الظاهر، وقد مر بعض أقوالهم في ذلك، وطبعاً فيهم شاذون يحفظونه للعلم.
2- رأينا أن كشفهم هو الذي يصحح لهم الحديث أو يضعفه! وقد يكون الحديث صحيحاً فيضعفه الكشف فيصبح عندهم ضعيفاً! وقد يكون الحديث موضوعاً مكذوباً فيصححه الكشف فيصبح عندهم صحيحاً؛ لأن الكشف عندهم هو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
__________
(1) هناك كتاب ليحيى بن حبش السهروردي اسمه (حكمة الإشراق).(78/300)
- وفي الإشارة إلى الطريقة البرهانية بالرمز واللغز، يستعمل الصوفية عبارات كثيرة لا تخفى على المتمرس بلغتهم، منها على سبيل المثال: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة) أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية) أو (التصوف السلفي) أو (إن كانت عين القلب تنظر أن الله واحد في منَّتِهِ فالشريعة تقتضي أن لا بد من شكر خليقته) وغيرها...
* خلاصة القول:
لا يوجد في التصوف إلا طريقة واحدة هي طريقة الإشراق، سواء عند متصوفة المسلمين أو عند غيرهم، ولكن متصوفة المسلمين مزجوا الطريقة الإشراقية بالإسلام، وسموا ذلك: (التصوف السني)، أو الطريقة البرهانية، أو الغزالية، وبذلك استطاعوا أن يخدعوا المسلمين ويجروهم إلى التصوف.
أما ما نرى ونسمع من أسماء كثيرة لطرق كثيرة، فسببه الشيوخ، ولا شيء غير الشيوخ إلا جشع الشيوخ، و(المدد) الذي يقدمه المريدون والمحبون و(المؤمنون). وليُظهر الشيخ أن طريقته تختلف عن بقية الطرق، يخترع أوراداً تختلف بألفاظها فقط عن بقية الأوراد، ولذلك قالوا: (الطريقة بأورادها). وقد رأينا كيف أن أورادهم محشوة بما يناقض الإسلام جملة وتفصيلاً، وكلها تحمل معاني واحدة أو متشابهة.
وقد ظهر في المجتمعات الإسلامية عشرات الطرق الصوفية، اندثر بعضها، وتفرع بعضها إلى طرق كثيرة، وسنرى بعد قليل كشفاً لما أمكن الوقوف عليه منها.
الفصل الأول
الشيخ
ما حرمة الشيخ إلاحرمة الله، فقم بها أدباً لله بالله.
ابن عربي
* لا طريقة بدون شيخ:
الشيخ عند المتصوفة هو إله، يعطونه كل صفات الألوهية، وهو الأساس في كل طريقة. وما تفرقت الطرق إلا اتباعاً لشيخ، وتسمى كلها باسم مشايخها ومؤسسيها، ومع الزمن تتفرع الطريقة الواحدة إلى طرق كثيرة تحمل أسماء مشايخها الجدد.
ولنزك أئمتهم يتكلمون...
يقول أبو حامد الغزالي:(78/301)
...فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة...فمعتَصَمُ المريد، بعد تقديم الشروط المذكورة، شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوّض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يُبقي في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه- لو أخطأ- أكثرمن نفعه في صواب نفسه لو أصاب، فإذا وجد مثل هذا المعتَصَم، وجب على معتَصَمِه (أي: شيخه) أن يحميه ويعصمه بحصن حصين(1)....
ويقول القشيري:
...ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً. هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس، فإنها تورق لكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفساً فنفساً فهو عابد هواه، ولا يجد نفاذاً(2)...ويقول محيي الدين بن عربي في أول الباب الواحد والثمانين والمائة من الفتوحات المكية:
ما حُرمة الشيخ إلاحرمة الله ……فقم بها أدباً لله بالله
هم الأدلاَّء والقربى تؤيدهم ……على الدلالة تأييداً على الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم ……لا يسألون من الله سوى الله
فإن بدا منهم حال تولههم ……عن الشريعة فاتركهم مع الله(3)
- لا أظن أن القارئ الذي بدأ الكتاب من أوله بحاجة إلى شرح لهذه الأبيات الضلالية، وتبيان ما فيها مما ينقض الشريعة الإسلامية جملةً وتفصيلاً.
وكان عبد القادر الجيلاني يقول:
من لم يعتقد في شيخه الكمال لا يفلح أبداً(4).
ويقول عبد الوهاب الشعراني (القطب الرباني والغوث الصمداني):
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/65).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:181).
(3) الفتوحات المكية، (الباب: 181) في أوله.
(4) الأنوار القدسية: (1/174).(78/302)
...فإن لم يتيسر للمريد صلاة الجمعة عند أستاذه، فليتخيله عنده في أي مسجد صلى فيه(1)...
ويقول علي وفا: ...فكما أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، فكذلك محبة الأشياخ لا تسامح أن يشرك بها(2)...
وكان أيضاً يقول:
إذا صدق المريد مع شيخه وناداه من مسيرة ألف عام، أجابه حياً كان الشيخ أو ميتاً(3)...
وكان أيضاً يقول:
المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، لا كلام ولا حركة، ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج، ولا يخالط أحداً، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه(4)...
ويقول عدي بن مسافر:
لا تنتفع بشيخك إلا إذا كان اعتقادك فيه فوق كل الاعتقاد(5).
- أرجو أن يفتش القارئ الكريم عن حدود قوله: (فوق كل الاعتقاد).
وللعلم: عدي بن مسافر هذا هو تلميذ عبد القادر الجيلاني، وهو شيخ الطريقة العدوية المعروفة الآن باليزيدية (عباد الشيطان)، طبعاً، بعد أن خضعت لشيء من التطور.
ويقول أبو يزيد البسطامي:
إذا أمر الأستاذُ التلميذَ أمراً من أمور الدنيا وبعثه في إصلاحه، فيقيم مؤذن في بعض طرقاته على مسجد من المساجد؛ فيقول: أدخل أولاً المسجد وأصلي ثم أكون وراء ما بعثني إليه، فقد وقع في بئر لا يتبين أسفلها، يعني ليس لها مقر(6).
ويقول إبراهيم الدسوقي (أحد الأقطاب الأربعة المدّركين):
...وكذلك ينبغي له (أي: للمريد) أن يحذر من تأويل كلام شيخه عن ظاهره إذا أمره بأمر، بل يبادر إلى فعل ذلك من غير تأويل(7)...
ويقول يوسف العجمي:
مِنْ أدب المريد أن يقف عند كلام شيخه ولا يتأوله، وليفعل ما أمره به شيخه وإن ظهر أن شيخه أخطأ(8)...
ويقول علي اليشرطي:
__________
(1) الأنوار القدسية (1/188).
(2) الأنوار القدسية: (1/187).
(3) الأنوار القدسية: (1/189).
(4) الأنوار القدسية: (1/189).
(5) الحقيقة التاريخية، (ص:343).
(6) شطحات الصوفية، (ص:182).
(7) الأنوار القدسية: (2/97).
(8) الأنوار القدسية: (2/36).(78/303)
إياكم أن تؤولوا كلامي، فإن كلامي صريح لا يؤول، فاسمعوا ما أقول لكم(1).
- كلام الله وحديث رسوله يؤولان ليتفقا مع كشفهم!- كما يقول حجة الإسلام وكما يفعلون كلهم مما مر معنا ومما لم يمر- أما قول الشيوخ المتصوفة فلا يجوز تأويله؟!!
فيا ناس، ويا خلق، ويا عباد الله، ويا أسوياء، ويا مجانين، ويا من عنده ذرة من عقل أو ذرة من ضمير أو ذرة من حياء، أفتونا في هذا البلاء؟ أين المخرج؟ وكيف السبيل؟
ولئن عرضت عليهم هذه الأقوال، فستجد الجواب المعهود: هذا مدسوس، أو: هؤلاء منحرفون، ليس كل الصوفية هكذا...إلخ.
ويقول علي المرصفي (الذي قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة!!):
...وإن قال (قائلٌ) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه...وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه، إنه في حال تهمة، لارتداده عن طريق شيخه(2)...
- إذن فالدليل لا قيمة له!! وما هو الدليل؟ إنه القرآن والسنة بلا ريب، ومع ذلك فعلى المريد الرجوع إلى كلام الشيخ؟! ولتُنْسخ الآية الكريمة.
وهذا يفسر لنا الحالة التي وصل إليها المسلمون من الجهل والانحطاط والذل.
وعودة إلى يوسف العجمي، الذي يقول:
...ومن شأنه (أي: المريد) إذا ذكر الله تعالى، أو فَعَل عبادة من العبادات، أن يستحضر نظر شيخه إليه، ليتأدب ويضم شتات قلبه(3)...
ويقول أحمد الرفاعي (الذي تسري كراماته في أتباعه من بعده!!):
...مَن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان...وينبغي للمريد أن يعرف لشيخه الحق بعد وفاته كما كان يعرف له الحق في حالة حياته...وقال: من يذكر الله تعالى بلا شيخ، لا الله له حصل! ولا نبيه! ولا شيخه(4)!
__________
(1) نفحات الحق، فصل (إرشاد وهداية).
(2) طبقات الشعراني: (2/128).
(3) الأنوار القدسية (2/98).
(4) قلادة الجواهر، (ص:177).(78/304)
- يا مسلمون! بل يا مؤمنون! (لأن ليس كل مسلم مؤمناً)، إن لم يكن هذا هو الشرك فما هو الشرك؟! أفيدونا يرحمكم الله.
ويقول العارف بالله سراج الدين الرفاعي الصيادي، ويشاركه أبو الهدى الصيادي:
...ومِن آداب المريد اللازمة: أولاً: حفظ قلب شيخه، ومراعاته في الغيبة والحضور...والتواضع له ولذريته وأقاربه، وثبوت القدم على خدمته، وأوامره كلِّيَّها وجزئيِّها، وربط القلب به، واستحضار شخصه في قلبه في جميع المهمات، واستمداد همته، والفناء فيه، وأن يكون ملازماً له لا يفتر عنه طرفة عين، ولا يُنْكِر عليه ما ظهر منه من صفة عيب، فلربما يَظْهر من الشيخ ما لا يَعْلمه المريد...كما وقع لبعضهم أنه دخل على شيخه فرأى عنده امرأة جميلة يلاعبها ويعانقها ويجامعها؟! فخرج منكراً على شيخه، فأُخذ منه حالاً جميعُ ما استفاده من شيخه، ومع ذلك إن المرأة امرأة الشيخ وزوجته(1).
- يا للأولياء النجباء الأتقياء الأنقياء...دستور من خاطرهم دستور! يلاعب زوجته ويجامعها أمام مريده!!
لكن ماذا عليه؟ فالمقربون لا يُسألون عما يفعلون؟ هكذا قرروا ويقررون! ولا تعترض فتنطرد، وسلِّم تَسْلَم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول أبو مدين الغوث:
وراقب الشيخ في أحواله فعسى ……يَرى عليك من استحسانه أثرا
ففي رضاه رضا الباري وطاعته ……يرضى عليك فكن مِنْ تركها حذرا(2)
وعودة إلى الشعراني حيث يقول:
سمعت أخي أفضل الدين رحمه الله يقول: حقيقة حبِّ الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها مِنْ أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل(3).
ويقول أيضاً:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:278).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:230).
(3) الأنوار القدسية (1/169).(78/305)
من أدب المريد إذا زار شيخاً في قبره أن لا يعتقد أنه ميت لا يسمعه، بل الأدب أن يعتقد حياته البرزخية لينال بركته، فإن العبد إذا زار ولياً وذكر الله عند قبره، فلا بد أن ذلك الولي يجلس في قبره، ويذكر الله معه كما شهدنا ذلك مراراً(1).
ويقول أيضاً:
...وأجمعوا على أن من شرط الحب لشيخه، أن يصم أذنيه عن سماع كلام أحد في الطريق غير شيخه، فلا يقبل عذل عاذل، حتى لو قام أهل مصر كلهم في صعيد واحد لم يقدروا على أن ينفروه من شيخه، ولو غاب عنه الطعام والشراب أياماً لاستغنى عنها بالنظر إلى شيخه لتخيله في باله، وبلغنا عن بعضهم أنه لما دخل هذا المقام سَمِن وعبل مِنْ نظره إلى أستاذه(2).
ويقول محمد العربي السائح التجاني(3):
...من فضائل هذه الطريق (أي: التيجانية)، أن من دخلها وأسلم قياده إلى صاحبها بطريق المحبة الخاصة وكمال التصديق، كان من الآمنين عند الله تعالى في الدنيا والآخرة(4)...
ويقول ابن عجيبة:
للقوم في لقاء المشايخ آداب، منها: أنهم إذا قربوا المنزل رفعوا أصواتهم بالهيللة والذكر، فلا يزالون كذلك حتى يصلوا إلى الزاوية...ومنها تقبيل يد الشيخ ثم رجله، إن جرت بذلك عادة الفقراء، فهو من أحسن التعظيم...ومنها جلوسهم بين يديه على نعت السكينة والوقار، خافضين أصواتهم، ناكسين رءوسهم، غاضين أبصارهم، فلا يكلمونه حتى يبدأهم بالكلام(5)...
...فإن تعذر عليه (أي: على المريد) الوصول إلى الشيخ، وقد عرض له مرض أو أمر، فليشخص شيخه بين عينيه بصفته وهيأته ويشكو له، فإنه يبرأ بإذن الله، وإن كان مع جماعة واستحيا فليشتك إليه في قلبه(6)...(ما هو الشرك؟).
ويقول علي اليشرطي:
__________
(1) الأنوار القدسية (1/161).
(2) الأنوار القدسية (1/168).
(3) أحد خلفاء أحمد التجاني، مات سنة (1309هـ).
(4) بغية المستفيد، (ص:84).
(5) الفتوحات الإلهية: (ص:308، 309).
(6) الفتوحات الإلهية، (ص:339).(78/306)
الطريق في ذِكْر الله ومحبة الشيخ(1).
ويقول: الطريق طريقنا، والنور نورنا، وإن شئنا نمده للفقير، وإن شئنا نطويه عنه(2)...
ويقول محمد أمين الكردي:
...ومنها أن لا يعترض عليه (أي: على شيخه) فيما فعله، ولو كان ظاهره حراماً، ولا يقول: لم فعل كذا؟ لأن من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبداً. فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن(3)...
ويقول عبد المجيد محمد الخاني النقشبندي:
اعلم أيها الأخ المؤمن أن الرابطة عبارة عن ربط القلب بالشيخ الكامل...وحفظ صورته بالخيال، ولو عند غيبته أو بعد وفاته، ولها صور، أهونها أن يتصور المريد صورة شيخه الكامل بين عينيه، ثم يتوجه إلى روحانيته في تلك الصورة، ولا يزال متوجهاً إليها بكليته حتى يحصل له الغيبة أو أثر الجذب...وهكذا يداوم على الرابطة حتى يفنى عن ذاته وصفاته في صورة الشيخ...فتربيه روحانية الشيخ بعد ذلك إلى أن توصله إلى الله تعالى، ولو كان أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، فبالرابطة يستفيض الأحياء من الأموات المتصرفين(4)...
ويقول القشيري في الرسالة في (باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):
سمعتُ الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: إن شقيقاً البلخي وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد (البسطامي) فقُدِّمت السفرة، وشاب يخدم أبا يزيد، فقالا له: كل معنا يا فتى، فقال: أنا صائم، قال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله تعالى؟ فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده(5)...انتهى.
__________
(1) نفحات الحق، (ص:95).
(2) نفحات الحق، (ص:97).
(3) تنوير القلوب، (ص:528).
(4) السعادة الأبدية، (ص:22، 23).
(5) الرسالة القشيرية، (ص:151).(78/307)
- عجيب والله كل العجب، يؤلهون أنفسهم! يُعطون أجر صوم شهر! وأجر صوم سنة! فماذا بقي من الشرك والكفر؟ ورجل يطيع أوامر الله وأوامر رسوله يصوم تطوعاً لله، ويرفض أن يؤله غير الله أو يأخذ تشريعاً إلا منه. هذا الرجل يصبح ساقطاً من عين الله في حكم هؤلاء القوم! لم وفيم يسقط من عين الله؟ لأنه رفض أن يتخذ إلهاً غير الله! ثم ماذا؟ الصوم أصبح جريمة في نظرهم! فهل يستطيع هؤلاء القوم أن يقولوا لنا ما هو الكفر؟! وما هو الشرك؟! وما هو الإلحاد؟! وما هي الزندقة؟!
لكن يجب أن لا ننسى أبداً أن الاعتراض ممنوع، والذي لا يحفظ قلوب هؤلاء المشايخ العارفين الأبرار، الأطهار الأخيار، الصادقين الصديقين، المقربين الواصلين، المحظيين العارفين، العالمين المدّركين، المتصرفين الأولياء، الأتقياء الأنقياء الأصفياء، المحبين المحبوبين، الغارقين (في جهنم وبئس المصير) الذي لا يحفظ قلوبهم يسقط من عين الله، وتُقطع يده على السرقة؟!
ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب انهيارالمسلمين؟ ما هو سبب فساد الأمة الإسلامية؟ ما هو سبب ذل المسلمين؟ ما هو سبب انحطاط الأمة الإسلامية؟ يتساءلون؟ والجواب ماثل أمام الناظرين الذين ينظرون بنور القرآن والسنة، لا بأعين الصوفية، لأنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ويورد القشيري إياه، في نفس الباب (حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم):
...ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور (الحلاج) يكتب شيئاً، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن! فدعا عليه وهجره، قال الشيوخ: إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه(1).
* جوابنا:-
أولاً: الدنيا دار بلاء لا دار جزاء.
ثانياً: استهتاره بالقرآن ومحاولة معارضته لم تكن سبب بلائه، وإنما كان سبب بلائه دعاء الشيخ عليه!!
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:151).(78/308)
وللعلم: الرسالة القشيرية تدرس في مساجد المسلمين، وينصح القوم بقراءتها هي وكتاب إحياء علوم الدين، والحكم العطائية على أنها كتب إسلامية! والمشتكى إلى الله.
ويقول عبد القادر الجيلاني:
...وينبغي له (أي: للمريد) أن لا ينتظر من الله مطلوباً سوى المغفرة....
والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال، إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب ذوي العقول والألباب! الذين عقلوا من رب الأرباب، واطلعوا على العِبَر والآيات(1)...
* الملحوظات:
نلاحظ قوله: (التحبب إلى الشيوخ...سبب لدخوله في زمرة الأحباب) أي: أحباب الله!
وهذا الكلام مردود عليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا- وحياً عن ربه- أن الدخول في زمرة أحباب الله هو إطاعة الله سبحانه واتباع رسوله والابتعاد عن الشرك، كل الشرك، ولم يرد أي نص عن المعصوم بالوحي أن التحبب إلى الشيوخ سبب في رضا الله، وبالتالي نطالبه بالدليل من القرآن والسنة، ولا دليل لديه إلا باللف والدوران والتأويل الباطل. ثم لننتبه إلى قوله: الذين عقلوا من رب الأرباب..، وهذه العبارة تحمل نفس معنى قولهم: (حدثني قلبي عن ربي..) وهو افتراء على الله الكذب. إنما هي إحساسات هَلْوَسِيَّة أقوى من الأفيونية، توهمهم شياطينهم من الإنس والجن أنها رحمانية وأنها خطاب من الله.
ويقول الجيلاني أيضاً:
وأما آدابه (أي: المريد) مع الشيخ، فالواجب عليه ترك مخالفة شيخه في الظاهر، وترك الاعتراض عليه في الباطن، فصاحب العصيان بظاهره تاركٌ لأدبه، وصاحب الاعتراض بسره متعرض لعطبه، بل يكون خصماً على نفسه لشيخه أبداً، يكف نفسه ويزجرها عن مخالفته ظاهراً وباطناً(2)...
- وهكذا يقرر سلطان الأولياء، عبد القادر الجيلاني، أن الشيخ ينفع ويضر، وأن التحبب إلى الشيخ سبب للدخول في زمرة الأحباب، وهذا هو النفع، والاعتراض عليه في سره سبب لعطبه، وهذا هو الضر.
__________
(1) الغنية: (2/164).
(2) الغنية: (2/164).(78/309)
- أما نحن فنؤمن أن لا نافع ولا ضار إلا الله. ونؤمن أن من يعتقد خلاف ذلك فهو مشرك مرتد.
ويقول: ...إن لم تفلح على يدي، لا فلاح لك قط(1)...
- مقارنة بين هذه الجملة وبين قوله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُوْنَ)) [المؤمنون:1-5].
ولم يقل سبحانه: لا فلاح إلا على يدي الشيخ كائناً من كان هذا الشيخ؟
فنسأل: من الصادق ومن الكاذب؟ ومن يجب أن نتبع؟
ويقول الدكتور سيد حسين نصر(2) (ترجمة كمال خليل اليازجي)(3):
والشيخ، فضلاً عن أن تأثيره ثابت، فإن نوره ينتشر فى كل مكان، ومع أنه شخصية روحية واضحة المعالم، لكنه مقترن داخلياً بالنور الذي يشرق على البر والبحر ويضيء كل شيء للمريد المرتبط به(4).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
.. ومِن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو أمر دنياه، لا يستعجل الإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له، ولسماع كلامه وقوله متفرغ، فكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً، لأنه مخاطبة الله تعالى فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى(5).
- لننتبه إلى مقارنته مخاطبة الشيخ مع مخاطبة الله، وجعله الكلام مع الشيخ من معاملة الله تعالى!!
ويقول أحمد الفاروقي السرهندي (مجدد الألف الثاني):
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:371).
(2) إيراني أظنه لا زال حياً.
(3) سوري أو لبناني، وأظنه لا زال حياً أيضاً.
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:73).
(5) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (4/98).(78/310)
...وهذه المحافظة إنما هي إلى زمان الوصول إلى الشيخ الكامل المكمل، ثم بعد الوصول إليه، لا شيء عليه سوى تفويض جميع مراداته إليه، وكونه كالميت بين يدي الغسال لديه، والفناء الأول هو الفناء في الشيخ، ويكون هذا الفناء وسيلة الفناء في الله(1)...
* مشاهد شيخية مرسلة:
* المنظر الأول:
انتهت الحضرة، ووقف الشيخ تكرماً منه وعطفاً ليسهل على المريدين التبرك بتقبيل يده الإلهية.
وقف المريدون وملء قلوبهم الشكر والامتنان لهذا الشيخ الكريم العظيم، الذي يمكنهم دائماً من تقبيل يده المقدسة، وأحياناً من تقبيل رجله، ينعمون بما تفيضه عليهم من روحانيته التي تحققت بأسماء الله وصفاته، يعبون منها ذخراً روحياً يعيشون في نشوته القدوسية أياماً، حتى يتكرم عليهم الشيخ من جديد بتجل جديد لطلعته الصمدانية، التي تملؤهم بالأسرار الربانية.
أخذوا يتقدمون الواحد تلو الآخر، يجللهم صمت المؤمنين أمام وثنهم المعبود، وبخشوع تعبدي ينحني صاحب الدور راكعاً أمام الشيخ، آخذاً يده الكريمة الممدودة بيده الحقيرة يقبلها، ويحاول أن يرتشف منها أكثر ما يستطيع من الأسرار الإلهية المختزنة في شيخه. ثم يترك الدور لغيره وينصرف حامداً شاكراً.
وصل الدور إلى شاب ملأ الإيمان الخرافي قلبه، وغمره بشوق جنوني إلى تنسم رائحة العارف الكامل الذي وصل إلى مقام (الفرق الثاني). وجاءت الفرحة، فأمسك بيده المرتعشة يد الشيخ القدوسية، وركع أمامه، ثم أهوى عليها يقبلها ويقبلها، وهو لا يشبع من تقبيلها ومن تمريغ وجهه وجبهته عليها. عيل صبر المريد الذي كان خلفه ينتظر دوره، فربت على ظهره طالباً منه الإسراع.
لكن الشيخ الكريم الرحيم العطوف الودود قال لهذا الذي نفد صبره، ناصحاً ومربياً ومعلماً: خليه يرتوي يا ابني خليه يرتوي. وذهبت مثلاً.
* المنظر الثاني:
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات: (ص:21).(78/311)
الوقت بعد العصر، والطقس شديد البرودة، والسيارة الفخمة تقبع في جانب من أحد الأزقة الفرعية، وليس في الشارع سوى أفراد يسرعون الخطا هرباً من البرد.
مر رجل طاعن في السن، ممن امتلأ قلبه إيماناً بالضبابيات والخرافيات الصوفية، ولم يستطع الوصول إلى الجذبة رغم محاولاته.
التفت هذا العجوز نحو السيارة فعرفها، ومن وراء الزجاج المجلل ببخار الماء المتكاثف، لمح داخلها شخصاً فعرفه أيضاً.. وكيف لا؟ إنه شيخه(1) الولي العارف الصديق المقرب المحب المحبوب الواصل القديس المقدس المتحقق بالاسم الأعظم...إلخ. فكان كأنما عثر على كنز الدنيا والآخرة، بل وأعظم من الدنيا والآخرة! فانطلق نحوه دون وعي حتى وقف أمام زجاج السيارة صامتاً خاشعاً، خافضاً رأسه بذلة وخنوع، ماداً نظره الحقير نحو الشيخ يستجديه نفحة من قدوسيته المستسرة.
نظر إليه الشيخ بعينين جامدتين، وأنزل زجاج النافذة بمقدار ما يكفي لإخراج كفه، وأخرجها، فاستلمها العجوز، وقبلها.
ثم سحب الشيخ يده، وأغلق النافذة.
وذهب العجوز لحال سبيله، وهو مفعم بنشوة تغرقه في أعتم ظلمات الخيالات الوثنية، لكنه كان يحس أنه قبل يد الحق (سبحان الله وتعالى عما يشركون).
مشهد شيخي مسجل:
أورد ابن العماد الحنبلي في أحداث سنة سبع وثمانمائة:
وفيها (أي: توفي فيها) أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن وفا...وقال ابن حجر في أنباء الغمر: اجتمعتُ به مرة في دعوةٍ فأنكرتُ على أصحابه إيماءهم إلى جهته بالسجود، فتلا هوَ وهو في وسط السماع يدور ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115] فنادى من كان حاضراً من الطلبة: كفرت كفرت، فترك المجلس وخرج هو وأصحابه...
__________
(1) هذا الشيخ أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وهو منذ سنين كثيرة ينتظر أن يأذن له الكشف بالتحرك.(78/312)
- لعل القارئ يذكر أن علي بن محمد بن محمد بن وفا هذا هو غوث من رجال السلسلة الشاذلية، وهذا يعني أن الطريقة الشاذلية تتبنى أفعاله وأقواله وتؤمن بها، وإن كتموا ذلك.
* الخلاصة:
الشيخ عند الصوفية إله، يسبغون عليه كل صفات الألوهية، والمريد الذي لا يعتقد بشيخه القدسية الإلهية لا يفلح في سعيه إلى الوصول إلى وحدة الوجود، وهذا هو معنى الفلاح عندهم، الجذبة، ثم مشاهدة الألوهية في نفس المُشاهَد وفي كل شيء. ولنستمع إلى قول الدكتور سيد حسين نصر، وهو من أعلام الصوفية في إيران، يقول:
إن دور الشيخ المرشد الذي يقتضي التسليم التام له، وأهميته، في تحرير المريد من الارتباك في عالم الكثرة، ثم توجيهه له بالتأمل في عالم الوحدة(1)...
الفصل الثاني
الرياضة (المجاهدة)
* لا طريقة بدون شيخ:
لنرجع أولاً إلى عارفيهم يخبرونا كيف يسلِّك الشيخ مريده في الطريقة.
يقول ابن عجيبة:
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:77).(78/313)
إذا أتى الفقير إلى الشيخ ليأخذ بيده، فأول ما يلقنه الورد، فإن التلقين فيه بركة عظيمة...ثم يأمره بالتوبة ورد المظالم وقضاء الدين بقدر الاستطاعة، ويحذره من الرجوع إلى ما كان عليه، ثم يعلمه ما يلزمه في دينه من طهارة وصلاة وما يتعلق بذلك إن كان جاهلاً، وما يتيسر من علم التوحيد خالياً عن الدليل، فإن كان الشيخ ليس من شأنه ذلك، دفعه إلى من يعلمه، ثم يأمره بلزوم الطاعة من صلاة وصيام وذكروغير ذلك، كل واحد ما يليق به، لأن الشيخ تقدم أنه يكون طبيباً ماهراً، ثم يأمره بالصحبة ولزوم مجالسة الشيخ، والاجتماج مع الإخوان، فطريق التربية ليست طريق الانفراد، وإنما هي طريق الاجتماع والاستماع والاتباع، فمهما انفرد المريد عن الإخوان لم يكن منه شيء، فإن تعذر إقامته مع الشيخ أمره بالزيارة والوصول، فمدد الشيخ جار إلى المريد كالساقية أو القادوس، فإن كان يتعاهدها ويمشي معها بقي الماء جارياً، وإن غفل عنها تخرم الماء وانقلب مع غيره، وأيضاً الوصول إلى الشيخ يدل على المحبة...ثم يذكره أولاً بما يُصلح جوارحه الظاهرة وهي التقوى والاستقامة، فإذا صلحت جوارحه الظاهرة أمره بالعزلة والصمت والجوع المتوسط وفراغ القلب والفناء في الاسم المفرد (الله)، فإذا رآه تحقق فناؤه وكثر تعطشه فتح له شيئاً من علم الحقائق، وأمره بالتفرغ التام وقطع العلائق، والزهد في الكونين، فإذا رآه أخذته حيرة أو دهشة دفع له علم الحقيقة، وأمره بتقليل ذكر اللسان وعمل الجوارح، وشغله بالفكرة، فإذا رآه لم يقدر على علم الحقيقة، أو رآه قنع بالعلم دون الذوق، أمره بتخريب الظاهر والتجريد التام، فإذا تمكن من الحقيقة، ورسخت فيه ذوقاً وتحقيقاً أمره بإرشاد الناس إن رآه أهلاً. هذا الذي أخذنا به وفهمناه من طريق أشياخنا(1)...
ويقول ابن البنا السرقسطي مبيناً:
حتى إذا انقاد مع الإفادة ……وكاد أن يصلح للإرادة
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:328).(78/314)
إذ للمريد عندهم حدود ……لأجلها قيل له مريد
فعندها رُدّ إلى الأوراد ……كالصمت والصوم مع السُّهاد
وعاملوه بالمعاملات ……إذ علموا مختلف العلات
ولم يحيلوه على الحقيقة ……إذ لم يكن مستوفي الطريقة
لكن أحالوه على الأعمال ……لأجل ما فيها من النوال
حتى إذا أحكم علم الظاهرْ ……وأبصروا القبول فيه ظاهرْ
ألقوا إليه من صفات النفس ……ما كان فيها قبل ذا من لَبْس
وهي إذا أنكرتها فلتعرف ……إحدى وتسعين وقيل نيف
فجرعوها أكؤس المنون ……وهي تنادي كيف تقتلون
فعندما مالت إلى الزوال ……أُدخل في خلوة الاعتزال
وقيل: قل على الدوام (الله) ……واحذر كطرف العين أن تنساه
فلم يزل مستعملاً للذكر ……فيصمت اللسان وهو يجري
وقدر ما تجوهر اللسان ……بالاسم يستثبته الجنان
ثم جرى معناه في الفؤاد ……جريَ الغذا في جملة الأجساد
فعندها حاذى مِراة القلب ……لوحُ الغيوب وهو غير مخبي
فأدرك المعلوم والمجهولا ……حيث اقتضى لتركها قبولا
حتى إذا جاء بطور القلب ……خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقيل لو عرفتني بكوني ……قيل إذن فاخلع نعال الكون
ثم فني عن رؤية العوالم ……ولم ير في الكون غير العالم
ثم انتهى لفلك الحقيقة ……فقيل هذا غاية الطريقة
ثم امتحى في غيبة الشهود ……فأطلق القول: أنا معبودي
حتى إذا رُدَّ عليه منه ……أثبت فرقاً حيث لم يكنه
فرُدَّ نحو عالم التحويل ……وعبروا عن ذاك بالنزول
ورده بالحق نحو الخلق ……كي ما يؤدي واجبات الرق(1)
ويقول ابن عجيبة: ...ثم يمده بالعلم الظاهر، ومعناه أنه يذكره بعلم الشريعة وعلم الطريقة، دون علم الحقيقة، حتى إذا تهذب ظاهره وباطنه صلح لعلم الحقائق، ولا بد من الترتيب...وقد قالوا: من قدم الباطن على الظاهر فاته الباطن والظاهر(2). اهـ.
- وهكذا فالسالك لا يعرف حقيقة التصوف، لأنهم لا يخبرونه بها حتى يصبح أهلاً لذلك حسب قواعدهم.
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:331 وما بعدها) بشكل متقطع.
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:331).(78/315)
وإنما يلقنونه أولاً علم الشريعة، فما هو علم الشريعة هذا الذي يلقنونه إياه؟ لنسمع الغزالي يشرحه، يقول ابن عجيبة:
...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي، قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني، اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخل بنفسك واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسُك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لستُ مطلوباً بمعناه، وإنما قال تعالى: ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)) [المزمل:8](1).
- مِنْ هذا النص (ومن ركامٍ غيره لا نورده اختصاراً) نعرف ما هو علم الشريعة الذي يلقنونه للمريد؟
هذا الوصف الذي يقدمه هنا ابن البنا السرقسطي وابن عجيبة والغزالي، هو ما نراه في كل كتبهم التي تهتم بهذه الناحية.
أما علم الطريقة (الإشراقية) ففي النصوص التي مرت في هذا الكتاب توضيح مبين.
إنهم يعلِّمون المريد، منذ الخطوة الأولى في رحاب الشيخ، أن يقدس الشيخ، وأن يكون عبداً للشيخ أكثر من عبوديته لله.
هذا هو رأس الطريق وأصله منذ أن نزل إبليس إلى الأرض، أو بعد ذلك بقليل، حتى الآن، وإلى ما شاء الله.
ثم يأتي (عند إشراقيي المسلمين وبعض غيرهم) الذكر الإرهاقي، الذي استعاضوا به- بصورة عامة- عن الرياضة، أو عن بعضها.
لكن الرياضة، رغم كل شيء، يبقى لها دورها في التصوف بين المسلمين، كما أن لها دورها الرئيسي، أو الوحيد، في تصوف غير المسلمين.
والمجاهدة (أو الرياضة)، كما رأينا، هي: الخلوة والصمت والجوع والسهر. وقد يرافقها تعذيب النفس بشكل من الأشكال، وتركيز الفكر في شيء ما أساسيٌ في المجاهدة الإشراقية.
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:338).(78/316)
* الخلوة (أو العزلة): طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة (الإشراق)، التي كانت على مدى التاريخ، وما زالت، تسمى: (المعرفة)، وجاء إشراقيو المسلمين فغلبوا عليها اسم: (الصوفية والتصوف).
كان إشراقيو الأمم، وما زالوا، يمارسون الخلوة في كهوف الجبال والوديان وفي شعابها، وفي أعماق الغابات، أو في كهوف (غرف صغيرة) تبنى في المعابد خصيصاً لهذه الغاية.
ومثلهم تماماً، مارسها متصوفة المسلمين، لكن قرونهم الأولى، استعاضوا عن كهوف المعابد بخلوات في بيوتهم، لأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا يعرفون الإسلام ويفهمونه، وكانوا يعرفون أن هذه الزندقة غريبة عن الإسلام، فكل من عُرف بها أقاموا عليه حد الردة.
وتتالت الأيام وشيئاً فشيئاً، فعلت السمومُ الصوفيةُ التي كانوا ينفثونها بهدوء فعلَها في المجتمعات الإسلامية، ففشا فيها الجهل والخرافة، وأخذ كهان الصوفية حريتهم بإعلان عقيدتهم الفاسدة والدعوة إليها، وسموها أسماءً فيها من الوقاحة بقدر ما فيها من الجرأة والافتراء على الله سبحانه، وبنوا لها هياكلها الخاصة التي سموها: (الخانقاه)، وفي الخانقاهات أقاموا، وفيها أقاموا كهوف الخلوة، وفي بعض الأحيان سموها: (المدرسة). وتتالت الأيام، وبالتكرار والزمن تمادوا في السيطرة على الفكر في المجتمعات الإسلامية، فجمدوه وعقَّموه، وصار الجهل والخرافة هو المظهر والمخبر، فانتشرت الخانقاهات في أحياء المدن وأزقتها، وفي القرى، بعد أن بدلوا اسم (الخانقاه) بـ(الزاوية)، ثم امتدوا من الزوايا ليتوغلوا في المساجد فيهتكوا حرماتها، وليرفعوا بيوت الأوثان التي يسمونها: (الأضرحة) وليجعلوا فيها ومنها كهوفاً لخلواتهم، وهياكل لطقوسهم، ومجالس لنشر ضلالاتهم.(78/317)
وأصبح من غير المستهجن وجود أماكن الخلوة في المساجد، ومن المظاهراللازمة انتشار الزوايا، هياكلهم التي يقيمون فيها طقوس المكاء والتصدية، وارتفاع القباب فوق القبور إشارة إلى أن تحتها وثناً يعبد، ومكاناً للخلوة، ولم يعودوا بحاجة إلى كهوف الجبال والوديان وشعابها، ولا للغابات ولا للصحاري.
وأقل مدة للخلوة يوم وليلة، ولا حد لأكثرها، لكن المعتاد أن تكون أسبوعاً أو أكثر حتى الأربعين يوماً.
* الصمت: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).
لكن إشراقيي المسلمين الأوائل عرفوا الأثر السحري لترديد كلمة ما، مئات الألوف من المرات أو ملايينها، بشكل مستمر ودون انقطاع، وهذا ما سموه: (الذكر)، فاستعاضوا به عن الصمت، بل وعن الرياضة كلها في كثير من الأحيان.
على أن عارفهم يعود إلى ممارسة هذا الطقس (الصمت) بعد وصوله إلى ما يسمونه: (مقام جمع الجمع)، أي: عندما تصبح الجذبة طوع يديه أو مسيطرة عليه.
* الجوع: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق، التي سموها: (الصوفية).
وأقل مدة له يوم وليلة تتكرر، ولا حد لأكثرها نظرياً، وفي كتبهم يتحدثون عن متصوفة صاموا أسابيع وشهوراً، بل وسنين أيضاً، وقد رأينا من أقوالهم هذه أمثلة في هذا الكتاب، حتى تحدثوا عن صوفي صام أربعين سنة كان يأكل كل يوم زبيبة واحدة؟!
* السهر: طقس إشراقي أساسي، لا بد منه في السير إلى الجذبة، مارسه الإشراقيون منذ أن اكتشف إبليس أحبولة الإشراق التي سموها: (الصوفية).(78/318)
وهذا الطقس، مضافاً إلى الخلوة، كانا وراء اكتشاف القهوة، فهم يذكرون أن عبد الرحمن العيدروس هو مكتشفها، وهو غير صحيح، لأنها معروفة قبله بأكثرمن قرنين(1)، ويقول ابن العماد الحنبلي: إن مكتشفها هو أبو بكر بن عبد الله العيدروس المتوفى سنة (909هـ).
- هذه هي الرياضة أو المجاهدة. وهدفها هو إرهاق الجملة العصبية إرهاقاً يُفقدها المقدرة على القيام بوظائفها، فتتخدر إحساساتها، وتصبح مركباً سهلاً لشياطين الجن التي تجري من ابن آدم مجرى الدم؟ وتصبح أكثر استعداداً للتأثر بالمادة المخدرة التي يفرزها الجسم، من أجل وظيفة حيوية فيزيولوجية.
* تعذيب النفس: كانوا يستعملونه من أجل السهر والصبر على الخلوة، وقد قلت ممارسته الآن، إذ نادراً ما نسمع به، واستعاضوا عنه بالمنبهات.
* الذكر (أو ما يسمى بالذكر):
قلنا، ونقول، وقالوا هم: إن الطريقة الوحيدة التي تقود إلى الجذبة هي طريقة الإشراق، وهي هي نفسها طريقة البرهان، أو الطريقة الغزالية، بعد مزجها بالإسلام مزجاً تعسفياً.
ورأينا أن الطريقة الإشراقية تعتمد الرياضة (الخلوة والجوع والسهر والصمت) للوصول إلى الجذبة، لكن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوباً أسرع وأكبر إمكانية للوصول إليها (إلى الجذبة)..
إنه الذكر، وكثيراً ما استغنوا به عن الرياضة.
فما هو الذكر؟ وما هو دوره؟
يقول عبد الوهاب الشعراني:
...إن عُمدة الطريق الإكثار من ذكر الله عز وجل...قالوا: إن الذكر منشور الولاية...وأجمع القوم على أن الذكر مفتاح الولاية، وجاذبُ الخير، وأنيس المستوحش، ومنشور الولاية...وما ثَم أسرع من فتح الذكر(2)...
__________
(1) عرفت القهوة والمقاهي في استانبول عام (962هـ)، الموافق لـ (1555م)، حيث جاء سوريان، أحدهما من حلب، والثاني من دمشق، وفتحا مقهيين في حي (تحت القلعة)، وهذا يعني أن القهوة كانت معروفة في سورية قبل ذلك.
(2) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: (1/35).(78/319)
ويقول ابن البنا السرقسطي:
فعندما مال إلى الزوال ……أدخل في خلوة الاعتزال
وقيل قل على الدوام (الله) ……واحذر كطرف العين أن تنساه
يشرح ابن عجيبة هاذين البيتين:
...ومَيْل النفس إلى الزوال هو إعطاؤها الطوع من نفسها، بحيث يتصرف فيها صاحبها بلا نزاع منها...فعند ذلك يدخل الخلوة...ويحضه على ذكر الاسم المفرد حتى لا يفتر عنه ساعة، وهذا التدريج الذي ذكره الناظم (في أبيات سابقة) ليس بلازم لكل الشيوخ ولا لكل المريدين أن يسلكوه، بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة إذا رأى الفقير أهلاً له...ومن المريدين من لا يحتاج إلى خلوة، بل يأمره بالخلطة من أول مرة، والناس معادن وطبائع، والعلل متفاوتة...قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بني! اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخلُ بنفسك، واجمع همتك، وقل: الله الله الله ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئاً إلا الرواتب، وقل هذا الاسم بلسانك وقلبك وسرك، وأحضر قلبك، واجمع خاطرك، ومهما قالت نفسك: ما معنى هذا؟ فقل لها: لست مطلوباً بمعناه(1)...
ويقول علي نور الدين اليشرطي: والله ما أخذناها بالسماع، ما أخذناها إلا بالذكر...(2).
ويقول ابن عطاء الله السكندري:
الذكر الرابع: (الله) ؛ ويسمى: الذكر المفرد، لأن ذاكره مشاهد لجلال الله وعظمته، فانٍ عن نفسه، قال الله تعالى: ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)) [الأنعام:91](3).
* ملحوظة:
- يستعمل ابن عطاء الله الآية في غير معناها الذي أنزلت له، أي يستعمل التأويل.
فماذا يحدث للذاكر؟...لنستمع إلى أقوالهم:
يقول علي نور الدين اليشرطي:
__________
(1) الفتوحات الإلهية: (ص:338).
(2) نفحات الحق، (ص:113).
(3) مفتاح الفلاح، (ص:42).(78/320)
ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب(1)...
- أقول: إن سأل سائل: ما هي صفات الرب التي تظهر عليه؟ فالجواب: هي الهلوسات التي يشاهدها أثناء الجذبة! ويشاهد فيها أنه الله (جل الله) بأسمائه وصفاته.
ويقول عبد المجيد الخاني النقشبندي:
واعلم أن المريد الصادق إذا اشتغل بالذكر على وجه الإخلاص، يظهر عليه أحوال عجيبة وخوارق غريبة، وهي ثمرات أعماله من فضل الله تعالى عليه، إما تطميناً لقلبه وتأنيساً، وإما ابتلاءً من الله تعالى وامتحاناً له. فالواجب عليه أن لا يلتفت إليها ولا يغتر بها، لئلا ينقطع بها عن مقصوده (مشاهدة الوحدة). ولهذا قال العارفون بالله تعالى: أكثر من انقطع من المريدين بسبب وقوعهم في الكرامات(2)...
* خلاصة ما تقدم:
إذا اشتغل المريد بالذكر، وهو عادة الاسم المفرد (الله)، واستمر عليه ليلاً ونهاراً أياماً كثيرة، قد تقصر وقد تطول، وقد تمتد إلى ما يزيد عن عشرين سنة، كما حصل لعبد القادر الجيلاني، تظهر أمامه خوارق؛ كأنْ يرى أشخاصاً يظهرون فجأة ويختفون فجأة، أو يسمع أصواتاً، أو تحدث أمامه حوادث غير عادية وغير معروفة السبب؟ أو قد يحدث مع بعضهم أن يسير فوق الماء أو يطير في الهواء.
هذه الخوارق ليست لازمة بالضرورة، فقد لا يحصل شيء منها، وإذا حصلت فإنهم يتواصون بإهمالها وعدم الالتفات إليها والاغترار بها؛ لأن غايتهم هي الوصول إلى الجذبة التي يستشعرون فيها وبها الألوهية ويذوقونها.
__________
(1) نفحات الحق، (ص:110).
(2) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:37).(78/321)
يستمر السالك بالذكر. وقد يلجأ إلى الرياضة (المجاهدة) كعامل مساعد، وقد يبدل الخلوة في غرفة بالسياحة في القفار، مع الجوع والسهر والمشاق، ويبقى يذكر ويذكر حتى يصل إلى الجذبة التي هي الهدف الأول، وتكون عادة سريعة الزوال في أول الأمر، عندئذ يسمونه: المجذوب أو الولي أو الواصل...، ويعنون بكلمة (مجذوب) أن الله سبحانه جذبه إليه، وينصحونه ألا يغتر بالجذبات القليلة السريعة الزوال، بل عليه أن يستمر في الذكر، حتى يزداد عدد جذباته ويزداد طولها، ثم حتى يشاهد فيها وبها المشاهد.
يبقى المريد (أو السالك) هكذا مستمراً حتى تصبح الجذبة طوع يديه، ففي أي وقت يريدها يبدأ بالذكر، وما هي إلا دقائق حتى يقع فيها، بل قد يقع فيها بمجرد التفكير بها.
وقد يصل إلى مقام تتكرر عليه تلقائياً دون ذكر، وهذا عندهم هو الأمل المنشود، ومن وصل إليه فهو البدل أو الوتد أو القطب أو الغوث (حسبما يوحي إليه شيطانه). على أن عند النقشبندية أسلوباً أسرع (كما يقولون) في الوصول إلى الجذبة، وهو ترديد لا إله إلا الله، مع هز الرأس بالصورة التالية:
يدير المريد وجهه إلى اليمين حتى تصبح ذقنه فوق كتفه اليمنى، ويلفظ كلمة (لا).
ثم يدير وجهه بسرعة إلى الأمام ويضع ذقنه على صدره، ويلفظ كلمة (إله).
ثم يدير وجهه بسرعة أيضاً إلى اليسار، حتى تكون ذقنه فوق كتفه اليسرى، ويلفظ كلمة (إلا).
ثم يدير وجهه بسرعة دائماً، إلى الأمام ويضع ذقنه فوق صدره، كما في الحركة الثانية، ويلفظ كلمة (الله).
ويعيد الكرة ويعيدها، وكل هذا يتم بأسرع ما يمكن.
ويقولون: إن القيام بهذه العملية واحداً وعشرين مرة، يمكن أن يوصل إلى الجذبة، ومن لم يصل، فليعد الكرة، ثم ليعدها، وسيصل أخيراً. ومن الناس من لا يصل مهما عمل وحاول.
ولقد انتقلت هذه الحركة إلى بعض الطرق الأخرى، لما فيها من سرعة في الوصول.(78/322)
ولعل القارئ أدرك أن ترديد عبارة (لا إله إلا الله) أثناء هذه الحركة لا يقدم ولا يؤخر في الوصول إلى الجذبة، وأن الفعل كله لهز الرأس بالشكل المذكور، ويا لها من ولاية! تهز رأسك فتصبح ولياً لله؟ (مرحباً ولاية)!
* المنشطات (الحضرة، السماع، قراءة الكتب الصوفية):
يقول الشيخ سعيد حوى:
...ويرافق السيْرَ إلى الله اجتماعٌ وإنشادٌ، وتصحبُه أمور، ويتطلب آداباً(1)...ويقول: ...هذه الحالات التي تزيد من إقبال الإنسان على الله تعالى، أو تجدد همته إن فترت كثيرةٌ منها: الاجتماع على علم أو على قراءة قرآن أو على ذكر أو على مذاكرة، ومنها الإنشاد، ومنها المطالعة في كتب السير إلى الله(2)...
- أقول: المعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم وتابعي تابعيهم، كانوا يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن، وكان هذا لا يدفعهم إلى ما يسميه: (السير إلى الله)، بل كانوا يسيرون في طريق الإسلام الذي أنزله الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أنه من المؤكد أن الذين يجتمعون على علم وعلى قراءة القرآن بتدبر وتطبيق، يبتعدون كل البعد عن هذا الذي يسمونه: (السير إلى الله).
إن القرآن الكريم والعلم النبوي يحكمان بأن ما يسمونه (السير إلى الله) لا يمت لهما بصلة، وبالتالي ليس سيراً إلى الله، بل هو سير إلى الجذبة ليس غير، وسنرى ذلك فيما بعد.
أما الآن، فإلى بعض التفصيل للمنشطات: الاجتماع، ومظهره الرئيسي هو الحضرة، والسماع، وقراءة كتب التصوف.
* الحضرة لا طريقة بدون حضرة إلا بعض الشواذ النادرة:
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:166).
(2) تربيتنا الروحية، (ص:167).(78/323)
كلمة (الحضرة) تعني عند القوم الجلسة التي يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه رجال الغيب، ففيها يكونون في حضرته، ولذلك سموها: الحضرة، وقد أفتى شيوخهم أن مَن حلف يميناً أو طلاقاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم حاضر معهم، فلا يحنث ولا تطلق زوجته، وكلهم يعتقدون هذا لكنهم يكتمونه حسب القاعدة.
ولا بد في الحضرة من الشيخ أو من نائب عنه بإذنه، إذ بدون ذلك لا يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنقسم الصوفية من حيث الحضرة إلى قسمين:
1- الصوفية الجالسة:
يقومون بطقوس الحضرة وهم جلوس، وينقسمون بدورهم إلى قسمين:
أ- الجالسة الصامتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً صامتين، كالنقشبندية، والخوفية، وقد يجهرون بعض الأحيان، وقد يقفون (حسب توجيه الشيخ)، مع ندرته.
ب- الجالسة الصائتة: يقرءون أورادهم وأذكارهم جلوساً مع الجهر بالصوت، كالتيجانية، والنعمتللاهية، وقد يقفون ويرقصون (حسب توجيهات الشيخ)، وهذا نادر.
2- الصوفية الراقصة:
عليها أكثر الطرق، وكلها صائتة، يبدءون الحضرة في أكثر الأحيان جلوساً، ينهضون للقفز والرقص، وقد يصاحب قفزهم الطبول والزمور والدفوف، وقد يكون الرقص إفرادياً، مع السماع طبعاً.
والصوفية الراقصة تنقسم أيضاً إلى قسمين:
أ) الرقص مع السماع بدون آلات.
ب) الرقص مع السماع مصحوباً بالآلات.
وتلخيص ذلك بالشكل التالية:
أما الرقص الإفرادي فقد يكون رقصاً مع النقص، (أي: مع هز الخصر) أو بدون نقص: (أي: بدون هز الخصر).
* كيفية الحضرة:
نذكر كيفية الحضرة بإيجاز وإجمال، دون تفصيل، إذ لا فائدة من ذلك ولا ضرورة.
مع العلم أنه لا يتم شيء في الحضرة إلا حسب توجيه الشيخ فقط، دون أي كلمة أو إشارة من المريدين، إذ هم أمامه كالميت بين يدي الغاسل.
قد تبدأ الحضرة بدرس يلقيه الشيخ، أو بقراءة بعض أحاديث نبوية دون تمييز، أو بنشيد من أناشيدهم، ثم يبدأ الورد.(78/324)
ولا يكون الورد إلا مع الالتزام التام بما يسمونه: الرابطة الشريفة، وهي أن يربط كل مريد في الحضرة بصره بشيخه إن كان حاضراً، وأن يتصوره في خياله إن كان غائباً، ويمكن له في أول أمره أن يضع صورته أمامه وينظر إليها، حتى يتدرب شيئاً فشيئاً على تصوره جيداً في وهمه.
وقد يقرأ أحدهم، بأمر من الشيخ طبعاً، السلسلة المزعومة للمشيخة (الطريقة)، والتي يصلونها زوراً وبهتاناً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم تأتي الأذكار والصلوات على النبي، ولكل مشيخة أذكارها وصلواتها التي قد تطول وقد تقصر، والاختلاف طبعاً هو بالألفاظ لا بالمعاني، فالمعاني واحدة أو متقاربة، وقد رأينا نماذج منها فيما مر من الفصول.
وبالنسبة للصوفية الجالسة، تنتهي هذه الجلسة بالفاتحة وإهدائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فضله إلى الشيخ ثم إلى الأولياء...إلخ. وقد يزيدون عليها شيئاً من القرآن الكريم.
ثم يمد الشيخ يده، ويبدأ الحاضرون بتقبيلها واحداً بعد واحد، ثم ينصرف من يريد منهم الانصراف، وأحياناً يقف الشيخ عندما يمد يده للتقبيل كرماً منه، ليسهل على المريدين تقبيل يده دون إلجائهم إلى الجلوس والسجود ثم النهوض.
أما بالنسبة للصوفية الراقصة، فهم، بعد الانتهاء من جلسة الذكر والصلوات يقفون بشكل حلقة غير تامة، أو أكثر من حلقة، حسب العدد، ويأخذون بالقفز وهم في مكانهم، يتوسطهم الشيخ أو نائبه، يحركهم بإشارات يده، وهم يرددون: الله حي، الله حي، الله حي، لكن لا بلفظها، بل بأنات تتفق مقاطعها مع مقاطعها، ويد كل واحد ممسكة بقوة بيد جاره، متشابكة أصابعهم، وهم في قفزهم يرتفعون معاً ويهبطون معاً، ويقف المسنون منهم في الأطراف، وقد لا يشبكون أيديهم بأيدي جيرانهم، وعادة يكون قفز هؤلاء بتحريك الرأس والجذع إلى الأمام والوراء، دون أن يرفعوا أرجلهم عن الأرض، وقد يرفعون أعقابهم فقط.(78/325)
يرافق ذلك إنشاد من منشد حسن الصوت، ولا يوجد نشيد خاص لكل مشيخة، إن الأناشيد بشكل عام، مشتركة بين الجميع، إلا تلك التي تختص بتقديس شيوخ الطريقة.
وفي بعض الطرق، كالرفاعية، يرافق القفز الطبول الرجاجة، وفي بعضها، كالمولوية، يرافقها الموسيقى المنبعثة من النايات والصنوج والدفوف والمزاهر.
وبعد زمن قد يطول وقد يقصر، يعطي (البيشر)(1)، إشارة الانتهاء، وتختلف من طريقة إلى أخرى.
ثم يجلسون، ويقرءون الفاتحة مع الإهداء والدعاء، ثم يأتي شرب الشاي الحار، لأن شرب المشروبات الباردة ممنوع بعد الرقص.
وفي جميع المشيخات الصوفية، لا يجوز دخول الحضرة إلا بعد الطهارة والوضوء.
ثم يأتي دور تقبيل يد الشيخ حسب الشكل الذي مر آنفاً.
عادة، إذا كان الشيخ يريد من الحاضرين جميعهم الانصراف، يقف قبل الجميع قرب الباب، ويمد يده، فيشرع الحاضرون بالخروج مارين أمام الشيخ واحداً بعد واحد، يقبلون يده المقدسة، وقد يمرغون جباههم عليها. وقد يقبل بعضهم رجله، حيث يمدها الشيخ إلى الأمام تكرماً ومنة وعطفاً منه وتفضلاً، ليمكن المريد من تقبيلها وتمريغ وجهه وجبهته عليها.
وأكرر الإشارة إلى أن الرقص قد يكون إفرادياً، فيكون دون ترديد عبارة (الله حي) أو الآهات التي تتناغم معها، والراقص لا يردد أي شيء إلا إن كان الإنشاد الذي يرافقه يقتضي من الجميع أن يرددوا اللازمة معاً، فحينئذ قد يتفاعل الراقص معهم.
__________
(1) البيشر، اصطلاح أورده شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف، ويعني به الشخص الذي يدير الحضرة، سواء كان الشيخ أو نائبه، ويستعملون الآن كلمة (البيشروش).(78/326)
ونوع الرقص تابع لمهارة (الولي) الراقص، الذي يمكن أن يكون أي مريد أو أي شيخ، وأكثر ما تكون رقصاتهم من نوع (السماح) الذي هو رقص (المولوية) المشهور، وقد يرقصون (التانجو، أو السامبا، أو السلوفوكس)، ولا أدري إن كانت الرقصات العنيفة (بوغي بوغي، أو الروك أند رول، أو غيرها) قد دخلت حلقاتهم أم لا. مع العلم أن هذا ليس عاماً في كل المشيخات، بل قد يوجد في بعض الأحيان، وفي بعض الأماكن، وقد لا يوجد، ولا يختص بمشيخة دون أخرى.
أما رقصة (السماح) التي يرقصها المولوية (تقرباً إلى الله)، فهي أشهرمن أن تعرف، وكذلك الرقصات البكتاشية حول قبر وثنهم: (حاجي بكتاش)، وأشهر منها رقصات (الزار) في مصر والسودان والحبشة وغيرها.
لكن، على كل حال، يجب أن لا ننسى أبداً، أن هذه الرقصات هي منشطات على (السير إلى الله)!
* السماع:
ماذا يقولون في السماع؟ نكتفي ببعض الكلمات لبعض كبرائهم، و(كلهم في الهوى سوا).
يقول الغزالي:
...فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس، ومَن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة، ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داوُد عليه السلام لاستماع صوته؟ ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يُحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب، قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ما هو فيه. فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة، ترتبط بها آثار في القلب(1)....
__________
(1) الإحياء: (2/243).(78/327)
ومما يورده الطوسي:..سمعت الطيالسي الرازي يقول: دخلت على إسرافيلَ أستاذِ ذِي النون رحمهما الله وهو جالس ينكت بإصبعه على الأرض ويترنم مع نفسه بشيء، فلما رآني قال: أتحسن تقول شيئاً؟ قلت: لا. قال: أنت بلا قلب. سمعتُ أبا الحسن علي بن محمد الصيرفي قال: سمعت رويماً، وقد سئل عن المشايخ الذين لقيهم: كيف كان يجدهم في وقت السماع؟ فقال: مثل قطيع الغنم إذا وقع في وسطه الذئاب(1).
ويقول: سمعت أبا عمر وإسماعيل بن نُجيد، قال: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن عثمان الرازي الواعظ، يقول: السماع على ثلاثة أوجه: فوَجه منه للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوال الشريفة، ويُخشى عليهم في ذلك الفتنة والمراءاة.
والوجه الثاني: للصديقين يطلبون الزيادة في أحوالهم، ويسمعون من ذلك ما يوافق أحوالهم وأوقاتهم.
والوجه الثالث: لأهل الاستقامة من العارفين فهم لا يعترضون، ولا يتأبون على الله فيما يردُ على قلويهم في حين السماع، من الحركة والسكون. أو كما قال(2).
ويقول: وقال بعضهم: أهل السماع في السماع على ثلاثة ضروب: فضرب منهم أبناء الحقائق، وهم الذي يرجعون في سماعهم إلى مخاطبة الحق لهم فيما يسمعون. وضرب منهم يرجعون فيما يسمعون إلى مخاطبة أحوالهم وأوقاتهم ومقاماتهم، وهم مرتبطون بالعلم ومطالبون بالصدق فيما يشيرون إليه من ذلك. والضرب الثالث هم الفقراء المجردون الذين قطعوا العلائق ولم تتلوث قلوبهم بمحبة الدنيا والاشتغال بالجمع والمنع، فهم يسمعون بطيبة قلوبهم، ويليق بهم السماع، وهم أقرب الناس إلى السلامة، وأسلمهم من الفتنة. والله أعلم(3).
* السماع والتواجد أو الرقص:
رأينا وصف واصفهم عند السماع أنهم (مثل قطيع الغنم وقع في وسطه الذئاب)، وهذه أبيات لأبي مدين المغربي:
فقل للذي ينهى عن الوجد أهلَه ……إذا لم تذق معنى شراب الهوى دَعْنا
__________
(1) اللمع، (ص:361).
(2) اللمع، (ص:349).
(3) اللمع، (ص:351).(78/328)
إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى ……فبالله يا خالي الحشا لا تعنفنا
وسلم لنا فيما ادعينا فإننا ……إذا غلبت أشواقنا ربما صحنا
وتهتز عند الاستماع حواسنا ……وإن لم نُطق حمل التوجد نوَّحنا
أما تنظر الطير المقفص يا فتى ……إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى
وفرج بالتغريد ما في فؤاده ……فيفلق أرباب القلوب إذا غنى
ويهتز في الأقفاص من فرط وجده ……فمضطربٌ الأعضاءُ في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى ……تهزهزها الأشواق للعالم الأسنى
أنلزمها بالصبر وهي مشوقة ……وكيف يطيق الصبر من شاهد المعنى
إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللقا ……نَعَم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى
فيا حادي العشاق قم واحد قائماً ……وزمزم لنا باسم الحبيب وروِّحنا
وصن سرنا في سكرنا عن حسودنا ……وإن نظرت عيناك شيئاً فسامحنا
فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا ……وخامرنا خمر الغرام تهتكنا
فلا تلم السكران في حال سكره ……فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
ويا عاذلي كرِّر عليَّ حديثهم ……فأعيننا منهم وأعينهم منا
أرجو من القارئ الكريم أن يتسلى بملحوظة العبارات الصوفية الواردة في كل بيت من أبيات القصيدة، وقد مرت كلها (أو أكثرها) في النصوص السابقة.
والسماع في أكثر الأحيان يكون مصحوباً بآلات تبدأ بالدف، ثم تأتي الصنوج والمزاهر والطبول الرجاجة والنايات والأبواق.
وقد يكون السماع بدون آلات.
وكلتا الحالتين قد توجدان في الطريقة الواحدة، حسب الشيخ والظرف.
وأقوالهم في السماع حسب هذا المعنى الذي رأيناه، تملأ مئات الصفحات وأكثر.
* قراءة الكتب الصوفية:
من المنشطات على الاجتهاد في الرياضة والذكر والإصرار على الوصول إلى الجذبة، قراءة الكتب الصوفية، وهي كلها مشحونة بتقديس التصوف وشيوخه، وبسرد مثير لخوارق العادة التي تحدث أمامهم، وبتلك العبارات والرموز والإشارات التي تتكلم عن أسرار غريبة وعجيبة، وغيرها من المثيرات المغريات.(78/329)
كل هذا يبعث في القارئ شوقاً جامحاً لتلك الأسرار، واندفاعاً ملحاً للوصول إلى تلك الحالات، ويجعل خياله وآماله وأحلامه تهوم في تلك الأجواء الغنوصية التي يصورونها له إلهيةً وتحققاً بالألوهية، ويعبرون عنها بمثل قولهم: (لا أريد إلا وجه الله الكريم)، فيقبل على الرياضة الصوفية بإصرار، وعلى الغلو في الخضوع الشركي للشيخ، مما يساعده على الوصول إلى الجذبة والتحقق بالألوهية بسرعة أكثر.
وكل المراجع التي اعتمدناها لهذا الكتاب، هي كتبهم التي إليها يرجعون وعليها يعتمدون، وهي كتبهم التي يقدسون مؤلفوها هم عارفوهم وأشياخهم وأقطابهم وعلماؤهم.
وناسخوها هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.
والمشرفون على طباعتها لجان منتقاة من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم.
والذين يقتنونها ويقرءونها هم من المنتسبين إلى طرقهم ومشيخاتهم، الذين لا يعصون الشيخ ما أمرهم، ويفعلون ما يأمرهم به.
والذين يقتنونها ويقرءونها أيضاً من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم ومريديهم.
والذين يشترونها ليضعوها في مكتباتهم، أو في مكتبات المساجد أو المدارس، مراجع إليها يرجعون، هم من عارفيهم وأشياخهم وأقطابهم وعلمائهم وأسيادهم ومريديهم والسالكين على أيديهم.
لذلك أرجو من القارئ الكريم، أن يكون مطمئناً كل الاطمئنان، واثقاً كل الثقة، مؤمناً كل الإيمان، أن كل ما في كتبهم هو صحيح النسبة إليهم، يؤمنون به كلهم إيماناً كلياً كاملاً، ولا يوجد فيه أي دس صغير أو كبير. وإذا قال لك أحد منهم عن أمر من أمورهم أو قصة من قصصهم أو نص من نصوصهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه يكذب عليك ويخادعك ويمكر بك ويكيد للإسلام، عن وعي أو عن غير وعي، ولكن عن إخلاص وإيمان.
وإذا قال أحد من غيرهم: إنه مدسوس. فاعلم أنه جاهل بالصوفية غافل عن واقع المسلمين.
إن البحر الميت لا يحتاج لأن يدس فيه الملح ليصبح ملحاً، وجهنم لا تحتاج أن يدس فيها الجمر لتغدو حامية.(78/330)
الفصل الثالث
كشف بطائفة مما يسمونه الطرق الصوفية
إنها ليست طرقاً، وإنما هي مشيخات أخذت أسماءها من أسماء مشايخها، الذين كانوا وما زالوا يجمعون حولهم المريدين والسالكين، ليحصلوا بذلك على المدد، أي: الأموال التي تنهمر عليهم، إما من المريدين مباشرة، أو بسبب هؤلاء المريدين، هذا المدد مضافاً إلى اللذة التي يجدونها في الجذبة، مع هلوساتها التي توهمهم أنهم تحققوا بالألوهية، كل هذا يدفعهم إلى التفاني في خدمة إبليس للإبقاء على مسيرة الكهانة، وجر المسلمين إلى أشراكها، والفرق بين الطرق هو بكلمات الأذكار لا بمعانيها، وبأشكال الحضرة، أما الرياضة والوصول والكشف والحقيقة التي هي هي الصوفية، فواحدة.
وهذه طائفة مما يسر الله سبحانه الوقوف عليه من مشيخاتهم، أوردها بإيجاز:
المحاسبية: نسبة إلى الحارث بن أسد المحاسبي، بصري، مات في بغداد سنة 243 هـ.
الطيفورية (أو البسطامية): نسبة إلى أبي يزيد، طيفور بن عيسى البسطامي، اختلفت كتبهم (المؤيدة بالكشف!!) في تاريخ وفاته على قولين: سنة (234هـ)، وسنة (261هـ).
السقطية: نسبة إلى أبي الحسن، السري بن المغلس السقطي، خال الجنيد وأستاذه، وإليه ينتمي أكثر المشايخ في بغداد، مات فيها سنة 251 هـ.
القصارية: نسبة إلى أبي صالح، حمدون بن أحمد بن عمارة القصار، شيخ الملامتية في نيسابور، مات فيها عام 271 هـ.
الجنيدية: نسبة إلى الجنيد بن محمد (أبي القاسم) سيد الطائفة الصوفية- كما يلقبونه- أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه في العراق، ويقال له أيضاً: (القواريري)، مات في بغداد سنة (297هـ).
النورية: نسبة إلى أبي الحسين، أحمد بن محمد بن عبد الصمد النوري، بغوي الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، مات سنة (295هـ).
السهلية: نسبة إلى سهل بن عبد الله التستري (أبي محمد) مات سنة 273 أو 283 هـ.
الخرازية: نسبة إلى أبي سعيد، أحمد بن عيسى الخراز، يقال له: لسان التصوف، بغدادي، مات سنة (277هـ).(78/331)
الحكيمية: نسبة إلى أبي عبد الله، محمد بن علي الترمذي، الحكيم، مات سنة (296) أو (320هـ)، ولعلها الأرجح، وهو غير الترمذي المحدث صاحب السنن.
الحلاجية: نسبة إلى أبي المغيث، الحسين بن منصور الحلاج، فارسي، نشأ بواسط في العراق، مات قتلاً على الزندقة في بغداد سنة (309هـ). والصوفية كلهم يزكونه، وعلى رأسهم الغزالي في (إحيائه)، والقشيري في (رسالته)، والجيلاني في (فتحه وفتوحه)، وابن عربي في كتبه.
الخفيفية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الضبي الشيرازي، مات سنة (371هـ) أو (391هـ).
السيارية: نسبة إلى أبي العباس، القاسم بن القاسم السياري من مرو، مات سنة (342هـ).
هذه الطرق، هي الأصول للطرق التي ظهرت فيما بعد، وقد اندثرت أسماؤها بعد أن انقسم كل منها إلى طرق كثيرة، بسبب المشايخ الذين ظهروا فيها، ثم أصل كل منهم طريقة باسمه على حساب اسم شيخه. والظن أن هناك طرقاً غير هذه، واكبتها أو تقدمتها، لم يتهيأ لي الوقوف على ما يشير إليها.
الجنبلانية: مؤسسها أبو محمد عبد الله بن محمد الجنبلاني، من بلدة جنبلا في فارس، مات فيها سنة 287 هـ واليها يعود الفضل في نشر المذهب النصيري.
الملامتية: تنسب أحياناً لحمدون القصار، لكن الذي بلورها وأعطاها شكلها النهائي هو تلميذه أبو محمد عبد الله بن منازل، مات بنيسابور سنة (329) أو (330هـ)، وسموا أنفسهم الملامتية، من (الملامة) لأنهم يشتغلون بملامة أنفسهم ويهملون الشريعة والأخلاق، وقد اضمحلت كطريقة مستقلة، لكنها استمرت تظهر في سلوك كثير من الأولياء في كل الطرق، يتظاهرون بالتهتك وإتيان البهائم وشرب الخمور وتناول الحشيش والسرقة وغير ذلك، ليستروا عن الناس ولايتهم وصديقيتهم!(78/332)
الكازرونية: نسبة إلى أبي سعيد الكازروني، تتلمذ على ابن خفيف، وكان يلقب بـ(المرشد)، ولم أقف من ترجمته على أكثر من هذا، ويمكن أن تكون نسبة إلى أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار، مات في كازرون (في إيران) سنة 426 هـ، تخرج في الخفيفية بأبي محمد الحسين الأكار، ولعل هذا هو الأرجح، ويدعي أصحاب الطريقة الأويسية في إيران أن الكازروني من رجال سلسلتهم.
السالمية: تنسب إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم (الكبير) بصري، مات سنة (297هـ)، وإلى ابنه أبي الحسن أحمد بن محمد (ابن سالم الصغير) مات لسنة (360هـ)، وهو أستاذ أبي طالب المكي، والسالمية فرع من السهلية.
المسرية: نسبة إلى محمد بن عبد الله بن مسرة الجبلي، مات سنة (319هـ)، إسماعيلي، اتهم بالزندقة فخرج فاراً من الأندلس، ثم عاد إليها بعد مدة، وطريقته أم الطرق الصوفية في الأندلس، وهو غير ابن مسرة المحدث الحافظ الفقيه(1).
الحلمانية: أسسها أبو حلمان الفارسي الحلبي في دمشق في القرن الرابع أو بعده بقليل، حاربها الأشاعرة؛ لأن أتباعها كانوا يصرحون بوحدة الوجود، فلم تعمر طويلاً. القشيرية: نسبة إلى أبي القاسم، عبد الكريم بن هوازن القشيري، مؤلف الرسالة القشيرية، مات في نيسابور سنة 465 هـ، ولعلها هي التي تسمى أيضاً: (الهوازنية).
__________
(1) المحدث الحافظ الفقيه وهب بن مسرة بن مفرج التميمي الحجاري، من وادي الحجارة بالأندلس، توفي سنة (346هـ)، وقد وهم فيه الحافظ الذهبي وتبعه ابن حجر بسبب تشابه نسبته مع ابن مسرة الصوفي، (هذا التعريف مقتبس عن مجلة (دار الحديث الحسنية) (العدد: الثالث)، سنة (1402هـ-1982م)، (ص:145).(78/333)
الصديقية: ينسبونها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومؤسسها هو أبو بكر بن هوار من قبيلة الهواريين الكردية، سكن في البطائح في جنوب العراق، في قرية الحدادية، وهو من أهل القرن الخامس الهجري، أخذ طريقته عن أبي بكر الصديق في المنام حيث ألبسه ثوباً وطاقية ومر بيده على ناصيته، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر بك تَحْيا سننُ أهلِ الطريق من أمتي بالعراق بعد موتها...ثم استيقظ فوجد الثوب والطاقية بعينيهما عليه).
العريفية: نسبة إلى ابن العريف، أبي العباس، أحمد بن محمد بن موسى، من المرية في الأندلس، مات في صنهاجة في المغرب سنة (535هـ) أو سنة (536هـ)، وهو غير ابن العريف النحوي الشاعر، وبالعريفية تخرج ابن عربي.
القادرية: أسسها محيي الدين، أبو صالح، عبد القادر الجيلاني (سلطان الأولياء)، مات سنة (561هـ) في بغداد، وهو أعجمي من (جيلان)، لكنهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها.
الرفاعية (أو البطائحية): أسسها أحمد بن الحسين الرفاعي، من بني رفاعة (قبيلة من العرب)، ولد وعاش في أم عبيدة، من أعمال البصرة في العراق، ومات فيها سنة 578 هـ، والبطائح اسم المنطقة، وفي كتبهم يجعلونه من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنه، ويجعلون رفاعة أحد أجداده.
العدوية: أسسها عدي بن مسافر، تلميذ عبد القادر الجيلاني، توفي في قرية بالس في جبل لالش من جبال الهكارية قرب سنجار، شمالي العراق، سنة (555هـ) أو (557هـ) أو (585هـ)، وقد تطورت هذه الطريقة، وأتباعها اليوم هم (اليزيديون) عبدة الشيطان.
البيانية: نسبة إلى الشيخ أبي البيان: بنان أو بناء بن محمد بن محفوظ (السلمي) أو (القرشي) الحوراني ثم الدمشقي، مات سنة (551هـ).
المدينية: نسبة إلى أبي مدين، شعيب بن حسين (أو حسن) الأندلسي، استوطن بجاية في المغرب، مات وهو في طريقه للقتل على الزندقة سنة (590هـ) أو (593هـ) في تلمسان.(78/334)
الرحيمية القنائية: نسبة إلى عبد الرحيم القنائي، مغربي أخذ عن أبي يعزى، ثم انتقل إلى مصر ومات فيها سنة (592هـ) في قنا. وقد وهم من قال: إنه لم يكن شيخ طريقة. ولكن يظهر أنها اندثرت.
القَلَنْدرية: نسبة إلى قلندر يوسف، أندلسي هاجر إلى المشرق، وقد ظهرت هذه الطريقة لأول مرة في دمشق سنة (610هـ)، وأتباعها يحلقون لحاهم، ولا يأخذون أنفسهم بشعائر الدين الإسلامي ولا بمقومات الأخلاق، مات قلندر يوسف في دمياط بمصر، والطريقة منتشرة في الهند، نشرها الشيخ قطب الدين العمري الجونبوري (أجهل عصره).
الكبروية: للشيخ نجم الدين أبي الجناب أحمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الكبرى، أشهر صوفية الفرس، ولد وعاش في مدينة (خيوة) من أعمال خوارزم، مات فيها سنة 618 هـ أو قبلها بقليل، ويقال: إنه أخذ التصوف عن روز بهان(1) في مصر، لكني أظنه تخرج في القادرية بأحد تلاميذ عبد القادر.
الجِشْتية: نسبة إلى قرية (جشت) في هراة، (في الشمال الغربي من أفغانستان)، مؤسسها أبو إسحاق الدمشقي الجشتي، وهو من أحياء العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري، ولعله أدرك بعض الأولى من القرن السابع، وهي منتشرة في الهند، نشرها هناك خواجة معين الدين حسن السنجري الأجميري، مات في أجمير سنة 620 هـ أو 627هـ أو 634 هـ، وقبره محجة للمسلمين والهندوس على السواء، وقد كان لبعض أتباعها دور في نشر الإسلام بين الهندوس، ويقول مؤلف (الثقافة الإسلامية) في الهند: إنها أول طريقة أخذها أهل الهند.
اليونسية: نسبة إلى يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني البخاري، لا شيخ له، مات سنة 619 هـ في قرية (القنية) من أعمال (داريا) قرب دمشق، وهي غير اليونسية الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة، وغير اليونسية، الفرقة المرجئية.
__________
(1) يختلف اسمه من مرجع إلى آخر، فقد ورد: (روز بهار)،، (روز بهان)،، (روز نهار)،، (زون بهار)، ولم يساعد الكشف على معرفة الصحيح منها.(78/335)
السهروردية: نسبة إلى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي البغدادي، مات في بغداد سنة 632 هـ.
البابائية أو (البابية): نسبة إلى بابا إسحاق الكفرسوذي (من كفرسوت بنواحي حلب) التركماني، وقيل: نسبة إلى بابا إلياس، أو إليهما معاً باعتبارهما شريكين، وقد بدأت شهرة (بابا) في بلاد الروم (تركيا) سنة 628 هـ. قُتل بابا إسحاق سنة 638 هـ، قتله السلطان غياث الدين كيخسرو الثاني السلجوقي، وعفا عن بابا إلياس، وهي غير البابية التي أنجبت البهائية.
الأكبرية أو (العربية) أو (الحاتمية): نسبة إلى الشيخ الأكبر...ابن عربي الحاتمي، أندلسي من مرسية، طاف البلاد، واستقر في دمشق، ومات فيها سنة (638هـ)، تخرج بالعريفية، ويعتبره الإسماعيلية من أعلامهم.
الشوذية: مؤسسها أبو عبد الله الشوذي الإشبيلي المعروف بـ(الحلوي) توفي على الأرجح مع مطلع القرن السابع الهجري في تلمسان، وفي الشوذية تخرج ابن سبعين.
الحريرية: نسبة إلى علي بن أبي الحسن بن منصور الحريري، مات في (بُسر) من حوران سنة (645هـ)، وقد اضمحلت الآن.
البكتاشية: نسبة إلى حاجي بكتاش، محمد بن إبراهيم بن موسى الخراساني، من أعوان بابا إلياس، نزح من خراسان إلى تركيا ومات في نوشهر حوالي منتصف القرن السابع الهجري، منتشرة في تركيا وشرقي أوروبا ومصر، وغلو التشيع الاثني عشري واضح فيها.
الشاذلية: مؤسسها أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، مغربي، رحل إلى تونس وسكن فيها في قرية (شاذلة)، ثم انتقل إلى مصر، ومات فيها سنة 656 هـ في صحراء عيذاب وهو في طريقه إلى الحج، وكان كُف بصره، وفي بعض كتب الرفاعية أن الشاذلية فرع من الرفاعية. (والشاذلي مثل غيره من الصوفية من سلالة فاطمة الزهراء).(78/336)
الأحمدية أو (السطوحية): نسبة إلى أحمد البدوي، من المغرب، هاجر أبوه إلى مكة، وهاجر هو منها إلى مصر بعد أن مر على العراق، وزار أضرحتها، أقام في مدينة طندتا (طنطا) ومات فيها سنة (675هـ)، وسميت السطوحية لأنه كان يقيم على السطح بصورة دائمة، ويقولون: إنه كان لا يصلي، وهو (مثل غيره من الصوفية) من سلالة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
العلوية: مؤسسها الأستاذ الأعظم، محمد بن علي بن محمد...باعلوي، ولد في مدينة تريم بحضرموت، ومات فيها سنة (653هـ).
العلية السعدية: نسبة إلى سعد الدين الجباوي (من قرية جبا في الجولان)، ابن يونس الشيباني، مات حسب أعلام الزركلي سنة (621هـ)، والظن أنه أدرك النصف الثاني من القرن السابع.
الأدهمية: نسبة إلى الشيخ أدهم؟ مدفون في القدس، ولعله من أحياء العقود الأخيرة من القرن السابع أو الأولى من الثامن الهجري.
البرهامية أو (الدسوقية) مؤسسها إبراهيم الدسوقي، من المغرب، مات في مصر سنة (676هـ).
السبعينية: نسبة إلى ابن سبعين، أندلسي، انتقل إلى مكة ومات فيها (يقال: منتحراً) سنة (667هـ) أو (668هـ) أو (669هـ). وأتباعها يسمون (الليسية) لأن ذكرهم كان: (ليس إلا الله).
الششترية: نسبة إلى أبي الحسن علي النميري الششتري، تلميذ ابن سبعين، أندلسي، مات في مصر (دمياط)، سنة (668هـ).
السنية السعدية: أسسها سعد الدين محمد بن المؤيد...بن حمويه، شيعي(1)، سكن سفح قاسيون في دمشق، ثم رجع إلى بلده الأصلي خراسان، انتشرت طريقته في الشام وخراسان بين السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وسموه: (يسعى العجم) إشارة إلى الآية الكريمة: ((وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى)) [القصص:20]، مات في خراسان سنة (650هـ)، ويسمونه أيضاً: سعد الدين الحموي، تخرج في الطريقة الأكبرية بالشيخ الأكبر نفسه.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:136).(78/337)
المولوية أو (الجلالية): نسبة إلى المولى جلال الدين محمد بن محمد بن الحسين الرومي، بلخي، هاجر وهو صغير مع أبيه إلى سيواس وغيرها؛ حتى استقر في قونية (عاصمة السلاجقة) في تركيا، زار دمشق واتصل بابن عربي وتلاميذه، ومنهم سعد الدين الحموي والقونوي، وفي قونية وصل إلى مقام الفرق الثاني على يد شمس تبريز محمد بن علي بن ملك داد (لعله إسماعيلي)، مات جلال الدين سنة (672هـ).
النعمانية: نسبة إلى أبي عبد الله، شمس الدين محمد بن موسى بن النعمان، مغربي، قدم الإسكندرية شاباً ومات فيها سنة (683هـ).
المسلمية: شيخها حسن بن مسلم، مصري، مات في القاهرة سنة (764هـ).
المنايفية: شيخها رمضان الأشعث، مات في مصر في القرن الثامن؟
الوفائية: نسبة إلى محمد وفا بن محمد بن محمد النجم، ولد في الإسكندرية، ثم رحل إلى القاهرة، ومات فيها سنة (765هـ)، ومحمد وفا معدود من رجال السلسلة الشاذلية.
الهمدانية: نسبة إلى علي بن الشهاب الهمداني، فارسي، مات سنة (786هـ)، تخرج في الكبروية، ولعل اهتمامه بعبد القادر الجيلاني كان عن طريقها، وللهمدانية دور في نشر التشيع في إيران.
الركنية: نسبة إلى ركن الدين، أبو المكارم، علاء الدولة السمناني، من قرية سمنان في خراسان، مات سنة (736هـ)، تخرج في الكبروية، وكان يعارض بشدة التصريح بوحدة الوجود.(78/338)
النقشبندية: أسسها بهاء الدين محمد بن محمد البخاري على صورة ثورة صوفية ألغت كثيراً من تقاليد التصوف، من ذكر وخلوة وكرامات، وألغت بشكل خاص خرافة السلسلة الصوفية التي كانوا يرفعونها إلى علي بن أبي طالب، حيث يقول بهاء الدين: لا تصل سلسلة أحد موضعاً معيناً)، ويقول: لم تصل إلى المتأخرين طريقة من أحد المشايخ، ولكن تلاميذه عادوا فجعلوا لطريقتهم سلسلة رفعوها إلى الجنيد، وجعلوه يكلمهم ويوجههم، مات بهاء الدين سنة (791هـ)، وقد تحولوا عن الجنيد فيما بعد، ففي كتاب: (تنوير القلوب) مثلاً، يجعلون سلسلتهم تمر بأبي يزيد البسطامي حتى تصل إلى أبي بكر الصديق، كما عادوا أيضاً إلى الخلوة، وإلى الرقص أحياناً، وإلى بقية الصوفيات، والطريقة من الجالسة الصامتة مع شذوذ نادر.
الحروفية: أسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الإستراباذي، شيعي، كان يتنقل بين مدن فارس، قتل سنة (804هـ)، وسميت الحروفية لاعتنائهم الزائد بالحروف وأسرارها على طريقة الأوفاق والطلاسم، والزايرجة واستنطاق الحروف والتنجيم، وقد اندمجت الحروفية فيما بعد بالبكتاشية وطورتها، (كان الخليفة الثاني لفضل الله يسمى: علي الأعلى).
الصفوية: نسبة إلى صفي الدين، إسحاق بن جبرائيل -والظاهر أنه تركي- العلوي -الحسني أو الحسيني-، توفي في أردبيل سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ التصوف عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني لعلها الطريقة القادرية، تشيع هو أو ابنه صدر الدين موسى (مات سنة 794 هـ)، كان أتباعه من السنة الذين انقلبوا إلى شيعة بسبب شيوخهم صفي الدين وأولاده وأحفاده (المؤلهين)، وكلهم من شمالي إيران، وقد قويت طريقته وكثر أتباعها في زمن خلفائه حتى استطاع أحد أحفاده (إسماعيل بن حيدر) أن يتملك بهم على إيران سنة (905هـ).(78/339)
والطرق الأربع: الهمدانية، والسنية السعدية، والحروفية، والصفوية، هي التي بدأت العمل على نشر التشيع في إيران، وقد ذابت السنية السعدية والحروفية، بينما تابعت الصفوية عملها حتى تحولت إلى ملك، ثم إلى فرقة جديدة أضيفت إلى الفرق الإسلامية هي (القيزيلباشية).
النوربخشية: نسبة إلى محمد بن عبد الله الملقب (نور بخش) أي واهب الأنوار، هاجر أبوه من الأحساء، وسكن في بلدة (قاين)، وانتسب أولاً إلى الطريقة الهمدانية، ثم أكد نسبته إلى علي بن أبي طالب عن طريق الكشف، فعرف أنه من سلالة موسى الكاظم، كما عرف عن طريق الكشف أنه المهدي، وساعده على ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فأصبح (أبو القاسم محمد بن عبد الله)(1)، وكان يصرح علناً أن حركته ترمي إلى الجمع بين التصوف والتشيع(2)، والملاحظ أنه شيعي، لكنه ادعى المهدوية حسب النصوص السنية، والطريقة الآن شيعية كلها، وقد ساعدت كثيراً جداً على انتشار التشيع في إيران والهند، مات نوربخش سنة 869 هـ(3) في الري. وفي أواسط القرن العاشر هرب شيخ النوربخشية (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) مع جمع من أتباعه إلى الهند حيث نشروا التشيع هناك مع الطريقة.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص:286).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، فصل محمد بن عبد الله الملقب بنور بخش، وهو نقلاً عن نفحات الأنس، (ص:286).
(3) الصوفية ببن الأمس واليوم، (ص:137).(78/340)
النعمتللاهية: نسبة إلى نعمة الله الولي العلوي الحلبي، ساح ولقي عبد الله اليافعي، ثم استقر في ماهان (من أعمال كرمان)، وكان مريدوه يسجدون له، ويرون أنه المعني بالآية: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) [النحل:83]، وقد صارت الطريقة كلها شيعية بعد أن كان مؤسسها سنياً حنفياً ميالاً إلى التشيع، تخرج بالشاذلية، مات سنة 834 هـ، وعمره قريب من مائة سنة، وانتشرت النعمتللاهية في إيران والهند، وهي أوسع الطرق انتشاراً في إيران، وقد ساعدت كثيراً على انتشار التشيع هناك.
المشعشعية: مؤسسها محمد بن فلاح بن هبة الله، وهو كغيره من الأولياء، من سلالة فاطمة الزهراء، رضي الله عنها، ولعله في الأصل درزي من وادي التيم، تصوف وتفقه في مدينة الحلة بعلوم الشيعة الإثني عشرية على يد أحمد بن فهد الحلي، وتزوج ابنته، ثم تنقل حتى وصل إلى بادية خوزستان، حيث أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر (مهدي السنة)، حصلت على يده خوارق كثيرة كثر بسببها أتباعه، وكلهم من السنة الذين تحولوا إلى مذهب شيخهم المؤله الشيعي، وكان يسمي خوارقه (التشعشع)، وكان يقطع الطرق، وينهب الحجاج، امتلك الأهواز والحويزة (العاصمة)، وأكثر بلاد خوزستان، مات سنة 866 هـ.
الشطارية: نسبة إلى عبد الله شطار الخراساني، مات سنة 832 هـ في مدينة ماندو في الهند الوسطى، وقد كانت في القرن العاشر طريقة الهند الرئيسية، أدخلت اليوغا في رياضتها، واهتمت كثيراً بالسيمياء (السحر).
المدارية: أسسها بديع الدين مدار المكنيوري (الهند)، مات سنة 844 هـ، كان أتباعها من أهل الوحدة المطلقة، أي يصرحون بوحدة الوجود، ومن أهل التجريد الظاهري، يكتفون بستر العورة الظاهرة، ويجترئون على مناهي الشرع.(78/341)
العيدروسية: نسبة إلى عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن العيدروس، من مدينة تريم في حضرموت، مات فيها سنة 865 هـ، وقد تخرج في العلوية، وهي منتشرة أكثر شيء في الهند وحضرموت.
الشابية: نسبة إلى أحمد بن مخلوف الشابي، تونسي، مات في القيروان سنة 887 هـ، وهي فرع من الشاذلية.
الجزولية: نسبة إلى محمد بن عبد الرحمن...بن سليمان الجزولي السملالي، مؤلف: (دلائل الخيرات)، مات سنة 869 أو 870 هـ في المغرب، وجزولة هي إحدى قبائل البربر، ولكنه مع ذلك من سلالة فاطمة الزهراء.
الزرّوقية: نسبة إلى أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنوي الفاسي، المعروف بزروق، يقول عنه أبو الفيض المنوفي في جمهرة الأولياء: ولد يوم الخميس/ 12 محرم / عام 840 هـ، وعاش (63 سنة)، ومات سنة 899 هـ(1)، وقد تخرج في الشاذلية.
العيساوية: نسبة إلى سيدي محمد بن عيسى، من بلاد السوس (المغرب)، تخرج في الطريقة الجزولية، مات في (مكناسة الزيتون) سنة 933 هـ، ويظهر أنها والجزولية فرعان من الرفاعية، لأنهما تعتمدان الطبول وضرب الشيش والخناجر وأكل الزجاج والحيات، وفيهما كثير من المنكرات - شأن كل الطرق - لكن محموداً أبا الفيض المنوفي يجعل الجزولية فرعاً من الشاذلية.
الكَنكَوهية: نسبة إلى الشيخ عبد القدوس الكَنكَوهي، هندي، كان يصرح بوحدة الوجود ويدعو إليها بقوة، وهي فرع من الصابرية الجشتية، مات الكَنكَوهي سنة 933هـ.
الجهنجهانوية: نسبة إلى عبد الرزاق الجهنجهانوي، هندي، مات سنة 949 هـ، مزج بين القادرية والجشتية، وكان عالماً معروفاً، ويدعو إلى وحدة الوجود متحمساً لها ولمحيي الدين بن عربي.
__________
(1) الصحيح أنه ولد عام (846هـ)، وعاش (54 عاماً)، ومات سنة (899هـ).(78/342)
المهدوية: مؤسسها (المهدي المنتظر) محمد بن يوسف الجنبوري، من جونبور في الهند، ومن أحياء القرن التاسع وأوائل العاشر الهجريين، توفي في خراسان، أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وانتشرت طريقته في كجرات والدكن من بلاد الهند، وقد تحولت إلى فرقة من الفرق المنحرفة، ويجب أن لا نخلط بينها وبين المهدية السودانية التي جاءت بعدها بأربعة قرون.
الخلْوتية: نسبة إلى (أخي) محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي، أخذها عن محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، وكان يقول: طريقتي محمدية، مات سنة 986 هـ في مصر.
المجددية (أو الأحمدية): نسبة إلى مجدد الألف الثاني أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي، من الهند، توفي سنة 1034 هـ/ 1625م، والطريقة فرع من الباقية التي هي فرع من النقشبندية، منتشرة في الهند وفي أكثر بلاد المسلمين، ولعلها غير موجودة في شمال إفريقية.
البيرامية: نسبة إلى إبراهيم (بل بيرم) بن تيمورخان، من بوسنة في البلقان، طاف البلاد، وله في كل بلد اسم، فاسمه في ديار الروم علي، وفي مكة حسن، وفي المدينة محمد، استقر في مصر، ومات فيها سنة 1026هـ.
الوزانية: نسبة إلى عبد الله بن إبراهيم بن موسى اليَمْلَحي المصمودي الوزاني، نسبة إلى بلدة وزان في المغرب، مات سنة 1089هـ، الموافقة لـ 1678م.
الذهبية: نسبة إلى آقا سيد محمد القريشي الذهبي، فارسي، ولعله من أهل النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، والطريقة منتشرة بين الشيعة في إيران والهند، وهي فرع من النعمتللاهية.
الدرقاوية: نسبة إلى العربي أو (محمد العربي) بن أحمد...الدرقاوي، مغربي مات سنة (1239هـ)، وهي فرع من الشاذلية.(78/343)
الولي اللاهية: نسبة لولي الله، أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة (1176هـ-1763م)، تخرج بالطريقة الأحسنية التي هي فرع من الطريقة الباقية، التي هي بدورها فرع من النقشبندية، له دور هام في نشر علم الحديث في الهند، ولعل هذا ناتج عن تأثره بدعوة محمد بن عبد الوهاب، والطريقة منتشرة في الهند.
المحمدية الأحسنية: مؤسسها أحمد بن عرفان البريلوي الشهيد، قاد جهاداً إسلامياً في محاربة الاستعمار، لكن صوفيي الهند خذلوه، لأنه- مع تصوفه- كان يقول بالنهج السلفي، قتل مجاهداً سنة 1246هـ-1831م، وطريقته فرع من الأحسنية (سيرد ذكرها) ولعله تخرج بالولي اللاهية.
الرحمانية: فرع من الخلوتية، تنسب في المغرب إلى محمد بن عبد الرحمن بوقبرين، مات في تونس سنة (1028هـ)، وينسبونها في بلاد الشام إلى عبد الرحمن الشريف، مات سنة (1305هـ).
الإدريسية: أسسها أحمد بن إدريس، مغربي من الأدارسة، تجول في البلاد، واستقر في اليمن، طريقته محمدية، أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، مات في بلدة (صبية) في تهامة عسير سنة 1253 هـ، وطبعاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالكشف.
الرشيدية: نسبة إلى إبراهيم الرشيد، تلميذ أحمد بن إدريس، سار على نفس طريقته، وهو سوداني، تنقل، ومات في مكة سنة 1291هـ، ويجب أن لا نخلطها مع الرشيدية إحدى فرق الخوارج.
التجانية: مؤسسها أحمد التجاني، أخذ الطريقة عن محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة في اليقظة لا في المنام، مات في المغرب سنة 1230 هـ، وقد كان الاستعمار الفرنسي يشجع انتشارها في البلاد الإسلامية التي يحتلها. تسلك أحمد التجاني في أول أمره في الخلوتية.
السنوسية: أسسها محمد بن علي السنوسي، تنقل، ومات في جغبوب (ليبيا) سنة 1276 هـ/ 1859م، وكانت ولادته في مستغانم (الجزائر)، وفي فترة ما كانت السنوسية شبيهة بالحزب السياسي ولها دور في محاربة الاستعمار.(78/344)
المدنية: نسبة إلى محمد بن حمزة بن ظافر المدني، خرج من المدينة المنورة واستقر في المغرب الأقصى، وكان مبدأ ظهور طريقته عام 1240 هـ، وهي فرع من الشاذلية.
الأوَيْسِيَّة: ينسبونها - زوراً - إلى أويس القرني (وهذا بدهياً غير صحيح)، ظهر أويس في خلافة عمر بن الخطاب، توفي سنة 37 هـ ترجيحاً، وفي السلسلة الأويسية كثير من التخليط، فهم يجعلون من شيوخ سلسلتهم: ابن خفيف، والكازروني، والكبرى، ونوربخش، ولا يستبعد أن يكون مؤسسها (جلال الدين علي أبو الفضل عنقا)، توفي في طهران سنة 1293 هـ، أو شيخه (عبد القادر جهرمي)، مات سنة 1262 هـ، وإن صعدت فلا تبعد.
الميرغنية: نسبة إلى محمد عثمان الميرغني بن محمد أبي بكر بن عبد المحجوب، من الطائف، انتقل إلى مصر، ثم إلى السودان، واستقر في (الخاتمية) جنوب (كسلا)، ومات فيها سنة 1268 هـ، وهو من تلاميذ أحمد بن إدريس.
المهدية: نسبة إلى (المهدي المنتظر) محمد بن أحمد بن عبد الله، من السودان، تلقب بالمهدي المنتظر سنة 1298 هـ، واستطاع السيطرة على السودان، توفي بالوباء سنة 1302، ويعرف أتباعه أيضاً بالدراويش، وقد أخذت في فترة ما شكل الحزب السياسي، وهي غير المهدوية الهندية المار ذكرها.
اليَشْرطية: أسسها علي اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا في فلسطين ومات فيها سنة 1316 هـ، وهي فرع من الشاذلية، ويتحدث الناس عن منكر فيها يسمونه: التنوير، وقد انتسب إليها السلطان عبد الحميد قبل انهياره بمدة وجيزة، على يد محمود أبي الشامات (دمشقي).
المدانية: نسبة إلى محمد المداني القصيبي التونسي، من أحياء العقود الوسطى من القرن الرابع عشر الهجري، وهي منتشرة في تونس وما حولها، وهناك من يتهم المداني بالتعامل مع الاستعمار الفرنسي.
الكسْنَزانية: نسبة إلى عبد الكريم الكسنزاني، عراقي، لعل وفاته كانت بعد عام 1360 هـ، وهي موجودة في العراق ولعلها فرع من القادرية.(78/345)
البريلوية: نسبة إلى أحمد رضا البريلوي، من مدينة بريلي في الهند في ولاية أتّرْبْراديش، كان يلقب نفسه (عبد المصطفى)، ويدعوه أتباعه دائماً (حضرة الأعلى)، وكان شديد سواد اللون، والبريلوية منتشرة في شبه القارة الهندية، والتشيع والانحراف واضحان فيها. مات حضرة الأعلى سنة 1340 هـ، وكان تخرجه في القادرية.
العلاوية: نسبة إلى أحمد بن مصطفى العلاوي من مستغانم في الجزائر، مات فيها سنة س 1353هـ.
الحصافية: نسبة إلى حسنين الحصافي، مصري، من أهل النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي فرع من الشاذلية.
المريدية: منتشرة في السنغال، مؤسسها (أحمد بنب)، سنغالي من أحياء عام (1926م).
الفيضية: شيخها محمود أبو الفيض المنوفي، مصري، أسس في عام 1927 م في القاهرة الكلية الصوفية التي بقيت حتى عام 1933 م. ولعله لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات؟ وهي فرع من الشاذلية.
الخليلية: نسبة إلى الحاج محمد أبي خليل، من الزقازيق في مصر، توفي بعد سنة 1945م، وهي فرع من الأحمدية.
الحتمية: فرع من الميرغنية، شيخها محمد سر الختم الميرغني من أحياء 1968م، منتشرة في السودان.
النورسية: نسبة إلى سعيد النورسي، أبرز المشايخ الذين لم يتعرضوا للتصفية في زمن مصطفى كمال، منتشرة في تركيا.
- إلى جانب هذه الطرق، طرق أخرى يسر الله سبحانه معرفة أسماء مؤسسيها، ولم يتهيأ لي معرفة أزمنتهم وأمكنتهم، وهي:
الجهرية: مؤسسها الخواجة أحمد السيوري!! منتشرة بين مسلمي الصين، حيث يجعلون مؤسسها الأول عمر بن الخطاب، وينسبونها في الوقت ذاته إلى (ماهولونج)، لعله من أحياء أوائل القرن العشرين الميلادي.
البرهانية: نسبة إلى الشيخ برهان، منتشرة في السودان ومصر، ويجب ألا نخلطها مع البرهانية الغزالية.
المشارعة: نسبة إلى أحمد بن موسى المشْرع اليمني؟
الخشنية: نسبة إلى قطب الدين الخشني؟ وأظنها تصحيفاً من (الجشتية).(78/346)
النورية: نسبة إلى نور الدين الإسفراييني، وهي غير النورية القديمة المنسوبة لأبي الحسين النوري.
الوفائية: نسبة إلى أبي الوفا لعله العراقي (تاج العارفين) من أهل النصف الأول من القرن السادس؟ إن كان ذلك فهي فرع من الصديقية، وهي غير الوفائية المنسوبة إلى محمد ولا الشاذلي المصري.
العِشقية: نسبة إلى أبي يزيد العشقي، لعلها أصل للشطارية، أو لعلها فرع منها.
الغوثية: نسبة إلى غوث الله.
العمرية: لعلها نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه! وأول من دخل بالخرقة العمرية إلى الشام هو عقيل المنبجي، ويسمونه: (الطيار)، لأنه انتقل من قريته في المشرق إلى منبج في شمال الشام طائراً في الهواء. ولعل وجوده في منبج كان في العقود الوسطى من القرن السادس الهجري.
الهوازنية: أظنها نسبة إلى عبد الكريم بن هوازن، فإن كان ذلك فهي (القشيرية).
العفيفية: شيخها عفيفي أحمد الساكت، مصري، من أحياء 1968م، وهي فرع من طريقة تسمى: الهاشمية، وهي غير العفيفية الشاذلية.
القادرية: شيخها عبد القادر القادري، مصري، وهي فرع من طريقة اسمها (القاسمية)، وغير القادرية الجيلانية.
الصاوية: لعلها نسبة إلى أحمد الصاوي، فتكون فرعاً من الخلوتية.
الدمرداشية: لعلها نسبة إلى عبد الرحيم مصطفى الدمرداش، مصري، قريب.
العزازية: شيخها إبراهيم العزاوي، (ولعلها العزاوية)، مصري من أحياء 1968م.
الحبيبية: شيخها محمد عبد الباقي الحبيبي، مصري، من أحياء 1968م.
المغازية: شيخها أحمد أبو الفتح المغازي، مصري، من أحياء 1968م.
الخضيرية: شيخها محمد نور الخضيري، مصري، من أحياء 1968م.
المروانية: شيخها محمد يوسف مروان، مصري، من أحياء 1968م.
الطرق الست الأخيرة، ليس من الضروري أن يكون مؤسسوها هم المشايخ المذكورة أسماؤهم، فقد يكون بعضهم، أو كلهم، ورثوا مشيختها عن آبائهم أو أجدادهم.(78/347)
أهل الحق: طريقة متفرعة عن الصفوية وفيها غلوها، منتشرة في القرى العراقية والإيرانية الواقعة بين السليمانية وخانقين، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية. وطرق متفرعة عن الجشتية منتشرة في الهند وفي غيرها (أجهل عصر مؤسسيها):
النظامية: نسبة إلى نظام الدين البدايوني، وهي فرع من الجشتية.
الصابرية: نسبة إلى علاء الدين بن أحمد الصابر، وهي فرع من الجشتية من أهل الوحدة المطلقة.
الكَيسودرازية: منسوبة إلى السيد محمد بن يوسف الحسيني الدهلوي المدفون بكَلبركَة، وهي فرع من النظامية.
الحسامية: شيخها الشيخ حسام الدين المانكبوري، وهي فرع من النظامية أيضاً.
الصفوية المينائية: شيخها صفي الدين السائنيوري وهي فرع من النظامية أيضاً.
الفخرية: شيخها مولانا فخر الدين الدهلوي وهي فرع من النظامية.
وطرق متفرعة عن النقشبندية ومنتشرة في الهند وفي غيرها، أجهل، عصر مؤسسيها:
الباقية: شيخها رضي الدين أبو المؤيد عبد الباقي بن عبد السلام النقشبندي الدهلوي وقد تفرعت عنها المجددية المار ذكرها، ومنها تشعبت الطرق التالية:
الزبيرية: شيخها زبير بن أبي العلا بن محمد نقشبند، فرع من المجددية.
المظهرية: للشيخ شمس الدين حبيب الله جانجانان العلوي الدهلوي، فرع من المجددية.
الأحسنية: شيخها آدم بن إسماعيل البنوري، وهي فرع من الباقية، والولي اللاهية، والمحمدية الأحسنية فرعان منها.
العَلَمية: للشيخ علم الله بن فضيل البريلوي، فرع من الأحسنية.
* وطرق متفرعة عن النقشبندية الممزوجة بالجشتية، منتشرة في الهند.
العلائية: للأمير أبي العلاء بن أبي الوفاء الحسيني النقشبندي الأكبرآبادي، وهي مزج للطريقة النقشبندية ببعض أشغال الطريقة الجشتية.
المحمدية العلائية: شيخها محمد بن أبي سعيد الكالْبوي، فرع من العلائية.
المنعمية: للشيخ منعم بن عبد الكريم البهاري، فرع من العلائية.(78/348)
الأفضلية: للشيخ محمد أفضل بن عبد الرحمن العباسي الإله آبادي، فرع من العلائية.
* وطرق متفرعة عن الكبروية منتشرة في الهند.
اليعقوبية: للشيخ يعقوب بن الحسن الصرفي الكشميري، وهي فرع من الهمدانية التي مر ذكرها والتي هي بدورها فرع من الكبروية.
الفردوسية: شيخها الإمام شرف الدين أحمد بن يحيى المنيري، تخرج في الكبروية.
* وطرق متفرعة عن الشاذلية، يمكن أن يكون مؤسسوها آباء أو أجداداً للمشايخ المذكورين وكلهم مصريون من أحياء 1968م.
القاوقجية: شيخها محمد رضا أبو الفتح القاوقجي.
الجوهرية: شيخها رفعت الجوهري.
المحمدية الشاذلية: شيخها محمد زكي إبراهيم، ويجب ألا نخلطها مع الطرق المحمدية الأخرى.
الإدريسية: شيخها الحسن الإدريسي، وهي غير الإدريسية التي تفرعت عنها الرشيدية.
العفيفية: شيخها محمد عبد الباقي العفيفي، وهي غير العفيفية الهاشمية، وكلتاهما منتشرتان في مصر.
العزمية: شيخها أحمد ماضي أبو العزائم، منتشرة في مصر، ويوجد في سورية أيضاً طريقة (العزمية) ولا أعرف إن كانت نفس هذه الطريقة المتفرعة عن الشاذلية، أم غيرها؟
العَروسية: لعلها نسبة إلى مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر بين عامي 1860م - 1870م.
الناصرية، القاسمية، السالمية، الهاشمية المدنية، الحامدية.
* وطرق أخرى متفرعة عن الأحمدية (السطوحية)، مشايخها المذكورون مصريون من أحياء 1968م، ويمكن أن يكونوا ورثوا المشيخة عن آبائهم أو أجدادهم.
المنايفة: نسبة إلى عبد الله فؤاد المنوفي.
الفرغَلية: نسبة إلى أحمد صبري الفرغلي.
الشعيبية: نسبة إلى محمد حسن الشعيبي.
الشناوية: نسبة إلى حسن محمد سعيد الشناوي.
السالمية: وهي غير السالمية الشاذلية، وهما غير السالمية القديمة التي تخرج بها أبو طالب المكي.
الكناسية، الزاهدية، الإمبابية، المرازقة، الحلبية، التسقائية، البيومية.
* وطرق متفرعة عن الخلوتية (ولها نفس الملحوظات على سابقتها).(78/349)
المصلحية: شيخها عبد العزيز المصيلحي.
المسلمية: شيخها محمد حسن المسلمي، وهي غير المسلمية التي مرت قبل صفحات.
العلوانية: شيخها محمد محمود علوان.
الشبراوية: شيخها مصطفى عبد الخالق الشبراوي.
الطيفية: شيخها أحمد محمد طيف.
الغُنَيْميَّة: كنية مؤسسها (الغُنيمي)، لا أعرف اسمه، لكن له ذرية من أحفاده هاجروا إلى دمشق، وقد هداهم الله له المنة، فنبذوا باطل الصوفية، وصار منهم دعاة إلى الحق والهدى.
البهوتية: فرع من الخلوتية.
* وطرق متفرعة عن البرهامية (ولها نفس الملحوظات على سابقاتها):
الشهاوية: شيخها أبو المجد الشهاوي.
الزنوبية: فرع من البرهامية.
* وطرق لم أستطع العثور على أكثر من أسمائها (إلا الشيء القليل):
الخاكْساوية: فرع من النعمتللاهية، منتشرة بين الشيعة في إيران والهند.
المغربية: لعلها فرع من الرحمانية المغربية (الخلوتية)، ولعلها هي نفسها؟
الخوْفية أو (الخفية): أتباعها لا يجهرون بأذكارهم (الجالسة الصامتة)، منتشرة بين مسلمي الصين، وينسبونها هناك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
البكرية: لعلها نسبة إلى أبي بكر بن هواري، فتكون هي (الصديقية).
الدرويشية: منتشرة في شمال إفريقية، ولعلها المهدية.
التسعينية: منتشرة في السودان.
البرهومية: منتشرة في السودان ومصر.
النُّورانية: منتشرة في الهند.
الغُرابية: وهي غير الغرابية، الفرقة الشيعية التي ذابت فيما بعد في المتاولة.
الدندراوية: منتشرة في العراق.
الديوبندية: نسبة إلى مدينة ديوبند في الهند.
القاسمية: هي غير القاسمية الشاذلية، وكلتاهما منتشرتان في مصر، ومنها تفرعت القادرية (غير الجيلانية).
الهاشمية: منها تفرعت العفيفية ولا أعرف إن كانت هي نفس الهاشمية المدنية، منتشرة في مصر.
الأحمدية الكتانية: منتشرة في المغرب.
الشيبانية: فرع من التغلبية الآتي ذكرها.
العزمية: منتشرة في سورية، ولا أعرف إن كانت هي نفس (العزمية الشاذلية) أم غيرها.(78/350)
الكاكائية: منتشرة بين الأكراد في شمال العراق، ولعلها نسبة إلى اسم قبيلة، أو بمعنى (الأخوية).
الإبراهيمية: منتشرة في الأكراد شمال العراق، وهي الآن أقرب إلى أن تكون فرقة دينية، ومثلها: الشَّبَك، والماولية، والباجوان، وكلها منبثقة عن تفاعل بين البكتاشية والقيزلباشية.
الجنابذية: منتشرة في إيران، ولعلها حديثة العهد.
الكونايادية، الصفائية، الأوجاغية: هذه الطرق الثلاث موجودة في شمال إيران الغربي، وشمال العراق، وفي الأناضول الشرقي.
السعيدية، التغلبية، الخواطرية، الحيدرية، الخزنوية، اليسوية.
كما يتحدثون عن الطريقة (المحمدية) وهي أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بذاته، ويلقنها للشيخ العارف، في اليقظة لا في المنام، (أي: يلقنه أورادها)، وطبعاً يرونه بالكشف.
وممن قالوا عن أنفسهم: إنهم على الطريقة المحمدية: محمد الخلوتي، عبد الغني النابلسي الذي صنف فيها كتاب: (شرح الطريقة المحمدية)، أحمد بن إدريس، أحمد التجاني، وطبعاً هناك غيرهم.
هذا ما يسره الله له الحمد، مع العلم أن بعض هذه الطرق اندثرت أو ذابت في طرق نشأت على أنقاضها، وبدهي أن طرقاً كثيرة غيرها وجدت ولم يتهيأ لي الوقوف عليها، وخاصة ما كان في إندونيسيا، وماليزيا، وسريلانكا، وإفريقيا الوسطى والجنوبية، وفي روسيا.
وأذكر هنا أيضاً، أن هذه ليست طرقاً بالمعنى الصحيح، إنما هي تبعيات لمشايخ فقط، لذلك كان الصحيح أن تسمى الواحدة منها (المشيخة)، فيقال: المشيخة الرفاعية، والمشيخة القادرية، والمشيخة النقشبندية، والمشيخة السهروردية، والمشيخة البرهامية، والمشيخة الأحمدية، والمشيخة الشاذلية، والمشيخة الخلوتية...إلخ.(78/351)
وفي إيران يستعملون غالباً كلمة (مكتب)، أي: مدرسة، بدلاً من كلمة (طريقة). وهناك ملحوظة هامة جداً، وهي أن أكثر مؤسسي الطرق يجعلون نسبهم متصلاً بفاطمة الزهراء، ولهم في معرفة ذلك طريقان: الكشف والادعاء الجريء، والذين لا يفعلون ذلك قليلون بينهم.
كما يلاحظ أن هناك مركزين رئيسيين، كانت تنشأ فيهما الطرق الصوفية، ثم تنتشر منهما في بقية البلاد.
أ- مصر: وتأتي في الدرجة الأولى من حيث الكمية، وفي المرحلة الثانية تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من المغرب.
ب- العراق: وتأتي في الدرجة الثانية من حيث الكمية، وفي المرحلة الأولى تاريخياً، مع ملحوظة أن عدداً مرموقاً من مشايخها وفدوا إليها من فارس.
وطبعاً؛ سيل الطرق لا ينقطع، ففي كل يوم جديد.
وقد ظهرت مؤخراً طريقة جديدة في مصر اسمها: (العصبة الهاشمية والسدنة العلوية والساسة الحسينية الحسنية)، يقودها رجل من صعيد مصر يسميه أتباعه: (الإمام العربي)، وهو يعتزل الناس في صومعة، ويمرون عليه صفوفاً يسلمون عليه ويحدثونه، ويمنحهم البركات ويكشف لهم المخبوء، كل هذا من وراء ستار، فهم يسمعون صوته ولا يرون شكله، إلا المقربون.
أما المقامات؛ فلعل أفضل مكان توضع فيه هو لافتات دعائية تنصب على قارعات الطرق، ويوضع إلىجانبها عباراتهم التي وضعوها كتعاريف للصوفية.
مع ملاحظة هامة: وهي أن الذكر الإرهاقي عند متصوفة المسلمين هو الأساس، وقد يغني عن الرياضة.
الباب الثالث
الوصول
الفصل الأول
الأحوال والمقامات وتوابعها
تردد في أقوالهم وكتبهم كلمات: (الوصول والواصل والواصلون)، فما هو الوصول؟
يبدأ الوصول عادة بخرق العادة، ثم الجذبة، ثم المناظر الجذبية التي يسمونها: الكشف، وقد يصل بعضهم إلى الجذبة بدون المرور بخرق العادة.(78/352)
ولكنهم، في افتراءاتهم، يدعون أمام أهل الظاهر (أهل الشريعة)، أن غاية التصوف هو الوصول إلى ما يسمونه: (المقامات)، وكثيراً ما يؤكدون هذا في كتبهم، حتى خدع بذلك المخدوعون، بل وخدع به بعضهم، فأخذوا يمارسون وسائل شتى، ليتحققوا بما يتوهمونه من مقامات، فما هي هذه المقامات، وما هي الأحوال؟
التعريف نأخذه من كتاب: (تربيتنا الروحية) لسعيد حوى، وهو التعريف الذي استقر عليه أكثر الصوفية منذ مئات السنين، يقول:
يتحدث الصوفية عن شيء اسمه: (حال)، وعن شيء اسمه: (مقام)، ويعتبرون الحال هو مقدمة المقام، فمثلاً أول ما يبدأ الإنسان يشتغل بالذكر، يصل إلى طمأنينة مؤقتة للقلب لا تلبث أن تزول، فهذا حال فإذا تابع الإنسان الذكر وصل إلى طمأنينة دائمة للقلب، فهذا مقام...(1).
إذن..
الحال: هو ما يرد على القلب فجأة ودون تعمد، ثم يزول بسرعة، وهو أوائل المقام.
المقام: هو استمرار الحال واستقراره ودوامه بحيث يصبح صفة دائمة لصاحبه.
وهم يختلفون في المقامات- نوعها وعددها- اختلافاً كبيراً!
فهي عند الطوسي في (لمعه) سبعة: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا الذي هو آخر المقامات(2).
وهي عند أبي طالب المكي في (قوت القلوب) تسعة: التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة(3).
وهي عند أبي بكر الكلاباذي في (التعرف لمذهب أهل التصوف) غامضة، فهو يذكر المقام ويُعرفه تعريفاً ينقصه الوضوح: لكل مقام بدء ونهاية، وبينهما أحوال متفاوتة، ولكل مقام علمٌ، وإلى كل حال إشارة، ومع كل مقام إثبات ونفي...، حيث نرى أنه لم يكن للحال والمقام معنى واضح عنده، كما أنه يأتي بمَثَل على المقام (الإيمان والأمانة)، ولم أرهما عند غيره، إلا مقام الإيمان عند السهروردي.
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:191).
(2) اللمع، (ص:68 - 80).
(3) قوت القلوب: (1/178).(78/353)
وبعد صفحات يفتح الكلاباذي أبواباً للتوبة والزهد والصبر والفقر والتواضع والخوف والتقوى والإخلاص والشكر والتوكل والرضا واليقين والذكر والأنس والقرب والاتصال والمحبة، وعددها سبعة عشر، لكنه لم يُسمها (مقامات)، وإنما جعل لكل منها باباً مثل بقية أبواب الكتاب، وعليه نستطيع أن نقرر أن المقامات لم تكن واضحة المدلول عند الكلاباذي! ولم يكن يَعْرف ما هي!
والمقامات عند القشيري في (رسالته) غير واضحة كذلك، فبالرغم من أن تعريفه للمقام فيه شيء من الوضوح، لكن ماهية المقامات غير واضحة! فهو يورد أمثلة على النحو التالي: من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد..(1). من هذا النص نستطيع أن نقول: إن المقامات عند القشيري هي: القناعة، والتوكل، والتسليم، والتوبة، والإنابة، والورع، والزهد.
على أنه بعد صفحات، يورد أبواباً مثل بقية أبواب الكتاب للتوبة، والمجاهدة، (والخلوة والعزلة)، والتقوى، والورع، والزهد، (والصمت) والخوف، والرجاء، والحزن، (والجوع وترك الشهوة)، والخشوع، والتواضع، ومخالفة النفس، (والحسد والغيبة)، والقناعة، والتوكل، والشكر، واليقين، والصبر، والمراقبة، والرضا، والعبودية، والإرادة، والاستقامة، والإخلاص، والصدق، والحياء، (والحرية والذكر والفتوة)، وعددها ثلاثون.
ويقول عن التوبة (في باب التوبة): إنها أول المقامات، كما يخلط معها (الحسد والغيبة)، وفي هذا الكثير من الغرابة.
أما الغزالي في إحيائه، فالمقامات عنده مثيرة للاستنكار والتساؤلات!!
فهو يقسِّم إحياءه إلى أربعة أقسام أو (أرباع)، فيجعل الربع الأول للعبادات، ويجعل الربع الرابع (الأخير) للمقامات التي يسميها (المنجيات).
ومن هنا ينبعث الاستنكار والتساؤل!!
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:32).(78/354)
لأن من بدهيات الإسلام، وما يُعرف من الدين بالضرورة، أن العبادات هي المنجيات، فنسأل هذا الذي سموه (حجة الإسلام) نسأله: كيف يجعل المنجيات غير العبادات؟! وما هو حكم الإسلام في هذا؟
في واقع الأمر، هذا التقسيم هو عقيدة المتصوفة جميعاً، والدليل على ذلك تقديسهم لكتاب إحياء علوم الدين، وتواصيهم بقراءته وتعلمه وتعليمه، حتى قالوا: (بِعِ اللحيةَ واشتَرِ الإحيا)، وتقديسهم لمؤلفه وتعظيمهم له حتى سموه: (حجة الإسلام). ومقاماته هي: التوبة، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والفقر، والزهد، والتوحيد، والتوكل، والمحبة، والشوق، والأنس، والرضا، والنية أو (الإرادة)، والإخلاص، والصدق، والمراقبة، والمحاسبة، وعددها ثمانية عشر. هذه هي المنجيات عند حجة الإسلام!! ونعرف أن مثلها موجود في كل الوثنيات.
ننتقل إلى غيره، فنرى ابن سبعين في (بُد العارف) يقفز بالرقم عالياً، حيث يقول:
...والقسم الأول من القسم الأول(1) من التصوف، هو الذي أدركه رجال الرسالة القشيرية، واليه أشار ابن العريف في (محاسنه)، و(مفاتح المحقق)(2)، وهو مركب من طريق وسلوك ووصول وفناء عن الوصول، ولواحقه مائة وخمسون؛ كالصبر، والحلم، والعلم، وغير ذلك يطول ذكره، وهو مقام الغزالي، وجميع من تكلم في التصوف بالعلوم الصناعية، غير أنه لم يحققه على ما يجب(3).
- يحق لنا أن نتساءل أمام هذا النص: من أين أتى ابن سبعين بـ (العدد: مائة وخمسين)؟! لا نعرف. لعله كان عن طريق الكشف!!
على أن الملاحظ أنه لا يهتم (هو نفسه) بالمقامات، بل ويظهر من كلامه أنه ينتقد متصوفة المقامات، ويسمي تصوفهم: (التصوف بالعلوم الصناعية).
ومن الملاحظ أنه لا يجعلها من صميم التصوف، بل يسميها: (لواحق).
__________
(1) نسبة إلى تقسيم سابق لهذا الكلام.
(2) كتابان لابن العريف: (محاسن المجالس)، (مفاتح المحقق).
(3) بد العارف، (ص:128).(78/355)
كما أن من الملاحظ عند ابن سبعين أنه يصب اهتمامه على المجاهدة، وعلى بدئها بالاعتقاد بوحدة الوجود، والتركيز عليها، وهذا عكس طريقة رجال (الرسالة القشيرية) الذين يُعَرِّفون السالك بوحدة الوجود بعد الجذبة، أو بعد أن يقطع شوطاً كافياً بالمجاهدة.
والمقامات عند ابن البنا السرقسطي واحد وتسعون مقاماً أو أكثر. يقول:
ألقَوا إليه من صفات النفس ……ما كان فيها قبل ذا من لَبْس
وهي إذا أنكرتَها فَلْتعرف ……إحدى وتسعين وقيل: نيِّف(1)
يعني بقوله: (صفات النفس)، الصفات المذمومة التي يدعون أنهم يغيرونها بالصفات الحميدة، التي هي المقامات، ويقولون: إن كل صفة مذمومة يقابلها صفة محمودة، وبذلك تكون المقامات عند السرقسطي إحدى وتسعين ونيفاً.
والمقامات عند عمر السهروردي (إمام الوجود)، شيء آخر، يقول: ...وإني بمبلغ علمي وقدر وسعي وجهدي اعتبرتُ المقامات والأحوال، وثمرتها، فرأيتها بجميعها ثلاثة أشياء بعد صحة الإيمان...فصارت مع الإيمان أربعة(2) وهي: الإيمان، والتوبة، والزهد، والعبودية.
ويضيف: ثم يستعان على إتمام هذه الأربعة بأربعة أخرى، بها تمامها وقوامها...وهي: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، والاعتزال عن الناس(3)....
نلاحظ في قول السهروردي البغدادي ما يلي:
1- احتاجت المقامات والأحوال منه أن يبذل وسعه وجهده، بمبلغ علمه، ليعتبرها ويثمرها، وهذا يعني بوضوح أنها مطموسة المعالم، ومجهولة الآثار، لذلك احتاجت منه هذا الجهد ليعتبرها.
2- لم يفرق بين المقامات والأحوال، بل يظهر من قوله أنها عنده شيء واحد.
3- جعل الإيمان مقاماً، ولم أر أحداً شاركه هذه النظرة غير الكلاباذي.
__________
(1) من قصيدة (المباحث الأصلية).
(2) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/261).
(3) عوارف المعارف: (4/262).(78/356)
4- جعل قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام والاعتزال عن الناس مقامات! ولعل القارئ انتبه إلى أن هذه الأربعة هي عناصر الرياضة الصوفية: الصمت، والجوع، والسهر، والخلوة)، أي إن السهروردي جعل عناصر الرياضة الصوفية من المقامات! ولعله ينفرد بهذه النظرة.
- وعند ابن عجيبة هي: المحاسبة، والمراقبة، والمشاهدة، والتحقق بالفناء، والبقاء، وعين اليقين، وحق اليقين، وكذلك التوبة، والورع، والزهد، والتوكل، والرضا، والتسليم، فيكون عددها ثلاثة عشر مقاماً.
- وفي كتاب (الصوفية بن الأمس واليوم) يورد مؤلفه قولاً لأبي سعيد بن أبي الخير يجعل المقامات أربعين: النية، والإنابة،...وآخرها التحقيق، ثم النهاية، ثم التصوف. حيث نرى فيها مقامات يكاد ينفرد بها مثل: (مقام الجهد، والولاية، والوجد، والوصال، والكشف، والخدمة، والتفكر، والتجريد، والتفريد، والانبساط) كما نراه يخلط ما قبل الجذبة بما بعدها، بينما أكثر الآخرين يجعلون المقامات في الطريق إلى الجذبة (أي: قبلها).
- بينما نرى عبد الحليم محمود في كتابه (أبو مدين الغوث) يجعل المقامات خمسة فقط: التوبة، والورع، والزهد، والمحاسبة، والمراقبة.
وفي الطريقة القادرية يجعلون المقامات سبعة تختلف عما رأيناه، وهي: النفس الأمارة والنفس اللوامة، والنفس الملهمة، والنفس المطمئنة، والنفس الراضية، والنفس المرضية، والنفس الكاملة(1).
ويجعلون الأحوال صفات للمقامات: فالنفس الأمارة حالها الميل، واللوامة حالها المحبة، والملهمة حالها العشق، والمطمئنة حالها الوصلة، والراضية حالها الفناء، والمرضية حالها الحيرة، والكاملة حالها البقاء(2).
__________
(1) الفيوضات الربانية: (ص:37).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:37).(78/357)
- والمقامات عند عبد القادر عيسى اثنا عشر مقاماً، هي: التوبة، والمحاسبة، والخوف، والرجاء، والصدق، والإخلاص، والصبر، والورع، والزهد، والرضا، والتوكل، والشكر(1)، يذكرها في الصفحة الأولى من الباب الثالث من كتابه.
وبعد خمس صفحات يورد النص الآتي:
قال أبو بكر الكتاني وأبو الحسن الرملي رحمهما الله تعالى: سألنا أبا سعيد الخراز، فقلنا: أخبرنا عن أوائل الطريق إلى الله تعالى؟ فقال: التوبة، وذكر شرائطها، ثم ينقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف، ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين، ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين، ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقربين(2)...
أي: إن عبد القادر عيسى يثبت أن المقامات الخرازية، وعددها عشرة، تختلف عن مقاماته بالكم وبالكيف.
كما نرى أيضاً أن الخراز يذكر مقامات لم يقل بها الآخرون! فمقامات (الصالحين والمريدين والمطيعين والمحبين والمشتاقين...)، ما رأيناها فيما مر معنا من أقوالهم، ولعله ينفرد بها في طريقته.
- كما يلاحظ أن سعيد حوى أثبت مقاماً واحداً (الطمأنينة)، ولم أجده إلا في القادرية والعيدروسية.
في هذه النصوص كفاية، تجنباً للإطالة، ويتبين منها (ومن غيرها) ما يلي:
1- يختلفون في تعريف المقام والحال (وخاصة قرونهم الأولى).
2- يختلفون في عدد المقامات اختلافاً كبيراً.
3- يختلفون في ماهيتها (أي: ما هي المقامات؟) اختلافاً مثيراً للانتباه!
4- بعضهم لا يهتم بها، كابن سبعين (بل كلهم).
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:269).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:274).(78/358)
5- في واقع الأمر، ليست المقامات من أهداف التصوف، وليس لها دور أو شأن في الوصول إلى الغاية التي هي الجذبة، التي يذوقون فيها الألوهية ويستشعرون وحدة الوجود، وأقوالهم في هذا كثيرة جداً، رأينا بعضها في فصول سابقة، ونضيف إليها قولاً واحداً - تجنباً للإطالة- لعبد القادر عيسى، يقول:
فالانقطاع في الطريق مصيبة كبرى وخسران مبين، وسببه موافقة السالك لشهوات نفسه، وتطلعه للمقامات والكشوفات، وانحرافه عن مقصده الأسمى، فالسالك الصادق المخلص لا يطلب المقامات ولا يقصد المراتب والكرامات، إنما هي منازل يقطعها في طريقه إلى الغاية الكبرى دون انحراف أو التفات.
وكل مقام لا تقم فيه إنه ……حجاب فجد السير واستنجد العونا
فلا تلتفت في السير غيراً وكل ما ……سوى الله غير فاتخذ ذكره حصنا
ومهما ترى كل المراتب تجتلي ……عليك فحُل عنها فعن مثلها حُلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب ……فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى(1)
من كل ما تقدم، نستطيع أن نقرر مطمئنين، أن المقامات هي عناوين بلا مواضيع،
أو هي تنطعات دعائية، من تنطعات ذي النون المصري، ونرى ما يشبهها في الجينية والهندوكية والبوذية...
ومع ذلك فقد خُدع بها بعضهم وظنها واقعية! حيث نرى بعضهم يريد أن يصحح حاله في التوكل، وآخر في الصبر...إلخ، لكن الشيوخ كانوا ينبهونه إلى غلطه. وعلى كل حال، يجب أن نعرف أن عندهم مقامات حقيقية غير هذه، نعرفها من وصف القوم لأحوالهم ومشاهداتهم، وهي:
1- مقامان هما نتاج الطريقة، أي إن الطريقة (الإشراقية) تؤدي إليهما، وهما:
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:277، 278)، والأبيات من قصيدة للششتري.(78/359)
أ- مقام الاستخدار: يفقد فيه السالك القدرة على المحاكمة الصحيحة، والفهم المميز للأمور والأشياء، ويظهر عليه ما يُشبه الخبال، ويغدو قابلاً للتأثر بالمخدرات المعروفة (الحشيش والأفيون وزمرتهما) بكمية أقل من الكمية التي كان يتأثر بها عندما كان سليماً، وتقل هذه الكمية كلما زاد رسوخ هذا المقام في كيانه، ولذلك كان الاسم (الاستخدار) اسماً مناسباً لهذا المقام.
وفي هذا المقام يفقد السالك أيضاً اهتمامه بأي أمر آخر من أمور الدنيا والآخرة، ولا يبقى في نفسه من شاغل إلا الوصول إلى المقام الثاني (الجذبة).
ب- مقام الجذبة: ويسمونها أسماء كثيرة مثل: (الغيبة، والصعقة، والمحو، والفناء عن الخلق...)، ويريدون بالاسم (الجذبة) أن الله سبحانة يجذب بها السالك إليه، و(الغيبة) أي عن الإحساس بالموجودات، و(الصعقة) أخذوها من الآية الكريمة: ((وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)) [الأعراف:143]، ليوهموا أنفسهم ويوهموا الناس أن صعقة موسى صلوات الله عليه هي جذبة مثل جذباتهم، و(المحو) أي عن الشعور والإحساس، وهي تشبه الحالة التي تحصل لمتعاطي المخدرات شبهاً كاملاً، يكون فيها المجذوب نائماً مثل يقظان، أو يقظان مثل نائم، أو كما يصفه القشيري: إذا كان الغالب عليه المحو فلا علم ولا عقل ولا فهم ولا حس(1).
والجذبة هي الولاية، فكلمة الولي تعني الذي وصل إلى الجذبة، وكلمة الواصل أيضاً تعني الذي وصل إلى الجذبة.
وتبدأ الجذبة بصورة عامة بشكل (حال)، أي تكون سريعة الزوال، بطيئة المنال، ثم مع الدوام على ممارسة الرياضة، تصير (مقاماً)، أي تصير بطيئة الزوال سريعة المنال.
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).(78/360)
2- مقامان ناتجان عن توجيهات الشيخ وإيحاءاته، ويختصان بالرؤى الهلوسية (أحلام الجذبة) التي يراها المجذوب، ولولا الشيخ وإيحاءاته لكانت هذه الرؤى مثل رؤى الحشاش والأفيوني تماماً، ولذلك قالوا: من لا شيخ له فشيخه الشيطان، وقالوا: وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم فما نبتت أرض بغير فلاحة وهاذان المقامان هما:
أ- مقام الجمع، أو الفناء في الله، أو الحضور بالله، أو الوجود، أو الإحسان، أو الحرية (مقابلة مع العبودية)...الخ، تمتاز أحلام الجذبة عموماً، بالجرأة البعيدة، والقفز فوق الواقع، وتكون متناغمة كلها مع عواطف المجذوب وأمانيه ومعلوماته المختزنة، لذلك يعمل الشيخ على حقنه بعواطف وأماني جديدة تدور كلها حول رؤية الأنبياء والملائكة، ثم العروج إلى الله (جل وعلا)، ثم الفناء فيه، أي: التحقق بالألوهية، وهو مقام الجمع الذي تبدأ رؤاه بشكل (حال)، ثم تتطور حتى تصير (مقاماً)، وتعني كلمة (الجمع) أي جمع الخالق والمخلوق في وحدة واحدة.
وفي هذا المقام تنطلق العبارات المخيفة مثل: (أنا الله، سبحاني، لا إله إلا أنا...)، وما شابهها، وهي عبارات تقود قائلها إلى سيف الردة، وتدفع المسلمين للانتفاض على الصوفية والقضاء عليها، مهما كانت غفلتهم، لذلك يعمل الشيخ على إيصال المجذوب إلى مقام البقاء.
ب- مقام البقاء، أو صحو الجمع، أو الفرق الثاني، أو الفرق في الجمع، أو الجمع في التفرقة، أو الإطلاق، أو العبودة، (يجعلون في افتراءاتهم كلمة (عبد) في الآية: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء:1] أنها من العبودة).
يبدأ الشيخ بتدريب المريد على العودة إلى الإحساسات العادية والتمييز، ليعترف أمام الناس بالمخلوقية والعبودية مع تحققه بالألوهية، حيث تتحقق حكمتهم أو قانونهم: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً، وهم يفترون على الأنبياء أنهم كانوا في هذا المقام، وهو عندهم مقام الكمّل.(78/361)
3- مقام لا علاقة له بالطريقة ولا بالشيخ هو (جمع الجمع)، أو (البقاء في الله)، وقد يسميه بعضهم: (الإطلاق).
وهم يختلفون في تعريفه، فهو عند بعضهم الاستغراق في مقام البقاء، بحيث يصبح الواصل دائم الشعور بالألوهية، وأنه هو الله (جل وعلا)، بكل أسمائه وصفاته، وبنفس الوقت يرى نفسه ويرى الأشياء كما يراها الآخرون.
وهو عند بعضهم الآخر الغيبة الدائمة عن الإحساس، والجذبة المستمرة ليلاً ونهاراً بحيث يفقد الشعور، ومثل هذا يهمل كل شيء من أمور الدين وبعض أمور الدنيا، (مثل أحمد البدوي وغيره). ومنهم من يبقى عرياناً مكشوف العورة أمام الناس، ومنهم من يقبع في مكانٍ ما من الجبال أو البراري فاقد الوعي، (وكشف العورة حالة ملازمة). ومنهم من يأتي البهائم في الشوارع أمام الناس، ويؤولون له ذلك بأن سفينة في البحر على وشك الغرق وهو يسندها لينقذها، إلى آخر القائمة التي تحتوي أمثال هؤلاء المخابيل الذين نراهم في الأسواق، وفي مستشفيات المجانين، وفي مخابئ التحشيش.
4- مقامهم قبل الأخير في الموقف بين يدي الله، ((يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) [النبأ:40] هذه هي المقامات الحقيقية، ولا شيء غيرها، إلا دجلياتهم.
مع العلم أن أول من تكلم بمقاماتهم الموهومة، ووضع لها بعض الأسماء هو- كما يقولون- ذو النون المصري، ولعله أراد بذلك الدعاية للتصوف، ولعل الجنيد أراد منافسته فسبقه بأشواط.
وهذه بعض أمثلة من بعض ممارساتهم لبعض مقاماتهم التي يتنطعون بأسمائها:
* من مقام التوبة:
يقول الغزالي في كتاب التوبة، وهو الأول من ربع المنجيات:(78/362)
...وحُكي عن أبي عمرو بن علوان، في قصة يطول ذكرها، قال فيها: كنت قائماً ذات يوم أصلي، فخامر قلبي هوى طاولته بفكرتي، حتى تولد منه شهوة الرجال، فوقعت إلى الأرض، واسودَّ جسدي كله، فاستترت في البيت، فلم أخرج ثلاثة أيام، وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون، فلا يزداد إلا سواداً، حتى انكشف بعد ثلاث، فلقيت الجنيد، وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة، فلما أتيته قال لي: أما استحييت من الله تعالى؟ كنت قائماً بين يديه، فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقَّة، وأخرجتك من بين يدي الله تعالى! فلولا أني دعوت الله لك، وتبتُ إليه عنك، للقيت الله بذلك اللون؟ قال: فتعجبت كيف علم بذلك؟ وهو ببغداد وأنا بالرقة(1). اهـ.
* الملحوظات:
- نلاحظ أنه تاب عن غيره، ويكفي لبيان هذا الضلال آيتان من عشرات الآيات والأحاديث: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) [الجن:21، 22]
- ونلاحظ أيضاً أنه جعل سواد الجلد في الدنيا عقوبةً من الله! وهذا جهل بالإسلام، إذ لو كان السواد في الدنيا عقوبةً أو سوءاً، لما كان بلال أسود البشرة، كما أن القرآن الكريم يخبرنا أنه ما من أمة إلا وظهر فيها نبي منها ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيْهَا نَذِيْرٌ)) [فاطر:24]، ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)) [إبراهيم:4]، وهذا يعني أن الأمم الزنجية، مثلهم مثل غيرهم، ظهر فيهم أنبياء زنوج، فهل كان هؤلاء الأنبياء مغضوباً عليهم من الله سبحانه بسبب سواد بشرتهم؟!
- ثم لنلاحظ الدور الواضح الذي قامت به شياطين الجن في هذه التمثيلية وأمثالها.
- هذه صورة من مقاماتهم التي يسميها الغزالي (المنجيات).
وصورة أخرى:
* من مقام التوكل:
__________
(1) الإحياء: (40/48)، ونشر المحاسن الغالية، (ص:68) وغيرها.(78/363)
يقول الغزالي إياه، في إحيائه إياه:
...قال أبو موسى الديلي: قلت لأبي يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك، ما تحرك لذلك سرك. فقال أبو يزيد: نعم، هذا قريب، ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، ثم وقع بك تمييز بينهما، خرجتَ من جملة التوكل(1) اهـ.
هذه صورة من مقام التوكل عندهم، الذي هو من المنجيات عند الغزالي! ولا أرى حاجة للتعليق عليه، فهو أوضح، بل أقبح، بل أبعد ضلالاً من أن يحتاج إلى تعليق (أهل النار وأهل الجنة سيان!).
وصورة ثالثة:
* من مقامي التوكل والصبر:
يقول الغزالي نفسه:
...والمتوكلون.. على ثلاثة مقامات. الأول: مقام الخواص ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد، ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فوقه، أو تيسير حشيش له أو قوت، أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك(2). اهـ.
- لست أدري إلى كم من الصفحات يحتاج التعليق المفصل على هذه الضلالات، لكن بإيجاز الدوران في البوادي بغير زاد ليس من الإسلام، وهو بذلك مَوْزور لا مأجور، وإن مات فهو كالمنتحر.
- وهناك ملحوظة يحسن التنويه بها، وهي ادعاؤهم أن المقامات هي من السلوك ومن الطريقة، ويدعون أن الشيخ يُسَلك مريده في المقامات حتى إذا تحقق بمقام نقله إلى مقام أعلى...وطبعاً؛ هذا أسلوب في الدعاية ناجح.
* قصة للتسلية:
يورد الغزالي في الإحياء:
__________
(1) الإحياء: (4/227).
(2) الإحياء: (4/230).(78/364)
...فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب؟ ولذلك كان الخوّاص يدور في البوادي، فلقيه الحسين بن منصور (الحلاج)، وقال: فيم أنت؟ قال: أدور في البوادي أصْلِحُ حالي في التوكل، فقال الحسين: أفنيت عمرك في عمران باطنك! فأين الفناء في التوحيد؟! فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين(1). اهـ.
- هذه القصة تتكرر في كتبهم، ونستفيد منها ما يلي:
1- كان الخوّاص من الذين يظنون أن المقامات واقعية، ذات وجود في الطريق، لذلك كان يريد إصلاح حاله في التوكل حتى يصير هذا الحال مقاماً عنده.
2- نبهه الحلاج إلى أن هذا ليس هدفاً، والهدف هو الفناء في التوحيد، (ونعرف الآن ما معنى الفناء في التوحيد).
3- يقرر (حجة الإسلام) أن الفناء في الواحد الحق (أي: استشعار وحدة الوجود باستشعار الألوهية) هو غاية مقصد الطالبين...وهذا يعني أن المقامات ليست هناك.
4- يستشهد الغزالي بالحلاج، ويأخذ عنه الحكم والحكمة في عدة مواضع من الإحياء، وهذا يدل على أنه مزكَّى عنده، وأنه يدين بما كان يدين به، وكل الصوفية مثله.
* خرق العادة:
في غالب الأحيان، وبعد ممارسة طويلة (وقد تقصر في النادر) لما رأيناه من الرياضة الصوفية، يحدث للسالك، أو أمامه، أمور غير عادية لا يُعرف لها سبب، هي خوارق العادة التي يصر المتصوفة إصراراً عجيباً على تسميتها الكرامات حتى جعلوا التصديق بها عقيدة لا يكمل إيمانهم إلا بها:
وأثبِتَنْ للأوليا الكرامة ……ومن نفاها، فانبذن كلامه
مع العلم أن الهندوس والطاويين...والكهان في الملل الوثنية، والسحرة الحقيقيين، يفعلون مثلها، وأكثر منها، بل المتصوفة أنفسهم، تكون سرعتهم في الوصول إليها على قدر غلوهم في الشرك بالله في شيخهم.
__________
(1) الإحياء: (4/368).(78/365)
وفي ما يأتي سنرى نماذج كثيرة من (كراماتهم) هذه، وسنرى أنها ليست كرامات، وإنما هي خوارق شيطانية، يستدرج بها شياطين الجن هؤلاء القوم إلى شباكهم، فيصيدونهم، ثم يجعلون منهم (دودة الفخ) ليصيدوا بهم.
وهم دائماً يتواصلون فيما بينهم، ويوصون مريديهم، ألا يلتفتوا إلى الكرامات لأنها تشغلهم عن الوصول إلى التحقق بالألوهية (أي: مشاهدة السالك أنه هو الله). ومن أقوالهم في ذلك:
اعلم أن المريد الصادق إذا اشتغل بالذكر على وجه الإخلاص، يظهر عليه أحوال عجيبة وخوارق غريبة، وهي ثمرات أعماله من فضل الله تعالى عليه، إما تطميناً لقلبه وتأنيساً، وإما ابتلاءً من الله تعالى وامتحاناً له، فالواجب عليه ألا يلتفت إليها ولا يغتر بها، لئلا ينقطع بها عن مقصوده، ولهذا قال العارفون بالله تعالى: أكثر من انقطع من المريدين بسبب وقوعهم في الكرامات(1)....بل الكرامة العظمى الوقوف على حدود الشريعة الغراء، واتباع السنة الواضحة البيضاء.
- أقول: هذه الجملة الأخيرة هي مغالطة يرددونها بحسن نية، وذلك أن الإشراق (الذي هو الصوفية) يبقى ضلالاً وزندقة ولو مزج بالوقوف على حدود الشريعة الغراء واتباع السنة الواضحة البيضاء.
وخوارق العادة- في الواقع- متنوعة، لكن لا تحدث كلها لأي واحد منهم، بل قد يحدث بعضها لبعضهم، ويلاحظ أنها- كلها- مما يقوم به شياطين الجن استدراجاًً وجراً لهم إلى وهدة الضلال والإضلال.
والخوارق التي يقوم بها متصوفة الهندوس وغيرهم أكثر تنوعاً وأعجب مما يقوم به متصوفة المسلمين، فقد يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، ويدخلون في النار، ويرفع أحدهم يده في الظلام فيخرج منها نور يضيء الغابة وغيرها، وضرب الشيش هو أشهر خوارق متصوفة المسلمين، وهو موجود في الطريقة الرفاعية والجزولية...
وأكرر القول إنها كلها مما يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام أوليائهم.
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:37).(78/366)
أما المشاهد الضخمة ذات الأبعاد الواسعة التي تتجاوز حجوم الجن وقدراتهم الطبيعية، كقطع الأرض بخطوة أو خطوات، والصعود فوق جبل قاف، ورؤية النفس أطول من السماوات، أو العروج إليها، ورؤية الله (جل الله وعلا)، والفناء فيه، واستشعار الألوهية (سبحان الله عما يصفون)، وذوق معانيها، فهذا بحاجة إلى الجذبة وأوهامها، وتشويهها لوظائف الدماغ الطبيعية التي طبعها الله عليها. والجذبة هي الوصول، أو هي أول الوصول.
وهي الفتوح، وعندما نسمع من يدعو لآخر بقوله: (الله يفتح عليك) فعلينا من الآن فصاعداً أن نعرف أن معناها: أوصلك الله إلى الجذبة.
فما هي الجذبة؟
* الجذبة:
وأخيراً، وبعد أن اجتزنا الطريق، فإلى أين نصل؟ وإلى أين تقود الطريقة؟
إن الطريقة كلها، بشركها ووثنيتها ونَصَبها وخلوتها وسهرها وجوعها هي من أجل الوصول إلى الجذبة ورؤاها.
والجذبة أو الصعقة أو الغيبة أو المحو أو السكر: هي حالة نفسية يَفْقِد بها المجذوب إحساسه بما حوله وبالواقع، ويرى فيها ويسمع ويحس رؤى وأصواتاً وإحساسات غريبة ومتنوعة، وهي تشبه حالة الغيبة التي تصيب متعاطي المخدرات شبهاً تاماً مظهراً ومخبراً ورؤى وإحساسات.
وعندما يصل سالكهم إلى الجذبة يصبح ولياً، فكلمة الولي تعني أنه وصل إلى الجذبة ليس غير، وهي التي يسمونها: الفتح، أو خرق الحُجب، والكشف هو ما يرونه ويسمعونه فيها.
وهي الهدف الذي يسعون إليه، ويتوهمون أن الله سبحانه يجذبهم بها إليه، وهذه بعض أقوال لبعض أقطابهم وعارفيهم تدل على ذلك:
يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وقد ورد: جذبة مِن جذبات الحق توازي عمل الثقلين(1).
ويقول الشيخ حماد بن مسلم الدباس(2):
__________
(1) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/91).
(2) أحد العلماء الراسخين في علوم الحقائق، صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وانتمى إليه معظم صوفية بغداد.(78/367)
...وإن قال لك: اعبدْني، قل: وفقني، وإن قال لك: وحِّدني، قل: اجذبني(1).
- لننتبه إلى ربطه التوحيد بالجذبة، ولنتذكر ماذا يعنون بكلمة (التوحيد).
وكان داوُد الكبير بن ماخلا يقول:
الحال ما جذبك إلى حضرته، والعِلْم ما ردك إلى خدمته(2).
ويقول الشيخ بهاء الدين المجذوب(3):
...وذلك أن كل حالة أُخذ العبد عليها، يستمر فيها، ولو خرج عنها يرجع إليها سريعاً، حتى إن من المجاذيب من تراه مقبوضاً على الدوام، لكونه جُذب على حالة قبض؛ ومنهم من تراه مبسوطاً، وهكذا.. وكان الشيخ فرج المجذوب رضي الله عنه لم يزل يقول: عندك رزقة فيها خراج ودجاج وفلاحون، لكونه جُذب وقت اشتغاله بذلك؛ وزمنُ المجذوب من حين يجذب إلى أن يموت زمنٌ فرد، لا يدري بمرور زمان عليه. ورأيت ابن البجائي رضي الله عنه، لم يزل يقول: الفاعل مرفوع والمخفوض مجرور، وهكذا، لأنه جُذب وهو يقرأ في النحو. ورأيت القاضي ابن عبد الكافي رضي الله عنه لما جُذب لم يزل يقول - وهو في بيت الخلاء وغيره -: ولا حق ولا استحقاق ولا دعوى ولا طلب ولا غير ذلك(4).
ويقول الشيخ عبد القادر الدشطوطي(5):
...الناس معذورون، يقولون: عبد القادر ما يصلي، والله ما أظن أني تركت الصلاة منذ جُذبت، ولكن لنا أماكن نصلي فيها(6)....
ويقول عبد العزيز الدباغ:
...إن الله تعالى لا يحب عبداً حتى يُعرِّفه به، وبالمعرفة يطلع على أسراره تعالى، فيقع له الجذب إلى الله تعالى(7)...
ويقول عمر بن الفارض في التائية الكبرى:
فمني مجذوب إليها وجاذب ……إليه، ونزعُ النزع في كل جذبةِ
وما ذاك إلا أن نفسي تذكرت ……حقيقتها من نفسها حين أوحتِ
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/135).
(2) طبقات الشعراني: (1/194).
(3) من أكابر العارفين، مات في القاهرة بعد سنة (920هـ).
(4) طبقات الشعراني (2/139).
(5) من أكابرهم، كف بصره، مات في القاهرة بعد سنة (930هـ).
(6) طبقات الشعراني (2/139).
(7) الإبريز، (ص:217).(78/368)
فحنَّت لتجريد الخطاب ببرزخ ……التًراب، وكلٌّ آخذ بأزِمَّتي
ويقول علي الخواص البرلّسي:
إنما سمي المجذوب مجذوباً لأن العبد لم يزل يتعشق حاله ويألفه ولا ينجذب عنه إلا بما هو أقوى منه، وإذا أراد الله تعالى أن يخلص عبداً ويستخلصه لنفسه، جذبه عما كان واقفاً معه من أمر الدنيا والآخرة، فإذا تعشق بما جذبه الحق إليه ثانياً جذبه به عنه ثالثاً(1)...
ويقول ولي الله الدهلوي:
...وأما طريق وصولهم إلى هذا الكمال المطلق، فهو أنهم ينجذبون إلى الله سبحانه، فيقطعون نور الغيب وغيره، حتى يصلوا إلى ميادين الأسماء...ثم يضمحلون في التجلي الذاتي(2)...
ويقول عبد الله بن أبي بكر العيدروس:
...وحقيقة العارف سائر طائر، ثم السير يستدل بالطير، فالسير يكون في مقامات النفس المطمئنة، والطير يكون في مقامات الروحانية العلوية، ثم يستدل الطير بالجذبات السرية، فالجذبة تبعده عن أنيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه إلى أن ظهر بالعيان(3)...
ويقول محيي الدين بن عربي في (الباب: 216) من الفتوحات المكية:
...إنما سمي مجذوباً لجذب الحق تعالى له، وأخذه بأعطافه، ولولا أنه كان متعشقاً بحاله، مستحسناً له، ما جذبه الحق تعالى، فكأن سبب هذا الكشف تعشق أحواله الطبيعية، ولولا الجذب العنيف ما ترك ما كان فيه(4)....
ويقول محمد مهدي الصيادي الرواس:
وبويعت في الحضرة: على المباعدة عن أصحاب دعوى الولاية والمحو، الذين تحقق أنهم ليسوا من أهل الانجذاب والغيبة، فإن أولئك من اللصوص والدجالين، وكأنهم المقصودين بسر قوله تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)) [الصف:7](5).
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/156).
(2) الخير الكثير، (ص:102).
(3) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، (ص:77).
(4) اليواقيت والجواهر: (1/136).
(5) فصل الخطاب، (ص:137).(78/369)
ومن أوراد الشاذلية (مناجاة ابن عطاء الله السكندري).
...حققني بحقائق أهل القرب، واسلك بي في مسالك أهل الجذب...(1).
ومن الأوراد الخلوتية (من منظومة أسماء الله الحسنى):
ومُنَّ علينا يا ودود بجذبة ……بها نلحق الأقوام مَن كان قبلنا
ومن الأدعية التيجانية:
اللهم اجذبني إليك قلباً وقالباً بجواذب عنايتك، وألبسني خلعةَ استغراق أوقاتي في الاشتغال بك(2)...
ويقول الدكتور عبد الحليم محمود:
...إننا لا نتحدث هنا عن طريق الاجتباء، فإنه في حقيقة الأمر ليس طريقاً بالمعنى العادي: إنه جذبة مِن جذبات الحق في لحظةٍ بَعْدَها يتبدل المرء حالاً بعد حال، ويدخل رحاب الحق جل وعلا، عبداً من عباده المخلصين(3)...
ويقول الدكتور سيد حسين نصر:
(يتكلم عن المرشد) إلى أن يقول: مثل هذا الشخص، إما أنه مسافر أدركته البركة الإلهية فهو سالك مجذوب، كان قد عبر أولاً جميع المفاوز والأخاديد التي تعترض الروح...لكنه بمساعدة الجذب الإلهي بعد ذلك عاد من مقامات القلب ومصاعد الروح، وبلغ عالم الكشف واليقين...أو أنه ذاك الذي جذبته البركة الإلهية فسلك الطريق فهو مجذوب سالك، وكان قبلاً قد عبر بمساعدة الجذب الإلهي جميع المقامات، وبلغ عالم الرؤيا والكشف عن الحقائق الإلهية(4)...
- تجنباً لزيادة الإطالة نكتفي بهذه الأقوال الكافية:
إذن، فالجذبة هي الهدف الذي يسعون إليه، وهي الفتوح، وعندما نسمع مَن يدعو لآخر بقوله: الله يفتح عليك، فعلينا منذ الآن أن نعرف أن معناها (أوصلك الله إلى الجذبة).
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:24).
(2) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:23).
(3) ذو النون المصري، (ص:49).
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:75، 76).(78/370)
وأكرر القول بأنها تشبه الحالة التي يقع فيها متعاطي المخدرات (الحشيش أو الأفيون والمورفين والايثير وغيرها..) شبهاً دقيقاً، مظهراً ومخبراً، ورؤىً وهلوسات، مع أخذ الدور الذي يلعبه الشيخ وتوجيهه، وإيحاءات الجو الصوفي، بالاعتبار.
وأكرر أيضاً أنهم يعتقدون أن الله يجذب السالك إليه فتحدث له هذه الحالة، ولذلك يسمونها الجذبة، ويسمون الواصل إليها ولياً.
وهم يعنون بقولهم: (الله) الألوهية التي يعتقدون أنها باطنة في الإنسان، وفي كل شيء، وأنه محجوب عنها، أو عن الإحساس بها بالوهم، (أي: الوهم أنه مخلوق وأنه غير الله).
هذه الألوهية الباطنة فيه تجذبه إليها، فيفقد إحساساته بالظاهر وبالمخلوقية، حيث تتجه تلك الإحساسات إلى باطنه، إلى إلهيته التي كان محجوباً عن الإحساس بها بالوهم، هكذا يعتقدون!
يرى المجذوب أثناء الجذبة رؤىً ومشاهدات، تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والثقافات، واختلاف الرؤى حسب الثقافات تعني أن الرؤى التي يراها المتصوف المسلم، تختلف بعض الشيء عن رؤى المتصوف المسيحي، وهذه تختلف بعض الشيء عنها عند الهندوسي.. وهكذا.
والجذبة- كما رأينا- حالة يفقد فيها المجذوب الشعور بما حوله، ويرى ويسمع أشياء لا وجود لها، وقد تأتيه الجذبة ماشياً أو قائماً أو قاعداً أو مستلقياً أو منفرداً أوفي جماعة إن كان من الكمَّل، ونظرياً يمر الولي (الذي وصل إلى الجذبة) في المراحل التالية:
- تكون الجذبات الأولى قصيرة ومتباعدة وخفيفة، والعكس ممكن.
- مع الاستمرار على ممارسة الرياضة، وبعد زمن قد يطول وقد يقصر، تزداد الجذبات عمقاً وطولاً وتقارباً.
- أما المشاهدات (الكشوف)، فكثيراً ما تتجاوز حدود المقاييس العادية، وحدود المعقول لتتخطاها إلى اللامعقول، فيرى نفسه أطول من السماوات، أو يرى نفسه يعرج فيها من سماء إلى سماء حتى يصل إلى العرش، وطبعاً يراها كما يتوهم أنها هكذا، لا كما هي على حقيقتها.(78/371)
- وقد يرى مخلوقات ضخمة بأشكال مختلفة، يخال بوهمه، أو بتوجيهات شيخه أنها ملائكة.
- وقد تكون الرؤى في المقاييس العادية، فيرى أشخاصاً يتوهم أنهم أنبياء أو أولياء حسب توجيهات شيخه وطموحاته.
- يستمر السالك على المجاهدة ويزداد إصراراً عليها، لأن كل هذه الرؤى ليست هي غايته، حتى يرى نفسه جالساً مع الله (جل جلاله)، يحادثه ويسامره! وطبعاً هذا كله تابع لتوجيهات الشيخ، ويكون الحضور مع الله (جل الله) بشكل من الأشكال التالية:
* إما أن يرى المجذوب نفسه يعرج في السماوات حتى يصل إلى العرش، وهناك يجتمع مع الله (سبحانه وتعالى عما يصفون).
* أو أن يرى الله (جل وعلا) ينزل إلى جانبه ويحادثه، وقد يرفعه بين يديه ويجوِّله في السماوات.
* أو أن يرى نفسه مجتمعاً مع الله (تعالى) في مكانٍ آخر.
وهذا ما يسمونه (المحاضرة).
وفي كل الحالات يجد لذة عظيمة، ورغم كل ذلك فليس هذا هو الغاية.
- يستمر السالك على المجاهدة، وتتكرر المحاضرات وتتطور حتى يرى المجذوب في إحدى جلساته مع الله (جل وعلا) أن الله سبحانه يدمجه في اسم من أسمائه، أو في مكان ما من ذاته (سبحانه عما يصفون)، وهذا ما يسمونه: (المكاشفة)، ويسمونه: (الفناء في الله)، وقد يسميه بعضهم: (الإحسان).
- ويستمر السالك على المجاهدة، ويتطور الفناء في الله، ويزداد عمقاً ونشوة ولذة، وينتقل من اسم إلى اسم، (وهذا التدرج ليس ضرورياً دائماً)، حتى يصل إلى الفناء في الاسم (الرب) أو (الرحمن) على اختلاف بينهم، وهذا الاسم هو أعلى الصفات الإلهية عندهم، فيكون قد وصل إلى قمة المكاشفة، ومع ذلك فليس هذا هو الغاية، إن الغاية هي التحقق بالاسم (الصمد) أو (الله).(78/372)
- ومع المثابرة على المجاهدة، يقفز إلى الاندماج في الذات الإلهية كلاً في كل (تعالى الله عما يفترون)، فيرى نفسه أنه هو الله (سبحان الله) بجميع أسمائه وصفاته! وهذا ما يسمونه: (المشاهدة)، أو (الجمع)، أو (الفناء في الاسم الأعظم)؛ الله، الجامع لكل الأسماء والصفات، وعند بعضهم هو (الإحسان)..
وهذه المشاهدات (أو الهلوسات) هي ما يعبرون عنها بمثل قول عمر السهروردي: "ابتُلي بنهضة النفس ووثوبها، أو بمثل قول الغزالي: وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل، أو بمثل قول الجيلاني: هم أبداً في سرادق القرب، فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم.
ومع استمرار إيحاءات الشيخ وتوجيهاته، وغرس الطموحات الوثابة في نفس الولي، ومع تكرار مشاهدة الاندماج في الله (سبحان الله عما يصفون)، يتعمق الشعور بالألوهية ويترسخ، وقد يدفعه هذا إلى البوح بالسر أثناء صحوه، فيقع في المحذورات التي تجر عليه وعلى طائفته الويل والثبور، لذلك يأخذون بأهون الشرَّين، فإذا فُضِحَ أمره وحَكَم عليه أهل الظاهر (الشريعة) بالكفر، حكموا عليه هم أيضاً بالكفر، وإذا أفتى أهل الظاهر بقتله، أفتوا هم أيضاً بقتله، مع إيمانهم بأنه صديق ولي مقرب، لكن بعض الشر أهون من بعض.
لتخليص الولي من هذا المحذور، ولأن هذا المقام ليس مقام الكمَّل من الرجال والنبيين، لذلك يبدأ شيخه بتدريبه على السيطرة على لسانه وكلماته، ليتحقق بمقام الكمّل الذين يتبعون القاعدة (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)، حيث يغدو ولياً كاملاً ومرشداً يحق له إرشاد الناس ودعوتهم، لكنه لا يكون مرشداً كاملاً إلا بمقدار ما يجمع حوله من الأتباع، ولذلك يعتبرون محمداً صلى الله عليه وسلم أكمل الكاملين، لأن أتباعه أكثر الأتباع، وأنه هو الإنسان الكامل الأعلى.(78/373)
وهذا هو مقام البقاء، أو الفرق الثاني...إلى آخر الأسماء، ولهم في التلميح إليه ووصفه عبارات أدبية يتبارون بالتفنن بها وتنويع أساليبها، مر معنا مئات منها، وفي كتبهم ألوف كثيرة غيرها.
وقد يقرأ القارئ في بعض كتبهم أسماء مثل مقام (قاب قوسين)، أو مقام (أو أدنى)، أو مقام (أنا أنا)، أو غير ذلك، وكلها تعني شدة التحقق بالألوهية مع طول مدتها.
وأكرر التنبيه إلى أن الترتيب المذكور ليس ضرورياً، وقد يختلف عند بعضهم اختلافاً كثيراً، وقد ينعكس في نادرٍ من الأحيان.
وهم يقولون: إن المناظر متنوعة لا تتكرر.
كما يتحدثون عن المريد والمراد.
فالمريد هو الذي يسلك الطريقة الإشراقية من أولها حتى يصل إلى الجذبة.
والمراد هو الذي يُجْذَب دون إرادة منه ودون مجاهدة، أو كما هو الواقع، المصاب بمرض عصبي ممن نراهم في الأسواق من المعتوهين والمخبولين والهائمين على وجوههم في البراري، ومنهم نزلاء مستشفيات المجانين.
ويعنون بالاسم (المراد) أن الله سبحانه أراده فجذبه إليه دون إرادة منه، ويصفون المراد عادة بمثل قولهم: (سائح في حب الله)، ويتبركون به، ويطلبون منه أن يكَبِّسهم، أي يضع يده عليهم لتسيل منه الأسرار عن طريقها وتسري في أجسامهم.
وفي جميع الأحوال، ينتاب المجذوب أحد نوعين من الإحساس:
أ- إما شعور باللذة- وهو الغالب- تختلف شدته من جذبة إلى أخرى، وقد تبلغ في بعض الجذبات- وخاصة في الفناءات في الله- من الشدة بحيث تستغرق كل ذرة من جسمه، وعندما يعود إلى الصحو، يعود حامداً شاكراً، ويذهب إلى صندوق ملابسه ليخرج منه سروالاً يلبسه بدل سرواله الذي امتلأ بالمني.
لكنه إذا كان من المتحققين بمقام الزهد، مسح المبتل من سرواله بالتراب، ومضى إلى حال سبيله.
أما إذا كان متحققاً بمقام التوكل، فيتركه كما هو ولا يلتفت إليه لشدة توكله.(78/374)
يَعرض الوليُّ أمْرَه هذا على شيخه ومشكاة إمداداته، فيهنِّئه ويبشره بأن هذا دليل على صحة المقام الذي وصل اليه، ويفهمه أن سببه هو بقايا شعور بالبشرية، وأنه سوف يزول عندما يتخلص كلياً منها، أو (من الشعور بالمخلوقية)، ويتحقق بالألوهية تحققاً كاملاً.
ويسمون هذا النوع من الإحساس: (البَسْط)، ويسمون جذباتها: (جمالية)، ويسمون فناءاتها أو تجلياتها التي يشاهدون بها أنفسهم أنهم الله: (التجليات الجمالية)، ويوهمون أنفسهم وتائهيهم أن هذه التجليات هي تحققٌ أو فناءٌ في الصفات الجمالية (عفوٌ غفورٌ ودودٌ رحيمٌ..).
2- وإما أن يشعر المجذوب بالاكتئاب أو الغضب أو ضيق الصدر...ويسمون له هذا الإحساس: (القبض) ويسمون جذبته: (الجلالية)، ويوهمون أنفسهم وتائهيهم أنها تجليات الحق عليهم بصفاته الجلالية، (العزيز الجبار المتكبر القهار...)، ويسمونها: (التجليات الجلالية)، أو (التحقق بالأسماء الجلالية)...
ويصف عبد القادر الجيلاني هاذين الإحساسين بقوله: يُكْشَف للأولياء والأبدال في أفعال الله ما يبهر العقول، ويخرق العادات والرسوم، فهي على قسمين: جلال وجمال، فالجلال والعظمة يورثان الخوف المقلق والوجل المزعج، والغلبة العظيمة على القلب، بما يظهر على الجوارح...أما مشاهدة الجمال فهو تحلي القلوب بالأنوار والسرور والألطاف والكلام اللذيذ والحديث الأنيس، والبشارة بالمواهب الجسام والمنازل العالية(1)...
- وهو معنى قوله أيضاً (الجيلاني) الذي مر معنا: ...وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارةً أخرى. (ومثل هذا تماماً تماماً يحصل لمتعاطي المخدرات، والاختلاف بينهما هو في التفسير).
وهذه بعض أقوال لبعض أقطابهم يصفون بها بعض جذباتهم ومشاهداتهم.
يقول المعرِّف عن نفسه (شيعي من طهران):
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:22).(78/375)
إن الفقير الحقير سيد حسين بن الرضا الحسيني الطهراني النعمتللاهي، نال بركة النعمة الإلهية في سنة 1303 للهجرة، ذلك أنني عندما التقيت بالسمح الطاهر، مثال العارفين وقطب الهداية في سلوك الطريق، والمرشد الأمين في ممارسة الصلوات، الشيخ عبد القدوس كرمنشاهي...بفضل البركة الإلهية ومعونة الأئمة الطاهرين عليهم السلام، التقيت هذا الرجل العظيم في الوقت الذي تقدم ذكره قرب إمام زادي زيد(1)، وكان له معي ما كان، وفي غضون أسبوع من الزمان حلت علي بركة وجوده وذلك قرب إمام زادي زيد...وبعد أن أجرى مراسم الندامة والتوبة، أعطاني التعليمات اللازمة، وأدخلني إلى حلقة الذكر وقراءة الأوراد، ودربني على ما ينبغي أن يُعمل ويقال، فامتثلت في ذلك كله، وبعد خمس عشرة ليلة، وهو مدى الخلوة الصغرى، عند الفجر، فيما كنت مستغرقاً في التفكير، رأيت جميع الأبواب والجدران في المكان المظلم الذي وُضِعْتُ فيه تشاركني في مراسم الذكر، فغبتُ عن الوعي، وهويتُ إلى الأرض، وبعد شروق الشمس سارع والدي الجسدي بداعي حبه الشديد لي، إلى استدعاء طبيب، ودعا كذلك بمحضري الأرواح وكاتبي التعاويذ الشافية، ثم إن والدتي الجسدية هي الأخرى عالجتني بكل ما تيسر لها من الأدوات والمنعشات والمغذيات.
وبقيتُ على مثل ذلك عشرين يوماً وأنا لا أقوى على القيام بفرائض الشريعة، ولا أعي لوجوب ممارسة الشعائر والرياضات، ولا أحدث أحداً بذلك. وبعد تلك الفترة عاد إلي الوضع الطبيعي أو كاد، وأصبحتُ طليقاً من حال الجذبة، فذهبتُ إلى الحمام وتوضأت، وشعرت برغبة شديدة في لقاء ذلك الشيخ العظيم، وبقيتُ بضعة أيام هائماً على وجهي كالمعتوه في الطرق والأسواق، ساعياً في طلبه، وأخيراً ظفرتُ به، وقبَّلتُ يده، فأبدى لي لطفه وعطفه.
__________
(1) مزار أحد الأولياء في طهران.(78/376)
وأقول موجزاً: إنني سلكتُ الطريق تحت رعايته مدة سنتين، آخذاً نفسي بجميع تعليماته ووصاياه، لذلك تحولت عن العلوم التقليدية تحولاً تاماً، وأقبلت على تفهم مسائل المعرفة، والسير في طريق اليقين، أطعته بكل ما أمرني به دون أن أجيب بنعم أو لا، وإذا بدا لي أن بعض ما سمعتُ أو رأيتُ منه يعارض في ظاهره للشريعة، رددته إلى عيب في سمعي أو تقصير في بصري...أحمد الله أنني بفضل ذلك العالم الكبير، وبفعل إرادته الروحية، استطعت أن أقف على ملابسات الفقر الروحي، ودقائق المعرفة الثابتة، ولطائف الحق اليقين، حتى بلغتُ حال الفناء في الله والبقاء فيه(1)...
* الملحوظة:
ما أنبه إليه بشكل خاص هو تحوله عن العلوم التقليدية تحولاً تاماً، ومن هذا القول، ومن أقوال كثيرة مرت وستمر، نعرف سبب الجهل الذي تتخبط فيه أمتنا.
والملحوظات كثيرة، يمكن للقارئ أن يتسلى بالبحث عنها، والمتكلم شيعي يعرف بـ (شمس العرفاء).
ولننتبه إلى أنه استعمل عبارة (بركة النعمة الإلهية) بمعنى الجذبة، ولعله استعمل عبارة (النعمة الإلهية) انبثاقاً من اسم الطريقة (النعمتللاهية) التي كان شيخه عبد القدوس كرمنشاهي شيخها.
ويقول عبد العزيز الدباغ (الولي الكامل والغوث الحافل):
...وبعد وفاة سيدي عمر بثلاثة أيام، وقع لي والحمد الله الفتح، وعرفنا الله بحقيقة نفوسنا، فله الحمد والشكر، وذلك يوم الخميس الثامن من رجب عام خمس وعشرين ومائة وألف، فخرجنا من دارنا، فرزقني الله تعالى على يد بعض المتصدقين من عباده أربع موزونات(2)، فاشتريت الحوت، وقدمت به إلى دارنا، فقالت لي المرأة:
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:77، 78، 79).
(2) عملة مغربية كانت متداولة آنذاك.(78/377)
اذهب إلى سيدي علي بن حرزهم(1) وأقدم لنا بالزيت لنقلي به هذا الحوت، فذهبت، فلما بلغت باب الفتوح دخلتني قشعريرة، ثم رعدة كثيرة، ثم جعل لحمي يتنمل كثيراً، فجعلت أمشي وأنا على ذلك، والحال يتزايد إلى أن بلغت إلى قبر سيدي يحيى بن علال نفعنا الله به، وهو في طريق سيدي علي بن حرزهم، فاشتد الحال، وجعل صدري يضطرب اضطراباً عظيماً، حتى كانت ترقوتي تضرب لحيتي! فقلت: هذا هو الموت من غير شك، ثم خرج شيء من ذاتي كأنه بخار الكسكاس(2)، ثم جَعَلَتْ ذاتي تتطاول حتى صارت أطول من كل طويل، ثم جعلت الأشياء تنكشف لي وتظهر كأنها بين يدي! فرأيتُ جميع القرى والمدن والمداشر، ورأيتُ كل ما في هذا البر، ورأيت النصرانية ترضع ولدها وهو في حجرها، ورأيت جميع البحور، ورأيت الأرضين السبع وكل ما فيهن من دواب كالبرق الخاطف الذي يجيء من كل جهة، فجاء ذلك النور من فوقي ومن تحتي وعن يميني وعن شمالي وعن أمامي وخلفي، وأصابني منه برد عظيم حتى ظننت أني مت، فبادرت ورقدت على وجهي لئلا أنظر إلى ذلك النور، فلما رقدت رأيت ذاتي كلها عيوناً؛ العين تبصر، والرأس تبصر، والرجل تبصر، وجميع أعضائي تبصر؛ ونظرت إلى الثياب التي علي، فوجدتها لا تحجب ذلك النظر الذي سرى في الذات، فعلمت أن الرقاد على وجهي والقيام على حد سواء؛ ثم استمر الأمر علي ساعة وانقطع(3).
* الملحوظة: إن كشفه منبثق من المعلومات السائدة في محيطه، ومثل هذا يحدث لمتعاطي المخدرات.
__________
(1) هو شيخ أبي مدين المغربي، والزيت من النذور التي تقدم للمقام.
(2) أكلة مغربية معروفة تسمى في الشرق، باسم (المغربية) أو (المفتول).
(3) الإبريز، (ص:9).(78/378)
ويقول نفسه: ...فبقي معي سيدي عبد الله البرناوي (صوفي من قرية برنو)، يُرشدني ويسددني ويقويني ويمحو الخوف من قلبي فيما أشاهده، بقية رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة، فلما كان اليوم الثالث من يوم العيد، رأيت سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، فقال سيدي عبد الله البرناوي: يا سيدي عبد العزيز، قبل اليوم كنتُ أخاف عليك، واليوم حيث جمعك الله مع رحمته تعالى سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، أمِنَ قلبي واطمأن خاطري(1)...
- ولنسمع إلى العارف القطب عبد الكريم الجيلي، يقدم وصفاً عاماً، يقول:
أما بعد، فإن المناظر الإلهية مَحاضر لجمال العلوم اللدنية، وإن تفصيلها لا يكون إلا عن موهبة ثابتة إلهية، فقد يدرك تلك الموهبة العبد في نفس المناظر العلى إيحاءً إلهياً، أو بحقيقة اتصافٍ من الصفة العلمية...وقد يتأخر عليه تفصيل تلك العلوم إلى نزوله عن تلك المناظر، فيفهم ما كان فيها إلهاماً إلهياً، أو بإعلام شيخ مرب مكاشف بالمناظر الإلهية، فيوفي الوقت الذي هو فيه أدباً به، ولكن فاته أدب تلك المناظر لفواتها، لأن التجلي الواحد لا يبقى زمانين، بل لله تعالى في كل زمان تجل مخصوص، مِن سر قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) [الرحمن:29]. ومن الناس مَن يُجذب إلى بعض المناظر الإلهية، فيخرج منها وهو لا يدري أين كان، ولو سمع بأوصاف المناظر التي كان فيها تعجب وأنكر ما كان عليه، وذلك لضعف علمه وقصور فهمه، فإن الدهش لا يطرأ إلا على الضعفاء. اعلم أن لكل منظر آفة تحجب الداخل فيها عما فوقها وتمسكه عندها، ما لم يعلم تلك الآفة، فإذا اطلع عليها ترقى عن ذلك المنظر إلى غيره(2)...
- يبين الشيخ هنا أن تفسير الرؤى الكشفية نابع من معلومات مسبقة، أو من إعلام شيخ مرب...
ويقول: منظرا {عبد الله كأنك تراه}:
__________
(1) الإبريز، (ص:10).
(2) المناظر الإلهية، (ص:7، 8).(78/379)
هو باب المناظر كلها...فيتصور له حضرة الحق تعالى الولي بكبريائه وعظمته، فلا يأتي عملاً وهو مأخوذ عن ذلك العمل، لغلبة حال الدهش على قلبه، ويكون سائر أحواله وأفعاله وأقواله كلها عبادات، لأنه مأخوذ عنها إلى تصور الحضرة الإلهية، فهو شاهد لذلك التصور بحقيقته في سائر أموره، وفي هذا المنظر يُفتح عليه علوم الاصطلام، ويكشف له عن أسرار الحق تعالى في ظواهر المخلوقات، فيقرأ رقوم كتابة أسماء الله تعالى على صفحات وجوه المخلوقات، ويعلم السر الذي أخذ بالعالم إلى مأخذهم فيما هو عليه، فلا يرى قبيحاً في الوجود(1).
- مع أن عبد الكريم الجيلي واضح العبارة في ما يكتب، إلا أنه في هذا النص يبعد في الإشارة والرمز، ومع ذلك، فبقليل من التروي يتضح كلامه. إنه يقول: إن هذا المنظر هو منظر الدهش، لأنه يرى نفسه إلهاً، ثم تنكشف له علوم الوحدة...
ويقول: منظر الوجود:
يتجلى الحق تعالى في هذا المنظر بأعيان المظاهر، فيكون عين الظاهر، وعين المُظهر، وهذا أول مجالي الصفة الواحدية، ولا يشهد صاحب هذا المشهد لشيء في العالم وجوداً البتة، فلا يبقى للمُحْدَثات عنده أثر...وفي هذا المشهد ينفتح على الداخل فيه علوم تنوعات التجلي، وينكشف له أن العالم كله تجل في تجل، ليس شيء غير ذلك....ويطّلع في هذا المنظر على السر الذي عبدته المخلوقات من دون الله...وفي هذا المشهد يطلع على السر الإلهي، فيكون شافعاً لمن شاء من عبدة الأوثان والمشركين وغيرهم من النحل والملل الماضية، فيحصلون في حقيقة الإيمان قبل الموت أو بعده، ويُحشرون في زمرة الموحدين(2)...
ويصف تجلي الأفعال، فيقول:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:11).
(2) المناظر الإلهية، (ص:14 و15).(78/380)
فأما تجلي الأفعال، فإن الله تعالى إذا كشف عن بصر بصيرة العبد يتجلى الواحدية في العالم، فإنه أول ما يقع عنده من تفصيل ذلك المحل إرجاع أفعاله إلى الحق، وينسبها إليه سبحانه بعين ما كان ينسبها إلى نفسه، وفي هذا المشهد يسلب فعل العبد وقوته وإرادته، فلا يبقى له فعل ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة، بل هو كسائر الجمادات، فهو في هذا المنظر لا فعل له البتة، فلو تكلم وسألته عن كلامه، لقال: لم أتكلم في هذا المشهد، وقد يفوت من الفرائض وغيرها على مَن لم يحفظها الله عليه من أوليائه، وقد يصدر ما يصدر عليه من لسان المعاصي، فيقال: عصى وترك ما وجب عليه من الفرائض، وهو بريء من ذلك مسلوب القوة والقدرة والفعل وإلإرادة...ويكشف له عن اللوح المحفوظ...فيشهد بلا شهود يُنْسَبُ إليه، ويعلم بلا علم، ويرى بلا رؤية، ويفعل بلا فعل يضاف إليه(1)....
ويصف تجلي الصفات فيقول: منظر تجلي الصفات:
وهو في هذا التجلي يشهد صفات الحق تعالى النفسية، فكلما ظهرت لك صفة من صفات النفسية، فنيت صفة من صفاتك، إلى أن تفنى عن جميع صفاتك النفسية، فإذا فني وصفك شهدت وصفه، فتعلم حينئذ أن حياتك وعلمك وإرادتك وقدرتك وسمعك وبصرك وكلامك، جميع ذلك منسوب إليه إلى حدِّ ما كان منسوباً إليك بلا صفة لك، بل تكون صفاتك صفات الله، فتتحقق أن لا حياة لك، بل الحياة حياته، وأن لا علم لك بل العلم علمه، وأن لا إرادة لك بل الإرادة إرادته، وأن لا قدرة لك بل القدرة قدرته، وأن لا سمع لك بل السمع سمعه، وأن لا بصر لك بل البصر بصره، وأن لا كلام لك بل الكلام كلامه، وفي هذا المنظر يجيب الله من دعاه بهذه الصفات، فلا يشهد وقوعَها إلا عليه، فأنت بريء من شهود صفاتك لشهودك أنها الله تعالى كشفاً وعياناً، يفتح عليك في هذا المحل معرفة الوجود الساري، ويكون عندك هذا العلم من علوم التوحيد(2)...
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:16).
(2) المناظر الإلهية، (ص:17).(78/381)
ويقول: منظر اترك نفسك وتعال:
ترك النفس إما هو بجحود الأنية وثبوت الهوية الإلهية، تعرَّ مِن أنيتك فتكون أنت لا أنت، بل هو، بل ما أنت هو، لأنه هو هو. وفي هذا المشهد تضاف أسماء الحق تعالى إليك فتجيب الداعين بها. فإذا قال قائل: يا الله! أجبته: لبيك وسعديك، وما أنت المجيب، بل الله الذي أجاب مَن دعاه، لطيفة إلهية لا يعرفها إلا الواقع فيها ذوقاً وجودياً وكشفاً حقيقياً، وفي هذا المشهد تنزل عليك الأسماء الإلهية اسماً اسماً، والصفات الرحمانية صفةً صفةً، وأنت تقبل بقدر ما يقتضية حالك(1)...
ويقول: منظر التكوين:
هو مشهد ذاتي تتلون فيه بمعاني الأسماء والصفات، فيغلب عليك في كل زمان حكْمُ صفة، فتكون في لونٍ غير ما كنت عليه قبل.. وفي هذا المشهد تجد من اللذة الإلهية ما يسري في جميع أجزائك، إلى أن تكاد تخرج روحك من عالَم التركيب إلى عالَم الأرواح لشدة اللذة المنطبعة فيك، تجدها بحكم الضرورة محسوسة، كما تجد لذة المحسوسات. وقد أخذتْ هذه اللذةُ فقيراً عن محسوساته حتى غاب عن الكون وما فيه، فلما رجع إلى نفسه وجده قد أمنى لما سرت فيه اللذة الروحانية، فعمَّت الروح والقلب، وأضافته على بشرة جسده، فأعطاه الجسد حكْمَ بشريته، وكان ما كان(2)...
ويصف مشهداً آخر، فيقول: منظر اللذة السارية:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:18)، وفي الكتاب أخطاء مطبعية أو نسخية، منها: (الأينية) بدلاً من (الأنية)،، (عرض أينيتك) بدلاً من (تعرَّ من أنيتك).
(2) المناظر الإلهية، (ص:22).(78/382)
يتجلى الله بتجل يكشف فيه للعبد بمكانه من الحقائق الإلهية، فيظهر له من الله ما لم يكن يحتسب...ووجدت كل ذرة من وجودي حاملة من المعارف الكمالية ما لا يمكن شرحه، فأعطتني عوالمي كل اسم وصفة ومعنى ومرتبة لا نهاية لها، فلما وجدت ما وجدت، سرت فيَّ لذة الإلهية حتى ذقت أمراً محسوساً تكاد الروح أن تذهب لوجدانه، فلما رجعت إلى عالم الكون، حدث في حادث، وكنتُ يومئذ متقدماً في هذا الطريق...ولا وَصَل إلى تحقيق تلك (المقام اللذة) إلا بذلك الحادث، فمن لم يحدث به ذلك الحادث، لم يتم له ذلك اللذة، بل ما عنده إلا طرف منها، لأن اللذة المستولية عليه عمت الجسد وأخذت صاحبها، لا يجد بداً من أن يمني(1)...
ويصف مشهداً آخر، فيقول: منظر من أنت:
يتجلى الحق تعالى على العارف، بكشفٍ عن حقيقة ذات العارف، فيقال له في هذا المشهد: من أنت؟ فيقول ما قال الحلاج وأبو يزيد وغيرهما من أهل هذا المقام(2)...
* الملحوظة:
لعلنا نذكر ما قاله الحلاج وأبو يزيد وغيرهما فيما سبق من هذا الكتاب: أنا الحق، سبحاني..، ومتى يقول العارف هذا الكلام في هذا المقام؟؟ إنه يقوله عندما يُكشف له حقيقة ذاته! أي: إن حقيقة ذاته هي الله، يعرفها بالكشف!
منظر من أنا:
يتجلى الحق تعالى في هذا المشهد بتجل يكشف للعبد فيه عن حقيقة الذات المقدسة، فلا يجد العبد ما ثم إلا أنا، وحق ما قال، وصح ما ادعى، ولكن أين مقام العبودية عن مقام الربوبية(3)؟..
منظر الإشارة:
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:56).
(2) المناظر الإلهية، (ص:76).
(3) المناظر الإلهية، (ص:76، 77).(78/383)
للإشارة منظر جلي، ومشهد علي، ومعنى سني، أنت المراد بها على كل حال، وهو المشار إليه في كل مقال، أنت العين وهو الحُكم، أنت الوجود وهو المشهود، وأنت الجوهر وهو العَرَض، أنت هو وهو أنت، أنت الموصوف وهو الصفة، لكنه الموصوف، وأنت الأثر، وهو الأم وأنت الولد، لكنه الروح وهو الجسد، أنت حاصل كنوزه، أنت مغماز رموزه، أنت صريح لمغموزه، هذا كله منك وفيك، والله تعالى عن الإشارة والعبارة، وهو الكبير المتعال، فأسجد فهمك، وجرِّد همتك، وأفتق ما رتقناه عليك ليسهل فهم ما أشرناه إليك، كلامنا لا يفهم، وحالنا لا يُعلم، أي جان أي دوست،...لأن الكلام عن الحقائق بالإشارة(1)....
منظر ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21]:
يتجلى الله تعالى على العبد بتجل يُكشف له فيه عن مفاتيح الغيب ذاته، فيلج في خزائن الملكوت، ويرى ما أودع الله فيها من أسرار الجبروت، ما لا يدخل تحت الحصر، ولا يعرفها إلا الله تعالى، وحينئذ يقرأ حقيقة قوله تعالى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21]، من يتجلى الله عليه في هذا المنظر حلَّ رموز العالم من ذات نفسه، وعلم هيكله بجميع ما فيه، كل ذرة منه روحانية عالم من العوالم الوجودية الشهادية، فإن أراد تدبير ذلك العالم وتحريكه حرك من نفسه ذلك الرمز الذي هو روح ذلك العالم، فتحرك أجزاء ذلك العالم في عالم الشهادة والملك والملكوت بتحريك ذلك الرمز، فإن الجسد تابع للروح...وقد تحققتُ بهذا المشهد في سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة(2).
منظر (كن فيكون):
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:76، 77). وكلمة جان فارسية معناها: (ابن) ودوست معناها: (صاحب).
(2) المناظر الإلهية، (ص 78، 79).(78/384)
أول ما يتصف العبد بالتكوين في عالم الغيب، فيكوِّن الأشياء في الملكوت، ولا يستطيع على تكوينها في الملك! فمثله مَنْ يستطيع تصور الخيالات في عقله ولا يقدر عليها في محسوسه، فإذا استقام رجله في هذا المنظر، ثم اتصف حساً بصفتي القدرة والإرادة، يتجلى الله عليه بتجل إلهي يُكسبه نفوذ الأمر في عالم الأكوان جميعاً، الغيبية والشهادة، فحينئذ يقول للشيء كن فيكون، غيباً وشهادة، والناس في هذا المنظر متفاوتون، فمنهم من يظهر أثر أمره على الفور، ومنهم من يتأخر ظهور أثر أمره(1)...
* ملحوظة:
أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ في فصل لاحق، مفعول المخدرات ورؤاها، ثم يقارنها بهذه الرؤى والمشاهدات، مع ملحوظة أن رؤى حشاش المخدرات تنبثق من عواطفه وأمانيه الساذجة، أما رؤى حشاش الإشراق فتنبثق من إيحاءات الشيخ وتوجيهاته، والطموحات المسيطرة على الجو الصوفي.
- ولنكتف من هذا الغوث بهذه المشاهد.
- ولنستعرض بعده الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي في بعض وصفه لبعض الكشوف، يقول:
...واشتغلْ بالذكر حتى يتجلى لك مذكورك...
ثم بعد هذا يُكشف لك عن عالم سريان الحياة السببية في الأحياء، وما تعطي من الأثر في كل ذات بحسب استعداد الذوات...
فإن لم تقف مع هذا رُفع عنك، ورُفعت لك اللوائح اللوحية(2)، وخوطبت بالمخاويف، وتنوعت عليك الحالات، وأقيم لك دولاب تعاين فيه صور الاستحالات، وكيف يصير الكثيف لطيفاً واللطيف كثيفاً...
فإن لم تقف مع هذا رُفع لك نورٌ متطاير الشرر، فستطلب الستر عنه فلا تخف، ودم على الذكر فإنك إذا دمت على الذكر لم تصبك آفة...
...فإن لم تقف مع هذا رُفع لك عن أرواحٍ مستهلكة في مشهد من مشاهده، هم فيه حيارى سكارى قد غلبهم سلطان الوجد، فدعاك حالهم.
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:79).
(2) اللوحية نسبة إلى اللوح المحفوظ.(78/385)
فإن لم تقف لدعوته رُفع لك نورٌ لا ترى فيه غيرك، فيأخذك فيه وجد عظيم وهيمان شديد، وتجد فيه من اللذة بالله ما لم تكن تعرفها قبل ذلك، ويصغر في عينك كل ما رأيته، وأنت تتمايل فيه تمايل السراج(1)...
- وهذا وصف آخر لابن طفيل في أول كتابه: (حي بن يقظان)، يقول: سألتَ أيها الأخ الكريم، الصفي الحميم، منحك الله البقاء الأبدي، وأسعدك السعد السرمدي، أن أبث إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقية(2)....ولقد حرك مني سؤالك خاطراً شريفاً، أفضى بي إلى مبلغ هو من الغرابة بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان، لأنه من طور غير طورهما، وعالَم غير عالمهما. غير أن تلك الحال، لما لها من البهجة والسرور، واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها، أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها بجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم، قال فيها بغير تحصيل؛ حتى إن بعضهم قال في هذه الحال: سبحاني ما أعظم شأني، وقال غيره: أنا الحق، وقال غيره: ليس في الثوب إلا الله، وأما الشيخ أبو حامد الغزالي، رحمة الله عليه، فقال متمثلاً عند وصوله إلى هذا الحال بهذا البيت:
فكان ما كان مما لست أذكره……فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وإنما أدبته المعارف وحذقته العلوم...
...إلى أن يقول:
__________
(1) رسالة الأنوار، (ص:8- 12).
(2) يستعمل ابن طفيل عبارة (المشرقية) بدلاً من (الإشراقية) تقليداً لابن سينا.(78/386)
...وهذه الحال التي ذكرناها وحركنا سؤالك إلى ذوقٍ منها، هي من جملة الأحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي (أي: ابن سينا)، حيث يقول: ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً ما، عنت له خلسات من اطّلاع نور الحق لذيذة، كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه(1)، ثم إنه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض، ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض، فكلما لمح شيئاً عاج عنه إلى جناب القدس(2)، فيذكر من أمره أمراً، فيغشاه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء، ثم إنه لَتَبْلُغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفاً، والوميض شهاباً بيناً، وتحصل له معارفه مستقرةً كأنها صحبة مستمرة.. إلى ما وصفه من تدرج المراتب وانتهائها إلى النيل، بأن يصير سره مرآةً يحاذي بها شطر الحق، وحينئذ تدر عليه اللذات العلى، ويفرح بنفسه لما يرى بها مِنْ أثر الحق، ويكون له في هذه الرتبة نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه، وهو بعدُ متردد، ثم إنه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط، وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة، وهناك يحق الوصول.
- قبل تكملة المسيرة مع ابن طفيل، أريد أن أنبه إلى أننا يجب أن نفهم العبارات:
يرى الحق في كل شيء وكأنها صحبة مستمرة، ويحاذي بها شطر الحق، فهماً منطلقاً من عقيدة الصوفية التي ترفض الاثنينية وما ينبثق عنها من قول بالحلول أو الاتحاد، وتكفر من يقول بها، أي يجب أن نفهمها انطلاقاً من عقيدتهم بوحدة الوجود، فقط.
ونعود إلى ابن طفيل، يقول بعد فقرات من قوله السابق:
...وظهر بهذا القول أن مطلوبك لم يتعد أحد غرضين:
__________
(1) هذا هو ما يسمونه البوارق أو اللوامع أو اللوامح أو البوادة... إلخ.
(2) يعني بعبارة (جناب القدس) الألوهية.(78/387)
1- إما أن تسأل عما يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الولاية، فهذا مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب، ومتى حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب استحالت حقيقته، وصار من قبيل القسم الآخر النظري، لأنه إذا كُسِيَ الحروف والأصوات، وقُرِّب من عالم الشهادة، لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال، واختلفت العبارات فيه اختلافاً كثيراً، وزلت به أقدام قوم عن الصراط المستقيم، وظُن بآخرين أنها زلت وهي لم تزل، وإنما كان ذلك لأنه أمر لا نهاية له في حضرةٍ متسعة الأكناف، محيطةٍ غير محاط بها.
2- والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا: إن سؤالك لن يتعدى أحدهما، هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر، وهذا- أكرمك الله بولايته- شيء يحتمل أن يوضع في الكتب، وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدمُ من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصقع الذي نحن فيه، لأنه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد، ومَن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس به إلا رمزاً، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد قنعت من الخوض فيه وحذرت عنه. اهـ.
- مع الانتهاء من فقرات ابن طفيل، أريد أن أظن أن القارئ الذي تمرس باللغة الصوفية يعرف أن معنى جملة ابن طفيل: وظن بآخرين أنها زلت وهي لم تزل، وإنما كان ذلك لأنه أمر لا نهاية له في حضرةٍ متسعة الأكناف.. هو أن هناك قوماً قالوا العبارات المخيفة: أنا الله، أو سبحاني، أو ما شابهها. وظن أناس بهم أنهم زلوا، وهو ليس كذلك، لأنهم قالوا ذلك وهم مغلوبون بشدة الجذبة.
ويريدون بقولهم: (زلوا)، أي صرحوا بوحدة الوجود في حالة الصحو، أو فاهوا بالعبارات التي تفضحهم، مثل: أنا الله، سبحاني...، أو ما شابه ذلك، وهذا هو البوح بالسر.
وغوث آخر يصف كشوفه:(78/388)
يقول ابن قضيب البان(1) في كتابه: المواقف الإلهية:
موقف الإسراء:
...ثم زجني الروح بالشوق إلى جهة الفوق، حتى حللنا الطبقة الثانية، فتلقانا بها أمم سانية، ورأيت في ذلك السوح نبي الله نوحاً يملي على أهل كل صنعة صنعته، ويبكي حتى تجري على خديه دمعته، ورأيت دموعه أصل وجود الشهب لتنوير تلك الحجب، ورأيت هناك أرواح العلماء به حافة، وأقدام الشهداء بين الملائكة صافة.
ورأيت فيها عين ماء جارية إلى فوق، وأرواح أهل الشوق والعشق واقفة في تلك السماء، ورأيت فيها فارساً على فرسه طارداً لا يمل ولا يكل ساعة واحدة، فسألت عنه، فقيل: هو الملك عطارد، كاتب الأخبار، وكل من في تلك السماء كتبة...
- للعلم: عطارد أو (الكاتب)، هو كوكب سيار من المجموعة الشمسية، مثل الأرض، يظهر صباحاً قبيل الشمس في المشرق، أو مساء في المغرب، حيث يغيب بعد الشمس بقليل، والكشف الجاهل، لم يساعد القطب الجاهل، على معرفة عطارد كما لم يساعده على معرفة الشهب.
ويكمل ابن قضيب البان قصة عروجه فيقول:
ثم ارتقينا إلى السماء الثالثة، وهي أعظم دائرة...ورأيت عليها حاجبين موكلين، اسم الواحد (القوة)، والآخر (الحول)، فأخذا بيدي ودارا بي في تلك الأماكن كلها...وفيها رأيت يوسف الصديق جالساً على كرسي من الحسن...ورأيت في ذلك السماء صورة مبتسمة والحياء ظاهر منها، فقال لي الروح: هذا المسيح بن مريم روح الله، ورأيت فيها ملائكة لكل ملك ألف رأس، في كل رأس ألف وجه، في كل وجه ألف فم، في كل فم ألف لسان، وقال لي الروح: هذه الملائكة الذين وكلهم الله بأرزاق أولاد آدم في الأرض، وعليهم ملك أعظمهم اسمه (القاسم).
__________
(1) عبد القادر بن محمد بن أبي الفيض السيد الأفضل أبو محمد، يتصل نسبه بقضيب البان الموصلي، ولد بحماة سنة (971هـ)، وتوفي في حلب سنة (1040هـ).(78/389)
ثم انتهينا إلى السماء الرابعة، وهي من معدن الفضة، وجنس خلقها منها، لهم أنوار تتلألأ، ورأيت هناك ملكاً على كرسي جالساً، أعظم أهلها هيبةً وهيئةً، والملائكة صافة به، فسألت عنه، فقيل: هو مغناطيس الأرواح وجامعها بعد انبثاثها في الصور...ثم قال لي الروح: اسم هذه السماء: (القدرة الباهرة)، وفيها رأيت إدريس وأكثر أولياء أمة محمد العارفين بالله، وفي هذه السماء انتشت فيَّ الحواس حتى بقيت أدرك بكل حاسة كل ما تدركه الحواس الخمس، وفيها خرق بصري الكون وشاهدت أعلى عليين وأسفل سافلين.
ثم انتهينا إلى السماء الخامسة، وإذا هي من معدن الذهب، ولونها حمراء، وخلق أهلها من جنسها...وهناك رأيت يحيى وزكريا وهارون...
ثم انتهينا إلى السماء السادسة، وهي من لؤلؤة، ونورها أبيض يعطي إلى الصفرة، وخلق أهلها منها، وفيها رأيت موسى بن عمران عليه السلام، وفيها رأيت ملكاً اسمه بلسائيل...وسألته عن أهل الأرض البيضاء وأصل نشئها، فأجاب عنها بأنها خلقت قبل أن يخلق الله تعالى السماوات والأرض بكذا ألف سنة، وذكر أن هذا الليل والنهار والشمس والقمركانوا موجودين في عالم منها، وكذلك الجواري الكنس، فلما خلق الله السماوات نقل كل كوكب إلى سماء منها، وذكر أن الجنة والنار يسمع بهما أهل السماوات من الملائكة وأهل الأرض من الجن ولم يدروا أماكنها...(78/390)
ثم انتهينا إلى السماء السابعة، وهي درة بيضاء كاللبن، وخلق أهلها من جنسها، وفيها ملك اسمه روحائيل موكل بأهلها...وفيها ملك على كرسي من نور، له أربعة أوجه، وجه على صورة الإنسان، ووجه على صورة الأسد، ووجه على صورة الثور، ووجه على صورة الأسد(1)...وفي هذه السماء رضوان خازن الجنان.. وفيها إسرافيل رئيس عالم الجبروت، وهو الذي بشرني بالقرب والمنزلة الكريمة عند ربي، وبالسعادة في الآخرة والشفاعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السماء رأينا إبراهيم الخليل مسنداً إلى البيت المعمور، وتركت عنده الروح الملكوتي، وأخذ بيدي الرئيس للأرواح الجبروتية، إسرافيل، ثم انتهينا إلى بحار سبع، بحر أحمر، وبحر أسود، وبحر أزرق، وبحر أخضر، وبحر أبيض، وبحر أصفر، وبحر لا لون له، ثم انتهينا إلى حجب سبعين، عند كل حجاب من الحجب من أصناف الملائكة ما لا يعلم صنفهم وعددهم إلا الله تعالى، وعرض كل حجاب كما بين المشرق والمغرب هناك، وعمقه كما بين السماء والأرض، ثم انتهينا إلى سبعين حجاباً أخر، منها من ذهب، ومنها من فضة، ومنها من نحاس، ومنها من جوهر، ومنها من ثلج، ومنها من بَرَد، ومنها من نور، ومنها من ظلمة، وكنت كلما دنوت من حجاب تلقاني حاجبه وزجني فيه إلى أعلاه، بعدما يريني عجائبه وصُنع الحق تعالى فيه، ويبشرني بالكرامة من ربي القادر، حتى انتهيت إلى آخر حجاب هناك، وإذا بكرسي من اللؤلؤ منتصبة قوائمه من الجوهر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، فأخذ آخذ بيدي وأجلسني عليه، ثم نزل علي شيء ودخل جوفي من حيث لا أعلم، فقال لي شيء في قلبي: هاقد أكرمك مولاك بالسكينة الربانية...ثم نوديت من مكان قريب، وذلك من جهاتي الست: يا حبيبي ومطلوبي! السلام عليك، فغمضت عيني، وكنت أسمع بقلبي ذلك الصوت حتى أظنه من جوارحي لقربه مني، ثم نوديت:
__________
(1) صورة هذا الملاك الذي يقدمها هذا القطب، تذكرنا بصورآلهة الهندوس في الهند.(78/391)
انظر إلي ففتحت عيني فصرتُ كلي أعيناً، وكأن في باطني ما أراه في ظاهري، وصرت كأني برزخ بين كونين وقاب....ثم سمعت بقارئ يقرأ قوله: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ...)) [البقرة:285]، وإذا بذلك الحجاب قد رفع، وأذن لي بدخوله، ولما دخلته رأيت الأنبياء صفوفاً صفوفاً، ودونهم الملائكة، ورأيت أقربهم إلى الحق أربعة أنبياء، ورأيت أولياء أمة محمد أقرب الناس إلى محمد، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى، وأقرب إليه أربعة أولياء فعرفت منهم السيد محيي الدين عبد القادر، وهو الذي تلقاني إلى باب الحجاب، وأخذ بعضدي حتى دنوت من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، فناولني يمينه، فأخذته بكلتا يدي، فلا زال يجذبني ويدنيني حتى ما بقي بيني وبين ربي أحد، فلما حققت النظر في ربي رأيته على صورة النبي، إلا أنه كالثلج أشبه شيء أعرفه في الوجود من غير رداء ولا ثياب، ولما وضعت شفتي على محل منه لأقبله، أحسست ببرد كالثلج سبحانه وتعالى، فأردت أن أخر صعقاً، فمسكني سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، وأعادني إلى ورائي، فعدت معه، فتلقاني ثان، فلا زلت القهقرى وأنا شاخص إلى ما أراه، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا على الكرسي الأول(1)...
- جاء في حاشية (الصفحة: 172) أن المؤلف (ابن قضيب البان) كان علق في هامش الصفحة التي فيها هذا النص ما يلي: وإذا أنا بالمسجد الحرام من مكة عند المقام، جالس في الحجر، قريب الفجر، فجددت الوضوء، وحضرت الصلاة سنة الألف وكنت مجاوراً بمكة حينئذ، فتمت الواقعة بعد الصبح.
ونترك مناقشة هذا الكلام الرهيب والتعليق عليه للقارئ.
ويقول ابن قضيب البان أيضاً في نفس الكتاب:
موقف سر قيام الحياة بالذات الوجودية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:166- 172.).(78/392)
أوقفني الحق على سر قيام الحياة بالذات الوجودية، فنظرت إلى سريان وحدة الوجود، والتئام شمل كل موجود، ثم حققت بعين الاعتبار، فإذا أنا بمراتب الوصال...ثم أطلعني على أسوار البدء والعود لدوائر الآثار وتنافر الأسماء، ثم كشف لي عن دائرة الكون السفلي...ثم كشف لي عن سر التنزيل والإرسال، وحكمة الوعد والوعيد، وحال الاجتباء والاصطفاء، ومقام الاختبار، ثم أشهدني العمدة في ذلك بعد كشف السُّبحات، فرأيت هناك صورة شاب، وجهه الشمس نوراً، وحوله صُور كالبدور والنجوم حُسناً، وأشعة أنوارهم جاذبة لكل موجود، وبين أيديهم موائد وأوانٍ بفواكه مملوءة، وأثمار معددة، وأشخاص يأخذون من ذلك الفضل، ويفعلون ما يؤمرون؟ وقد أشغلني نظري إليه، وأدهشني حضوري لديه، فنظر إلي نظر داع وشفيق راع، فسمعت صوتاً يقول: أرسل له الأمانة- بعدما هممت بالإقبال عليه، وكان بيني وبينه نحو عشرة صفوف- واذا بشيء حمله ومد به يده إليَّ، فتناولته بكلتا يدي، وهي آنية مملوءة من كل شيء، فابتلعتها لوقتي، وتيقظت لحسي، فإذا أنا بالبيت الحرام طائف، وقد حييت بحق المقام، وفي يدي كأس من زمزم، ما رشفته منه متمم، وحمدت الله على ما شهدته من الخير المقدم(1).
- ويقول: موقف الأنانية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:186، 187).(78/393)
أوقفني الحق على بساط الأنانية، ثم كشف لي عن سر قيام النفس الرحماني، والسر الباعث لروح الكشف والانتباه...وهناك أراني سر الحقائق في السعة والمضايق...ثم كشف لي عن أسرار المؤالفة والمتابعة وحال المعاينة، وأسرار الأديان المختلفة بالألقاب، ثم كشف لي عن بيت العزة، وأراني كيفية تنزُّل الصحف والكتب المسطَّرة، وكشف لي عن أمم الحروف العالية، وتنزُّلها في قوالب الكلِمِ المرموقة، فرأيت لكل حرف سبعة أبطن...وكشف لي عن إبطان المعية الذاتية وسريانها في سبق السوابق ولحق اللواحق. وكشف لي عن قيام أسرار حروف الألف، فرأيت قيام امتداد (الهمزة) بكل حقيقة خفية، و(اللام) بكل عالم كوني جلي، و(الفاء) بمعرفة كل معروف عند تعريفه، وقال لي: هذا السر لا يظهر إلا عند أفول قمر البشرية، وتجلي شمس الروحانية (أي: في حالة الجذبة)، ثم قال لي: وفي ظهورها قوة (شين) المشيئة، و(ميم) الكلام، و(سين) السلطان في حجب السبحاتية(1)...(إلى آخرهذه الهذيانات التحشيشية الأفيونية الهلوسية (التحشيش الروحاني).
- ويقول: موقف القطبية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:187، 188).(78/394)
أوقفني الحق على بساط القطبية، وقال لي: الإنسان الكامل قطب الشأن الإلهي، وغوث الآن الزماني، أول ما أُسلِّم له التصريف في قُطر نفسه حتى يبلغ الأشد، ثم أُسلِّم له ما وافقه من أقطار الأقاليم، ثم أُسلِّم له الأرض، ثم يُسلِّم له الملك، ثم يجمع له الملك والملكوت، وهذا هو النائب الرحماني. وقال لي: القطب يعرفه كل شيء حتى أهل الغيب وعالم المحال وأهل الأرض البيضاء، ويعرض عليه أحوال العوالم، وصور أولي العلم حتى يسميها بطابع الرحمة ويردها بالبصر. وقال لي: القطب قلبه في كِنِّ عالم الأزل، ومخدع الألوهة، وشخصه قبل كل وارد على الله في مركز الوقت على صفة بين كل عالم وبرزخ بين القبضتين والدارين، وبصره في أسرار الوجود ووجوه القلوب، وهو نكتة إنسان العين في الأبد والأزل، وهو المرآة لرؤية وجه الحق، وعنده مقر قاب قوسين، وقيام لواء الحمل. وقال لي: القطب فاروق الوقت، وقاسم الفيض، وإليه مُفَوَّض أَزمَّة الأمور...وقال لي: الكون كله صورة القطب، وأنا ذاته، وبأنفاسه ظهور ألوان الشئون الذاتية، وهو الباب الذي لا دخول ولا خروج إلا منه(1) (إلى آخر هذه الضلالات الهذيانية الحمقاء).
- ويقول: موقف الغوثية:
__________
(1) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:189، 190).(78/395)
أوقفني الحق على مقام غوثية الوجود وسر الإغاثة لكل موجود، عند خروجه من بحر العدم، ثم كشف لي عن المعارف الغوثية وأرواح مشاهدها في الشاهدين، وتحققتُ أسرار الصمدانية عند شهود أنوارها...ورأيت نشر حلل الرضا وكئوس الصفا وهي دائرة على الواردين من أهل الكشف، وفيها شراب النور والرؤية ومخاطبة الأسرار وسماط اللقاء، ومؤيد البقاء على كرسي الارتقاء، فرأيت أعيان حقائق الوجود حافَّة به، ثم رأيت تجلي الوجه الأحدي، ثم رأيت الهوية ومحاسن (إلاَّ هويَّة)(1)من مظاهر الألوهية في حضرة الأنس وحظيرة القدس.. ثم أُتي لي بخلعة الغوثية(2).
* ملحوظة:
يخبرنا ابن قضيب البان في هذا النص، أنه غوث زمانه، كما يخبرنا أن مقام الغوثية يرافقه، أو يرتبط به شهود أنوار الصمدانية، أو تحقق أسراراها.
وعبارة (تحقق أسرار الصمدانية) أو (شهود أنوار الصمدانية) تحمل نفس معنى العبارة التي تقول: (ذقت من معاني اسمه الصمد).
إذن، فنضيف إلى سؤال سابق سؤالاً جديداً: لِمَ لا تغيث الأمة الإسلامية وتنقذها مما تتردى فيه من ذل ومهانة ودمار في كل مكان، وجهل بالإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ لِمَ ما دمت غوثاً أو قطباً على الأقل؟!
وللعلم، فإنه لا يكون موجوداً في وقت واحد إلا غوث واحد (هكذا يقررون)، ومع ذلك فلم يَخْلُ زمن من عدة أغواث مثل الجيلاني والرفاعي وأبي مدين مثلاً، ويوجد الآن عدة أغواث، حيث يظهر أن شياطينهم مختلفون فيما بينهم.
وللعلم أيضاً، كل الواصلين منهم يعرجون في السماوات ويتحققون بالفناءات، إلا من لا شيخ له.
والملحوظةالهامة أن رؤاهم كلها تنبثق من عواطفهم وطموحاتهم، وتتحرك في أجواء مأخوذة من معلوماتهم التي استقوها من المعارف الشائعة في عصرهم، بعجرها وبجرها وعامها وخاصها.
__________
(1) إلا هوية) مأخوذة من (إلا هو) في قولهم: (لا هو إلا هو).
(2) الإنسان الكامل في الإسلام، (ص:194).(78/396)
ونختم هذا الفصل بكلمة لأبي الهدى الصيادي (المرشد الكامل) عن اللذة في الجذبة، يقول: ...كما أن لهم المناجاة واللذة السارية في جميع وجودهم...(1). وأقول: إن هذه اللذة هي من الأسباب التي تربطهم بالصوفية، والعشق الإلهي هو -في الحقيقة- الشوق إلى هذه اللذة مع مرض الإدمان.
ولعل أهم ملحوظة يجب أن ننتبه إليها هي هذه الرؤى الكشفية التي وصفوها، والتي تظهر بوضوح أنها منبثقة من معلومات المكاشف وأمانيه المختزنة في لا شعوره، وطبعاً، استقى معلوماته من الوسط الثقافي الذي يحيط به، ومن توجيهات الشيخ. كما نرى أن دور قواه الفكرية اللاشعورية هو التنسيق والتصوير، ولو كانت معلومات المكاشف المختزنة وأمانيه مختلفة لتغيَّرت كشوفه حسب اختلافها.
الفصل الثاني
نماذج من حكايات الصوفية ومكاشفاتهم وكراماتهم وعلومهم اللدنية
يا مُلّسْلَيْن يا بلّمعَيْن يا منعلهيْ ……يا ما نقول يا تعليميا يا فَوْأَيَسْ واجفر
حكايات الصوفية وكراماتهم ومكاشفاتهم وعلومهم اللدنية، هي بيان واضح كاف لكشف حقيقة الصوفية.
إنها لا تزيد عن كونها خليطاً من المعلومات الخرافية التي كان الناس يظنونها حقيقة، ومن أوهام غرورية بعثتها أماني خرقاء، وطموحات هذيانية قفزت فوق الدين والعقل والفطرة والواقع، ومن رؤى ومسرحيات يضحك بها على أذقانهم خبثاء تلك المخلوقات، التي ترانا ولا نراها والتي هي الجن.
ولنترك حكاياتهم وكراماتهم ومكاشفاتهم وعلومهم اللدنية، لنتركها تتكلم بواقعها كما هي، لأن واقعها أبلغ من كل كلام.
* جبال قاف وكاف وعين وصاد:-
مما يذكره أبو طالب المكي:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:112).(78/397)
...قيل لأبي يزيد (البسطامي): بلغت جبل قاف؟ فقال: جبل قاف أمره قريب، الشأن في جبل كاف وجبل عين وجبل صاد! قيل: وما هذا؟ قال: هذه جبال محيطة بالأرضين السفلى، حول كل أرض جبل بمنزلة جبل قاف المحيط بهذه الأرض الدنيا، وهو أصغرها، وهذه أصغر الأرضين، وقد كان أبو محمد يخبر أنه صعد جبل قاف ورأى سفينة نوح مطروحة فوقه، وكان يصفه ويصفها؟ وقال: لله عبد بالبصرة يرفع رجله وهو قاعد، فيضعها على جبل قاف(1). اهـ.
* الملحوظة:
النص يبين وضوح ما هو جبل قاف؛ وقد كان الناس يتوهمون صورة غير صحيحة للأرض، والآن عرف سطح الأرض، وعرفت مساحته بدقة، ولم يبق منه أي شيء مجهولاً، حتى قاع البحر، كل ذلك درس طوبوغرافياً وجيولوجياً وفيزيائياً وكيميائياً...والسؤال: أين يقع جبل قاف؟ ولم يكتف القوم بقاف، حتى أضافوا إليها كاف وعين وصاد، ثم إن القرآن الكريم يخبرنا عن سفينة نوح أنها استوت على الجودي، لا على جبل قاف، فهل كان الكشف أصدق من القرآن الكريم؟
لكن ما شأننا نحن؟ فالراوي هو أبو طالب المكي (القطب)، والمكاشف هو قطب أكبر. (وفي كل كشوفاتهم التي سنرى بعضها، تظهر القيمة التافهة لعلومهم اللدنية الجاهلة).
* لا يشرب ولا ينام طيلة سنة كاملة:-
مما يورده أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي وغيرهما:
قيل لأبي يزيد البسطامي: حدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك؟ فقال: نعم، دعوت نفسي إلى الله، فجمحت علي، فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم! فوفت لي(2)!
- بدون مناقشة أو تعليق.
* قصة بدون عنوان:-
__________
(1) قوت القلوب (2/69).
(2) قوت القلوب (2/70)، وإحياء علوم الدين: (4/304).(78/398)
مما يرويه الحجتان، أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي وغيرهما: ...حكي أن أبا تراب النخشبي كان معجباً ببعض المريدين، فكان يدنيه ويقوم بمصالحه، والمريد مشغول بعبادته ومواجدته؛ فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد، فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد. هاج وجد المريد فقال: ويحك، ما أصنع بأبي يزيد؟ قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد! قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك، تغتر بالله عز وجل! لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة!! قال؛ فبهت الفتى من قوله وأنكره، فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك، أما ترى الله تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره، فعرف ما قلت(1)...
- لا يسعنا إلا السكوت الحزين أمام أمثال هذه المكاشفات الضلالية التي أوردها صاحبا: (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين).
* ومرة أخرى جبل قاف:-
يقول أبو طالب المكي (وهو حجة عند القوم):
إن ولياً لله خطا خطوة واحدة خمسمائة عام، ورفع رجله على جبل قاف والأخرى على جانب الجبل الآخر، فعبر الأرض كلها(2)...
* المناقشة:
__________
(1) القوت: (2/70)، والإحياء: (4/305).
(2) قوت القلوب: (2/70).(78/399)
محيط الأرض (أربعون ألف كم)، ونصف المحيط أي (عشرون ألف كم) هي أبعد مسافة بين نقطتين عليه، وعندما يتحدثون عن (مسافة خمسمائة عام) فإنهم يعنونها بسرعة القوافل في ذلك الوقت، وكانت سرعتها الوسطى أو (أقل من الوسطى) حوالي (35 كم) يومياً، حيث كانت تقطع في الشهر حوالي (ألف كيلو متر)، وبذلك يكون محيط الأرض حسب حساباتهم (أربعين شهراً) (فقط لا غير)، أي (ثلاث سنوات وثلث)، وتكون مسافة (الخمسمائة عام) أطول من نصف محيط الأرض بـ (300 مرة) على أقل تقدير، بل وأبعد من المسافة بين الأرض والقمر بـ (15 مرة)، ولكن كشفهم يجهل هذه الحقائق، والسؤال يُترك للقارئ اللبيب مع التوكيد على أنهم يرون ذلك بالكشف وكأنه حقيقي.
* إرم ذات العماد:-
يورد أبو طالب المكي نفسه:
...قيل لأبي يزيد: دخلت إرم ذات العماد؟ فقال: قد دخلت (ألف مدينة) لله في ملكه، أدناها ذات العماد، ثم عدد كلها: البيت، وتاويل، وتاريس، وجابلق، وجابرس، ومسك. ولعل قائلاً يقول: فقد قال الله في وصفها: ((الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ)) [الفجر:8]. قيل: فإن معناه في بلاد اليمن، لأنهم خوطبوا في بلادهم...فذات العماد مدينة عاد في اليمن بين أبتر والشحر، يقال: لها سور له (ألف باب)، ما بين البابين فرسخ، مركبة على أعمدة الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، فيها (مائة ألف عمود) من ذلك...تجتمع في هذه المدينة طائفة من الأبدال ليالي الجمع وفي الأعياد...وقد كان سهل رحمه الله يزورها في كل جمعة(1)....
* المناقشة:
الهذيان الجاهل واضح لا يحتاج إلى من ينبه عليه، لكن يظهر أن كشفهم أجهل ما يكون في حساب المسافات!! لأن سوراً طوله (ألف فرسخ) كاف لتسوير اليمن كلها بما في ذلك أبتر والشحر، ويبقى منه بقية، ولكنه الكشف والعلم اللدني! فلا تعترض.
* حتى أمر الساعة بيدهم:
يقول الحجتان؛ المكي والغزالي:-
__________
(1) قوت القلوب: (2/70).(78/400)
...ولما دخل الزنج البصرة، فقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، اجتمع إلى سهل إخوانُه، فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت. ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة! ولكن لا يفعلون. قيل: لِمَ؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله لهم أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها(1)...
يعلق الغزالي (حجة الإسلام) على هذا الهذيان الضلالي بقوله:
وهذه أمور ممكنة في أنفسها، فمن لم يحظ بشيء منها فلا ينبغي أن يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها، فإن القدرة واسعة، والفضل عميم، وعجائب الملك والملكوت كثيرة، ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها، وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له(2)...
* الملحوظات:
لا نستطيع التعليق على هذه القصة ولا على التعليق؟ فالقصة يرويها عملاقان من عمالقة التصوف، والتعليق يقدمه حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار!! لكن إذا كان قوله: (لو سألوه ألا يقيم الساعة لم يقمها) بكل ما فيه من تطاول وضلال يُستطاع ذكره، فما هي الأشياء التي لا يستطاع ذكرها؟! هي ولا شك أكبر بكثير وأضل بكثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لكنه الكشف والعلم اللدني والولاية، ولا تعترض.
* دعوة إلى الذل والمهانة:
يقول الحجتان نفساهما:
__________
(1) قوت القلوب (2/71)، والإحياء: (4/305).
(2) الإحياء: (4/305).(78/401)
...وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام، فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته، فما غلب على همي ولا همتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس! علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة، فلم يكن لي فيها قدر، ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة؟ فقال: قل: اللهم أسبل علي كثيف سترك، وحط علي سرادقات حجبك، واجعلني في مكنون غيبك، واحجبني عن قلوب خلقك. قال: ثم غاب فلم أره، ولم أشتق إليه بعد ذلك؟ فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم. فحكى أنه صار بحيث يستذل ويمتهن، حتى كان أهل الذمة يسخرون به ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم، وكان الصبيان يلعبون به، فكانت راحته ركود قلبه واستقامة حاله في ذلك وخموله(1)...
- يعلق الغزالي (الإمام حجة الإسلام) على هذا فيقول: وهكذا حال أولياء الله تعالى، ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا(2)...
- ونحن بدورنا نسأل الغزالي، ونسأل معه المكي قبله: ما معنى قوله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [المنافقون:8]؟ على أن الآية نفسها قدمت الجواب، فقالت: ((وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [المنافقون:8].
وأمثال هذه الدعوة تفسر لنا سبب انحطاط المسلمين وما آل إليه أمرهم.
* لا قيمة للصلاة والصيام في الآخرة:-
يقول حجة الإسلام الهمام، بدر التمام، أبو حامد، بل أبو المحامد، الغزالي (بعد أن يتكلم على المقامات الصوفية):
...فالعلم بحدود هذه الأمور...هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة (أي: الصوفية)، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى فقهاء الدنيا(3)...
__________
(1) القوت: (2/73)، والإحياء: (4/306).
(2) الإحياء: (4/306).
(3) الإحياء: (1/19). وهذا المعنى يتكرر في الإحياء، انظر: (4/183، 184).(78/402)
* الملحوظات:
نجيب على الضلال السافر الملاحظ في هذا النص بما يلي:
1- قوله عن العلم بالمقامات الصوفية: هو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، هو تشريع، فنطالبه بالدليل من القرآن والسنة، ونرد عليه بقول الله سبحانه: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21]، ونقول له: هذا تشريع جريء جداً، لم يأذن به الله، وهو شرك عظيم.
2- واضح كل الوضوح أن عبارة (الأعمال الظاهرة) يعني بها: الصلاة والصيام والحج والجهاد...وكل ما ظهر من الأعمال التكليفية، ويقرر (هذا الحجة) أن المعرض عنها هالك بسيف سلاطين الدنيا! أي إنه غير مؤاخذ عند الله! وهذا تكذيب للقرآن والسنة، كما يقرر أنه هالك بفتوى فقهاء الدنيا، أي إن علماء الآخرة (الصوفية) لا يرون فيها شيئاً! وهذا اعتراف بأن الصوفية لا يدينون بأوامر القرآن والسنة.
يكرر (حجة الإسلام) هذا المعنى في عدة مواضع في (إحيائه)، هذا واحد منها، وقد مر بعضها فيما سبق من نصوص، ويُترك الحكم للقارئ اللبيب.
* أذل من الكلب (ضعها في المقام المناسب):-
يورد الحجتان (إياهما):
...روي أن ابن الكُرَيني، وهو أستاذ الجنيد، دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه، فيرجع إليه بعد ذلك، حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك؟ فقال: قد رُضْتُ نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يُطرد فينطرد، ثم يُدعى فيُرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت!(78/403)
وعنه أيضاً أنه قال: نزلت في محلة، فعُرفت فيها بالصلاح، فشُتِّتَ علي قلبي، فدخلت الحمام، وعدلت إلى ثياب فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب، وصفعوني، وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام، فسكنت نفسي(1)...
يعلق الغزالي على هذا العمل الذي لا يمت إلى الإسلام بأي صلة، فيقول: فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق، ثم من النظر إلى النفس، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى (أي: لا يستشعر الألوهية) وشغله بنفسه حجاب له(2)...
- ونجيبه: إن هذا الأسلوب في ترويض النفس متبع في الهندوسية وفي البوذية، وفي الكهانة وفي السحر، والإسلام بريء منه.
ومثل هذا التوجيه المنحرف يفسر لنا سبب ارتكاس الأمة الإسلامية في الدرك الذي تتخبط فيه، وسبب انحراف أبنائها عن المحجة البيضاء.
* الطريق العجيب إلى الولاية العجيبة:
يورد الحجتان نفساهما أيضاً:
__________
(1) القوت: (2/74)، والإحياء: (4/306). وتعزى قصة لص الحمام في القوت إلى مجهول، بينما تعزى في كتاب (نشر المحاسن الغالية) لليافعي إلى إبراهيم الخواص (مات في الري سنة 291هـ).
(2) الإحياء: (4 /306).(78/404)
...وحكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم الليل لا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً! وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها، ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب الساعة إلى المزين، فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك، وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة؛ وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك! فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا! فقال: أبو يزيد: قولك: سبحان الله شرك! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره؟ فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. قال: قد قلت لك إنك لا تقبل(1)...
- يعلق الغزالي على هذا التوجيه الساقط فيقول:
فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه، ومرض بنظر الناس إليه، ولا يُنجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله، فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه...(2).
- وهذا التعليق ينقله الغزالي عن المكي بتصرف.
* الملحوظات:
يلاحظ في هذا النص اعترافٌ من ثلاثة أقطاب، أن طريق الصوفية لا صلة له بطريق الإسلام، فللإسلام طريقه التي أمر الله بها، من صلاة، وصيام،...وبقية الأحكام، وللصوفية طريقها التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهذه القصة يوردها أقطاب آخرون في كتبهم شأن كل القصص الأخرى.
أما الملحوظات الأخرى فنتركها للقارئ اللبيب.
__________
(1) القوت: (2/74، 75)، والإحياء: (4/306).
(2) الإحياء: (4/307).(78/405)
* جعلوا الدعاء منسوخاً (من مقام التسليم والرضا):-
يورد الغزالي والمكي قبله:
...وضاع لبعض الصوفية ولد صغير ثلاثة أيام لم يُعرف له خبر، فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك؟ فقال: اعتراضي فيما قضى أشد عليّ من ذهاب ولدي(1).
- سؤال موجه إلى صاحبي: (القوت) و(الإحياء): ما معنى قوله سبحانه: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60]؟ وهل نسخهاكشفهم؟!!
* من مقام الفقر:
يورد شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وقال الدراج: فتشت كنف أستاذي أريد مكحلة، فوجدت فيها قطعة، فتحيرت، فلما جاء قلت له: إني وجدت في كنفك هذه القطعة! قال: قد رأيتها؟ ردها، ثم قال: خذها واشتر بها شيئاً. فقلت: ما كان أمر هذه القطعة بحق معبودك؟ فقال: ما رزقني الله تعالى من الدنيا صفراء ولا بيضاء غيرها، فأردت أن أوصي أن تشد في كفني فأردها إلى الله(2)...
* الملحوظة:
لا أظن أن مسلماً عنده شيء من الفهم الإسلامي، يجهل ما في هذا القول من غباء وضلال وتفكير وثني لا يمت إلى الإسلام بصلة؟! يجعل القطعة في كفنه ليردها إلى الله!!
* صدق أو لا تصدق:-
مما يورده أبو نصر الطوسي وابن الملقن:
أن محمد بن علي الكتاني(3) ختم في الطواف (اثنتي عشر ألف ختمة)(4)!
- كيف تم هذا؟ لا ندري.
* ومن كراماتهم:-
مما يورده عبد الوهاب الشعراني:
...ومنهم عبد الله بن عون رضي الله تعالى عنه...كان يخلو في بيته صامتاً متفكراً، وما دخل حماماً قط(5).
- ولا تعليق.
* المهدي الذي لا يعرفه الإسلام:
ويورد الشعراني نفسه:
__________
(1) القوت: (2/43)، والاحياء: (4/299).
(2) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/310).
(3) الكتاني بغدادي مات في مكة سنة (322هـ).
(4) اللمع، (ص:225)، وطبقات ابن الملقن، (ص:148).
(5) طبقات الشعراني (1/64).(78/406)
...الشيخ حسن العراقي صاحب الضريح فوق الكوم بقرب بركة الرطلي بمصر، ذكر لي رضي الله تعالى عنه أنه اجتمع بالمهدي إمام آخر الزمان عليه السلام بدمشق، وأقام عنده سبعة أيام، وعلمه ورده كل ليلة (خمسمائة ركعة) وصيام الدهر(1)...
- سؤال: من هو هذا المهدي الساكن في دمشق، والذي سيظهر آخر الزمان؟ ومتى ولد؟ وكم عمره الآن؟ وهل هو حي لا يموت؟...إلى آخر الأسئلة.
وفي حدود ما سمعت، يوجد الآن ثلاثة أقطاب يدّعون المهدوية، قطبان في بلاد الشام، وقطب في الجزائر، وكل واحد منهم ينتظر الإذن بالتحرك! وكم من قطب أخبره كشفه أنه المهدي فكان كشفه كاذباً مثله.
وهنا تتوارد أسئلة كثيرة، أتركها للقارئ ليتسلى بها وبالتعليق على هذه الكشوف والمشاهدات.
ولكن ما يجب قوله: إن المهدية عن طريق الكشف، كانت من الأسباب الرئيسية لتشتت الأمة الإسلامية وتمزقها، وانحرافها عن الطريق المستقيم، ومن قرأ التاريخ عرف هذه الحقيقة الأليمة.
- كرامات؟ كرامات؟ كرامات؟ كرامات؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الشعراني (القطب الرباني والغوث الصمداني):
...وسبب حضوري في مولده (أي: مولد أحمد البدوي) كل سنة، أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه، أحد أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ علي العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه، وسلَّمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من الضريح، وقبضت على يدي. وقال سيدي: يكون خاطرك عليه واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر يقول: نعم نعم. ثم إني رأيته بمصر مرة أخرى هو وسيدي عبد العال، وهو يقول: زرنا بطندتا (طنطا)، ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك، (وطبعاً المرئي في مصر مع سيدي عبد العال هو أحمد البدوي الميت من قرون)، فسافرت، فأضافني غالب أهلها وجماعة المقام ذلك اليوم، كلهم بطبيخ الملوخية.
__________
(1) الأنوار القدسية في الآداب، هامش الطبقات: (1/5).(78/407)
ثم رأيته (أي: أحمد البدوي الذي مات منذ قرون) وقد أوقفني على جسر قحافة، تجاه طندتا، فوجدته سوراً محيطاً، وقال: قف هنا، أدخل علي من شئت وامنع من شئت. ولما دخلت بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن وهي بكر، مكثت خمسة شهور لم أقرب منها، فجاءني (أي: أحمد البدوي) وأخذني وهي معي، وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل، وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه، وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة.
وتخلفت عن ميعاد حضوري للمولد سنة (948هـ)، وكان هناك بعض الأولياء، فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه، كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح، ويقول: أبطأ عبد الوهاب ما جاء.
وأردت التخلف سنة من السنين، فرأيت سيدي أحمد رضي الله عنه ومعه جريدة خضراء، وهو يدعو الناس من سائر الأقطار، والناس خلفه ويمينه وشماله، أمم وخلائق لا يحصون، فمر علي وأنا بمصر، فقال: أما تذهب؟ فقلت: بي وجع. فقال: الوجع لا يمنع المحب؛ ثم أراني خلقاً كثيراً من الأولياء وغيرهم، الأحياء والأموات من الشيوخ والزمنى بأكفانهم يمشون ويزحفون معه يحضرون المولد، ثم أراني جماعة من الأسرى جاءوا من بلاد الإفرنج مقيدين مغلولين يزحفون على مقاعدهم(1)...
- أقول: المأمول، الآن، من القارئ الكريم أن يكون عارفاً أن هذه كلها هلوسات كشفية، تختلط عند العارف مع الواقع فلا يميز بينهما، وأنها ليست من الإسلام في شيء، وأن الهندوس والطاويين والجبنيين يرون مثلها وأكثر، وكذلك بعض مرضى الأعصاب، ونزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، والحشاشين، كما أن المأمول أيضاً أن يكون عارفاً لما فيها من شرك ووثنية، ومخالفات صريحة جريئة للإسلام ولدين الإسلام، ولرسول الإسلام، ولكل ما جاء به الإسلام. (ولكنه الكشف على كل حال).
* كشف:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/186).(78/408)
...وكان (علي وفا) يقول في قوله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...)) [آل عمران:96] الآية، المراد به قلب آدم عليه السلام، لأنه أول بيت وضع للرب في البشر، وهو أيضاً بجسده مدفون تحت عتبة هذا البيت، كما أعطاه الكشف، وأما بنيّة البيت فهو مثال مضروب للقاصرين ليتذكروا به المعنى عند رؤية مثاله، فافهم(1).
- التعليق: هذه صورة من التفسير الإشاري أرجو من القارئ أن ينتبه لها، وتترك الأسئلة للقارئ.
* كرامة.. وكشف عورة:
...ومنهم الشيخ محمد بن هارون رضي الله تعالى عنه ورحمه...وكان سبب خراب بلده سنهور المدينة، أنه كُشف له عن صاعقة تنزل عليها من السماء تحرقها بأهلها، فأمر بذبح ثلاثين بقرة وطبخها، ومدها في زاويته، وقال للنقباء: لا تمنعوا أحداً يأكل أو يحمل، فأكل الناس وحملوا جهدهم، فجاء فقير مكشوف العورة، أشعث أغبر، فقال: أطعموني، فأطعموه حتى عجزوا، فلم يستطيعوا أن يشبعوه، فدفعوه وأخرجوه، فنزلت الصاعقة على البلد، فخرج الشيخ بأهله ومن تبعه، وهلك الناس في أسواقهم وبيوتهم أجمعين، فقال الشيخ للنقيب: يا ولدي: ما هذا الذي فعلته؟ شخص يريد أن يتحمل البلاء عن بلدنا بأكلة تمنعه! فهي إلى الآن خراب، وعمروا خلافها(2)...
سؤال واحد: متى خرج الشيخ مع أهله وأتباعه من المدينة؟ هل كان ذلك قبل الصاعقة أم بعدها؟ وماذا عن كشف العورة؟ والأسئلة والتعليقات كثيرة تُترك للقارئ اللبيب الفاهم للإسلام.
* والآن جاء دور السحلية (حيوان زاحف صغير):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/31).
(2) طبقات الشعراني: (2/3)، وجامع النبهاني: (1/210)، والنبهاني (يوسف بن إسماعيل) من إجزمْ شمالي فلسطين، درس في الأزهر وعمل في القضاء وتوفي في بيروت سنة (1350هـ).(78/409)
...وحكى لي شيخنا سيدي علي الخواص رضي الله تعالى عنه، أن سيدي محمد بن هارون، سلبه حاله مرة صبي القرَّاد، وذلك أنه كان إذا خرج من صلاة الجمعة، تبعه أهل المدينة يشيعونه إلى داره، فمر بصبي القراد وهو جالس تحت حائط يفلِّي خلقته من القمل وهو ماد رجليه؛ فخطر في سر الشيخ أن هذا قليل الأدب، يمد رجليه ومثلي مار عليه، فسُلب لوقته! وفرت الناس عنه، فرجع فلم يجد الصبي، فدار عليه في البلاد إلى أن وجده في رميلة مصر؛ فلما نظر القراد الكبير إليه وهو واقف، وقد فرغوا، قال له: تعال يا سيدي الشيخ، مثلك يخطر في خاطره أن له مقاماً أو قدراً؟ هذا الصبي سلبك حالك، فله أن يمد رجله بحضرتك لكونه أقرب إلى الله منك! فقال: التوبة، فأرسله إلى سنهور المدينة، إلى الحائط التي كان يفلي ثوبه عندها، وقال له: ناد السحلية التي هناك في الشق، وقل لها: إن قزمان طاب خاطره علي فردي علي حالي، فخرجت ونفخت في وجهه، فرد الله عليه حاله رضي الله عنه(1).
- عجيب! الولاية، يسلبها صبي القراد وتعيدها سحلية!! وما دامت الولاية بنفخة سحلية، فما معنى قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء:70] و...إلخ.
إن هذه العلوم الخرافية وأمثالها سيطرت على الأمة الإسلامية طيلة قرون طويلة، وسيطر بسببها الجهل بجميع أنواعه وأشكاله حتى وصلت إلى ما هي فيه الآن، ولم تزل هذه العقلية الغنوصية المنبعثة من الرؤى الشيطانية، التي تضحك بها الشياطين على عقول هؤلاء القوم وعلى أذقانهم، وهم يبثونها بين الناس، لم تزل مسيطرة على أفكار جماهير المسلمين، حتى المثقفين منهم، ولكنها تظهر بصور شتى. (وعلى كل حال هي العلوم اللدنية فسلِّم للقوم حالهم).
* تسجد لهم الملائكة:-
يقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام، شيخ المسلمين والإسلام):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/3)، وجامع النبهاني: (1/211).(78/410)
...من الأولياء من تسجد الملائكة له، وتكتف أيديها إلى ورائها. آحاد أفراد من الأولياء ترى الملائكة(1)...اهـ.
- وأنا أيضاً أقف هنا مكتوف الأيدي إلى وراء، لا أعرف ماذا أعلق على هذا المستوى من الضلال؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهذا طبعاً من العلم اللدني.
ويقول الجيلاني نفسه:
يا غلام، اقرن بين الدنيا والآخرة، واجعلهما في موضع واحد، وانفرد بمولاك عز وجل عرياناً من حيث قلبك، بلا دنيا ولا آخرة...يا غلام، لا تكن مع النفس ولا مع الهوى، ولا مع الدنيا، ولا مع الآخرة، ولا تتابع سوى الحق عز وجل(2)...
* التعليق:
يأمرنا (سلطان الأولياء) أن نتعرى عن الدنيا والآخرة، ويأمرنا أن نقرن الآخرة بالدنيا، بمعنى أن ننبذ الآخرة كنبذنا للدنيا؟ ويقرن الآخرة مع النفس والهوى والدنيا، فنسأله، ونسأل الذي خدعوا به: ماذا بقي لنا إن تعرينا عن الآخرة وتركناها؟ ولم يعمل العاملون المؤمنون؟ أليس كل عمل المؤمن هو من أجل الآخرة؟
الله سبحانه يعلمنا أن ندعوه: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [البقرة:201]، فهل نطيع الله أم نطيع الجيلاني؟
عشرات الآيات في القرآن الكريم تأمرنا أن تكون غايتنا هي الآخرة، وأن تكون هي رجاءنا من الله سبحانه، منها مثلاً: ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ)) [العنكبوت:36]، فهل وصل (المقام) بالجيلاني إلى مستوى نسخ القرآن؟!
ثم يتساءل المتسائلون: ما دام الإسلام دين الفطرة، فلِمَ انحرف عنه المسلمون وابتعدوا منه بسلوكهم وأخلاقهم وعقائدهم؟ والجواب ماثل أمام الأعين، لكنها لا تعمى الأبصار...
__________
(1) الفتح الرباني: (ص:370).
(2) الفتح الرباني، (ص:14، 15).(78/411)
ويقول:..يا جاهل، اترك الدفتر من يدك، وتعال اقعد ههنا بين يدي على رأسك، العلم يؤخذ من أفواه الرجال لا من الدفاتر، يؤخذ من الحال لا من المقال، يؤخذ من الفانين عنهم (أي: عن أنفسهم) وعن الخلق، الباقين بالحق عز وجل(1)...- إنه ينهى عن علم الدفاتر ويأمر بعلم الحال لا بعلم المقال: وطبعاً علم الدفاتر، هو نفسه علم المقال، (الذي يتعلم بالقول واللسان)، وهو كل العلوم الإنسانية بما فيها علم الشريعة الإسلامية من قرآن وحديث وشروحهما وفقههما...إلخ، ثم يتساءلون عن سبب الجهل المتفشي في المسلمين؟
* كرامة فوق الإعجاز والمعجزات:-
...ومنهم الشيخ علي نور الدين المرصفي رحمه الله تعالى ورضي عنه آمين: كان من الأئمة الراسخين في العلم، وله المؤلفات النافعة في الطريق...وذكر لي سيدي أبو العباس رحمه الله أنه قرأ بين المغرب والعشاء خمس ختمات؟! فقال الشيخ: الفقير وقع له أنه قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة؟؟!! كل درجة ألف ختمة(2)...اهـ.
- واإسلاماه! واعقلاه! واإنسانيتاه! واحياءاه؟! ولكنها الولاية؟
إن هذه الرؤى الشيطانية وأمثالها، التي سيطرت على عقول المسلمين، هي التي أفسدت فيهم ما أفسدت من تفكير أصبح غير سليم، لا يفكر إلا بأسلوب خرافي سحري بعيد عن الواقع الصحيح، ومن عقيدة انحرفت عن عقيدة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن سلوك أصبح موجهاً بالخيالات الصوفية الضبابية، والرؤى الكشفية التي تختلط عند الكمَّل مع الواقع فلا يميزون بينهما غالباً.
* كرامات وولاية تمقت الأذان وتحارب الصيام:-
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:214).
(2) طبقات الشعراني: (2/128)، وجامع النبهاني: (2/367)، وذكرها الشيخ عبد الغني النابلسي في (شرح الطريقة المحمدية).(78/412)
...ومنهم سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله تعالى عنه آمين...وكان كثير الكشف، وله وقائع مشهورة...وكان بوله كالحليب أبيض، وكان يغلب عليه الحال فيخاصم ذباب وجهه، وكان يتشوش من قول المؤذن (الله أكبر) فيرجمه ويقول: عليك يا كلب نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكبروا علينا! وما ضبطت عليه قط كشفاً أخرم فيه...وكان رضي الله عنه يقول: أنا ما عندي من يصوم حقيقة إلا من لا يأكل اللحم الضاني أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون اللحم الضاني والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل...وكان يفرش تحته في مخزنه التبن ليلاً ونهاراً، وقبل ذلك كان يفرش زبل الخيل، وكان إذا مرت عليه جنازة وأهلها يبكون، يمشي أمامها معهم ويقول: زلابية هريسة زلابية هريسة، وأحواله غريبة(1)...اهـ. ولا تعليق.
* ولي يمنع خادمه من الصلاة ويضربه إذا صلى:-
...ومنهم سيدي الشيخ شهاب الدين الطويل النشيلي رضي الله تعالى عنه...وكان ينادي خادمه وهو في الصلاة، فإن لم يجبه مشى إليه وصكه ومشى به وقال: كم أقول لك لا تعد تصلي هذه الصلاة المشئومة، فلا يستطيع أحد يخلصه منه(2)...
- وبالطبع فإن الصوفية يرون أن منعه من الصلاة له تأويل!
* جب نفسه تقرباً إلى الله (لعل هذا من مقام الورع!:-
...ومنهم سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله تعالى عنه (وهو من السلسلة الشاذلية) كان رضي الله عنه من الأولياء الأكابر...وكان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه أوائل جذبه، وكان جالساً على الرمل صيفاً وشتاءً، وإذا جاع أو عطش يقول: أطعموه، أسقوه(3) اهـ.
ولا تعليق.
* تواضع مرحاضي ويدخل الجامع بالكلاب! رضي الله عنه:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/140).
(2) طبقات الشعراني: (2/141).
(3) طبقات الشعراني: (2/141).(78/413)
...ومنهم الشيخ أبو الخير الكليباتي رضي الله عنه، كان رضي الله عنه من الأولياء المعتقدين، وله المكاشفات العظيمة مع أهل مصر وأهل عصره...وكان أغلب وقته واضعاً وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم! ويدخل الجامع بالكلاب(1)!!
- لعل هذا من مقام التواضع المرحاضي الممزوج بالكلاب.
* مأمونية حموية:-
وحكى لي خادم سيدي أبي الخير الكليباتي أن شخصاً أتاه وأخبره أنه قال للشيخ:
إن زوجتي حامل، وقد اشتهت مأمونية حموية، ولم أجدها، فقال له الشيخ: ائتني بوعاء، فأتاه به، فتغوط له فيها مأمونية سخنة! فقال الخادم: وأكلت منها لعدم اعتقادي أنها غائط(2)!!
(ولا تعليق).
* يخطب عرياناً ويخرج الريح أمام الناس ويحلف كاذباً رضي الله عنه:-
...ومنهم الشيخ إبراهيم العريان رضي الله تعالى عنه ورحمه...وكان رضي الله تعالى عنه يطلع المنبر ويخطب عرياناً، فيقول: السلطان ودمياط باب اللوق بين القصرين وجامع طيلون الحمد لله رب العالمين، فيحصل للناس بسط عظيم...وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر، ثم يقول: هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك، فيخجل ذلك الكبير منه، مات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة(3).
* ملحوظة هامة:
يظهر أن العري أمام الناس، المحرم في الإسلام، هو من مستلزمات الولاية الصوفية، ولكنه هين أمام المأمونية الحموية.
على كل حال، يجب أن تؤول لهؤلاء القوم ضلالاتهم للتستر عليها، كما يجب أن لا ننسى أنه يحلف كاذباً رضي الله عنه!.
* طبل وزمر:-
ومنهم سيدي إبراهيم المجذوب رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه كل فلوس حصلها يعطيها للمطبلين ويقول: طبلوا لي زمروا لي(4)...
* يحمل عن الناس؛ ماذا؟ ويتطور؛ لماذا؟:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/143)، وجامع النبهاني: (1/454).
(2) الأنوار القدسية في القواع: (2/44).
(3) طبقات الشعراني: (2/142)، وجامع النبهاني: (1/412).
(4) طبقات الشعراني: (2/142).(78/414)
...ومنهم سيدي سويدان المدفون بالخانكه رضي الله عنه...ووقع له وقائع وكرامات، وكان فمه لم يزل فيه نحو الخمسين حبة من الحمص ليلاً ونهاراً، يقال: إنها حملات الناس(1)...
وكان كثير التطور، يدخلون عليه فيجدونه سبعاً تارة وفيلاً أخرى(2) (وطبعاً دور إبليس واضح).
* رحمة بالجيف والحيوانات الميتة:
ومنهم سيدي بركات الخياط، كان رضي الله عنه من الملامتية، وهو شيخ أخي أفضل الدين، وشيخ الشيخ رمضان الصائغ الذي بنى له الزاوية...وكان دكانه مُنتناً قذراً، لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده(3). اهـ. (أمام هذه الكرامات أحسن شيء هو الرقص مع النقص).
* يأكل كل يوم زبيبة فقط:-
ومنهم الشيخ مرشد رضي الله عنه: كان رضي الله عنه قادري الخرقة، وكان يطوي الأيام والليالي، وأخبرني أنه مكث نحو أربعين سنة يأكل كل يوم زبيبة واحدة حتى لصق بطنه على ظهره(4)...
- إنه بذلك ابتعد عن هدي الإسلام، والله لا يقبل من العبادات إلا ما أمر به.
* كرامات (فوق الفوق):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/144).
(2) جامع النبهاني: (2/100).
(3) طبقات الشعراني: (2/144).
(4) طبقات الشعراني: (2/148).(78/415)
ومنهم سيدي علي وحيش من مجاذيب النجارية رضي الله عنه: كان رضي الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال...وله كرامات وخوارق...وأخبرني محمد الطنيخي رحمه الله تعالى، قال: كان الشيخ وحيش رضي الله عنه يقيم عندنا في المحلة في خان بنات الخطا، وكان كل من خرج يقول له: قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين، ولا يمكنه أن يخرج حتى يجاب في شفاعته...وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة، ويقول له: أمسك رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة، وقد أخبرتُ عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه، فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة(1)! (ولا تعليق).
* من ولايتهم الزنا والمواخير:-
...ووقع للشيخ زون بهار المدفون بالقرافة بالقرب من سيدي يوسف العجمي رضي الله عنه، أنه كان يصعق في حب الله تعالى، فتضع الحوامل ما في بطونها من صعقته! فحول الله تعالى ذلك إلى حب امرأة من البغايا، فجاء إلى الصوفية، ورمى لهم الخرقة، وقال: لا أحب أن أكذب في الطريق، إن واردي تحول إلى حب فلانة؛ ثم صار يحمل لها العود، ويُركبها، ويمشي في خدمتها، إلى أن تحول الوارد إلى محبة الحق بعد عدة شهور، فجاء إلى الصوفية، فقال: ألبسوني الخرقة، فإن واردي رجع عن محبة فلانة؛ فبلغها ذلك فتابت ولزمت خدمته(2)...(ولا تعليق).
* قصة في القصص:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/150)، وجامع النبهاني: (2/515).
(2) طبقات الشعراني: (2/154)، وجامع النبهاني: (2/77)، وقد ورد الاسم فيها (روز بهار) بدلاً من (زون بهار).(78/416)
...وأخبرني شيخ الإسلام الشيخ نور الدين الطرابلسي الحنفي، والسيد الشريف الخطابي المالكي النحوي رحمهما الله تعالى، قالا: سمعنا سيدي عثمان رضي الله عنه يقول: لما حججت مع سيدي أبي بكر (الدقدوسي) سألته أن يجمعني على القطب فقال: اجلس هاهنا، ومضى فغاب عني ساعة، ثم حصل عندي ثقل في رأسي، فلم أتمالك أحملها حتى لصقت بعانتي، فجلسا يتحدثان عندي بين زمزم والمقام ساعة، وكان من جملة ما سمعت من القطب يقول: آنستنا يا عثمان، حلت علينا البركة، ثم قال لشيخي: توص به فإنه يجيء منه، ثم قرأا سورة الفاتحة وسورة قريش، ودعوا وانصرفا، ثم رجع سيدي أبو بكر رضي الله عنه فقال: ارفع رأسك. قلت: لا أستطيع. فصار يمرجني ورقبتي تلين شيئاً فشيئاً حتى رجعت لما كانت عليه، فقال: يا عثمان هذا حالك وأنت ما رأيته! فكيف لو رأيته(1)؟
- فما هذا القطب الرهيب الثقيل؟!
* عجائب وغرائب، والإله هو إبليس عليه الصلاة والسلام:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/106)، وجامع النبهاني: (2/294).(78/417)
ومنهم الشيخ محمد الحضري رضي الله تعالى عنه؛ المدفون بناحية نهبا بالغربية، وضريحه يلوح من البعد من كذا وكذا بلداً، كان من أصحاب جدي رضي الله عنهما، وكان يتكلم بالغرائب والعجائب من دقائق العلوم والمعارف ما دام صاحياً، فإذا قوي عليه الحال (أي: الولاية) تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها في حق الأنبياء وغيرهم، وكان يُرى في كذا وكذا بلداً في وقت واحد، وأخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة، فسألوه الخطبة، فقال: بسم الله؛ فطلع المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ومجده، ثم قال: وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام، فقال الناس: كفر. فسل السيف ونزل، فهرب الناس كلهم من الجامع، فجلس عند المنبر إلى أذان العصر وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع، ثم جاء بعض أهل البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلد أنه خطب عندهم وصلى بهم، قال: فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في بلدنا...وكان يقول: لا يكمل الرجل حتى يكون مقامه تحت العرش على الدوام. وكان يقول: الأرض بين يدي كالإناء الذي آكل منه، وأجساد الخلائق كالقوارير أرى ما في بواطنهم، توفي رضي الله عنه سنة سبع وتسعين وثمانمائة رضي الله عنه(1).
* تعليق على ما مضى:
هذه الكشوف والكرامات والعلوم اللدنية، تكشف لنا عن سبب النكسة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية، بعد أن بعثها الله تلك البعثة الرائعة، لتكون سيدة التاريخ، ولتقيم شريعة الله في الأرض، حتى إذا ظهرت الصوفية وانتشرت، ضربت على الأمة غشاءً كثيفاً من الجهل والضلال والانحراف عن الإسلام...وسيقول لك المتصوفة: هذه القصص والكرامات والعلوم اللدنية لها تأويل. فنجيبهم: هذه خدعة باطلة ماكرة، تدل على أن القوم يكيدون للإسلام ويضمرون له الشرور.
* ما هو معنى (لا إله إلا الله)؟ يقول حجه الإسلام:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/107)، وبعضها في جامع النبهاني: (1/286).(78/418)
...والأنبياء هم الكحالون، وقد جاءوا داعين إلى التوحيد المحض، وترجمته قول (لا إله إلا الله)، ومعناه: أن لا يرى إلا الواحد الحق(1)!! لنتذكر بيت شعر مجدد الألف الثاني.
- (لا إله إلا الله) هي المدخل إلى الإسلام، وهاهم قد حرفوا معناها! فماذا بقي لهم من الإسلام؟
* العصا إنسان، والبحر في إبريق، (والعقل والإيمان في سبات عميق):-
ومنهم الشيخ محمد الشربيني رحمه الله تعالى، شيخ طائفة الفقراء بالشرقية، كان من أرباب الأحوال والمكاشفات...ولما ضعف ولده أحمد، وأشرف على الموت، وحضر عزرائيل لقبض روحه، قال له الشيخ: ارجع إلى ربك فراجعه فإن الأمر نُسخ؟ فرجع عزرائيل وشفي أحمد...وكان رضي الله عنه يقول للعصا التي كانت معه: كوني إنساناً، فتكون إنساناً، ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت...وكان من عادته أنه يأمر مريديه بالشحاتة على الأبواب دائماً في بلده...وكان الشيخ محمد بن عنان وغيره ينكرون عليه لعدم صلاته مع الجماعة، ويقول: نحن ما نعرف طريقة تقرب إلى الله تعالى إلا ما درج عليه الصحابة والتابعون...له ذرية بأرض الغرب، وذرية في بلاد العجم، وذرية في بلاد الهند، وذرية في بلاد التكرور، فكان في ساعة واحدة يطوف على عياله في هذه البلاد ويقضي حوائجهم، وكل أهل بلاد يقولون: إنه مقيم عندهم، ولتبدله في هذه الصور، وتصرفه في هذه الأشكال، كان ربما أنكر عليه بعض الفقهاء ترك الجمعة...وكان إذا أراد أن يعدِّي في البحر يقول له المعدِّي: هات كراء...فقال الشيخ: (ها الله)، وطأطأ الإبريق، فأخذ ماء البحركله فيه!! ووقف المركب على الأرض، فاستغفر المعدِّي وتاب، فصب الإبريق في البحر، ورجع الماء كما كان(2)...
- لنلاحظ في هذه القصة تلاعبات الشياطين في المناظر الوهمية الموهمة.
* واقف تجاه المارستان دائماً ولا يتغوط:-
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/75).
(2) طبقات الشعراني: (2/136)، وجامع النبهاني: (1/296، 297).(78/419)
ومنهم الشيخ علي الدويب رحمه الله تعالى آمين...وكان رضي الله عنه يمشي على الماء في البحر...وكان لم يزل واقفاً تجاه المارستان بين القصرين من الفجر إلى صلاة العشاء وهو متلثم وبيده عصاً مِنْ شوم.. كان لا يدخل بيت الخلاء لقضاء الحاجة إلا في كل نحو ثلاثة أشهر مرة واحدة(1).
* يشفع بالملائكة ويقوم للكلب!!:-
ومنهم أبو محمد عبد الرحيم المغربي القناوي رضي الله تعالى عنه: هو من أجلاء مشايخ مصر المشهورين وعظماء العارفين، صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة، له المحل الأرفع من مراتب القرب والمنهل العذب...وحُكي أنه نزل يوماً في حلقة الشيخ شبَحٌ من الجو، لا يدري الحاضرون ما هو، فأطرق الشيخ ساعة، ثم ارتفع الشبح إلى السماء! فسألوه؟ فقال: هذا مَلَك وقعت منه هفوة، فسقط علينا يستشفع بنا، فقبل الله شفاعتنا فيه، فارتفع!! وكان الشيخ إذا شاوره إنسان في شيء يقول له: أمهلني حتى أستأذن لك فيه جبريل عليه السلام، فيمهله، ثم يقول له: افعل أو لا تفعل، على حسب ما يقول جبريل...ومر مرة عليه كلب فقام له إجلالاً، فقيل له في ذلك؟ فقال: رأيت في عنقه خيطاً أزرق من زي الفقراء(2)...(هكذا وإلا فلا).
لئلا نتهم هؤلاء القوم الأبرار يجب أن نؤول كلامهم: فالمَلَك الذي نزل ليستشفع بالشيخ تأويله: إن الشيخ كان يرقص السماح في الحضرة، واستئذانه جبريل عليه السلام، فجبريل هذا هو أحد الأولياء المعاصرين للشيخ، واسمه: جبريل عليه السلام، والكلب الذي قام إجلالاً له هو أحد الأقطاب، والخيط الأزرق هو الدليل والبرهان. (ودور إبليس واضح).
* يكتحل بالملح والميل المحمي بالنار:-
__________
(1) طبقات الصوفية: (2/136)، وجامع النبهاني: (2/366).
(2) طبقات الشعراني: (1/157)، وجامع النبهاني: (2/165).(78/420)
ومنهم أبو بكر جحدر الشبلي رضي الله عنه...وكان رضي الله عنه يقول: اكتحلت بالملح كذا وكذا ليلة، لأعتاد السهر، ولا يأخذني النوم، فلما زاد علي الأمر حميت الميل واكتحلت به(1)...
- ولعل القارئ يدرك جيداً أن هذا كان قبل وصول الشبلي إلى الجذبة التي يسمونها (ولاية)، ونسأل: هل عمله هذا من الإسلام أم من الهندوسية؟
* والكلب أيضاً ولي:-
ومنهم سيدي يوسف العجمي الكوراني رضي الله تعالى عنه: وهو أول من أحيا طريقة الجنيد رضي الله عنه بمصر...ولقد وقع بصره يوماً على كلب، فانقادت إليه جميع الكلاب، إن وقف وقفوا، وإن مشى مشوا، فأعلموا الشيخ بذلك، فأرسل خلف الكلب، وقال: إخسأ، فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها. ووقع له مرة أخرى أنه خرج من خلوة الأربعين، فيقع بصره على كلب، فانقادت إليه جميع الكلاب، وصار الناس يُهرعون إليه (إلى الكلب) في قضاء حوائجهم، فلما مرض ذلك الكلب، اجتمع حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه، فلما مات أظهروا البكاء والعويل، وأَلْهَمَ الله تعالى بعض الناس فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا(2)...(ونترك التعليق للقارئ).
* بوضوء واحد سبع عشرة سنة:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/104).
(2) طبقات الشعراني: (2/66)، وجامع النبهاني: (2/535).(78/421)
ومنهم سيدي عيسى بن نجم، خفير البرلُّس رضي الله عنه، كان من العلماء العاملين، وله المجاهدات العالية في الطريق؛ وسمعت سيدي علياً المرصفي رضي الله عنه يقول: مكث سيدي عيسى بن نجم بوضوء واحد سبع عشرة سنة! فقلت: يا سيدي، كيف ذلك؟ فقال: توضأ يوماً قبل أذان العصر، واضطجع على سريره، وقال للنقيب: لا تمكن أحداً يوقظني حتى أستيقظ بنفسي، فما تجرأ أحد يوقظه، فانتظروه هذه المدة كلها، فاستيقظ وعيناه كالدم الأحمر، فصلى بذلك الوضوء الذي كان قبل اضطجاعه، ولم يجدد وضوءاً؛ وكان في وسطه منطقة، فلما قام وحلها تناثر من وسطه الدود رضي الله عنه(1).
* تنبيه:
هذا الكلام له تأويل (اجتناباً لاتهام العارفين بالضلال والجهل والغباء)، فسبع عشرة سنة (بفتح السين)، تأويلها: سبع عشرة سنة من النوم (بكسر السين)، مقدار كل سنة من النوم ثانيتان، فيكون المجموع أربعاً وثلاثين ثانية، (أي: أكثر من نصف دقيقة)، وأما السنة من النوم (بكسر السين)، فتأويلها أنه كان يقرأ ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) [البقرة:255]. والدود تأويله (طووووووط).
ويجب أن لا ننسى أن سيدي عيسى من العلماء العاملين، وسيدي علياً المرصفي كان من الأئمة الراسخين في العلم، والراوي هو القطب الرباني والغوث الصمداني. وتُترك للقارئ المناقشة.
* قصة؛ لعلها من مقام المراقبة:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/107)، وجامع النبهاني: (2/428، 429).(78/422)
- ومنهم أبو سعيد القلوري رضي الله عنه، هو من أكابر العارفين والأئمة المحققين، صاحب الأنفاس الصادقة، والأفعال الخارقة، والكرامات والمعارف...ودُعي مرة إلى طعام هو وأصحابه، فمَنَعَهُم من أكل ذلك الطعام وأكله وحده، فلما خرجوا قال لهم: إنما منعتكم من أكله لأنه كان حراماً؟ ثم تنفس فخرج من أنفه دخان أسود عظيم كالعمود! وتصاعد في الجو حتى غاب عن أبصار الناس، ثم خرج من فمه عمود نار، وصعد إلى الجو حتى غاب عن النظر، ثم قال: هذا الذي رأيتموه هو الطعام الذي أكلته عنكم(1).
* توضيح:
هذه القصة إما أنها من أكاذيبهم، أو أنها من التمثيليات الشيطانية التي تضحك بها الشياطين على أذقانهم وعقولهم، وتستجرهم إلى ما أوصلوا الأمة إليه من زيغ وانحراف في العقيدة والسلوك.
* زغاريد.. والقذارة طريق لولايتهم.. قاق قاق:-
ومنهم الشيخ محمد السروي رحمه الله تعالى آمين، المشهور بأبي الحمائل، أحد الرجال المشهورة في الهمة والعبادة، وكان يغلب عليه الحال، فيتكلم بالألسن العبرانية والسريانية والعجمية، وتارة يزغرد في الأفراح والأعراس كما تزغرد النساء... وجاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق، فرآه ملتفتاً لنظافة ثيابه، فقال: إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء، فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور، حتى صارت ثيابه كثياب الزياتين أو السماكين...فلما رأى ثيابه، لقنه الذكر، وجاء منه في الطريق...
وكان يغلب عليه الحال ليلاً فيتكلم بألسنة غير عربية من عجم وهند ونُوبة وغيرها، وربما يقول: (قاق قاق) طول الليل، ويزعق ويخاطب قوماً لا يُرَون، وإذا قال شيئاً في غلبة الحال نفذ(2)...
* التعليق:
__________
(1) طبقات الشعراني:) 1/148 (، وجامع النبهاني:) 1/459 (. وقد ورد اسمه في الجامع (القيلري) بدلاً من القلوري.
(2) طبقات الشعراني: (2/126)، وجامع النبهاني: (1/299).(78/423)
قيق قيق... ثم يتساءلون عن سبب فساد الأمة الإسلامية، وهو أوضح من الوضوح، لكن يبقى سؤال: كيف عرفوا أنه يتكلم العبرانية والسريانية والعجمية والهندية؟؟ لعلهم عرفوا ذلك عن طريق الكشف! (كشوف فوق كشوف فوق كشوف، ظلمات بعضها فوق بعض).
* يتطور في الخلقة، ويجر السفينة بخصيتيه، ويعيش بلا طعام، وعجائب أخرى:-
ومنهم الشيخ حسين أبو علي رضي الله عنه ورحمه؛ كان هذا الشيخ رضي الله عنه من كُمَّل العارفين، وأصحاب الدوائر الكبرى، وكان كثير التطورات، تدخل عليه بعض الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل فتجده سبعاً، ثم تدخل فتجده فيلاً، ثم تدخل فتجده صبياً، وهكذا. مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها، ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء...وكان الشيخ عُبيد أحد أصحابه الذي هو مدفون عنده الآن، مثقوب اللسان لكثرة ما ينطق به من الكلمات التي لا تأويل لها، وأخبرني بعض الثقات أنه كان مع الشيخ عُبيد في مركب فوحلت، فلم يستطع أحد أن يزحزحها، فقال الشيخ عبيد: اربطوها في بيضي بحبل وأنا أنزل أسحبها، ففعلوا، فسحبها ببيضه حتى تخلصت من الوحل(1).
مكث في خلوة بغيط خارج باب البحر أربعين سنة لا يأكل ولا يشرب، وباب الخلوة مسدود، وليس له إلا طاق يدخل منه الهواء...مات في مصر بعد سنة (790هـ).
- نسأل فقط عن كشف العورة، وترك الآخرين يمسكونها ليربطوا بها الحبل؟ ونترك الباقي للقارئ اللبيب.
* يديران الوجود كيف يشاءان (من مقام الحرية):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/87)، وجامع النبهاني: (2/46).(78/424)
ومنهم سيدنا ومولانا شمس الدين الحنفي رضي الله تعالى عنه ورحمه، كان رضي الله عنه من أجلاء مشايخ مصر وسادات العارفين، صاحب الكرامات الظاهرة، والأفعال الفاخرة، والأحوال الخارقة، والمقامات السنية.. صاحب الفتح المؤنق والكشف المخرق، والتصدر في مواطن القدس...وكان رضي الله عنه يأمر من يراه من أصحابه عنده شهامة نفس بالشحاتة من الأسواق وغيرها...وكان سيدي علي بن وفا رضي الله عنه يوماً في وليمة، (فاستأذن عليه الشيخ محمد الحنفي فقام له وأجلسه جانبه)، فدار الكلام بينهما، فقال سيدي علي: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده، يدوِّرها كيف شاء؟ فقال له سيدي محمد رضي الله عنه: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور؟! فقال له سيدي علي: والله كنا نتركها لك ونذهب عنها! فقال محمد رضي الله عنه لجماعة سيدي علي: ودعوا صاحبكم فإنه ينتقل قريبآ إلى الله تعالى. فكان الأمر كما قال...وكان يتطور في بعض الأوقات حتى يملأ الخلوة بجميع أركانها، ثم يصغر قليلاً قليلاً حتى يعود إلى حالته المعهودة...ومرضت زوجته فأشرفت على الموت، فكانت تقول: يا سيدي أحمد يا بدوي، خاطرك معي! فرأت سيدي أحمد رضي الله عنه في المنام، وهو ضارب لثامين...وقال لها: كم تناديني وتستغيثي، وأنت لا تعلمين أنك في حماية رجل من الكبار المتمكنين، ونحن لا نجيب من دعانا وهو في موضع أحد من الرجال! قولي: يا سيدي محمد يا حنفي، يعافيك الله تعالى، فقالت ذلك، فأصبحت كأن لم يكن بها مرض!!
ودخلت على الشيخ يوماً امرأة أمير، فوجدت حوله نساء الخاص تكبِّسه، فأنكرت بقلبها عليه، فلحظها الشيخ بعينه وقال لها: انظري. فنظرت، فوجدت وجوههن عظاماً(1)...
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/88، وما بعدها)، وجامع النبهاني: (1/261، وما بعدها).(78/425)
...حتى قال: بلغنا عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه دخل يوماً خربة يقضي فيها حاجته، فوجد فيها حمارة، فراوده الشيطان عليها، فلما أحس الشبلي رضي الله عنه ذلك، رفع صوته وصاح: يا مسلمون يا مسلمون، الحقوني وأخرجوا عني هذه الحمارة، فإني أعرف ضعف نفسي عن سلوك طريق الصيانة...ولما دنت وفاته (أي: وفاة محمد الحنفي) بأيام، كان لا يغفل عن البكاء ليلاً ولا نهاراً، وغلب عليه الذلة والسكون والخضوع حتى سأل الله تعالى قبل موته أن يبتليه بالقمل، والنوم مع الكلاب، والموت على قارعة الطريق، وحصل له ذلك قبل موته! فتزايد عليه القمل حتى صار يمشي على فراشه، ودخل له كلب فنام معه على الفراش ليلتين وشيئاً، ومات على طرف حوشه والناس يمرون عليه في الشوارع!! وإنما تمنى ذلك ليكون له أسوة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام(1)!!
- السؤال: نسأل من عرف مبادئ الإسلام وبدهياته، ما هو حكم الإسلام والعقل في مثل هذا: ادعاء التصرف في الكون، والاستغاثة بغير الله، ونساء أجنبيات يكبسن الولي! ومراودة النفس على حمارة، والنوم مع الكلاب!! ويجعلون هذا تأسياً بالأنبياء!! ثم يتساءل المتسائلون عن سبب انحطاط المسلمين؟!
كما يجب أن نلاحظ الأدوار الخبيثة التي تمثلها شياطين الجن، وتضحك بها على ذقونهم، فتخدعهم وتخدع بهم.
* يبيع الجنة بثلاثين ديناراً ويأخذ من المرأة كل ما تملك:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/89، وما بعدها)، وجامع النبهاني: (1/261، وما بعدها).(78/426)
ومنهم الشيخ مدين بن أحمد الأشموني رضي الله تعالى عنه...كان من أكابر العارفين، وانتهت إليه تربية المريدين في مصر وقراها، وتفرعت عنه السلسلة المتعلقة بطريقة أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه...وجاءته رضي الله عنه امرأة فقالت: هذه ثلاثون ديناراً وتضمن لي على الله الجنة! فقال لها الشيخ رضي الله عنه مباسطاً لها: ما يكفي، فقالت: لا أملك غيرها، فضمن لها على الله دخول الجنة! فماتت، فبلغ ورثتها ذلك، فجاءوا يطلبون الثلاثين ديناراً من الشيخ، وقالوا: هذا الضمان لا يصح، فجاءتهم في المنام وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ، فإني دخلت الجنة! فرجعوا عن الشيخ(1). اهـ.
- ونحن بدورنا ننقل هذا الخبر للمسلمين، لعلهم يسرعون ويفتشون عن هؤلاء الأولياء ويشترون منهم ما يبتغون من عَرَصات الجنة، كما نرجو من كرم هؤلاء الأولياء أن يراعوا خواطر الفقراء. (ونذكر أيضاً بأن أحمد الرفاعي باع قصراً في الجنة).
* يدفع عنه الموت...ويمنع زوجته من الزواج بعده:-
ومنهم سيدي محمد الشويمي...كان من أرباب الأحوال العظيمة...ومرض سيدي مدين (الأشموني) رضي الله عنه مرة، وأشرف فيها على الموت، فوهبه من عمره عشر سنين!! ثم مات في غيبة الشويمي رضي الله عنه، فجاء وهو على المغتسل، فقال: كيف مت؟ وعزة ربي لو كنت حاضراً ما خليتك تموت!!
...وقد بلغنا أن زوجة سيدي محمد الشويمي مات عنها وهي بكر، وقال لها: لا تتزوجي بعدي أحداً فأقتله!! فاستفتت العلماء في ذلك، فقالوا لها: هذه خصِّيصي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجي وتوكلي على الله، فعقدوا لها على شخص، فجاءه تلك الليلة وطعنه بحربة فمات من ليلته، وبقيت بكراً إلى أن ماتت وهي عجوز(2)...
ويترك التعليق للقارئ اللبيب.
* القيء إكسير الولاية:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/102)، وجامع النبهاني: (2/463).
(2) طبقات الشعراني: (2/103)، وجامع النبهاني: (1/284).(78/427)
محمد المسمى بقمر الدولة؛ أحد أكابر أصحاب سيدي أحمد البدوي، ولم يصحب سيدي أحمد زماناً طويلاً، إنما جاء من سفرٍ في وقت حر شديد، فطلع يستريح في طندتا (طنطا)، فسمع بأن سيدي أحمد رضي الله عنه ضعيف، فدخل عليه يزوره...فوجد سيدي أحمد قد شرب ماء بطيخة وتقيأه ثانياً فيها، فأخذه سيدي محمد المذكور وشربه!! فقال له سيدي أحمد: أنت قمر دولة أصحابي(1) اهـ. ولا تعليق (لكن القيء خير من المأمونية الحموية).
ومنهم سيدي الشيخ أبو بكر الدقدوسي رضي الله تعالى عنه...وكان له صاحب يبيع الحشيش بباب اللوق، فكان الشيخ رضي الله عنه يرسل إليه أصحاب الحوائج فيقضيها لهم! قال سيدي عثمان (الحطاب) رضي الله عنه: فسألته يوماً عن ذلك، وقلت: المعصية تخالف طريق الولاية، فقال: يا ولدي ليس هذا من أهل المعاصي، إنما هو جالس يتوِّب الناس في صورة بيع الحشيش، فكل من اشترى منه لا يعود يبلعها أبداً(2)...(دستور دستور).
- ومن هنا نستطيع أن نعرف سبب انتشار الحشيش في مصر.
* إجلالاً للكلب (من مقام التواضع):-
ومنهم شيخي وقدوتي إلى الله تعالى، العارف بالله تعالى سيدي محمد الشناوي رحمه الله تعالى، كان رضي الله تعالى عنه من الأولياء الراسخين في العلم...وكان رضي الله عنه يحكي عن الشيخ عبد الرحيم القناوي رضي الله عنه أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف، فقام له إجلالاً للخرقة الصوف(3)...
- مر معنا تأويل مثل هذه الحالة، فليرجع القارئ إليه ليتدرب على التأويل والتضليل مثل هؤلاء البهاليل.
* يراود الأمرد عن نفسه ويحسس على مقعدته رضي الله عنه:
__________
(1) جامع النبهاني: (1/284).
(2) طبقات الشعراني: (2/105)، وجامع كرامات النبهاني: (1/437).
(3) طبقات الشعراني: (1/132).(78/428)
ومنهم الشيخ علي أبو خوذة...وكان من أرباب الأحوال ومن الملامتية، وكان يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصداً...وكانت خوذة سيدي علي من الحديد، وكان زنتها قنطاراً وثلثاً، لم يزل حاملها ليلاً ونهاراً...وما رآه أحد يصلي مع الناس إلا وحده، وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه وحسس على مقعدته، سواء كان ابن أمير أو ابن وزير، ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس(1)...(دستور دستور ودساتير كثيرة).
- لكن يجب أن نعرف أن هذا له تأويل! لئلا نتهم الأولياء الأبرياء بالجهل والغباء والكفر والزندقة وقلة الحياء.
* ولاية.. ولواطة.. والنهي عن المنكر جريمة:-
إبراهيم النبتيتي(2)، المجذوب الصاحي... من كراماته... قال الحمصاني: وقفت أصلي في جامع المرأة، فدخل علي رجل من الجند ومعه أمرد، وقصد به جهة المراحيض، فتشوشتُ في نفسي، وقلت: ضاقت عليه الدنيا وما وجد إلا الجامع! ولم أنطق بذلك، فقال لي إبراهيم المذكور: ما فضولك؟ وما أدخلك يا كذا وكذا؟ وسبني وشتمني! وقال: لا تتعرض! وما لك وذاك؟ إلى غير ذلك(3)...
* التعليق: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...)) [المائدة:78] ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة:79].
* يعلم ما في الأرحام (من مقام العلم):-
أحمد بن جعد الأبيني(4).. وأتته امرأة وقالت: ادع لي أن يرزقني ولداً ذكراً، فقال: ستُرزقين ذلك! فوضعت أنثى، فقالت له فيه، فقال: والله ما قلت لك إلا بعد ما مسستُ ذكره بيدي هذه، ولكن أراد أن يُكذِّب هذه اللحية(5)!!
* يعلم ما في الأرحام...وزيادة:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/135)، وجامع النبهاني: (2/372).
(2) مات في مصر سنة (1019هـ).
(3) جامع النبهاني: (1/414).
(4) من اليمن، مات سنة (690هـ).
(5) جامع النبهاني: (1/523).(78/429)
جاكير الكردي(1) قدس الله روحه...مرت بقرات بالشيخ جاكير الكردي، فأشار إلى إحداهن، وقال: هذه حامل بعجل أحمر أغر، صفته كذا، وعيَّن يوم ولادته، وأنه نذر له، وعيَّن من يذبحه من الفقراء...واستأذن رجل واسطي الشيخ جاكير في ركوب بحر الهند بتجارة، فقال: إذا وقعت في شدة فناد باسمي...وكان الشيخ جاكير يقول: ما أخذت العهد قط على مريد حتى رأيت اسمه مكتوباً في اللوح المحفوظ(2)...
- السؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) [لقمان:34]؟ وقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]؟
* لا تنظر إلى فروجهم، فكشف الفرج ولاية:-
علي نور الدين بن العظمة(3)، كان من كبار الأولياء المجاذيب... ومن كراماته: ما حكاه حشيش الحمصاني، أنه مر عليه يوماً، فجرى في خاطره الإنكار عليه لعدم ستر عورته، فما تم له هذا الخاطر إلا وقد وجد نفسه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف شاء، ويقول له: انظر إلى قلوبهم ولا تنظر إلى فروجهم(4).
- بهذه الكشوف والعلوم اللدنية وصلت أمتنا إلى ما هي عليه الآن من ذل وهوان وجهل وضياع.
* كشف، وجبل قاف أيضاً، والرجراج، وغيرها:-
علي بن أحمد بن خضر المطوعي(5)، المشهور بين الناس بحشيش الحمصاني...
أحد أكابر الأولياء العارفين...وأخبر بأنه اطلع على بحر الظلمات (أي: المحيط الأطلسي)، وأن به بلداً لا تبصر أهلها إلا في الظلمة!! وأنه رأى خلف جبل قاف أرضاً تتحرك بنفسها تسمى الرجراج، ليس بها ساكن، وأنه رأى إرم ذات العماد، وأنه اجتمع بالخضر عليه السلام فوجده يظهر في صُوَر مختلفة، وبالقطب فوجده يلبس كل يوم لباساً غير لون الآخر(6). اهـ.
__________
(1) عراقي مات قرب سامراء سنة (550هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/3، 4).
(3) مات في مصر في أوائل القرن الحادي عشر الهجري.
(4) جامع النبهاني: (2/378).
(5) من صوفية القرن العاشر الهجري في مصر.
(6) جامع النبهاني: (2/379).(78/430)
- وعلى الإسلام والعقل والحقيقة السلام.
* أسرع من الصاروخ:-
علي البدوي الشاذلي، تلميذ سيدي ياقوت العرشي، قال رضي الله عنه: وكثيراً ما كان الشيخ ياقوت يوجهني في الحاجة من إسكندرية إلى بلاد الأندلس، فأذهب إليها وأرجع في يوم واحد، بسرعة خطاي، من غير أن تطوى لي الأرض(1)...
* حدث نسيه التاريخ:-
مسلمة بن نعمة السروجي، شيخ المشايخ وسيد الأولياء ورئيس الأصفياء...قال السراج: إنه لما قصد الكفرةُ من الفرنج والأرمَن مدينةَ سروج، وقتلوا وأسروا، ثم قصدوا زاويته، وصل الخبر إلى مريديه، فقالوا: يا سيدي جاءنا العدو، فقال: اصبروا، ثم كرروا القول إلى أن قالوا: بيننا وبينهم قدر رشقة حجر، فخرج، وأشار بيده الكريمة برجوعهم، فرجعت بهم الخيل قهراً لا يستطيعون ردَّها بوجه، فقُتل منهم خلق عظيم، وكذلك من الخيل، وتكسرت العدد، وصاروا بأسوأ حال(2).
* التعليق:
دماء المسلمين التي أريقت لا قيمة لها، ولم تثر همة الشيخ ومريديه إلا الزاوية فقط.
هذا بغض النظر عن كون قصتهم هذه أكذوبة صغيرة من أكاذيبهم.
* سوط عجيب:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/349).
(2) جامع النبهاني: (2/470).(78/431)
شيخنا الشيخ علي العمري(1)، الشاذلي الطرابلسي، أشهر أولياء هذا العصر وأكثرهم كرامات وخوارق عادات... ومن كراماته رضي الله عنه ما أخبرني به الحاج إبراهيم المذكور (إبراهيم الحداد من اللاذقية)، قال: دخلت في هذا النهار إلى الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمري، ومعنا خادمه محمد الدبوسي الطرابلسي، وهو أخو إحدى زوجات الشيخ، ولم يكن في الحمام غيرنا، قال: فرأيت من الشيخ كرامة من أعجب خوارق العادات وأغربها، وهي أنه أظهر الغضب على خادمه محمد هذا وأراد أن يؤدبه، فأخذ الشيخ إحليل نفسه بيديه الاثنتين من تحت إزاره، فطال طولاً عجيباً بحيث إنه رفعه على كتفه وهو زائد عنه، وصار يجلد به خادمه المذكور، والخادم يصرخ من شدة الألم، فَعل ذلك مرات ثم تركه، وعاد إحليله إلى ما كان عليه أولاً، ففهمت أن الخادم قد عمل عملاً يستحق التأديب، فأدَّبه بهذه الصورة العجيبة. ولما حكى لي ذلك الحاج إبراهيم، حكاه بحضور الشيخ، وكان الشيخ واقفاً، فقال لي الشيخ: لا تصدقه وانظر، ثم أخذ بيدي بالجبر عني، ووضعها على موضع إحليله، فلم أحس بشيء مطلقاً، حتى كأنه ليس برجل بالكلية، فرحمه الله ورضي عنه ما أكثر عجائبه وكراماته(2).
* الملحوظات:
يلاحظ في هذا النص ما يلي:
1- كشف العورة واللعب بها.
2- الكذب؛ إما أن يكون الخادم كاذباً، أو أن يكون الشيخ كاذباً، وذلك عندما قال: لا تصدقه.
3- جعل الآخر يلمس مكان عورته.
* ولي يُحيي الموتى ويخالف الشرع:-
__________
(1) مات في طرابلس سنة (1322هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/396).(78/432)
عبد الرحمن بن أحمد الجامي(1)...ومن كراماته...أنه جلس في زمن الربيع على شاطئ نهر ملآن، وإذا بقنفذة ميتة قد أقبلت على وجه الماء، فأخذها مولانا الجامي، ومسح بيده ظهرها، فظهر أثر الحياة فيها، ثم لما توجهنا جهة المدينة أقبلت تسعى خلفنا. ومنها أن مولانا سيف الدين أحمد قدم لمنزل العلوي ومعه جملة من المدرسين، فعمل له ضيافة، وعزم على الجامي، فأقاموا الذكر بالدفوف والمنشدين على العادة، فقال بعض الحاضرين للشيخ: يا مولانا! كيف استماع الغناء والطرب بالدفوف والرقص! ما هو خلاف الشرع؟ فحول الشيخ وجهه إليه، وتكلم في أذنه خفية، فظهر منه صوت عجيب، وحصل له وجد بالسماع وضرب الدف(2)...(الرجاء الانتباه إلى دور الشياطين).
* يبلع المتاليك ويتغوطها دنانير والناس ينظرون إليه:-
الشيخ حسن سكر الدمشقي(3)...(قالوا له): لا بد أن تظهر لنا كرامة، فقال: هاتوا لي مائة من المتالكات(4)، وهي قطع صغيرة من الفضة المغشوشة، فجاءوا له بمائة متاليك، فأخذها وألقاها في فمه وابتلعها، وفي الحال جلس بصورة مَن يقضي حاجة الإنسان، فأخرجها من أسفله دنانير من الذهب، فأخذوها، وكانت هي السبب في غنى أبي لبدة المذكور(5)...
- السؤال: ما هو حكم الشرع والذوق بجلوسه جلسة التغوط وكشف عورته أمام الآخرين؟ ومن أين جاءت شياطينه بالذهب؟
* ولي يقف عرياناً بين الناس ولا يصلي:-
__________
(1) مشهور باسم (منلا جامي)، مات في هراة سنة (898هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/154).
(3) مات في دمشق سنة (1307هـ).
(4) المتليك عملة عثمانية صغيرة القيمة.
(5) جامع النبهاني: (2/42).(78/433)
حسن قضيب البان الموصلي(1)، قال السراج: عن الشيخ العارف أبي الحسن علي القرشي رحمه الله قال: دخلت على الشيخ حسن قضيب البان ببيته بالموصل، فرأيته ملء البيت، فهالني ما رأيت من نموه الخارق، فخرجت ثم عدت، فرأيته في زاوية من زوايا البيت مثل العصفور، فخرجت ثم عدت، فرأيته كالعادة...وقال المناوي: خرج أبو النجاء المغربي يريد المشرق ومعه أربعون ولياً، فكان كل بلد جاءه يستوعب ما فيه من الرجال، حتى وصل الموصل، فخرج إليه الرجال، وإذا بقضيب البان خرج بأطماره وشعثه، فقال: أين الشيخ؟ فقالوا: خرج. قال: يتشيطن! فغضبوا. وقال أحدهم: كذب شيطانك، فتغيظ ورمى أطماره، ووقف عرياناً على جنب بركة يصب الماء على يده بيده، وإذا بالشيخ جاء، فأخبروه، قال: صدق، كنت مع إمام الموصل، ينافقني وأنافقه؛ ثم قال قضيب البان: أخبرني بكل رجل رأيته من بلادك، فذكر رجالاً وقضيب البان يقول في كل رجل: وزنه كذا، ربع رجل، ونصف رجل، وهذا وازن، وهذا كامل، وهذا وإن ملأ صيته ما بين الخافقين لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
وسئل الشيخ عبد القادر الجيلاني فقال: هو ولي مقرب ذو حال مع الله تعالى وقدَمِ صدقٍ عنده، فقيل له: ما نراه يصلي، فقال: إنه يصلي من حيث لا ترونه، وإني أراه إذا صلى بالموصل أو بغيرها من آفاق الأرض يسجد عند باب الكعبة!! وقال بعضهم: كان قضيب البان من الأبدال، واتهمه بعض من لم يره يصلي بترك الصلاة وشدد النكير عليه، فتمثل له على الفور في صور مختلفة، وقال: في أي هذه الصور رأيتني ما أصلي(2)!! اهـ. ولا تعليق، لأن التعليق أحياناً إضاعة للوقت، لكن الذي يورد هذه القصص هو عالم من علمائهم.
* فتوى لم تمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) مات في الموصل سنة (570هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/24).(78/434)
رسالة للحافظ السيوطي سماها (المنجلي في تطور الولي)، نقلتها من كتابه (الحاوي في الفتاوي)، وهذه هي: قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، توقع إلي سؤال رجل حلف بالطلاق، أن ولي الله الشيخ عبد القادر الدشطوطي بات عنده ليلة كذا، فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده في تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما أم لا؟ فأرسلت قاصداً إلى الشيخ عبد القادر، فسألته عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني نمت عندهم لصدقوا، فأفتيت بأنه لا يحنث واحد منهما(1).
* التعليق:
السيوطي هذا كان يعد نفسه مجدداً، وهذه هي فتوى يصدرها هذا المجدد؟! وسلام على الشرع والعقل وعلى إنسانية الإنسان.
* الزبل خير من الغائط (المأمونية الحموية) على كل حال:-
شجاع الكرماني...حضر ليلة موسم بمسجد بقلعة الصبية بإيناس(2) يعرف بالشيخ محمد السلطي، فقال الجماعة: نريد أن نأكل حلوى دمشقية، فأخذ الجوالق والمجارف وخرج مع جماعة إلى المزبلة، فيها زبل وشقف وحجارة وغير ذلك، فملئوا الجوالق، وأتوا المسجد وهم يضحكون، ففرغه بين أيديهم، فإذا هو من أصناف أطايب الحلوى، فأكلوا وازدادوا إيماناً(3)...(ازدادوا إيماناً بأن كهانتهم هي الإسلام).
* كلا النقيضين صحيح، صدق أو لا تصدق، لكن لا تعترض فتنطرد:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/25).
(2) هكذا هي الجملة في الأصل.
(3) جامع النبهاني: (2/114).(78/435)
شعيب، أبو مدين المغربي، أحد أعاظم أئمة الطريق المجمع على جلالتهم وولايتهم الكبرى...قال: ...قامت الحرب مرة بالمغرب بين المسلمين والفرنج، وكان الظهور للفرنج، فأخذ شيخنا أبو مدين سيفه وخرج إلى الصحراء، مع نفر من أصحابه، وجلس على كثيب، فإذا بين يديه خنازير قد ملأت الصحراء، فوثب حتى صار بينهم، وعلا بالسيف رءوسهم حتى قتل كثيراً منهم، وولوا هاربين، فسألناه؟ فقال: هؤلاء الفرنج وقد خذلهم الله تعالى، فأرخناه، فجاء الخبر بكسرتهم في الوقت بعينه! وجاء المجاهدون وأكبوا عليه يقبلون قدميه، وأقسموا أنه لو لم يكن الشيخ بين الصفين لهلكوا...
* التعليق:
ما دامت لهؤلاء الأولياء هذه الكرامات! فلم أصبح المسلمون أذل من على وجه الأرض؟؟ ولم خسروا قبل ذلك الأندلس مع وجود هؤلاء الضراغم؟؟(78/436)
...وروي أن أمير المؤمنين بالمغرب، المسمى يعقوب، رأى مرائي وأحوالاً من أحوال المريدين، وسببه أنه قتل أخاه غيرة على الملك، فندم على قتل أخيه ندماً أورثه توبة أثرت في باطنه أحوالاً حسنة، وتغير عليه من نفسه ما لا يعهده لثمرة التوبة، فما كان أبركه عليه ذنباً؛ فشكا ما يجده لمريدة كانت تدخل قصره، فقالت: هذه أحوال المريدين، فقال: كيف أعمل بنفسي ومن يعرفني ويداويني؟ فقالت له: الشيخ أبو مدين سيد هذه الطائفة في هذا الزمان؛ فبعث يعقوب إلى الشيخ أبي مدين، وطلبه طلباً حثيثاً، والتجأ إليه، فاقتضى إجابة الشيخ أبي مدين له، فقال: قوموا له نطع الله عز وجل سبحانه وتعالى بطاعته، وأنا ما أصل إليه، بل أموت بتلمسان، وكان الشيخ يومئذ في بجاية، فلما وصل إلى تلمسان، قال لرسل يعقوب: سلموا على صاحبكم، وقولوا له: شفاؤك على يد أبي العباس المريني، ومات الشيخ أبو مدين...فمشى (أي: أبو العباس المريني) إليه (إلى يعقوب) واجتمع به، ففرح يعقوب بذلك، ثم أمر بذبح دجاجة، وخنق أخرى، وأن يطبخ كل منهما على حدة، وقدمهما بين يدي الشيخ، فأمر الشيخ الخادم برفع المخنوقة، وقال: هذه جيفة، وأكل من الأخرى، فسلم يعقوب نفسه له، وأنزل نفسه منزلة الخادم، وفتح له على يده، وترك الملك وسلمه لابنه، واشتغل مع الشيخ، وثبت قدمه في الولاية ببركة الشيخ أبي العباس وإشارة الشيخ أبي مدين.
- وبعد صفحتين فقط، يورد النبهاني هذه القصة بالشكل التالي:(78/437)
...وكان (أبو مدين) استوطن بجاية، ويقول: إنها معينة على طلب الحلال؛ ولم يزل بها يزداد حاله على مر الليالي رفعة ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق، ويخبر الوقائع والغيوب، إلى أن وشى به بعض علماء الظاهر عند يعقوب المنصور، وقال له: إنا نخاف منه على دولتكم، فإن له شبهاً بالإمام المهدي، وأتباعه كثيرون بكل بلد، فوقع في قلبه وأهمه شأنه، فبعث إليه في القدوم عليه ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصية...وارتحلوا به على أحسن حال حتى وطئوا به حوز تلمسان...فلما وصل وادي نسر اشتد به المرض ونزلوا به هناك...وكانت وفاته سنة 580 هـ، فحمل إلى العباد مدفن الأولياء والأوتاد، وسمع أهل تلمسان بجنازته، فكانت من المشاهد العظيمة...وعاقب الله السلطان فمات بعده بسنة أو أقل(1)...
- السؤال:
أ- أي الروايتين نصدق، وفيهما ما فيهما من التناقض؟!
ب- ألم يساعدهم كشفهم على معرفة الحق في هاتين الروايتين؟!
ونترك الباقي للقارئ، مع التنبيه إلى مدى الغفلة التي تسببها الصوفية!
* أين هذه الجزيرة السادسة وفي أي بحر محيط:-
...وقال الشيخ عمر القيسي: خدمت الشيخ عدياً رضي الله تعالى عنه سبع سنين، وشهدت له خارقات، فقال لي يوماً: اذهب إلى الجزيرة السادسة في البحر المحيط تجد بها مسجداً، فادخله، تر فيه شيخاً، فقل له: يقول لك عدي: احذر الاعتراض ولا تختر لنفسك أمراً فيه إرادة؛ ودفعني بين كتفي، فرأيت المكان والشيخ، وأخبرته، فبكى، ودعا له، وقال لي: إن أحد السبعة الخواص الآن في النزع، وقد طمحت إرادتي أن أكون مكانه، ثم دفعني فوجدت نفسي في الزاوية(2).
* توضيح:
مثل هذه الحالات يرونها في أحلام الجذبة (الكشف)، وكثيراً ما تختلط عندهم بالواقع، فلا يميزون بينهما! وفي جميع الحالات يعتبرونها عين اليقين وحق اليقين!
* يحيون الموتى (والويل لمن لا يصدق):-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/118، 120).
(2) جامع النبهاني (2/297).(78/438)
وقال الشيخ عمر: كنت عند الشيخ عدي بن مسافر رضي الله عنه يوماً، فجاء جماعة من الأكراد والبوزية زائرين، وكان فيهم رجل يدعى (الخطيب حسين)، فقال له الشيخ: يا حسين! قم أنت والجماعة حتى نقلب أحجاراً ونعمل حائطاً للبستان، فنهض الشيخ ونهض معه الجماعة، وصعد الشيخ إلى سطح الجبل، وجعل يقطع أحجاراً ويدحرجها وهم ينقلونها إلى مكان العمل؛ فأصاب حجر رجلاً، فاختلط لحمه بعظمه وألصق بالأرض، فمات من ساعته؟ فنادى الخطيب حسين: مات فلان إلى رحمة الله تعالى، فانحدر الشيخ من سطح الجبل، وأتى الرجل المصاب، ورفع يديه إلى السماء، ودعا له، فقام الرجل بإذن الله تعالى كأنه لم يصبه شيء(1).
* التعليق:
عدي بن مسافر هذا له أتباع، هم اليزيديون عبدة الشيطان، المقيمون في سنجار وما حوله، وقد مضى على المسلمين قرون وهم يتخبطون في ظلمات هذه الأوهام الشيطانية أو الهذيانية، ولما يزل هؤلاء الكهان يُعملون كهانتهم وسحرهم لإبقاء هذه الأمة بعيدة عن إسلامها وعن وعيها. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
* الفقير بما يعملون بصير:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/297).(78/439)
وقال الشيخ إسماعيل التونسي رحمة الله عليه: خرجت أنا وجماعة من التونسية إلى زيارة الشيخ عدي رضي الله عنه، فلما وصلنا سلمنا عليه وجلسنا نتحاور في كرامات الأولياء ودرجاتهم، فقال الشيخ: كل شيخ لا يعلم مريده كم ينقلب في الليل قلبةً ما هو شيخ، ولو أنه في مشرق الأرض أو مغربها؛ فقلت في نفسي: هذا أمر صعب، أنا أجامع زوجتي، والشيخ ينظر إلي؟! فلما رجعت إلى بيتي، هجرت زوجتي شهراً كاملاً، فعلم الشيخ عدي بما أنا عليه، فوصى جماعة من الفقراء المجاورة أنكم إذا توجهتم إلى منازلكم، يتوجه أحدكم إلى التونسية، ويقول لإسماعيل: يجيء إلى عندي...فلما وصلت وسلمت عليه زجرني وانتهرني، وقال: يا إسماعيل! أيما أحب: الشيخ يبصر مريده على حلال أو على حرام؟ لا تعد إلى مثلها؛ فقابلت أمره بالسمع والطاعة وانصرفت راجعاً(1).
* التعليق:
يرى ويبصر عبر المسافات والحواجز، ويرى مريده وهو يجامع زوجته، ولكنه يبصره على حلال؟! دستور دستور دستور، لكن على كل حال يجب ألا ننسى سلاح التأويل البتار الذي يجعل كتاب الإحياء بحراً من البحار.
* العري، العري، العري، وضع عقلك وإيمانك في ثلاجة:-
قال أبو البركات: دخل يوماً على عمي الشيخ عدي ثلاثون فقيراً، فقال عشرة منهم: يا سيدي، تكلم لنا في شيء من الحقيقة، فتكلم لهم، فذابوا، وبقي موضعهم حومة ماء؛ وتقدم العشرة الثانية، فقالوا له: تكلم لنا في شيء من حقيقة المحبة، فتكلم فماتوا، ثم تقدم الآخرون وقالوا: يا سيدنا تكلم لنا في شيء من حقيقة الفقر، فتكلم لهم، فنزعوا ما كان عليهم من الثياب، وخرجوا عرايا إلى البرية(2).
* الملحوظة:
على مدى قرون كان أمثال هؤلاء أسوة المسلمين، حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه.
* الصوفي يعز من يشاء ويذل من يشاء:-
__________
(1) جامع النبهاني (2/299).
(2) جامع النبهاني: (2/299).(78/440)
عزاز بن مستودع البطائحي: كان من أجلاء المشايخ وأكابر العارفين وأعيان الصالحين ورؤساء المقربين، له الآيات الصادقة...والتمكين التام والتصريف العام (أي: التصرف في الكون عامة)...ومما روينا أن الشيخ عزازاً سأله الخليفة المقتدي بأمر الله القدوم إلى بغداد ليتبرك به، فلما اخترق دهاليز القصر، ما نظر إلى ستر مرخي إلا تمزق قطعاً؛ ثم قال للخليفة: سيقصدك ملك العجم في جيش لا قبل لك به، وقد مَلَّكتُ جيشك رقاب جيشه، وملَّكتك عنقه، فكان كما قال، وأُسر الملك واعتقل ببغداد أياماً، ثم افتدي بأموال عظيمة(1)...
* صوفي مكشوف العورة، ولا يصلي.. وهو مع ذلك ولي:-
علي الكردي: أحد أكابر الأولياء أصحاب التصريف العظيم والكرامات الكثيرة، منها: ...ولما جاء العارف الكبير الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي صاحب كتاب (عوارف المعارف) إلى دمشق في رسالة الخليفة إلى الملك العادل بالخلعة والطوق وغير ذلك، قال لأصحابه: أريد أزور علياً الكردي، فقال له الناس: يا مولانا لا تفعل، أنت إمام الوجود، وهذا رجل لا يصلي، ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته؛ فقال: لا بد من ذلك، قال: وكان الشيخ علي الكردي مقيماً أكثر أوقاته في الجامع، حتى دخل عليه مولَّه آخر يقال له: ياقوت، فساعة دخوله من الباب، خرج الشيخ علي من دمشق وسكن جبانتها بالباب الصغير، وما دخلها بعد ذلك إلى أن مات- وياقوت فيها يتحكم- فقالوا للشيخ شهاب الدين: هو في الجبانة، فركب بغلته، ومشى في خدمته من يعرِّفه موضعه، فلما وصل إلى قريب من مكانه، ترجل وأقبل يمشي إليه؟ فلما رآه علي الكردي وقد قرب منه كشف عورته! فقال الشيخ شهاب الدين: ما هذا شيء يصدنا عنك، ونحن ضيفانك؛ ثم دنا منه، وسلم عليه، وجلس معه، وإذا بحمالين قد جاءوا ومعهم مأكول متبر(2)...اهـ.
__________
(1) جامع النبهاني: (2/302، وما بعدها).
(2) جامع النبهاني: (2/331، 332)، ونشر المحاسن الغالية، (ص:307).(78/441)
نقول: وهكذا غاص المجتمع الإسلامي في كلمات الضلال والجهل؛ لا يصلي ويسير مكشوف العورة وهو يتحكم ويتصرف بالوجود، ويزوره إمام الوجود، وما أدراك من هو هذا الإمام، إنه إمام في تدمير عقائد هذه الأمة وسلبها إسلامها ودفعها إلى ظلمات الضلال والشرك والأخلاق البذيئة...لكن هذا كله له تأويل عند القوم، يضحكون به على أذقان المغفلين والسذج وعلى الذين ماتت فيهم الغيرة على الإسلام.
* ونسخت أحكام القرآن وسنن الله في كونه:-
سيدي أبو الحسن علي الشاذلي رضي الله عنه، السيد الشريف، زعيم الطائفة الشاذلية، وإمام الأولياء والصوفية، وأحد مفاخر الأمة المحمدية، قال: جعت مرة ثمانين يوماً، فخطر لي أن قد حصل لي نصيب من هذا الأمر، فإذا أنا بامرأة خارجة من مغارة، كأن وجهها ضياء الشمس حسناً وهي تقول: منحوس منحوس، جاع ثمانين يوماً، فأخذ يدل على الله بعمله، وأنا لي ستة أشهر لم أذق فيها طعاماً(1)؟
- ولا تعليق، لكن تذكير: وصال الصيام محرم في الإسلام، ولن تعدم من يقول لك: هذا له تأويل! أو يقول: هذا للخواص لا للعوام؟ فنجيبه: التأويل تضليل، والإسلام دين الحياة للخواص مثل العوام.
* كرامة فوق السنن...ولا حياء بالحلال:-
أبو عمرو عثمان بن مروزة البطائحي رحمه الله، أحد أعيان المشايخ وأكابر الرجال، وأصحاب الكرامات والأحوال...فبينما هو ليلة يتهجد، إذ طرقته منازلة من الجناب الأعظم، وتبدت له أنوار، فوقف سبع سنين واقفاً شاخصاً إلى السماء دون غذاء ولا إحساس بحاله، ثم عاد إلى بشريته (أي: كان في كل هذه المدة إلهاً ثم عاد إلى البشرية)، فقيل له: اذهب إلى قريتك، وجامع أهلك فقد آن ظهور ولد منك؟ فطرق بابه وأخبر أهله بحاله، فقالت زوجته: لئن فعلت وقضيت تحدث الناس في؛ فصعد السطح ونادى: يا أهل القرية، أنا فلان، اركبوا فإني سأركب(2).
* الملحوظات:
__________
(1) جامع النبهاني: (2/341).
(2) جامع النبهاني: (2/288).(78/442)
الملحوظات كثيرة، ومنها: ما ذنب هذه الزوجة التي ترملت مع وجود زوجها! وهل يسمح الإسلام بهذا الشذوذ؟؟ أما (اركبوا فإني سأركب)، فهذه تحتاج إلى حضرة، ورقص بنقص، وإلى (ترلم ترلم).
* جبل قاف أيضاً:-
قال سيدي محيي الدين (أي: ابن عربي): وأخبرني عنه (أي: عن موسى السيدراني) شيخي أبو يعقوب الكومي، أنه وصل جبل قاف المحيط بالأرض، فصلى الضحى بأسفله، وصلى العصر على ذروته، وسئل عن ارتفاعه في الهواء، فقال: مسيرة ثلاثمائة سنة، وأخبر أن الله طوق هذا الجبل بحية اجتمع رأسها بذيلها(1).
- وهكذا كل كشوفهم، جهل في جهل في غباء، والكذب زيادة.
ودخل موسى هذا أرضاً رأى النمل فيها على قدر المعز عجيبة الخلق، ورأى عجوزاً خراسانية واقفة على البحر والأمواج تصطفق بين ساقيها وهي تسبح الله وتقدسه(2)...- أين هي هذه الأرض؟ وهذا النمل؟ و.. و.. و.. وما أكثر الواوات والأينات؟
لكن أيها القارئ! سلم تسلم، لا تعترض فتنطرد! فهل تفهم أنت أكثر من الكشف؟! كشف! كشف دمر الأمة الإسلامية.
ويقول عبد الحليم محمود: إن كلام القوم رموز!
فنجيبه: الرموز عكاكيز الدجاجلة.
* بين السيقان، في خان بنات الخطا، تتقدس أسرارهم (دستور من خاطرهم):-
__________
(1) جامع النبهاني (2/498).
(2) جامع النبهاني: (2/498).(78/443)
(حسن الخلبوصي)، قال الشعراني: حكى الشيخ يوسف الحريثي رحمه الله، قال: لما حججت، سهرت ليلة في الحرم خلف المقام، وكانت ليلة مقمرة، فلما راق الليل، دخل جماعة يخفق النور عليهم، فطافوا وصلوا خلف المقام، وجلسوا يسيراً، فجاءهم شخص، وقال: يعيش رأسكم بالشيخ علي. فقالوا: رحمه الله تعالى. قال: من يكون موضعه؟ فقالوا: حسن الخلبوصي بناحية زفتى بالغربية. فقال: أناديه؟ فقالوا: نعم. فقال: يا حسن! فإذا هو واقف على رءوسهم عليه ثوب معصفر ووجهه مدهون بالدقيق وعلى كتفه سوط، فقالوا له: كن موضع الشيخ علي. فقال: على الرأس والعين، وذهب، فلما رجعت إلى بلادي قصدته بالزيارة في خان بنات الخطا، فوجدت واحدة راكبة على عنقه، ويداها ورجلاها مخضوبتان بالحناء وهي تصفعه في عنقه، وهو يقول لها: برفق فإن عيناي موجوعتان! فأول ما أقبلت عليه قال مبادراً: يا فلان، زغلت عيناك وغرك القمر، ما هو أنا، فعرفته أنه هو، وأمرني بعدم إشاعة ذلك(1). * التعليق: يتساءل المتسائلون عن سبب فساد الأمة الإسلامية وهو واضح أمام الأعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* العورة.. العورة:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/38).(78/444)
الشيخ عبد الكريم القاوي(1) الدمشقي: كان من أصحاب الكرامات الباهرات...فأراد الوالي أن يرى منه شيئاً من ذلك، فقال له الشيخ عبد الله (ابن الشيخ سعيد الحلبي): هل تقدر أن تشرب جميع ما في هذه البركة من الماء؟ فقال: لا أفعل، فقال: نحن نفعل ذلك، فقال: افعلوا، فأمر بعضهم سراً بأن يظهر بأنه يشرب من البركة، وأمر آخر بأن يفتح مجراها من جهة أخرى، ففعلا ذلك، فبعد قليل فرغت البركة؛ فلما ظهر للشيخ القاوي أن ذلك الرجل شرب البركة قال: وأنا أشربها أيضاً فاملئوها؟ فتركوها حتى امتلأت، فقام الشيخ القاوي، وأخذه حال عجيب، ووضع فمه في البركة فصار يشرب والماء يخرج من إحليله، ولم يزل كذلك يدخل الماء من فمه ويخرج من إحليله إلى أن فرغت البركة؟ وهي من أعظم كراماته، فاعتقده الوالي وغيره اعتقاداً عظيماً(2)...
- السؤال: هل كانوا يرون إحليله والماء يخرج منه؟ وهل؟ وهل؟ على أن كشف العورة عندهم شيء مثير للانتباه!
* قاف أيضاً! فأين هذا القاف؟!:-
حماد بن مسلم الدباس(3)...وروي أن الشيخ حماداً مر ببعض قرى بغداد، فرأى بعض أمراء الدولة المستظهرية راكباً سكران، فأنكر عليه، فسطا الأمير على الشيخ، فقال الشيخ: يا فرس الله خذيه، فعدت فرسه كالبرق الخاطف، يسبق البصر، ولم يعلم أين ذهب! وبعث الخليفة الخيل وراءه فلم يقف له على أثر، قال تاج الدين أبو الوفاء: وعزةِ مَن له العزة، لم يستقر به فرسه دون بر ولا بحر ولا سهل ولا جبل حتى ذهبت به إلى وراء جبل قاف(4)...
- فيا ناس، خبرونا أين هذا القاف؟ هذا مع غض النظر عن الكذب الخالي من الحياء.
* يعلم ما في الأرحام، وقاف أيضاً؟!:-
__________
(1) توفي في دمشق عام (1283هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/221، 222).
(3) توفي عام (525هـ).
(4) جامع النبهاني: (2/54).(78/445)
عبد الرحمن الشبريسي: روي أن أبا الفتح شمس الدين محمد المري السكندري المولود في إسكندرية سنة (818 هـ)، لما حملت به والدته، دخل والده الشيخ بدر الدين العوفي على الشيخ الإمام العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشبريسي، وسأله لها الدعاء، فقال له: إن زوجتك آمنة معها ولدان، أحدهما يموت بعد سبعة أيام، والآخر يعيش زمناً طويلاً، وسمِّه أبا الفتح، وسيكون له فتح من الله تعالى، وتوكل على الله، يعيش سعيداً ويموت شهيداً، ويخرح من الدنيا كيوم ولدته أمه، يضع قدمه على جبل قاف، يسوح زمانه، وينال من الله أماناً(1)...
- نسأل: ما معنى قوله سبحانه في آخر سورة لقمان: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ)) [لقمان:34]، ونعود للسؤال: أين جبل قاف المحيط بالأرض هذا؟! لكن لا اعتراض على الكشف!
* ومثل شيخه، يجر السفينة بخصيتيه وينزل الغيث:-
عُبيد أحد أصحاب الشيخ حسين أبي علي، كان له خوارق مدهشة، ومن كراماته:
أنه كان يأمر السحاب أن يمطر فيمطر لوقته، وكل من تعرض له بسوء قتله بالحال في الحال؛ دخل مرة الجعفرية، فتبعه نحو خمسين طفلاً يضحكون عليه، فقال: يا عزرائيل إن لم تقبض أرواحهم لأعزلنك من ديوان الملائكة، فأصبحوا موتى أجمعين! وقال له بعض القضاة: اسكت، فقال له: اسكت أنت، فخرس وعمي وصم؛ وسافرَ في سفينة فوحلت ولم يمكن تعويمها، فقال: اربطوها بخيط في بيضي، ففعلوا، فجرها حتى خلَّصها من الوحل(2)...
* التعليق: لا يحتاج هذا الكفر والهذيان للتعليق (ولا للتقريق)، ولكن هذا التلازم بين الصوفية وكشف العورة مثير للانتباه.
* الطريق إلى الوثنية:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/155).
(2) جامع النبهاني: (2/286).(78/446)
(أبو الحسن علي بن عمر بن الحسين بن عيسى بن أبي النهى) كان فقيهاً صالحاً...وكان غالب أكله من الأشجار...وظهرت له كرامات كثيرة...وتُربته من التُّرَب المشهورة بالبركة واستجابة الدعاء، وقال: ومن أعجب بركتها ما أخبرني به الثقات، أنه كان على قبره شجرة سدر، يأخذ أصحاب الحُمِّيَّات من ورقها، يطلون به رءوسهم فيبرءون من الحمى، واستفاض ذلك حتى كان يؤتى لها من الأماكن البعيدة، قال: وكان من عادة أهل إب في غالب الأعياد أن يحصل بينهم وبين أهل باديتهم حروب كثيرة، فحصل بينهم في بعض الأعياد حرب انتصر فيه أهل البادية على أهل المدينة حتى أدخلوهم البيوت، فقال بعضهم: اقصدوا بنا هذه الشجرة التي يعبدونها فلنعقرها عليهم؛ فنهاهم بعض عقلائهم، فلم يقبلوا، وأسرع إليها بعض الجهال، وقطعها حتى أوقعها على الأرض؟ فأنف أهل المدينة من ذلك، وخرجوا نحوهم، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتلوا منهم طائفة، وكان أول قتيل الذي قطع الشجرة. وكرامات الفقيه من هذا القبيل كثيرة(1)...
- السؤال: إن لم يكن هذا شركاً فما هو الشرك؟ وإن لم يكن وثنية فما هي الوثنية؟ وإن لم يكن ضلالاً فما هو الضلال؟ لكن هذا وأمثاله يفسر لنا الجهل والذل والتخبط الذي ابتليت به الأمة الإسلامية.
* يتصرف في الكون! لعله مساعَدة لله (سبحانه):-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/328).(78/447)
(الشيخ جلال الدين التبريزي) كان من كبار الأولياء وأفراد الرجال...يذكر ابن بطوطة قصصاً من كرامات الشيخ التي رآها حين لاقاه...حتى يقول: ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ، رأيت عليه فرجية مرعز، فأعجبتني، وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها؛ فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار، وجرد الفرجية، وألبسنيها مع طاقية من رأسه، ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية، وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم: هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر ويُعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي...(ويذكر ابن بطوطة سفره بعد ذلك، وكيف أخذ الفرجية منه سلطان الصين، ثم ذهابه عند الشيخ الصاغرجي حتى يقول): فقصدت زاوية الشيخ برهان الصاغرجي، فوجدته يقرأ والفرجية عليه بعينها...فقال لي: هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي، وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان...وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية؛ فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله، هو يتصرف في الكون(1)!!
* تعليق: كشفهم أضل منهم وأجهل! فقد جهل أن الحبكة في هذه القصة من ترتيب شياطين الجن.
* موكل بأهل البرزخ (بالوكالة عن الله تعالى)؟:-
(زين العابدين بن عبد الرءوف المناوي! ابن شارح الجامع الصغير؛ من أكابر الأولياء وأعيان الأصفياء...حدث الحمصاني، وهو أحد المشايخ العارفين، قال: رأيت طعيمة الصعيدي المصري، وهو من أكابر الأولياء في علم الأرواح، وأمامه إنسان كالنور، أو نور كالإنسان، قلت: ما هذا؟ قال: زين العابدين المناوي، قد وكل بأهل البرزخ(2).
ملحوظة: أرجو من القارئ الكريم أن يقارن بين هذا الكلام وبين ما يشبهه في الوثنية اليونانية.
* هل يجيز الإسلام نصب الخيمة على القبر وتعليق القناديل؟:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/10)، وقد نقلها عن رحلة ابن بطوطه.
(2) جامع النبهاني: (2/84).(78/448)
ومن كراماته (أي: زين العابدين المناوي)، أنه كان على قبره خيمة، فسقط عليها حائط بجانبها، فتقطعت الخيمة قطعاً قطعاً، وكان قد علق فيها ثريا من القناديل، فوجدت تحت الخيمة لم تنكسر، وهذا بالمشاهدة(1).
- الجواب: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج}.
وهكذا نرى أن كرامات الصوفية ما هي إلا شيطانيات تنحرف بالإسلام لتغرقه في أعمق أعماق الوثنية والجهل، وعدم كسر القناديل برهان ملموس على شيطانية الحادثة.
* النهي عن المنكر جريمة! وسلام على الإسلام:-
(ريحان بن عبد الله العدني)(2)...قال المناوي: من كراماته ما حكاه اليافعي عن بعض الثقات، أن بعض أهل عدن رآه يفعل بعض المنكرات، فأنكر عليه وقال: هذا الذي يدَّعي الصلاح يقدم على هذا! فاحترق بيته بالنار تلك الليلة(3)!!
سؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) [آل عمران:110]؟
* ومن الولاية القمل:-
...وحُكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما سُررتُ في إسلامي إلا ثلاث مرات: ...والثالثة: كنت بالشام، وعليَّ فرو، فنظرت فيه، فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته، فسرني ذلك(4)! (دستور من خاطره).
* والبول يطهر الأولياء:-
وفي حكاية أخرى عنه أيضاً قال: ما سُررت بشيء كسروري يوماً كنت جالساً، فجاء إنسان وبال عليَّ(5)! (أما الآن فدساتير كثيرة، دستور دستور...).
* ولهم في المزابل مراتع إليها يحنون:-
يقول عبد الله اليافعي (الغوث) من قصيدة:
__________
(1) جامع النبهاني (2/84).
(2) يمني مات قبل (700هـ).
(3) جامع النبهاني: (2/78).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:269)، والرسالة القشيرية، (ص:70).
(5) نشر المحاسن الغالية، (ص:270)، وتقريب الأصول، (ص:261)، والرسالة القشيرية، (ص:70)، وإيقاظ الهمم، (ص:345)، وغيرها.(78/449)
أحن ارتياحاً للمزابل لا إلى ……قصور وفرش بالطراز توشح(1)
- أما أنه لا يحن إلى القصور والفرش، فلا غبار عليه، وأما أن يحن إلى المزابل (فهذا عليه غبار وعليه زبالة أيضاً)!
* افتروا على الله سبحانه فجعلوه يفضل الأبيض على الأسود (من مقام التوبة):
...وكذلك القضية المشهورة للأستاذ سيد الطائفة الجنيد رضي الله تعالى عنه في توبته عن المريد الذي اسود جسمه بمجرد نظر وحديث نفس صدر منه في الصلاة، فابيض جسمه لما تاب عنه، وكان المريد في بلاد بعيدة، فلما قدم على الجنيد قال له: لولا أني تبت عنك لبقيت بذلك السواد إلى أن تلقى الله(2).
- سؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم:39]، وقول الرسول مخاطباً أهله: {.. فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً}؟ ثم من جهة ثانية، نرى من الواضح أن دور شياطين الجن في هذه اللعبة واضح.
* الصوفي، يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب:-
...وقد قال بعضهم: لا يكون الشيخ شيخاً حتى يمحو خطيئة تلميذه من اللوح المحفوظ! وقال آخر منهم منكراً لهذا القول المذكور: لو كان شيخاً ما غفل عن تلميذه حتى وقع في الخطيئة(3)!!
الجواب: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)) [الكهف:5]. وعلى كل حال، يجب أن نعرف أنهم يعتقدون لمثل هذه الاعتقادات بناءً على رؤى يرونها فعلاً؟ وما هي إلا ألاعيب شياطين الجن يضلونهم بها، والكشف.
* يستحيي من الله أن يدخل المسجد (من مقام الحياء):-
ومن حكايات أهل الحياء ما حكي أنه رؤي رجل خارج المسجد، فقيل له: لم لا تدخل المسجد فتصلي؟ فقال: أستحيي منه أن أدخل بيته وقد عصيته(4)!!
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:270).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:68)، وإحياء علوم الدين: (4/48)، وغيرهما.
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:68).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:203).(78/450)
- الجواب: أخلاق تدمر الدين والأخلاق! وهذا يفسر سبباً من أسباب جهل المسلمين بدينهم ودنياهم. ومع ذلك فلن تعدم من يقول لك: هذا للخواص لا للعوام!! فنجيبه: يا سلام.
* سلِّم تسلم، فللشيوخ التصرف التام:-
...ورووا عن بعض الأولياء الكبار أنه طلب منه بعض الناس أن يدعو له الله تعالى أن يرزقه ولداً ذكراً، فقال له: إن أحببت ذلك فسلم للفقراء مائة دينار، فسلم إليه ذلك، ثم جاء بعد ذلك بمدة، وقال له: يا سيدي، وعدتني بولد ذكر وما وضعت امرأتي إلا أنثى؛ فقال له الشيخ: الدنانير التي سلمتها ناقصة؛ قال: يا سيدي، ما هي ناقصة إلا شيئاً يسيراً، فقال له الشيخ، ونحن أيضاً ما نقصناك إلا شيئاً يسيراً، فإن أحببت أن نوفي لك فأَوْفِ لنا!! فقال: نعم يا سيدي، ثم ذهب وعاد إليه بتوفية ذلك النقصان، فقال له الشيخ: اذهب فقد أوفينا لك كما أوفيت لنا؟ فرجع إلى منزله، فوجد الولد غلاماً بقدرة الله تعالى وإكرامه لأوليائه عز وجل(1)!!
* تنبيه: هذه القصة الكافرة، يرويها غوث من أغواثهم وحبر من أحبارهم، في كتاب هو مرجع من مراجعهم!!
* ما هو ذنب الصبي الصغير:-
وروي مسنداً في كتاب مناقب الإمام شيخ الإسلام...الشيخ عبد القادر (الجيلاني)...فأتاه بعد ذلك جمع من الرافضة بقفتين مخيطتين وقالوا له: قل لنا ما في هاتين القفتين؟ فنزل من الكرسي الذي يتكلم عليه، ووضع يده على إحداهما، وقال: في هذه صبي مقعد، وأمر بفتحها، ففتحت، فإذا فيها صبي مقعد، فأمسك بيده، وقال له: قم، فقام يعدو بإذن الله تعالى، ووضع يده على الأخرى، وقال: وفي هذه صبي لا عاهة به، وأمر بفتحها، وإذا فيها صبي، فقام يمشي، فأمسك بناصيته، وقال له: اقعد، فأقعد(2)...
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:22).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:30).(78/451)
وإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أتى على المسلمين مئات السنين، وهؤلاء القوم ومريدوهم وأشياعهم هم مُثُلهم العليا وموجهوهم في الدين والدنيا، حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه من الجهل والفساد.
* أمر الشمس بالوقوف فوقفت:-
ومن جملة المستفيضات ما اشتهر في بلاد اليمن بين الفقهاء وغيرهم، وربما تواتر عن الفقيه إسماعيل الحضرمي...رضي الله تعالى عنه، أنه قال يوماً لخادمه وهو في سفر يقول للشمس تقف حتى يصل إلى منزله، وكان في مكان بعيد، وقد قرب غروبها، فقال لها الخادم: قال لك الفقيه إسماعيل (قفي له)، فوقفت حتى بلغ مكانه، ثم قال للخادم: ما تطلق ذلك المحبوس؟ فأمرها الخادم بالغروب، فغربت وأظلم الليل في الحال(1).
ولا تعليق، ولا سؤال، ولا جواب، ولا ملحوظة، ولكن نقول فقط: إن كشفهم خانهم! إذ لتأخير غياب الشمس يجب أن يأمر الأرض أن تقف، فدوران الأرض هو الذي يسبب الليل والنهار، ووقوف الشمس لا يؤخرشيئاً ولا يقدم في غروبها.
* الولاية تنسخ القرآن والحديث والإسلام:-
قال الفقيه إسماعيل الحضرمي رضي الله تعالى عنه: قيل لي: يا فقيه إسماعيل: إنا مشتاقون إليك، فهل أنت مشتاق إلينا؟ أو قال: فما هذا التخلف؟ فقلت: يا رب عوقتني الذنوب. فقال: قد غفرنا لك ولأهل تهامة من أجلك(2)!!
- السؤال: هل نُسخت الآية: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم:39]؟ وغيرها من الآيات والأحاديث المعروفة؟! لكن أيها القارئ الكريم، لو عرضت هذا الكلام على صوفي جليل، لقال لك: هذا الكلام له تأويل، فنجيبه: التأويل تضليل، ومكر، وأحابيل.
* ثم قاف (يا ناس)!:-
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:33).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:390).(78/452)
قال الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي الخير اليمني المشهور بالصياد رضي الله تعالى عنه: خطر بقلبي الاعتزال عن الخلق والسكنى بجبل قاف، فسمعت قائلاً يقول: يا صياد! أنت لنا أو لنفسك؟ فقلت: بل لكم، فقال: إن كنت لنا فقف هاهنا، ولك أجر رجلين من أهل جبل قاف(1).
- يا ناس، دلونا على من يدلنا على هذا القاف، ولكم أجر كل أهل جبل قاف.
* نصير الدين الطوسي (رضي الله عنه!!):-
يقول عبد الله اليافعي (قطب الغوث)، والغوث كما تعلمون يتصرف في الكون، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى! وطبعاً يعلم ذلك بالكشف! يقول: وقال الإمام نصير الدين الطوسي رضي الله تعالى عنه في كتابه في (قواعد العقائد): والفعل الخارق الذي يظهر على أحد من غير تحد يسمى الكرامة(2)...إلخ.
- وللعلم، نصير الدين الطوسي هذا، هو وزير هولاكو، شاركه في قتل ثلاثة ملايين مسلم ومسلمة، وهو شيعي، فهل الكشف خان الغوث؟ أم أن دمار الإسلام هو رسالة التصوف؟
* يعرف الجنة قصراً قصراً، ورأى الشمس في العجلة يجرها ملكان!:-
(أبو العباس أحمد بن أبي الخير الصياد)...وقال في وقت: والله إني لأعرف الجنة قصراً قصراً، وأعرف النار حانوتاً حانوتاً، وأعرف أصحابها في الدنيا واحداً واحداً. وقال أيضاً: كشف لي عن الشمس، فرأيت ملكين عظيمين يجرانها على العجلة في الفلك، من المشرق إلى المغرب، ومن المغرب إلى المشرق، قال الراوي: فقلت له: صف لي الملكين. فقال: ملكان عظيمان لهما كذا وكذا من مخلب، لو نظر إليهما أهل الأرض لماتوا...(3).
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:390).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:13).
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:76).(78/453)
- لم يسعفه كشفه وهو قطب، وكذلك الذي نقل هذه الكرامه، وهو غوث أيضاً، وهو عبد الله اليافعي، الذي لم يسعفه كشفه ولا غوثيته ليعرف أن الشمس تسير، لكن ليس من الشرق إلى الغرب، ولا من الغرب إلى الشرق، وأن الأرض هي التي تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، وكذلك كذب عليهما شيطانهما عندما قال لهما: إن الشمس محمولة على عجلة، وفي فصل لاحق سنرى مثل هذا الكشف عند حشاش فطر المكسيك، وأما معرفة الجنة قصراً قصراً والنار حانوتاً حانوتاً، ومعرفة أصحابها، فنترك مناقشتها لغير الضالين المضلين، ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)) [الأحقاف:9].
* العري أيضاً، ولكن مواساة للفقراء:-
وحكي أنه دخل بعضهم على بشر بن الحارث رضي الله تعالى عنه في يوم شديد البرد، وقد تعرى من الثياب، وهو ينتفض، قال: فقلت له: يا أبا نصر، الناس يزيدون في مثل هذا اليوم من الثياب، وأنت قد نقصت؟ فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أواسيهم بنفسي(1)!!
* الملحوظات:
1- ماذا يستفيد الفقراء إن تعرى وانتفض من البرد؟ وإن مرض؟ وإن مات؟
2- هل يؤجر على هذا العمل أم يأثم؟ وهل العري فضيلة؟ عجيب!
3- إن كان يريد حقاً مواساة الفقراء، فلم لم يفتش على عمل ثم يدفع أجرته لهم؟
* أعذار أقبح من ذنوب (من مقام الإخلاص والورع):-
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:231).(78/454)
...ولا يزالون يتعاطون ما يؤدي إلى إساءة الظن بهم وسقوطهم من قلوب الخلق ورميهم لهم بالعظائم، لا يحتفلون بمدح الخلق ولا بذمهم استجلاباً لكمال الإخلاص، واستبراءً للنفس من شوائب الشرك الخفي الذي لا يسلم منه إلا الخواص، لا يبالي أحدهم بكونه بين الخلق زنديقاً إذا كان عند الله صديقاً؛ فبعضهم يوهم الناس أنه لا يصلي ولا يصوم وهو يصلي ويصوم في الباطن فيما بينه وبين الله تعالى، وقد شوهد منهم كثير يصلون في الخلوات ولا يصلون بين الناس! وبعضهم إذا نام عند الناس يوهمهم أنه نائم، ويخرج إلى بعض المزابل يوهمهم أنه يبول، وليس به بول ولا نوم، بل يصلي الصبح بوضوء العشاء! وبعضهم يصلي بين الناس، ولكن لا يُرى في الصلاة، بل يحتجب عن الناس بحاله، إخفاء للمحاسن كما تقدم! وبعضهم يكشف عورته بين الناس! وبعضهم يشتم الناس بالألفاظ القبيحة! وبعضهم يجعل قصبته بين رجليه ويعدو عليها كأنها فرسه! وبعضهم يشتمل ببعض الحرف الدنيئة! وبعضهم جاء بعض الملوك يزوره في عسكره، فاستدعى بطعام وجعل يأكل أكلاً بشيعاً شنيعاً، فانصرف عنه الملك لما رأى ذلك! وبعضهم يأخذ شيئاً للناس حتى ينسبوه إلى اللصوصية ويزول عنه شهرة الصلاح(1)!! اهـ.
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:303).(78/455)
- هذا الكلام يذكره قطب غوث، وما أدراك ما قطب الغوث! فنسأله: لا يصوم، أي: يأكل أمام الناس (وطبعاً هذا في رمضان)، فكيف يأكل أمام الناس، بينما هو يصوم في الباطن؟؟ هذا كلام لا يصدر إلا عن مجنون أو زنديق. ثم الذين يصلون في الخلوات ولا يصلون أمام الناس، فهل نسخت ولايتهم فرض صلاة الجماعة؟! وهل التظاهر بالزندقة يجوز في الإسلام أم هو زندقة بحد ذاته؟! والعري العري ثم العري، لعله من مستلزمات التصوف؟! على كل حال، هذا هو كمال الإخلاص الذي يدعون إليه، وهذا هو استبراء النفس من شوائب الشرك الخفي، وهذا ما يعلمونه للناس، وهذا هوسبب فساد الأمة وسبب انهيارها، وسبب الجهل والذل اللذين يخيمان عليها.
* رآه وهو في ظهر أبيه:-
...وروينا عنه (الشيخ أبي عبد الله القرشي) قال: سألني الشيخ أبو الربيع عن بعض ما كنت أرى؟ فأخفيت عنه شيئاً. فقال: أعلي تتستر؟ والله لقد رأيتك في ظهر أبيك قبل ظهورك(1)...اهـ.
- وطبعاً خانه الكشف، فقد كان موزعاً بين أبيه وأمه، حيث نتج من حيوان منوي من هذا، ومن بويضة من هذه، وهكذا نرى أن كشفهم لا يظهر منه إلا الجهل.
* كشف، ودعوة إلى الجهل:
يقول أحمد الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني:
...ومن علومهم (أي: الفلاسفة) علم الهندسة، وهو لا يغني شيئاً...وعلم الطب وعلم النجوم وعلم تهذيب الأخلاق...وهؤلاء الأشقياء أخرجوا رقابهم عن ربقة التقليد، وصاروا في صدد الإثبات بالدلائل، فضلوا وأضلوا. ولما وصلت دعوة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى أفلاطون، وكان هو أكبر هؤلاء الخذلة، قال: نحن قوم مهديون لا حاجة بنا إلى من يهدينا، ما أسفهه وما أشقاه، حيث أدرك شخصاً يحيي الأموات ويبرئ الأكمه والأبرص(2)...
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:50).
(2) المنتخبات من المكتوبات، (ص:74).(78/456)
- أترك التعليق للقارئ، ولكني أنبه إلى أن أفلاطون مات قبل ميلاد عيسى بـ(347 سنة)، فأين الكشف؟ مع العلم أن السرهندي يعترف أن الكشف قد يخطئ.
* صورة من مقام التواضع.. ثم من مقام الخوف:-
كان الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن سعيد من الفقهاء والعلماء العاملين، بينما هو يمشي في يوم شاتٍ كثير الطين، فاستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها، قال من رآه: رأيت الشيخ قد لصق بالحائط، وعمل للكلب طريقاً، ووقف ينتظره ليجوز، فلما قرب منه الكلب، ترك مكانه الذي كان فيه ونزل أسفل، وترك الكلب يمشي فوقه! قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته وعليه كآبة! فقلت له: يا سيدي رأيتك الآن صنعت شيئاً استغربته! كيف رميت بنفسك في الطين وتركت الكلب يمشي في الموضع النقي؛ فقال لي: بعد أن عملتُ له طريقاً، تفكرت وقلت: ترفعت على الكلب وجعلت نفسي أرفع منه، بل هو والله أرفع مني وأولى بالكرامة، لأني عصيت الله وأنا كثير الذنوب...وأنا الآن أخاف من الله ألا يعفو عني لأني رفعت نفسي على من هو خير مني(1)...
* نسخ لآية قرآنية:
...وقيل للواسطي(2): لم لا تسأل الله شيئاً؟ فقال: أخشى أن يقال: إن سألتنا الذي لك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الأدب معنا، وإن سلمت الأمر لنا ونظرت بنظرنا أجرينا لك الأمور على مقتضى الموافقة(3).
السؤال: ما معنى قوله سبحانه: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60]؟ وهل نسختها ولايتهم؟
- وما معنى قوله سبحانه: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14]؟
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:337، 338).
(2) يزيد بن هارون الواسطي، مات سنة (286هـ).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:269).(78/457)
- وماذا بقي للقرآن من قيمة ما دام هوس هؤلاء المهووسين، يتحكم بآيات الله فيقررها أو ينسخها؟! لكنه العلم اللدني فلا تعترض. ولننتبه إلى الآية التي تقرر أن الذين يكرهون الدعاء هم الكافرون.
* علم لدني:-
يقول عبد العزيز الدباغ الغوث، إجابة على سؤال:
...الجواب والله الموفق للصواب بمنه، أن الثلج ماء عقدته الرياح، وأصله -غالباً- من ماء البحر المحيط، وماء البحر المحيط مخصوص بثلاث خصال لا توجد في غيره: البرودة إلى النهاية، لمجاورته للرياح وبعده من حر الشمس، ولذلك ينعقد بأدنى سبب، والصفاء إلى النهاية، لأنه ماء باقٍ على أصل خلقه، لم يمتزج بشيء من جواهر الأرض، فإنه بحر محمول على القدرة الأزلية، وليس هو على الأرض ولا على شيء، والبعد إلى النهاية، فإن المسافة التي بيننا وبينه في غاية البعد(1)...
- نترك التعليق لغير أهل الطريق، مع ملحوظة أن كشفه منبثق من معلوماته المستقاة من محيطه.
* علم لدني آخر:-
ويجيب عبد العزيز الدباغ، الغوث، على سؤال عن سبب الخسف فيقول:
__________
(1) الإبريز، (ص:145).(78/458)
...إن الأرض محمولة على الماء، والماء محمول على الريح، والريح تخرج من حيز عظيم بين السماء وطرف الماء، أعني ماء البحر المحيط، وذلك أنا لو قدرنا رجلاً يمشي ولا ينقطع مشيه، فإنه يبلغ لمنقطع الأرض، ثم يرى البحر المحيط، فإذا فرضناه يمشي عليه ولا ينقطع مشيه، فإنه لا يزال يمشي فوق الماء إلى أن ينقطع، وعندئذ لا يبقى بينه وبين السماء إلا الجو الذي تخرج منه الريح، فيرى رياحاً لا تكيف ولا تطاق، وهي بإذن الله الحاملة للماء والأرض، والماسكة للسماء، ثم هي خدامة دائماً لا تسكن لحظة، ومرتفعة نحو السماء، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل المطر على قوم أمر شيئاً من تلك الرياح فانعكس إلى جهة الأرض، وعبر على متن البحر المحيط أو غيره، فيحمل ما أراد الله تعالى من الماء إلى الموضع الذي يريده عز وجل، وكم مرة أنظر إلى طرف الماء المُوالي للجو الذي فيه الرياح، فأرى فيه جبالاً من الثلج لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، فإذا رجعت من الغد، وجدت تلك الجبال نُقلت إلى طرف الماء الموالي لجبل قاف، وإذا الرياح المنعكسة هي التي حملتها والله تعالى أعلم. وإذا أراد الله أن يخسف بقوم، دخلت الرياح في منافس وتقويرات في الأرض، بينها وبين الماء، فإذا دخلت الريح فيها، وقع في الأرض انحلال ينشأ عنه الخسف، وفي آخر الزمان تكثر المنافس في الأرض، ويكثر انعكاس الرياح إلى جهة الأرض، فتكثر الخسوفات، حتى يختل نظام الأرض، وكل ذلك بفعل الله تعالى وإرادته والله أعلم(1)...
- أرجو من القارئ الكريم أن يعرف أن قائل هذه الهذيانات الخرافية هو قطب الواصلين الولي الكامل الغوث الحافل، الصوفي الباهر، نجم العرفان الزاهر، صاحب الإشارات العلية، والعبارات السنية، والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية، والأسرار الربانية، والهمم العرشية، مُنشئ معالم الطريقة...ومبدي علوم الحقائق(2)...
__________
(1) الإبريز، (ص:148).
(2) الإبريز، (ص:2).(78/459)
كما أرجو من القارئ أن يعرف أن الذي سجل هذه المعارف (أو المخارف) التي جرت على لسان نجم العرفان هذا، هو نجم عرفان آخر، وهو الحافظ سيدي أحمد بن المبارك، جمعها في كتابه الشهير (الإبريز)، ومما وُصف به هذا الإبريز قول أحدهم:
دع ما يريبك إن ظفرتَ بمنهل ……صاف وهذا منهل الأبرار
لله ما يحويه ذا الإبريز يا ……لَلَّه ما يحوي من الأسرار
جمعَ المحاسن فهو جنات أتت ……من كل صنف يانع الأزهار(1)
ومن جملة ما يقول نجم العرفان الحافظ أحمد بن المبارك عن نجم العرفان سيدي عبد العزيز الدباغ: ...ولو سألته رضي الله عنه ورحمه عن هذه الأسئلة (أسئلة ذكرها عن غيبيات) لخرجت في أجوبتها علوم غيبية، فإنه رضي الله عنه لا يجيب إلا عن عيان...(2).
__________
(1) من أبيات مكتوبة على الغلاف الداخلي للكتاب.
(2) الإبريز (ص:149).(78/460)
- أي: إن تلك الهذيانات التي ذكرها. صادرة عن عيانٍ شاهده عبد العزيز الدباغ بنفسه، وهذا دليل واضح كامل على أن رؤاهم ومشاهداتهم ما هي إلا أوهام، كانوا يظنونها حقائق، وقد شغلت- كعلوم- حيزاً من قناعاتهم، فظهرت في رؤاهم الكشفية، ولنلاحظ قوله: إن الأرض محمولة على الماء...وإن هذا الماء بعيد إلى النهاية، الذي يُظهر مدى جهل الكشف وغبائه أيضاً! لأن الآية الكريمة تقول: ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:30، 31]، أي: إن ماء الأرض خرج من الأرض، فيكون محمولاً عليها وليس العكس، وكذلك قوله: لو قدرنا رجلاً يمشي...فإنه يبلغ لمنقطع الأرض، الذي يدل على أن كشفهم (وعرفانهم) لم يستطع أن يفهم معنى قوله سبحانه: ((وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا)) [الحجر:19]، أي: إن الرجل الماشي، سيبقى يسير، وستبقى الأرض، ومعها البحر ممدودة أمامه لا تنقطع، لأنها كروية، ولكن الكشف جهول؟ ولننتبه أيضاً إلى قوله: وكم مرة أنظرُ إلى طرف الماء الموالي للجو...، الذي يبين بوضوح كامل أن هذه الأمور شاهدها بنفسه (بالكشف طبعاً)، وهذا دليل واضح على أن الكشف هو انبثاقات للمعلومات المختزنة في عقل المكاشف، وبالتالي، يدل هذا أيضاً على أن الصوفية ليست ولاية (ولا يحزنون)، وإنما هي حالة نفسية تشبه ما يحدث لمتعاطي المخدرات شبهاً تاماً. كما يجب أن ننتبه إلى اعتقادهم بواقعية الكشف.
* كشف فلكي فيزيائي كيميائي:-(78/461)
(ياقوتة): سألت شيخنا رضي الله عنه عن محل التغيير والاستحالة من العالم. فقال رضي الله عنه: محل ذلك ما دون فلك القمر!...فقلت له: فهل الاستحالة عامة في كل كثيف ولطيف فيما تحت فلك القمر؟ فقال رضي الله عنه: نعم. ألا ترى النار تستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، والماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ناراً، والنار تتصل بالهواء وآخرها يتصل بالنور، فأول طرف الهواء متصل بالماء وآخره متصل بالنار، وأول الماء متصل بالتراب وآخره متصل بالهواء، فمن جهة طرفه الأعلى يتصل بما فوقه، ومن طرفه الأدنى يتصل بما دونه ويستحيل؛ فقلت له: فما العلة في الاستحالة والتغيير؟
فقال: لتُجزى كل نفس بما كسبت وتعاقب بما جنت(1).
* التعليق:
يقول: إن الاستحالة (أي: الحوادث الكيميائية والفيزيائية) لا تجري فوق فلك القمر! أي: لو كنا في المريخ مثلاً، فأي عملية كيميائية أو فيزيائية لا يمكن أن تجري هناك!! كما يقرر (بل يقرران) أن ما فوق فلك القمر لا يوجد فيه تراب، إن التراب هو الذي نراه تحتنا فقط!!
- هذا الكلام يعني أن العارف (بل العارفين) الكامل المحقق لم يستطع أن يعرف أن الاستحالة والتغيير تجري فوق فلك القمر وفي النجوم البعيدة، كما تجري على الأرض، كما أنه لم يعرف (أو لم يعرفا) أن الأرض ومعها قمرها تدور مع بقية الكواكب السيارة حول الشمس، ولم يعرف كذلك أن النجوم شبيهة بالشمس لها توابع أو رفاق، تدور حولها أو معها، وتسري عليها سنن الله التي تسري على الأرض، ولم يعرف أيضاً أن العلة في الاستحالة والتغيير ليست كما قال: ((وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)) [الجاثية:22]، وأنه لا علاقة بينهما ألبتة، وإنما هي سنن الله في خلقه، كانت كما أرادها أن تكون.
__________
(1) كتاب الجواهر والدرر على هامش الإبريز، (ص:151).(78/462)
وكل هذا يعني أن الكشف لم يعطه أكثر من المعارف المختزنة في مخازن دماغه والتي استقاها من المعلومات التي كانوا يتوهمونها، والتي جاءت بدورها من مكاشفات أولياء سابقين تراكمت بعضها فوق بعض، وكان الأقطاب المدركون والكباريت الحمر، يضيف كل واحد منهم إلى الركام ما يتجسد له في كشفه، مما يتوهمه من نظريات خرافية. والجدير بالذكر أن مثل هذا تماماً يحدث مع الذين يتعاطون المخدرات التحشيشية، فهم يرون في كشوفهم المعلومات المختزنة في عقولهم، يضاف إليها أمانيهم وطموحاتهم. وهكذا كل كشوف العارفين، ما عدا الطلسميات والمعميات والغيبيات التي لا يمكن أن يوجد عليها أي دليل، والتي ليس لها أي قيمة في ميزان العلم والمعرفة الحقة. ولإتمام الفائدة، نفيد القارئ علماً أن السائل هو القطب الرباني والغوث الصمداني سيدي عبد الوهاب الشعراني، وأن المسئول هو الشيخ الكامل المحقق صاحب الكشوفات الربانية والمعارف اللدنية، سيدي علي الخواص...وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات(1)!!
- أقول: لو كان كلامهم هذا صحيحاً، ولو كانت كشوفاتهم ربانية محلها اللوح المحفوظ، لتنزهت عن الغلط- مجرد الغلط- فكيف بها وهي كلها- كما نرى- هذيان في هذيان، وجهل في جهل؛ وبالتالي، تكون فناءاتهم وإشراقات وحدة الوجود فيها هذيانات من هذه الهذيانات.
* كشف من الغيبيات (للتسلية):-
يقول أحمد بن المبارك:
__________
(1) الجملة الأخيرة من طبقات الشعراني: (2/150).(78/463)
سمعت الشيخ (عبد العزيز الدباغ) رضي الله عنه يقول: في ذات كل ملك خمسة رءوس، لكل رأس يمينٌ وشمالٌ وفوقٌ سبعة، فله فوق تسعةُ أفواه، مجموع ذلك ثلاثة وستون فماً في كل رأس، فإذا ضربت عدد الرءوس الخمسة في عدد الأفواه السابقة، كان الخارج ثلاثمائة فم وخمسة عشر فماً، والفم يكون فيه ثلاثة ألسن، وقد يكون فيه خمسة ألسن، وقد يكون فيه سبعة ألسن؟ فإذا كان فيه ثلاثة، فالخارج من ضربها في عدد الأفواه تسعمائة وخمسة وأربعون لساناً، وإن كان فيه خمسة كان الخارج ألف لسان وخمسمائة لسان وخمسة وسبعون لساناً، وإن كانت سبعة كان الخارج ألفي لسان ومائتي لسان وخمسة ألسن؛ وإذا تكلم الملَك بكلمة خرج صوته بها من هذه الألسن كلها، فسبحان الملِك. الخلاق العظيم(1)...اهـ.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهكذا نرى أن كشوفهم ما هي إلا هذيانات وهلوسات وصور لما كانوا يعتقدونه عن الكون، وكلها خرافية، بالإضافة إلى الألاعيب الشيطانية.
* ثم قاف أيضاً:-
...سمعنا الشيخ أبا أحمد البطايحي رضي الله عنه غير مرة يقول: دخلت على شيخنا الشيخ عبد القادر رضي الله عنه ببيته يوماً، فوجدت عنده أربعة ما رأيتهم قبل! فوقفت مكاني، فلما قاموا من عنده قال لي الشيخ: الحقهم واسألهم أن يدعوا لك، فلحقتهم في صحن المدرسة قبل أن يخرجوا، وسألتهم الدعاء، فقال لي أحدهم: لك البشرى، أنت خادم رجل يحرس الله تعالى الأرض ببركته، سهلها وجبلها، برها وبحرها، وبدعوته تُرحم الخليقةُ برها وفاجرها، ونحن وسائر الأولياء في حضرة أنفاسه وتحت قدميه وفي دائرة أمره؟ ثم خرجوا من المدرسة فلم أرهم؛ فرجعت إلى الشيخ متعجباً، فقال لي قبل أن أخبره بشيء: يا عبد الله! لا تُعلِمْ أحداً بما قالوا لك يا أخي. قلت: يا سيدي مَن هؤلاء؟ قال: رؤساء رجال جبل قاف، وهم الآن في مواضعهم بجبل قاف(2)...
__________
(1) الإبريز، (ص:153).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:19).(78/464)
- السؤال: أين هذا القاف؟! أفيدونا يا رجال الغيب، ويا رجال الشهادة، ولكنهم كانوا يرون هذا فعلاً بالكشف! فما هو هذا الكشف؟!
* ماذا بقي للألوهية:-
يقول عبد القادر الجيلاني:
أنا من وراء أمور الخلق، أنا من وراء عقولهم، كل رجال الحق إذا وصلوا إلى القَدَر أمسكوا إلا أنا، وصلت إليه وفتح لي منه روزنة، فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر لا الموافق له(1).
ويقول: طوبى لمن رآني، أو رأى من رآني، أو رأى من رأى من رآني، وأنا حسرة على من لم يرني(2).
الجواب هو قوله سبحانه: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32]. وقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50]، وقوله مخاطباً رسوله: ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)) [الأحقاف:9]، وقوله: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) [الجن:21، 22]، وغيرها الكثير، فهل نؤمن بالقرآن أم بالجيلاني؟؟
* لا يلبس القميص تقرباً إلى الله تعالى (لعله من مقام المحاسبة):-
...وكان لأبي سعيد الخراز ابنٌ مات قبله، فرآه في المنام، فقال له: بُني أوصني.
فقال: لا تعامل الله على الجبن...فقال: زدني. فقال: لا تجعل بينك وبين الله قميصاً! قال: فما لبس القميص ثلاثين سنة(3)...
- فما شأن القميص؟! وهل يشكل القميص حاجزاً بين الإنسان وبين ربه؟!
* الكشف يجهل أن الإكسير خرافة:-
__________
(1) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:23).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:23).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:180).(78/465)
لما مات إسحاق بن أحمد، دخل سهل بن عبد الله صومعته، فوجد بها سفطاً فيه قارورتان في واحد منهما شيء أحمر، وفي الأخرى شيء أبيض، ووجد شوشقة ذهب وشوشقة فضة، قال: فرمى بالشوشقتين في الدجلة وخلط ما في القارورتين بالتراب، وكان على إسحاق دَيْن، قال ابن سالم: قلت لسهل: إيش كان في القارورتين؟ قال: إحداهما لو طرح منها وزن درهم على مثاقيل من النحاس صار ذهباً! والأخرى لو طرح منها مثقال على مثاقيل من الرصاص صار فضة! فقلت: وإيش عليه لو قُضي منه دينه؟
فقال: أي: دوست، خاف على إيمانه(1).
- دوست: كلمة فارسية معناها صاحب. ولعل القارئ يعرف أن الشيء الأحمر والشيء الأبيض اللذين كانا في القارورتين هما ما يسمونه (الإكسير) وهو محض خرافة لا وجود له. ولكن كشفهم الذي يقولون عنه إنه عين اليقين وحق اليقين لم يسعفهم على معرفة اليقين، وظهر أكثر جهلاً منهم.
أما إنه أبقى الدِّين على نفسه لأنه إن قُضي دينه خاف على إيمانه!! فهذا منطق لا يفهمه إلا المكاشفون العارفون.
* الشريعة تابعة لحقيقتهم:-
...سمعت أبا بكر الدقاق يقول: كنت ماراً في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين للشريعة، فهتف بي هاتف من تحت شجرة: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر(2).
- إذن! فالشريعة تابعة لحقيقتهم! وهذا مثل قول الغزالي الذي مر في مكان سابق، وهو يعني: إن العبارة إن لم تكن موهمةً أن وراءها نصاً شرعياً فهي كفر (أي: في نظر أهل الشريعة).
* صيامٌ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:164).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:164).(78/466)
...سمعتُ الفتاحي صاحب سهل بن عبد الله يقول: كان سهل يصبر عن الطعام سبعين يوماً، وكان إذا أكل ضعف، وإذا جاع قوي. وكان أبو عبيد البسري إذا كان أول شهر رمضان يدخل بيتاً ويقول لامرأته: طيِّني عليَّ الباب وألقي إليَّ كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد، فتح الباب، ودخلت امرأته البيت، فإذا بثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب ولا نام ولا فاتته ركعة من الصلاة(1)..
* التعليق:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصل في الصيام، وأمر بتعجيل الفطور، وأمر بالسحور، وأمر بتأخيره. وبذلك يكون هذا (الولي) موزوراً بعمله هذا لا مأجوراً، ولكن حقيقتهم تناقض الشريعة الإسلامية (على طول الخط)، وهذا عدا تركه صلاة الجمعة والجماعة.
* كذب على الله ورسوله:-
قال خير النساج: قص موسى بن عمران صلوات الله عليه على قوم قصة، فزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجدي صاحوا، فلِمَ تنكر على عبادي(2)؟
- الجواب: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الأنعام:21].
والكذب على رسول الله موسى، كالكذب على رسول الله محمد صلى الله عليهما وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.
* من خشوع الأولياء في الصلاة:-
...أحمد بن مقاتل العكي يقول: كنت مع الشبلي في مسجدٍ ليلة من شهر رمضان، وهو يصلي خلف إمام له وأنا بجنبه، فقرأ الإمام: ((وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) [الإسراء:86]، فزعق زعقة قلت طارت روحه، وهو يرتعد ويقول: بمثل هذا يخاطب الأحباب! يردد ذلك كثيراً(3).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:165). واللمع، (ص:217).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:157).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:155).(78/467)
- نقول (متناسين تزكية النفس): لعل من مقام الإحسان الزعق في الصلاة؟ فهذه علوم لدنية كشفية يجهلها المحجوبون. وهذا يكشف دور إبليس في التصوف.
* يستبدل القرآن بالغناء! ولا تعترض:-
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: خرجت إلى مرو في حياة شيخي الأستاذ أبو سهل الصعلوكي؛ وكان له قبل خروجي، أيام الجمعة بالغدوات، مجلس دور القرآن والختم؟ فوجدته عند رجوعي قد رفع ذلك المجلس، وعقد لأبي الغفاني في ذلك الوقت مجلس القول! فداخلني من ذلك شيء، فكنت أقول في نفسي: قد استبدل مجلس الختم بمجلس القول! فقال لي يوماً: يا أبا عبد الرحمن! إيش يقول الناس في؟ فقلت: يقولون: رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول! فقال: من قال لأستاذه (لِمَ) لم يفلح أبداً(1)...اهـ.
- فهم القارئ كاف، ولكن ينبغي أن نشير إلى أن هذه الضلالات والتفاهات تدرَّس في مساجد المسلمين، وعليها ينشأ كثير من أبناء المسلمين! ثم يتساءلون عن سبب فساد المسلمين!!
* الصوفي إله! يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بيده الخير:-
...أن شقيقاً البلخي وأبا تراب النخشبي قدما على أبي يزيد (البسطامي)، فقدمت السفرة وشاب يخدم أبا يزيد؛ فقالا له: كل معنا يا فتى. فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر! فأبى. فقال له شقيق: كل ولك أجر صوم سنة!! فأبى. فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله تعالى!! فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة فقطعت يده(2).
* التعليق: عندما يصل الضلال بأهله إلى هذا المستوى، فالسكوت خير من الكلام.
* يرفضون أن يكون آخر كلامهم (لا إله إلا الله):-
...عن أبي محمد الهروي أنه قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها، فكان يقول طول ليله هاذين البيتين:
كل بيت أنت ساكنه ……غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا ……يوم يأتي الناس بالحجج(3)
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:150).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:151).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:137).(78/468)
وقيل للشبلي عند وفاته: قل: لا إله إلا الله، فقال:
قال سلطان حبه ……أنا لا أقبل الرشا
فسلوه بحقه ……لِمَ بقتلي تحرشا؟(1)
وقال بعضهم: كنت عند ممشاد الدينوري عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلة؟ فقال: سلوا العلة عني كيف تجدني؟ فقيل: قل: لا إله إلا الله، فحول وجهه إلى الجدار، وقال: أفنيتُ كلي بكلك، هذا جزاء مَنْ يحبك(2)؟
وقيل لأبي محمد الدبيلي وقد حضرته الوفاة: قل: لا إله إلا الله، فقال: هذا شيء قد عرفناه وبه نفنى، ثم أنشأ يقول:
تسربل ثوب التيه لَمَّا هويته ……وصد ولم يرض بأن أك عبده(3)
...سمعت بعض الفقراء يقول: لما قربت وفاة أحمد بن نصر رحمه الله تعالى، قال واحد: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، فنظر إليه وقال: لا تترك الحرمة (بالفارسية: بي حرمتي مكن)(4). وحُكي أنه قيل له (لأبي الحسين النوري): قل: لا إله إلا الله، فقال: أليس إليه أعود(5)؟
- وغيرهم وغيرهم، ولا تعليق، ولا سؤال، لكن هكذا تقتضي حكمة الإشراق.
* من أجل نملتين (من مقام التقوى):-
...ومِثْل أبي يزيد، اشترى بهمذان حب القرطم، ففضل منه شيء، فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين، فرجع إلى همذان فوضع النملتين(6)!!
* الأسئلة:
1- هل أعاد النملتين إلى نفس قريتهما(7)؟ طبعاً لا. وعندما تبتعدان عن قريتهما فلا فرق عندهما بين بسطام وبين همذان، ولكن كشفه لا يفهم ذلك؟
2- عندما ذهب إلى همذان ورجع، فكم نملة مرت تحت رجله فداسها وقتلها دون أن يشعر؟ كم نملة قتل في سبيل إعادة نملتين؟ فكيف قصر علمه اللدني عن علم هذا الأمر البدهي.
* من مقام الزهد:-
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(5) الرسالة القشيرية، (ص:138).
(6) الرسالة القشيرية، (ص:52).
(7) القرية هي عش النمل.(78/469)
...سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: وإن نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة أن أغمس جزرة في دبس فما أطعتها(1)!
- ليس لنا أمام هذا الزهد البارد إلا الدسترة: دستور دستور دستور.. ودساتير كثيرة.
* وأيضاً بلا عنوان:-
...سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: ربما كنت أقرأ في ابتداء أمري في ركعة واحدة عشرة آلاف مرة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1]، وربما كنت أقرأ في ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلي من الغداة إلى العصر ألف ركعة(2)!!
- ولا تعليق أيضاً، لكن أطلب من القارئ اللبيب أن يقوم بعملية حسابية بسيطة، ومع ذلك فلن نعدم من يقول لنا هذه الأمور من مقامات الخواص! فنجيبهم: وكذلك الرقص مع النقص والموسيقى والسماع.
* فقرة معترضة بلا مناقشة ولا ملحوظة ولا تنبيه:-
قال أحمد التجاني: لو بحت بما علمه الله لي لأجمع أهل العرفان على قتلي(3).
* من أجل زبيبة (لعلها من مقام المراقبة أو المحاسبة):-
يقول أبو بكر الكلاباذي (تاج الإسلام):
...قال أبو عثمان: كنت عند أبي حفص، وبين يديه زبيب، فأخذت زبيبة ووضعتها في فمي، فأخذ بحلقي وقال: يا خائن، تأكل زبيبتي؟ فقلت: لثقتي بزهادتك في الدنيا وعلمي بإيثارك أخذت الزبيبة. فقال: يا جاهل، تثق بقلب لا يملكه صاحبه(4)؟!
- للعلم: هذه القصة المخجلة هي من باب: (توقي القوم ومجاهداتهم)، ومن ذلك:
كان أبو المغيث لا يستند ولا ينام على جنبه، وكان يقوم الليل، وإذا غلبته عينه قعد ووضع جبينه على ركبتيه فيغفو غفوة(5).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:72).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:29).
(3) كشف الحجاب، (ص:373).
(4) التعرف (ص:147).
(5) التعرف، (ص:148).(78/470)
- السؤال: وماذا لو نام، وهل في عدم اضطجاعه فضل؟ أي فضل؟ لقد نام خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وخير البشر من بعدهم صحابة رسول الله، والنوم على الجنب هو من الفطرة، والإسلام دين الفطرة، فمن أين هذا التوقي والمجاهدة؟؟ {من رغب عن سنتي فليسى مني}. وطبعاً هي حكمة الإشراق.
* ومن توقيهم البارد:-
قالوا: إن أبا عمرو الزجاجي أقام بمكة سنين كثيرة لم يحدث في الحرم، كان يخرج من الحرم للحدث، ثم يعود إليه وهو على الطهارة(1).
- وماذا لو أحدث في الحرم؟ هل هو يفهم ما كان يجهله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟؟
* خرابات وقمامات ولا يكلم الناس:-
ويقول أيضاً (أبو بكر الكلاباذي):
...سمعت فارساً يقول: كان أبو عبد الله المعروف بشكثل لا يكلم الناس، وكان يأوي إلى الخرابات في سواد الكوفة، وكان لا يأكل إلا المباح والقمامات(2)...
* التعليق:
هل هذا من الإسلام في شيء؟؟ لكن ما علينا إلا العودة إلى الدسترة.. دستور! دستور! دستور! ويظهر أن هناك علاقة باطنية بين التصوف وبين القاذورات.
* ودستور آخر (لعله من مقام التقوى):-
...سمعت الحسين المغازلي يقول: رأيت عبد الله القشاع ليلةً قائماً على شط دجلة وهو يقول: يا سيدي أنا عطشان، يا سيدي أنا عطشان، حتى أصبح، فلما أصبح قال: يا ويلتي، تبيح لي شيئاً وتحول بيني وبينه، وتحظر علي شيئاً وتخلي بيني وبينه، فإيش أصنع؟ ورجع ولم يشرب منه(3).
جوابنا: ألم يعلم هذا الجاهل أنه في عمله هذا إن لم يكن آثماً فهو على الأقل غير مأجور؟ أوَلا يعلم أيضاً، هو وطائفته، أن مثل هذا موجود في دين الهندوسية لا في دين الإسلام؟ ثم ماذا لو شرب؟ وما هي الحسنة في عدم شربه؟ لكن بمثل هذه التفاهات وصلت حالة المسلمين إلى ما نراه الآن.
* الصراخ والتعري من مستلزمات الصوفية:-
__________
(1) التعرف، (ص:148).
(2) التعرف، (ص:148).
(3) التعرف، (ص:148).(78/471)
...ثم صرخ (عبد القادر الجيلاني) وقام إليه خلق كثير يتوبون صارخين باكين، إذ جاء عصفور فقعد على رأسه، فحنى رأسه له، ومكث كذلك وهو على رأسه والناس على درج الكرسي، والصراخ حوله وهو لا يبرح حتى مد يده بعض أصحابه نحوه، فطار، ثم دعا، وضج الناس بالبكاء والدعاء والتوبة، فنزل وخرج على حاله إلى جامع الرصافة، وتبعه خلق كثير بالبكاء والصراخ والوجد والتعري عن الثياب، ثم قال رضي الله عنه: هذا آخر الزمان(1)...
* الملحوظة: هكذا هي التربية الصوفية التي دمرت المجتمع الإسلامي: عري وصراخ وغوغائية...
* مشورة الكتاب والسنة غير ملزمة (لعلها للتسلية فقط):-
...فانظر إلى وزيريك، الكتاب والسنة، خذ مشورتهما، فإن أفتياك توقف، لا تستعجل، لا تُشِرْ، استفتِ نفسك وإن أفتاك المفتون، النفس إذا جاهدتها وخالفتها انسكبت مع القلب، صارا شيئاً واحداً(2)...
- للعلم: قائل هذا الكلام هو عبد القادر الجيلاني (وما أدراك...) وهو يقرر أن عليك ألا تلتزم بالقرآن والسنة، وإنما تستشيرهما فقط، ثم تعود إلى مشورة قلبك؟ وأرجو من القارئ أن يبحث عن حكم الإسلام في هذا.
وكان (عبد القادر الجيلاني) رضي الله عنه يقول: أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي يخفف الله عنه العذاب يوم القيامة(3)!.. (يا سلام ويا بلاش).
* دعاء غير الله واستعانة بغيره:-
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:369).
(2) الفتح الرباني، (ص:370).
(3) الغنية (ترجمة المؤلف)، (ص:4).(78/472)
يا سلطان العارفين، يا تاج المحققين، يا ساقي الحميا، يا جميل المحيا، يا بركة الأنام، يا مصباح الظلام، يا شمس بلا أفل، يا در بلا مثل، يا بدر بلا كلف، يا بحر بلا طرف، يا باز الأشهب، يا فارج الكرب، يا غوث الأعظم، يا واسع اللطف والكرم، يا كنز الحقائق، يا معدن الدقائق، يا واسط السلك والسلوك، يا صابح الملك والملوك، يا شمس الشموس، يا زهرة النفوس، يا هادي النسيم، يا محيي الرميم، يا عالي الهمم، يا ناموس الأمم، يا حاجة العاشقين...يا خزانة الأسرار، يا سيدي جمال الله، يا نائب رسول الله...يا راحم الناس، يا مذهب الباس، يا مفتح الكنوز، يا معدن الرموز، يا كعبة الواصلين، يا وسيلة الطالبين...يا قوي الأركان، يا حبيب الرحمن...يا فاتح المغلقات.. يا حائط الأشياء.. يا منتهى الأمل حين يتقطع العمل....يا ضياء السماوات والأرضين...يا فرجاً في الشدائد...يا غافر الأوزار...يا ذا الأحوال العظيمة...يا كاشف الغمة...يا مقبول رب الجنات، يا جليس الرحمن...يا شاه يا سر إلهي...يا سيدي يا سندي يا مولاي يا قوتي يا غوثي يا غياثي يا عوني يا راحتي يا قاضي حاجتي يا فارج كربتي يا ضيائي يا رجائي يا شقائي...يا نور السرائر يا صاحب القدرة يا وهاب العظمة...يا شاهد الأكوان بنظرة، يا مبصر العرش بعلمه، يا بالغ الغرب والشرق بخطوة، يا قطب الملائكة والإنس والجن، يا قطب البر والبحر، يا قطب المشرق والمغرب، يا قطب السماوات والأرضين، يا قطب العرش والكرسي واللوح والقلم...يا من يبلغ لمريده عند الاستعانة ولو كان في المشرق...يا صاحب التصرف في الدنيا وفي قبره بإذن الله...يا غوث الأعظم، أغثني في كل أحوالي، وانصرني في كل آمالي(1)...
- للعلم: هذا الدعاء ليس موجهاً لله تعالى، وإنما هو موجه لعبد القادر الجيلاني!!
وهو ورد أساسي من أوراد الطريقة القادرية التي يتعبدون بها ويتقربون إلى الله؟!
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:191، وما بعدها).(78/473)
- وجوابنا: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) [الأحقاف:5].
* رجال الغيب كما ذكرها في (الغنية):-
اعلم أن رجال الغيب والأرواح المقدسة قدَّست أرواحهم، في اليوم السابع والرابع عشر والثاني والعشرين والتاسع والعشرين متوجهون إلى المشرق، واليوم السادس واليوم الحادي والعشرين والثامن والعشرين بين المشرق والشمال، واليوم الثالث والخامس عشر والثالث والعشرين والثلاثين منه متوجهون إلى طرف الشمال، واليوم الخامس والثالث عشر والتاسع والسابع والعشرين منه متوجهون إلى المغرب، واليوم الثاني والعاشر والسابع عشر والخامس والعشرين منه متوجهون بين المغرب والقبلة، واليوم الثامن والحادي عشر والثامن عشر، والسادس والعشرين والرابع والعشرين منه متوجهون بين المشرق والقبلة، فيا أخي إذا علمت جهات سيرهم وطريقتهم ينبغي أن تلتجئ إلى الله وإليهم بعد قراءة الأوراد، تقول: حصلوا مرادي ومقصدي. ويسمي لهم الطالب مقصودَه ومرادَه(1)...
- هذا العلم اللدني معرفته شرط من شروط المنتسب إلى الطريقة القادرية، بل وجميع الطرق دون استثناء.
ونسألهم ونسأل غيرهم: لو فتشنا ودرسنا الديانات الوثنية كلها، فهل نجد فيها شركاً أكثر من هذا؟ أو تفاهة (أنقى) من هذه التفاهة؟
* علم لدني آخر:-
...وأعلى الأمكنة، المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك، وهو فلك الشمس، وفيه مقام روحانية إدريس عليه السلام، وتحته سبعة أفلاك، وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر، فالذي فوقه: فلك الأحمر (أي: المريخ)، وفلك المشتري، وفلك كيوان (زحل)، وفلك المنازل (منازل القمر)، والفلك الأطلس فلك البروج، وفلك الكرسي،. وفلك العرش، والذي دونه: فلك الزهرة، وفلك الكاتب، وفلك القمر،
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:199)، ولا أعرف في أي مكان من كتاب الغنية هي موجودة (المؤلف).(78/474)
وكرة الأثير، وكرة الهوى (الهواء)، وكرة الماء، وكرة التراب، فمن حيث هو قطب الأفلاك هو رفيع المكان(1)...
* التعليق: هذا العلم اللدني الناتج عن الكشف الذي هو حق اليقين، ظهر وإذا به انبثاق لمعلومات اقتنع بها المكاشف وكانت موجودة في عصره، مع غيرها طبعاً، وهذا العلم اللدني والكشف العظيم هو من كشوف الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي. وكل كشوفهم وعلومهم اللدنية من هذا القبيل!!
* الكشف يقرر لاهوت عيسى:-
يقول ابن عربي في (مناجاة قاب قوسين):
...فسمعت كلاماً مني، لا داخلاً فيَّ ولا خارجاً عني، وهو يقول:
لله در عصابة سارت بهم ……نجب الفناء بحضرة الرحمن
قرعوا سماء الروح لما آنسوا ……جسماً ترابياً بلا أركان
فبدا لهم لاهوت عيسى المجتبى ……روحاً بلا نفس ولا جثمان(2)
- إذن، فعيسى عليه السلام إله، ولا تعترض فهو العلم اللدني. وهذا الكلام الذي لا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه، عندما يسمعه الواصل وهو في حال استشعار الألوهية هو ما يسميه ابن عربي (الفهوانية).
* الكشف يقرر التثليث:-
ويقول ابن عربي أيضاً:
...فقام أصل التكوين على التثليث، أي: من الثلاثة...فهذا أيضاً قد ظهر حكم التثليث في إيجاد المعاني التي تقتنص بالأدلة؟ فأصل الكون التثليث، ولهذا كانت حكمة صالح عليه السلام التي أظهر الله في تأخير أخذ قومه ثلاثة أيام وعداً غير مكذوب(3) إلخ.
ويشرح عبد الرزاق القاشاني (في شرحه على الفصوص) هذا الكلام، ومن جملة ما يقول:
__________
(1) فصوص الحكم (كلمة إدريسية)، (ص:75).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الإسرا، (ص:51).
(3) فصوص الحكم، (ص:116، 117)، وشرح القاشاني على الفصوص (ص:169، 170).(78/475)
...أي: ثم لما كان التثليث سبباً لفتح باب النتائج في التكوين والإيجاد، سرى ذلك التثليث في جميع مراتب الإيجاد حتى إيجاد المعاني بالأدلة، وكما أن التثليث الأول مرتب ترتيباً متقناً: بكون الذات فيه مقدماً، والإرادة متوسطة بينه وبين القول، لا يكون إلا كذلك، فلذلك يكون الدليل مرتباً على نظام مخصوص(1)...(أي: على التثليث). - النتيجة من هذا الشرح التبريري (العلمكلامي) هي: عيسى إله، والكون قائم على التثليث، وبالتالي يكون دين النصرانية صحيحاً والإسلام غير صحيح..
- وهذا الكلام الوارد في (فصوص الحكم) يؤمن به كل الصوفية؛ لأنهم يؤمنون بأن ابن عربي هو ولي الأولياء وصديق الصديقين ومقرب المقربين والشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكتابه فصوص الحكم هو أعظم مؤلفاته كلها قدراً وأعمقها غوراً وأبعدها أثراً، وقد شرحه شراح كثيرون من أئمة الصوفية وكبرائهم، حتى صارابن عربي يعرف بـ(صاحب الفصوص).
ويقول ابن عربي نفسه عن كتاب الفصوص ما يلي:
أما بعد: فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُبشَّرةٍ أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة، بمحروسة دمشق، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذْه واخْرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة...وجرَّدت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان(2)...
* تعليق:
على القارئ ألا يظن أن ابن عربي كان نصرانياً؛ لأنه يؤمن بألوهية المسيح وبالتثليث، لا، لم يكن نصرانياً، وإنما كان صوفياً، وإيمانه بألوهية المسيح وبالتثليث جاء من صوفيته، ولفهم ذلك نقرأ الأبيات التالية من ديوانه (ترجمان الأشواق)، يقول:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ……فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
__________
(1) شرح القاشاني، (ص:171).
(2) فصوص الحكم للعفيفي، (ص:47)، وشرح القاشاني، (ص:9).(78/476)
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ ……وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ……كتائبه فالحب ديني وإيماني
ولنلاحظ أن ابن عربي كان يقول هذا الكلام عندما احتل الصليبيون القدس للمرة الثانية بعد أن حررها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي. وبقوا فيها أربعة عشر سنة، وكان المسلمون يتنادون من كل حدب وصوب داعين للجهاد لتحرير القدس، بينما يقف ابن عربي ليقول: ...ودير لرهبان...وألواح توراة...أدين بدين الحب...!!
أما قصة تناوله كتاب فصوص الحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم فنترك التعليق عليها، من حيث العقيدة ومن حيث الواقع، للقارئ اللبيب. بعد تذكيره بالآية الكريمة: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي...)) [المائدة:3]
* علوم لدنية؟!
يقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر الإمام العالم المحقق المتبحر...ابن عربي:
...فأقول على مفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري من تقديم الليل على النهار، أن ليلة الأحد سلخ الله منها نهار الأربعاء، فالشأن الذي هو فيه في ليلة الأحد هو في نهار الأربعاء! وسلخ من ليلة الإثنين نهار الخميس، والشأن كالشأن، وسلخ من ليلة الثلاثاء نهار الجمعة...فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهار منها للفوق واليمين والأمام....والحكم لأول ساعة من الليل ولأول ساعة من النهار(1)...
ويقول أيضاً:
...ونبتدئ بيوم الأحد تبركاً بالاسم، فإنه من صفات الحق وله الأولية وله القلب...
__________
(1) رسائل ابن عربي، كتاب أيام الشأن، (ص:10).(78/477)
...فاعلم أن ليلة الأحد الإيلاجي(1) مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس والثامنة منها والثالثة من يوم الخميس والعاشرة منها والخامسة من ليلة الجمعة والثانية عشرة منها والسابعة من يوم الجمعة والثانية من ليلة السبت والتاسعة منها والرابعة من يوم السبت والحادية عشرة منها والسادسة من ليلة الأحد؟ فهذه ساعات ليله.
وأما ساعات نهاره من أيام التكوير كما قلنا، فالساعة الأولى من يوم الأحد من أيام التكوير والثامنة منه والثالثة من ليلة الإثنين والعاشرة منه والخامسة من يوم الإثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثاء، والثانية من يوم الأربعاء، والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء، فهذا يوم الأحد الإيلاجي الشأني، قد كمل بأربع وعشرين ساعة كلها كنفس واحدة؛ لأنها من معدن واحد(2) (ويتمم أيام الأسبوع حسب هذا الهذيان).
ويقول: ...والسماوات والأرض لا تزال، والأيام دائمة لا تزال، فمِن مُقعَّر تلك الكواكب الثابتة إلى المركز نازلاً، لا تزال الأيام دائرة فيها أبداً بالتكوين، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، فالكون والفساد فيها دائم مستمر، والتسعة عشر عليها طالعة وغاربة، ومُقعَّر هذا الفلك هو سقف النار، نعوذ بالله منه، وسطح هذا الفلك هو أرض الجنة، والعرش سقفها، وهو روح هذه الأيام(3)...
- الجواب على هذه الهذيانات: ترلم ترلم ترلم...ترلم ترلم ترلم....
* أمنى من لذة الألوهية:-
يقول عبد الكريم الجيلي (الغوث):
__________
(1) كلمة الإيلاجي، من: ((يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)) [الحج:61].
(2) الرسائل، كتاب الشأن، (ص:11، وما بعدها).
(3) الرسائل، كتاب الشأن، (ص:16).(78/478)
منظر التكوين: هو مشهد ذاتي تتلون فيه بمعاني الأسماء والصفات، فيغلب عليك في كل زمان حكم صفة... وفي هذا المشهد تجد من اللذة الإلهية ما يسري في جميع أجزائك، إلى أن تكاد تخرج روحك من عالم التركيب إلى عالم الأرواح لشدة اللذة المنطبعة فيك، تجدها بحكم الضرورة محسوسة كما تجد لذة المحسوسات، وقد أخذت هذه اللذة فقيراً عن محسوساته حتى غاب عن الكون وما فيه، فلما رجع إلى نفسه وجده قد أمنى لما سرت فيه اللذة الروحانية فعمت الروح والقلب(1)...
ولا تعليق، لكن سؤال: هل عليه الغسل من الجنابة أم لا؟ مع العلم أن حشاشي الأفيون والحشيشة يحصل لهم مثل هذا.
* أفحم الله بسبع كلمات (تعالى الله علواً كبيراً):-
...قيل للفقيه حسن بن أبي السرور: لو كشفنا للخلق عنك لرجموك! فقال: ولو كشفت لهم عن رحمتك لما عبدوك، فقيل: يا حسن حسنوه، لا تقول ولا نقول(2)!!
أما نحن فنقول:
- جاء في التلمود أن أحد الحاخامات بقي يجادل الله ثلاثة أيام حتى أفحمه واعترف له الله بخطئه (تعالى الله)، ولكن حسن بن أبي السرور استطاع أن يفحم الله بسبع كلمات في ثانيتين!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
- وفي هذا النص اعتراف من القوم بكفرهم وزندقتهم (لو كشفنا.. لرجموك).
* ومن كشوفهم وعلومهم اللدنية:-
يقول عبد الكريم الجيلي الغوث(3):
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:21، 22).
(2) المناظر الإلهية، (ص:21، 22).
(3) المناظر الإلهية، (ص:44). وحسن بن أبي السرور مات سنة 770 تقريباً.(78/479)
اعلم أن الله تعالى خلق دور فلك سماء الدنيا مسيرة أحد عشر ألف سنة، وهو أصغر أفلاك السماوات دوراً، فيقطع القمر دور هذا الفلك في أربع وعشرين ساعة معتدلة، أعني مستقيمة، فيقطع في كل ساعة مسيرة أربعمائة وثمانية وخمسين سنة ومائة وعشرين يوماً، وقطر هذا الفلك مسيرة أربعة آلاف سنة وخمسمائة عام؛ ثم إن للقمر فلكاً في نفس الفلك...بخلاف الكواكب السيارة فإن كل كوكب منها يقابل نور الشمس في جميعها، فمثلها مثل البلورة الشفافة، إذا وقع فيها النور سرى في ظاهرها وباطنها؟ بخلاف القمر، فإنه كالكرة المعدنية المصقولة لا تقبل النور إلا في مقابلة الشمس......والكوكب اسم للجرم الشفاف المنير من كل سماء...
وأما السماء الثانية، فإنها جوهر شفاف لطيف ولونها أشهب، خلقها الله تعالى من الحقيقة الفكرية، فهي للوجود بمثابة الفكر للإنسان، ولهذا كانت محلاً لفلك الكاتب وهو عطارد، جعله الله تعالى مظهراً لاسمه القدير...جعل الله دور فلك هذه السماء مسيرة ثلاث عشرة ألف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوماً، يقطع كوكبها، وهو عطارد، في كل ساعة مسيرة خمسمائة سنة وخمس وخمسين سنة وخمس أشهر وعشرين يوماً، فيقطع جميع فلكه في مضي أربع وعشرين ساعة معتدلة، ويقطع الفلك الكبير في مضي سنة كاملة...
وأما السماء الثالثة فلونها أصفر، وهي سماء الزهرة، جوهرها شفاف...خلق الله دور فلك هذه السماء مسيرة خمس عشرة ألف سنة وستة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوماً، يقطع كوكبها، وهو الزهرة، في كل ساعة مسيرة ستمائة سنة وإحدى وثلاثين سنة وثمانية عشر يوماً وثلث يوم، فيقطع الفلك في مضي أربعة وعشرين يوماً، وملائكة هذه السماء تحت حكم الملك المسمى صورائيل...ورأيت ملائكة هذه السماء مؤتلفة، لكن على أنواع مختلفة، فمنهم من وكله الله بالإيحاء إلى النائم إما صريحاً وإما بضرب مثل يعقله العالم....(78/480)
وأما السماء الرابعة فهي الجوهر الأفخر، ذات اللون الأزهر، سماء الشمس الأنور، وهو قطب الأفلاك، خلق الله تعالى هذه السماء من النور القلبي...جعل الله هذا الكوكب الشمسي في هذا الفلك القلبي مظهر الألوهية ومجلس لمتنوعات أوصافه المقدسة النزيهة الزكية، والشمس أصل لسائر المخلوقات العنصرية، كما أن الاسم (الله) اسم لسائر المراتب العلية...ثم اعلم أن الله تعالى جعل الفلك الشمسي مسيرة سبع عشرة ألف سنة وتسعاً وعشرين سنة وستين يوماً، فيقطع جميع الفلك في مضي أربع وعشرين ساعة معتدلة، ويقطع الفلك الكبير في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وثلاث دقائق...(ويمضي الجيلي هكذا حتى يصل إلى السماء السابعة) ثم يقول:(78/481)
...الفلك الأطلس، هو عرصة سدرة المنتهى...ويسكن سدرة المنتهى الملائكة الكروبيون، رأيتهم على هيئات مختلفة لا يحصي عددهم إلا الله...ورأيت منهم مائة ملك مقدمين على هؤلاء جميعهم، بأيديهم أعمدة من النور...يرهبون بها من دونهم من الكروبيين ومن بلغ مرتبتهم من أهل الله تعالى، ثم رأيت سبعة من جملة المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحداً مقدماً على جميعهم يسمى عبد الله. وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم، وأمثالهما أيضاً عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأمثالهم، ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه. واعلم أن جملة الأفلاك التي خلقها الله تعالى في هذا العالم ثمانية عشر فلكاً: الفلك الأول: العرش المحيط- الفلك الثاني: الكرسي- الفلك الثالث: الأطلس، وهو سدرة المنتهى- الفلك الرابع: الهيولى- الفلك الخامس: الهباء- الفلك السادس: العناصر - الفلك السابع: الطبائع- الفلك الثامن: المكوكب وهو فلك زحل ويسمى فلك الأفلاك- الفلك التاسع: فلك المشتري- الفلك العاشر: فلك المريخ- الفلك الحادي عشر: فلك الشمس- الفلك الثاني عشر: فلك الزهرة- الفلك الثالث عشر: فلك عطارد- الفلك الرابع عشر: فلك القمر- الفلك الخامس عشر: فلك الأثير، وهو فلك النار- الفلك السادس عشر: فلك الهواء- الفلك السابع عشر: فلك الماء- الفلك الثامن عشر: فلك التراب والبحر المحيط الذي فيه (البهموت) وهو حوت يحمل الأرض على منكبيه...ثم لكل موجود في العالم فلك وسيع يراه المكاشف ويسبح فيه ويعلم ما يقتضيه...(78/482)
أما الطبقة الأولى من الأرض: فأول ما خلقها الله تعالى كانت أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك، فاغبرت لما مشى آدم عليه السلام عليها بعد أن عصى الله تعالى، وهذه الأرض تسمى أرض النفوس...دور كرة هذه الأرض مسيرة ألف عام ومائة عام وستة وستون عاماً ومائتا يوم وأربعون يوماً...
...ثم سَلَك (الإسكندر) الجانب الجنوبي، وهو الظلمات، حتى بلغ يأجوح ومأجوج، وهم في الجانب الجنوبي من الأرض...لم تطلع الشمس على أرضهم أبداً...ثم سلك الجانب الشمالي حتى بلغ محلاً منه لم تغرب الشمس فيه، وهذه الأرض بيضاء على ما خلقها الله تعالى عليه، هي مسكن رجال الغيب، وملكها الخضر عليه السلام...وهي قريبة من أرض بلغار، وبلغار بلدة في العجم لا تجب فيها صلاة العشاء أيام الشتاء، لأن شفق الفجر يطلع قبل غروب شفق المغرب فيها...وهذه الأرض أشرف الأراضي وأرفعها قدراً...لأنها محل النبيين والمرسلين والأولياء الصالحين، وأما الطبقة الثانية من الأرض، فإن لونها كالزمردة الخضراء، تسمى أرض العبادات، يسكنها مؤمنو الجن...لا يزال أهلها قاطنين فيها حتى تغيب الشمس عن أرض الدنيا، فيخرجون إلى ظاهر الأرض يتعشقون ببني آدم تعشق الحديد بالمغناطيس...دورة كرة هذه الأرض ألفا سنة ومائتا سنة وأربعة أشهر.
...ولقد رأيت جماعة من السادات، أعني طائفة من متصوفي هذا الزمان، مقيدين مغلغلين، قد قيدهم جن هذه الأرض...
وأما الطبقة الثالثة من الأرض: فإن لونها أصفر كالزعفران، تسمى أرض الطبع، يسكنها مشركو الجن، ليس فيها مؤمن بالله...يتمثلون بين الناس على صفة بني آدم، لا يعرفهم إلا أولياء الله تعالى، لا يدخلون بلدة فيها رجل من أهل التحقيق...دورة كرة هذه الأرض مسيرة أربعة آلاف سنة وأربعمائة سنة وسنتين وثمانية أشهر...
(وهكذا حتى الأرض السابعة التي يقول عنها):(78/483)
...يسكنها الحيات والعقارب وبعض زبانية جهنم، دور كرة هذه الأرض مسيرة سبعين ألف سنة وأربعمائة سنة...وحياتها وعقاربها كأمثال الجبال وأعناق البخت(1)...(إلى آخر هذا الهذيان الجاهل وهذه الخرافات الساذجة).
* التعليق:
نتركه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن علينا أن ننتبه جيداً إلى أنه رأى كل هذه الهذيانات بالكشف الذي هو عين اليقين وحق اليقين ونور اليقين!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإلى الله المشتكى، فقد دمروا بكشوفهم الهذيانية المجتمعات الإسلامية.
ويقول الجيلي أيضاً:
...وهذا الأمر الذي جعله الله لداوُد وسليمان عليهما السلام غير محصور فيهما ولا مقصور عليهما...وإلا فكل واحد من الأفراد والأقطاب له التصرف في جميع المملكة الوجودية، ويعلم كل واحد منهم ما اختلج في الليل والنهار فضلاً عن لغة الطيور. وقد قال الشبلي رحمه الله تعالى: لو دبت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء ولم أسمعها لقلت إني مخدوع أو ممكور بي. وقال غيره: لا أقول: ولم أشعر بها؛ لأنه لا يتهيأ لها أن تدب إلا بقوتي وأنا محركها، فكيف أقول: لا أشعر بها وأنا محركها(2)...
سؤالنا: إن لم يكن هذا كفراً وشركاً وزندقةً فما هو الكفر والشرك والزندقة، أضف إليه كونه تفاهة فكرية وغباء، أو مرضاً عصبياً من نوع الجنون، ثم مجموعة من التصورات الوهمية التي كانوا يتصورونها عن الكون، وهي محض خرافة، وهكذا كل كشوفهم.
* وهذه أوهام مثلها:-
يقول ابن سبعين:
__________
(1) الإنسان الكامل: (2/97- 112).
(2) الإنسان الكامل: (1/122).(78/484)
...والنار جسم نير، يحيل الأجسام إلى طبيعته...والهواء جسم لطيف شفاف سيال...والماء جسم سيال حول الأرض...وهو المتوسط بين الوسط وإلى الذي من الوسط...والأرض جسم غليظ في مركز العالم، أو هو الوسط ونقطة العالم الطافي على الماء والكثافة المطلقة...والأركان الأربعة: النار والأرض والماء والهواء، والأخلاط أربعة: الصفراء والسوداء والبلغم والدم(1)...
- فأين الكشف؟ مع العلم أن ابن سبعين هو قطب دائرة الورثة، ومظهر آثار النبيين والمرسلين!!
ويقول: ...ونبدأ بكلام المقرب...فنقول: فائدة النفس لم تتحصل ولا تخلصت فيما تقدم على التمام...ونبين أن الخير في علمها والوقوف على كنهها غاية المطلوب والمرغوب...وأن واجب الوجود لا يعلم إلا إذا علمت، وأن معرفتها شرط في معرفته(2) اهـ.
1- عبارة (واجب الوجود) التي جعلوها اسماً من أسماء الله، لم ترد في كتاب ولا سنة.
2- عبارة (لا يعلم إلا إذا علمت) يمكن أن تقرأ بصيغة البناء للمعلوم، فتكون كفراً بيناً، كما يمكن أن تقرأ بصيغة البناء للمجهول، وبشيء من المناقشة يبين كفرها، ومثل ذلك عبارة (معرفتها شرط في معرفته).
3- وهكذا نرى أن كشوفهم التي يصفها الغزالي بأنها نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ما هي إلا جهل في جهل في وهم في هذيان.
* يكذبون القرآن:-
يقول البوصيري في البردة (الشريفة):
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ……لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
ويقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ……ومن علومك علم اللوح والقلم
__________
(1) بد العارف، (ص:114).
(2) بد العارف، (ص:357).(78/485)
- الشطر الثاني من البيت الأول، يمكن أن يُفهم بأحد شكلين: إما أن الدنيا خلقت لأجل محمد صلى الله عليه وسلم وهذا مناقض للآية: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وبالتالي هو كفر. وإما أنها خرجت إلى الوجود بأمره صلى الله عليه وسلم، وهذا يوافق معنى البيت الثاني، وكلاهما يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، أو هو التجلي الأعظم للذات الإلهية، أو هو المركز الفعال فيها، وطبعاً هذا قمة الكفر.
* وينسخون القرآن:-
من كرامات أحمد الرفاعي:
أنه في العام الذي توفي فيه رضي الله تعالى عنه، حج وزار قبره صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل من الجنة، بل من العرش والكرسي! ولما وقف تجاه القبر الشريف يريد الوداع أنشد:
إن قيل زرتم بما رجعتم ……يا أشرف الرسل ما نقول؟
فخرج صوت من القبر الشريف سمعه كل من حضر في ذلك الروض المعطر، وهو يقول:
قولوا رجعنا بكل خير ……واجتمع الفرع والأصول(1)
- الجواب: يقول سبحانه: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)) [يس:69]، فهل نُسخت الآية كرامةً لأحمد الرفاعي؟! وهذه الحادثة إن لم تكن من أكاذيبهم، فدور إبليس واضح فيها. ثم قوله (وقولهم: إن قبره أفضل من الجنة ومن العرش والكرسي)، فنغضُّ النظر عما فيه من الكفر الصارخ ومن تأليه محمد صلى الله عليه وسلم ونسألهم: هل عندهم دليل على هذا من قرآن أو سنة صحيحة؟ أم على الله يفترون؟!
* ويبيع الجنة (سباقاً مع الكنيسة):-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:104، 109).(78/486)
...وأراد (أحمد الرفاعي) شراء بستان، فأبى صاحبه أن يبيعه إلا بقصر في الجنة، فارتعد وتغير واصفر، ثم قال: قد اشتريت منك بذلك، قال: اكتب لي خطك، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ابتاع إسماعيل من العبد أحمد الرفاعي، ضامناً على كرم الله له قصراً في الجنة، يحف به حدود: الأول لجنة عدن، الثاني لجنة المأوى، الثالث: لجنة الخلد، الرابع: لجنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وأشربته وأنهاره وأشجاره، عوضاً عن بستانه في الدنيا، والله شاهد على ذلك وكفيل؛ فلما مات إسماعيل دُفنت معه الورقة، فأصبحوا وإذا مكتوب على قبره: ((قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّاً)) [الأعراف:44](1)...
* التعليق:
لا تعليق، لكن إلى الله نشكو هذا البلاء، الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه من ذل وجهل.
* ونُسخت العبادة! ونُسخ القرآن والسنة! ونسخ الإسلام:-
قال الفقيه محمد بن الحسين البجلي رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: {يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: وقوفك بين يدي وليٍّ لله كحلب شاة أو كشي بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إرباً إرباً!! فقلت له: حياً كان أو ميتاً؟
فقال: حياً كان أو ميتاً}(2)!!
ولا تعليق، لكن سؤال: ماذا بقي من الوثنية؟! ومن الكفر؟! ومن الضلال؟!
* حياء مدهش:-
إبراهيم الأعزب (أحد خلفاء أحمد الرفاعي): ...وكان حياؤه من الله تعالى في مرتبة أنه ما رفع رأسه إلى السماء أربعين سنة(3)...
- سؤال: وماذا لو رفع رأسه إلى السماء؟ وهل في عدم رفعه حياء؟ وهل حجب عن الله سبحانه عندما لم يرفع رأسه؟ إنهم يقولون إن كل شيء هو الله! إذن فسواء رفع رأسه أم لم يرفعه فهو في جميع الحالات واحد. وهل يعرف ما لم يكن يعرفه رسول الله؟!
__________
(1) حاشية العلامة الصاوي، (ص:144)، وجامع الكرامات للنبهاني: (1/492).
(2) قلادة الجواهر، (ص:277).
(3) قلادة الجواهر، (ص:329).(78/487)
على كل حال: هذه صورة من (مقام الحياء)، ومثلها بقية مقاماتهم.
* لا تنهوا عن المنكر، فالنهي عن المنكر منسوخ، وعلى الإسلام السلام:-
أحمد البدوي (أحد الأقطاب الأربعة المتدركين): ...ثم حصلت له جمعية على الحق فاستغرق إلى الأبد...وأكثر أوقاته شاخص ببصره نحو السماء وعيناه كالجمرتين...واجتمع به ابن دقيق العيد، فقال له: إنك لا تصلي! ما هذا سنن الصالحين؟ فقال له: اسكت وإلا طيرتُ دقيقك، ودفعه فإذا هو بجزيرة متسعةٍ جداً، فضاق ذرعه حتى كاد يهلك؛ فرأى الخضر، فقال له: لا بأس عليك، إن مثل البدوي لا يُعترض عليه، اذهب إلى هذه القبة وقف ببابها، فإنه سيأتيك العصر ليصلي بالناس، فتعلق بأذياله لعله أن يعفو عنك؟ ففعل، فدفعه، فإذا هو ببابه(1)..
- السؤال: لم فرضت صلاة الجماعة؟ وجُعلت علنية؟ هل كان ذلك من أجل أن يصليها المقربون خفية عن الناس؟ وأين تقع هذه الجزيرة التي كان يصلي فيها البدوي؟ ولِمَ؟ وما هو دور القبة في الإسلام؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟
وللعلم: في الديانات الوثنية، يبنون القبة ليضعوا تحتها الوثن على أنه إله في سمائه.
* فتش عن عنوان:-
...عن يعقوب (أحد تلامذة أحمد الرفاعي) قال: دخلت على سيدي أحمد في يوم بارد وقد توضأ، ويده ممدودة، فبقي زماناً لا يحرك يده، فتقدمت إلى تقبيلها فقال (أي: يعقوب): شوشت على هذه الضعيفة! قلت: من هي؟ قال: بعوضة كانت تأكل رزقها من يدي فهربت منك!! قال: ورأيته مرة يتكلم ويقول: يا مباركة ما علمتُ بك، أبْعدتُكِ عن وطنك! فنظرتُ، وإذا جرادة تعلقت بثوبه وهو يعتذر إليها رحمة لها(2)!!
- جوابنا: ماذا يكون لو قلد الناس الرفاعي فتركوا جسومهم مرعى للبعوض؟؟ والأسئلة كثيرة وكذلك الأجوبة (لكنك ستسمع: هذا من أعمال الخواص ص ص ص ص).
* أيضاً بلا عنوان (للتفتيش):-
__________
(1) حاشية الصاوي، (ص:146).
(2) قلادة الجواهر، (ص:65).(78/488)
...وكان (أحمد الرفاعي) يبتدئ من لقيه بالسلام، حتى الأنعام والكلاب! وكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً؟ فقيل له في ذلك فقال: أعود نفسي الجميل(1).
- السؤال: هل من الجميل أن يسلم على الكلب والخنزير والأنعام؟ وما هو الجميل فيها؟ وهل تفهم الحيوانات عليه؟ إلى آخر الأسئلة، وهل كان الرسول وأصحابه يسلمون على الحيوانات، بل الكلاب والخنازير؟!
* السمك، وعودة إلى قاف! وهس س س س س س لا تعترض:-
...ومن كراماته (أحمد الرفاعي) أنه كلما خرج متنزهاً إلى الصحراء تخرج الأسماك من بطن بحر البصرة لالتماس بركاته، وتزدحم على أقدامه الشريفة كازدحام الإبل على موارد الماء(2)...
...ومنها أنه صلى الصبح في مكة المكرمة، والظهر في المدينة المنورة، والعصر في بيت المقدس، والمغرب في بعلبك في مقام نبي الله نوح عليه السلام، والعشاء وراء جبل قاف(3)!
* وقافات أيضاً؟ قافات:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:148).
(2) قلادة الجواهر، (ص:102).
(3) قلادة الجواهر، (ص:103).(78/489)
...وكان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه مرة يتحدث في المجلس، فذكر القاف، فقال الشيخ يعقوب له: إيش بعد القاف؟ قال: قاف، فأعاد السؤال، فقال: قاف! وهو يسأل، وهو يقول: قاف! حتى عد عشر قافات! فقال للشيخ يعقوب، وهو يقول تلك القافات: أي يعقوب، أرض بيضاء، ما عُصي ربنا فيها طرفة عين، فيها خلق عظيم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ما سمعوا خلق آدم ولا لعنَ إبليس! فقال الشيخ يعقوب: يقدر أحد يقول ما لم يتحققه، قال: لا، أي يعقوب، ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) [ق:18] ؛ ثم قال السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه: إلا إذا كنا، ثم دعا وقام من المجلس؟ وكان بعض الفقراء يحسن الظن في الشيخ يعقوب ويعتقده، فلما رأى كلامه للسيد أحمد الرفاعي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هكذا، ظن وتصور أن السيد أحمد الرفاعي لم يتحقق هذه الأخبار، واعترض عليه، ويقول في شأنه على الاستهزاء أحياناً، فأذن الشيخ يعقوب في يوم من الأيام، وجلس في الأول، وجاء السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه وجلس في المحراب، وأدخل رأسه في قميصه، وفعل الشيخ يعقوب مثل ذلك، حتى مضى من وقت كثير، وكان الشيخ يعقوب إذا أذن لا يقدر أحد أن يقول له شيئاً حتى يفرغ من الصلاة؟ فقام ذلك الفقير المعتقد في شأنه، المعترض على السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه، ومد يده إلى الشيخ يعقوب وحركه، فلم يجد غير قميصه وعمامته! فتعجب من ذلك وأعلم الفقراء به! فلما كان بعد ساعة طويلة، رفع الشيخ يعقوب رأسه وقام، فقال السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه للشيخ يعقوب: أي يعقوب، تعبت، وتعبك عليَّ شديد؟ ثم قال الرجل المعترض للشيخ يعقوب: ما شاهدت؟ فقال له: ما خليتمونا من فضولكم، حتى أخذنا السيد أحمد الرفاعي بهذه اللحى البيض، ودار بنا المواضع التي ذكرها بأجمعها، حتى لا يبقى منها قليل ولا كثير(1).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:191، 192).(78/490)
- أين هذا القاف؟ وتلك القافات؟ وكيف يخرج السمك من الماء ليتبرك بالسيد، وماذا يحصل للسمك بهذا التبرك؟ هل يدخل الجنة؟ أم ماذا...؟...؟
* سبع مداين؟ ووحي لم يمر على محمد صلى الله عليه وسلم:-
قال السيد إبراهيم الأعزب قدس سره: كنت نائماً في بعض الليالي في موضع هناك للسيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فأيقظني وقال: أي إبراهيم، ألا أخبرك؟ أظهرني الله سبحانه في هذه الساعة على سبعة مداين، كل مدينة منها بقدر هذه الدنيا سبع مرات، وهي مملوءة من الخلق، ليسوا من الجن ولا من الإنس، وما فيهم من يذكر الله تعالى، وكل ليلة عند غروب الشمس يأمر الله تعالى الملائكة، فيأخذون ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وينفضونها على تلك المدائن السبعة، وكل من أصاب منهم ذنباً فهو من أهل الجنة(1).
- أين هذه المدائن؟ وأهم من ذلك، أن المذنب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا ذنب عليه ولا وزر؛ لأن الملائكة تأخذ ذنبه وتلقيه على تلك المدائن فيدخلون الجنة بسببها!! إذن ما على الإنسان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يكثر من الذنوب؛ لأنها تُرفع عنه مع المساء، ويدخل بسببها مخلوقات كثيرة الجنة، ثم سلام على الإسلام وعلى الإيمان وعلى الأخلاق وعلى المعاملة وعلى إنسانية الإنسان.
* الفقير إله:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:193).(78/491)
قال السيد إبراهيم الأعزب قدس سره، حضرت في بعض الأيام عند السيد أحمد الرفاعي...قال: أي فقراء، الشيخ عثمان السالم آبادي قدس سره، يصعد كل يوم عند غروب الشمس إلى ديوان الربوبية، وينظر ديوان ذريته، فما يجد من سيئة يمحها ويكتب عوضها بلا معارضة!! قال السيد إبراهيم الأعزب: فأخذتني الغيرة من ذلك، فالتفت إليَّ السيد أحمد الرفاعي وقال: أي إبراهيم، لا يكون الرجل مُمَكِّناً في سائر أحواله حتى يُعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أصحابه وأتباعه وتلامذته بالقرب والبعد، فيمحو منها ما يشاء ويثبت فيها ما يشاء بكرم الله ولطفه؛ أي إبراهيم، قل عن هذا العبد الفقير الحقير البائس المسكين، معدن الذل والانكسار (يعني نفسه): لا يكون الشيخ شيخاً كاملاً في سائر أموره وأحواله وأقواله وأفعاله، ولا يصلح له الجلوس في المخدة، حتى يحضر عند تلميذه في أربع مواضع: عند خروج روحه من جسده، وعند مسألة منكر ونكير له، وعند جوازه على الصراط، وعند الميزان(1)...
- نسأل هؤلاء المخدوعين: ما هو الشرك الذي يزيد عن هذا الشرك؟ ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو خير البشر، لا يغني عن أحدٍ شيئاً، أما هؤلاء القوم فقد تجاوزوا كل حدود الدين والإسلام والإيمان والعقل، ووصلوا إلى القدرة الإلهية، يفعلون ما يشاءون؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
* وجعلوا الملائكة معاتيه ومخابيل:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:193).(78/492)
(يكذبون على الله وملائكته ورسله! ويناقض كشفهم بعضه) وبلغنا عن أبي عبد الله المغربي رضي الله عنه أنه قال: أهل السماع (أي: الغناء والموسيقى) خلقهم الله من نور بهائه، وخلق مثلهم سبعين ألف ملك من الملائكة المقربين، قد أقامهم الله تعالى بين العرش والكرسي في حضرة القدس، لباسهم الصوف الأخضر، ووجههم كالقمر ليلة تمامه، لهم شعور كشعور النساء، وهم قيام متواجدون والهون منذ خلقهم الله تعالى إلى أن ينفخ في الصور، يَسمَعُ بكاءهم وأنينَهم وفجعَهم وحنينَهم أهلُ السماوات السبع والأرضين، فهم أهل السماء، وينهدلون من العرش إلى الكرسي، ومن الكرسي إلى العرش، شبيه السكارى، لما بهم من شدة التوله، إسرافيل قائدهم ومرشدهم، وجبريل عليه السلام رئيسهم، والله تعالى مليكهم وجليسهم وأنيسهم، وهم إخواننا في النسب وأصحابنا في أهل السماء. ونقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض بكى ثلاثمائة سنة، فأوحى الله تعالى إليه، يا آدم، مم بكاؤك؟ ومم جزعك؟ فقال: يا رب، لست أبكي شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من نارك، وإنما بكائي شوقاً إلى الملائكة الصوفية المتواجدين حول العرش، سبعين ألف صف، جرد مرد يرقصون ويتواجدون حول العرش يدورون، يد كل واحد منهم بيد صاحبه وهم يقولون: جَلَّ المَلِكُ ملِكُنا، لولا الملِكُ هلكنا، مَن مثلُنا وأنت إلهنا، ومَن مثلُنا وأنت حبيبنا ومستغاثنا ومستفزنا، وذلك دأبهم إلى يوم القيامة، قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم ارفع رأسك وانظر إليهم؟ قال: فرفع رأسه إلى السماء، فنظر إلى الملائكة وهم يرقصون حول العرش، وجبرائيل رئيسهم، وميكائيل قوالهم، فلما رآهم سكن روعه وأنينه وبكاؤه وحنينه(1)...
* التعليق:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب..؟
ثم إن هذا الكشف يناقض كشف الجيلي المار سابقاً! فمن هو الكاذب؟
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:185).(78/493)
* ولم يبق عندهم لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم قيمة ولا معنى:-
...الشيخ محيي الدين عبد القادر (الجيلاني) رضي الله عنه كان يقول على الكرسي ببغداد: مكثت خمساً وعشرين سنة متجرداً سايحاً في براري العراق وخرابه، وأربعين سنة أصلي الصبح بوضوء العشاء، وخمس عشرة سنة أصلي العشاء ثم أستفتح القرآن وأنا واقف على رجل واحدة، ويدي في وتد مضروب في حائط خوف النوم، حتى أنتهي إلى آخر القرآن عند السحر؛ وكنت ليلة طالعاً في سلم، فقالت لي نفسي: لو نمت ساعة ثم قمت، فوقفت موضع خطر لي هذا، وانتصبتُ على رجْلٍ واحدة واستفتحتُ القرآن حتى انتهيت إلى آخره وأنا على هذه الحالة، وكنتُ من الثلاثة أيام إلى الأربعين يوماً لا آكل(1)...
- سؤال: ماذا حدث لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {...أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
- وقد رغب هؤلاء القوم عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يكونون؟
* الأنبياء وقوف بين يدي الصوفي:-
...ورأى بعض الفقراء الشيخ عبد الله بن أبي جمرة المدفون بقرافة مصر رضي الله تعالى عنه، وهو جالس على كرسي، وعليه حلة خضراء، والأنبياء كلهم واقفون بين يديه! فأشكل ذلك عليه، فعرضه على بعض العارفين، فقال: وقوف الأنبياء إنما هو أدبٌ مع مَن ألبس الخلعة فيكون ذلك من باب التعريف للأحكام الشرعية، لا شرعاً جديداً(2)!!
السؤال: ما هي هنا الأحكام الشرعية التي يعرفون بها؟؟ لا يوجد إلا الزندقة، وهذا هو دأبهم في كل زندقاتهم، يعطونها تأويلاً هو أقبح من الكفر، ثم يقولون لك: إنه موافق للشرع، وعليك أن تلغي إيمانك وعقلك وتسلم.
* الصوفي يجيب الدعاء:-
...ومن مدايحه (محمد وفا بن محمد الرفاعي الحلبي) فيه (في أحمد الرفاعي) مدحة يتداولها الناس في الأذكار بحلب وهي:
كل الأنام عيالٌ ……عليك يا ابن الرفاعي
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:458).
(2) قلادة الجواهر: (ص:111).(78/494)
يا بحر كل المزايا ……ويا مجيب الدواعي(1)
إذن؟ فأحمد الرفاعي يجيب الدواعي! ولا تعليق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* التمسوا مدد الصوفي واستمطروا نعمه:-
يقول أحمد الرفاعي (الغوث):-
لي همة بعضها تعلو على الهمم ……ولي هوى قبل خلق اللوح والقلم
أنا الرفاعي طبولي في السما ضُربت ……والأرض في قبضتي والأوليا خدمي
كل المشايخ يأتوا باب زاويتي ……وفوق هاماتهم حاز العلا علمي
ولي لواءٌ على الكونين منتشر ……وكل أهل العُلا ما أنكروا هممي
فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي ……وطف ببابي وقف مستمطراً نعمي(2)
* التعليق:
أولاً: يجب أن نعلم أن أهل الطريقة الرفاعية كلهم يؤمنون بمضمون هذا الشعر، بل وكل الصوفية، وعلماؤهم هم الذين يطبعون الكتاب وينشرونه.
ثانياً: ننبه إلى قوله: والأرض في قبضتي، فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي، وقف مستمطراً نعمي، ننبه إلى هذا، ونسأل: ما هو الفرق بينه وبين الله سبحانه وتعالى عما يصفون؟ وماذا بقي من الكفر المبين؟ والشرك العظيم؟ اللهم نشكو إليك هذه الفئة الضالة المضلة.
* ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]، نُسخت:-
...مَن ضاق حاله لمهمة أو لحاجة، أو عسر عليه مقصد، أو كان عليه دَين، أو كان في سجن أو بغى عليه ظالم، فليتوضأ ويصلي لله ركعتين، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ويكون ذلك العمل في بيتٍ خال، ويقرأ الفاتحة للنبي وآله وأصحابه أجمعين، ويتوجه قائماً للشرق، لبر البصرة، لفلاة أم عَبيدة، محل مرقد الغوث الحسيني سيدي السيد أحمد (الرفاعي) وينادي بالاعتقاد والانكسار:
...يا وسيلة الطالبين، يا كعبة الطائفين...يا غوث الخلق، يا باب الحق...
__________
(1) قلادة الجواهر: (ص:427).
(2) قلادة الجواهر، (ص:233).(78/495)
يا أشجع الفوارس...يا أبا المدد...يا مصدر الطلاب، يا معجزة الرسول، يا سر الله، يا درة الغيب، يا سيف القدرة، يا نائب النبي الجليل، يا خليفة إبراهيم الخليل...يا مظهر الحضرتين، يا طويل الجناحين...يا أبا العلمين، يا شيخ الكل في مسند الكلية...يا صاحب النوبة الأولى، يا صاحب الصوت الأعلى...يا صاحب الموكب المرعب، يا مبرد النار...يا مبدل السموم، يا معنى عناية الحي القيوم...يا باب الله المفتوح، يا بدل الأبدال، يا سيد الرجال، يا نجيب الأنجاب...يا موصل كل أعرج...يا قطب الأقطاب المتصرفين، يا مظهر سر حضرة القدس في كل مكان وزمان، يا صاحب الآيات الباهرة...يا كنز العنايات، يا صاحب التصرف في الحياة والممات، يا إشارة الكاف...يا متكلماً بلسان الله...يا قطب الفرد، يا قطب الأعظم، يا قطب الغوث، يا غوث الأكبر، يا بحر الله الكبير، يا صاحب السرير...يا ترجمان الحضرة المحمدية...يا أمين سر أهل العبا، يا جليل الحضرة...يا وجه الرشد الأينس، همتك حاضرة، وعنايتك باهرة، وأسرارك ظاهرة بحق جدك المصطفى وبحرمة أبيك علي المرتضى وبكرامة والدتك فاطمة الزهرا، أغثني، وتوجه لجدك خير الأنام، وقوموا بقضاء حاجتي...أدركني يا أحمد الأولياء، رضي الله عنك، أغثني(1). - يذكرنا هذا الدعاء بالدعاء المقدم إلى عبد القادر الجيلاني، وهذا الدعاء مثل ذاك مستعملان حالياً في الطريقتين الرفاعية والقادرية، وكل طريقة لها دعاؤها المشابه. والشرك فيهما أوضح من الوضوح، وإلى الله المشتكى، ونسأله سبحانه أن يفتح بصائر المسلمين ويوقظ عقولهم لعلهم يستطيعون تقليص خطر هذا الطاعون الفتاك.
* شفقة صوفية:-
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:237، وما بعدها).(78/496)
...وكان (أحمد الرفاعي) إذا رأى رضي الله تعالى عنه فقيراً يقتل قملة أو بعوضة، يقول له: لا واخذاك الله، أَسَكَن غضبك منها؟ وذَكَرَ سيدي عبد الوهاب الشعراني في مننه أن السيد أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه كان يدور وراء الكلاب المدودين ليداويهم فربما هرب منه الكلب، فيمشي وراءه ويتعطف بخاطره ويقول: أي مبارك، إنما أريد مداواتك(1)..
- السؤال: لِمَ يعطف على القمل الذي على الفقراء، ولا يعطف على الدود الذي على الكلاب؟ هل لأن القمل أفضل من الدود؟ أم لأن الكلاب أفضل من الفقراء؟
- وطبعاً نعلم الآن أن كلمة (فقير) تعني عند القوم (الصوفي).
* كشف؟:-
يقول محمد مهدي الرواس:
...وتصدر على منصة البروز من بطون الغياب سيدي الإمام الحجة المهدي (المنتظر) عليه الرضوان والسلام، فرَجَفت فرائصي لرؤيته...ثم قال من لسان الحال: (يا مُلَّسْلَين يا بَلَّمعَيْن يا مَنْعَلْهَيْ يا ما نقول يا تعليمليا يا فَوْأَيَسْ واجَفْر) كلمات فهمت منهن كل المقصود وحمدت الله وشكرته(2)...اهـ.
الجواب: طوط عرفوط بلعوط وِزكِز قاق؛ لأن جواب الكشف من جنس الكشف، ولا يفهمه إلا أهل الكشف.
* وجوب استعمال العبارة الملغزة التي تقبل التأويل:-
يقول الرواس:
وبويعت في الحضرة على التباعد عن أناس ابتُلوا بالانتقاد والاعتراض على أولياء الله تعالى، وذلك فيما يقبل التأويل(3)...
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:63).
(2) بوارق الحقائق، (ص:319).
(3) بوارق الحقائق، (ص:287).(78/497)
- نسأل: وأي شيء لا يقبل التأويل؟! إن باستطاعة الصوفي الشاطر أن يؤول قول عارفهم عندما يقول عن نفسه: (أنا الله) بأنه يعني بها جبل صنين في لبنان المطل على رابغ في طريق مكة! وكل ما مر معنا من زندقات وكفر يؤولونه ويجعلونه ولاية عظمى وصديقية كبرى! ولعل القارئ الكريم انتبه إلى أن عبارة (فيما يقبل التأويل) إنما هي توجيه للصوفي أن تكون عباراته قابلة للتأويل ليمكن خداع أهل الشريعة والتمويه عليهم بذلك!
* الكشف كذب وجهل:-
يقول ابن عجيبة:
...وكذلك قضية ابن الجوزي، كان يقرأ ببغداد اثني عشر علماً، فخرج يوماً لبعض شئونه، فسمع قائلاً يقول:
إذا العشرون من شعبان ولت ……فواصلْ شُرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداحٍ صغارٍ ……فقد ضاق الزمان على الصغار
فخرج هائماً على وجهه إلى مكة، فلم يزل يعبد الله بها حتى مات رحمه الله(1).
- الجواب: هذا لم يحدث وابن الجوزي توفي في بغداد وفي بيته في حي (قطفتا) في الجانب الشرقي من بغداد عام 597 هـ. ولكن الكشف قادر على كل جهل وكذب وتزوير.
* يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
يقول ابن عجيبة وشهاب الدين السهروردي البغدادي قبله، وغيرهما:
...وعن أنس: {كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله، فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وهو نصف يوم، ففرح، فقال: أفيكم من ينشدنا؟ فقال بدْري: نعم يا رسول الله، فقال: هات، فأنشد البدري يقول:
قد لسعت حية الهوى كبدي ……فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شُغلتُ به ……فعنده رقيتي وترياقي
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:262).(78/498)
فتواجد عليه السلام، وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فلما فرغوا آوى كل واحد إلى مكانه، فقال معاوية: ما أحسن لعبكم يا رسول الله! فقال: مهْ مهْ يا معاوية، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب! ثم اقتسم رداءه مَن حضرهم بأربعمائة قطعة}(1)...
- الجواب هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، ثم يدعون الولاية، وادعاؤهم نفسه إثم مبين! وقد مرت حقب طويلة كانت فيها أكاذيبهم وخرافياتهم وضلالياتهم وغبائياتهم هي ثقافة المجتمعات الإسلامية، حتى أوصلوا الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه.
* ومن العلم اللدني (رسالة إلى الغوث أحمد التجاني):-
...أما بعد، فالمطلوب من كمال فضل سيدنا الذي أسدى الله فضلاً ورحمة ومدداً إلينا، أن يتفضل علينا سيدنا بما وعدنا بخط يديه الكريمتين إلينا، كما هو معهود من فضل سيدنا من غير استحقاقٍ منا، بل محض فضل وإكرام وامتنان علينا من سورة (...مجموعة [طلاسم] مخطوطة باليد...) بما لها من الأسرار والعلوم والوقت، وما لها من اللزوم، ودفع عوارضها من الشرور والهموم، وإعطاء ما لديها من الأسرار والعلوم، وأن يديم عليها بحوْل الله على عدد الدهر والعموم، وكذلك (...مجموعة [طلاسم] بخط اليد...) الكتاب أيضاً على ما يليق بالحال ويزيل الإشكال(2).. إلخ
- أقول: بما أن جواب الكشف يكون من جنس الكشف، فقد خانني الكشف عن الجواب على هذا الهراء.
* ومن نفس الرسالة المرفوعة إلى الغوث أحمد التجاني:-
...وإن ظهر لسيدنا أمر آخر، فهو أدرى بحالنا، ولا نستحق شيئاً على سيدنا، إنما ذلك فضلٌ منه علينا؛ وأطلبُ منك سيدي الضمان الذي ضمنت لي بخط يديك من مقام مولانا الهمام الشيخ الأكبر أبي عبد الله سيدي محمد بن العربي الحاتمي...
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:275)، وعوارف المعارف في هامش الإحياء: (2/254)، وغيرها.
(2) كشف الحجاب، (ص:84، 85).(78/499)
...وأطلب منك سيدي أيضاً أن يدفع الله عني جميع العوارض التي تقطعني عن جميع الخيرات...وأما تنوير باطني واستقامته، وإظهار فضلك ومددك عليَّ وحصول الخيرات لديَّ ظاهراً وباطناً، فلا أَقبل فيه عذراً من سيدي من الآن إلى حصول المقام، وبعد حصول المقام ما لا عين رأت ولا أذن سمعت...وأن أكون مأموناً من السلب (أي: من سلب الولاية) إلى دخولي منزلي في الجنة(1) إلخ.
- على القارئ أن يعرف أن هذا الدعاء موجه إلى أحمد التجاني الغوث من خليفته الأكبر سيدي الحاج علي حرازم برادة! وأن هذا الدعاء ليس موجهاً إلى الله جل وعلا!
وإلى الله نشكو هذا السرطان الخبيث الذي يدمر الأمة الإسلامية بهدوء وإصرار.
* ومما يجيب به الغوث أحمد التجاني على هذا الشرك قوله: ...وأما ما طلبتَ من الضمان في المعرفة بالله، من كونها صافيةً من اللبس، ممزوجةً حقيقتُها بالشريعة، فإن أمرها لا يكون إلا كذلك لا غير...وأنا لك ضامن أن لا تُسلب ما دمتَ في محبتنا، وكل ما دونه، من دخول الجنة بلا حساب، إلى ما وراءه وما قبله، وسامحتك فيما لا تعمله مما مُقتضاه سوء الأدب؟ وأما السورة فتداومها 11000 مرة كل يوم أو كل ليلة، مختلياً وحدك وقت ذكرها فقط، وبدؤها أن تقرأ الفاتحة مرة، وصلاة الفاتح لما أُغلِق مرة، وتهدي ثوابها لأهل النَّوْبة في ذلك اليوم من الأولياء الأحياء، ثم تقوم وتقف مستقبلاً وتنادي: ح دستوريا أهل النّوْبة، جبهتي تحت نعالكم ح. ثم تقرأ الفاتحة مرة وتهدي ثوابها لروح الشيخ عبد القادر والشيخ أحمد الرفاعي وجميع الأولياء الغائبين والحاضرين، ثم تقرأ الفاتحة مرة وتهدي ثوابها لروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تسأل المدد(2)...
- أرجو أن يعلم القارئ أن هذا الشرك والزندقة صادران من قطب غوث إلى خليفته، وهو غوث أيضاً...ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب فساد المسلمين؟!
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:85، 86).
(2) كشف الحجاب، (ص:89).(78/500)
* يحضر بعد موته لقراءة الوظيفة:-
...(سيدي عيسى بن خراز) حدثه أنه رأى صاحب سيدنا رضي الله عنه سيدي ابن المشرى الأشهب بعد موته خارجاً من الزاوية المباركة بعدما قرئت الوظيفة، فقال له: أو تحضر الوظيفة بعد الموت؟ فقال له: نعم، ثم سأله عن والده صاحب سيدنا رضي الله عنه سيدي العربي بن الأشهب؟ فقال له: إن مرتبتة عالية وأنا دونها فلم أعرف ما اشتملت عليه لشفوفها وعلوها(1)...
* التعليق:
لم يَعُدْ محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحياة ليحكم بين المسلمين في خلافاتهم التي أريقت بها الدماء، وكانوابأمس الحاجة له! ويعود هذا الصوفي من أجل قراءة الوظيفة مع أمثاله!! إنه الشيطان طبعاً يتلاعب بهم.
* بلا عنوان:-
يقول محمد بهاء الدين البيطار:
سأل مريد أستاذه عن الاسم الأعظم؟ فضربه بحصاة، فكان الضرب هو الجواب، يشير له: إنك أنت الاسم الأعظم(2)...
* ملحوظة ليست من موضوع الكتاب:-
محمد بهاء الدين الييطار هو والد أستاذنا، عالم الشام، داعية الحق والهدى الشيخ محمد بهجت البيطار، رحمه الله وأجزل ثوابه، وشكر جهاده.
* الصوفي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير:-
ويقول: ...فإن الكامل في وقته مَظْهر هذه الأسماء الثلاثة التي هي: الله والرحمن والرحيم، بل مَظْهر أسماء الله على الكمال القائم بحقيقة الجمال والجلال، قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحيي وأميت وأنا على كل شيء قدير(3)...
- ولا تعليق، ولا سؤال، ولا جواب، لكنه تفسير لما تتخبط به الأمة الإسلامية من فساد وضياع.
* يترك التصرف بالكون تظرفاً:-
ويقول: ...وكان هذا مقام أبي السعود تلميذ الغوث الجيلاني، فإنه قيل له: هل أعطاك الله التصرف في العالم؟ فقال: نعم، منذ خمس عشرة سنة، وتركته للحق تعالى تظرفاً! قال الشيخ الأكبر: ونحن تركناه أدباً ومعرفة(4)...
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:395).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:6).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:6).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:7).(79/1)
- ولا تعليق، لكنه ألَمٌ وسؤال: ما الذي أوصل الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه الآن؟
* الشبلي هو محمد صلى الله عليه وسلم:- ويقول البيطار نفسه:
...ولما انجلى هذا المشهد لمريد الشبلي في صورة الشبلي، قال له أستاذه الشبلي رضي الله عنه: أتشهد أني محمد رسول الله؟ فقال: نعم(1)!...
- ولا تعليق، بل نعيد نفس الأسئلة السابقة.
* والكلب والخنزير جاء دورهما:-
ويقول أيضاً:
...حتى انْسَحَب على الوجود (أي:على الله) الضحك والفرح والعجب والمكر والكيد والاستهزاء والسخرية والظمأ والمرض والجوع والنسيان والشك، حتى قال بعض من غلبه الشهود من أرباب الأحوال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ……ا الله إلا راهب في كنيسة
وما ذاك إلا من انصباغ تلك الأحكام الثابتة بنور الوجود المطلق(2)...
ولا تعليق أيضاً، ولكن بكاء وحزن على ما حل بهذه الأمة من هذه الطائفة التي تُعْمِل بها معاولها بإصرار وتكرار، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.
* البدوي، قطب الأقطاب ولا يصلي:-
يقول أحمد الصاوي:
...وأما جمع الجمع، فهو مقام أعلى من مقام البقاء، وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيُسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكاً بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم مَن يبقى بهذه السكرة إلى الموت كالسيد البدوي رضي الله عنه، ولذلك قال العارفون: إنه جُذب جذبة استغرقته إلى الأبد، ومنهم من يُرَدُّ إلى الصحو عند أوقات الفرائض، والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي، وأضرابه، والمؤلف(3)، (أي:أحمد الصاوي)...
- ولا تعليق أيضاً، لكن تعريف، فالذي يذكر هذا الكلام هو الذي قرر في كتاب له أن ظاهر القرآن من أصول الكفر، كما يظهر من سياق كلامه أن أحمد البدوي كان لا يصلي.
* حتى الوحي ينكرونه:-
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:341).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:338).
(3) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:126).(79/2)
يقول الغزالي (حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام):
...والمدْرك الثاني: الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء، ولا تظن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمور الآخرة ولأمور الدنيا تقليد لجبريل عليه السلام، فإن التقليد ليس بمعرفة صحيحة، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشاه الله من ذلك، بل قد انكشفت له الأشياء وشاهدها بنور البصيرة، كما شاهد المحسوسات بالعين الظاهرة(1)...
- في هذا النص، نتعرف على أحد الأساليب الخبيثة التي يستعملونها في الكيد للإسلام والمكر به؟ فهو هنا يستعمل عبارة (تقليد لجبريل)، بدلاً من كلمة (الوحي) لتكون مقبولة.
- وواضح أن قوله: (لأمور الآخرة ولأمور الدنيا) يعني به الشريعة الإسلامية، وهذا الأسلوب يبين مدى المكر الذي يكيدون به الإسلام.
- ثم لم يكتف هؤلاء المخدوعون بأحابيل الشياطين وخدعهم (في خرق العادة وفي الجذبة وما يوسوسون لهم فيها) حتى أرادوا أن يجعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم من زمرتهم، ويجعلوا الإسلام صورة عن هذياناتهم.
* صيام جديد أو دين جديد:-
يقول الطوسي (في اللمع) وشهاب الدين السهروردي (في عوارف المعارف) وغيرهما:
...وحكي عن بعض الصادقين من أهل واسط أنه صام سنين كثيرة، وكان يفطر كل يوم قبل غروب الشمس إلا في رمضان.
يعلق السهروردي على هذا بقوله: ...ولكن أهل الصدق لهم نيات فيما يفعلون، فلا يُعارضون، والصدق محمود لعينه كيف كان(2)...
- السؤال: ما الفائدة من تعاليم الإسلام؟ وأين ذهبت؟ وما فائدة الرسل؟؟؟
* الكشف جهل في جهل:-
ويقول السهروردي أيضاً (شيخ الطريقة السهروردية):
...قال سهل بن عبد الله: للقلب تجويفان، أحدهما باطن وفيه السمع والبصر، وهو قلب القلب وسويداؤه.
__________
(1) الكشف والتبيين للغزالي، (ملحق تنبيه المغترين)، (ص:210).
(2) اللمع، (ص:220)، وعوارف المعارف هامش الإحياء: (3/233).(79/3)
...ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين، وهو صقالٌ لموضعٍ مخصوص فيه، بمنزلة الصقال الذي في سواد العين، ومنه تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات، فهكذا تنبعث من نظر العقل أشعةُ العلوم المحيطة بالمعلومات(1).
* المناقشة:
أولاً: للقلب أربعة تجاويف لا تجويفان.
ثانياً: السمع والبصر مركزهما الدماغ لا القلب.
ثالثاً: لا تنبعث الأشعة المحيطة بالمرئيات من سواد العين، إنما تنبعث من ضوء الشمس أو القمر أو السرج...وتسقط على المرئيات ثم تنعكس إلى كل الجهات، والأشعة التي تصطدم بسواد العين تدخله، وتكون الرؤية.
رابعاً: لا يوجد تشابه بين العقل في القلب والنظر في العين.
خامساً: مِن هنا، ومن غير هنا، نعرف أن الكشف لا يزيد عن كونه صوراً لمعلومات اقتبسها العارف عن المعارف السائدة في مجتمعه، بالإضافة إلى هذيانات وثرثرات ووسوسات إبليسية.
* جهل في كذب:-
يقول أبو الهدى الصيادي الرفاعي:
...بلغنا أن الإمام علياً رضي الله تعالى عنه كان يقول في خطبته على رءوس الأشهاد: أنا نقطة (بسم الله) أنا جنب الله الذي فرطتم، فيه وأنا اللوح وأنا القلم وأنا اللوح المحفوظ، وأنا العرش وأنا الكرسي وأنا السماوات السبع والأرضون. فإذا صحا وارتفع عن تجلي الوحدة في أثناء الخطبة يعتذر ويقر بعبوديته وضعفه وانقهاره تحت الأحكام الإلهية(2).
* تنبيه:
جهل كشفهم، ففي زمن علي بن أبي طالب لم يكن لباسم الله " نقطة؛ لأن التنقيط لم يكن قد اخترع بعد، وكفركشفهم في الباقي. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يقل هذا الهذيان؛ لأنه كان مسلماً مؤمناً ولم يكن من الضالين.
* أين الإيمان؟ وأين العقل والحياء؟:-
يقول أبو الهدى الصيادي:
__________
(1) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/247).
(2) قلادة الجواهر، (ص:112).(79/4)
قال الشيخ شرف الدين أبوبكربن عبد المحسن: ...كنا مع السيد أحمد الصيادي قدس سره...وكنا كلما مررنا على نهرماء استقبله السمك من النهرإلى الشاطىء وازدحم على قدميه...وكذلك الدواب والهوام والغزلان في البر الأقفر، حتى إن الحيوانات نراها تقف له على حافتي الطريق...ومات أحد إخوانه فجأة فجاءت إليه أم الميت وهوساجد في صلاة الضحى، فتأخرفي سجوده، فقالت: وحقك لوبقيت إلى يوم القيامة ساجداً لما تركتك إلا بولدي، فرفع رأسه الشريف باكياً، وإذا بالمريد قد قام حياً! فسجد شكراً لله على نعمته التي أنعمها عليه. وذكرالمناوي أنه سجد سجدة واحدة فامتد سجوده سنة كاملة ما رفع رأسه حتى نبت العشب على ظهره(1)..
خير جواب على مثل هذه التمثيليات التي تنصبها شياطين الجن شركاً للضلال والإضلال هو: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إليك نشكو مكر شياطين الجن بأوليائهم الذين خُدعوا بتمثيلياتهم فضلوا وأضلوا وأصروا على تدمير المسلمين.
* حوار مع الله (سبحانه وتعالى)، ويعرض الله عليه ملكه وملكوته، وحديث لم يمر على رسول الله ولا عرفه جبريل:
يقول ابن عربي:
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:340).(79/5)
(وصية إلهية) حدثنا … قال لي علي بن الخطاب الجزري بالجزيرة، وكان من الصالحين؛ رأيت الحق في النوم فقال لي: يا ابن الخطاب تمنَّ، قال: فسكتُّ، فقال لي: يا ابن الخطاب تمنَّ، فسكتُّ. قال ذلك ثلاثاًَ، ثم قال لي في الرابعة: يا ابن الخطاب أعرض عليك ملكي وملكوتي وأقول لك تمنَّ، وتسكت، فقال: قلت: يا رب، إن نطقتُ فبك، وإن تكلمت فبما تجريه على لساني، فما الذي أقول؟ فقال: قل أنت بلسانك، فقلت: يا رب قد شرَّفْتَ أنبياءك بكتب أنزلتها عليهم، فشرفني بحديث ليس بيني وبينك فيه واسطة، فقال: يا ابن الخطاب، مَنْ أحسنَ إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً، ومَنْ أساء إلى مَن أحسنَ إليه فقد بدَّل نعمة الله كفراً، قال: قلتُ: يا رب زدني، فقال: يا ابن الخطاب حسبك حسبك(1).
* التعليق: إنها الشياطين تضحك على ذقونهم وتتلاعب بعقولهم، فتضلهم وتضل بهم.
* التجرؤ على الله سبحانه:-
نقرأ في النفحات الأقدسية قوله:
… فهم ممَّن يحرفون الكلم عن مواضعه بتأويلهم الفكري الذي يحكمون به على الله، ويقولون هو منزه عن كذا، والله ما نزَّه نفسه هذا التنزيه البارد، ولا نزهه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أخبر رسول الله أن الله يعجب ويفرح ويضحك ويكذب ويشتم ويؤذي ويصبر على الأذى، فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، أي أخلاق الله، فكذب وشتم وأوذي وجاع وظمي ومرض واستقرض، وكل ذلك واردٌ في حق الله تعالى، فانطبق اسم الله عليه على الكمال والتمام(2)..
- أيها القارئ، ألا تشعر بالحمى من سماع هذا الكلام؟ الله يكذب! ورسوله يكذب! واسم الله ينطبق على رسوله على الكمال والتمام! أي إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله؟! وماذا يستطيع مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقوله أمام هذا القول المرعب؟ ثم يتساءلون عن سبب فساد المسلمين؟ والأمر أوضح من نار على علم.
__________
(1) الوصايا لابن عربي،) (ص:217 (.
(2) النفحات الأقدسية، (ص:16).(79/6)
* وأحاديث لم تمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
...ومن تآليفه (أي: ابن عربي) أيضاً: كتاب الأحاديث القدسية، ذكر فيه أنه لما وقف على الحديث المروي في فضائل الأربعين، بمكة المكرمة، سنة 599 هـ، جمعها بشرط أن تكون من المسندة إلى الله تعالى، ثم أَتْبعها أربعين عن الله تعالى مرفوعة إليه، غير مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أردفها بأحد وعشرين حديثاً، فجاءت واحداً ومائة حديث إلهية(1)...
- ونضيف إلى هذا الضلال أن هناك أحاديث منامية منتشرة بين المتصوفة نورد منها مثلاً واحداً للتفكهة: حدث أحد الصوفيين المعروفين في دمشق على المنبر في خطبة جمعة فقال: حدثني شيخي (فلان) قال: حدثه شيخه (فلان) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت له: يا رسول الله! حدثني حديثاً أحدث به الناس، فقال: {ما تزال الملائكة تصلي على العبد ما دام في فمه طعم البُنِّ!! قال له: زدني...} إلخ. وكان مريدو هذا الشيخ يكتبون هذا الهراء باهتمام وكأنهم وقعوا على كنز، وحفظوه! وطبعاً، هم لا يحفظون شيئاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد علق الشيخ بعد إيراده هذا الهذيان، وتفاهتين أخريين معه أقبح منه، علق فقال: هذه أحاديث صحيحة لأن رواتها كلهم ثقات.
- أما نحن فنقول: اللهم إليك نشكو ما حل بالأمة الإسلامية من زيغ في الإيمان وجهل وذل وتخبط بسبب هذه الطائفة المارقة التي دمرت الإيمان والعلم والعقل والحياء.
* قصة مرسلة:
أخبره الكشف أنه المهدي المنتظر، وأخبر بذلك المقربين من مريديه، وأخذوا يعدون العدة لليوم العظيم، يوم يأتيه الإذن من الكشف: (اصدع بما تؤمر).
__________
(1) الفتوحات المكية: (4/555).(79/7)
اشترى الحصان (أو اشتري له) من سلالة معروفة، وهيأ له في بلدة مجاورة اصطبلاً يناسب المقام، مقام حصان المهدي المنتظر، ووكل به سائساً خاصاً لخدمته، يطعمه اللوز والبندق والفستق الحلبي، ويتعهد نظافته وراحته آناء الليل وأطراف النهار، وهل يوجد من هو أحق بالخدمة والاعتناء من حصان المهدي المنتظر.
ومن أمناء سره وموضع ثقته شاب ملأ الإيمان قلبه؟ الإيمان بأن الشيخ وصل إلى أعلى درجات القدوسية، وتحقق بكامل الأسماء والصفات الإلهية؟ عين له الشيخ يوماً يخرجان به بعد صلاة الفجر، هذا يركب حصانه؟ حصان المهدي، وذاك يركب حصانه؟ حصان وزير المهدي، إلى مكان منعزل، حيث يمضيان ساعات في التدرب على النزال والطعان بالسيف والترس والسنان؛ لأن سنن الله في خلقه سوف تتبدل، فتخرس البنادق والمدافع، ويفقد البارود والمتفجرات خاصية انفجارها، وإن حدث وانهمر الرصاص وتساقطت القذائف، فبضربة من سيف المهدي تتحول إلى هباء منثور.
كان البدء منذ حوالي خمس عشرة سنة، وهو حتى الآن ينتظر الإشارة.
وعندما يخرج للعباد، وتنقاد له البلاد، سوف ينزل المسيح، وهو إسرائيلي من فلسطين، حيث يرفضه الناس لإسرائيليته، لذلك، وتسهيلاً لمهمته (مهمة المسيح)، فقد هيأ منشوراً مهدوياً في درج كبير سوف ينشره على الناس يقدمه به إليهم، ويزكيه ليقبلوه!!!
- ولنعد إلى كشوفاتهم الفلكية:
مما يورد ابن عربي في: الفتوحات المكية (3/424):
صورة الفلك المكوكب وقباب السماوات وما تستقر عليه، وهو الأرض، والأركان الثلاثة، والعمد الذي يمسك الله به القبة، والمعدن والنبات والحيوان والإنسان.
وأترك التعليق للقارئ الذي اطلع على شيء من علم الفلك، ليعرف مدى جهل كشفهم الذي يسمونه نور اليقين وحق اليقين وعين اليقين، والذي يقول الغزالي إنهم يعرضون عليه السمع والألفاظ لتصحيحها!!
ويورد أيضاً في الفتوحات المكية (3/425):(79/8)
صورة أرض المحشر وما يحوي عليه من الأعيان والمراتب وعرش الفصل والقضاء وحملته وصفوف الملائكة.
وهناك خرائط أخرى لم أرودها اكتفاءً بهذا.
وللعلم: ظهر في مدينة ليون بإسبانيا في أوائل القرن السادس الهجري كتاب لأحد أقطاب طريقة صوفية يهودية (الكابالا).
واسم الكتاب (زوهار) أي: (الإشراق) وفيه صورة للمراتب الروحانية تشبه ما عَرَفه ابن عربي بالكشف وسجله في فتوحاته المكية، مع فارق، هو أن الشكل المرسوم في الزوهار يتلاءم بشكله وأسمائه مع الديانة اليهودية، بينما خرائط ابن عربي معدلة حسب المفاهيم الإسلامية؟ وقد كان هذا الكتاب منتشراً في الأندلس في عصر ابن عربي!
- فما هي العلاقة؟ لا جواب! لكن يجب ألا ننسى الكشف والعلم اللدني.
* كل المعبودات حق (والأوثان حق):-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
...فمن عناية الله بنا، لما كان المطلوب من خلقنا عبادته، أن قرب علينا الطريق، بأن خلقنا من الأرض التي أمرنا أن نعبده فيها، ولما عَبَدَ منَّا مَن عبد غيرَ الله، غار الله أن يعبد في أرضه غيره، فقال: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه؛ أي: حكم، فما عَبَدَ مَن عَبَد غير الله إلا لهذا الحكم، فلم يُعْبَد إلا الله وإن أخطئوا في النسبة، إذ كان لله في كل شيء وجه خاص به ثبت ذلك الشيء، فما خرج أحد عن عبادة الله(1)؟
- معنى هذا الكلام أن أصنام الهندوس هي الله وأوثان اليونان هي الله، وأن اللات والعزى وغيرها كلها هي الله!
وإياك أيها القارئ أن تعترض، فتنطرد! لأنه الكشف الكشف الكشف.
* ووصل الكشف بأهله إلى تكفير القرآن:-
في حاشية الصاوي على الجلالين، في شرح آية الاستثناء في سورة الكهف: ((وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الكهف:23، 24] جاء قوله: (أي: قول الصاوي):
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/248).(79/9)
لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية!! فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(1) اهـ.
* التعليق:
الكشف على كل ضلال قدير، وبالكشف الباطل حقاً يصير!!
إن من أبسط بدهيات الإسلام، وما يُعلم من الدين بالضرورة، أن القرآن والسنة هما مصدر الإسلام، وكل ما خالف القرآن والسنة فهو الكفر والزندقة والضلال. ومن البدهيات في الإسلام، أن كلمة (كفر) تعني مخالفة القرآن والسنة، لكن عندما يأتي قطب غوث كالصاوي أحمد ليقول: إن الأخذ بظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر، فلا يبقى منطق ولا يبقى عقل ولا يبقى دين ولا يبقى علم ولا يبقى معلوم ولا يبقى فهم ولا يبقى مفهوم ولا يبقى فكر ولا يبقى بحث ولا يبقى إسلام ولا يبقى إيمان...ولا يبقى إلا الجذبة والفناء عن كل ما وهبه الله للإنسان من مواهب، ولا يبقى إلا الهذيان والكشف عن الجهل والغباء. ومع ذلك، سلِّم تسلم، ولا تعترض فتنطرد!! لأن هؤلاء القوم عرفوا الأمور بنور اليقين وعينه وحقه، وسلام على الإسلام والعقل واليقين. وعلى كل حال، يجب ألا ننسى أبداً أن الهنادكة والبوذيين واليهود...يرون أن ظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر. وهذا القول يعطينا صورة صغيرة، لكنها واضحة، عن دور الصوفية في تشويه الرسالات السماوية.
* حتى البول تظهر فيه القداسة:-
أورد الغزالي في (إحيائه):
__________
(1) تنزيه السنة والقرآن، (ص:11).(79/10)
...حُكي عن الجنيد أنه قال: مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء، ولا عرفنا لها سبباً، فوصف لنا طبيب حاذق، فأخذنا قارورة مائه، فنظر إليه الطبيب وجعل ينظر إليه ملياً، ثم قال لي: أراه بول عاشق، قال الجنيد: فصُعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي، ثم رجعت إلى السري فأخبرته، فتبسم ثم قال: قاتله الله ما أبصره، قلت: يا أستاذ، وتبين المحبة في البول؟ قال: نعم(1)...
- لعل القارئ فطن إلى أن المحبة هنا هي محبة الله! وللعلم، يحدث مثل هذا تماماً لمدمني الأفيون والمهلسات.
* دين عجيب:-
يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...وحُكي عنه (عن إبراهيم الخواص) أنه قال: مكثتُ في البادية أحد عشر يوماً لم آكل، وتطلعتْ نفسي أن آكل من حشيش البر، فرأيت الخضر مقبلاً نحوي، فهربت منه، ثم التفت فإذا هو رجع عني، فقيل: لِمَ هربت منه؟ قال: تشوقتْ نفسي أن يغيثني(2)!
ويعلق السهروردي على هذه القصة بقوله: فهؤلاء الفرارون بدينهم!
- السؤال: أي دين هذا الذي فر به؟ إنه ليس الإسلام على كل حال! لأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصيام، وقال: {من رغب عن سنتي فليس مني}.. إذن، فهؤلاء القوم ليسوا من أتباع رسول الله! فإلى من ينتمون؟
* كل شيء عجيب حتى ورعهم (من مقام الورع):-
يقول الغزالي:
...فقد امتنع طائفة منهم (من الصوفية) عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه؛ وقد حُكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر وهو الطهور المحض(3)؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/290).
(2) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (2/95).
(3) إحياء علوم الدين: (2/95).(79/11)
- سؤال: ماذا فعل إذن؟ لعله تيمم بالتراب؟ وهو غير مجزئ، والتراب أولى من ماء البحر أن يحترز منه، إذ قد يكون سقطت عليه نجاسة، أو يكون ملكاً لأحد فلا يبقى إلا إلغاء الوضوء، وإلا، فماذا فعل؟ هل صلى بدون وضوء؟ أو لعله توضأ بماء الغيب، ثم صلى بأرض الغيب، الواقعة في جزيرة الغيب، التي هي إحدى جزائر بحر الغيب، وصلى معه رجال الغيب، في أوقات الغيب من أيام الغيب وشهور الغيب، وإلا فماذا؟
على كل حال، هذا الكلام لا يجوز أن يُناقش؛ لأن راويه هو حجة الإسلام، رواه في كتابه (إحياء علوم الدين) اسمان يصمان السمع ويثقبان الآذان.
* بلا عنوان ولا تعليق ولا مناقشة:-
قال أحمد التجاني:
ليس لأحد من الأولياء أن يُدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب إلا أنا وحدي، ولو بلغوا ما بلغوا من الذنوب وعملوا ما عملوا من المعاصي، وأما سائر سادتنا الأولياء رضي الله عنهم فيُدخلون الجنة أصحابَهم بعد الحساب والمناقشة(1)...(إِحِمْ).
* كشفهم يكذب عليهم:-
يقول عبد الوهاب الشعراني:
...قال الجلال السيوطي رحمه الله: واعلم أنه ما كان كبيرٌ في عصر قط إلا كان له عدوٌّ من السفلة، إذ الأشراف لم تزل تُبتلى بالأطراف، فكان لآدم عليه السلام إبليس...وكان لعيسى في حياته الأولى بختنصر وفي الثانية الدجال(2)...
هذا القول يقوله قطب، هو جلال الدين السيوطي، ويرويه عنه قطب الغوث الرباني، سيدي عبد الوهاب الشعراني، وكشف القطبين لم يساعدهما على معرفة أن بختنصر كان قبل عيسى صلوات الله عليه بأكثر من ستمائة سنة! ولكنه العلم اللدني الذي ينسخ آيات القرآن! فهل كثير عليه إن نسخ حقائق التاريخ؟
* يفطر في رمضان تقرباً إلى الله:-
يقول محمود أبو الفيض المنوفي:
__________
(1) كشف الحجاب، (ص:373، 374).
(2) الكبريت الأحمر، هامش اليواقيت، (ص:12، 13).(79/12)
...ومنها أن أحد الملامتية من الأولياء دخل بلداً، فأخذ الناس في تعظيمه، فسأل الله أن يصرفهم عنه، وكان ذلك في رمضان بالنهار، وهو صائم، ولما دعا الله، فأُلهم أنَّ بجيبه بلحة، فتناولها، فانصرف الناس عنه قائلين: إن الشيخ قد أفطر!! فشكر الله على أَن أَخْلَوْا ما بينه وبين ربه(1).
- يعلق محمود أبو الفيض المنوفي (قطب الغوث) على هذا الضلال بقوله: وهو وإن كان أفطر، ورأى القارئ أن الكفارة تلزمه! قلنا: إن مثل هذا يقضي ثلثي عامه صائماً قط؛ فإذا احتسب صوم بعض أيامه من الصوم كفارة للفطر، فلا مانع عنده. (ولا تعليق، ولا تقريق، ولا تبويق) لأنه العلم اللدني اللدني اللدني اللدني...
* لصوصية الولي ولصوصية السارق:-
يقول الغوث عبد العزيز الدباغ:
...الفرق بين أخذ الولي صاحب التصرف متاع الناس، وبين أخذ السارق واللص له، الحجابُ وعدمُه، فالولي شاهدٌ لربه عز وجل، مأمورٌ من قِبَلِه بالأخذ، قال الله تعالى: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)) [الكهف:82].. ولقد دخل سيدي منصور القطب رضي الله عنه إلى مولانا إدريس نفعنا الله به، فوجد سيدي أبا يعزى بن أبي زيان البكاري يزور، فأخذ بُلْغَتَه (نوع من الأحذية) وخرج، فقلت للشيخ رضي الله عنه في ذلك، فقال: الفرق بين أخذ الولي والسارق الحجابُ وعدمُه، فسيدي منصور لكونه قطباً مشاهداً البُلْغة له، ورآها في اللوح المحفوظ مِن قِسْمَته، وسمع الأمر من الحق سبحانه بأخذها، يحل له الأخذ كيف أمكنه، والسارق محجوب غافل عن ربه...
يعلق نجم العرفان سيدي أحمد بن المبارك على هذه اللصوصية بقوله:
أعاذنا الله من سوء الانتقاد على الكمَّل من العباد(2)...اهـ) أي: لا تعترض عليهم فيما يفعلون!
* وهكذا وصلنا إلى (اللصوصية المقدسة):-
ويقول عبد العزيز الدباغ نفسه:
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:348، 349).
(2) الإبريز، (ص:207).(79/13)
...إن الولي صاحب التصرف يمد يده إلى جيب من شاء فيأخذ منه ما شاء من الدراهم، وذو الجيب لا يشعر! قلت: (القائل هو أحمد بن المبارك): لأن اليد الذي يأخذ بها الولي باطنية لا ظاهرية(1)...
أقول: هذه اللصوصية تعطينا صورة صغيرة، لكنها واضحة، عن سبب فساد المجتمعات الإسلامية.
* والمعاصي كلها مباحة للولي! (مكراً بالأشقياء الذين يعترضون على الأولياء):-
يقول الدباغ:
وإذا أراد الله شقاوة قوم وعدم انتفاعهم بالولي، سخرهم الحق فيما هم فيه من قبح ومخالفة، فيظنون أنه على شاكلتهم، وليس كذلك، حتى إنه يُتصور في طور الولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر، وهو يشرب معهم، فيظنون أنه شارب الخمر، وإنما تصورتْ روحه في صورة من الصور، وأظهرت ما أظهرت، وفي الحقيقة لا شيء، وإنما هو ظل ذاته تحرك فيما تحركوا فيه، مثل الصورة التي تظهر في المرآة(2)...اهـ. (الآت رقص من دون نقص، ترلم ترلم، ترلم ترلم).
* عودة إلى كشف العورة:-
يقول الدباغ نفسه: إن غير الولي إذا انكشفت عورته نفرت منه الملائكة الكرام؛ لأن الحياء يغلب عليهم، والمراد بالعورة العورة الحسية، وهي ظاهرة، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السَّفَه، وأما الولي فإنها لا تنفر منه إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرضٍ صحيح، فيترك ستر عورته لما هو أولى منه؛ لأن أقوى المصلحتين يجب ارتكابه، ويؤجر على ستر عورته وإن لم يفعله، لأنه ما منعه من فعله إلا ما هو أقوى منه، ولولا ذلك الأقوى لفعله، فكأنه فعلهما جميعاً فيؤجر عليهما معاً(3)...
- سؤال: ما هي المصلحة من كشف العورة؟ أي مصلحة؟ سواء كانت أقوى أو أضعف أو مساوية أو موازية؟ أو أو.
- جواب: لعل كشف العورة مقام من مقاماتهم، التي هي (المنجيات)! وإلا فماذا؟؟
* من أساليب تبرير الفساد والمعاصي:-
__________
(1) الإبريز، (ص:205).
(2) الإبريز، (ص:231).
(3) الإبريز، (ص:233).(79/14)
ويقول عبد العزيز الدباغ أيضاً: إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي وهو ليس بعاصٍ، وإنما روحه حجبت ذاته، فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية؛ لأنها إذا أكلت حراماً مثلاً، فإنها بمجرد جعلها في فيها فإنها ترميه إلى حيث شاءت، وسبب هذه المعصية الظاهرة شقاوة الحاضرين والعياذ بالله(1) (انتهى).
- وهذا يفسر سبب فساد الأمة الإسلامية، وخاصة إذا علمنا أن العارفين ألف والمتكلم واحد.
* يتنازلون عن مزاحمة الله في تصرفه حياءً من الله وزهداً بالألوهية:-
قال أبو طالب المكي:
...وفوقها (فوق مقامات ذكرها قبل هذا الكلام) ما لا يصلح رسمه في كتاب من مكاشفات الصديقين ومشاهدات العارفين، منها: أنه أعطاهم (كن) بإطلاعه إياهم على الاسم، فزهدوا في كون (كن) لأجل (كان) توكلاً عليه وحياءً أن يعارضوه في قدرته ويرغبوا عن تقديره، أو يضاهوه في تكوينه(2)..
- الجواب: نشكوهم إلى الله، فقد دمروا على المسلمين إيمانهم وعقولهم (أبو طالب المكي حجة عند القوم، وقوته حجة أيضاً) ولا تعترض.
* التسول والكسل فضيلة (من مقامات التوكل والزهد):-
ويقول أبوطالب المكي أيضاً (ومعه الغزالي أيضاً):
قد يفضل التارك للتكسب شغلاً بالعبادة، عن المتكسب، من حيث فضل المتقدمون الزاهدون في الدنيا على كاسب المال حلالاً ومنفقه في سبيل الله. وسئل الحسن عن رجلين، أحدهما محترف والآخر مشغول بالتعبد، أيهما أفضل؟ فقال: سبحان الله! ما اعتدل الرجلان، المتفرغ للعبادة أفضلهما(3)!!
- السؤال: ما نفعل بقوله سبحانه: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) [الملك:15]؟ وما نفعل بأحاديث رسوله التي يجعل بعضُها العملَ للتكسب بمرتبة الجهاد؟
الجواب: دعوتهم هذه- وكل عارفيهم يدعون لها- تفسر سبب انحطاط المسلمين.
__________
(1) الإبريز، (ص:232).
(2) قوت القلوب: (2/9).
(3) قوت القلوب: (2/29)، والإحياء: (4/232).(79/15)
* ويقدمون الحكايات لتشجيع التواكل والكسل والتسول:-
يقول أبو طالب المكي أيضاً والغزالي معه:
وحكي أن بعض العلماء صلى خلف رجل، فلما انفتل الإمام، نظر إليه في زي غير مكتسب، فقال: يا شيخ، مِنْ أين تأكل؟ فقال: اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك(1)!
- عجيب والله! أصبح الأمر بالمعروف مبطلاً للصلاة؟! ثم يتساءل المتسائلون عن سبب فساد المسلمين!
ويقولان أيضاً (هو وهو):
وحدثونا في معناه عن آخر، أنه لزم العكوف في المسجد، ولم يكن ذا معلوم من عيش، فقال له الإمام الذي يصلي بالناس: لو تكسبت وتعيشت كان أفضل لك، فلم يجبه، فأعاد عليه وقتاً آخر نحو ذلك، فقال: يهودي في جوار المسجد قد ضمن لي كل يوم رغيفين، فقنعت بذلك، وتركتُ التكسب، فقال الإمام: إن كان صادقاً في ضمانه فإن عكوفك في المسجد خير لك، فقال له الرجل: يا هذا أنت لو لم تكن إماماً للمسلمين تقوم بينهم لنقص توجهك(2)....
* تعليق هام جداً:-
من هذه النصوص وما سبقها نستطيع أن نعرف سبب تأخر المسلمين وابتعادهم عن الإسلام ومصيرهم الحالي، حيث هم الآن (أذل أمة في الأرض).
* ويجعلون التشريع مستمراً، ولتنسخ الآية الكريمة:-
يقول محمد بن عبد الله بن حسنين الطصفاوي (التجاني):
واعلم أن من المقرر عند العلماء والأعلام، أنه يُعمل بجميع ما يتلقاه العارفون منه عليه الصلاة والسلام، سواء في اليقظة أو المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤد إلى انخرام قاعدة شرعية(3)...
- سؤالان: الأول: أي شيء في الصوفية لا يصادم النصوص القطعية (سواء في المجمل أو التفصيل)؟
__________
(1) قوت القلوب: (2/15)، والإحياء: (4/232).
(2) قوت القلوب: (2/15)، والإحياء: (4/232).
(3) الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التجاني، (ص:99).(79/16)
- الثاني: يقول: ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية! أفلا تصادم قاعدتكم هذه قوله سبحانه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]؟ أوَليست هذه الآية نصاً قطعياً؟ إن لم تكن كذلك، فهل بقي أمامكم نص يمكن أن يكون قطعياً؟!
* المتصوفة يفقهون الإسلام أكثر من الصحابة:-
يقول مولانا العارف بالله الشيخ محمد أمين الكردي (النقشبندي):
...وعن العارف الوفائي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي عن نفسه الشريفة: لست بميت، وإنما موتي عبارة عن تستري عمن لا يفقه عن الله، وأما من يفقه عن الله فهاأنذا أراه ويراني(1)...
الجواب: هذا الكلام هو إنكار للآية الكريمة: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30]، التي هي نص قطعي، ورغم كل شيء يقولون: إن علومهم اللدنية وكشوفهم لا تصادم النصوص القطعية؟! وكلها مؤيدة بالقرآن والسنة؟!
* كيف يثبتون علومهم:-
...كان سيدي أحمد (ابن إدريس صاحب الطريقة الإدريسية) يقول: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب (أي: الأوراد) من لفظه.
وكان يقول: أخذنا العلم من أفواه الرجال كما تأخذون، ثم عرضناه على الله والرسول، فما أثبته أثبتناه وما نفاه نفيناه.
__________
(1) تنوير القلوب، (ص:45).(79/17)
وقال (واصفاً الصلوات الإدريسية التي مر بعضها في فصل سابق): هذه الصلوات قد استوت على عرش الأنوار، وأرجلهن متدليات على كرسي الأسرار، تصلين في كتاب الكمالات المحمدية، بقرآن الحقائق الأحمدية، قد طلعت في سماوات العلا شمسها، وارتفع عن وجه الكمال المحمدي نقابها، وبحرها في الحقائق الإلهية زاخر، ولهن في القسمة من المعارف المحمدية حظ وافر، خذهن إليك يا من أراد أن يسبح في كوثر النور المحمدي، وجُلْ في عجائب معانيها يا من يبتغي الاغتراف من البحر الأحمدي، تتلو عليك من كتاب الحقائق المحمدية محكم الآيات(1)...إلخ.
- يترك التعليق على هذا الضلال للقارئ، مع الرجاء أن يعود إلى الصلوات الإدريسية، وأن ينتبه إلى دور الشياطين في المسرحية.
* يتيمم على شط دجلة!:-
...وعن أحمد الدورقي قال: قعد معروف الكرخي على شط دجلة، فتيمم! فقيل له: الماء قريب منك، فقال: لعلي لا أعيش حتى أبلغه(2)!
- القول على هذا الفعل:
1- صلاته باطلة لأنها دون طهارة، وإذا حضر الماء بطل التيمم، وكشفه كان أجهل منه.
2- من أي باب من أبواب المقامات الصوفية يمكن أن يكون هذا العمل؟ هل هو من مقام الفقر؟ أم الزهد؟ أم الورع؟ أم الخوف؟ أم التوكل؟ أم ماذا؟ ولا يسعنا إلا أن نقول له ولهم: مرحباً يا تقي، مرحباً يا ورع، مرحباً يا زهد، مرحباً يا معروف الكرخي، مرحباً يا أبا نعيم الأصفهاني (الذي أورد هذه القصة) وعلى الإسلام السلام، وعلى العقل السلام.
وللعلم: راوي هذه القصة (وكثير من أمثالها) هو أبو نعيم الأصفهاني في الحلية.
* فرعون صادق بادعائه الربوبية:-
قال سهل بن عبد الله (التستري):-
__________
(1) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:172، 173).
(2) حلية الأولياء، (معروف الكرخي).(79/18)
...وسئل عن سر النفس؟ فقال: النفس سر، ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلا على فرعون؟ ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولها سبع حجب سماوية، وسبع حجب أرضية، فكلما يدفن العبد نفسه أرضاً أرضاً، سما قلبه سماءً سماءً، فإذا دفنت النفس تحت الثرى، وصلت بالقلب إلى العرش(1).
- السؤال: أليس هذا تكذيباً لآيات القرآن الكريم؟؟ وماذا بقي من الإسلام؟ يا ناس أجيبونا. ورغم ذلك يقولون: إن علومهم مؤيدة بالقرآن والسنة! فجورٌ عجيب والله!
* يستطيع أن يحرق العرش والكرسي:-
قال الطوسي في اللمع (الكتاب الأم):
...حُكي عن الشبلي أنه أخذ من يد إنسان كسرة خبز فأكلها، ثم قال: إن نفسي هذه تطلب مني كسرة خبز، ولو التفت سري إلى العرش والكرسي لاحترق. أو كما قال(2).
- النقش على هذا الفقش: شر البلية شيئان:
أولاً: ما يضحك. ثانياً: عبارة (أو كما قال)!
ويقول الطوسي أيضاً:
...شهدوا على أبي الحسين النوري أنه سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت! وسمع نباح كلب، فقال: لبيك وسعديك(3)...
* ملحوظة:-
مر مثل هذا الضلال في مكان سابق، ولن تعدم زنديقاً أو جاهلاً يقول لك: هذا له تأويل.
وقال أيضاً:
سمعت أبا عبد الله بن جابان يقول: دخلت على الشبلي في سنة القحط، فسلمت عليه، فلما قمتُ على أن أخرج من عنده، فكان يقول لي ولمن معي، إلى أن خرجنا من الدار: مرُّوا، أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي. قلت: أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيثما كنتم وهو يرعاكم ويكلؤكم وأنتم في رعايته وكلاءته.
__________
(1) اللمع، (ص:299)، والإحياء: (4/61). والرسالة القشيرية، (ص:5)، مع اختلاف الألفاظ، وأيضاً إحياء علوم الدين: (3/243).
(2) اللمع، (ص:479).
(3) اللمع، (ص:492).(79/19)
فالمعنى في ذلك أنه يرى نفسه مَحْقاً فيما غلب على قلبه من تجريد التوحيد وحقيقة التفريد. والواجد إذا كان وقته كذلك، فإذا قال: أنا، يعبر عن وجده، وعن الحال الذي قد استولى على سره(1)...إلخ.
- ولا تعليق، ولا نقش ولافقش، حتى ولا رقص، لا مع النقص ولا بدون نقص.
لكن ما أكثر الزنادقة والجهلة، الذين يقولون: هذا له تأويل أو هذا مدسوس، ونقول لهم: إنه غير مدسوس، ومعناه أنه كان في ذلك الوقت متحققاً بالألوهية، فقال كلامه ذلك بصفته أنه الله (جل وعلا).
* بالِمْ سلطان:-
.. باليم سلطان، أي: سلطان العسل (توفي سنة 922 هـ) وهو مجدد البكتاشية، وأمه أميرة مسيحية بلغارية، وأبو بكتاشي هو مرسل بابا، وقد حملت منه بأن تناولت الأميرة عسلاً، تناولته من يد الشيخ مرسل بابا، ولذلك سمي باليم سلطان(2).
- نقش على هذا الفقش: الذين يدعون الألوهية ليس بكثير عليهم أن يدعوا لأنفسهم ولادة كولادة المسيح. أما سبب الحمل فعلمه عند الله.
وللتذكير: البكتاشيون الآن، يحلون الخمور، ويعترفون بخطاياهم للشيخ فيغفر لهم، وأشياء أخرى.
* يسجدون للشيخ (ولا تعترض):-
نعمة الله(3)، الولي العلوي الحلبي...استقر في ماهان من كرمان. كان مريدوه يسجدون له، ويرون أنه المعني بالآية: ((يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) [النحل:83](4). (انتهى). (هس س س س س، لا تعترض).
* عبادة من نوع عجيب:-
يقول عبد الكريم القشيري:
__________
(1) اللمع، (ص:478).
(2) الفكر الشيعي والنزعة الصوفية، (فصل البكتاشية).
(3) من أتباع ابن عربي، مؤسس الطريقة النعمتللاهية، أوسع الطرق انتشاراً في إيران.
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:119).(79/20)
قال بعضهم: وُصِف لي ذاكرٌ في أجمة، فأتيته، فبينما هو جالس، إذا سبع عظيم ضربه واستلب منه قطعة (أي: قطعة من لحمه)، فغشي عليه وعليَّ، فلما أفاق قلت: ما هذا؟ فقال: قيض الله هذا السبع عَلَيَّ، فكلما دخلتني فترة عضني عضة كما رأيت(1).
1- هذا الذاكر هو أحد رجلين:
أ- إما أنه أهدى من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمداً لم يأت بمثل هذا الذكر ولا مثل هذه العبادة، ولا عرفها أصحابه.
ب- أو أنه سائر في إحدى متاهات الضلال البعيد..
2- ما هي نتائج العضات وقطع اللحم التي كان السبع ينهشها من جسمه؟
3- ما أكثر الزنادقة والمغفلين الذين يقولون: إن هذا مدسوس، فنجيبهم: ألا لعنة الله على الكاذبين.
* الصوفية يحاربون الشريعة والعلم:-
يقول ابن عجيبة:
...وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: الجلوس مع العارفين أفضل من العزلة، والعزلة أفضل من الجلوس مع العوام، والجلوس مع العوام أفضل من الجلوس مع المتفقرة الجاهلين، قلت (القائل هو ابن عجيبة): والجلوس مع علماء الظاهر أقبح في حق الفقير من جميع ما تقدم، والله ما رأيت فقيراً صحبهم فأفلح في طريق القوم أبداً، فلا قاطع أعظم منهم(2)...
- من أمثال هذه النصوص ندرك سبب بعد المسلمين عن إسلامهم، وسبب جهلهم به، وبالتالي سبب انحدارهم إلى مستوى الجهل والذل الذي يتخبطون فيه.
- لكن.. هل تفرد ابن عجيبة في هذا التوجيه؟
- الجواب: لا، فهو يسير في طريق القوم، وقد مرت أمثلة، وهذه أخرى: يقول شهاب الدين السهروردي البغدادي (إمام الوجود).
...قال أبو سليمان الداراني: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا، من طلب معاشاً أو تزوج امرأة أو كتب الحديث(3)!!
ويقول الغزالي (حجة الإسلام) (داعياً للجهل والتنبلة):
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:103).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:330).
(3) عوارف المعارف على هامش الإحياء: (2/165).(79/21)
...وقال الجنيد رحمه الله: أحب للمريد المبتدئ ألا يشغل قلبه بثلاث، وإلا تغير حاله، التكسب وطلب الحديث والتزوج. وقال (أي: الجنيد): أحب للصوفي ألا يكتب ولا يقرأ؛ لأنه أجمع لهمه(1)...
ويقول الطوسي في اللمع (داعياً للجهل):
...وقال بعضهم: إذا رأيت الفقير قد انحط من الحقيقة إلى العلم، فاعلم أنه قد فسخ عزمه وحل عقده(2)...
وقال أيضاً (داعياً للجهل):
قال الجنيد: إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه(3).
وقال أيضاً (من مقام التوكل):
سمعت أحمد بن علي الوجيهي يقول: سمعت بعض المشايخ يقول: حج حسن القزاز الدينوري رحمه الله اثنتي عشرة حجة حافياً، مكشوف الرأس، فكان إذا دخل في رجله الشوك يمسح رجله بالأرض ويمشي ولا يطأطئ رأسه إلى الأرض من صحة توكله(4).
- سؤال: صحة توكله هذه من أين جاء بها؟ وما هو دليله عليها من قرآن أو سنة أو عمل صحابة؟؟ نعم، يمكن وجود الدليل في الهندوسية والبوذية.
* دعوة إلى الكسل:-
يقول أبو نصر الطوسي في اللمع (الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي):
وسمعت الذَّقِّي يقول: أقمت بمكة تسع سنين، وكنتُ اعتقدت ألا أصلي صلاتين في موضع واحد، فكان يمر بي من الجوع ما إذا رأيت جنازة أقول: ليتني كنت مكان هذا الميت، قال: وكان يقع في قلبي في الوقت: يا هذا أليست هذه الفاقة التي لك لا يعلم بها أحد غير الله، فكنت أشتغل بذلك، ويذهب عني ما أجد من الجوع(5).
* الملحوظات:-
1- هو آثم وليس مأجوراً؛ لأن الجوع والكسل والصيام الموصول ليس من تعاليم الإسلام.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/206).
(2) اللمع، (ص:233).
(3) اللمع، (ص:233).
(4) اللمع، (ص:223).
(5) اللمع، (ص:225، 226).(79/22)
2- هذه القصة وغيرها تدلنا على سبب انتشار (التنابل) في العالم الإسلامي حتى زمن قريب، حيث لم نزل نسمع بتنابل التكايا، مثل: (تنابل اصطنبول، وتنابل بغداد، وتنابل دمشق، وغيرهم من التنابل الذين كانوا منتشرين في التكايا المنتشرة في طول البلاد وعرضها).
3- كان اعتقد أنه لا يصلي صلاتين في موضع واحد! وماذا في هذا الاعتقاد من الفضل؟ وماذا لو صلى في أي مكان ييسره الله له؟ وهل هو مأجور على اعتقاده هذا؟ وهل؟ وهل؟....وماذا فعل بصلاة الجماعة؟!
* يزهدون في الدنيا والآخرة! فماذا يريدون؟:-
ويقول الطوسي أيضاً (من آداب الحج):
فإذا دفعوا مع الإمام إلى المزدلفة، فأدبهم أن يكون في قلوبهم العظمة والإجلال لله تعالى، فإذا دفعوا مع إمامهم جعلوا الدنيا والآخرة وراء ظهورهم(1)؟!
- الجواب على هذا الضلال نجده في آيات كثيرة، نكتفي بواحدة منها: ((اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ)) [العنكبوت:36].
إنه سبحانه يأمرنا أن نعبد الله ونرجو اليوم الآخر، فما بال علومهم اللدنية تأبى إلا أن تكون مخالفة للقرآن الكريم؟ وقد رأينا مثل هذا القول في النصوص السابقة، ولا بأس من الرجوع إليها لجلاء الذاكرة...ورغم كل ذلك، يقولون: إن علومهم مؤيدة بالقرآن والسنة!
* عودة إلى الجهل:-
يقول الطوسي نفسه في كتابه (اللمع) نفسه:
قال أبو يزيد البسطامي: صحبت أبا علي السندي، فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صرفاً(2).
- السؤال: لِمَ لَمْ يعلمه كشفه ما يقيم به فرضه؟ وما هو هذا التوحيد والحقائق مع كل هذا الجهل؟
* عودة إلى القمل:-
...سئل المرتعش النيسابوري رحمه الله عن الفقير فقال: الذي يأكله القمل ولا يكون له ظفر يحك به نفسه(3).
ولا تعليق، لكن القارئ يعلم الآن أن معنى كلمة (الفقير) أي: الولي الصوفي.
__________
(1) اللمع، (ص:228، 229).
(2) اللمع، (ص:235).
(3) اللمع، (ص:152).(79/23)
* تأديب النفس على طريقة الهندوس:-
يقول أبو نصر الطوسي عن أبي نصر الروذباري:
...وذكر عن ابن الكرَيني، وكان أستاذ الجنيد رحمه الله، أنه أصابته الجنابة ليلة من الليالي، وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة...فجاء إلى الشط ليلة، وكان برد شديد، فحرفت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد، قال: فطرح نفسه في الماء مع المرقعة، ولم يزل يغوص في الماء مع مرقعته ثم خرج من الماء، وقال: اعتقدت ألا أنزعها من بدني حتى تجف عليّ، قال: فلم تجف عليه شهراً كاملاً؛ وأراد بذلك تأديباً لنفسه؛ لأنها حرنت عند الائتمار لما أمر الله تعالى به(1).
- سؤالنا: ما هذا الدين الذي يدين به هؤلاء القوم؟ إنه ليس الإسلام على كل حال؟! وما هذه الغبائيات الجاهلة الحمقاء؟ لكن هذا وغيره يفسر لنا سبب انحطاط الأمة الإسلامية وضياعها التاريخي العجيب بعد تلك النهضة العجيبة.
ويقول الطوسي أيضاً:
وحكي عن إبراهيم بن شيبان أنه قال: كان أبو عبد الله المغربي رحمه الله يدخل البادية وعليه إزار ورداء أبيض، وفي رجله نعل طاق كأنه يمشي في السوق، فإذا دخل مكة وفرغ من الحج أحرم من تحت الميزاب، ويخرج من مكة، وهو محرم، ويقيم على إحرامه إلى أن يرجع إلى مكة(2).
- الجواب: كل العبادات باطلة إلا ما نزل به نص. فعبادته هذه باطلة وهو فيها بدعي آثم. ونرد عليه وعلى أمثاله من المبتدعين بالآية الكريمة ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) [الشورى:21].
ولعل القارئ الكريم عرف أن العبادة المبتدعة هنا هي إحرامه طيلة السنة عند خروجه من الحرم إلى بيته حتى عودته إلى الحرم، ولعل القارئ يرى التفاهة الفكرية والانحراف في العقيدة في مثل هذه البدع التي يخيل لهم شيطانهم أنها ولاية لله، وما هي إلا ولاية للشيطان.
* طريقان ينبت فيهما الذهب والفضة! أين هما؟:-
يقول الطوسي نفسه:
__________
(1) اللمع، (ص:198).
(2) اللمع، (ص:224).(79/24)
وحكي عن إبراهيم الخواص رحمه الله أنه قال: أعرف في البادية تسعة عشر طريقاً غير الطريق الذي يسلكه الناس والقوافل. طريقان منهما ينبت فيهما الذهب والفضة(1)!
- جوابنا مثل جواب سابق: ترلم ترلم ترلم.
ويقول القشيري في (الرسالة القشيرية) (وفي الإعادة إفادة):
...وقال الواسطي: ادعى فرعون الربوبية على الكشف، وادعت المعتزلة على الستر، تقول: ما شئت فعلت(2)...
- إذن ففرعون هو رب فعلاً؛ لأنه ادعى الربوبية على الكشف الذي هو نور اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين! فنسأل أهل الذكر: ما هو الكفر؟
ويقول القشيري أيضاً في رسالته:
...ولقد قيل للجنيد: العارف يزني يا أبا القاسم؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً(3).
- إذن فالزنا لا يضر شيئاً بالولاية، وطبعاً يحل للولي كل شيء.
ويقول نفسه:
...كان يقال للنصراباذي كثيراً: إن علياً القوال يشرب بالليل ويحضر مجلسك بالنهار؟ وكان لا يسمع فيه ما يقال، فاتفق أنه كان يمشي يوماً ومعه واحد ممن يذكر علياً بذلك، فوجد علياً مطروحاً في موضع وقد ظهر عليه أثر السكر وصار بحيث يغسل فمه، فقال الرجل: إلى كم نقول للشيخ ولا يسمع! هذا علي بالوصف الذي نقول، فنظر إليه النصراباذي وقال للعذول: احمله على رقبتك وانقله إلى منزله، فلم يجد بداً من طاعته فيه(4)...
* التعليق:
__________
(1) اللمع، (ص:224).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:5)، واللمع، (ص:299)، والإحياء: (4/61) مع اختلاف في الألفاظ.
(3) الرسالة القشيرية، (ص:160).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:105).(79/25)
لعلهم يرون أن الله سبحانه قد غلط عندما أنزل الحدود، وعندما قال: ((تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)) [البقرة:229]، وقال: ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [البقرة:229]، فجاء هؤلاء المكاشفون ليصلحوا غلطه! فألغوا حد شارب الخمر، وأكرموه! فعلوم الأولياء فوق علوم الأنبياء! ورغم ذلك يقولون: إن علومهم الكشفية لا تصادم النصوص القطعية، بل هي مؤيدة بها!
* تنبيه:
يفرض الإسلام على هؤلاء أن يقدموا السكير إلى القضاء ويشهدوا عليه بما رأوه، والقاضي هو الذي يقيم عليه الحد.
* عودة إلى الدعوة إلى الجهل:-
يقول القشيري (إياه) في رسالته (إياها) داعياً إلى الجهل:
...وقال الخضري: وأصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث، وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل(1).
ويقول أيضاً داعياً إلى الجهل:
قال الجنيد: التوحيد الذي انفرد له الصوفية هو إفراد القدم عن الحدث، والخروج عن الأوطان وقطع الصحاب وترك ما علم وجهل(2)...
ويقول أيضاً داعياً إلى الجهل:
وحكي عن أبي القاسم بن مروان النهاوندي قال: كنت أنا وأبو بكر الوراق مع أبي سعيد الخراز نمشي على ساحل البحر نحو صيدا، فرأى شخصاً من بعيد، فقال: اجلسوا. لا يخلو هذا الشخص أن يكون ولياً من أولياء الله، قال: فما لبثنا أن جاء شاب حسن الوجه وبيده ركوة ومعه محبرة وعليه مرقعة، فالتفت أبو سعيد إليه منكراً عليه لحمله المحبرة مع الركوة(3)...
* التعليق:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:135).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:136).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:167).(79/26)
إنكارهم على الناس حمل المحبرة (أي: الاشتغال بالعلم)، وطلبهم إليهم نسيان ما علم وما جهل هو جزء من رسالة التصوف التي ينشرونها في المجتمع الإسلامي، وهذا يفسر لنا سبب انحطاط الأمة الإسلامية إلى ما هي فيه من الجهل والبعد عن الإسلام وسبب كل ما تتخبط فيه مما يلمسه كل من فيه شيء من الإدراك.
- وفي قول الجنيد ملحوظة هامة جداً! هي قوله: (التوحيد الذي انفرد به الصوفية)، والذي يدل بوضوح واضح وصراحة صريحة وبيان مبين أن توحيدهم هو غير توحيد المسلمين، (إنهم انفردوا به). والإقرار أعلى الأدلة.
وأرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارة: (إفراد القدم عن الحدث)، ومثلها: (رفع الحدث وإفراد القدم).
- ومن الملحوظات الكثيرة التي يمكن تسجيلها على هذه النصوص نشير إلى واحدة هي قول الخراز عن الشخص: (لا يخلو أن يكون ولياً من أولياء الله) وقد ورد في ثنايا الكتاب بعض الآيات والأحاديث التي ترد على مثل هذا الافتراء على الله.
* عودة إلى نبذ الآخرة والزهد فيها:- يقول القشيري (إياه) في رسالته (إياها):
...وقيل: إن إبراهيم بن أدهم قال لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ فقال: نعم، فقال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة وفرغ نفسك لله تعالى(1)...
- الأجوبة كثيرة على من لا يريد الآخرة، منها قوله سبحانه: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [آل عمران:152]، فمن أي صنف هؤلاء القوم؟ وهم لا يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، ويقول سبحانه: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ)) [آل عمران:176]، وواضح أن هذا هو العقاب الشديد، وهؤلاء رفضوا حظ الآخرة سلفاً! فماذا بقي لهم؟
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:118).(79/27)
لعلهم يعلِّمون الله سبحانه ما لم يعلم؟! ويقول سبحانه: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]، وهؤلاء لا يريدون حرث الآخرة، ويقول سبحانه: ((كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ)) [المدثر:53]، وهؤلاء لا يخافون الآخرة ولا يرجونها...والآيات والأحاديث كثيرة. ثم يقولون- ويا لهول ما يقولون، ويا للفجور والكيد والمكر فيما يقولون-: إن علومهم وكشوفهم لا تصادم النصوص القطعية؟! وكلها مؤيدة بالقرآن والسنة.
* يحرفون الكلم من بعد مواضعه:-
يقول القشيري في رسالته التي يدرسها علماؤهم في مساجد المسلمين الغافلين:
...وكذا أصحاب الحقائق يكونوا محواً عن نعوت الخلائق، قال الله تعالى: ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)) [الكهف:18](1)...
- لا جرم أن القارئ الكريم غدا الآن على معرفة تامة بمعنى العبارة: (محواً عن نعوت الخلائق)، ومع ذلك فلا بأس من شرحها؟ يقول: إن أصحاب الحقائق، أي: الذين عرفوا الحقيقة وتحققوا بها، يكونون قد انمحت عنهم صفات الخلق، لقيامهم بصفات الحق، فظاهرهم مخلوقات؛ ولكن حقيقتهم هي الألوهية بنعوتها وصفاتها. ويجعل الآية الكريمة: ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)) [الكهف:18] مشيرة إلى ضلالهم هذا. وهذه صورة من تحريفهم لمعاني الآيات الكريمة. ثم يقولون: إن علومهم وكشوفهم مؤيدة بالقرآن والسنة؟!
* ومن الولاية الصياح وتمزيق الثياب واللطم والرقص:-
يقول القشيري في رسالته:
...وقيل: السماع فيه نصيب لكل عضو، فما يقع إلى العين تبكي، وما يقع إلى اللسان يصيح، وما يقع إلى اليد تمزق الثياب وتلطم، وما يقع إلى الرجل ترقص(2)...
- ولا تعليق، ولكن هذا يذكرنا بأشياء؟ منها: (نحلة إلوسيس)، وكهانة الهندوس.
* ويكذبون على رسل الله وعلى الله تعالى:-
ويقول القشيري:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:118).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:157).(79/28)
...وقال خير النساج: قص موسى بن عمران صلوات الله عليه على قوم قصة، فزعق واحد منهم، فانتهره موسى، فأوحى الله إليه: يا موسى! بطيبي فاحوا، وبحبي باحوا، وبوجدي صاحوا، فلم تنكر على عبادي(1).
- السؤال: من أين عرفوا هذا الافتراء؟ والجواب: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)) [الصف:7]، ((انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50]...ثم إن الكذب على رسل الله هو من الأسباب الرئيسية التي جعلت الأقوام يخرجون من دين الله.
* لا صوفية دون محاربة العلم:-
ويقول القشيري (إياه):
سمعت منصوراً المغربي يقول: رأى بعضهم الخضر عليه السلام، فقال له: هل رأيت فوقك أحداً؟ فقال: نعم، كان عبد الرزاق بن همام يروي الأحاديث بالمدينة والناس حوله يستمعون، فرأيت شاباً بالبعد منهم، رأسه على ركبتيه، فقلت: هذا عبد الرزاق يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلِمَ لا تسمع منه؟ فقال: إنه يروي عن ميت، وأنا لست بغائب عن الله عز وجل، فقلت له: إن كنت كما تقول فمن أنا؟ فرفع رأسه وقال: أنت أخي أبو العباس الخضر. فعلمت أن لله عباداً لم أعرفهم(2).
- الجواب:
1- الخضر توفي في زمنه، وكذب الذين يقولون: إنه حي، وضلوا وهم جاهلون.
2- هذا الذي يتراءى لهم هو شيطان، يضحك على ذقونهم، أو هو في غالب الأحيان صورة كشفية يراها العارف الكامل الذي وصل إلى مقام لا يميز فيه بين الكشف والواقع في أحيان كثيرة.
3- عبد الرزاق بن همام لم يحدث بالمدينة، وإنما حدث باليمن، فكشفهم جاهل.
4- من رسالتهم في الحياة محاربة العلم باسم العلم اللدني، الذي يقولون فيه: حدثني قلبي عن ربي! وهذه الجهالات والضلالات التي بين أيدينا هي نماذج من علومهم اللدنية.
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:157).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:166).(79/29)
5- هذا بعض من كثير مما يدل على أن التصوف هو الذي دفع الأمة الإسلامية إلى حضيض الجهل الذي مرت به، وإلى الفساد الذي لا تزال تتخبط فيه.
* عودة إلى الكذب على رسل الله عليهم السلام:-
يقول القشيري:
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: لما قال إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. قال: يا أبت هذا جزاء من نام عن حبيبه، ولو لم تنم لما أمرت بذبح الولد(1)... (وهكذا الكذب وإلا فلا).
* وكذب على محمد صلى الله عليه وسلم:-
يقول القشيري أيضاً:
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى بن مريم عليه السلام: لو ازداد يقيناً لمشى في الهواء، قال رحمه الله تعالى: إنه أشار بهذا إلى حال نفسه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، لأن في (لطائف المعراج) أنه قال: {رأيت البراق قد بقي ومشيت}(2).
- الجواب: قال صلى الله عليه وسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.
* يرغبون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
ويقول القشيري أيضاً:
...وحكي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن، فسألته عن حاله فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي لي كذلك تهواني، فاتفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلنا: تعالي حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا، فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا لصاحبه، فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك؟ فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الصفة كل ليلة، أليس كذلك يا فلانة؟ فقالت العجوز: كما يقول الشيخ(3).
الجواب على هذه القصة: يقول صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني}.
* وكذب على رسل الله:-
يقول القشيري إياه:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:176).
(2) الرسالة القشيرية، (ص:84).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:82).(79/30)
...وقيل: إن داوُد عليه السلام كان يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إذا قرأ الزبور، وكان يُحمل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات ممن سمعوا قراءته(1).
- ماذا يمكن أن يقال عن مثل هذا المقال؟ هل يقال: يا سلام، أم يا حرام، أم يا كذب، أم يا غباء، أم يا ضلال؟! يُحمل من مجلسه أربعمائة جنازة كلما قرأ؟! ثم يتساءلون: ما سبب فساد المسلمين؟
- وللعلم: الرسالة القشيرية تدرس في مساجد البلاد الإسلامية! وينصح شيوخهم وعلماؤهم بقراءتها! على أنها - والحق يقال- من الكتب المشجعة على السير في طريق الكهانة، هي والكتاب الذي سمي- زوراً وبهتاناً- (إحياء علوم الدين)، وما هو إلا إحياء علوم الكهانة، وكذلك النقم الضلالية الكفرية التي سموها (الحكم العطائية)، وبقية كتبهم.
* مشاهد مرسلة (والكلام منقول بدقة):-
حدث الشيخ (ع) فكان مما حدث:
...ثم دخلت الزاوية...فقابلتني أمي فاطمة الزهراء، فطلبت منها الإذن بأن تسمح لي بتقبيل قدميها، فسمحت، فقبلتهما، ثم قبلت كفيها، ثم خديها، ثم جبينها ورأسها، ثم رضعت من بزَّيْها حتى رويت، ثم أخذت أقبلها، ثم تركتها، فقالت: ما لك؟ قَبِّل. قلت: إني أخاف من أبيك يزعل عليَّ، فقالت: إن أبي لا يزعل عليك، إنه يحبك كثيراً جداً، قبِّل، فعدت أقبلها لما علمت أنها أمي حقيقةً، فمن هذا المقام علمت أن جدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي فاطمة، وأن أبي علي المرتضى...اهـ. (الرجاء ملحوظة قناعته أن الكشف أمر واقع).
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:153).(79/31)
وقال: حصل لي في الخلوة بواسطة شيخي، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، حيث إن الله تعالى أجلسني بين يديه وقال لي: تمن عليَّ ما تريد...فقلت له: لا أريد شيئاً إلا أنت. فقال لي: إذن اذهب إلى الجنة، فأي قصر أعجبك أو أي شيء أعطيكه. فقلت: الله، يا رب لا أريد شيئاً إلا أنت...ثم حضر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن جلس عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى لي: افْنَ به، ففنيت به فوراً، ثم قال لسيدنا محمد: افن باسمي (اللطيف)، ففني عليه الصلاة والسلام به، ثم فني اسمه اللطيف في اسمه (الله)، ثم فني اسمه (الله) في ذاته العلية المقدسة؛ ثم قال الله تعالى لي: إن حظك عظيم...اهـ. (سؤال للقارئ: هل تستطيع معرفة اسم الشيخ من هذه النصوص؟).
وحصل لي فتح آخر:
حيث اصطفاني الله تعالى، حيث قال لي: أنت يا (ع) حبيبي، إني اصطفيتك من أصفى أصفيائي، فمقامك الآن في سويداء قلبي، فحمدت الله تعالى وشكرته وأثنيت عليه الثناء الجميل.
وفضيلة عظيمة حصلتُ عليها:
...فتح الله تعالى علي، ثم صعدت إلى السماء السابعة، وأنا مواظب على الذكر، فأهدى لي ربي اسمه الأعظم، فقلت له: ابن لي هنا قصراً عظيماً، فبنى لي قصراً عظيماً، فقلت له: ضع عليه كرسي الربوبية، فوضع عليه كرسي الربوبية، فقالت الملائكة: اجلس، فقلت لهم: حاشا لله تعالى، إن هذا لله وحده؟ فأخذت الملائكة تردد أخلاقاً محمدية، أخلاقاً محمدية، فقلت: الحمد لله رب العالمين.
وفي يوم من أيام رمضان المبارك:
كنت أصلي الضحى، تجلى الله تعالى علي وأخذ يحدثني حديثاً قلبياً ألذ من كل لذيذ، قال: أعلمك يا (ع) أنك الآن صرت عبداً خالصاً مخلصاً مقدساً لسويداء قلبي، ليس لك عنه بواح...وأنا أساعدك بكل ما تحتاج إليه من علم وحكمة وقدرة وجميع ما يلزم...وأذكُر لما كان ربي جل جلاله متجلياً علي قبلت فمه المقدس تقبيلاً لله محبة وشوقاً ولذة فوق وصف الواصفين، له الحمد.
وفي عام (1402هـ) في ليلة (يعينها):(79/32)
ذكرت الله كثيراً حتى صار كل شيء نوراً، وقد ذبت وسحقت في الله، بل صرت الله بجميع ذاته وصفاته وأسمائه، وبقيت تقريب الساعتين، والعالمين في بهجة وسرور وطبل وزمر وموسيقى وأذكار وأناشيد وصلوات على النبي، ثم انتهت وأنا في غاية السرور حامداً وشاكراً.
وحديث آخر يحدث به شيخ آخر (الشيخ م) يقول:
رأيت مناماً، أن أصابعي هم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الكفوف (جمع كف) وما فوق هي الله تعالى. وإن الذين لا يؤمنون بذلك، بل يكذِّبون، هم كالبصقة تغلبني، لكني أبصقها في النهاية، وما بقي منها أبلعه، فيذهب ويمتزج مع الغائط ويخرج إلى حيث...اهـ.
- هاذان القطبان غير مثقفين، ولم يتقنا المكر أو لم يتعلماه، فقالا ما رأيا بصدق وبراءة، دون تهذيب ولا تنميق! لذلك ظهرت هلوسات الغرور المرهَق بالذكر الإرهاقي، والموجه بالقناعات والطموحات المسبقة، ظهرت واضحة في رؤاهما وأقوالهما، أما غيرهما من المثقفين والأدباء، فإنهم يحذفون ما لا يحسن إظهاره، أو يكتمونه أو يزوّرون فيه بالرمز واللغز، حتى يظهر مقبولاً بعض الشيء، ومع ذلك؟ فمن المتعذر أن تنقلب الزندقة إيماناً مهما أُلبست من تأويلات وتزويرات.
* دعوة إلى الجهل والفسوق:-
يقول سيدي محمد وفا (قطب غوث):
وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا ……فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر
فصاحب هذا الوصف يقال له في اصطلاح القوم: (في حضرة الإطلاق)، ويقال له: من الأحرار، لكونه مطلوقاً من طبائعه ومن كل ما سوى مولاه...وتارة تضاف حضرة الإطلاق إلى الله تعالى(1)...
- إذن، وكما يقرر هذا الغوث، بل كلهم يقررون أن السالك عندما يصل في الجذبة إلى الفناء يغدو ذا علم لا جهل فيه وإن كان أجهل الجهلاء ويغدو فعله، مهما كان فعله، لا وزر فيه (ولو جمع كل الأوزار).
وهذا مما يفسر لنا سبب الجهل والفساد الخلقي الذي تتخبط فيه الأمة الإسلامية.
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:81).(79/33)
* النهي عن العلم شعار يلتزمونه:-
ويقول محمد محمد أبو خليل:
...وكان شيخنا (الغوث محمد أبو خليل) رضي الله عنه ينهانا عن قراءة الكتب، ويقول: من اجتهد في عبادة الله، نور الله بصيرته، وعرف ما في الكتب وما ليس في الكتب بطريق الإلهام والكشف(1)..
الجواب:
1- رأينا علومهم وكشوفهم ومعارفهم، ورأينا ما فيها من جهل وتفاهة وهذيان وهلوسات تحشيشية.
2- كل هذا يفسر لنا سبب انحطاط المسلمين، وسبب ترديهم فيما يتخبطون فيه من جهل وفساد.
3- صدق الله سبحانه: ((اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)) [العلق:3، 4]، وكذبوا وضلوا؛ لأن الله سبحانه علم بالقلم، ولم يعلم بالكشف ولا بالعلم اللدني ولا بالفتوح ولا بالتحشيش ولا بالأَفْيَنَة ولا بأي مهلس من المهلسات.
* حكم عربية حاتمية أكبرية:-
...وقال بعضهم: إنما يتوكل عليه من يرى غيره. وقال بعضهم: عجبت لمن عرف الله كيف أطاعه. وقال بعضهم: لا تغتروا بدخول إبليس النار، فإنه تعالى يقول: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ)) [ص:85].
وقال بعضهم: رجال الله كالسراب.
وقال بعضهم:
الشرع أمانة والحقيقة أمن. وقال بعضهم: لا يصام إلا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (أي: الذي كان في أول البعثة). وقال بعضهم: رسل الله الله.
وقال بعضهم: المطيع يسيء الظن بربه، والعاصي يحسن الظن بربه. وقال بعضهم: المحجوب من اتسعت معارفه، والعالي من قلت معارفه. وقال بعضهم: العلم للخلق والحقيقة للحق(2).
* الملحوظة:-
الكلام واضح الضلال، لكن الدعوة إلى الجهل أوضح، وأوضح منه الدعوة إلى التحلل من الدين.
* من التفسير الصوفي:-
__________
(1) المربي، (ص:417).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الأعلام، (ص:7).(79/34)
يقول ابن عربي، الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، من تفسيره لسورة الروم: ((الم. غُلِبَتِ الرُّومُ)) [الروم:1،2]: الذات الأحدية مع صفتي العلم والمبدئية، كما ذكر أن روم القوى الروحانية تكون مغلوبة في أقرب موضع من أرض النفس، الذي هو الصدر؛ لأن فيض المبدأ يوجب إظهار الخلق واحتجاب الحق به، فكل ما كان أقرب إلى الحق، كان مغلوباً بالذي هو هو أقرب إلى الخلق...
((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ)) [الروم:8]: سماوات الغيوب السبعة وأرض البدن وما بينهما من القوى الطبيعية والملكوت الأرضية والروحانية، والملكوت السماوية والصفات، والأخلاق وغيرها، إلا بالحكمة والعدل وظهور الحق في مظاهرهم بالصفات على حسب استعداد قبولها لتجليه...((وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) [الروم:8]: لاحتجابهم عنه، فيتوهمون أنه لا يكون إلا بالمقابلة الصورية في عالم آخر، باندراج الهوية في الهوية...
((اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)) [الروم:11]: بإظهار الفرس على الروم، ((ثُمَّ يُعِيدُهُ)) [الروم:11]: بإظهار الروم على الفرس، ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [الروم:11]: بالفناء فيه، ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) [الروم:12]: بوقوع القيامة الصغرى، ((يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)) [الروم:12]: عن رحمة الله...أو القيامة الكبرى بظهور المهدي عم، وقهرهم تحت سطوته وحرمانهم من رحمته...((فَسُبْحَانَ اللَّهِ)) [الروم:17]: أن يكون غيره في الوجود والصفة والفعل والتأثير، ((حِينَ تُمْسُونَ)) [الروم:17]: بغلبة ظلمة الفرس على نور الروم، ((وَحِينَ تُصْبِحُونَ)) [الروم:17]: عند ظهور نورهم على ظلمة الفرس، ((وَلَهُ الْحَمْدُ)) [الروم:18]: بظهور صفات كماله وتجليات جماله في سماوات الغيوب السبعة وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات...(79/35)
- يجعل ابن عربي كلمة (الروم) تشير إلى نور الروحانيات (ويعني بها: استشعار الجمع)، كما يجعل كلمة (الفرس) تشير إلى ظلمة النفسانيات (ويعني بها استشعار الفرق).
وللقارئ أن يناقش هذا التفسير حسب مقتضيات اللغة وأصول التفسير وكليات العقيدة الإسلامية وجزئياتها. كما عليه أن يعرف أن تفسير ابن عربي هو كتاب مقدس عند الصوفية، وكله يجري على هذا النمط.
* كشفهم لا يساعدهم:-
قال الشريف حسن (أخو أحمد البدوي، وكانوا يقيمون في مكة):
فأقمت أنا وإخوتي، وكان أحمد أصغرنا سناً وأشجعنا قلباً، وكان من كثرة ما يتلثم لقبناه بالبدوي...ثم إنه في شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة رأى في منامه ثلاث مرات قائلاً يقول له: قم واطلب مطلع الشمس، فإذا وصلت إلى مطلع الشمس فاطلب مغرب الشمس وسر إلى طندتا (طنطا) فإن بها مقامك أيها الفتى! فقام من منامه، وشاور أهله وسافر إلى العراق، فتلقاه أشياخها، منهم سيدي عبد القادر وسيدي أحمد بن الرفاعي، فقالا: يا أحمد، مفاتيح العراق والهند واليمن والروم والمشرق والمغرب بأيدينا فاختر أي مفتاح شئت منها، فقال لهما سيدي أحمد رضي الله عنه: لا حاجة لي بمفاتيحكما، ما آخذ المفتاح إلا من الفتاح. قال سيدي حسن: فلما فرغ سيدي أحمد من زيارة أضرحة أولياء العراق كالشيخ عدي بن مسافر والحلاج وأضرابهما، وخرجنا قاصدين إلى ناحية طندتا(1)...
* الملحوظات:-
1- كان مقيماً في مكة، والعراق بالنسبة لمكة ليس مطلعاً للشمس.
2- عندما ولد أحمد البدوي كان عبد القادر وأحمد بن الرفاعي قد شبعا موتاً من زمان، فكيف استقبلاه؟ طبعاً، إنه رأى ذلك بالكشف، وهؤلاء الكمل يتساوى في إحساسهم الكشف مع الواقع، وفي كثير من الأحيان لا يستطيعون التمييز بينهما.
3- أما مفاتيح المشرق والمغرب ووثنية القبور فنشكوها إلى الله سبحانه.
* بدون عنوان (لعلها من مقام النفس الراضية):-
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/183).(79/36)
(أحمد المدعو حمدة) المجذوب الصاحي، له كشف لا يكاد يخطئ...قال المناوي (شارح الجامع الصغير): أخبرني الولد (أي: ولده سيدي زين العابدين الولي الكبير): ما تلبست بحال إلا كاشفني به وهو مقيم عند بعض النساء البغيات بباب الفتوح...(1).
- ويتساءلون: ما سبب فساد الأمة الإسلامية؟ ونتساءل: لم حرم الله الزنا؟ وفَرَض حد الزاني والزانية؟
* وبدون عنوان كذلك:-
مما يورده يوسف النبهاني:
...وقال العارف النابلسي (عبد الغني) في شرح الطريقة المحمدية: قال القسطلاني: وأخبرني شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف أنه كان يقرأ خمس عشرة ختمة في اليوم والليلة(2)...
- وكذلك لا تعليق، لكنها على كل حال أهون من ثلاثمائة وستين ألف ختمة!
* عودة إلى الجيلاني (قطب الأولياء):-
يقول: ...تدري كم عنده (أي: عند الله) من الطاعات والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار(3)...
- إذن، وحسب تقرير الجيلاني، الله سبحانه لا يعبأ بالطاعات (ويجب أن ننتبه إلى أن الطاعات هي الشريعة الإسلامية وما فيها من عبادات وأخلاق ومعاملات)، ويقرر أن الله لا يريد إلا البلاهة الصوفية والعته الذي يقودهم إلى الجذبة ثم إلى شهود وحدة الوجود (صاف من الأقدار والأغيار).
أوَليس هذا التقرير هو افتراء على الله الكذب، وهو ضلال موغل في الضلال.
لكن، أيها القارئ الكريم، إنك لن تعدم مخادعاً أو مغفلاً يقول لك: هذا الكلام له تأويل! فنقول له: التأويل ضلال وتضليل، وكذب وأحابيل، ومكر بالمسلمين لإخراجهم من النور إلى الظلمات. أو يقول لك: هذا مدسوس، فنجيبه:
أولاً: ألا لعنة الله على الكاذبين.
ثانياً: هذه هي عقيدة القوم ومشربهم والغاية التي يسعون إليها، فلماذا تكون مدسوسة؟ ومن يفكر يدسها؟
__________
(1) جامع الكرامات للنبهاني (1/555).
(2) جامع الكرامات: (1/411).
(3) الفتح الرباني، (ص:357).(79/37)
ثالثاً: إن كانت مدسوسة فلِمَ لا يحذفونها من كتبهم، وعلماؤهم وأبدالهم هم الذين يشرفون على طبع كتبهم.
* الجنة بالمجان (بالبلاش):-
(فائدة جليلة)، قال سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه: ذكر ليلة الجمعة مائةً من صلاة الفاتح لما أغلق، بعد نوم الناس، يكفر ذنوب أربعمائة سنة(1) اهـ.
- نص صلاة الفاتح لما أغلق: اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.
- تكملة: يظهر أن هذا الحكم قد نسخ، فقد ورد في كشف الحجاب:
...وإن المرة الواحدة منها فدية من النار، وإن من ذكرها مرة واحدة يغفر الله له ذنوبه ولو كانت في عمره مائة ألف سنة، وإن المرة الواحدة منها بأربعمائة غزوة كل غزوة بأربعمائة حجة. وإن ذاكرها يعطى ثواب كل ذاكر في الكون بأضعاف مضاعفة قل أو كثر. وإن المرة الواحدة منها تعدل ستمائة ألف صلاة من مطلق الصلوات من صلاة كل ملك وصلاة كل إنس وصلاة كل جان. وقال (أي: أحمد التجاني) -رضي الله عنه-: ما أعد الله تعالى لذاكر صلاة الفاتح لما أغلق من الفضل لا يحل لي ذكره، ولا يظهر إلا في الدار الآخرة(2).
- سؤال: ذكر كل ما ذكر من عظائم (صلاة الفاتح)، ومع ذلك يقول: إن هناك من الفضل ما لا يحل له ذكره! فما هو هذا الذي لا يحل ذكره؟ وهل هناك أكبر وأفظع مما ذكر؟ ونترك التعليق والمناقشة لكل من كان عنده ذرة من إيمان من ذرة من عقل مع ذرة من حياء.
* كرامة من جملة الكرامات وصوم أيضاً (من مقام المجاهدة):-
و.. (ومنهم أبو عبد الله بن خفيف)...وبقي في بدايته أربعين شهراً يفطر بكف باقلاء (أي: فول) حتى جف دمه، ويقرأ القرآن في كل ركعة، ويصلي كل يوم ألف ركعة، ودخل بغداد وبقي بها أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب(3)...
__________
(1) غاية الأماني، (ص:97).
(2) كشف الحجاب، (ص:375).
(3) حاشية العروسي: (2/6).(79/38)
- فلنتناس هنا- من أجل خاطرهم- حكم الشريعة الإسلامية على هذه البدع وما فيها من ورع هندوسي. ولننتبه فقط إلى أنه يصلي كل يوم ألف ركعة، ويقرأ في كل ركعة القرآن كله؟ أي: إنه يختم في اليوم ألف ختمة. ثم لنسكت شاكين إلى الله ما حل بهذه الأمة من هذه الطائفة.
يقول شاعرهم:
قلوب العارفين لها عيونٌ ……ترى ما لا يراه الناظرونا
هذا توضيح للرؤى الكشفية، فالمكاشف يرى أشياء لا وجود لها! يراها كما نرى الأشياء الموجودة أمام أعيننا، ويعزون ذلك إلى قوة في القلب يسمونها (السر)، ويقولون: إن السر بالنسبة للقلب كالروح بالنسبة للجسد، وطبعاً، هذا كله وهم في وهم، وفي فصل لاحق سنرى كيف تحدث الرؤى الكشفية، مع العلم أن مثلها تماماً يحدث لمن يتعاطى المخدرات التحشيشية الأفيونية وتلك الزمرة.
* كشوف يجهلها الواقع:-
قطب الغوث علي وفا كان يقول:
العلقة التي حول حبة القلب هي الحية المطوقة حول العرش من الملكوتي، والحية المطوقة بعين الحياة من الجبروتي، والحية المطوقة بقاف من الملكي، وكان رضي الله عنه يقول: البطن الأوسط من الدماغ المسمى بالدودة هو الذي قوته تنشئ حرير أهل الجنان...(1).
- إذن، فالقلب هو العرش؟ ولكن أين هي عين الحياة والحية التي تطوقها، وكذلك جبل قاف وحيته؟؟ لكن الكشف هو حق اليقين يرى ما لا يراه الناظرونا، وعندما يقول الكشف: إن هناك عين الحياة، وجبل قاف، و...، و...فيجب أن نصدقه؛ لأنه كشف! وكشف على من؟ على أولياء صديقين أقطاب أغواث.
فصدق أيها القارئ، وسلم تسلم، أما عقلك وبصرك وسمعك فادفنها في أي مكان يعينه الكشف، وحسبك الكشف، أما القرآن والسنة فيجب عرضهما على الكشف- كما يقول حجة الإسلام الإمام الهمام- فما وافق الكشف قرروه، وما خالف أولوه...
* من أحوال ومقامات (انتشار الحشيش في مصر) والإفطار في رمضان:-
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/34).(79/39)
ومنهم سيدي الشريف المجذوب رضي الله تعالى عنه ورحمه؛ كان رضي الله عنه ساكناً تجاه المجانين بالمارستان المنصوري، وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق أعتقني ربي، وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال!!...وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش، فوجدوها يوماً حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار...(1) ترلم ترلم...
- يفطر في رمضان رضي الله عنه! ويبلع الحشيشة متظاهراً، رضي الله عنه!
السؤال البسيط: ما هي الفائدة الدينية والدنيوية والشرعية والعقلية والمنطقية والصبيانية والغوغائية والجنونية والغبائية والذكائية...و...؟ ما هي الفائدة، أية فائدة من التظاهر ببلع الحشيش؟ وهل يريد الله سبحانه من أوليائه أن يفطروا في رمضان ويتظاهروا بالخبائث؟! لكن ما شأننا نحن؟ فهؤلاء هم المقربون وكفى! ثم يتساءل المتسائلون: ما هو سبب فساد هذه الأمة؟ ويتساءلون: ما هو سبب انتشار الحشيش؟
* ولايته تجمده:-
ومنهم سيدي علي الدميري المجذوب رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه جالساً ليلاً ونهاراً على دكان بياع الرقاق تجاه حمام المارستان، وكان رضي الله عنه لا يتكلم إلا نادراً، وكان مكشوف الرأس ملفوفاً في بردة كلما تتقطع يبدلونها له بأخرى، أقام على هذه الحالة نحو عشرين سنة!! وكان كلما رآني تبسم، مات رضي الله عنه سنة خمس وعشرين وتسعمائه، ودفن بالمسجد الذي بقرب باب النصر اليشبكي، وقبره ظاهر يُزار رضي الله عنه(2)!!
- السؤال: ما هو قول القارئ بأمة تقدس المجانين ومرضى الأعصاب والحشاشين والأفيونيين؟!
* الصوفي يصور ما في الأرحام كيف يشاء:-
يقول عبد الله اليافعي (الغوث):
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/150).
(2) طبقات الشعراني: (2/150).(79/40)
...وروي عن بعض الأولياء الكبار أنه طلب منه بعض الناس أن يدعو له الله تعالى أن يرزقه ولداً ذكراً، فقال: إن أحببت ذلك فسلم للفقراء مائة دينار، فسلم إليه ذلك، ثم جاء بعد ذلك بمدة وقال له: يا سيد وعدتني بولد ذكر وما وضعت امرأتي إلا أنثى، فقال له الشيخ: الدنانير التي سلمتها ناقصة. قال يا سيدي! ما هي ناقصة إلا شيئاً يسيراً. فقال له الشيخ: ونحن أيضاً ما نقصناك إلا شيئاً يسيراً، فإن أحببت أن نوفي لك فأوف لنا. فقال: نعم يا سيدي، ثم ذهب وعاد إليه بتوفية ذلك النقصان، فقال له الشيخ: اذهب فقد أوفينا لك كما أوفيت، فرجع إلى منزله، فوجد غلاماً بقدرة الله تعالى وإكرامه لأوليائه عز وجل(1).
ويقول (مزهداً بالعلم):
ورُوي أن جماعة من أهل العلم قصدوا زيارة بعض الشيوخ، فلما أتوه وجدوه يَلْحَن في قراءته في الصلاة، فتغير اعتقادهم فيه، فلما ناموا تلك الليلة أجنبوا كلهم، فخرجوا ليغتسلوا في بركة ماء، فوضعوا ثيابهم ودخلوا في الماء، فجاء الأسد وجلس على ثيابهم، فلم يقدروا يخرجون، فلاقوا شدة من شدة البرد، فجاء الشيخ، وزجر الأسد، وقال له: ما قلت لك لا تتعرض لضيفاني، فبصبص وذهب، ثم قال لهم الشيخ: أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بإصلاح الباطن فخافنا الأسد(2).
* الملحوظة:
التزهيد بالعلم والدعوة إلى الجهل هي من الواجبات الأولى للمتصوفة.
* الكعبة تذهب لتطوف حولهم:-
ويقول اليافعي أيضاً:
...وأعظم من ذلك وأفضل طواف الكعبة المعظمة بكثير منهم، وكل ذلك مشهور مذكور بالأسانيد الصحيحات(3)...
* تعليق:
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:22).
(2) نشر المحاسن الغالية، (ص:31، 32).
(3) نشر المحاسن الغالية، (ص:33).(79/41)
قيل مرة (بل مرات كثيرة جداً): الحج هذه السنة هو حج أكبر؛ لأن الكعبة كانت، كل سنة، تأتي إلى شيخنا لتطوف حوله، أما هذه السنة فقد جاء الشيخ ليطوف هو حولها، فهنيئاً لحجاج هذا العام! وفي الحقيقة إنهم يرون هذا في أحلام الجذبة.
- ثم يتساءلون عن سبب فساد الأمة؟ وسيطرة الجهل والتفكير الضبابي والخرافي عليها، مما سبب لها هذا العقم القاتل، والضياع الذهولي في مسارح التمثيليات الإبليسية.
* من أقوال جلال الدين الرومي:-
من ناحية تبريز أشرقت شمس الحق، فقلت لها: نورك مقترن بالأشياء، وهو في الوقت نفسه مفارق لها. إن شمس محيا (شمس الدين) بهاء الأفق، لم تشرق يوماً على ما هو فانٍ إلا وهبته طبيعة البقاء(1)...
- يعني بشمس الحق أستاذه شمس الدين، ووحدة الوجود ظاهرة في النص.
* من التفسير الصوفي:-
يقول ابن عربي في (تفسيره): ((ق)) [ق:1]: إشارة إلى القلب المحمدي، الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل...
- والتعليق للقارئ، مع التنبيه إلى عقيدتهم في الحقيقة المحمدية.
* من تفسيرهم أيضاً:-
للشيخ الأكبر والكبريت الأحمر نفسه:
((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)) [القلم:1]: ((ن)) [القلم:1]: هو النفس الكلية، ((وَالْقَلَمِ)) [القلم:1]: هو العقل الكلي، والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها. والثاني (أي: القلم) من باب التشبيه...
- هذا تفسير يظهر ارتباط المتصوف بقناعاته المسبقة، وأن كشفه تابع لتلك القناعات.
* من كذبهم على الأنبياء:-
يقول الغزالي في (الإحياء):
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:73، 74).(79/42)
...وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل، فخطر بباله الخبز، فانقطع عن المناجاة، وإذا شيخ قد أظله، فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله، ادع الله تعالى لي فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز، فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر(1)...
* الملحوظات:
الكذب على رسول الله عيسى، وتعظيم أمر الجوع على الطريقة الهندوسية المحرمة في الإسلام، وذلك لتبرير رياضتهم الصوفية، ثم جَعْلُ الولي أفضل من النبي، حيث إن عيسى عليه السلام قصَّر عن شأو الولي!! وكل هذه الثلاثة هي من الكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* حِكَم بدون تعليق:-
يقول الغزالي في (إحيائه): ...ثانياً: أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع، من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيَّده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بُعْد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعَه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور من الشيطان، فيتباعد منه ويحترز عن مثله، ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم؛ فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة فكيف يكون حجاباً وهو منتهى الطلب(2)..
وأترك التعليق لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ لكن أرجو الانتباه إلى الدعوة إلى الجهل.
ويقول الطوسي:
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/72).
(2) الإحياء: (1/255).(79/43)
...قال أبو بكر الكتاني: قال أبو حمزة: دخلت على سري، فجاءني بفتيت، فأخذ يجعل نصفه في قدح، فقلت له: أيش هو ذا تعمل؟ أنا أشرب هذا كله في مرة. فضحك وقال: هذا أفضل لك من حجة(1).
- يا سلام! شرب الفتيت أفضل من حجة! نسأله: ما هو دليله؟ لعله الكشف؟ لا نعرف.
* نصوص يتسلى القارئ بتحليلها وفك رموزها (بهدوء):-
قيل لابن عطاء: ما يفعل الذكر بالسرائر؟ فقال: ذكر الله تعالى إذا ورد على السرائر بإشراقه أزال البشرية في الحقيقة برعوناتها(2).
وقال الشبلي: الأرواح تلطفت، فتعلقت عند لدغات الحقيقة، فلم تر معبوداً يستحق العبادة عن أن تتقرب إلى ذلك الشاهد بغير ذلك المشاهد، وأيقنت أن الحدث لا يدرك القديم بصفته المعلولة(3).
- تسهيلاً للتحليل: يعني بـ (صفته المعلولة) أي: صفته على أنه غير الله، التي هي صفة معلولة وليست صحيحة.
وقال الشبلي أيضاً: كل إشارة أشار الخلق بها إلى الحق، فهي مردودة عليهم، حتى يشيروا إلى الحق بالحق، ليس لهم إلى ذلك طريق(4).
وسئل الجنيد مرة عن الإخلاص، فقال: إخراج الخلق من معاملة الله تعالى، والنفس أول الخلق(5).
سئل الزقاق عن المريد، فقال: حقيقة المريد أن يشير إلى الله تعالى، فيجد الله مع نفس الإشارة(6).
...وقال قوم: السر سران: سر للحق، وهو ما أشرف عليه بلا واسطة؛ وسر للخلق، وهو ما أشرف عليه الحق بواسطة. وقال: سر من السر للسر، وهو حق لا يظهر إلا بحق، وما ظهر بخلق فليس بسر(7).
- لتيسير التحليل: كل العبارات السابقة تشير إلى وحدة الوجود، وكذلك اللاحقة.
* من رسالة من الجنيد إلى أحدهم (يأمره بالتقية وكتم السر والتظاهر بما عليه الناس):-
__________
(1) اللمع، (ص:242).
(2) اللمع، (ص:290).
(3) اللمع، (ص:293).
(4) اللمع، (ص:295).
(5) اللمع، (ص:290).
(6) اللمع، (ص:295).
(7) اللمع، (ص:303).(79/44)
...فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب الناس بما يعرفون، ودعهم مما لا يعرفون، فقلَّ مَن جهل شيئاً إلا عاداه...واخرجْ إلى الخلق من حالك بأحوالهم، وخاطبهم من قلبك على حسب مواضعهم(1)...
كتب أبو سعيد الخراز إلى أبي العباس أحمد بن عطاء: يا أبا العباس، تعرف لي رجلاً قد كملت طهارته، وبرئ من آثار نفسه عنه به له، موقوت مع الحق بالحق للحق، من حيث أوقفه الحق، حيث لا له ولا عليه، فالحق يعلله امتحان(2) له، وامتحان للخلق به؟ فإن عرفت لي هذا فدلني عليه(3).
وكتب الجنيد إلى أحدهم: آثرك الله يا أخي بالاصطفاء، وجمعك بالاحتواء، وخصك بعلم أهل النهى...وتمم لك ما تريد منك له، ثم أخلاك منك له ومنه له به، ليُفْرِدَك في تقلبه لك، بما يُشهدك، من حيث لا يَلْحقك شاهد من الشواهد يخرجك، فذلك: أول الأول الذي محا به رسوم ما ترادف مما غيَّبه به عنك بعلوِّ ما استأثر به منه له، ثم أفردك منك لك، في أول تفريد التجريد، وحقيقة كائن التفريد، فكذلك إذا انفرد بذلك أباد، وأفنى الإبادة ما سلف من الحق من الشاهد، بعد إفناء محاضر الخلق، فعند ذلك يقع حقيقة الحقيقة من الحق للحق، ومن ذلك: ما جرى بحقيقة علم الانتهاء إلى علم التوحيد على علم تفريد التجريد، فقد عززه الله وحجبه عن كثير ممن ينتحله ويدعيه، ويتحققه ويصطفيه(4).
وكتب الجنيد أيضاً: أكرمك بطاعته، وخصك بولايته، وجلَّلك بستره...وألزمك بابه، وكلفك خدمته، حتى تكون له موافقاً، ولكأس محبته ذائقاً، فيتصل العيش بالعيش، والحياة بالحياة، والروح بالروح، فتتم النعمة(5).
__________
(1) اللمع، (ص:312).
(2) يجب أن تكون: (امتحاناً له).
(3) اللمع، (ص:305).
(4) اللمع، (ص:313).
(5) اللمع، (ص:313).(79/45)
يقول أبو نصر الطوسي واصفاً أقوال الجنيد هذه: ...فيها إشارات لطيفة، ورموز خفية، تعبر عن الحقائق المشكلة، وتنبئ عن السرائر والخصوصية التي تفرد بها هذه العصابة في تجريد التوحيد، وحقيقة التفريد(1).
- انتبه إلى العبارة: (الخصوصية التي تفرد بها هذه العصابة في تجريد التوحيد وحقيقة التفريد.
ومن رسالة بعثها أبو سعيد بن الأعرابي لآخر: أماتك الله عنك، وأحياك به، وأيدك بالفهم، وفرغ قلبك من كل وهم، وأفناك بالقرب عن المسافة، وبالأنس عن الوحشة(2).
ومن رسالة لأبي سعيد الخراز بعثها إلى آخر: عصمك الله بذكره عن نفسك، وكاشفك بشكره عن وصفك...وأنا أسأل الله تعالى أن يجمع لك من نفسك ما فرق، ويبين عنك منها ما جمع، إنه الولي لذلك والقادر عليه(3).
* التنبيه:
من نظر في هذه النصوص فليتأمل، وليحاول فهمها بهدوء، وليرجع إلى النصوص السابقة في الكتاب وخاصة فصل (المدخل إلى فهم النصوص الصوفية).
* تعريف الكشف:-
يقول مصطفى بن محيي الدين نجا(4):
...والكشف لغةً رفع الحجاب، وفي اصطلاح أهل الحقيقة، هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجوداً وشهوداً، وليس هو كما يُكْشف الغطاءُ عن الآنية والستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن مستتراً بشيء، وإنما الإدراك كان قاصراً عن الوصول، فقواه الحق تعالى، فأدرك ما كان ظاهراً(5).
* كل المعبودات حق:-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر):
__________
(1) اللمع، (ص:314).
(2) اللمع، (ص:315).
(3) اللمع، (ص:315).
(4) من تلاميذ نور الدين اليشرطي.
(5) كشف الأسرار لتنوير الأفكار، (ص:125).(79/46)
...فمن عناية الله بنا، لما كان المطلوب من خلقنا عبادته، أن قرَّب علينا الطريق بأن خلقنا من الأرض التي أَمَرَنا أن نعبده فيها، ولما عبد منا من عبد غير الله، غار الله أن يُعبد في أرضه غيره، فقال: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:23]، أي حكم، فما عبد من عَبَد غير الله، إلا لهذا الحكم، فلم يُعبد غير الله وإن أخطئوا في النسبة، إذ كان لله في كل شيء وجه خاص، به ثبت ذلك الشيء، فما خرج أحد عن عبادة الله(1).
- إذن فالأوثان والأصنام وكل ما عبد من إنسان وشجر وقبر، كله هو الله. وقد مرَّ معنا في النصوص السابقة أمثلة كثيرة من نفس المعنى.
يقول الغزالي في الإحياء:
.. قال سهل: من طعن على التكسب فقد طعن على السنة، ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد(2).
- نقول: هذا اعتراف من القطب سهل (ابن عبد الله التستري) ومن الحجة الغزالي أن الصوفية ليست من الإسلام. إذ يجعل (بل يجعلان) التوحيد مخالفاً للسنة في التكسب. وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني}، إذن فهم ليسوا من رسول الله.
ويقول الغزالي أيضاً:
...قال أبو سعيد الخراز: دخلت البادية بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد، فسُررت بأن وصلت، ثم فكرت في نفسي أني سكنت واتكلت على غيره (أي: على غير الله)، وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أُحمل إليها! فحفرت لنفسي في الرمل حفرة وواريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعت صوتاً في نصف الليل عالياً: يا أهل المرحلة، إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه(3)..
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/248).
(2) الإحياء: (4/232).
(3) الإحياء: (4/233).(79/47)
- التعليق: هذا شيطان يضحك على ذقنه وذقونهم ليدفعهم إلى التوغل في الضلال والزندقة؛ لأن خروجه هكذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو من الهندوسية، وادعاؤه الولاية هو افتراء على الله الكذب ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
* الكذب على أنبياء الله ووصفهم بما لا يوصف به إلا المجانين:-
يقول الغزالي نفسه:(79/48)
...قال يحيى بن أبي كثير: بلغنا أن داوُد عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح، مكث قبل ذلك سبعاً لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم، أُخرج له المنبر إلى البرية، فأمر سليمانَ أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نوح داوُد على نفسه فليأت، قال: فتأتي الوحوش من البراري والآكام، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، وتأتي العذارى من خدورهن، وتجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داوُد حتى يرقى المنبر، ويحيط به بنو إسرائيل، وكل صنف على حدته، محيطون به، وسليمان عليه السلام قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه، فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار، فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة، وفي النياحة على نفسه، فيموت من كل نوع طائفة، فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه، مزقت المستمعين كل ممزق...ثم إذا أفاق داوُد، قام ووضع يده على رأسه، ودخل بيت عبادته، وأغلق بابه، ويقول: يا إله داوُد، أغضبان أنت على داوُد؟ ولا يزال يناجي ربه، فيأتي سليمان ويقعد على الباب، ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير، فيقول: يا أبتاه، تقو بهذا على ما تريد...
وقال يزيد الرقاشي: خرج داوُد ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم، فخرج في أربعين ألفاً، فمات منهم ثلاثون ألفاً، وما رجع إلا في عشرة آلاف. قال: وكان له جاريتان اتخذهما، حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب، قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت(1)...اهـ.
__________
(1) الإحياء: (4/158، 159).(79/49)
- أرجو من القارئ الكريم، رجاءً حاراً، أن يصدقني، وإن لم يصدقني فإني مستعد لتأدية اليمين، أن هذه القصص ليست من هذيانات صبي في أحلام اليقظة! وليست من ثرثرات حشاش تناول نصف رطل من الأفيون، وليست من خبالات مجنون في ثورة جنونه...وإنما هي دعوة غزالية إلى الأخلاق الغزالية، وإلى المقامات الصوفية، يقذف بها حجة الكهانة (وأقطابه السابقون واللاحقون)، يقذفون بها حمماً وسموماً ومخدرات، دمرت عقل المسلم وقتلت منطق المسلم وخدرت نفسية المسلم، وأوصلت المجتمعات الإسلامية إلى ما تتخبط فيه الآن من رؤى ضبابية لكل الأمور، في دينها ودنياها، حتى أصبح المسلمون ألعوبة بيد كهان الشيوعية يقذفونهم يميناً وشمالاً كما يتقاذفون الكرة بينهم، يقيمونهم ببعض الشعارات ويقعدونهم ببعض آخر.
وهذه القصص هي قبل كل شيء كذب على رسل الله. كما أنها تذكرنا بالتمثيليات الوثنية التي كان يمثلها الكهنة الوثنيون في أعيادهم الوثنية ليبعثوا بها في الأذهان الوثنية، صوراً وثنية، يتصورون أنها حدثت لآلهتهم الوثنية، في أزمنتها الوثنية الأولى. وهي أنموذج لما يسميه الغزالي (المنجيات)!!
* من مقامات الصبر، أو الجوع:-
...سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يذكر بإسناده أن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين لم يأكل ولم يشرب إلى أن مات(1).
- الجواب على هذا وأمثاله هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في (صحيح مسلم):
قال: {إن أحب الصيام إلى الله صيام داوُد...كان يصوم يوماً ويفطر يوماً}. وفي حديث آخر: {...ولا يفر إذا لاقى}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {لا صام من صام إلى الأبد، لا صام من صام إلى الأبد، لا صام من صام إلى الأبد}.
وقال: {...ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر...فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).(79/50)
هذه الأحاديث تخرج هذا (الولي) من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي تخرجه (وزمرته معه أيضاً) من الإسلام، ومع ذلك تدرَّس الرسالة القشيرية في مساجد المسلمين على أنها كتاب إسلامي، والمشتكى إلى الله.
* صورة من حالات الجذبة:-
يقول القشيري:
...دخل بعض الفقراء على أبي عقال، فقال له: سلام عليكم. فقال له أبو عقال: وعليكم السلام. فقال: أنا فلان. فقال أبو عقال: أنت فلان، كيف أنت وكيف حالك؟ وغاب عن حالته؛ قال هذا الرجل: فقلت له: سلام عليكم، فقال: وعليكم السلام. كأنه لم يرني قط! ففعلت مثل هذا غير مرة! فعلمت أن الرجل غائب فتركته وخرجت من عنده(1).
- هذه الصورة تساعد على فهم الحالة التي يكون فيها المجذوب أثناء جذبته، وهي تشبه تماماً حالة الحشاش أثناء تحشيشه.
* علم الصوفي، الشيخ، مثل علم الله تماماً:-
...وأما شيخنا سيدي علي الخواص، فسمعته يقول: لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة، من يوم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) [الأعراف:172]، إلى استقراره في الجنة أو في النار(2)...
- العجب العجاب، إن كشفهم يجهل مثلهم كل شيء، ولا يفهم مثلهم أي علم، ثم يدعون العلم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، وهي صورة من الإحساسات الخداعة، التي يحس بها المكاشف أثناء الجذبة، يحدث مثلها لمن يتعاطى المخدرات التحشيشية.
* محاربة العلم:-
يقول ابن عربي (الشيخ الأكبر):
لطيفة - من قال لك: لا تبرح من العلم، فقد قتلك بسيف الأبد.
إشارة - قالت طائفة: العلم حجاب. وذلك لأنه يعمر منك ما ينبغي أن تفرغه للرؤية (أي: لرؤية الله)، فلا تتعلم، أي: لا تقف مع العلم.
إشارة - العلم ليل لا صبح له، ومن قطع المفاوز في الظلمات وهو غير حِرِّيت، زاد تيهاً على تيه(3).
* المناقشة:
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:35).
(2) الكبريت الأحمر هامش اليواقيت والجواهر: (2/3).
(3) رسائل ابن عربي (كتاب التراجم)، (ص:58).(79/51)
الجهل ومحاربة العلم هي دعوة المتصوفة في كل زمان ومكان. وإذا عرفنا أن العارفين ألفٌ، وأن المتكلم واحد- كما يقول عبد القادر الجيلاني- عرفنا مدى الدور الرهيب الذي لعبته الصوفية في فساد الأمة الإسلامية وجهلها وانحطاطها وابتعادها عن الإسلام.
* ودائماً محاربة العلم:-
يقول ابن الملقن:
وروي عنه (محمد بن علي الكتاني) أنه قال: كنت وأبو سعيد الخراز وعباس بن المهتدي، وآخر لم يذكره، نسير بالشام على ساحل البحر، وإذا شاب يمشي ومعه محبرة، فظننا أنه من أصحاب الحديث، فتثاقلنا به، فقال أبو سعيد: يا فتى على أي طريق تسير؟ فقال: ليس أعرف إلا طريقين، طريق الخاصة، وطريق العامة، أما طريق العامة فهذا الذي أنتم عليه، وأما طريق الخاصة، فباسم الله، وتقدم إلى البحر، ومشى حيالنا على الماء، فلم نزل نراه حتى غاب(1).
- أما محاربة العلم في هذه القصة فظاهرة. وأما الشاب الذي مشى على الماء فهو أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أنه شيطان تراءى لهم ليزيدهم غلواً في ضلالهم. أو هو إنسان صوفي استحوذ عليه شيطانه واتخذه شركاً يوقع به الناس في الضلال أو يزيدهم به غلواً فيه.
* مقام! لعله من مقام المجاهدة:-
...سمعت أبا الطيب العكِّي يقول: ذكر لي أن سحنون كان جالساً على شاطئ الدجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه، حتى بان عظم فخذه وساقه، وتبدد لحمه، وهو يقول:
كان لي قلب أعيش به ……ضاع مني في تقلبه
رب فاردده عليّ فقد ……ضاق صدري في تطلبه
وأغث ما دام بي رمق ……يا غياث المستغيث به(2)
ويترك التعليق هنا لكل من يريد التعليق، مع التذكير بأن مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه مدة يصاب بمثل هذه الحالات.
* بدون عنوان:-
__________
(1) طبقات ابن الملقن، (ص:147).
(2) طبقات السلمي، (ص:197).(79/52)
عبد الله بن علوي ابن الأستاذ الأعظم(1)....من كراماته: أن رجلاً أنشد أبياتاً تتعلق بالبعث والحساب، فتواجد صاحب الترجمة وخر مغشياً عليه، فلما أفاق قال للرجل: أعد الأبيات. فقال الرجل: بشرط أن تضمن لي الجنة. فقال: ليس ذلك إلي، ولكن اطلب ما شئت من المال، فقال الرجل: ما أريد إلا الجنة، وإن حصل لنا شيء ما كرهنا؛ فدعا له بالجنة، فحسنت حالة الرجل وانتقل إلى رحمة الله، وشيعه السيد عبد الله المذكور، وحضر دفنه، وجلس عند قبره ساعة فتغير وجهه ثم ضحك واستبشر، فسئل عن ذلك، فقال: إن الرجل لما سأله الملكان عن ربه، قال: شيخي عبد الله باعلوي، فتعبت لذلك، فسألاه أيضاً، فأجاب بذلك، فقالا: مرحباً بك وبشيخك عبد الله باعلوي.
قال بعضهم: هكذا ينبغي أن يكون الشيخ، يحفظ مريده حتى بعد موته(2).
* الملحوظات على هذا الشرك وما يرافقه من هذيانات واضحة، لكن ألفت النظر فقط إلى دور شياطين الجن في المسرحية (هذا إن كان الشيخ صادقاً في قوله).
* من مقام الغوثية (التصرف في الكون):-
ومنهم الشيخ عبد الله، أحد أصحاب سيدي عمر النبتيتي.. كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أَلْبِسْ عبد الوهاب (الشعراني) طاقيتي هذه وقل له يتصرف في الكون، فما دونه مانع(3)...
- الجواب: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)) [الكهف:5]؛ لكن يجب ألا نظن أنه يكذب في ادعائه الرؤية، بل هو صادق رأى ما رأى بالكشف وفي اليقظة؟
* من تلاعبات الشياطين بعقولهم:-
__________
(1) مات سنة: (731هـ).
(2) جامع النبهاني: (2/244، 245).
(3) جامع النبهاني: (2/275).(79/53)
عبد الرحمن بن الأستاذ الأعظم... وكان لبعض الأولياء الأموات قنديل يسرج كل ليلة في مسجد بني علوي (في بلدة تريم في حضرموت)، فانكسر القنديل فتركوا تسريجه، وكان صاحبه لا يعرفه أحد، فرأى السيد عبد الرحمن المذكور صاحب القنديل (أي: الميت) وهو يقول: أنا صاحب القنديل وتركتمونا بلا سراج، فقال له: قنديلك انكسر، فقال: في هذا الثقب درهم، وأشار إلى ثقب في داره، فلما أصبح أتى تلك الدار، ورأى الثقب، وإذا فيه درهم، وجاء إلى بائع القناديل، فقال: لم يبق شيء، فقال السيد عبد الرحمن: انظروا وراء الزير فإن فيه قنديلاً؟ ونظر فإذا قنديل لم يكن رآه قبل ذلك(1).
* التعليق:
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتخذ السرج على القبور، فالمتخذون السرج على القبور هم من الملعونين ومن أولياء الشيطان، وليسوا من أولياء الرحمن، ودور شياطين الجن واضح في مثل هذه المسرحيات.
* فرعون صادق في ادعائه الربوبية وكل إنسان هو الرب:-
يقول حجة الإسلام الغزالي (وفي الإعادة إفادة):
...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]؛ ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال(2)...
* التعليق: مر هذا في مكان سابق، ونعيده لاختلاف اللفظ، مع الرجاء أن ينتبه القارئ إلى قوله: (ما من إنسان..).
يقول عبد الغني النابلسي معارضاً من قصيدة:
وما الكل إلا صورة مستحيلة ……كماء له موج وفيه فواقع(3)
- السؤال: ما معنى هذا البيت؟ وما هو بيت الشعر الذي يعارضه به؟ ولمن؟
ويقول عبد الغني نفسه من موشح:
كل شيء عقد جوهر ……حلية الحسن المهيب
ويقول:
هذه الأكوان أجمعها ……شمة من وردة الأزل
أرجو من القارئ الكريم أن يتسلى بتفسير هاذين البيتين.
* من (الصلاة الكبرى) لسيدنا عبد القادر الجيلاني:-
__________
(1) جامع النبهاني: (2/147).
(2) الإحياء: (3/243)، (4/61).
(3) الرمز الشعري عند الصوفية، (ص:247).(79/54)
...اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلاتك شيء، وارحم محمداً حتى لا يبقى من رحمتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء(1)...
- أرجو من القارئ أن ينتبه إلى قوله: (حتى لا يبقى من صلاتك شيء.. وحتى لا يبقى من رحمتك شيء.. وحتى لا يبقى من بركاتك شيء)، وما فيها من تجرؤ على الله وانتقاص لرحمته وبركاته، وما فيها من جهل بالعقيدة الإسلامية وانحراف عن النهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وللعلم: هذه الصلوات هي من (الصلاة الكبرى) للشيخ عبد القادر الجيلاني، التي شرحها الشيخ عبد الغني النابلسي، ونقلها يوسف النبهاني من ذلك الشرح، وكلهم أقطاب مكاشفون. وهي واردة أيضاً في الكتاب المقدس (دلائل الخيرات) الذي يتخذونه بعد القرآن الكريم.
الصوفية والجنون:-
(أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد المستعجل) الرفاعي، كان من أكابر الرجال وأعيان الأولياء وسادات الأصفياء...
قال السراج: ...وروينا أن هذا الشيخ شمس الدين تاب على يديه بعض الأغنياء وقال: أعطني جنوناً، ومد يديه، فحثى له الشيخ حثيات في الهواء، وسماه أرطالاً معلومة، فصار مولهاً لوقته، وترك دنياه وأهله وخرج إلى نهر، ووقف في الماء إلى عنقه مدة سنة أو أكثر، فجاء جيرانه وأصحابه يسألون الشيخ رده إلى حاله الأول وعقله الدنيوي، فرسم بطلبه، فلما حضر حكى له قولهم، فقال: بالله يا سيدي لا تفعل ولكن زدني كذا وكذا من أرطال الجنون؟ فزاده؟ وذهب إلى مكانه وبقي فيه حتى مات(2).
* الملحوظات:-
في واقع الأمر، إن ما يحصل للصوفي هو نفس ما يحصل للمجنون من خدر في مراكز الوعي والضبط في الدماغ، مع فارق، أن ما يحصل للصوفي هو شيء شبه مرضي، لا مرضي، ولا يكون مرضياً مثل الجنون تماماً إلا عند الذين يستولي عليهم الجذب، والذين يقولون عنهم إنهم في مقام جمع الجمع.
__________
(1) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:174).
(2) جامع الكرامات للنبهاني: (1/510).(79/55)
وكثيراً ما سمعنا ممن يقول عن مجنون أو معتوه إنه سائح في حب الله. وهذا مما يفسر حالة الضياع والجهل والهوان التي تتخبط فيها الأمة الإسلامية منذ القرون التي سيطرت فيها عليها الصوفية.
* كشف:-
(أحمد بن عبد الله البلخي)، قال بعضهم: رأيت الغوث أحمد بن عبد الله البلخي عند مكة سنة خمس عشرة وثلاثمائة على عجلة من ذهب والملائكة يجرون العجلة في الهواء بسلاسل من ذهب، فقلت: إلى أين تمضي؟ فقال: إلى أخ من إخواني اشتقت إليه(1)...
* الملحوظة:
ما أشبه هذه الرؤية بالرؤية التي رآها حشاش فطر المكسيك، والتي سنراها في فصل لاحق. وقد مر في صفحات سابقة كثير من أمثال هذه الرؤى التي تؤكد التشابه التام بين جذبة الصوفية وكشوفها، وبين جذبة المهلسات (الحشيش والأفيون وأشباهها) وكشوفها.
* أي الكشفين كذاب:-
أورد مؤلف بهجة الأسرار في كتابه المذكور عدة روايات بأسانيدها، هذه إحداها:
...أخبرنا أبو محمد عبد السلام بن محمد...قال: أخبرنا الشيخ الشريف أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن المنصوري ببغداد سنة إحدى وثلاثين وستمائة قال: أخبرني الشيخ العارف أبو محمد علي بن أبي بكر بن إدريس اليعقوبي بها سنة إحدى عشرة وستمائة قال: قال سيدي عبد القادر (أي: الجيلاني) رضي الله عنه: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(2).
ويورد بعد صفحةٍ أسماءَ الأولياء الذين حنوا رأسهم عندما قالها، يوردها بالأسانيد، ومن جملتها: ...
__________
(1) جامع الكرامات للنبهاني: (1/485).
(2) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:11).(79/56)
...(الشيخ سيدي أحمد بن الرفاعي) رضي الله عنه: أخبرنا أبو محمد سالم بن علي بن عبد الله بن سنان الصوفي.. أخبرنا.. أخبرنا.. قالوا: أخبرنا أبو الفرج عبد الرحيم وأبو الحسن علي ابنا أخي الشيخ القدوة أبي العباس أحمد الرفاعي...قالا: كنا عند شيخنا الشيخ أحمد بن الرفاعي بزاويته بأم عبيدة فمد عنقه وقال: على رقبتي، فسألناه عن ذلك فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(1)...
ثم يورد أسانيد أخر للرفاعي وغيره ممن حنوا رقابهم.
وفي كتاب بوارق الحقائق نرى القطب الغوث الفرد المتمكن العارف بالله...بهاء الدين محمد مهدي الشيوخي الشهير بالرواس...الرفاعي الصيادي...نراه يقول فيمن قصيدة يمدح فيها أحمد الرفاعي:
لم يجهل العز من عالي تحجبه ……عن قادة القوم إلا كل محجوب
على أرسلان والجيلي قد ضربت ……خيامه بعد عزاز ومهيوب
وكان سبعون فرداً تحت رايته ……غير المحاذين من دان ومحبوب
العرش والفرش والأكوان تعرفه ……أنعم بسطرٍ بلوح القدس مكتوب
تكبكبت همم الأقطاب وانجمعت ……به بتمكين عزم غير مسلوب(2)
إنه يجعل شيخه الأكبر، أحمد الرفاعي، فوق كل الأقطاب، ويجعل خيامه مضروبة على عبد القادر الجيلاني ومعه أرسلان الدمشقي وبقية الأقطاب والأغواث.
ويقول أبو الهدى الصيادي (المرشد الكامل):
...وأما الواردات الثقيلة التي كانت ترد عليه (أي: على الجيلاني) قدس سره وتأخذه من حال إلى حال، فينطق بكلمات تتجاوز حد الصحو، فإنها حالة بداية لا تضر بمقامه العالي، ولا تحجب نور إرشاده المتلالي، وهي كقوله حالة غيبته: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله(3)...
__________
(1) بهجة الأسرار ومعدن الأنوار، (ص:13).
(2) بوارق الحقائق، (ص:25).
(3) قلادة الجواهر، (ص:113).(79/57)
وبعد صفحة، يقول: ...فليس لنا إلا التأويل لهذه الألفاظ أدباً مع القوم، وباب التأويل واسع، فإنا نؤول...وأول من رواها ودون لها كتاباً صاحب البهجة (أي: بهجة الأسرار) الشيخ علي الهمداني...فإن صح الخبر عن الشيخ رضي الله عنه، فحالة شطح لا تفيد أمراً ولا غيره(1)..
ولن أناقش هذه الأقوال، بل أتركها للقارئ، ليناقشها ويتأكد بنفسه أن كشوفهم كلها هذيانات؛ لأن رواة هذه الخرافات السمجة كلهم أغواث، وبما أن كشفيهما متناقضان، لذلك، فإن كان أحدهما صادقاً كان الآخر كاذباً، والحق أنها كلها من تلبيسات الكشف.
* ملحوظة ثانية:-
يقول الوارث المحمدي الغوث محمد مهدي الصيادي الرفاعي:
...عبارات القوم لا تشير إلا إلى دولهم مع الله تعالى، ولا دخل لها بجيفة هذه الدنيا، ويؤيد ذلك أن هذا الإمام- أعني السيد الرفاعي (أحمد) سلام الله ورضوانه عليه - مضى على إرث قلوب الخلق، وفي ذلك مملكة ربانية مصرحة بأن دوام القطبية الجامعة (أي: الغوثية) في البيت الأحمدي محقق لا ينفصم عنهم ذلك بإذن الله تعالى.
ومثل هذا ما نصه الولي الصالح عبد الوهاب الشعراني في (مننه)، وكثير من كتبه بروايته عن العارف السلماباذي وغيره كلهم يقول لسيدنا أحمد الرفاعي: ...والدولة لك ولذريتك إلى يوم القيامة.
ومثل هذا نقل العارف بالله صاحب (أم البراهين) في كتابه، وابن جلال اللاري الحنفي في (جلاء الصدا) وغير واحد(2).
* التعليق: هؤلاء الأغواث والعارفون يقررون أن الغوثية دائمة في ذرية أحمد الرفاعي.
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:114)، ومؤلف بهجة الأسرار، هو علي بن يوسف بن جرير اللخمي الشطنوفي.
(2) فصل الخطاب، (ص:184، 185).(79/58)
وقد رأينا ابن قضيب البان يقرر أنه غوث زمانه، وهو ليس من سلالة أحمد الرفاعي. ويقول ابن العماد الحنبلي عن أبي بكر بن عبد الله باعلوي: هو قطب زمانه كما شهد به العارفون بالله تعالى شرقاً وغرباً، ولم يمتر في ذلك ذو بصيرة من أهل الطريق(1). وأبو بكر باعلوي هذا ليس من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
ويقررون أن عبد الله اليافعي كان غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر أحمد التجاني، ويقرر أصحابه معه، أنه غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر علي اليشرطي، وقرروا معه، أنه غوث زمانه، ولم يكن من سلالة الرفاعي ولا من طريقته.
وقرر وقرروا أن محيي الدين بن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر هو غوث زمانه، ولم يكن رفاعياً...إلى آخر القائمة.
فمن منهم الصادق؟ ومن الكاذب؟ أما الواقع فهو الكشف ورؤاه.
يورد الدكتور سيد حسين نصر لمن سماه (الشيخ العلوي):
...وحده كان الله وليس معه أي شيء- وهو الآن كما كان، آخراً مثله أولاً.
- من الأزل واحد هو، ليس معه أي شيء.
- مستتر باطناً وبيِّن ظاهراً.
- لا أول له ولا نهاية لوجوده.
- وكل ما تعلم منه إنما هو وجوده.
- وحدة مطلقة بلا استدراك ولا استثناء.
- كيف يمكن أن تحبس ذات الله في حجاب.
- وليس ثم من حجاب سوى نوره الغامر(2).
هذا النص لتذكير القارئ ببعض العبارات الصوفية ومعناها الذي صرح به الشاعر.
يقول حافظ (شاعر إيراني):
إن صوت المولى الحكيم ما زال في أذني من قبل الأزل
ونحن باقون على مثل ما كنا، وكذلك سنبقى أبد الدهر(3)
__________
(1) شذرات الذهب، حوادث سنة (914هـ)، وأبو بكر هذا من مدينة تريم في حضرموت، مات سنة (914هـ)، ويقول ابن العماد: لعله هو مبتكر القهوة أو شخص آخر بنفس الاسم ومن نفس المدينة، مات سنة (909هـ).
(2) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:42).
(3) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:44).(79/59)
الرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل هاذين النصين، وهما من العبارات الواضحة.
* قصة مرسلة:-
الشيخ (ج) من الواصلين الذين حظوا بزيارة الرسول لهم في اليقظة. حدَّث أمام جماعة خدعوه فوثق بهم، قال: زارني الرسول في اليقظة، وكان يلبس برنساً، فخلعه، وبقي عارياً تماماً، فنظرت إلى قُبُلِه فلم أر له شيئاً، ووجدت مكتوباً هناك كلمة (الله) - تعالى الله- ثم سجد الرسول، فنظرت إلى دبره وإذا بها أشد ضوءاً من الشمس.
- ولا تعليق، لكن تأكيد أن هذه (الكرامة) قد حدثت للشيخ فعلاً في اليقظة لا في المنام، ولم يكن فيها كاذباً، وقد حصلت له بالكشف، وقد ناقشه فيها جماعة، فأصر وأكد أنها صحيحة وأنه يعتز بها. ومثل هذا يوضح لنا دور الكشف.
من قصيدة لنور بخش (مترجمة عن الفارسية):
منذ اليوم الذي استجليت فيه طلعة حبيبي ……غدوت متميزاً من الخلائق أجمعين
وذلك أني صرت مبرأ من العقيدة والمذهب ……والملة كلية وأصبحت ولا دين لي(1)
ولا تعليق ولا غيره.
* أبو بكر الطرابلسي (نسبة إلى طرابلس الغرب):-
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:340).(79/60)
الطالب الأجل، الولي الصالح، المجذوب السايح. قال العلامة المؤرخ الشيخ محمد بن جعفر الكتاني الفاسي في كتابه سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس فيمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس: كان رحمه الله في أول أمره من الطلبة القاطنين بالمدرسة الصباحية...حتى صار مجذوباً هائماً في الأسواق، ولا يشعر بحر ولا برد، ولا يبالى بوسخ ولا بغيره، ولا يكلم أحداً من الناس إلا قليلاً، ثم صار يحمل معه في ثوبه قلاليس القطران والزيت والسمن والشحم وأحجاراً وحدائد، ويحمل ذلك على عنقه يطوف به في الأسواق...وهو من جملة الصلحاء الذين لقيهم العارف الأكبر مولاي العربي الدرقاوي وتبرك بهم، وقد أورده في رسائله قائلاً ما نصه: كنت أعرف سيدي أبا بكر الطرابلسي...وكان من المجاذيب الكبار، غائباً عن حسه دائماً، وقد شربت بوله يوماً لشدة تصديقي بولايته... توفي بفاس سنة 1180هـ، وكانت له جنازة عظيمة حضرها الخاص والعام(1).اهـ.
- الرجاء الانتباه إلى شرب بوله، وإلى موجبات الولاية عندهم، وإلى أن الخاص والعام حضر جنازته.
* معجزة لا تدرك إلا بالكشف:-
يقول القطب الرباني والغوث الصمداني سيدي عبد الوهاب الشعراني في ترجمته لأبي الحسن الشاذلي:
كان كبير المقدار علي المنار...فوق ابن تيمية سهمه إليه فرده عليه(2)...اهـ.
- أقول: لمعرفة المعجزة المعجزة في هذا الخبر، علينا أن نعرف أن أبا الحسن الشاذلي توفي سنة 656 هـ، وأن ابن تيمية ولد سنة 661 هـ، أي بعد موت أبي الحسن بخمس سنوات.
* قصة يرويها شاهدها:-
(كُبَّة كُبَّة) معتوه يعرفه أهل حلب في العقدين الأخيرين من القرن الرابع عشر الهجري، يدور في الشوارع مكشوف العورة، يبول على ساقيه، أكثر تواجده في حي (باب أنطاكية)، يعتقد ولايته الكثيرون.
__________
(1) أعلام ليبيا، (ص:34، 35).
(2) طبقات الشعراني: (2/4).(79/61)
حدثنا شاهد قال: كنت ماراً في شارع، وإذا بكبة كبة جالس على الرصيف يستمني بيده أمام المارة من رجال ونساء، فانتهرته وأردت طرده من المكان، وإذا بعالم معروفٍ يطل من نافذة بيته القريبة منا، ويصيح عليَّ بلهجة تأنيبية شديدة وانفعال، قائلاً: اتركه يا رجل، العمى على قلة الفهم! أنت تعرف ماذا يفعل؟ هذه صواريخ يقذفها على إسرائيل! الله أعلم كم يقتل منهم كل صاروخ!!.. (أو كما قال).
* قاف:-
يقول أبو العباس المرسي (قطب الغوث):
والله ما سار الأولياء والأبدال من قاف إلى قاف إلا حتى يلتقوا مع واحد مثلنا(1).
* التعليق:
1- أين هذا القاف؟
2- ما معنى قوله سبحانه: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)) [النجم:32]، و((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ...)) [النساء:49] ((انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50]؟
3- المرسي غوث يتصرف بالكون من العرش حتى الفرش، وعارف بالله، أفلم يسعفه كل هذا على معرفة أن جبل قاف لا وجود له، وأنه محض خرافة كشفية؟
4- نفس السؤال يطرح على القطب الرباني والغوث الصمداني الذى أورد هذا الكلام؟ وعلى كل حال يجب أن نعرف أنهم كانوا يرون جبل قاف بالكشف، فهم لا يكذبون، لكن كشفهم هو الكذاب.
* من قبَّل قدمه دخل الجنة:-
مما يرويه عبد الله اليافعي في نشر المحاسن الغالية:
...ومن ذلك ما روي واشتهر واستفاض وتواتر في بلاد اليمن وما قرب منها أن الفقيه الإمام عالي المقام وصاحب الكرامات العظام الولي الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبا الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي رضي الله تعالى عنه قال: من قبل قدمي دخل الجنة، ولم يزل يقبل قدمه كل من رآه من الأكابر والأصاغر من المشايخ والعلماء وغيرهم من كل باد وحاضر.
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/14).(79/62)
ومن ذلك ما اشتهر عن السيد الجليل إمام الطريقة ولسان الحقيقة العارف بالله تعالى أحمد بن الجعل اليمني رضي الله تعالى عنه أنه التزم الشفاعة لمن رآه ومن رأى من رآه(1)...
- والسؤال: هل يوجد ضلال يزيد عن هذا الضلال؟ مع العلم أن هاتين الفقرتين هما بعض من كثير.
ومما ينسبونه لرابعة العدوية:
اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك؟ وإنما أعبدك لأنك أهل للعبادة.
أقول: سمعنا هذه الجملة مرات كثيرة يطلقها الخطباء فوق المنابر، أو يلقي بها (العلماء) في حلقات الوعظ، ولا يهمنا إن كانت صحيحة النسبة إلى رابعة أم لا؟ كما لا يهمنا إن كانت شخصية رابعة حقيقية أم لا؟
إن الذي يهمنا هو أن الصوفية يؤمنون بها، وقد انزلق إيمانهم هذا إلى غير الصوفية، وقد سمعناها كثيراً ممن يهاجمون التصوف! بله المتصوفة.
وهذه الجملة شطرها الأول كفر، وشطرها الثاني نقص؟
فعبارة: (اللهم إني لا أعبدك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك)، تناقض ما أمر الله سبحانه به في عشرات الآيات وكثير من الأحاديث أن تكون عبادة المسلم (أو الإنسان) طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، مر بعضها في فصول سابقة. وهذا التناقض يجعل العبارة كفراً وزندقة.
وعبارة: (إنما أعبدك لأنك أهل للعبادة) هي عبارة ناقصة؛ لأنها لا تنفي أهلية العبادة عما عُبد من غير الله.
وهي صورة من الذين يقرءون القرآن فلا يجاوز تراقيهم (وقد مر الحديث).
من (المنظومة على سفينة النجاة لسيدي أحمد زروق):
وملكت أرض الغرب طراً بأسرها ……وكل بلاد الشرق في طي قبضتي
فملكنيها بعض من كان عارفاً ……وخلفني فيها بأحسن سيرة
فأرفع قدراً ثم أخفض منصباً ……بأرفع مقدار وأرفع همة
وأعزل قوماً ثم أولي سواهم ……وأعلي مقام البعض فوق المنصة
وأبسط أرواحاً وأقبض أنفساً ……وأحيي قلوباً بعد موت القطيعة
وأجبر مكسوراً وأشهر خاملاً ……وأرفع موضوعاً بأرفع عمتي
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:298).(79/63)
وأقهر جباراً وأدحض ظالماً ……وأنصر مظلوماً بسلطان سطوتي
فإن كنت في كرب وضيق وشدة ……فنادِ أيا زروق آتي بسرعة
فكم كربة تجلى إذا ذكر اسمنا ……وكم كربة تجلى بإفراد صحبتي(1)
- السؤال: ما هي الوثنية؟ وهل في الوثنيات أكثر من هذا؟ وما معنى ما نقرأه في كل ركعة من صلاة: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5]؟ وما دام هؤلاء الأغواث يملكون هذه القدرة الإلهية فلم لا يغيثون هذه الأمة ويخلصونها من سرطانهم القاتل الذي أوصلها إلى ما هي عليه من ضياع وتشتت؟ وعلى كل حال يجب أن نعرف أنه يقول ما يراه في الكشف، فهو لا يكذب على الكشف، لكن الكشف هو الكذاب.
* يبيع الجنة:-
...وكان ابن أبي حاتم رضي الله عنه زاهداً ورعاً خاشعاً لا يكاد يرفع طرفه إلى السماء، وجاءه رجل وهو في الدرس فقال: إن سور طرسوس قد انهدم منه جانب واحتيج في عمارته إلى ألف دينار، فقال الشيخ للحاضرين: من يعمره وأنا أضمن له على الله قصراً في الجنة؟ فقام رجل أعجمي وجاء بألف دينار، وقال: اكتب لي ورقة بهذه الضمانة، فكتب له الشيخ، ثم إن العجمي مات، ودفنت معه الورقة، فحملها الريح حتى ألقاها في حجر الشيخ رضي الله عنه، فإذا مكتوب في ظهرها: قد وفينا ما ضمنته ولا تعد(2)...
- أقول: القصة مكذوبة، لكن المهم فيها هو أنهم يؤمنون بأن الأولياء يدخلون الجنة ويضمنون على الله وغير ذلك! مع سؤال: ما هو الفضل؟ أي فضل في عدم رفع طرفه إلى السماء؟ وملحوظة أن مثل هذا الورع والخشوع الذي جعلته الصوفية مثلاً أعلى في المجتمعات الإسلامية هو الذي أوصل هذه المجتمعات إلى الجهل والضياع والتخبط التي مرت بها.
* من مقام الورع:-
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:27).
(2) الطبقات الكبرى، (2/189).(79/64)
...وكان الشيخ عبد الرحمن الأنباري النحوي رضي الله عنه لا يوقد قط في بيته سراجاً لعدم صفاء ثمن ما يشتري به الزيت، وكان تحته حصير قصب وعليه ثوب خلق وعمامته من غليظ القطن، فيصلي فيها الجمعة، ما يفرق الناس بينه وبين الشحاتين في رثاثة الهيئة، وكان لا يخرج من بيته إلا لصلاة الجمعة(1)...
- السؤال: هل هذا من هدي الإسلام؟ والباقي للقارئ.
* ومن مقام الورع أيضاً ومعه مقام الزهد:-
...كان الشيخ عبد الرحمن الداوُدي البوشنجي رضي الله عنه عالماً زاهداً لم يأكل اللحم منذ أربعين سنة من حين نهبت التركمان البهائم! وكان لا يأكل السمك، فحكى له شخص أن بعض الجند أكل على شاطئ النهر الذي يصاد له منه ونفض سفرته في النهر تأكله السمك، فلم يأكل بعد ذلك منه سمكاً، وكان له أرض ورثها من آبائه يزرع فيها ما يقوته، وله فيها بقرة وبئر ماء، فمطرت يوماً، فأطلقت البقرة إلى أرض جاره ثم رجعت وفي حافرها وحل، فاختلط في أرضه، فترك تلك الأرض للناس وخرج منها ولم يزرع بعد ذلك فيها شيئاً إلى أن مات، وكان له فرن يخبز فيه في داره، فجاء فقراء يزورونه، وكان غائباً، فوجدوا باب فرنه قد انهدم منه جانب، فعجنوا طيناً وأصلحوه، فامتنع من الخبز فيه، وبنى له خلافه، لكون من ليس على قدمه في الورع بناه(2)...
__________
(1) الطبقات الكبرى: (2/189).
(2) الطبقات الكبرى: (2/189).(79/65)
- ويترك التعليق للقارئ، مع ملحوظة هامة هي أن هذا الورع، وهذا الزهد كانا من المثاليات التي تجتهد نخبة المجتمع على تطبيقها!! إلا من رحم ربك، ومن هنا تتوضح لنا الطريق التي سارت فيها الأمة حتى وصلت إلى الضياع الذي تخبطت فيه زمناً، وهي الآن تحاول التخلص منه، لكن شد الصوفية الشديد يمنعها من ذلك، مع بلاء شديد جديد، هو الشيوعية بأساليبها المبنية على قوانين علم النفس وعلم الاجتماع والدعاية والإشاعة والكذب، حتى تحول كثير من المسلمين الآن إلى آلات أو جرافات تفتح الطريق للشيوعية وهم يحسبون أنهم يجاهدون في سبيل الله ويعملون لإقامة دولة الإسلام!
وننهي هذا الفصل الذي لو بقينا مسترسلين معه لاحتجنا إلى ألوف الصفحات، ننهيه بكلمات لابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم المشهورة التي يقارنونها بالقرآن الكريم، يقول: ...فما سوى الله عند أهل المعرفة لا يتصف بوجود ولا بفقد، إذ لا يوجد غيره معه، لثبوت أحديته؛ ولا فقد لغيره لأنه لا يفقد إلا ما وجد، ولو انتهك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطى وجود الأكوان(1). ويقول: ...لأن من استرسل من إطلاق التوحيد، ورأى أن الملك لله وأن لا ملك لغيره معه، ولم يتقيد بظواهر الشريعة، فقد قُذف به في بحر الزندقة، وعاد حاله بالوبال عليه، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيداً، وبالشريعة مقيداً، وكذلك المحقق، فلا منطلقاً مع الحقيقة، ولا واقفاً مع ظاهر إسناد الشريعة، وكان بين ذلك قواماً. فالوقوف مع ظواهر الإسناد شرك، والانطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل، ومقام أهل الهداية فيما بين ذلك(2)...اهـ.
- سؤال: هل مقام أهل الهداية هو الذي بين ذلك، أم مقام أهل الضلال البعيد؟!
* الملحوظات:-
__________
(1) التنوير في إسقاط التدبير، (ص:306).
(2) التنوير في إسقاط التدبير، (ص:284).(79/66)
- وحدة الوجود واضحة تماماً في النص الأول، ويجب أن نفهم العبارات التالية انطلاقاً منها.
- نفهم من العبارات: (إطلاق التوحيد)، و(رأى أن الملك لله)، و(أن لا ملك لغيره معه) استناداً إلى ما سبق أنها تشير إلى وحدة الوجود، وهي تذكرنا بعبارات كثيرة مرت في فصول سابقة، مشابهة لهذه، وتوضح لنا رموزها وإشاراتها، مثل: (الوحدة المطلقة) و(لا فاعل إلا الله) و(إن المنعم هو الله) و(هو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد)، وغيرهما مما مرَّ وكلها تشير إلى وحدة الوجود.
- قوله: (ولا واقفاً مع ظاهر إسناد الشريعة)، فما هو إسناد الشريعة؟ إنه القرآن والسنة، وطبعاً يمكنهم تأويل كلمة (إسناد) بأنها تعني (رواة الحديث)، رغم أن النص لا يحتمل مطلقاً هذا التأويل. فقوله: (ظاهر إسناد الشريعة)، تعني بوضوح: (ظاهر القرآن والسنة)، لأننا عندما نورد سند أي نص كان بقولنا: رواه فلان عن فلان. فليس في هذا الإسناد ظاهر وباطن، وليس فيه إلا أسماء الرواة.
- ثم لننتبه إلى قوله: (الوقوف مع ظواهر الإسناد شرك)، التي تعني: (الوقوف مع ظواهر القرآن والسنة شرك)، وهو مثل قول الصاوي الذي مر في مكان سابق: إن ظاهر القرآن والسنة من أصول الكفر، ويعني بقوله: الوقوف مع ظواهرالإسناد شرك أن ظاهر القرآن والسنة يقرر أن المخلوق غير الخالق، وبالتالي، هناك موجود آخر في هذا الوجود غير الله (طبعاً أوجده الله سبحانه من العدم، لا من ذاته) وهذا هو الشرك في عقيدة الصوفية لأنه يشرك مع الله وجوداً غيره.
- وفي النص ملاحظات أخرى، يستطيع القارئ أن يتسلى بتحليلها (مثلاً: قوله: قذف به في بحر الزندقة؟).(79/67)
- أزيد: أردت أن أنهي هذا الفصل بكلمات ابن عطاء الله الآنفة، وأمامي في الكتب مئات الأمثلة من المضحكات المبكيات التي تستحق التسجيل ليطلع عليها المسلم الذي تهمه معرفة السبب الذي أوصل المجتمعات الإسلامية إلى ما وصلت إليه. وهذه الأمثلة بالإضافة إلى كونها من المضحكات المبكيات هي أيضاً مسليات ومحزنات، وأراني مدفوعاً لتسجيل بعضها.
مما يورده ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب:
وفيها (أي: سنة 909 هـ) أبو الخير الكليباتي (أي: توفي)، قال النجم الغزي: الشيخ الصالح الولي المكاشف الغوث المجذوب، كان رجلاً قصيراً يعرج بإحدى رجليه، وله عصاً فيها حلق وخشاخيش، وكان لا يفارق الكلاب في أي مجلس كان فيه حتى في الجامع والحمام، وأنكر عليه شخص ذلك، فقال: رح وإلا جرسوك على ثورٍ دائرَ مصر، فشهد ذلك النهار زوراً، فجرسوه على ثورٍدائرَ مصر، وأنكر عليه بعض القضاة ذلك، فقال: هم أولى بالجلوس في المسجد منك، فإنهم لا يأكلون حراماً ولا يشهدون زوراً ولا يستغيبون أحداً...وكان كل من جاءه في ملمة يقول له: اشتر لهذا الكلب رطل شواء وهو يقضي حاجتك، فيفعل، فيذهب ذلك الكلب ويقضي تلك الحاجة، قال الشعراوي (أي: الشعراني): أخبرني سيدي علي الخواص أنهم لم يكونوا كلاباً حقيقية، وإنما كانوا جناً سخرهم الله تعالى له...وقال الحمصي بعد ترجمته بالقطب الغوث كان صالحاً مكاشفاً...وكان يصحو تارة ويغيب أخرى، وكان يسعى له الأمراء والأكابر فلا يلتفت إليهم، وتوفي ثالث جمادى الآخرة وحمل جنازته القضاة والأمراء ودفن بالقرب من جامع الحاكم بالقاهرة وبني عليه عمارة وقبة.
- التعليق يترك للقارئ، وكذلك التساؤلات، وأنبه فقط إلى أنه حمل جنازته القضاة والأمراء، وبني عليه عمارة وقبة.
- كما أنبه أيضاً إلى أن القبة شعار وثني كانت تُبنى فوق الصنم المعبود على أنه إله في سمائه، وكانت القبة الكبرى تبنى من أجل الصنم الأكبر.(79/68)
ويقول القطب الرباني والغوث الصمداني:
ومنهم الشيخ الصالح عبد القادر السبكي رحمه الله تعالى، أحد رجال الله تعالى، كان من أصحاب التصريف بقرى مصر رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه كثير التلاوة للقرآن...وكان كثير الكشف لا يحجبه الجدران والمسافات البعيدة من اطلاعه على ما يفعله الإنسان في قعر بيته...وخطب مرة عروساً فرآها فأعجبته، فتعرى لها بحضرة أبيها، وقال: انظري أنت الأخرى حتى لا تقولي بعد ذلك بدنه خشن، أو فيه برص، أو غير ذلك، ثم مسك ذكره وقال: انظري هل يكفيك هذا؟ وإلا فربما تقولي هذا ذكره كبير لا أحتمله أو يكون صغيراً لا يكفيك، فتقلقي منه وتطلبي زوجاً أكبر آلة مني. وكان له بنت يحملها على ظهره أي موضع ذهب حتى كبرت وهو يحملها على كتفه وهو يقول: خوفاً من أولاد الزنا، وكان ربما ذهب ليغسل لها ثوبها في البركة، فيحفر لها الأرض ويردم التراب عليها حتى ينشف ثوبها(1)...
- وأترك التعليق لغير أهل الطريق.
* يتركون العبادة مرضيين:-
يقول مجدد الألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي:
...فما تكون نسبة الآخرين لهؤلاء الأكابر؟ وربما تصدر العبادة عن الآخرين وتكون غير مرضية، وهؤلاء الأكابر يتركون العبادة في بعض الأحيان ويكون ذلك الترك مرضياً. فكان تركهم أفضل عند الحق جل وعلا من فعل غيرهم، والعوام حاكمون بخلاف ذلك يعتقدون ذلك عابداً وهذا مكاراً أو معطلاً(2)...
- أقول: من مثل هذا يتبين لنا دور الكشف في تزوير عقول الأمة؛ لأن هذا القطب المجدد عرف هذا الحكم عن الله الذي هو هو، أثناء إحدى فناءاته، وهو طبعاً، يعتقد أن هذا هو حق لاريب فيه.
ومما يورده القطب الرباني والغوث الصمداني:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/184).
(2) المنتخبات من المكتوبات، (ص:152).(79/69)
...وكذلك وقع للإمام اليافعي التميمي رضي الله عنه، فحكى في كتابه (المنهاج) أنه مكث خمس عشرة سنة في نزاع، فخاطر يدعوه إلى الاشتغال بالعلم على طريق العلماء، وخاطر يدعوه إلى الاشتغال بما عليه الصوفية، قال: وكان الفقهاء يأمرونني بموافقتهم ويقولون: طريقنا يتضمن طريق غيرنا وطريق غيرنا لا يتضمن طريقنا، فقلت في نفسي بتوجه تام: اللهم بين لي أي الطريقين أقرب إليك، فبينما أنا أمشي في شارع من شوارع زبيد، إذ لقيني شخص من أرباب الأحوال وقال: إلى متى تشك في طريق القوم؟ اسلك منها فإنها أقرب الطرق إلى الله تعالى. قال: فقلت له: أريد البيان. فقال: نعم. فدخل زاويته وقال؛ أرسلوا لنا خلف العالم الفلاني، ممن لا يرى الشيخ إذ ذاك رد السلام عليه إذا سلم، فخرج النقيب إليه، فقال الشيخ للجماعة: لا أحد يرد عليه السلام إذا جاء ولا يقوم له ولا يفسح له، فقالوا: سمعاً وطاعة. فلما حضر قال: السلام عليكم. فلم يرد أحد عليه السلام، فقال: حرام عليكم. فجلس فلم يفسحوا له، فقال: خالفتم السنة، فقال الشيخ: الفقراء في أنفسهم منك شيء، فقال: وأنا في نفسي منهم أشياء، وأشار بأصابع كفه كلها. فقال الشيخ: انظر يا يافعي ما أثمره علم هذا. ثم قال للنقيب: أرسل وراء الفقير الفلاني، وأمرهم أن لا يردوا عليه السلام ولا يقوموا له ولا يفسحوا له، ففعلوا ذلك، فصار يبتسم ويقول: أستغفر الله تعالى، ثم وقف عند النعال، وأخذ النعال على رأسه وبكى، فلم يلتفت أحد إليه، فقال له الشيخ: الفقراء في نفوسهم منك شيء، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال الشيخ لليافعي: انظر ما أثمره صحبة الفقراء(1)...
- الملحوظات كثيرة، منها: العالم الفلاني، لم يتصرف إلا حسب توجيهات الإسلام، حيث لم يزد أن أمر بمعروف أو نهى عن منكر.
__________
(1) الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية: (2/36، 37).(79/70)
ونلاحظ أن الفقراء احتقروا هذا السلوك الإسلامي، واستحسنوا سلوك الفقير المزري، واللا إسلامي، وهكذا يتوضح لنا سبب انحطاط المسلمين، فالصوفية هي التي قادتهم إلى ما هم عليه.
- وأخيراً، وبعد قراءة هذا الفصل بهدوء، أظن أن القارئ الكريم توضحت لديه الرؤية، وأصبح على معرفة تامة بسبب انحطاط المسلمين. وفي فصل آت سوف نرى ما هو أكبر.
وفي هذا العصر أضيف إلى الصوفية التي سلبت من المسلمين سلامة التفكير، وأصبحوا لا يفكرون ولا يناقشون الأمور إلا بفهم سحري وإسقاط سحري لما يتوهمونه، على ما يتوهمونه، أضيف إليها بلاء جديد، هو الماركسية، التي وصلت إلى القمة في فن الجاسوسية؛ لأن العبادة عند اليهود هي الجاسوسية منذ (1900 سنة)، واليهودية هي الماركسية، أو بتعبير آخر، الماركسية هي التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار.
وقد استطاعت الماركسية أن تجعل من المسلمين أبواقاً للدعايات التي تخدم الماركسية، وتجعل كثيراً منهم أحجاراً في مقاليعها، أو قنابل في يدها ترمي بهم أعداءها وكل من يقف سداً في سبيلها، وكان أكبر مساعد لها على النجاح في هذا الميدان هو الأسلوب الصوفي في التفكير، الذي وصل إليه المسلمون، فالصوفية حرثت، والماركسية تزرع وتحصد، والماركسية هي هي اليهودية.
وهذا ورد من أوراد الطريقة الشبكية التي هي فرع من البكتاشية:
إن حقيقة كل الوجود علي جل جلاله، ملك العالي والداني علي جل جلاله، إذا تحررت من الكائنات أولها وآخرها فلن يبقى سوى علي جل جلاله، إن حارس جماعة الوالهين في حالتي الصحو والسكر علي جل جلاله، إن كنت تعبد الله فلا تدعوني مشركاً، فالله الذي تعبده علي جل جلاله، لا تكسر القلوب المنكسرة فإذا كسرتها فاعلم أن في القلب الذي كسرته علي جل جلاله، اعتصم بحبل علي واصعد إلى الذروة فسترى علياً جل جلاله بعد أن تحرر من القيود(1)...
* الملحوظة:
__________
(1) الشبك، (ص:80).(79/71)
تتضح الروح الصوفية في هذا النص من العبارات: (تحررت من الكائنات أولها وآخرها، جماعة الوالهين، حالتي الصحو والسكر، اصعد إلى الذروة، تحرر من القيود).
وفي الختام:
هذه هي الكشوف الصوفية والعلوم اللدنية والكرامات، كلها جهل وضلال ووأد للعقل الذي كرم الله به بني آدم، ولو كانت إلهية لتنزهت عن الغلط (مجرد الغلط)، ولو كانت الصوفية سيراً إلى الله وعروجاً إليه، كما يدعون، لما كان كل هذا التخبط والضياع عن مبادئ الإسلام، وعن أبسط مقومات الوجود الإنساني.
وقد فطن بعض متأخريهم إلى هذا الخبط والخلط، فاعتذروا عنه بقولهم: قد يخطئ الكشف. وهو عذر أقبح من الكشف، والصحيح هو أن نقول: قد يصدق الكذوب، وقد يحسن الشرير، وقد يصيب الكشف.
ولعل أهم ما يجب أن نلاحظه في كشوفهم أنها لا تزيد شيئاً عن معلومات المكاشف وأمانيه المسبقة إلا ما يقتضيه التصوير والتنسيق الموجهين بثقافته أيضاً، وطبعاً يستقي المكاشف معلوماته وأمانيه من الوسط الاجتماعي والوسط الصوفي الذي يتقلب فيهما، ولذلك لا نرى فيها أي شيء يزيد عن ثقافة مجتمعه، إلا بعض التخيلات التافهة.
القسم الثاني
المناقشات
بدأ القسم الأول من الكتاب بدراسة ما يسمونه (الحقيقة) ثم جاءت دراسة (الطريقة) بعد ذلك.
أما في المناقشة، فسيكون البدء أولاً بمناقشة الطريقة، ثم تأتي مناقشة حقيقتهم بعدها، ثم يأتي الباقي.
لكن قبل الشروع في المناقشة، لا بد من كلمة موجزة عن البدعة.
تقديم وجيز في البدعة:
القول في البدعة مكرور، ردده العلماء مئات المرات، ولا زالوا يرددونه، نورد هنا اقتباساً موجزاً مما قالوه ورددوه:
ما هي البدعة؟(79/72)
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث: {...فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم والمحدثات، فإن كل محدثة بدعة}. أخرجه أبو داوُد وابن ماجة والترمذي، وقال عنه: حسن صحيح. - كلمة (الخلفاء) هنا تعني كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم الذين خلفوه في السير على هديه والدعوة إلى الله حسب تعاليمه.
- في هذا الحديث، بعد أن يأمرنا صلى الله عليه وسلم بالالتزام بسنته وسنة أصحابه، يحذرنا من المحدثات التي تحدث بعدهم. وهذه المحدثات هي الاختلاف كما يفهم من الحديث. لكن، هل كل أمر يحدث بعد الرسول وبعد أصحابه، كائناً ما كان هذا الأمر، هو بدعة؟
نعرف الجواب من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: {...إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر}، رواه الشاطبي نقلاً عن مسلم.
ومن قوله في حديث تأبير النخل: {...أنتم أعلم بأمور دنياكم}.
من هاذين الحديثين، نعرف أن البدعة هي كل محدثة في الاعتقادات والعبادات، أما الأمور الدنيوية، فقد تركت لنا الحرية فيها، (إلا ما ورد فيه نص).
ومن القواعد التي استنبطها الأصوليون قولهم: كل العبادات باطلة إلا ما ورد به نص، وكل العادات مباحة إلا ما ورد به نص.
وإذ عرفنا ما هي البدعة، فما هو حكمها في الإسلام؟
يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشاطبي في (الاعتصام): {حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة}.
ويقول: {إن الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة}.
ويقول: {من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. ويقول: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي}. رواه أحمد وأبو داوُد وغيرهما.(79/73)
ويقول في حديث: {...وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وفي رواية: وكل ضلالة في النار}. رواه أبو داوُد والنسائي وغيرهما.
وعليه، فلا يجوز مطلقاً تبني أية عقيدة، كائنة ما كانت، ولا القيام بأية عبادة، كائنة ما كانت، إلا إذا كان فيها نص بالعمل بها من قرآن أو سنة، وإلا فهي باطلةٌ داخلٌ صاحبُها في لعنة الله ووعيده. هذا هوحكم البدعة في الإسلام.
أما في الأمور الدنيوية، فيجوز للمسلم أن يقوم بأي أمر منها، سواء كان محدثاً أو غير محدث، إلا إن كان فيه نهي أو كان فيه ضرر بالدين أو ضرر بالناس.
لكن المتصوفة، كشأنهم في كل أمور الدين، رأوا هذه النصوص وغيرها، وعميت بصائرهم عنها، ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج:46]، فأولوها التأويلات المنكرة التي تدل على رفضها والكفر بها، وجعلوا بدعهم حلالاً، قياساً على الأمور الدنيوية، رغم كل النصوص، ونسوا أنه (لا اجتهاد في مورد النص). وقياسهم الفاسد المنكر هذا يدل على أنهم لم يكتفوا بخروجهم على النصوص، وبالإحداث في دين الله، بل أضافوا إليهما المكر والكيد لهذا الدين بالمغالطات والمراوغات، كما أضافوا إليها عدم الحياء من الله ومن الناس، حين يظهر أحدهم، في دفاعه عن بدعهم، بمظهر الجاهل الغبي المعاند.
خلاصة الكلام:
حيثما وردت كلمة (بدعة) فالمراد بها هو الإحداث في الاعتقادات والعبادات، لا في العادات والأمور الدنيوية، إلا عند المتصوفة؛ فإنها لا تعني عندهم إلا المغالطة (والمناورة)، للتظاهر بأنهم يسيرون على هدي الإسلام.
وهم عندما يغالطون ويراوغون، يعتقدون أن عملهم هذا من التقية، التي هي الحكمة التي أرادها الله من الشرائع لستر (حقيقتهم)، فسبحان الله عما يصفون.
* ملحوظة هامة:(79/74)
هناك حجة واهية يتذرع بها المتصوفة لتأييد باطلهم؟ هي قولهم بـ (البدعة الحسنة)، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: {من سن سنة حسنة فله أجرها...}، وقول عمر بن الخطاب في الجماعة لصلاة التراويح: [[نعمت البدعة]].
وحجتهم واهية وداحضة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: {من سنة سنة حسنة...}، قد أشبعه العلماء بحثاً، وإنما أذكر الملخص:
من القواعد المعروفة في علم الأصول، وفي مصطلح الحديث، أنه إذا وجد نصان، وظهر للوهلة الأولى أنهما متناقضان، فيجب أن نفتش في أحدهما، أو في كليهما، عن المعنى الصحيح الذي يزول معه التناقض؛ لأن الوحي لا تناقض فيه: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].
وعليه، فالذي يقول: إن معنى (السنة الحسنة) هو البدعة الحسنة، يكون قد أوجد في النصوص تناقضاً غير موجود في الأصل، ويكون قد خاض في الباطل خوضاً؛ لأن هذا المعنى المتوهم: (البدعة الحسنة)، مناقض لقوله: {كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}، وغيرها مما مر.
أما المعنى الصحيح لـ (السنة الحسنة)، فهو: إماتة بدعة انتشرت، أو إحياء سنة اندثرت، أو افتتاح عمل خيري مشروع، أو إبداع في أمر من أمور الدنيا ينفع الناس في دينهم أو في دنياهم (دون ضرر بالدين).
هذه هي السنة الحسنة، وسبب قوله صلى الله عليه وسلم للحديث هو من الأدلة على ذلك، فقد قاله يحض الناس على تقديم صدقات.
2- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[نعمت البدعة]].
والجواب:
أ- الجماعة لصلاة التراويح ليست بدعة، بل هي سنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركها لئلا تؤخذ فرضاً، حتى إذا انقضى زمن التشريع، وزال سبب تركها، لم يبق بأس من العودة إليها.(79/75)
ب- غلط الرجل الذي قال عنها: [[هذه بدعة]]. فأراد عمر رضي الله عنه أن يفهمه أنها ليست كذلك، وفي اللغة صيغ كثيرة مستعملة تصلح لهذا الهدف، منها هذه العبارة التي جاءت على لسان عمر: [[نعمت هي البدعة]]، فهو يريد أن يقول له: إنها ليست بدعة، ولو كانت البدعة مثلها، فنعمت هي البدعة.
وضرب المثل قد يفيد: كثيراً ما نسمع مثل قول من يقول: فلان ضرب فلاناً بنصف كيلو كنافة مثلاً، فلو أجابه أحدهم بـ (نعمت هي الضربة)، فماذا يفهم منها كل من يسمعها؟ إنه يفهم منها أنها ليست ضربة، ولو كانت كل ضربة هكذا، فنعمت هي الضربة...وهكذا...وهكذا يكون القول بالبدعة الحسنة هو بدعة ضلالة.
الباب الأول
مناقشة الطريقة
الفصل الأول
مناقشة مفهوم الصوفية للشيخ
عرفنا أن الطرق الصوفية كالقادرية والرفاعية والشاذلية والنقشبندية وغيرها، ما هي إلا مشيخات، ما هي إلا اتباع للشيوخ، فمناقشتها هي مناقشة عقيدة (الشيخ) عندهم.
كما عرفنا أن الطريقة الوحيدة الأممية التاريخية والحالية والمستقبلية هي طريقة (الإشراق).
وأهم ما في الطريقة الشيخ وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم فما نبتت أرض بغير فلاحة، كما عرفنا من النصوص السابقة، وهي جرعة من سيل، أنهم يتخذون الشيوخ آلهة يعتقدون أنهم ينفعون ويضرون، وأن بيدهم النجاة.
ومن أقوالهم في ذلك: الدين إطاعة رجل.
كما رأينا من أقوال عارفيهم وأقطابهم وعلمائهم البراهين الكافية الوافية على أنهم يتخذون الشيخ إلهاً من دون الله، أو شريكاً معه يسبغون عليه كل صفات الألوهية. ومن أقوالهم التي مرت قول قائلهم (الغوث): لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله.
ولا بأس على القارئ الكريم من الرجوع إلى تلك الفصول مرة أخرى، ليبعث أقوالهم حية في ذاكرته، ثم يعود لمتابعة المناقشة.
وطبعاً، ستكون المناقشة بعرض أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم على القرآن والسنة قبل كل شيء.(79/76)
1- يقول سبحانه في كتابه العزيز: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59].
واضح من الآية الكريمة كل الوضوح، وبدون لبس أو إشكال أو غموض، أن من يرد ما يُتنازع فيه إلى غير الله ورسوله، فهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
وردُّ الشيء إلى الله والرسول، يعني عرضه على الكتاب والسنة، فالقرآن كلام الله، والسنة كلام رسوله الموحى معناه من الله سبحانه.
والصوفية يردون كل شيء إلى شيوخهم، ويطلبون من الآخرين أن يردوه إليهم، ويكفي إيراد قولٍ واحدٍ لأحد أقطابهم: ...وإن قال (قائل) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه...وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه؛ لأنه في حال تهمة لارتداده عن طريق شيخه.
- السؤال: أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
إن الآية الكريمة تضع الجواب الكريم: ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59]، التي يُستنبط منها: إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر، فردوه إلى الشيخ أو إلى من تريدون.
2- ويقول سبحانه: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [الشورى:21].
فكل شرع في الدين، كائناً ما كان، لم يأذن به الله فهو شرك.
والشيوخ في الصوفية يشرعون في دينهم كل ما لم يأذن به الله، ونكتفي بإيراد قول قطبهم المدَّرك:
من يذكرالله تعالى بلا شيخ، لا الله حصل ولا نبيه ولا شيخه.
فمن أين أتى بهذا التشريع؟ وما هوحكم من يأخذ بهذا التشريع الوثني؟(79/77)
ونعود للسؤال؟ ما هوحكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أويفعله؟ أو يعتقده؟
والآية الكريمة تقرر الجواب: ((وإن الظالمين لهم عذاب أليم)).
3- يقول سبحانه في وصف أهل الكتاب: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )) [التوبة:31]. يورد ابن كثير: سمع عدي بن حاتم الطائي (وكان نصرانياً فأسلم) هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: {إنهم لم يعبدوهم}، فقال صلى الله عليه وسلم ما معناه: {بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم}.
وقد فعل الصوفية ذلك واتخذوا شيوخهم أرباباً من دون الله. ونكتفي بقول لحجتهم الغزالي:
...فالعلم بحدود هذه الأمور (أي: المجاهدات والمقامات)...هوعلم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة...
وهو كلام واضح صريح، لا يُحتاج معه إلى غيره؛ لأنه كلام من يسمونه (حجة الإسلام)، مع أن غيره يملأ الكتب، على أنهم يحلون ويحرمون ويفرضون الفروض ويسنون السنن.
والسؤال: قل لنا أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية فيمن يقول مثل هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
وفي الآية الكريمة الجواب: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الطور:43].
4- ويقول سبحانه: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ...)) [البقرة:165].
وقد اتخذ المتصوفة من شيوخهم أنداداً يحبونهم كحب الله، بل أشد حباً، حتى كأن الآية أنزلت فيهم خاصة، وهذا قول مر معنا لأحد أقطابهم العظام: (حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها من أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل).
وقول الآخر: الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ.(79/78)
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
إن الآية الكريمة تعطينا الجواب الكريم: ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)) [البقرة:165].
5- قال ربعي بن عامر لكسرى: [[بعث الله إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة الناس إلى عبادة رب الناس]].
وجاءت الصوفية لتعكس الآية وتعيد الشرك إلى مساره، فتخرج الناس من عبادة رب الناس إلى عبادة المشايخ وعبادة قبور المشايخ!
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على هؤلاء؟ بل ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يتوقف في الحكم عليهم؟
6- سيقول لك المتصوفة وشيوخهم وكثير من الغافلين والمغفلين: معاذ الله، الصوفية لا يعبدون الشيوخ، لا يعبدون إلا الله...وقد يقدمون بعض الأمثلة الموهمة والمتداولة بينهم.
فنجيب: لا، بل يعبدون الشيوخ، وهذه أقوالهم وأقوال عارفيهم وأقطابهم الذين يتبركون بالركوع أمام قبورهم ولثم حجارتها والاستغاثة بما فيها من رمم، وأمثلهم طريقة ذلك الذي يعتقد أنهم يقربونه إلى الله زلفى وحسن مآب، وهذه أفعالهم كلها شاهدة عليهم بوضوح كوضوح الشمس في رائعة نهار مشمس، على أنهم يؤلهون الشيوخ ويعبدونهم. ولو جمعت أقوال عارفيهم في تأليه الشيوخ لملأت ألوف الصفحات.
وإنكارهم هذا، يسمى في الشريعة الإسلامية وفي اللغة العربية وفي جميع ما تعارف عليه البشر من أخلاق (الفجور).
- وسيقول بعضهم، متحرفاً لقتال (وفي لغة العصر مناورة): هذا واقع كثير من المتصوفة، وهو من الدخن والانحراف الذي أصاب التصوف كما أصاب غيره من أمور الشريعة. والتصوف الحق بريء من ذلك.(79/79)
فنقول: (شنشنة نعرفها من أخزم). إن واقع المتصوفة منذ أن وجدت الصوفية وفي كل الأمم، لا في المسلمين وحدهم، هو تأليه الشيخ وعبادته، وهي الطريق التي توصل المريد أو السالك إلى استشعار الألوهية، أما من يصل إلى الجذبة دون شيخ فيسمونه هم: (المراد)، ويعنون بها أن الله أراده فجذبه إليه.
وهذا افتراء على الله الكذب؛ لأن القرآن ينفي على لسان المسيح صلوات الله عليه أن يعرف أحد ما يريده الله: ((إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)) [المائدة:116]، ونقول لهم: هذه صورة من مراوغاتكم (للالتفاف حول الهدف)، أتقنتموها أنتم وأشياخكم تظهرونها وتخفونها حسب الظروف المحيطة، وهي من أساليب التقية الواجبة في عقيدتكم الصوفية كما قال الغزالي:
وإن كان قد صح الخلاف فواجب ……على كل ذي عقل لزوم التقية
7- وقد يأتي من لا يستحي من أن يقول: إن كلام العارفين هذا له تأويل!! فنقول له: لقد انتهينا من خرافة التأويل، وأحبولة التأويل، ومغالطة التأويل، وخدعة التأويل، ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة:9، 10].
لأنهم إذ يقولون هذا له تأويل، فهم يخادعون ويكذبون ويدجلون ويمكرون لجر المسلمين إلى زندقاتهم.
8- يدعون حب الله، وما أكثر أقوالهم في ذلك وفي العشق الإلهي. ومن المقامات التي يدعيها بعضهم في السلوك إلى الجذبة ما يسمونه (المحبة والشوق) إلى الله.(79/80)
والله سبحانه وتعالى يقول آمراً رسوله أن يعلمنا: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31]. فالله سبحانه يأمرنا إن كنا نحبه، أن نتبع رسوله، وهذا يعني أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدليل على حب الله، وعدم اتباعه دليل على عدم حب الله، وهؤلاء القوم يتبعون المشايخ الذين يأمرونهم بتأليه الرسول لا باتباعه. فهل هم بعد ذلك صادقون بادعائهم حب الله؟
الجواب: هو ما تقرره الآية الكريمة، بأنهم لا يحبون الله، وهذا هو واقعهم، فهم يحبون الجذبة واللذة التي يجدونها أثناء الجذبة والتي تستغرق كل خلية في كيانهم، وهي لذة تحشيشية جنسية يتوهمون أنها إلهية، ثم بعد أن يقعوا في الجذبة عدداً كافياً من المرات، يصابون بمرض الإدمان، مثل الإدمان الذي يصيب متعاطي الأفيون تماماً، حتى إذا ما امتنعت عليهم الجذبة في بعض الأحيان لسبب ما، أصيبوا بنفس الأعراض التي تصيب مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه، من وله قاتل وصداع وما يشبه الجنون. وهذا هو ما يسمونه (العشق الإلهي) الذي يظهر في بولهم.
النتيجة: الذين يتبعون المشايخ لا يحبون الله، إذ لوكانوا يحبونه لاتبعوا رسوله. ويقول سبحانه: ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) [الأعراف:3]، هذا أمر من الله، يكفر من يخالفه.
وهؤلاء القوم يتبعون من دونه المشايخ، يأمرونهم بكل ما لم ينزل به الله سلطاناً فيأتمرون به! يأمرونهم بالركوع للشيخ فيركعون! يأمرونهم بالرابطة التي يسمونها (شريفة) فيطيعون! يأمرونهم بالرقص فيرقصون! يأمرونهم بأوهام كشوفهم في العقائد والعبادات فيأتمرون! فهل يكونون بعد ذلك من أهل القرآن؟!
إن أهل القرآن هم الذين يعملون بأوامره وينتهون عن نواهيه.(79/81)
- يقول سبحانه: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)) [الجاثية:18]. فهل يتبعها هؤلاء القوم؟ طبعاً لا، لأنهم عندما يتبعون مشايخهم فقد خرجوا من اتباع الشريعة. وقد مر معنا قول أقطابهم للخادم: كل ولك أجر صوم شهر، وكل ولك أجر صوم سنة، وموافقة عالمهم القطب القشيري على ذلك.
فهل هذا هو اتباع للشريعة الإسلامية؟ طبعاً لا!
1- رأينا قول أبي مدين المغربي في الشيخ:
ففي رضاه رضا الباري وطاعته ……يرضى عليك فكن من تركها حذراً
وقول عبد القادر الجيلاني: إذا لم تفلح على يدي لا فلاح لك قط.
وقوله: والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب.
وغيرها وغيرها من الأقوال التي تملأ ألوف الصفحات. فما هو حكم الإسلام في ذلك؟
يقول سبحانه: ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) [الزمر:2، 3].
إن المتصوفة هم أول من تنطبق عليهم أحكام هذه الآية باتخاذهم أولياء من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى...
- والسؤال: لِمَ -إِذَنْ- يقدسون الشيخ هذا التقديس؟ وما هي فائدته؟
- إن للخضوع الكامل للشيخ ولعبادته وتقديسه فائدتين عظيمتين:
أ- خرق العادة: فمن القواعد المقررة أن الشياطين لا تقدم خدماتها للساحر إلا بعد أن يكفر: ((وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، والسحر هو الكهانة، وهي الصوفية؟ فكلما ازداد المريد غلواً في إشراكه الشيخ بالله، كلما ازدادت أمامه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها (كرامات)، ويعزونها إلى المدد المفاض عليهم من الشيخ!(79/82)
ب- التحقق أثناء الجذبة بالفناءات في الله: (الفناء في صفات الله وفي أسمائه وفي ذاته)، أو (التحقق بالألوهية)، وذلك أن المجذوب يرى في أحلام جذبته، صوراً هي خليط من انطباعات قديمة وحديثة مستقرة في أعماق لا شعوره، تختلط مع أماني وطموحات تسربت إلى أعماق نفسه من المحيط الذي يعيش فيه، وهذا هو نفس ما يراه متعاطي الحشيش والأفيون وعقار الهلوسة، وبدون الشيخ تكون رؤى المجذوب مثل رؤى الحشاش، تدور حول الجنس واللهو واللذة أو الحقد والحسد،
لكن الشيخ، بخبرته التي استقاها هو أيضاً من شيخه، يغرس في نفس المجذوب طموح العروج إلى السماوات والعرش والجلوس مع الله (جل الله)، ثم الفناء فيه بحيث يرى نفسه أنه جزء منه (سبحانه)، أو أنه هو هو بكامل أسمائه وصفاته (سبحانه وتعالى عما يصفون)، ويرى في أحلام جذبته أنه يتصرف بالكون، ويقول للشيء كن فيكون. ولا ينجح الشيخ بهذه المهمة إلا إذا كان المريد قد عجن عقله وعواطفه ونفسه كلها بحب الشيخ وتقديسه وطاعته، بحيث تغدو كلمة الشيخ جزءاً من كيان المريد لدى التلفظ بها.
ويجب ألا ننسى أن قوة شخصية الشيخ وجاذبيته تلعبان دوراً هاماً في استقطاب قلوب مريديه وعواطفهم حوله وتساعدان على تهيئتهم لرؤى (تحشيشهم الروحاني) التي يسمونها (الكشف).
وفي هذا يقول الغزالي:
...فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه، وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها...فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد(1)...اهـ.
ولذلك قالوا أيضاً: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن رؤاه تكون مثل رؤى الحشاشين تماماً.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/65).(79/83)
- وأخيراً، لنقرأ قوله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)) [المؤمنون:1-10].
ولم يقل سبحانه: قد أفلح الذين يتمسكون بالشيخ، أو لا يفلح إلا باتباع شيخ، أو من لا شيخ له فشيخه الشيطان...أو بقية الشركيات.
- وهنا يقف المسلم الصادق أمام أمرين لا ثالث لهما: إما أن يؤمن بالقرآن الكريم ويكفر بهؤلاء القوم وبعقيدتهم، وإما أن يؤمن بهم وبعقيدتهم ويكفر بالقرآن الكريم، وأي طريق آخر لا وجود له إلا بالمراوغة والدجل.
الفصل الثاني
مناقشة الرياضة (المجاهدة)
لنبدأ المناقشة بقراءة آيات من كتاب الله: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) [الأنعام:50].
((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي)) [الأعراف:203].
((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [يونس:15].
((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الأحقاف:9].(79/84)
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله، لا يأتي من عنده بشيء في التشريع مطلقاً، وكل شيء يأمر به وينهى عنه فهو اتباع لما يوحى إليه. ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
ويأمره الله سبحانه، والأمر موجه لكل من يتبع الرسول: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا)) [الجاثية:18]. ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) [الأعراف:3].
((وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)) [النور:21]. ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)) [القصص:50].
والآيات كثيرة. والأحاديث كذلك كثيرة. منها: {وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}. {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد}.
ومن القواعد الأصولية المقررة: (كل العبادات باطلة إلا ما نزل به نص). فهل يتبع الصوفية آيات الله وأحاديث رسوله، فيما يسمونه افتراءً (السير إلى الله)، وما هو إلا السير إلى الجذبة، وإلى الرؤى العصابية والشيطانية التي يستشعرونها في الجذبة. هل يتبعون آيات الله وأحاديث رسوله؟؟
1- الخلوة:
ليست من العبادات الإسلامية، ولا خلوة في الإسلام، وهي بدعة محدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أصحابه وتابعيهم وتابعي تابعيهم.
إنها بدعة محدثة في الإسلام، أما في الأمم الأخرى فهي قديمة قدم الكهانة.
2- الصمت:
وهو مناقض للعبادة في الإسلام، إذ العبادة هي أقوال وأعمال معينة، علمها الرسول للمسلمين ليتبعوها ولا يتبعوا غيرها. (وإلا فما هي الفائدة من رسالته؟).
ولا يوجد أي نص يجعل الصمت من العبادة الإسلامية، فهو بدعة.
وهو موجود في كل الأمم التي بنيت عقائدها على الكشف والإشراق.
3- الجوع:(79/85)
فرض الله سبحانه صيام رمضان، وسن رسوله صلى الله عليه وسلم صيام أيام أُخَر، وحرم الوصال في الصيام، كما أمر أن يكون الصيام في غير رمضان متقطعاً.
وجوع الصوفية هو صيام أيام كثيرة لا يفطرون فيها مع المغرب، ولا سحور فيها، بل جوع مستمر حسب الأسلوب الكهاني الموجود في الهندوسية والبوذية والجينية والطاوية وغيرها. فهو ليس من العبادات الإسلامية، وليس من الإسلام في شيء، وهو بدعة.
4- السهر:
الوارد في الإسلام هو قيام الليل ضمن الحدود التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: {لا...ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر...فمن رغب عن سنتي فليس مني}(1). فليس السهر من الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من المعمول به في الإسلام، وقد رأينا قول رسول الإسلام فيه وفي الجوع: {فمن رغب عن سنتي فليس مني}، أي: إن الذين يقومون بهذه الطقوس ليسوا من رسول الله، وبالتالي ليسوا من الإسلام.
5- تعذيب النفس بالضرب (كما كان يفعل الشبلي وغيره)، أو بالوقوف على رجل واحدة طيلة الليل، أو غير ذلك مما هو مستفيض في كتبهم، فهذا واضح البطلان، وهو من تلاعب الشياطين بهم، وليس الله سبحانه بحاجة أن يضربوا أنفسهم ويعذبوها ليرضى عنهم: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78]، إنما يرضى الله عن المؤمنين إذا عبدوه كما أمرهم (لا كما يبتدعونه أو يقلدون به أصحاب الوثنيات)، ويرضى سبحانه عن المؤمن إذا أدى لكل ذي حق حقه.
* ملحوظة هامة:
من أساليب القوم في المغالطة والمخادعة، قولهم: إنهم يتأسون في الخلوة وتوابعها، بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قبل الرسالة يختلي أياماً كثيرة في غار حراء.
هذه المغالطة، مثل غيرها، فيها جهل غبي، أو تجاهل ماكر؛ لأن الآية الكريمة تقول: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...)) [الأحزاب:21].
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب النكاح.(79/86)
ولم يصبح محمدٌ (رسولَ الله) إلا بعد أن نزل عليه الوحي بالرسالة. أما قبلها فقد كان إنساناً كبقية الناس على الإطلاق، لا يمتاز عنهم إلا بأخلاقه الكريمة. يقول سبحانه: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)) [فصلت:6]، وهذه الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض، بأن الفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبين بقية البشر، هو الوحي.
ويقول سبحانه: ((قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً)) [الإسراء:93]. ويقول: ((قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ...)) [إبراهيم:11]. ويقول صلى الله عليه وسلم: {أنا فيما لم يوح إلي كأحدكم}. ونعود إلى آية التأسي، إنها تأمرنا أن تكون أسوتنا برسول الله (الذي ينزل عليه الوحي)؛ وذلك لأن (رسول الله) معصوم بالوحي؛ أما قبل الرسالة فلم يكن معصوماً؛ لأنه لم يكن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم.
وفي واقع الأمر، إصرارهم على القول بالتأسي بمحمد قبل الرسالة، منبثق عن:
1- عقيدتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم وصل إلى النبوة بالمجاهدة والرياضة، وأن النبوة هي فتح مثل فتوحهم، وهم بالتالي، لا يعتقدون أن النبوة فضل من الله سبحانه يجعلها حيث يشاء.
2- منبثق عن عقيدتهم بما سموه (الحقيقة المحمدية) النابعة من (وحدة الوجود)، الباطلة الكافرة.
3- عن إنكارهم للمعنى الشرعي الصحيح لآيات القرآن وأحاديث السنة، وتأويلهم لها لتتفق مع كشفهم، كما صرح بذلك حجتهم الغزالي(1)، وكما نراه معمولاً به في كتبهم.
4- عقيدتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة ذاتية، وليس بالوحي! وأنه أخذ علومه عن طريق الكشف، لا عن طريق جبريل عليه السلام، كما صرح بذلك حجتهم الغزالي(2) وغيره.
أخيراً..
__________
(1) انظر المدخل إلى فهم النصوص الصوفية.
(2) انظر فصل: (نماذج من حكايات الصوفية).(79/87)
المجاهدة، أو الرياضة، بكل عناصرها، ليست من الإسلام، ولا من عقيدة الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من سنن الإسلام، ولا من مستحبات الإسلام، ولا من فضائل الإسلام، ولا من ممارسات الإسلام، ولا من عادات الإسلام، ولا من الأعمال المأجورة في الإسلام، ولا من الأعمال المشكورة في الإسلام.
إنما هي طقوس كهانية، مارستها وتمارسها الأمم الوثنية، تقود إلى الجذبة، لا إلى رضا الله تعالى.
* مناقشة الذكر:
لم أعثر في حدود اطلاعي، عند إشراقيي الأمم الأخرى، على وجود ممارسة للذكر بمداه الواسع وشكله الأساسي الموجودين عند متصوفة المسلمين.
ففي الأمم الأخرى، يعتمدون أساساً على الرياضة (الخلوة والجوع والصمت والسهر)، مع تركيز البصر على نقطة ما، مدة طويلة، مع تعذيب النفس في أكثر الأحيان، وهم- أثناء الرياضة- يركزون الفكر ويثبتونه على كلمة ما، فعند الهندوس مثلاً، يأخذ السالك في رياضته إحدى وضعيات اليوغا(1)، ويركز بصره على شيء ما، ثم يركز فكره في كلمة (أوم) التي هي عندهم الاسم المستسر لبراهمان(2)، أو (راهام).
قد تدوم مثل هذه الرياضة مدة طويلة جداً، ومن حين لآخر يعمدون إلى الرقص العنيف والموسيقى الصاخبة المدوية يصاحبها الزعاق، ثم يعودون إلى رياضتهم.
- والخضوع المطلق للشيخ (السامانا) الأكبر هو محور كل مجاهداتهم.
تسبب هذه المجاهدة؛ مع الاستمرار والزمن، إفراغاً لمراكز الوعي والشعور في الجملة العصبية، وهي حالة (الاستخدار) التي تجعلها في استرخاء يفقدها كثيراً من فعالياتها، ويهيؤها للتأثر بكمية من المخدر، أي مخدر، أقل من الكمية المؤثرة في الحالة العادية، كما تدفع الجسم لإفراز المادة المخدرة بكمية أكبر من المعتاد.
__________
(1) اليوغا رياضة تعبدية هندوكية.
(2) براهمان الإله الخالق عند الهندوك.(79/88)
لكن هذه الرياضة تحتاج إلى كثير من قوة الإرادة والصبر، كما تحتاج إلى العزلة التامة. على أن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوباً سهَّل عليهم الأمر كثيراً.. إنه ترديد كلمة ما، كائنة ما كانت، بشكل مستمر دون انقطاع، ليلاً ونهاراً، وهو ما سموه (الذكر). وهذا الذكر المستمر يساعد كثيراً على الوصول إلى حالة الاستخدار، ثم إلى الخدر (الجذبة) بمدة أسرع.
لكن هل صحيح ما يدعيه متصوفة المسلمين أمام الناس، أن ذكر الله، سواء بالاسم المفرد (الله) أو بالأذكار الإسلامية الأخرى، أو بأذكارهم وصلواتهم التي يبتدعونها، هي التي تقود إلى الجذبة؟
الواقع خلاف ذلك فهاهم أقطابهم وعارفوهم وعلماؤهم، يؤكدون أن ترديد أي كلمة كانت، أو أي جملة، بصورة مستمرة، مئات الألوف من المرات، أو ملايينها، يؤدي إلى الجذبة، بعد مدة قد تطول وقد تقصر.
وهذه أدلة من أقوالهم في ذلك:
يقول ابن عطاء الله السكندري:
...والذكر تختلف أنواعه وتتعدد، والمذكور واحد لا يتعدد ولا يتحدد...(1).
- لننتبه إلى قوله: (لا يتحدد) وماذا تعني.
ويقول: ...وروي أن أبا القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال لبعض خواص أصحابه: إن اسم الله الأعظم هو (هو)...وذكر أن أهل المعرفة في هذا الاسم على أربعة أصناف أيضاً: فعارف قال: (الله)، وعارف قال: (هو)، وعارف قال: (أنا)، وعارف بهت(2)...
- ما هو معنى قوله: (وعارف بُهت)؟ ولِمَ بُهت؟ أظن الجواب واضحاً، إنه بُهت لأنه عرف أن كل شيء هو اسم الله الأعظم.
ومن النصين نفهم أن الذكر يمكن أن يكون بترديد كلمة (الله الله الله الله)، أو (هو هو هو هو)، أو (أنا أنا أنا أنا)، أو الأشياء التي جعلت العارف يُبهت.
ويقول ابن عطاء الله أيضاً:
__________
(1) القصد المجرد، (ص:82).
(2) القصد المجرد، (ص:56).(79/89)
...أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأذكار وما يرد عليه من جملة الأسرار، فقد تجري على لسانه (الله الله الله)، أو (هو هو هو هو)، أو (لا لا لا لا)، أو (آه آه آه آه)، أو صوت بغير حرف، أو تخبط، فأدبه التسليم للوارد. وبعد انقضاء الوارد يكون ساكناً ساكتاً، وهذه الآداب لمن يحتاج إلى ذكر اللسان، أما الذاكر بالقلب فلا يحتاج إلى هذه الآداب(1)...
ويورد عبد الوهاب الشعراني ما يشبه هذا، يقول:
...وقال سيدي يوسف العجمي رحمه الله: وما ذكروه من آداب الذكر محله في الذاكر الواعي المختار، أما المسلوب الاختيار، فهو مع ما يرد عليه من الأسرار؛ فقد يجري على لسانه: (الله الله الله الله)، أو (هو هو هو)، أو (لا لا لا)، أو (آه آه آه)، أو (عا عا عا عا) أو (آ آ آ آ)، أو (هـ هـ هـ)، أو (ها ها ها)، أو صوت بغير حرف، أو تخبيط، وأدبه عند ذلك التسليم للوارد(2).
ويقول ابن عربي:
...فأغلق بابك دون الناس، وكذلك باب بيتك بينك وبين أهلك، واشتغل بذكر الله بأي نوع شئته من الأذكار، وأعلاها الاسم، وهو قولك: (الله الله الله)(3)...- نفهم معنى قوله: (بأي نوع شئته مق الأذكار) من قول آخر له: (...فما عُبد غير الله في كل معبود...)(4).
- يعني: أن كل ما عبد من صنم وشجر وبشر وغيره هو الله، ويمكن للذاكر أن يذكر بما يريد من أسماء المعبودات التي عبدت في كل الوثنيات، كأن يردد مثلاً: (هبل هبل هبل هبل..)، أو (جيلاني جيلاني جيلاني..)، أو (جذبة جذبة جذبة جذبة..)، أو (لينين لينين لينين لينين...)، أو (إنتاج إنتاج إنتاج إنتاج..)، أو (مقام مقام مقام مقام..)، أو (ضريح ضريح ضريح ضريح..)، أو (رفاعي رفاعي رفاعي..)، وغيرها.
ويروي ابن عجيبة قصة الششتري فيقول:
__________
(1) مفتاح الفلاح، (ص:30، 31).
(2) الأنوار القدسية في معرفة القواعد: (1/39).
(3) رسالة الأنوار، (ص:6).
(4) فصوص الحكم، (ص:72).(79/90)
...وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين؛ لأن الششتري كان وزيراً وعالماً، وأبوه كان أميراً، فلما أراد الدخول في طريق القوم، قال له شيخه: لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق؛ ففعل جميع ذلك، فقال له: ما نقول في السوق؟ فقال: قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام وخرقت له الحجب(1)...
- نلاحظ أن ذكره هنا ليس فيه شيء من أسماء الله الحسنى.
وكتب ابن سبعين إلى أحد مريديه (في الرسالة النورية):
...وجميع ما توجه الضمير إليه، اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمه به، ومَن اسمه (الوجود) كيف يخصص بأسماء منحصرة؟! هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: إن من سمى نفسه (الله) قال لك: أنا كل شيء، جميع من تنادي أنا...وبعضهم كان يقول: قد قد قد هذا هذا هذا له له له(2)...
ويقول ابن أنبوجة الشنقيطي في (وصف العارف):
...فهو (أي: العارف) الخليفة الأعظم، إذ لا اسم له يختص به، فإن أسماء الوجود كلها أسماؤه، لتحققه بمراتبها، ولكونه هو الروح في جميع الموجودات، فما في الكون ذات إلا وهو الروح المدبر لها والمحرك والقائم فيها، ولا في كرة العالم مكان إلا وهو حال فيه ومتمكن منه. فبهذا الاعتبار لا اسم له يتميز به عن الوجود(3)...
- نرى في هذا النص أنهم يسبغون على العارف صفات هي نفس ما يسبغونه على الله (تعالى الله عما يقولون)، وعليه يمكن ذكر الله بترديد كلمة: (عارف عارف عارف عارف..) أو (عمر بن الفارض عمر بن الفارض عمر بن الفارض...)، أو (الغزالي الغزالي الغزالي الغزالي..)، أو (الشيخ الشيخ الشيخ الشيخ...)، أو (سيدي سيدي سيدي سيدي..) إلخ.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:28).
(2) رسائل ابن سبعين، (ص:184).
(3) ميزان الرحمة الربانية، (ص:115).(79/91)
ويقول أبو الهدى الصيادي الرفاعي:
...والفناء، حقيقة سر الاعتقاد به من سر قوله عليه الصلاة والسلام: لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه(1).
- الحديث مكذوب، والاعتقاد به كفر، لكن يهمنا أنهم يؤمنون به، ويؤمنون أن الاعتقاد به ينفع، ومنه إن ذكر ذاكر اسم (حجر حجر حجر حجر)، أو (قبة قبة قبة قبة)، أو (صخرة صخرة صخرة صخرة..) نفعه (في الوصول إلى الجذبة طبعاً).
يردد علي نور الدين اليشرطي نفس القول:
...لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه. وقال: ليس الحجر الذي ينفع، إنما هو الاعتقاد(2).
- طبعاً، إنهما لم يقررا هذا الحكم إلا بعد تجارب، ويجب أن ننتبه إلى أنه ينفع في التصوف والكهانة والسحر فقط، (لأن الصوفية هي نفس الكهانة، والسحر بعضها)، ولا ينفع في شيء غيرها.
ويقول محمد بهاء الدين البيطار:
...فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى، فكل ما أمات مثلاً من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم (المميت)، ومعنى المميت: شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات(3)...
ويقول ابن سبعين في (الرسالة النورية) يخاطب أحد المريدين:
...هذه الكلمات التي نذكرها لك مرموزة مني، غير أن الذاكر ينتفع بها، وهي: عمرش أش عمر صح راهيا إيداحا أيهم اردع صعر عرجم كعلم....فقل إذا وجدت البحر والوجود والحمد: قهوم طمس هوالم صعنج ذلك الله ربكم يا يا يا(4)...
- بدهي أن ابن سبعين لم ينصح مريده بالذكر بهذه الأسماء إلا بعد تجريبها.
- وكما فهمنا من نصوصهم. الذكر يقود إلى الجذبة التي هي الغاية. وفي الطريق قد يحصل للذاكر بعض الخوارق، وينصحونه ألا يهتم بها لأنها تحجبه عن الغاية المنشودة.
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:292).
(2) نفحات الحق، (ص:229).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:5).
(4) رسائل ابن سبعين، (ص:182).(79/92)
والطريق إلى الجذبة قد يقصر وقد يطول، حسب استعداد السالك النفسي والفيزيولوجي. ولعل الذكاء الفطري العالي يبعد الوصول إلى الجذبة! ولعل الغباء الفطري يقصر الطريق إليها.
* وخلاصة لما تقدم:
الذكر بترديد أي كلمة كانت مقرر من كبار عارفيهم، فلا مجال للاعتراض عليه أو الشك فيه، إنهم يقدمونه لمريديهم قاعدة يسيرون عليها في مسيرهم إلى...الجذبة. ومن البدهي أنهم لم ينصحوا به مريديهم إلا بعد تجربة.
ومنه تعلم أن حقيقة ذكرهم ليست مرتبطة بذكر الله سبحانه. وما التزامهم الاسم (الله) أو عبارات الثناء عليه ودعائه إلا أسلوب ذكي لإلباس التصوف رداء الإسلام، وضعه لهم سيدهم الجنيد، وتوسع فيه حجتهم الغزالي، وهو أحد مظاهر الطريقة البرهانية الغزالية، التي يسمونها (التصوف السني).
وذكرهم كله، موضوعه، وشكله، وزمانه، ومكانه، هو بدعة كله، غريب عن الإسلام كله، ومن الردود المفيدة عليه وعليهم، هو رد الإمام النووي رحمه الله.
لقد اتصل الإمام النووي في أول وصوله إلى دمشق، وهو صغير، بالمتصوفة، وسار في طريقهم، وعندما اتسعت معارفه وفهم الإسلام، ترك الصوفية بدون ضجيج، ورد عليهم بكتابين:
1- رياض الصالحين، يبين فيه بالنصوص الصحيحة (إلا قليلاً منها) طريق الصلاح، وحيث يتبين طريق الصلاح، فكل الطرق من دونه ضلال.
2- الأذكار: يبين فيه الأذكار الإسلامية، نصوصها، وأوقاتها، وأماكنها، كل ذلك بأسانيد أكثرها صحيح، وإذ يتبين ذلك، يتبين أن الذكر الصوفي الذي يستعمله السالكون إلى الجذبة، ليس من أذكار الإسلام.
- من جهة ثانية:
كل عبادة في الإسلام لها شروط وأركان.
ويوجد شرط مشترك لكل العبادات الإسلامية (مر معنا في بحث البدعة)، وهو: (كل العبادات باطلة إلا ما ورد به نص)، وبصيغة أخرى: (لا عبادة بدون نص). والذكر عبادة، فهو يحتاج إلى النص، وإلا فلا يكون عبادة.(79/93)
وذكر الصوفية من حيث الشكل واللفظ إذا كان بالاسم المفرد أو (بما شئت من الأذكار) الواردة آنفاً، لا نص فيه. والنصوص التي يقدمونها، إنما يلفقونها بالتأويل والترقيع، إذن، فهو ليس عبادة.
كما أن للذكر في الإسلام أركاناً: نجدها في الآية الكريمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205].
يهمنا في بحثنا هنا قوله سبحانه: ((فِي نَفْسِكَ)) [الأعراف:205]...((وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205]، فعبارة ((فِي نَفْسِكَ)) [الأعراف:205]، تعني ألا تسمع نفسك، وعبارة: ((وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)) [الأعراف:205]، تعني ألا يسمعك جارك؛ لأن الجهر هو ما يستطيع سماعه الجار.
إذن، فيجوز في الذكر أن يُسمِع الإنسان نفسَه وأن لا يُسمعها.
وأما الجهر، فمنهي عنه بأكثر من آية وأكثر من حديث.
مع ملحوظة أن هناك حالات نص عليها الشارع، يجب فيها رفع الصوت بالذكر أو يجوز، كما في التلبية بالحج، وقبل صلاة العيدين، وفي التعليم، والحالة العفوية، ولتذكير الغافلين (حيث يجهر بعبارة الذكر مرة أو مرتين فقط)، وليس تفصيل هذه الأمور داخلاً في موضوعنا.
وكل محاولة أو مراوغة لاختراق الحدود التي رسمها الشارع من أجل التوسع بمدلول النص لتبرير الأساليب المبتدعة، هي محاولة باطلة، وهي بدعة وهي ضلالة، ((وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)) [الطلاق:1].
وتعرف الحدود الشرعية من النص، أو من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه. والأذكار التي يستعملها الصوفية في الخلوة أو السياحة وفي الحضرة وفي مجلس الذكر أو مجلس الصلاة على النبي أو بعد الانتهاء من الصلاة، كلها فاقدة لشرط وركن معاً، أو لأحدهما على الأقل، لذلك فهي باطلة، وهي بدعة، وهي ضلالة.(79/94)
والباطل لا يقود إلا إلى باطل. وإن كلمة قالها الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان (أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لهي كافية لحسم هذا الموضوع. قال: [[كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً]].
- هذا إن كان الذكر بالأسماء الحسنى أو بعبارات الثناء على الله.
أما إن كان بغيرهما مما يقرره كهانهم من أسماء حجارة أو أوثان أو قبور أو غيرها فهي واضحة الزندقة بينة الكفر، وهي من الوثنية التي جاء الإسلام ليحاربها باعتبارها المصدر الرئيسي لكل الشرور، وهي السحر وهي الكهانة.
* قصة مرسلة:-
مستشار في محاكم الاستئناف في مدينة حلب، كانت تجمعه الصلاة في المسجد مع بائع شراب متجول، وفي ذات مرة، طلب إليه البائع أن يجرب أن يقرأ بعد كل وقت من أوقات الصلاة، الكلمات: (بطدٍ زهجٍ واحٍ ياحي ياهٍ) مائة مرة، وبعامل الفضول، صار المستشار يرددها بعد كل صلاة...
بعد ثلاثة أيام، بينما كان جالساً على قوس المحكمة يفصل في قضايا الناس، إذا به يرى أمامه بيته وأهله يقومون بأعمالهم حسب المعتاد، وعندما رجع إليهم بعد الظهر، سألهم عما كانوا يفعلونه في ذلك الوقت؟ فكان في بعض ما رآه بعض ما كانوا يفعلونه. وصارت مثل هذه الحالة تتكرر أمامه كلما كرر تلاوة الأسماء(1).
* فقرة من كتاب صوفي:-
...ولحرف الباء خلوة، وخادمه مهيائيل، فإذا أردت استخدامه اكتب الحرف وضعه في رأسك بعد الرياضة، واتل الدعوة والقسم دبر كل صلاة 31 مرة، واتل العزيمة والرياضة 40 يوماً، فإن الملك يحضر ويقضي حاجتك، ومهما أردته تبخر وتقول: أجب يا خادم حرف الباء، فإنه يحضر(2)...
__________
(1) لم يتيسر استئذانه لذكر اسمه.
(2) شمس المعارف الكبرى، (ص:401).(79/95)
- إن كتب التصوف المحض، والتي لم تؤلف للخداع والتضليل والمراوغة، ملأى بمثل هذه الفقرة، وهي واضحة كل الوضوح في أن التصوف هو السحر، والفرق بينهما أن الصوفي مخدوع مراوغ، والساحر صادق.
ويكفي للدلالة على أن الصوفية هي السحر، الرجوع إلى كتاب (شمس المعارف الكبرى) للبوني(1)، وكتاب (مجموع ساعة الخير) لابن عربي، و(المضنون به على غير أهله) للغزالي، و(صفحات من بوارق الحقائق) للمهدي الصيادي، وغيرها..
لكن أقطاب التصوف العارفين بالله يتواصون فيما بينهم بتأليف الكتب الموهمة أنها من الإسلام، ذات المظهر الإسلامي الخداع؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك، وطبعاً هم يفعلون ذلك عن إخلاص وإيمان بما يفعلون، شأن أي متدين مخلص لدينه ومؤمن به.
- وقبل الانتقال إلى البحث التالي، يجدر الانتباه إلى أن المتصوفة قد يستعملون الأذكار الإسلامية حسب المنهج الإسلامي، ويكون هذا منهم عملاً صحيحاً؛ لكنه لا يكون أبداً تبريراً لأذكارهم الصوفية حسب المنهج الصوفي.
* مناقشة الحضرة:
عرفنا أن الحضرة تكون: جالسة صامتة، أو جالسة صائتة، أو راقصة (بنقص أو بدون نقص).
1- الجالسة الصامتة:
في الرد عليها يكفي حكم عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما يرويه الحافظ الذهبي في التذكرة): {خذوا عهدكم عن ابن أم عبد}.
نجد حكم عبد الله بن مسعود هذا في (سنن الدارمي):
__________
(1) أحمد بن علي البوني من بونة في الجزائر، واسمها الآن عنابة، مات سنة (622هـ).(79/96)
...عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: [[كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة (أي: الفجر)، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.. رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة مرة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة مرة، فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة مرة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله، لا أدري، لعل أكثرهم منكم...]].
- الرجاء ملحوظة أن الجلسة النقشبندية هي مثل هذه الجلسة.
2- الحضرة الجالسة الصائتة:
في الرد عليها نذكر ما يلي:(79/97)
- الآية الكريمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ...)) [الأعراف:205]، وهؤلاء يجهرون بذكرهم، كما يخلو ذكرهم من التضرع والخيفة.
- الحضرة بجميع أنواعها، ومثلها هذه، بدعة تنطبق عليها كل الأحاديث الواردة في البدعة، والتي رأيناها قبل قليل.
- حديث ابن مسعود السابق هو رد عليها كما هو رد على الجالسة الصامتة.
- قول حذيفة بن اليمان: [[كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبدوها]]، رد عليها وعليهم.
وبالتالي، هذه الحضرة (الجالسة الصائتة) هي مثل غيرها، بدعة، فهي مردودة عليهم.
3- الحضرة الراقصة (وكلها صائتة):
إن جميع الردود على البدعة وعلى أساليبهم في الذكر، وعلى الجالسة الصامتة، وعلى الجالسة الصائتة، هي ردود على الحضرة الراقصة، يضاف إليها:
- هي نفس صلاة اليهود!
جاء في (المزمور:149) (عدد:3): (ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، ليرنموا له..).
وفي (المزمور: 150): (سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوج التصويت، سبحوه بصنوج الهتاف...).
- وثنيو إفريقيا السوداء (الفيتيشيون) عباداتهم كلها رقص وسماع.
- الهندوس، صلاتهم لأصنامهم مثل الحضرة الراقصة، يتوسطهم الكاهن أمام الصنم، يرقصون ويهزجون، أي: إن صلاتهم هي رقص وسماع وقرع أجراس.
* الخلاصة:-
الحضرة الصوفية بجميع أشكالها، بدعة، ونقض للآيات والأحاديث، وتشبه كامل بالطقوس اليهودية والوثنية، (فيتيشية وهندوسية وجينية وطاوية...).
- أما كونها بدعة، فهي ضلالة، وكل ضلالة في النار.
- وأما كونها نقضاً للآيات والأحاديث، فهي كفر وزندقة وردة.
- وأما كونها تشبه الطقوس الوثنية واليهودية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
ولا حاجة للزيادة.
* مناقشة السماع:(79/98)
إن كل النصوص الواردة في السماع، حلاله وحرامه، وكل بحوث العلماء (وأقول: العلماء)، هي نصوص وبحوث فيه على أنه أمر دنيوي، ودنيوي فقط، لا علاقة له بعبادة ولا بتقرب إلى الله.
ولم يرد فيه نص (علمي) قط، بتحليل أو تحريم، إلا على أنه أمر دنيوي يمارس في الأعياد والأعراس والحرب أو في التسلية واللهو والطرب.
أما أن يكون طقساً تعبدياً، كما هو عند المتصوفة، فهذا شيء ما عرفه التشريع الإسلامي، ولا تكلم فيه عالم؛ لأنه بدهياً، غير وارد في العبادات الإسلامية.
أما المتصوفة، فيتخذون السماع طقساً تعبدياً روحانياً يسهل عليهم ما يسمونه ظلماً وعدواناً (السير إلى الله). وهنا يكمن الداء، ويعشعش البلاء.
إن السماع عند المتصوفة عبادة، وفي الغالب يكون مصحوباً بالآلات، وهذا كله:
1- بدعة، وذلك بين لا يحتاج إلى دليل، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
2- تشبه بالوثنيين وأهل الكتاب، يقول سبحانه في وصف صلاة المشركين: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)) [الأنفال:35].
وجاء في التوراة (الحالية) في (المزمور: 144) (عدد: 9): (يا الله، أرنم لك ترنيمة جديدة..).
وفي (المزمور:146) (عدد:2): (أسبح الرب في حياتي وأرنم لإلهي ما دمت موجوداً). وفي (المزمور: 149) (عدد: 3): (ليسبحوا اسمه برقص، بدف وعود، ليرنموا له..). وكذلك هو في الديانات الوثنية طقس تعبدي.
إذن فالصوفية يتشبهون بالسماع بالوثنيين وأهل الكتاب، و{من تشبه بقوم فهو منهم}.
* ملحوظة هامة جداً:(79/99)
من العجب العجاب، مغالطتهم، في كل مقولاتهم عن السماع، في كل كتبهم (ابتداءً من أمهات كتبهم (اللمع)، (التعرف)، (قوت القلوب)، (الرسالة القشيرية)، (إحياء علوم الدين) إلى بقية ما كتبوا وما دونوا)، حيث يبدءون بمناقشة السماع حسب الشرع والنصوص المزور بعضها، وطبعاً كل النصوص الشرعية في السماع إنما تتكلم عنه على أنه أمر دنيوي يمارس للتسلية واللهو، لكن الصوفية يتوسعون في التحليل حسب طريقتهم في التزوير، ثم يطبقون ذلك على سماعهم التعبدي الذي يجعلونه قربى يتقربون به إلى الله.
ولعل الأمثلة التالية يمكنها توضيح مدى الفساد والضلال في أسلوبهم هذا:
- يبيح الشرع أكل الشاورما، فهل يصبح أكل الشاورما بهذه الإباحة طقساً يعرج به إلى الله؟
- يبيح الشرع البصاق الذي ليس فيه أذى، فهل يجوز بناءً على ذلك، أن نجعل البصاق طقساً تعبدياً في (السير إلى الله)!
لا يعترض الشرع على أحد إذا خطر له أن يحك أذنه بإبهام رجله، فهل يصح، بناءً على هذا، أن يكون حك الأذن بإبهام القدم طقساً تعبدياً يمارس تنشيطاً على (العروج إلى الله)؟!
عجيب أمر هؤلاء القوم، هل هم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ أم ((يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة:9، 10]؟
وغاية الطريقة الإشراقية هي الوصول إلى الجذبة التي هي الولاية (كما يتوهمون)، وهي حالة خدرية تشبه الحالة التي يقع فيها متعاطي الحشيش والأفيون ورفاقهما شبهاً تاماً.
* النتيجة:(79/100)
هذه هي طريقة الإشراق، كلها كفر وضلال وزندقة، إنها ليست مجرد بدع ساذجة أو انحرافات بسيطة، بل هي الطقوس الوثنية (وأقول: الطقوس) التي تعبدت بها كل وثنيات التاريخ (في الحال والماضي والاستقبال)، والعقائد الوثنية التي دانت بها أو حامت حولها كل وثنيات التاريخ في ماضي الزمان وحاضره، إنها ليست مجرد اجتهادات شاذة في الفروع أو في الأصول، أو حتى في العقائد؟ إنها طقوس وممارسات وعقائد غريبة عن الإسلام كل الغرابة، بعيدة عن الإسلام كل البعد، أُقحمت على الإسلام ومزجت به بأساليب إبليسية لتشكل ما يسمونه (الطريقة البرهانية) ولو أنصفوا لسموها (الديانة البرهانية).
الفصل الثالث
مناقشة الطريقة البرهانية (الغزالية)
(ويسمونها عادة التصوف السني)
رأينا في النصوص السابقة أن الطريقة البرهانية ليست إلا الطريقة الإشراقية مزجوها بالإسلام.
إن أول من اشتُهر عنه هذا الأسلوب هو الجنيد، الذي كان يتستر بالفقه(1) على مذهب أبي ثور، تلميذ الشافعي، وهو أول من نادى به وطالب المتصوفة بتطبيقه.
ورأينا قول أبي الحسين النوري عندما خاطب الجنيد قائلاً: يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل.
لقد غشهم الجنيد بتكلمه عليهم بالفقه! ونصحهم النوري بعرضه عليهم الحقيقة الصوفية!
وكانت تجربة الجنيد ناجحة، سار المتصوفة على خطاها، وهذه التجربة مضاف إليها تحبيره مصطلحات الصوفية، وإيجاده أسلوب (العبارة الصوفية) بإشاراتها ورموزها وألغازها، كل هذا جعل منه سيد الطائفة بلا منازع؛ لأنه رسم لهم الطريق التي يسيرون فيها بأمان، ويستطيعون بواسطتها نشر عقيدتهم الإشراقية في المجتمعات الإسلامية من دون ضجة.
وسار المتصوفة على خطاها، ومَن شذ عنها واجه سيف الردة والتكفير، فقُتل مَن قُتل، وطُرد مَن طُرد، واستُتيب مِن الكفر مَن استُتيب.
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:422)، وطبقات الشعراني: (1/161)، وغيرها.(79/101)
ومِن أبرز مَن أصَّل طريقة الجنيد بعده، هو أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب الذي بدأه بعرض بعض آيات من القرآن الكريم، انتقاها بحيث يمكن أن يكون لها (بعد لَيِّ عنقها) علاقة بالتصوف، وجاء بشيء من الأحاديث في الأوراد وما دار حولها، ثم دخل في علم الباطن وأتبعه بفقه العبادات، وحشا ذلك كله بما يستهوي قلب القارئ نحو التصوف.
ولا يستبعد أن يكون هذا هو منهج الطريقة السالمية التي تخرج فيها أبو طالب؟
وجاء من بعده حجتهم الذي سموه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، فألف في الفقه على مذهب الشافعي، وألف في علم الأصول، ومواضيع أخرى، ثم وضع عشرات الكتب فيما سماه (العلم المضنون به على غير أهله) في قمتها كتابه المشهور إحياء علوم الدين، ولو أنصف لسماه (إعياء علوم الدين)، أو (إحياء علوم الكهانة). وبسبب هذا الكتاب، نسبت الطريقة البرهانية إلى الغزالي.
فلنلق عليه نظرة عابرة لنصطدم بما يلي:
1- تقسيم الكتاب: قسم الغزالي إحياءه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات.
حيث نرى في هذا التقسيم الظالم أنه جعل المنجيات غير العبادات، وجعل العبادات غير منجيات.
ونترك الحكم على هذا التقسيم لكل إنسان عرف بدهيات الدين الإسلامي، بل وبدهيات الأديان جميعها من أولها إلى آخرها، ولكن نسأل: كيف يكون المروق من الإسلام؟(79/102)
2- لم يكن هذا التقسيم صادراً من الغزالي عن غفلة أو عن غلط أو عن غير قصد؟ بل كان مقصوداً عن وعي وتصميم واعتقاد، وقد مر معنا قوله (بعد أن تكلم عن المقامات الصوفية): فالعلم بحدود هذه الأمور...هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة (أي: الصوفية)، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة (أي: العبادات) هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى فقهاء الدنيا (أي: علماء الشريعة). وقد تكرر هذا المعنى في الإحياء في أكثر من موضع، مر بعضها في الفصول السابقة.
وهذا الكلام هو -تماماً- مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مر في فصل سابق: (تدري كم عنده من الطاعات والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار)، والفرق بين العبارتين هو الفرق بين المهارتين في استعمال الإشارة والرمز واللغز.
وهذا يعني أن هذه العقيدة هي عقيدة كل الصوفية، لأن الرجلين عندهم في قمة التقديس.
- المهم، أن الغزالي يقرر في (إحيائه) أن العبادات لا قيمة لها عند الله؛ لأنها لإرضاء السلاطين والفقهاء فقط.
3- مر معنا في ثنايا الكتاب النصوص الكثيرة المنقولة من (الإحياء)، والمشحونة بالكفر والزندقة، وهي بعض من كثير.
4- يضاف إليها أكثر من أربعمائة حديث موضوع ومكذوب. يقول الحافظ العراقي (مخرج أحاديث الإحياء)، عن قسم منها: لم أجده، أو: لم أجد له أصلاً، مما يجعلنا نظن أن الواضع لها، أو لبعضها على الأقل، هو الغزالي نفسه، أو كشفه. (أما إذا أردنا الحق، فيبقى الغزالي متهماً بوضعها كلها، حتى يثبت العكس).
5- يضاف إليها أكثر من هذا العدد من الأحاديث الضعيفة. وبذلك يكون مجموع الأحاديث الموضوعة والضعيفة قريباً من نصف مجموع أحاديث الكتاب، إن لم تكن أكثر.(79/103)
وموقف الإسلام من هذا وذاك هو قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، وقوله: {من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}.
أما الذين يبتغون الهدى في مثل هذا الكتاب الذي يحتوي على مثل هذا العدد الضخم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فحكم الإسلام فيهم هو قوله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48]، لأن الأخذ بالأحاديث الموضوعة هو من أعظم الشرك، إلى جانب كون الذي يحدث بها أحد الكاذبين. أما الأخذ بالأحاديث الضعيفة فطريق إلى التهلكة؟ وذلك لأن ضخامة عددها في الكتب المختلفة هي دليل على أن أكثرها من الموضوعات. وهذا يجعل خطر الأخذ بها كبيراً جداً، أكبر من أية فائدة متوهمة.
ومن أعاجيب المتصوفة في المغالطة، أنهم عندما يقول لهم قائل: إن كتاب الإحياء مشحون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة. يكون الجواب الذي سمعناه مراراً: لقد خرجها الحافظ العراقي وانتهى الأمر!! أو ما يدور حول هذا المعنى! فنقول:
- يا هؤلاء، اتقوا الله واخشوا يوماً تقفون فيه بين يديه، حيث لن تنفعكم جذباتكم ولا شياطين الجن التي تمسرح لكم مشاهداتكم في جذباتكم، ولا شيوخكم الذين يوصلونكم إلى جذباتكم.
- يا هؤلاء! إن الأخذ جهلاً بالحديث الموضوع، يمكن أن يكون معه عذر الجهل، أما الأخذ به بعد تخريجه، ومعرفة وضعه، فهو الشرك الأعظم!
والأخذ بالأحاديث الضعيفة بعد معرفة ضعفها هو طريق يؤدي في النهاية إلى الضلال.(79/104)
ولا بأس من إيراد كلمة في وصف الإحياء لأبي بكر الطرطوشي(1)، يقول: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعلم كتاباً على بسيطة الأرض أكثر كذباً منه.
- نقول: إن قول أبي بكر الطرطوشي هذا، كان قبل تأليف كتب المتصوفة الأخرى.
6- يضاف إلى ما سبق، تفسير آيات القرآن الكريم تفسيراً لا تعرفه اللغة العربية، ولا أصول التفسير، وما عرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من اتبعهم بإحسان، وقد مرت نماذج منها في الفصول السابقة، منها على سبيل المثال: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8]، و((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]، التي يجعلها إشارة إلى وحدة الوجود.
والغزالي لا يتفرد بهذا الأسلوب، بل كلهم في كل كتبهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه، وما أكثر الأمثلة التي مرت في هذا الكتاب، وهي بعض من كل.
7- يضاف إليها: أخبار غيبية عن الله سبحانه وتعالى، وعن الملائكة واللوح المحفوظ، وعن الرسل، وهي أخبار لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيها أي دليل من هذا الوحي، ولعل الغزالي عرفها بالكشف؟! وقد رأينا نماذج منها.
وهي بالتالي كذب على الله، وكذب على ملائكته، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على التاريخ، وكذب، وكذب، وكذب.
8- يضاف إليها دعوة إلى أخلاق غريبة؟ فالتواضع هو الذل والمهانة، والورع هو التفاهة والبلاهة، والتوكل هو الاستسلام تطوعاً للجوع والعطش والعري والمرض، والزهد هو التسول وأكل القمامات وروث الحيوانات، وقد رأينا نماذج منها.
__________
(1) محمد بن الوليد بن محمد...القرشي الفهري الأندلسي، ويقال له أيضاً: ابن أبي رندقة، توفي في الإسكندرية سنة (520هـ)، وله كتاب في الرد على إحياء علوم الدين، لم أقف عليه.(79/105)
9- يضاف إليها تعطيل أحكام الإسلام بحجج فيها الكثير من المكر؟ فهذا لم يغير منكراً أو لم ينه عنه، أو لم يقم بعمل خير خوفاً من أن يكون عمله رياء، وذاك لم يأمر بمعروف خوفاً من أن يكون داخلاً في حكم الآية: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)) [البقرة:44]، وذلك لم يتضرع إلى الله ولم يسأله خوفاً من أن يكون دعاؤه اعتراضاً على قضاء الله، ورابع لم يتزوج خوفاً من أن يكون الزواج ركوناً إلى الدنيا، وآخر ينهى عن طلب الحديث والعلم لأنه طلب للرئاسة، وآخرون ينهون عن تعلم القراءة والكتابة لأنه أجمع لهمة المريد...إلى آخر ما مر وما لم يمر مما أفسد المسلم في دينه ودنياه.
10- يضاف إليها علم الكلام الذي أنكره نظرياً واستخدمه عملياً في كل كتبه، وخاصة في (الإحياء)، استعمله بمهارة ولباقة، وأدخله في أصول العقائد والعبادات، حيث جاء إلى الاعتقادات الغيبية التي لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي، فأخذ يستنبطها بأساليب علم الكلام، ليبرر تلقيها عن الكشف، بعد أن كانت لا تؤخذ إلا من نصوص القرآن وصحيح السنة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فأقحم به الصوفية على الإسلام، حتى جعل المتصوفة هم (الخصوص)، وجعل أقطابهم (خصوص الخصوص)، وجعل أهل الشريعة هم العامة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فجعل العبادات غير منجيات، وجعل المنجيات هي مقاماتهم الصوفية التي تدمر الأخلاق والإيمان والإسلام.
11- يضاف إليها مجموعة وافرة من المعلومات الخرافية المبثوثة في الكتاب، والتي شكلت جزءاً هاماً من المعارف والثقافة عند المسلمين طيلة القرون، وكانت سبباً لما وصلت إليه المجتمعات الإسلامية من ضياع وتفتت، وقد مرت صور منها في الفصول السابقة.
- وهناك ملحوظة جديرة بالاهتمام، وهي أن قسماً من إحيائه هو نصوص منقولة حرفياً من قوت القلوب للمكي، وبعضاً من اللمع للطوسي...(79/106)
كما أنه يأخذ أفكاره وفلسفاته وأقواله في التربية والنفس والمجتمع، من أفكار وفلسفات إخوان الصفا، وقد انتبه إلى هذا كثيرون منهم ابن سبعين(1) والمازري(2) والذهبي(3) وغيرهم.
لقد استطاع الغزالي، بهذه الأساليب، أن يمزج التصوف بالإسلام، ويجعل الآخرين يعتقدون أنهما شيء واحد.
وتبعه مثقفو المتصوفة على هذا النهج، وشيئاً فشيئاً، فَشَا هذا في الأمة، إلا من رحم ربك، وشيئاً فشيئاً، أصبح الإشراق وعلم الكلام آلة لاستنباط العقائد والعبادات في الإسلام، وشيئاً فشيئاً، جعلوا التصوف قمة الإسلام، وقبلوا تسميته (الإحسان)!
ولهذا السبب، أطلقوا على الغزالي لقب حجة الإسلام، وما هو إلا حجة الكهانة.
ولهذا السبب، جعلوا كتابه: (إحياء علوم الدين)، كتاباً مقدساً، ففي كل بلاد المسلمين، نرى من يسمعون العلماء وأتباعهم، يقرؤون القرآن للتبرك، ولترديد كلمة (الله)، عندما يقف القارئ على الآي، يمطونها ويكررونها! وكأنهم لم يقرؤوا قوله سبحانه: (( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) [الأعراف:204] كما يقرؤون صحيح البخاري في المساجد جماعة إذا حزبهم أمر، بينما يقرؤون: (الإحياء) و(الرسالة القشيرية) و(الحكم العطائية)، وغيرها من كتبهم ليطبقوها ويتخذوها منهجاً طاغوتياً من دون القرآن والسنة، وأحسنهم طريقة من يشرك كتب التصوف بالوحي المحمدي، يأخذ منها اعتقاداته وعباداته.
هذه هي الطريقة البرهانية بإيجاز، وهي لا تزيد عن كونها أسلوباً ذكياً لاستدراج المسلمين وجرهم إلى نقمة حكمة الإشراق، إلى ضلالات الكهانة والكهان؛ إلى تلبيسات الخوارق الشيطانية وتفاهات العلوم اللدنية، إلى الوهم الممسرح الذي سموه معرفة، والكفر المموه الذي سموه توحيداً، إلى الصوفية التي سموها (الإحسان).
__________
(1) بد العارف، (ص:145).
(2) نرى هذا في فصل لاحق.
(3) نرى هذا في فصل لاحق.(79/107)
ويجب أن لا ننسى الجهود، التي نشكوها إلى الله، والتي قدمها في خدمة التصوف كثير من شيوخ الجامع الأزهر، عبر تاريخ الجامع الأزهر، حيث كان طلاب العلم يأتونه من مختلف البلاد الإسلامية، فيتعلمون فيه العلوم الإسلامية ممزوجة بالتصوف وعلم الكلام (أي: الطريقة البرهانية الغزالية) ثم يعودون إلى بلادهم لنشرها في مجتمعاتهم التي كانت تحترمهم وتأخذ عنهم لأنهم خريجوا الجامع الأزهر (!).
وهكذا صار التحشيش الإشراقي المتستر بالإسلام، وجذبات التحشيش الإشراقي المتلفعة بالإسلام، وهلوسات التحشيش الإشراقي الممزوجة بالإسلام، هي الموجه الحقيق للمجتمعات الإسلامية طيلة القرون الطويلة، حتى وصلت المجتمعات الإسلامية إلى ما هي عليه من جهل وتخبط وذل وانحطاط وتمزق.
وأعود فأذكر أن المتصوفة وعلى رأسهم شيوخهم وأقطابهم هم من أوائل المخدوعين والمضللين، فهم قبل غيرهم، يعتقدون أنهم على منهج الإسلام، وأن الإسلام كذلك! لأنها لا تعمى الأبصار.
وهم عندما يخادعون ويراوغون ويغالطون، فإنما يعتقدون أن هذا من الحكمة وأن الله سبحانه يريد منهم ذلك، وأن الرسل كلهم أرسلوا من أجل ستر الحقيقة التي هي وحدة الوجود.
وهذا الحكم صحيح بالنسبة للذين أخذوا التصوف ممزوجاً بالإسلام أو (لغالبيتهم العظمى)، أما أوائل المتصوفة في الإسلام، الذين أخذوا الصوفية عن كهانها غير ممزوجة بشيء، فأولئك كانوا خلاف ذلك؛ لأنهم هم الذين وضعوا لأخلافهم قواعد المكر والكيد حينما مزجوا الإسلام بالتصوف وأوصوا بالتقية ووضعوا العبارة الصوفية.
وماذا يُنتظرمن مجتمعات تتعبد الله بمثل هذا منذ أكثر من تسعة قرون، إلا من رحم ربك؟ أليس ما وصلت إليه هذه المجتمعات هو نتيجة منطقية لهذا؟(79/108)
ولا ننسى ملحوظة هامة، وهي أنهم نادراً ما يستعملون عبارة (الطريقة البرهانية) أو (الطريقة الغزالية)، وإنما يستعملون في العادة عبارة (التصوف السني) وقد يعبرون عنها أيضاً بمثل قولهم: (حقيقتنا مقيدة بالقرآن والسنة)، أو (طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية)، وغيرها من العبارات التي مرت في هذا الكتاب والتي لم تمر.
ونختم هذا الفصل بفقرة لابن الطفيل، يقول:
وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، فهو بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب (التهافت) إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة، ثم قال في أول كتاب الميزان: إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع، ثم قال في كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال: إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث. وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها. وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب ميزان العمل، حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام:
1- رأي يشارك فيه الجمهورفيما هم عليه.
2- ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
3- ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده(1).
- نقول: إن ما أورده ابن طفيل هنا، وارد في كتاب الإحياء، وقد مرت نصوصه في الفصول السابقة، ورغم هذا كله وغير هذا كله، يسمون الغزالي حجة الإسلام؟!
الباب الثاني
مناقشة الوصول
الفصل الأول
مناقشة خرق العادة
لمناقشة خوارق العادة عند الصوفية، يجب أخذ فكرة- ولو موجزة- عن تلك المخلوقات التي ترانا ولا نراها، والتي يجري خبثاؤها من ابن آدم مجرى الدم، هذه المخلوقات هي الجن، وخبثاؤها هم شياطين الجن.
لكن قبل المضي في ذلك، أحب أن أنبه إلى أمر:
__________
(1) حي بن يقظان، (ص:113، 114).(79/109)
يوجد في مجتمعاتنا، كما في كل المجتمعات، متعالمون يدعون العلمية، والفكر العلمي، والأسلوب العلمي في التفكير، وقد يكونون علماء -في اختصاصهم- فعلاً. وإلى جانب هذه الميزة، توجد عند بعضهم ميزة أخرى، هي مقدرتهم على الكتابة بأسلوب قد يكون رائعاً وقد يكون مقبولاً، كما قد يحمل بعضهم ألقاباً علمية عالية. قد يخطر على بال أحد هؤلاء العلميين أن يتكلم عن (الخرافة)، فيكتب مقالةً في جريدة أو مجلة، أو بحثاً في كتاب، يوزع فيه لقب (الخرافة) على كل ما يخالف قناعاته الفكرية التي لم يكلف نفسه بدراستها دراسة علمية عميقة.
ومن جملة ما يقذفونه في زنبيل (الخرافة) الجن وخرق العادة.
هنا، أرجو من القارئ الكريم أن يغلق أذنيه؟ لأنني أريد أن أهمس في أذن هؤلاء (العلميين) همسة صغيرة، فأقول لهم:
1- مرحباً يا علميون (لأن السلام قبل الكلام).
2- من منسياتكم: أساليب البحث العلمي ووسائله تختلف حسب الموضوع المعروض للبحث!
فمثلاً: وسائل البحث العلمي وأساليبه في مسألة فلكية، تختلف كلياً عنها في مسألة كيميائية، وهذه تختلف كلياً عنها في مسألة تاريخية... وهكذا.
وكلها تختلف كلياً عن جلسة الصفا أمام الكأس المفعمة في جو الموسيقى الراقصة في ماخور عام أو خاص.
كذلك البحث العلمي في مسألة الجن وخرق العادة له أساليبه ووسائله الخاصة، التي تختلف كلياً عنها في غيرها، ويمكن لكل من يريد متابعتها أن يتابعها، ليتأكد بنفسه من وجود الجن، ومن حدوث خرق العادة، وبذلك سيعرف أنه كان يغرف من زنبيل الخرافة، عندما كان يظن أن الجن وخرق العادة من الخرافة.
لكنه سيجد -في خوضه هذا البحث- أناساً يخوضون فيه، وقد مسخت الخرافة عقولهم! فهم يعزون كل شيء إلى الجن! ويؤمنون بخوارق لا وجود لها إلا في مخيلاته المريضة، فهم بفهمهم السقيم للجن وخرق العادة، يغرفون أيضاً من زنبيل الخرافة، ولكن من الجانب المقابل وبنهم لا يشبع.(79/110)
فكلا الأخوين خرَّاف، ولكن ذوي الفهم السقيم في الجن وخرق العادة، هم أخرف من أولئك؛ لأن أكثر ما لا يفهمونه خاضع لسنن الله في خلقه، عدا عما يضخمونه من الأمور العادية.
وعلى كل حال، الجن موجودون، وخرق العادة موجود، وكاتب هذه الكلمات، خرقت أمامه العادة مرات ومرات.
- نعود لأخذ فكرة موجزة عن الجن:
للجن قدرات وخواص مادية وتشريحية وفيزيولوجية ونفسية، تختلف كثيراً عما يقابلها لدى الإنسان، يهمنا منها ما يلي:
1- يستطيعون الترائي للإنسان بأشكال مختلفة، وحجوم تتراوح أطوالها بين ميلليمترات (أو أقل)، وبضعة أمتار لا يستطيعون تجاوزها، وإن استطاعوا فغير كثير، وذلك تبعاً لحجومهم الطبيعية، ولعل الترائي بالحجوم الصغيرة جداً يكون بجزء من أجسامهم.
2- يستطيعون عندما يتراءون ألا يتركوا أحداً من الناس يراهم، إلا من يريدونه أن يراهم.
3- {إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم}، وبذلك يستطيع أن يدغدغ مراكز الحس التي يريد، فيثير البسط والقبض، واللذة والانزعاج، والتجلي الجمالي والتجلي الجلالي، مع العلم أن هذه الإحساسات وأمثالها، لها في الأساس أسباب فيزيولوجية.
4- يستطيعون قطع المسافات بسرعات كبيرة، فقد يقطعون في الثانية الواحدة مسافة تقاس بالكيلو مترات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
5- يستطيع الواحد منهم (أو بعضهم) حمل ثقل يعجز عنه عدد من أفراد الإنس.
6- يظهر أن للجن متعة خاصة بالتلهي ببني الإنسان والتلاعب بعقولهم وعواطفهم، وملازمتهم.
بهذه الميزات، وبغيرها، يستطيع شياطين الجن أن يصنعوا لوليهم (العارف) بعض الأعمال الخارقة للعادة.
فقد يأتونه بخبر جديد من بلد بعيد بعض البعد، بعد وقوعه بدقائق، فيخبر به الناس، الذين عندما يتأكدون من وقوعه، يعتبرونه كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يوسوسون لإنسان ما، بفكرة ما، ثم يلقونها إلى الشيخ، فيخبره بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.(79/111)
وقد يلقي الشيطان إلى الشيخ أسماء أشخاص لا يعرفهم، فينبئهم بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يكون الشيخ في بلد ما، في وقت ما، ويتمثل به شيطان في بلد آخر في نفس الوقت، وقد يتمثل به شيطان ثالث في بلد ثالث في نفس الوقت أيضاً، فيرى أهل كل بلد أن الشيخ كان عندهم في ذلك الوقت! دون أن يعرفوا -لجهلهم- أنها خدعة شياطين! ويعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يتراءى شيطان، أو شياطين، أمام الشيخ، بشكل شخص، أو أشخاص غائبين أو أموات، فيعدها الشيخ كرامة له.
وقد يتراءى شيطان الشيخ أمام الشيخ بشكل ما ويوهمه أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد غيره من الأنبياء.
وقد يتراءى شيطان أو أكثر، أمام الشيخ بشكل أشباح تتطاير، فيظنهم من الملائكة أو من أرواح الأولياء.
وقد يحمل الشيطان وليه العارف في الهواء وينقله من مكان إلى مكان وقد يمشي به على سطح الماء.
...وقد.. وقد.. إلى آخر ما يسمونه -جهلاً أو افتراءً- الكرامات! والتي لا تزيد عن كونها ألاعيب شياطين يخدعون بها وليهم العارف، ثم يخدعون به وبها الآخرين.
وهنا نصطدم مع هؤلاء القوم، بفهمهم السقيم للغة العربية، وبالتالي، لنصوص الحديث الشريف، ومن قبله القرآن الكريم.
إنهم، في رؤيتهم لما يتوهمونه أنه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يظنون أنهم يرونه حقاً، ويحتجون لذلك بالحديث الشريف: {من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي}.
والحديث واضح البيان، لا لبس فيه ولا غموض! فهو يقول: {من رآني...}، والفرق كبير جداً بين هذا القول وبين: (من رأى شخصاً يدعي أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وظن أنه أنا..)، أو: (من رأى شخصاً وقيل له: إنه أنا..)! الفرق كبير جداً بين هذه العبارات وبين عبارة الحديث: {من رآني...}، التي تعني رؤيته صلى الله عليه وسلم، بشكله وصورته التي كان عليهما، بل وزيه أيضاً.(79/112)
ويقول في الحديث أيضاً: {..فإن الشيطان لا يتمثل بي}، وفي رواية: {لا يتمثل بصورتي}، والمعنى واحد. وهنا أيضاً الفرق كبير جداً بين هذا القول، وبين قوله لو قال: (..فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا)، أو: (لا يستطيع شيطان أن يقول عن شيطان آخر: إنه أنا)، أو: (لا يستطيع أحد أن يُخدع فيتوهم شيطاناً يراه أنه أنا)!
إن عبارة {فإن الشيطان لا يتمثل بي}تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول وشكله وزيه التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في حياته، بحيث لو رآه أي إنسان من أصحابه لعرفه أنه هو.
وقد يتساءل متسائل: كيف نعرف إن كان من نراه في المنام هو الرسول أم لا؟ الجواب: تورد كتب الحديث وكتب الشمائل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فمن رأى في منامه إنساناً تجتمع فيه كل تلك الأوصاف، دون استثناء، فهناك احتمال أن يكون هذا الذي رآه هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقول هناك احتمال أن يكون هو الرسول؛ لأن الأوصاف المذكورة هي أوصاف إجمالية لا تفصيلية، وغير دقيقة، حيث يمكن أن نراها مجتمعة في عشرات الأشخاص الذين يختلفون عن بعضهم بدقائق صورهم وتفاصيلها.
وفي قصة جماعة الحرم عبرة لأولي النهى، فقد رأى عشرات منهم الرسول في المنام، وأخبرهم أن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر، ولا يخلو أن يكون بعضهم على علم بأوصاف الرسول الموجودة في الكتب، وأن يكون رآه حسب تلك الأوصاف المجملة، ثم كانت النتيجة أن القحطاني لم يكن المهدي، وبالتالي كانت كل تلك الرؤى من وسوسات الشياطين، أو من حديث النفس.
إن في هذه الحادثة برهان عملي ساطع على أن الشيطان يدعي أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن معنى الحديث: {لا يتمثل بي}، أي: لا يظهر بصورته وشكله الكاملين اللذين كان صلى الله عليه وسلم عليهما في حياته.(79/113)
كما يجب أن لا ننسى العدد الوافر من الأولياء العارفين الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم هم (المهدي المنتظر)، ثم كانت النتيجة أن الذي رأوه كان إما وسوسة شيطان، أو حديث نفس، أو كشفاً إن كان الرائي من المكاشفين.
هذا بالنسبة للرؤية في المنام أو في الجذبة.
أما ما يقوله المتصوفة من الرؤية في اليقظة فهذا واضح البطلان والضلال، كما هو واضح أن المترائي هو شيطان يضحك على أذقانهم، ويسلبهم عقولهم وإيمانهم، ويضل بهم غيرهم.
إن الشيطان يدعي أنه الله، فهل كثير عليه إن ادعى أنه الرسول؟
وهناك خارقة يؤخذ بها المخدوعون أكثر من غيرها، هي ضرب الشيش في الخدَّين والبطن حيث الأمعاء، وفي الجلد، وهي مشتهرة بين أتباع المشيخة الرفاعية والجزولية والعيسوية، يمارسونها في حضراتهم التظاهرية، وهي مثل غيرها لا تزيد عن كونها شيطانيات. بدليل أنها تحصل مع الكفرة، بل يحصل منهم ما هو أكبر منها، وفي فصل لاحق سنرى شيئاً من هذا. ولعله من الجائز أن يكون تفسير هذه الخارقة كما يلي:
1- لجلد الإنسان خاصة مطاطية، وكذلك الخدان والبطن والأمعاء، وهذا مشاهد ملموس.
ب- إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو بذلك يستطيع التخلل في أي مكان من الجسم.
ولعله يجد بذلك متعة خاصة نجهل طبيعتها.
وتتم العملية حسب الآتي:
يوجه الشيطان يد الشخص المتخلل فيه، ليضع الشيش في المكان المناسب من البطن، وعندما يضعه على الجلد، يباعد الجني بين خلايا النسيج الجلدي، وما تحته، بمقدار ما يمر الشيش بسلام دون أن يمزق شيئاً من الخلايا، وعندما يصل الشيش إلى الأمعاء (في المكان المناسب) يباعد الشيطان بينها، كما يباعد بين خلايا النسيج الذي يضمها بمقدار ما يمر الشيش بسلام أيضاً.. وهكذا.. يساعده على ذلك الخاصة المطاطية في هذه الأجزاء من الجسم، وسرعة الحركة التي يمتاز بها الجن.
ومثل هذا يحدث في الخدين وفي الجلد.(79/114)
لكن مهما كانت الدقة التي ينفذ بها الجن هذه العملية بالغة، فلا بد من تمزق بعض الخلايا، مما يسبب سيلان قطيرة أو قطيرات من الدم عند سحب الشيش.
كما يبقى المكان الذي حصلت فيه العملية أحمر بعض الشيء لمدة ما، بسبب الضغط التي عانته الأنسجة.
- طبعاً، هذا تفسير ظني، أما الحق، فيجب أن تخضع هذه الظاهرة ومثيلاتها إلى دراسة علمية جادة. وستكون وسيلة لاكتشاف مساحات مجهولة من النفس الإنسانية، بل والحيوانية أيضاً، كما ستكون وسيلة لاكتشاف وظائف فيزيولوجية مثيرة.
أما عملية قطع العنق بالسيف، أو قطع اليد، وما شابهها، فهي خداع بصري يقوم به أيضاً خبثاء الجن، وكذلك ضرب الرصاص.
وهناك عملية الدخول في النار التي تكاد تنعدم عند متصوفة المسلمين، بينما توجد بين كهنة الهنادكة، وهي عملية يقوم بها الجن أيضاً، يساعدهم عليها سرعتهم الهائلة، وقوتهم على الحمل، ومقدرتهم على الترائي بشكل الإنسان، وأن النار العادية لا تؤثر فيهم.
كما يساعدهم أيضاً، خاصة بصرية عند الإنسان، فالعين الإنسانية لا تحس بما يحدث أمامها في مدة تقل عن عُشر الثانية.
تحدث العملية بأن يحمل شياطين الجن الفقير الذي يتظاهر بالعزم على دخول النار وتنقله إلى مكان آخر، ثم يتراءى شيطان مكانه بشكله.
تتم هاتان العمليتان في مدة تقل كثيراً عن عُشر الثانية، فلا يرى أحد من الناس الحاضرين شيئاً مما حدث، ويرون الفقير ما زال في مكانه يستعد للدخول في النار! يدخل الجني المترائي بشكل الفقير إلى النار، ويخرج منها، دون أن تؤذيه طبعاً، وبعد خروجه، يعيدون الفقير، ويتلاشى الجني بنفس السرعة السابقة، ولا يرى أحد من الناس الحاضرين إلا أن الفقير دخل في النار وخرج منها سالماً، بل والفقير نفسه، قد لا يحس بما حدث، وقد يظن أنه دخل النار في حالة غيبوبة.
* الخلاصة:(79/115)
خوارق الصوفية، التي يسمونها كرامات، كلها ألاعيب شيطانية، وهي نفس الخوارق السحرية، ونفس الخوارق الكهانية التي تحدث في كل الوثنيات.
وللعلم: تعلم السحر يتم بالشرك الكامل في الشيخ الساحر (تماماً كالشرك في الشيخ الصوفي)، وبالقيام بنفس الرياضة الصوفية، وخاصة ما يسمونه (الذكر)، والذي يسمونه في السحر (القَسَم) أو (الطلسم) وليس هنا مكان هذا البحث.
إن الفرق بين الصوفية والكهانة والسحر هو الادعاء فقط، فالصوفي والكاهن يدعيان بغرور السير إلى الله والعروج إليه، والساحر أصدقهم. والصوفي والكاهن غايتهما الجذبة، والساحر يقف عند خرق العادة، وإذا أراد الجذبة اختصر الطريق إليها بتناول شيء من الحشيش أو الأفيون وما شابههما، وقد يصل إلى الجذبة بالرياضة.
إن هذه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها (كرامات) لا تكفي لدفع الشيخ وأتباعه إلى مستنقع الكفر؟ إلى وحدة الوجود! لأن الأمر يحتاج إلى تمثيليات من نوع آخر، تظهر فيها مناظر غريبة ذات أبعاد كبيرة، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها لصغر أجسامهم بالنسبة لها! لذلك كان لا بد من خواص الجذبة ليستطيعوا تنفيذ تلك التمثيليات. فلننتقل إلى مناقشة الجذبة وخواصها.
وقبل الانتقال، نذكر أن الكرامات الصحيحة موجودة، لكن الطريق إليها هو طريق الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تظهر أكثر ما تظهر في الانتصارات العجيبة التي تشبه الأساطير، وفي الأخلاق الكريمة والسلوك العادل المتسامح مع المسلم ومع غير المسلم، والدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق بصراحة تامة مع المقدرة على الاحتفاظ بصداقة الذي يدعونهم وينهونهم... وهكذا انتشر الإسلام.(79/116)
مع ملحوظة هامة، هي أن الذي ينتهج النهج الصحيح في الإسلام، لا يعني أن كل خرق عادة يحصل أمامه هو كرامة، وعلينا أن نتذكر، بل علينا ألا ننسى الآية: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16]، وهذا يعني أن الخوارق التي تحصل أمام الذي ينتهج نهج الإسلام الصحيح، كما كان ينتهجه سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، هذه الخوارق سيكون أكثرها من الشيطانيات، وأقلها، إن لم يكن أندرها، من الكرامات الحقيقية.
الفصل الثاني
مناقشة الجذبة وأحلامها
لمحة عن المخدرات:
من المفيد، قبل الدخول في مناقشة الجذبة، أن نلقي نظرة سريعة على مفعول المخدرات: الحشيش والأفيون والكوكائين وعقار الهلوسة (إل، إس، دي، 25) وغيرها.
* من تأثير الحشيش:-
يقول الدكتور محمد رفعت (نقلاً عن أحد الباحثين يصف تجربته مع الحشيش):
...أحسست كأن جسدي يتحلل أو يذوب.. بدوت وكأنني شفاف تماماً.
جفون عيني تطول إلى ما لا نهاية، هذه الجفون ما لها تسقط وحدها هكذا ككرات من ذهب، سرعتها تثيرني، ألوان جميلة تحيط بي، هل أنا أنظر في منظار سحري صغير يقدم تلك الأشكال الزخرفية الملونة...
...إن سمعي أصبح فجأة حاداً تماماً.. إنني أستمع إلى صوت الألوان، كنت لا أستطيع أن أسمع للألوان صوتاً من قبل.. الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء لها موجات صوتية تصلني وأميزها بوضوح(1).. اهـ.
- هنا نسأل الأولياء الذين ذاقوا الفناءات وتحققوا بالأسماء، أليست هذه الرؤى، وما بعدها، هي صور من مكاشفاتهم؟
ويقول نفسه:
والحشاش قد يقنع نفسه بقدرته على إيجاد حل لكل مشكلة، وهذا طبعاً نتيجة ما يعتريه من هبوط في المراكز العصبية العليا، ومنها حاسة التقييم والتقدير، فيظل يهوم في آفاق وتصورات كلها سراب خادع وضلال مبين(2)...اهـ.
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:114، 115).
(2) إدمان المخدرات، (ص:51، 52).(79/117)
- لنتذكر هنا قول الصوفية عن كشوفهم: إنها حق اليقين وعينه ونوره، وعن أنفسهم: إنهم العارفون الذين عرفوا الأمور على ما هي عليه...
ويقول: عندما يتعاطى الشخص الحشيش لأول مرة فإنه يشعر بهذه الأعراض: ارتعاشات عضلية في جسمه...إحساسات جسمية خاطئة أو وهمية...مثل الشعور بطول في الأطراف...اضطراب في الحواس، خصوصاً السمع والبصر(1). اهـ.
- لنتذكر وصف عبد العزيز الدباغ لمبدأ حاله بالجذبة.
ويقول: الآثار النفسية لإدمان تعاطي الحشيش: اضطراب الحواس، خصوصاً السمع والبصر، فتصبح الحواس حادة للغاية، إلا أن المدركات كلها تبدو في صورة مغايرة ومحرفة، سواء من ناحية الشكل أو اللون، كما يعاني المدمن من الهلاوس...فيرى أشكالاً ويسمع أصواتاً ليس لها وجود مادي، كما يعاني من خداع الحواس...فإذا رأى حبلاً ظنه أفعى، وإذا رأى كلباً خيل إليه أنه أسد...وهكذا...
واختلال إدراك الإنسان للزمان والمكان، فيبطئ إحساس الإنسان بالزمن...
فإذا قضى دقائق في عمل ما، يخيل إليه أنه قضى فيه ساعات طوال...أما بالنسبة للمسافات فإنها تطول جداً.. فإذا سار عشرة أمتار خيل إليه أنه قطع عدة كيلو مترات..
اضطرابات في التفكير تؤدي إلى اختلال في حكم الشخص على الأمور:
بطء شديد في عمليات التفكير بسبب التخدير الذي يشمل قشرة المخ، ويدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بما حوله، ويفقد المبادأة.. كما يعطل مراكز الضبط والتحكم وتمحيص الأمور...مما يجعل المتعاطي قابلاً للإيحاء...
اضطرابات وجدانية، فيشعر المتعاطي بشعور زائف بالسعادة الوهمية...وإحساس بالرضا والراحة.. يصل أحياناً إلى درجة النشوة. إلا أن هذه السعادة الزائفة تحمل في طياتها وسائل التدمير لشخصية الإنسان(2). اهـ.
وسئل حشاش: بماذا تحس وأنت تحشش؟ فأجاب:
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:124).
(2) إدمان المخدرات، (ص:126، 127).(79/118)
أحس بفرح، وربما بحزن، وقد أضحك كثيراً، أو أبكي كثيراً، حسب الحالة التي تجلبها الحشيشة، فليست كل الحالات سواء، ولكنني أشعر بحاجة إلى الهدوء...مرة شعرت بأنني أسابق السيارة المنطلقة في الشارع، بينما كنت جالساً في مكاني! والحالات مختلفة على كل حال(1). اهـ.
- نعيد نفس السؤال موجهاً للأولياء المكاشفين: أليس مثل هذا ما يشاهدونه في مكاشفاتهم؟ وخاصة الفرح والحزن، اللذين يسمونهما (البسط والقبض)، وكذلك طول المسافات، وطول الزمن، والشعور بالسعادة، والوصول أحياناً إلى درجة النشوة؟...
* من تأثير الكوكائين:-
يقول الدكتور محمد رفعت:
ولعل أغرب مظاهر الشذوذ الحيوي في جسم المدمن، الهلوسة التي تصيب جلد مدمن الكوكائين... إلى أن المدمن هنا يحس وكأن آلاف القمل والبراغيث وشتى أنواع الهوام تنهش في جلده، وتجري تحت جلده مباشرة(2)...
والكاثين ضئيل الأثر، ويشبه الكوكائين في إحداثه نوعاً من الخدر أو التنميل(3)...
ويقول أحد الباحثين (دكتور لوغر):
__________
(1) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:24، 25).
(2) إدمان المخدرات، (ص:43).
(3) إدمان المخدرات، (ص:54).(79/119)
يشعر مدمن الكوكائين بآلاف الهوام تدب على جلده وداخل جسمه، ويحس بلدغات مئات القمل والبق و...إلخ. وبظاهرة حسية غريبة ما اعتادت المخدرات الأخرى توليدها، تبلغ هذه الظاهرة حداً يرى فيه المدمن حشرات لا وجود لها على جلده فيأخذها متوهماً ويحبسها ويضعها في علبة، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة، ويا لغرابة الأمر... إنه يراها وقد تجسمت أمام عينيه كما لو أنها موجودة فعلاً. وغالباً ما يلاحق مدمن المخدرات هذه الطفيليات المزعجة يبحث عنها على الأبواب وفوق الكراسي وفي الفراش وبين الأظافر وفي جميع أجزاء جسمه وحتى داخل فمه ومنخريه وأذنه. وقد يغدو هذا النمط من الهذيان والهراء (الهلوسة) جماعياً...إذ لا غرابة أن تجد مدمنين اثنين يبحث كل منهما عن هذه الهوام على جلد الآخر مخففاً عنه العذاب على حد اعتقاده(1).
* الملحوظة:
لننتبه إلى أنه يرى حشرات وقد تجسمت أمام عينيه، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة..
أي يرى ما لا وجود له في الحقيقة؛ وكذلك الرؤى الكشفية.
* من تأثيرات عقار التهليس (L. S. D.25):-
يقول محمد رفعت:
وهذا العقار يعتبر من السموم الكبرى ذات الأثر العميق فيما يتعلق بانتقال المتعاطي من عالم الهلوسة والهذيان، وهم يطلقون عادة على الحالة الجديدة للمريض المدمن اسم (رحلة)، وهذه الرحلة لا يلزمها الكثير من هذا السم الزعاف، إذ يكفي من (200) إلى (400) ميكروغرام.
وبعدها يكون الرحيل إلى سفر يستغرق ثماني ساعات من الزمن يتخيل المريض وكأنها رحلة عمر كامل من الهلوسة والهذيان والتخيلات التي يسودها اللامعقول والإثارة الحسية، والنشاط الحيوي المزعوم، بينما يكون المدمن في واقع الأمر جثة هامدة طيلة السفر بعد الرحيل(2)...
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:61، 62).
(2) إدمان المخدرات، (ص:45).(79/120)
...وتختلف آثار هذا العقار على الإنسان باختلاف شخصيته، وتركيبه النفسي، وكذلك باختلاف الجو العام الذي يتم فيه التعاطي، وهذه بعض الأعراض (لتعاطي 3 ميكروغرام):
زغللة بالعينين، واضطراب في شكل المرئيات، وظهور بعض الأشياء التي لا تحمل أي معنى، كعلامة في الحائط مثلاً، كما لو كانت كلمات مفهومة مثلاً، أو وجه إنسان، أو أي شيء آخر له معنى.
- هلاوس بصرية... أي: رؤية أشياء ليس لها وجود مادي.. فيكفي أن يتخيل الفرد شيئاً أو يتمنى رؤيته، حتى يراه أمامه مجسماً، وبالألوان الطبيعية أيضاً.. فهلاوس هذا العقار تتميز بأنها تظهر بالألوان، عكس هلاوس الحشيش والأفيون التي تظهر أبيض وأسود فقط. (في الواقع، هلاوس الحشيش والأفيون ليست واحدة عند كل الأشخاص، فمنها ما يكون بالألوان الطبيعية).
- اضطراب في إحساس الفرد بالزمن.. فقد يتوقف الزمن تماماً، أو يمر ببطء شديد.. وقد يسرع جداً، فيبدو كأن آلاف السنين قد مرت في لحظات.
- توقف كامل للنشاط العقلي.. فيصبح من الصعب على الإنسان أن يبت في أي أمر، أو يفكر في أي مشكلة، أو حتى يقوم بالعمليات الحسابية البسيطة.
- إحساس زائف بالراحة والسعادة الدافقة.. أو يحدث العكس تماماً.. فيشعر الإنسان باكتئاب شديد ورعب...(لنتذكر البسط والقبض).
ولكن أعجب شعور يمكن أن يحسه الإنسان هو ذلك الشعور بتداخل الحواس... عندما يتداخل السمع مع البصر مع الشم مع الذوق مع اللمس، فينتج عنه ذلك الخليط العجيب من الحواس الذي يعتبر من الأعراض المميزة لعقار الهلوسة... عندما يسمع الإنسان لون الورد، ويشم صوت الموسيقى، ويرى الطَّرْق على الباب، ويشم جرس التلفون(1)... إلخ.
- وهنا نعيد السؤال، نوجهه إلى أي صوفي مكاشف: أليست رؤاه الكشفية مثل هذه الرؤى الهلوسية؟ يمر بفكره شيء فيراه مجسماً أمامه؟ يحسب اللحظات سنين طويلة؟ ثم الرؤى الناتجة عن تداخل الحواس؟ وغيرها؟
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:131، 132).(79/121)
ومما يذكره مكتشف العقار (هوفمان) عن تجربته له يقول: وجدت نفسي عند العصر مجبراً على التوقف عن العمل.. فأغمضت عيني.. لأرى، كما يرى الناظر في المنظار السحري، عرضاً لسبحة لا تنقطع من صور عجيبة مجسمة وغنية بألوان غير عادية، وقد دام ذلك العرض ساعات عديدة(1)... اهـ (أليست رؤى الجذبة هكذا؟).
ومما حدث له، في تجربة ثانية:
بعد أربعين دقيقة، شعر بدوار خفيف وإثارة واضطرابات في الرؤية ونوبات حمقاء من الضحك ما استطاع لها ردعاً...كانت الوجوه تبدو له كأقنعة مضحكة... وأكثر ما أدهشه هو التلون الشديد الذي كانت تتلون به الأشياء ويتلون به الأشخاص، وعلى خلفيات يسيطر فيها اللونان الأخضر والأزرق كانت تضطرب ألوان ذات صفاء ولدونة مدهشين، كان كل شيء ينقلب إلى ألوان، حتى إن أصوات البوق الآتي من الشارع كان يراه كشعاع ملون، وكانت المشاهد تترى، كان يرى نفسه يومئ، ويصمت ويتحرك(2).
* من تأثير الهروئين (من مشتقات الأفيون):-
الهروئين، يحمل الإنسان إلى جنان خيالية، وخيالات من نوع أنه أصبح من الملائكة، أو أنه أصبح نبياً، أو أن له موعد مغازلة مع القمر (الذي هو الشمس)، ثم يدفعه ذلك أن يتصرف حسب تصوره هذا، فيحاول الطيران من أعلى البناية باتجاه السماء، فيسقط على الأرض وتتهشم ضلوعه(3)...
* من تأثير الإيتير:-
__________
(1) إدمان المخدرات، (ص:146).
(2) إدمان المخدرات، (ص:). 147.
(3) الحشيش قاتل الإنسان، (ص:9).(79/122)
يقول أحد الذين جربوه (الكاتب الفرنسي غي دوموباسان): كان أول ما شعرت به همساً خفيفاً ناعماً ومهدهداً، ثم ما لبثت أن لاحظت بأن جسمي أخذ يخف...أخذ يخف ويخف، حتى بدا لي فيها كما لو أنه كان يتبخر، أحسست بأنه لم يبق لي من جسمي سوى الجلد.. لم يبق سوى ما يكفي لأشعر بلذة العيش، بأن أشعر بأنني أتأرجح في هذه السعادة التي تغمرني...ما كنت أرى أحلاماً كالتي يسببها الحشيش، وما كان ذهني يمتلئ بالرؤى التي يسببها الأفيون، لقد كان إحساساً بحدة ذهنية كبيرة، إحساساً بشكل جديد من الكينونة والتفكير والإحساس والحكم على الحياة، إحساساً بالاقتناع بأنني كنت أدرك عندئذ الواقع الحقيقي للعالم.. كان يبدو لي بأنني تذوقت ثمرة شجرة الحياة، وأن كل الأسرار تنكشف أمامي(1)...
- وهنا أيضاً نتوجه إلى أي صوفي وصل إلى مقام الجمع، وذاق الفناءات، ونسأله: أليست هذه الحالة وهذا الشعور والهمسات المهدهدة الناعمة تشبه ما ذاقه أثناء فناءاته وما سمعه من خطابات توهمها إلهية، وذلك الإحساس الزائف بأنه صار يدرك واقع العالم؟
* من تأثير فطر المكسيك المقدس:-
قام بالتجربة شخص اسمه (آلان ريشاردسن) مع رفيق له اسمه (غوردن واسن):
وقد تمت التجربة في أعالي المكسيك بين الهنود الأصليين:
كانت الغرفة مظلمة ومزدحمة بالناس. كانوا جميعاً هنوداً مكسيكيين... وكانت هناك كاهنة تغني ملوحة بالفطر في دخان لهب نار تتقد في المذبح لتطهر الفطر من أدرانه فيغدو جاهزاً للتناول.
قدم الهنود للرجلين اثني عشر فطراً مطهراً فأخذا يأكلانها... لكن الكاهنة انبرت تغني بمزيد من النشاط، مصفقة بطريقة غريبة وبلحن مهدهد، وفجأة دار (ريشاردسن) نحو رفيقه هامساً في أذنه بأنه يرى أشياء غريبة. فأجابه (واسن) إن الرؤى ستترى، وإنك ستراها سواءً أسدلت جفنيك أو فتحت عينيك.
__________
(1) المخدرات، (ص:115).(79/123)
بدأت الرؤى تظهر رسوماً فنية، كسجادة تبرق بزينتها وتتألق، ثم تتحول إلى قصور وباحات وأقواس وحدائق.. تراءى لريشاردسن حيوان أسطوري يجر عربة ملكية ذات عجلتين، ثم بدت له الجدران وكأنها تنحل...وأحس بروحه تطفو.. وشعر بأن نظره يحيط بفراغات لا متناهية...كان يرى نماذج من الأفكار الأفلاطونية، وصوراً غير كاملة للحياة اليومية(1) اهـ.
- السؤال: أليست هذه الرؤى هي نفس ما يراه الأولياء العارفون المكاشفون؟ مع العلم أنه لو كان جلوسه في مكان غير الغرفة المظلمة، أو لو كانت ثقافته غير ثقافته، لأمكن أن تتغير رؤاه قليلاً أو كثيراً.
ويقول الدكتور صلاح يحياوي:
يستهلك سكان بولينزيا (الكافا) بكميات كبيرة ليعيشوا دائماً تقريباً في رؤى جنة صنعية يهيؤها لهم هذا المخدر(2) اهـ.
- ونفس السؤال إلى نفس الأولياء المكاشفين: أليست هذه الهلوسات هي نفس الهلوسات التي تهيؤها لهم جذباتهم؟
- كيف كان الناس ينظرون إلى المخدرات؟
يقول الدكتور صلاح يحياوي:
...كان من المعروف بأنهم (الكهان) كانوا في طقوس (المسارة) يستخدمون مخدرات ما كان يعرفها غيرهم، وبذلك كانوا يعمرون أذهان المبتدئين بأحلام مرعبة وواضحة إلى درجة كانت تجعل هؤلاء يعتقدون أنها واقعية(3).
...كان (باراسلو) يحمل الأفيون دائماً معه، مطلقاً عليه اسم (حجر الخلود)(4).
...ففي القرن الحادي عشر، وبعد ثلاثمائة عام من نشر العرب لاستخدام الأفيون، بدأ يظهر ثناء العامة وإطراؤهم على هذا المخدر، فكانوا يتغنون به كـ (شراب الآلهة)(5).
...لقد أكد الإينكا (سكان البيرو الأصليين) للإسبان بأن الكوكا (منها يستخرج الكوكائين) نبتة إلهية أوصى بها الإلهان (مانوكو كاباك) وزوجته (ماما أوكيو).
__________
(1) المخدرات، (ص:152).
(2) المخدرات، (ص:106).
(3) المخدرات، (ص:9).
(4) المخدرات، (ص:23).
(5) المخدرات، (ص:23).(79/124)
لقد خصت هذه الصفة الإلهية، والتي لا زال بعض هنود أمريكا الجنوبية يؤمنون بها، خصت حكام الإينكا وحدهم بحق امتلاك مزارع هذه الشجيرة، ويقاسم الكهان الحكام هذا الامتياز(1).
ومما يذكره صلاح يحياوي أيضاً:
كانت جميع شعوب العالم القديم تعرف هذا المخدر (الحشيش)... وقد أحاطت الهالات خواصه، فنسب إليه الهندوس أصلاً إلهياً، فقالوا بأن الإله (فيشنو)(2) قد نصح جميع الآلهة الصغار وجميع الشياطين بأن يجتمعوا في يوم حدده لهم للحصول على إكسير الخلود...وكانت النتيجة أن إكسير الخلود هو القنب الهندي الذي استخلص منه الحشيش(3)..
* وملاحظتان هامتان من المفيد إيرادهما:
يقول الدكتور محمد رفعت:
من الطريف أن نعرف ماذا يفعل المخدر بالإنسان...مع ملحوظة أن هذه الأعراض لا تظهر جميعاً في نفس الوقت ولا بنفس الشدة في جميع الحالات...كما لا تظهر عند كل الناس(4).
ويقول الدكتور صلاح يحياوي:
...إن أفعالها (أي: المخدرات) مطابقة لما يسببه الجنون في أطواره البدائية(5).
- أقول: إن هذه الملحوظةالأخيرة التي يذكرها الدكتور صلاح يحياوي تدلنا على أن باستطاعة الجسم أن تتولد فيه مادة تفرزها غدة ما، لها نفس مفعول المخدرات، وهذه المادة هي التي تسبب الجنون.
- وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، نسأل أي صوفي فتح عليه فوصل إلى الجذبة ورأى الكشوف وذاق الفناءات، أليست هذه الرؤى والمشاهدات الهلوسية التحشيشية هي صوراً مشابهة لرؤاه ومشاهداته في جذباته ومعارفه المتوهمة؟
__________
(1) المخدرات، (ص:51).
(2) فيشنو هو الإله الحافظ عند الهندوس.
(3) المخدرات، (ص:66، 67).
(4) إدمان المخدرات، (ص:123).
(5) إدمان المخدرات، (ص:155).(79/125)
إن كان الصوفي الذي سيُسأل هذا السؤال صادقاً مع الله تعالى ومع الناس ومع نفسه فسيقول الحق ويعترف أنها شيء واحد، وإن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه فسيتوب ويرجع ويحاول إصلاح ما أفسد، وإلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وليعلم أن عليه آثام من استجرهم والمستجَرِّين بمن استجرهم إلى يوم القيامة.
ويجب أن لا ننسى أن الحشاشين لو كان لهم شيخ يوجههم لكانت مشاهداتهم مطابقة كل المطابقة لمشاهدات الصوفية في فتوحهم وكشوفهم وفناءاتهم؛ وذلك لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان (لكن من هو الشيطان؟).
* مناقشة الجذبة:
لنناقشها أولاً على ضوء القرآن والسنة:
يدعي الصوفية، دون خوف من الله، أن رياضتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، هي الطريق إلى الله سبحانه ومعراجهم إليه؛ لأنها توصلهم إلى الجذبة! ويعتقدون أن الله سبحانه يجذب بها العبد إليه، ولذلك سموها الجذبة، ومفهوم لفظ الجلالة (الله) عندهم يعني -كما أصبح واضحاً الآن- كل الموجودات بما في ذلك ذواتهم، ومعنى (يجذبهم إليه)، أي: يزيل عنهم الحجاب، الذي هو الوهم بأنهم غير الله، ويبعدهم عنه، ويجذبهم إلى استشعار الألوهية في أنفسهم، أي: يشعرون أنهم الله (سبحان الله)، ويشاهدون أن كل شيء هو الله، وهذا هو ما يسمونه الوصول إلى الله، والجذبة هي الولاية والصديقية...إلخ، وهي عندهم حال يتدرج ويمر بأطوار من الرؤى والمشاهدات المختلفة والاستشعارات حتى تصبح مقاماً.
ففي بادئ الأمر، قد يصل السالك إلى الجذبة بعد رياضة، طويلة أو قصيرة، لكن الجذبة تزول بسرعة ثم لا تعود إلا برياضة مثل الأولى، أو أكثر أو أقل، فالولاية هكذا هي حال.
ومع المثابرة يصل إلى درجة يقع فيها في الجذبة بشيء من الذكر، وتطول مدتها، فتكون ولايته هنا مقاماً، ويصير ولياً صديقاً مقرباً... مقيماً إذا صارت الجذبة دائمة.(79/126)
فهل في هذا التصور شيء من الصحة؟
الجواب: لا! للأسباب التالية:
1- إن كون الجذبة ولاية وصديقية وقرباً و.. هو، في أحسن الحالات، أمر غيبي لا يعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: بنص من القرآن والسنة الصحيحة، ولا وجود لمثل هذا النص، إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة وافتراءاتهم الظالمة. ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:144].
2- إن ادعاء الولاية والصديقية هو هو تزكية النفس على الله، وهو من كبائر الإثم: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].
وكذلك اتهام الآخرين بالولاية والصديقية هو من كبائر الإثم. لقوله سبحانه مخاطباً رسوله: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9] ولغضب رسوله عندما سمع صحابية جليلة تزكي صحابياً جليلاً، فقال لها: {والله ما أدري ما يُفعل بي وأنا رسول الله. ثم أقرها عندما قالت: فلن أزكي بعدها على الله أحداً}، أي: إنه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا نزكي على الله أحداً.
وهكذا كان فهم الصحابة الكرام، فهذا علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن مسعود فيقول: [[إنه لخيرنا، ولا أزكي على الله أحداً]]! إن علي بن أبي طالب لم يزك عبد الله بن مسعود على الله!
إذن، فتزكية النفس وتزكية الغير هما من كبائر الإثم، والإصرار على ذلك هو كفر بالقرآن والسنة.
وبذلك يكون الادعاء بأن الجذبة صديقية وقرب وولاية هو كفر بنصوص القرآن والسنة.(79/127)
3- رأينا في الفصول السابقة أن السالك يدخل في الشرك الأكبر منذ الخطوة الأولى في طريق الصوفية، ثم يسير في طريق كلها بدع وضلالات وطقوس طاغوتية وتشبه بالكفرة ومخالفة للقرآن والسنة وتزوير لنصوصهما وافتراء على الله سبحانه، وخداع لعباده (بل ولنفسه أيضاً) بادعائه اتباع القرآن والسنة، وكذب على الله وعلى ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذب على الحقائق، وكذب على التاريخ والجغرافيا، واحتقار للعقل والعلم اللذين كرم الله بهما بني آدم، وتقديس للجهل والعته والجنون!
ثم لم يكتفوا بهذا حتى مزجوه بالإسلام! فشوهوا الإسلام وحرفوه! وهنا الطامة الكبرى، وقد رأينا كل هذا فيما مضى من فصول الكتاب من نصوصهم وأقوال أقطابهم وعارفيهم وعلمائهم.
فهل يمكن لمسلم في قلبه إيمان بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر أن يعتقد أو يظن أن هذه الطريق هي الطريق إلى الله؟ أو أنها تقود إلى حق أو حقيقة؟
بل هل يمكن لذي عقل سليم كائناً من كان، أن يعتقد أو يظن أن طريق إبليس هذه هي طريق السير إلى الله والعروج إليه؟ سبحان الله عما يصفون.
إن طريق الشيطان لا تقود إلا إلى مسارح الشياطين ومتاهاتهم...
والجذبة مسرح شيطاني ومتاهة إبليسية، وليست صديقية!
4- إن الجذبة الإشراقية تشبه الجذبة التحشيشية الأفيونية تماماً مظهراً ومخبراً وجملة وتفصيلاً، فإن كانت جذبة الصوفية ولاية وصديقية فجذبة التحشيش مثلها، ويكون الحشاشون والأفيونيون أولياء صديقين، ويكون الهيبيون هم الأبدال والأقطاب والأغواث.
* الخلاصة:
ليست الجذبة ولاية ولا صديقية، وإنما هي مسرح شيطاني، وكذب وباطل ما يدعون.
وفي الجذبة تكشف لهم الكشوف ويتلقون العلوم اللدنية ويرون المناظر الغيبية والمشاهدات الإلهية، إلى آخر الهلوسات الجذبية.
فإلى مناقشتها وعرضها على الكتاب والسنة.
* مناقشة أحلام الجذبة:
التي يسمونها: الكشف، أو العلوم اللدنية، أو المناظر الإلهية، أو المشاهدات.(79/128)
(قبل البدء، أرجو من القارئ الكريم أن يعيد قراءة مفعول المخدرات، ويكرر قراءتها).
نستطيع أن نقسمها، من حيث مصدرها، إلى قسمين:
1- هلوسات فيزيولوجية: وهي تسربات من الأماني والمعلومات (الصحيحة أو المتوهمة) المختزنة في اللاشعور، تتسرب من مخازنها، لتنزلق مباشرة إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت منها صوراً بصرية، انطبعت في مركز التفسير البصري، فيراها المجذوب وكأنها ماثلة أمامه، سواء فتح عينيه أم أغمضهما! لأنها لم تصله عن طريق العين. وما كانت منها صوراً سمعية، انطبعت في مركز التفسير السمعي، فيسمعها أصواتاً لا يعرف مصدرها بالضبط! لأنها لم تصله عن طريق الأذن. ومثلها ما كان صوراً شمية أو ذوقية أو لمسية.
2- هلوسات شيطانية: يتراءى بها شيطان المجذوب أمامه، مستفيداً من خاصة الجذبة في تضخيم الأطوال، أو ينفثها في لا شعوره، وهو الميدان الذي يستطيع الشيطان أن ينفث فيه وسوساته، لتتسرب منه إلى مراكز الحس في الدماغ، مثل بقية الهلوسات الفيزيولوجية.
لا يكون هاذان القسمان منفصلين عن بعضهما، بل ممتزجين، إلا فيما ندر، وفي حالات كثيرة يمكن التمييز بينهما.
وإن تسميتهم لها المناظر الإلهية، أو الكشف، أو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، أو غيرها مما مر في هذا الكتاب ومما لم يمر، ما هي إلا جهل مغرور، وافتراءات على الله الكذب، وضلالات موغلة في الجرأة عليه سبحانه وجل عما يفترون. والبراهين ما سبق وما يلي:
1- إن الله سبحانه كرم الإنسان ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء:70] عندما خلق فيه مراكز الوعي، ووهبه بها العقل وتوابعه، كالإدراك والفهم والعلم، ومنها التكاليف.(79/129)
فالله سبحانه، عندما يخاطب الإنسان، فإنما يخاطب فيه العقل والوعي والشعور، وعندما أرسل الرسل بالدين والتكاليف، فإنما أرسلهم يخاطبون العقل والوعي والشعور. والآيات المبينة الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)) [طه:54].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الرعد:4].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم:28].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)) [آل عمران:13].
((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
((وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].
((لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص:29].
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِِ)) [آل عمران:190، 191].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [يونس:24].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [الرعد:3].
((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) [الحاقة:12].
((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:230].
((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [الأعراف:32].
((فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)) [السجدة:27].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)) [الروم:23].
((فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)) [الحج:46].
((انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:65].(79/130)
((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)) [الأنعام:98].
((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [الأنعام:126].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) [النحل:13]
والآيات كثيرة، كلها تبين أن الوعي في الإنسان هو الذي أعده الله تعالى لتلقي كلماته، وهو الذي أعده لفهم الحقائق وإدراكها، وخاطبه بالوحي، ليكون الوحي المرتكز الأساسي الذي ينطلق منه العقل الواعي في جميع ميادينه.
وعندما يكون الخطاب الإلهي موجهاً إلى الوعي والشعور، فهذا يعني أن الطريق إلى رضوان الله لا يمكن أن تكون إلا عن طريق الوعي والشعور التامين.
أما الشيطان، فاللاشعور في الإنسان هو ميدانه الذي يصول فيه ويجول، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) [الناس:1] ((مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)) [الناس:4، 6].
((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا)) [الأعراف:20].
((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) [محمد:25].
((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) [الأنعام:121].
((وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)) [المؤمنون:97]...
وعلى ذلك لا تكون الجذبة فتحاً إلهياً، بل استحواذاً شيطانياً، ولا تكون هلوساتها نور اليقين ولا عين اليقين ولا حق اليقين، وإنما وحي إبليس وجنوده، ولا تكون مناظرها إلا مسارح الشياطين وهلوسات الحشاشين.
2- مر في بحث سابق الآيات التي تبين أن طريق الضلال لا تقود إلا إلى ضلال، وأن سبيل الشيطان لا تؤدي إلا إلى غرور ((وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].(79/131)
ورأينا ما هي الطريق إلى رؤية هذه المناظر وتلك الكشوف، إذن فهي كلها باطلة، وهي كلها شيطانية.
3- إذا كانت هلوسات جذبة الإشراق كشوفاً إلهية، فهلوسات جذبة المخدرات مثلها تماماً، لأن الجذبتين شيء واحد، وكل ما بينهما من فرق أن المخدر في جذبة التحشيش يأتي من خارج الجسم بينما يأتي المخدر في جذبة الإشراق من داخل الجسم، والنتيجة واحدة في الحالتين!
وإذا كانوا يصرون على أن هلوساتهم هي فتوحات إلهية وعلوم لدنية! فلِمَ لا يختصرون الطريق ويوفرون الوقت والجهد؟ إذ بدراهم معدودة يستطيعون شراء شيء من الحشيش أو الأفيون أو عقار التهليس أو الإيتير أو غيرها، وبثوانٍ معدودة تشرق عليهم الأنوار، وتنكشف أمامهم الأسرار، ويعرجون في السماوات العلا ويتمتعون بالمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، ويذوقون معاني الأسماء كلها، ويتنقلون في الفناءات.. إلى آخر الهلوسات!!
ما دام كلا الطريقين إلى جهنم، فلم لا يتبعون الأقل مشقة؟؟!
- بالرغم من أن كل الصفحات السابقة هي براهين ساطعة واضحة على أن رؤاهم هي هلوسات شيطانية، وأن فيها الكفاية وأكثر من الكفاية. ومع ذلك فهناك الكثير من الأدلة غيرها من كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم...فإلى كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم:
ولنبدأ بجبل قاف. ولنستعد قبل ذلك بعض خواص الجذبة:
- تضخم الأطوال (الجفون تطول إلى ما لا نهاية، والأطراف تطول والمسافات حتى يرى الأمتار طول ما بين المشرق إلى المغرب).
- رؤية أشكال وسمع أصوات ليس لها وجود.. وأحياناً رؤيتها بمجرد تمنيها أو مرورها بالفكر..
- رؤية الحبل أفعى والكلب أسداً...وما شابهها.
ولا بأس من الرجوع إلى أول هذا الفصل لمراجعة المخدرات ومفعولها.
* جبل قاف:-(79/132)
كان كثير من الأقطاب العارفين الأبدال يرونه (أثناء الجذبة طبعاً)، ويصعدون عليه، ويذهبون إلى ما وراءه، ويرونه محيطاً بالأرض، يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة سنة (أي: ما يزيد عن بعد القمر بأكثر من تسع مرات) ويرى بعضهم الحية المحيطة به (وبالتالي بالأرض) وذيلها عند رأسها...
كانوا يرون هذه الأمور بالكشف! بينما الآن، صار من البدهيات عند الجميع، حتى الصوفية، أن الأرض كروية، وقد دُرس سطحها كله إلى أعماق محترمة دراسة دقيقة! فقد دُرس سطح اليابسة بدقة بالغة، جبالاً وودياناً وسهولاً وصحاري وبحيرات وأنهاراً، ودرست تربتها إلى أعماق تقاس بالكيلو مترات بدقة أيضاً. ودرست طبقات الأرض دراسة إجمالية، لكنها صحيحة، إلى أعماق تقاس بألوف الكيلو مترات، كما درست البحار كلها سطحاً وأمواجاً ومداً وجزراً، وعرفت أعماقها بدقة، ووضع لقيعانها الخرائط الصحيحة، ووضعت الأسماء لما فيها من جبال ووديان ومنبسطات، أي: إن سطح الأرض كله درس دراسة دقيقة إن لم يكن بالمتر المربع فبالكيلو متر المربع.
ويعرف الجميع أن جبل قاف محض خرافة لا وجود له، وأن الأبعاد التي قدروها له وللأرض، لا تدل إلا على جهل كامل بجغرافية الأرض، وجهل مخز بحساب المسافات، فكشوفهم لم تفدهم شيئاً، بل هي التي دفعتهم إلى وهدة الجهل الذي يتخبطون فيه.
وما دام جبل قاف لا وجود له! فماذا كانوا يرون إذن؟
الواقع، إنهم كانوا يرون بالكشف جبل قاف، والذين كانوا يرونه هم من الأقطاب الأبدال الأولياء العارفين! ورؤيتهم له بالكشف هي برهان ساطع قاطع جديد على صحة كل ما ورد في الفصول السابقة من أن الجذبة ليست إلهية وإنما تحشيشية، وأن كشوفهم ما هي إلا هلوسات الحشاشين وتمثيليات الشياطين!
رأينا أن الخلوة عنصر أساسي في المجاهدة، وقد كانوا كلهم -أو أكثرهم- يعتزلون الناس في البراري أحياناً وفي الخرائب أحياناً، خوفاً من سيف الحلاج.(79/133)
والخرائب، كما هو معروف، هي بيوت خربة هدمت جدرانها، لكن بعضها، كما هو معروف أيضاً، يبقى حولها شيء من جدرانها المهدومة، بارتفاعات مختلفة (قامة أو نصف قامة أو أكثر أو أقل).
من البدهي، أن المرتاض الذي كان يرتاد الخرابات، كان ينتقي إحدى تلك الغرف الخربة المحاطة ببقايا جدرانها، لأن هذه البقايا تعزله عن رؤية الناس.
ومن البدهي أنه كان يسوي أرضها، أو جزءاً من أرضها، إلى حد يستطيع معه الإقامة عليه أثناء خلوته فيها.
ومن البدهي أيضاً أن كثيراً منهم -إن لم يكن كلهم- وصلوا إلى الجذبة أثناء إقامتهم في تلك الخرائب، وأن بعض تلك الجذبات كان من النوع المضخم للأبعاد، فماذا كان يرى المجذوب في مثل تلك الحالة؟
- كان يرى البقعة التي يقيم عليها أرضاً شاسعة واسعة، يقدر بوهم جذبته، أو بإيهام شيطانه له، أن طولها من الشرق إلى الغرب مئات السنين، ومن الشمال إلى الجنوب كذلك.
ويرى بقايا الجدران التي تحيط بها، جبلاً شاهقاً ذاهباً في السماء، يحيط بالأرض من جميع جهاتها.
وطبعاً كانوا يقصون مشاهداتهم على بعضهم، وكانت قصة الجبل الشاهق المحيط بالأرض تتردد كثيراً في مشاهداتهم وقصصهم، لكثرة خلواتهم في الخرائب.
وربما كان يخطر لأحدهم، على بال جذبته، أن يصعد فوق جبل قاف، فينهض، ويقترب من الجدار المتهدم، ويعتلي فوقه، فيرى نفسه قد قطع الدنيا بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، ويرى نفسه قد صعد فوق جبل قاف، بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، حسب المكان الذي صعد عليه.
وقد يهبط خلف الجدار المتهدم فيرى نفسه وراء جبل قاف، وقد يتراءى له شيطانه، وقد يكون معه رفقة شياطين آخرون، فيتسلون بالتلاعب بعقله والضحك على ذقنه، ويفهمونه أنهم أولياء مثله يقيمون وراء جبل قاف، أو يزورونه من حين إلى آخر، كما قد يكون هؤلاء الأولياء مرتاضين مثله يختلون في الخرائب المجاورة لخرابته، وقد يكونون مجرد صور هلوسية.(79/134)
وقد يحدث لجذبة الفقير (على وزن حضرة الفقير) أن يرى خلف جبل قاف حية، أو حبلاً يتوهمه حية، فيراها طويلة طول ما بين المشرق والمغرب، وقد تكون هذه الحية وسوسة من شيطانه ينفثها في روع جذبته فيراها مجسمة أمامه.
وبما أنهم كانوا، لجهلهم، والجاهل عدو نفسه، وعدو دينه، يؤمنون أن كشوفهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لذلك آمنوا أن الأرض محاطة من جميع جهاتها بجبل شاهق جداً! وعرف بعضهم بالكشف أن اسمه قاف، وانتشرت الأسطورة، وأخذت حيزاً هاماً من الثقافة العامة في المجتمعات الإسلامية حتى زمن قريب! بل لا يزال كثير من الأبدال العارفين وعابديهم (المريدون) والمخدوعين بهم يؤمنون حتى الآن بجبل قاف.
وقد كانت الخرابات ضرورية لرؤية جبل قاف قبل أن يعرف، أما بعد ما شاع اسمه واشتهر واحتل مكانه من الثقافة العامة، فقد صار بإمكان الفقير أن يراه في أي مكان تأتيه فيه الجذبة، كما يرى بقية التخيلات والصور المختزنة في اللاشعور، (وسنرى توضيح هذا بعد صفحات).
إن رؤية جبل قاف وغيره من الخرافات، بالكشف، هي برهان واضح جداً وساطع جداً على أن كشوفهم هلوسات تحشيشية شيطانية، وليست فتوحات إلهية كما يفترون.
5- بقية كشوفهم الجاهلة:
رأينا، فيما سبق من فصول، نماذج كثيرة من كشوفهم التي سموها علوماً لدنية، وما فيها من جهل، ولا بأس من إضافة الملحوظات التالية:(79/135)
أ- من كشوف الأقطاب الأغواث العارفين أن الأرض محمولة على حوت اسمه (نون)، والحوت على الماء المحيط.. إلى آخر الهذيان، ولم يستطع واحد من أولئك العارفين الذين عرفوا الأمور بنور اليقين -كما يقول حجتهم- أن يعرف أن ذلك هراء، وأن الأرض كروية مدحوة في الفضاء(1) وأنها تدور حول الشمس، وأن ماءها خرج منها ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:31]، وهذا يعني أن الماء محمول عليها، وليست هي محمولة عليه، وهذا دليل على أن كشوفهم ليست إلهية، بل هي هذيانات هلوسية؛ لأنها لم تستطع معرفة الحقيقة ولا فهم الآية الكريمة.
ب- رأى قطب منهم الشمس في عجلة يجرها ملكان لهما مخالب... وهذا يذكرنا بالحيوان الأسطوري الذي يجر عجلة ملكية والذي رآه حشاش فطر المكسيك، ولم يستطع الكشف الجاهل ولا كل كشوفهم أن تعرفهم أن الشمس كتلة ملتهبة مضطربة تكاد تميز من الغيظ أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وأنها ليست محمولة على عجلة بل مدحوة في الفضاء.
إذن فكشفهم ليس إلهياً وإنما هو هلوسة هذيانية.
ج- لم يعرف أي قطب منهم أو غوث من الذين يتصرفون في الكون أن القمر مثل الأرض فيه صخور وأتربة، وأنه كروي خال من الهواء والماء! ولم يعرف عارف منهم أن المريخ والزهرة والكاتب(2) وغيرها كلها مثل الأرض تتألف من صخور وأتربة وفيها أجواء غازية وفي بعضها ماء... لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسات تحشيشية.
د- لم يستطع أي غوث منهم من الذين يتصرفون في الكون أو من الذين تحققوا بأسماء الله الحسنى، ومنها الاسم (العليم) ومنها (علام الغيوب)، أن يعلموا شيئاً عن الذرات والجواهر والنوى وكهاربها وحركاتها...لأن كشفهم ليس إلهياً بل هلوسة أفيونية يرون فيها ما كانوا يتوهمونه عن الكون من خرافات وأساطير.
__________
(1) مدحوة: أي مقذوفة ومدحرجة.
(2) الكاتب هو: عطارد.(79/136)
6- لم يستطع كشفهم الجاهل أن يميز الحديث الموضوع من الصحيح، حتى كانوا وراء تزوير الأحاديث ووضع أكثر الموضوع منها والمكذوب، فكانوا من الأدوات التي هدمت الإسلام في نفوس المسلمين، إذن فكشفهم ليس إلهياً وعلومهم اللدنية هي جهالات لدنية.
ولا نريد أن نزيد، فما على القارئ الكريم إلا الرجوع إلى فصل (نماذج من حكايات الصوفية وكراماتهم...)، أو إلى كتبهم، ليرى ما يكشف عن الجهل والغباء والخرافة والاستحواذ الشيطاني، فحكاياتهم وكراماتهم أبلغ من أي حديث آخر.
- ونذكر أن العروج في السماء، والفناء في الله (تعالى الله) وتوابعها، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام السالك، أو العارف، أثناء اليقظة؛ لأن أجسامهم أصغر من أن تستطيع التمثل بتلك الأشياء الضخمة جداً.
لذلك كانوا بحاجة إلى الجذبة وخواصها، وأحياناً إلى الخاصة المضخمة لصغائر الأشياء تضخيماً كبيراً! ليستطيعوا أن يوهموا الفقير بتلك الأمور ثم يوهموه أنه صار (عارفاً بالله) بينما هو في الحقيقة، صار من أجهل خلق الله وأضلهم، وصارت نفسه مركباً ومسرحاً وملهاةً للشياطين يعبثون فيها كما يريدون!
* فيزيولوجية الجذبة:
ما هي الجذبة؟ وكيف تحدث؟
- من المعروف أن العمل العضلي المجهد يسبب إفراز مادة (حامض اللبن) في الدم الذي يوصله إلى أنحاء الجسم، وبملامسته للأنسجة العصبية يؤثر فيها تأثيراً تترجمه الجملة العصبية إلى شعور بالتعب.
وشبيه بهذا ما يحدث نتيجة المجاهدة الصوفية.
لنسأل أي عالم صادق من علماء التشريح والفيزيولوجيا، وسيخبرنا أن العزلة والسهر والجوع والذكر الإرهاقي وتوابعها واستمرارها مدة طويلة تحدث في الجسم الإنساني تحريضاً يجعله يفرز مادة تؤثر على الجملة العصبية تأثيرات هدفها الأول التلطيف من شدة الألم الناتج عن تلك الممارسات.
فما هي هذه المادة؟ وما هو تأثيرها؟(79/137)
يمكن معرفة هذه المادة بالتحاليل المخبرية الدقيقة، (وقد تفيد معها الفحوص الشعاعية والسريرية على أن تجري على عدة سالكين في أكثر من حالة صحو وأكثر من حالة جذبة لكل واحد منهم. وقد يكون من المفيد بدء الفحوص مع بدء سيرهم في التصوف).
ومع ذلك نستطيع، بصورة أولية، معرفة الوظيفة الكيميائية لهذه المادة من تأثيرها؟
إذ إن تأثيرها يشبه تماماً تأثير المواد المخدرة، إذن فهي من نوعها، وهي بالتالي من أشباه القلويات.
لكن يظهر من تجارب القوم وتوصيات الشيوخ أن هذه المادة المفرزة، لا تؤثر على الأعصاب التأثير المطلوب إلا عندما تكون الجملة العصبية في حالة (الاستخدار)، ورأينا أن الوصول إلى هذه الحالة يكون بخلع النعلين، الدنيا والآخرة، أي: بإفراغ مراكز الوعي في الجملة العصبية من جميع مشاغلها الدنيوية والأخروية! إفراغاً كاملاً، حتى تصاب هذه المراكز، (بسبب تعطيلها عن العمل)، بالكسل والضمور والاسترخاء، أي: (الاستخدار)، حيث تغدو قابلة للتأثر بكمية من المخدر أقل من الكمية التي يمكن أن تتأثر بها في الحالة العادية.
وهكذا يلتقي الهبوط الكافي في نشاط القشرة الدماغية ومقاومتها مع الزيادة الكافية في دفقة المخدر، فتكون الجذبة المورفينية التي يسمونها بغرورهم: الفتوح، أو كشف الحجب، أو الإشراق، أو الولاية، وغيرها... وما هي في حقيقتها إلا (أَفْيَنَةٌ ذاتية)(1) تشبه الأفينة التي يسببها الأفيون والمورفين والحشيش وعقار الهلوسة وفطر المكسيك وغيرها شبهاً كاملاً، مظهراً ومخبراً ومشاهدات وهلوسة وحالة نفسية.
__________
(1) أطلق عليها أحد الأدباء الشباب اسم (التحشيش الروحاني).(79/138)
ولو أُخضع الذين يتعاطون هذه المهلسات إلى إيحاءات الشيخ والجو الصوفي مدة كافية من الزمن، لصارت هلوساتهم مثل هلوسات الصوفية تماماً: عروجاً إلى السماء، واجتماعاً بالملائكة والأنبياء، ووصولاً إلى العرش، وحضوراً مع الله (جل وعلا)، وفناءً فيه حلولاً أو اتحاداً أو وحدةً، حسب الإيحاءات التي يُحقنون بها.
وفي هلوسات الصوفية التي يسمونها الكشف والفتح والعلم اللدني، والتي يرونها أثناء الجذبة، براهين تُضاف إلى ما سبق، على أن جذبة الإشراق هي نفس جذبة التحشيش والأفينة؛ لأن مشاهداتهم في هذه نفس مشاهداتهم في تلك، والفرق بينهما ناتج عن الفرق بين الأماني والمعلومات المختزنة؛ ولأن الحالة النفسية في كلتيهما واحدة.
وتبرز ملحوظة مفيدة؟ فقد رأينا في فصل سابق أن هز الرأس على الطريقة النقشبندية قد يوصل إلى الجذبة بعد إحدى وعشرين هزة، أو بعد تكرارها، مما يدل على أن المادة المهلسة المفرزة إنما تفرزها بعض أنسجة الدماغ أو بعض الغدد القابعة في ثناياه.
فهل الأمر كذلك؟
نعم إنه لكذلك! ففي الدماغ منطقة تُفرز مادة شبه قلوية لها مفعول المرفين، هذه المنطقة (تحت المهادية) واقعة في الجزء الأسفل من المخ، تفرز مادة (الأنْدُورفين) أي: (المورفين الداخلي) وهي أقوى من المورفين المعروف، وظيفة هذه المادة هي تخفيف الآلام الشديدة التي يمكن أن تكون قاتلة، تلطفها وتجعلها -بآلية معقدة- في الحدود غير المميتة.
كما أن هناك مادة ثانية يفرزها الدماغ اسمها (أنكيفالين)(1) لها نفس التأثير المخفف للآلام ونفس المفعول المورفيني، لكنها أضعف من المورفين.
نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) تعريفاً لهاتين المادتين، ترجمته:
- أندورفين(2) (Endorphine): هرمون تفرزه الغدة تحت المهادية (Hypothalamus) له خصائص المورفين المسكِّنة.
__________
(1) ليس لدي من المراجع ما يعينني على معرفة المنطقة التي تفرزها.
(2) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.(79/139)
- أنكيفالين(1) (Enképhaline): مادة يفرزها الدماغ تؤثر في نقل السيالة العصبية ولها مفاعيل المورفين المسكِّنة.
ونقرأ للدكتور أكرم المهايني(2) في كتابه (علم الأدوية الفارماكولوجيا) قوله:
- مماثلات المورفين: أقر العلماء مؤخراً، إثر الدراسات الحديثة لفسيولوجية المراكز العصبية، وجود ببتيدات... تبدي قدرةً تحاكي فعل المورفين في عدد من النسج الحية، ولا سيما في الجملة العصبية والنخامي والأنبوب الهضمي، وقد تم حتى الآن، الكشف عن مجموعتين من هذه الببتيدات الداخلية المنشأ التي عرفت باسم (مماثلات المورفين) أو (الببتيدات نظيرة الأفيون) وهما:
1- مجموعة الأنكه فالين...(اكْتُشِفت سنة 1977م).
2- مجموعة الأندورفين(3)...(اكْتُشِفت سنة 1976).
(ليس من موضوع كتابنا أن ننقل تجارب الفارماكولوجيين ومناقشاتهم في موضوع هذه الببتيدات، وإنما نورد منها ما يمس موضوع بحثنا).
- إن دفقة كافية من الأندورفين، أو من الأنكيفالين، أو منهما مجتمعين توقع السالك في الجذبة المماثلة للجذبة التي يسببها المورفين، حيث ينال السعادة الأبدية التي تستمر دقائق أو سويعات، يرتقي أثناءها في المعارج، وينتقل في الفناءات، ويتحقق بالأسماء والصفات ويذوق من معاني اسمه الصمد...
فلكما التقديس يا إندورفين ويا أنكفالين، يا هرموني الولاية وإكسيري المعرفة، يا سُرارتي التوحيد وقرارتي التفريد.
يا إندورفين ويا أنكفالين، يا من بكما تعلقت همم الرجال، وإليكما تطاولت أعناق المحبين العاشقين الأبطال، ومن أجلكما اقتحموا الأهوال.
يا إندورفين ويا أنكفالين، إليكما حقيقة توجهت صلوات الصوفية في الجهر والإسرار، وبكما حقيقة تعلقت قلوبهم والأسرار، وفي سبيلكما حقيقة واصلوا اجتهاد الليل بالنهار.
__________
(1) يوجد عدة أنواع لكل من الأنكيفالين والإندورفين.
(2) أستاذ في كلية الطب بجامعة دمشق حتى كتابة هذه الكلمات.
(3) علم الأدوية الخاص، (ص:304، 305).(79/140)
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا منتهى أمل السائرين، وغاية غايات السالكين، إليكما صبت قلوبهم، ولكما عَنت وجوههم، وبتجلياتكما التي لا توصف بلسان، ولا تفصل ببيان، باعوا الدنيا والآخرة، ورضوا بجهنم مستقراً ومقاماً.
يا نور يقينهم، وعين يقينهم، وحق يقينهم.
يا هرموني الفناءات، وإكسيري التجليات، يا مانحي التحقق بالأسماء والصفات.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا كاشفي الحجب، يا مقدسي الأسرار، يا رافعي الغين عن العين.
يا سر الجذبات التي أوهمتهم شياطينهم من الإنس والجن أنها ولاية وقرب وتحقق بالألوهية.
* كيف يسبب الإندورفين والأنكفالين الجذبة:
الألم الشديد حافز يدفع الغدد الدماغية المختصة لإفراز هاتين المادتين أو إحداهما بشكل دفقات كافية لتخدير المراكز العصبية، بما في ذلك القشرة الدماغية، تخديراً خفيفاً كافياً لإبقاء الألم في حدود غير قاتلة.
كما يظهر من تجارب القوم (الصوفية) أن الاهتزازات العصبية العادية (غير الحادة) إذا استمرت مدة كافية (تختلف من شخص لآخر تدفع هذه الغدد لإفراز دفقات من هاتين المادتين أو من إحداهما، وقد رأينا أن هز الرأس بعنف على الطريقة النقشبندية قد يثير الدفقات.
والرياضة الإشراقية عند الأمم الأخرى (الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر في كلمة، وتركيز النظر على نقطة، وأخذ بعض الأوضاع غير المريحة، والاستمرار على ذلك مدة طويلة)، يقود الى نتيجتين:(79/141)
1- إفراغ مراكز الوعي من أي شيء يشغلها على الإطلاق، فتتعطل القشرة الدماغية من وظائفها الطبيعية التي طبعها الله سبحانه عليها، ومع المثابرة والاستمرار تصاب بشيء من الكسل والارتخاء، ومع المثابرة والاستمرار أيضاً، يزداد الكسل والارتخاء حتى تصل إلى درجة كافية للتأثر تأثيراً كافياً بكمية المهلس (إندورفين أو أنكيفالين أو كليهما)، الضئيلة التي تفرزها الغدد المختصة، كما أن تكرار الرقص العنيف، يساعد في زيادة كسل القشرة الدماغية واسترخائها، أو انكماشها.
إن عملية عدم التفكير المطلق وإفراغ الذهن من كل ما يشغله عملية صعبة للغاية، بل تكون متعذرة للكثير من الأشخاص، فأعانهم إبليس بأن دلهم على فائدة تركيز الفكر في كلمة ما كائنة ما كانت هذه الكلمة، فالهندوسي، مثلاً، يستعمل كلمة (أوم) أو (راهام)، والطاوي يستعمل كلمة (طاو)... وإذا أراد أحد متصوفة المسلمين ممارسة رياضة الصمت (وهذا نادر جداً) ركز تفكيره في شيخه.
ويستطيع القارئ أن يجرب ذلك بنفسه، فيركز تفكيره في كلمة ما، ولتكن (زيز)، يرددها في ذهنه دون أن يحرك لسانه أو شفتيه أو أي جزء من فمه، مع الانتباه إلى هذا الترديد، وسيشعر أن ذهنه كان فارغاً من أية فكرة أثناء ترديدها.
2- النتيجة الثانية: هي الإرهاق المؤلم المستمر الذي يدفع الغدد الدماغية المختصة إلى إفراز مخزونها من المهلس، واستمرار الألم وتزايده يدفع هذه الغدد إلى العمل المتزايد وإلى تزايد الإفراز، حتى تغدو الكمية المفرزة كافية للتأثير على المراكز العصبية التي وصلت إلى درجة كافية من الارتخاء؟ فتكون الجذبة التي يسمونها فيما يسمونها: (كشف الحجب، أو الفتح، أو الولاية، إلى آخر الأسماء الظالمة)، مع العلم أن ازدياد الإفراز عن الحدود المحتملة يقتل صاحبه.
أما متصوفة المسلمين:(79/142)
فقد حذفوا من رياضتهم الصمت وتركيز الفكر والنظر وأخذ الأوضاع المؤلمة، واستبدلوها بما سموه (الذكر). إن ترديد كلمة ما، يقود بعد مدة قد تطول وقد تقصر (حسب الأشخاص) إلى نفس النتيجتين السابقتين:
1- إفراغ الذهن من خواطره، والاستمرار على هذا الإفراغ بالذكر الإرهاقي المستمر ليالي وأياماً يدفع القشرة الدماغية إلى الاستخدار.
وكذلك الخضوع الكامل للشيخ هو عامل مساعد وقوي للوصول إلى الاستخدار لأنه يحول دون تشغيل الفكر، بل يشله.
2- من المعروف أن الإنسان إذا مارس حركة ما مدة طويلة، تغدو لديه عادةً يقوم بها دون إرادة أو شعور.
وكذلك ترديد كلمة ما، ليلاً ونهاراً، يغدو بعد مدةٍ عادةً، يرددها المرتاض دون إرادة أو شعور، ويزيدها الترديد الإرادي تمكناً، حتى إنه يكون نائماً، فيستيقظ، أو يوقظه أحد، فيلهج بها لسانه مباشرة دون وعي منه، بل قد يصل إلى ترديدها أثناء نومه.
ومثله الأعصاب التي تربط اللسان بالدماغ والتي تسري فيها التموجات العصبية النطقية المتناغمة مع الكلمة المرددة ومقاطعها وحروفها، تعتاد على ترديد تلك النبضات مع اللسان دون وعي.
ومثلها المراكز المختصة في الدماغ.
وبطبيعة الحال، تنتقل هذه النبضات إلى الأنسجة المحيطة بأعصاب اللسان وبمراكزها في الدماغ حيث تصبح لها عادة مثل اللسان وأعصابه. ومع الزمن يشعر المرتاض أن أعصابه كلها تردد تلك النبضات، وكلما زاد من ترديده الإرادي للكلمة كلما تمكنت تلك العادة من دماغه وأعصابه.
فلم يزل مستعملاً …للذكر ……في صمت اللسان وهو يجري
وقَدْرَ ما تجوهر اللسان ……بالاسم يستثبته الجَنان
ثم جرى معناه في الفؤاد ……جَرْيَ الغِذا في جملة الأجساد
هذه الاهتزازات (الميكرونية طبعاً) المستمرة، تنتشر في الدماغ حتى تصل إلى الغدد المختصة التي تأخذ بالاهتزاز مثل بقية الدماغ؛ واستمرار هذه النبضات يفضي إلى إفراغ المخزون أو المهيأ من هرمونها.(79/143)
واستمرار الاهتزاز، باستمرار الذكر، يؤدي بعد مدة إلى إصابة هذه الغدد بالخلل، فيزداد إفرازها ويسهل قذفها، وقد تصاب بالتضخم، كما يؤدي هذا إلى خلل في التفكير السليم.
وهكذا... حتى تغدو كمية الدفقة كافية لأَفْيَنَةِ المراكز العصبية المستخدرة، فتكون الجذبة، ويغدو السالك ولياً لله بكمية من الإندورفين والأنكيفالين قد تقاس بأجزاء من الغرام!
فلكما التمجيد والنعمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، ولكما توجههم الأسمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، لوجهكما الرقص مع النقص وبدون نقص، يا مقدسي الأسرار ويا باعثي الأنوار.
ما كان لهاثهم إلا وراء سرابكما، ولا هيامهم إلا بما يمنيهم إبليس فيكما من الخلد وملكٍ لا يبلى، ((يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) [النساء:120].
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا قدس أسرارهم، ويا جاذبيهم إلى الأوهام الشيطانية التي ضلوا بها وأضلوا.
وعندما تصير زيادة الإفراز وسهولة قذفه مقاماً بعد أن كانت حالاً، عندئذ يكون السالك قد وصل إلى الدرجات العلا، ونال القرب والسعادة العظمى، وصار بدلاً أو قطباً أو غوثاً، حسبما توهمه شياطينه من الإنس والجن.
فيا عباد الإندورفين، احمدوه واشكروه على ما أولاكم من نِعَمه، ولا تنسوا الأنكيفالين.
إلى جانب هاذين الهرمونين، يجب أن نذكر عاملاً مساعداً هو الأكسجين. ففي الحضرة الراقصة، وبعد دقائق قليلة من القفز، يأخذ الراقص باللهاث والتنفس العميق، وهذا ما يسمى (التهوية) حيث يدخل إلى رئتيه كمية من الهواء، وبالتالي من الأكسجين، أكبر من الكمية العادية.
عندما تستمر عملية التهوية مدة كافية، ترتفع نسبة الأكسجين في الدم، وللأكسجين تأثير أفيوني ضعيف، وارتفاع نسبته في الدم يصيب المراكز العصبية بأَفْيَنَةٍ خفيفة، يختلف الإحساس بها من شخص إلى آخر.(79/144)
لذلك نرى بعض الراقصين في الحضرة يأخذه الحال، فيزعق ويثور، إن كان الوارد قبضياً، أو يشعر بشيء من السرور والخدر اللذيذ، إن كان الوارد بسطياً، وقد يقع على الأرض، وقد يرى صوراً ينقصها الوضوح أو بعضه، وهذا يثير فيه الشهية الجارفة للوصول إلى الجذبة ويدفعه إلى المثابرة على الرياضة، مع العلم أن بعض الذين يأخذهم الحال كاذبون لا يحسون بشيء، وإنما يتظاهرون بذلك طمعاً في أن يحقق الحال المقال.
كما أن للتهوية دوراً آخر، إذ إن ارتفاع نسبة الأكسجين في الدم يؤثر على المراكز العصبية في جميع الحالات، ويجعل فعاليتها تهبط، ولو لم يشعر الراقص بذلك، وكلما زاد عدد الحضرات كلما زاد الهبوط، وهذا يساعد السالك كثيراً على الوصول إلى مقام الاستخدار، لذلك جعلوا الحضرة من المنشطات وأصروا عليها.
* ترنيمة إلى الإندورفين (مع حفظ المقام للأنكيفالين):
كنت مزقتُ شِعري، لكن البادئ أو الباده أو الطالع أو اللائح أو البارق أو اللامح، (وكلها مترادفة تعني بدايات الحال). أو الهاجم أو الوارد أو الحال (وهذه أيضاً مترادفة)، أو المقام، أيها لا أدري، أجرى في الخاطر هذه المقيصيرة فسجلتها.
أأندرفين والمسعى ……إلى إشراقك الأسنى
له التسبيح في الإعلانِ ……والتمجيد في النجوى
له أبدالهم تعنو ……وفيه قطبهم يفنى
أأندرفين هرمون الـ……ـولاية مانح الحسنى
إليك عروجُ سالكهم ……ومنك سحائب النعمى
طَبَتْ سُبُحات سرك سِرَّ ……قلب العارف المُظما
وقرًّح جفنه ولهٌ ……بخمرة ذلك المجْلى
يهيم بسُكر جذبتها ……يعبُّ يعبُّ لا يروى
بها قد باع دنياه ……وعاف لأجلها الأخرى
رضي بجهنمٍ سَكَناً ……مُقابل ساعة تُجْلى
أأندرفين كنتَ لهم ……معين الخدعة الكبرى
سرابُك عندهم خلْدٌ ……وملكٌ جل لا يبلى
وفيضك قدس سرهمُ ……يقدس قدْرَ ما تطغى
فأنت محط قبلتهم ……وأنت الغاية القصوى
إليك صلاتهم حقاً ……وذكرهم وما يُتْلى
أضاعوا فيك رُشدَهُم ……فضلوا، السعْي والمسعى(79/145)
- الترنيمة للإندرفين لأنني أظن أن له الدور الأساسي في الجذبة.
وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، من المفيد ملحوظة ما يلي:
المنطقة تحت المهادية (Hypothalamus) هي منطقة من الدماغ الأوسط في قاعدة المخ، حيث توجد عدة مراكز منظمة لوظائف فيزيولوجية هامة: (الجوع، والعطش، والنشاط الجنسي، والنوم، والاستيقاظ، وتنظيم الحرارة في الجسم).
وبدهي أن هذه المراكز هي أول ما يتأثر بالإندورفين، وبدهي أن هذا التأثر يغير كثيراً أو قليلاً من فعاليات هذه المراكز، وهذا يفسر ما يحدث لبعض الواصلين من بقاء مدة طويلة دون طعام أو شراب أو نوم، ومقدرة بعضهم على تحمل البرد الشديد أو الحر الشديد، وغير ذلك مما يظنونه كرامات دالة على ولايتهم.
* فيزيولوجية الرؤى أثناء الجذبة:
ما دامت مكاشفاتهم ومشاهداتهم وإشراقاتهم باطلة كلها! لأنها مدحوضة كلها بنصوص القرآن والسنة.
وما دامت دون أي رصيد في واقع الحياة والوجود!
وما دام كل ما يشاهدونه ويسمعونه ويكاشفونه هذيانات وهلوسات إندورفينية أنكيفالينية!
ما دامت كذلك! إذن فما هي؟ وكيف تحدث؟
1- هناك التمثيليات الشيطانية، لكنها في واقع الأمر ثانوية، وقد لا تقتضيها الحاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما تكون في حالة الصحو، فيسمونها الكرامات، ومع ذلك فهي وسيلة الخداع الأولى في الصوفية.(79/146)
2- عملية الكشف والمشاهدة تجري في الدماغ، في مركز التفسير البصري، كالتالي: من المعروف أن الصور الحسية (البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللمسية) عندما تتلقاها أعضاء الحس (العين والأذن والأنف واللسان والجلد) تحولها إلى سيالة عصبية تنقلها الأعصاب المختصة (بشكل تموجات قطعاً) مباشرة وبسرعة، إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت بصرية انتقلت إلى مركز التفسير البصري، حيث يتم هناك الإحساس بالرؤية، أي إن مركز التفسير البصري في الدماغ (تحت القشرة) هو الذي يحس بوجود الأشياء وبأطوالها وأحجامها وأبعادها وألوانها وحركاتها، أي هو الذي يفسرها بالصورة التي يعرفها كل من وهبه الله سبحانه نعمة البصر. وما كان سمعياً انتقل من الأذن إلى مركز التفسير السمعي الذي يتم به الإحساس بالصوت وارتفاعه وحدته وقربه وبعده...وهكذا.
فمراكز التفسير في الدماغ هي التي تفسر السيالة أو (الموجات) الواردة إليها، ذلك التفسير الذي يعرفه كل حي.
من مراكز التفسير الحسي تنتقل الصور مباشرة وبسرعة إلى مخازن الحفظ في الخلايا الدماغية المتخصصة بذلك والقابعة في منطقة اللاشعور في الأجزاء الداخلية من الدماغ.
وكذلك يحدث للأفكار والتخيلات والأماني والطموحات، تُخزن كلها في خلايا مخازن الحفظ المخصصة لها.
ويلاحظ بوضوح أن منطقة اللاشعور ليست مجرد مخازن صامتة تكدس فيها الصور والأفكار بجمود، وإنما هي عالم حي تجري فيه بنشاط عمليات تحليل وتركيب وإنشاء، لكن يغلب على هذه العمليات التنسيق مع العواطف والأماني المختزنة والتخيلات.
ويقرر علماء التشريح والفيزيولوجيا، بناءً على دراستهم وتجاربهم الكثيرة، أن مراكز الوعي (التذكر والإدراك والمحاكمة والضبط وتمحيص الأمور) تقع في القشرة الدماغية.
ويظهر أن خلايا المراقبة والانتقاء تتوزع بين القشرة وتمتد إلى داخل الدماغ.
ومراكز التفسير الحسي (البصري والسمعي وبقيتها) تقع تحت القشرة داخل الدماغ أيضاً.(79/147)
ومن ملحوظة أحلام اليقظة، والأفكار الشاردة أثناء الاسترخاء، والأحلام المنامية، ومن دراسة أوصافهم لأحلام جذباتهم الأفيونية والإشراقية، نستطيع أن نتخيل ما يلي:
أن هناك طرقاً عصبية (حبال) بعضها صادر عن مراكز الوعي في القشرة الدماغية (التذكر والإدراك وبقيتها) وبعضها صادر عن مراكز التفسير الحسي تحت القشرة (البصرية والسمعية وبقيتها) وكلها تصب مباشرة في مخازن الحفظ في مناطق اللاشعور في الدماغ، والتي هي خلايا عصبية تعد بالمليارات وأن هناك قنوات مباشرة من مراكز التفسير الحسي إلى مراكز الوعي في القشرة (الإدراك والضبط وغيرها).
كما يلاحظ؛ مع شيء من القبول، أن هناك طريقاً، أو قناة عصبية (حبل) صادرة عن مخازن الحفظ في اللاشعور، تصب، حسب مقتضى الحال، في مركز التذكر أو التخيل في القشرة، ومن هناك تتوزع إلى المراكز الأخرى في القشرة الدماغية حسب مطلوب الفرد أو حالته.
ويلاحظ أن الطريق الواصلة بين مراكز الوعي في القشرة وبين مخازن الحفظ في اللاشعور هي، في الحالة العادية، ذات اتجاهين: من القشرة إلى مخازن الحفظ، ومن مخازن الحفظ إلى القشرة (أي: ذهاب وإياب).
والطريق الواصلة بين مراكز التفسير الحسي تحت القشرة وبين مخازن الحفظ هي، في الحالة العادية، ذات اتجاه واحد: من مراكز التفسير الحسي إلى مخازن الحفظ فقط. كما أنه من الملاحظ أيضاً أن خروج الصور الحسية والأفكار من مخازن الحفظ في اللاشعور يكون بأحد أسلوبين.
أ- أسلوب إرادي انتقائي، لا تخرج فيه إلا الصور المطلوبة، وهذا يدل على وجود خلايا دماغية وظيفتها الإشراف على إفراز الصور والأفكار المطلوبة وإخراجها إلى مركز أو أكثر من المراكز المناسبة في القشرة الدماغية، أي: إن هذه الخلايا الدماغية هي مراكز مراقبة أو (رقيب) ويظهر أن جزءاً من هذه الخلايا أو (الحبال) الرقيبة واقع في منطقة اللاشعور، فهو يعمل دون أن يشعر به الكائن الحي.(79/148)
ب- أسلوب لا إرادي، تتسرب فيه الصور والأفكار عفوياً (حسب الظاهر) وتجري هذه العملية في حالة الشرود الذهني والاسترخاء وفي حالة النوم (الأحلام) وفي الجذبة (الكشف)، عندما تكون مراكز الوعي والرقيب فاقدة فعالياتها.
كما يلاحظ أيضاً وبوضوح، أن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في مناطق الوعي تكون متناسقة مع واقع الحياة والوجود على قدر استيعابها لهذا الواقع.
وأن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في منطقة اللاشعور تكون متناسقة مع العواطف والأماني والمخاوف الكامنة، تأخذ موادها الأولية منها ومن المعلومات المختزنة، فتحللها وتركب منها صوراً جديدة تتفق والأماني المختزنة والعواطف، ويلعب فيها الذكاء الفطري للفرد وسعة خياله دوراً ملحوظاً، لذلك، غالباً ما تقفز فوق الواقع والمعقول.
- وهناك حقائق تشريحية وفيزيولوجية تساعد معرفتها على معرفة كيفية حدوث الرؤى الجذبية، بل والمنامية أيضاً:
- يتألف الحبل العصبي من خلايا عصبية متصلة ببعضها، تنتقل السيالة العصبية فيها من خلية إلى جارتها حتى تصل إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، أو إلى القشرة الدماغية.
- الخلية العصبية، ويسمونها (العصبون) أو (النورون) تعريباً من (neurone) لا تستطيع الانقسام، وينتهي طرفاها بخيوط دقيقة متشعبة، تجتازها السيالة باتجاه واحد(1).
- بالقرب من منتهيات العصبونات، بملامسة التلاحمات العصبية، توجد حبيبات(2) تحتوي على مكونات آمينية يسمونها (الآمينات الوسيطة).
__________
(1) عن المعجم الفرنسي (Larousse).
(2) التعامل مع هذه الحبيبات يكون بالمجهر الالكتروني لصغرها.(79/149)
- ما بعد منطقة التلاحم هذه يوجد تلاحم آخر غني بحويصلات كبيرة (نسبياً) كروية تختزن مادة ببتيدية (أي: لها نفس مفعول الإندورفين) يسمونها (المادة: P). وقد أثبتت الدراسات أن (المادة: P) والأنكيفالين والمستقبلات المورفينية تبدي نفس التوزع. و(المادة: P) هذه هي حموض نووية (كالآمينات) لها دور هام في تأمين نقل الشيفرات الألمية عبر الألياف الناقلة للألم.
- تمر السيالة العصبية الحاملة لحسِّ ما من أول العصبون إلى آخره، وهناك يتحرر عدد من الآمينات الوسيطة من حبيبات ادخارها لتصطدم بمنتهيات العصبون المجاور لتنقل إليه السيالة، أو لتحرض فيه سيالة مماثلة، أما (المادة: P) ففي نقل الألم.
- تقوم أدوية الجملة العصبية المركزية (الأفيونيات ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتأثير منتشر، منبه أو مثبط، لجميع التلاحمات العصبية (أي: مكان اتصال العصبونين المتجاورين)...ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية مختلفة الشدة، وذلك بتنشيط أو إبطاء استقلاب الآمينات الوسيطة، أو بالتدخل في وظائف هذه المواد (الآمينات الوسيطة)...
- وفي الحقيقة أصبح من المقبول اليوم أن السيالة العصبية عندما تبلغ نهاية النورون العصبي حذاء المركز، يتحرر من هذه النهاية عدد من الآمينات الوسيطة وتنتشر لتنبه أو تثبط نوروناً آخر(1)...اهـ
- ألفتُ النظر إلى قوله: (ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية).
ويقول في مكان آخر:
إن آلية التأثير العام لهذه الأدوية (المخدرات العامة) التي تستند على وجود ولع اصطفائي مختلف الشدة بينها وبين المراكز العصبية المنتشرة على طول المحور الدماغي النخاعي(2)...
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:4)، مع شيء من التصرف، (المادة: P) (ص:308، 309).
(2) علم الأدوية الخاص، (ص:6).(79/150)
ويقول: إن اكتشاف بعض المركبات الكيمياوية، كعقار الهلوسة (L S D) والمسكالين وغيرهما، وملحوظة أن هذه المواد قد تسبب تبدلات عميقة في التصرفات تصل لدرجة الإهلاس، كل هذا لفت انتباه الدوائيين الجدد إلى إمكان وجود علاقة بين اضطرابات السلوك والتصرف، وبين بعض المركبات الكيمائية التي تبدي ولعاً اصطفائياً خاصاً بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي. وقد ارتقت نظرية التأثير الاصطفائي إلى أبعد من ذلك(1)...اهـ.
- هذه التقارير منقولة عن الدكتور أكرم المهايني في كتابه علم الأدوية الخاص، مع قليل من التصرف للتخلص من التعقيدات والتفصيلات التي لا تهمنا في بحثنا.
يهمنا من هذه التقارير:
- الآمينات الوسيطة التي تنتقل من نهاية عصبون إلى بداية جاره لتنبيهه بتحريض السيالة، أو تثبيطه.
- دور الأدوية المؤفينة (ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتنشيط الآمينات أو إبطائها (تثبيطها) أو تقويتها.
- تأثير هذه العقارات الأفيونية على أماكن مصطفاة من الأعصاب ومن الدماغ، وخاصة بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي، وهو الموضوع الذي نحن بصدده في كتابنا.
- وهذه الأماكن والأجزاء العصبية التي لديها القابلية للتأثر بهذه العقارات المخدرة يسمونها (المستقبِلات).
يقول الدكتور أكرم المهايني عن مجموعة الأنكيفالين:
...تتثبت بشدة على المستقبلات المورفينية، وتتوزع في الجسم بشكل يتماشى مع توزع هذه المستقبِلات(2)...
ويقول عن مجموعة الأندرفين:
...وأثبتت الدراسات التجريبية...عام 1976م، بأن لهذه الببتيدات أيضاً ولع شديد بالمستقبِلات المورفينية(3)...
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:7).
(2) علم الأدوية الخاص، (ص:304).
(3) علم الأدوية الخاص، (ص:305).(79/151)
- من كل هذا، نرى أن الإندورفين والأنكيفالين اللذين يفرزهما الدماغ لهما نفس مفعول المورفين بصورة دقيقة، وإن كان الأنكيفالين أضعف منه، والأندرفين أقوى في بعض الحالات. وهذه التقارير العلمية، مضاف إليها ما رأيناه في الفصول السابقة من تشابه كامل بين حالة الجذبة الأفيونية الهلوسية ورؤاها وبين حالة الجذبة الصوفية ورؤاها، كل هذا يجعل التأكد كاملاً، ولا يترك مكاناً لأي شك أو تساؤل أو تردد بأن الجذبة الصوفية ورؤاها هي تهليس إندرفيني أنكيفاليني، وأن الرياضة الصوفية وعلى رأسها الذكر الإرهاقي تعمل على زيادة الكمية المفرزة من هاتين المادتين بشكل مَرَضي دائم، كما تعمل، بإرهاقها الدماغ مدة طويلة، على إضعافه إضعافاً كافياً للتأثر بهذه الكمية الجديدة من إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.
وبالتالي تكون الصوفية، أو الإشراق، أو المعرفة، أو الكهانة، أو ما شئت غيرها من الأسماء التي أطلقوها، تكون خدعة إبليسية كبرى، وهي السبب الأساسي لانحراف الإنسانية عن الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.
ولزيادة الفائدة وزيادة تأكيدها، نصان آخران.
يقول الدكتور أكرم المهايني:
...ويحسن بنا التذكير، بأن زوال الألم بفعل المورفين (ومثله الإندورفين والأنكيفالين طبعاً) لا يؤلف سوى وجه واحد من أوجه تأثيراته المتعددة، فطيف تأثيره يشمل أيضاً- بشكل أعم- السلوك والتصرفات.
...ولوحظ أيضاً وجود فرط نشاط إندورفيني في السائل الدماغي الشوكي لدى المصابين بالفصام (الجنون) المترقي(1)...
- أقول: يعرف القارئ الآن أن الفصام المترقي هو مقام (جمع الجمع)، وأن المصاب به هو الذي يسمونه (المراد)، ولو أجريت الفحوص اللازمة لهؤلاء الأولياء الأحياء الذين نسمع بهم، وخاصة عندما يكونون في مقام القرب، لوجد فرط النشاط الإندورفيني في السائل الدماغي الشوكي عندهم.
__________
(1) علم الأدوية الخاص، (ص:310، 311).(79/152)
ومن هنا يبرز الترجيح، أن الإندورفين هو صاحب الدور الأساسي، أو الرئيسي في الجذبة.
- والآن نستطيع أن نتخيل كيفية حدوث الرؤى الكشفية والأفيونية:
الظاهر أن مناطق اللاشعور في الدماغ تبقى في نشاط مستمر في جميع الحالات، شأن أجهزة الجسم اللا إرادية.
وواضح للمتأمل أن القناة العصبية التي تخرج فيها الصور من مخازنها في خلايا اللاشعور إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، هذه القناة، أو القنوات، هي من مستقبِلات المورفين، ولذلك، عندما تغدو كمية الإندورفين المفرزة كافية، بتحريض الرياضة الصوفية، تتفاعل معها هذه المستقبِلات، فتتثبط الآمينات الوسيطة على طول الحبل العصبي الواصل بين المخازن والقشرة، وتغدو هذه الطريق مغلقة، ويظهر أن خلايا الرقابة العليا يصيبها نفس الشيء، كما أن مستقبِلات الأفيون في كل الجملة العصبية يصيبها نفس الشيء، وهذه هي الجذبة.
إن فقدان المجذوب الإحساس بما حوله جزئياً أوكلياً (حسب كمية المهلس) هو دليل لازم كاف على أن الآمينات الوسيطة قد ثبطت، فتوقفت السيالات التي تحمل الإحساسات من أعضاء الحس (العين والأذن...) إلى القشرة الدماغية.
هذه هي الجذبة، وهذه هي الولاية (مرحباً ولاية).
ويظهر أن هذه الولاية تصيب أيضاً خلايا الرقابة في الدماغ، فتأخذ خلايا اللا شعور حريتها بتحليل الصور والمعلومات المختزنة، وغيرها، لتركب منها صوراً جديدة متناسقة مع عواطف المجذوب ورغباته، بل لعل العواطف والرغبات هي التي تحرك عملية التحليل والتركيب.(79/153)
تخرج هذه الصور الجديدة، وغالبيتها بصرية، على غفلة من الرقيب المخدّر بشكل سيالات عصبية، لعلها موجية (وهو المنطقي)، في الطريق المعتاد الذي طبعت عليه، أي إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، لكنها تجد منافذها مغلقة، وتجد إلى جانبها منفذاً آخر، وهو الطريق ذات الاتجاه الواحد التي تخرج من مراكز التفسير الحسي وتصب في المخازن، وهي، بدهياً، تقع داخل الدماغ، فتعبرها اضطراراً مخالفة للعادة في الحالة العادية، حيث تصل إلى مراكز التفسير الحسي. ولعل (المادة: P) لها دور في فتح هذه القناة بصورة معكوسة.
بما أن غالبية الصور بصرية، لذلك تذهب إلى مركز التفسير البصري، فيفسرها ويحس بها كما لو كانت آتية عن طريق العين، ويراها المجذوب مجسمة ماثلة أمامه كأنها شيء واقع حقيقي؛ لأن مركز التفسير مطبوع على التأثر بأية موجة تصله، ليفسرها ويرسلها مفسرة إلى مركز الإدراك في القشرة، ولا علاقة له بمصدرها ولا بالطريق الذي سلكته.
وتذهب الصور السمعية إلى مركز التفسير السمعي، واللمسية إلى مركز التفسير اللمسي...وهكذا.
وعندما يصل الخدر خفيفاً إلى الطرق الواصلة بين المخازن ومراكز التفسير الحسي، عندئذ يختلط الحابل بالنابل، ويختلط السمع بالبصر بالشم بالذوق باللمس، فتذهب الموجات البصرية إلى مركز تفسير حسي (بصري أو غير بصري) وكذلك السمعية والشمية والذوقية واللمسية، فتحدث لهم الرؤى التي لا يستطيعون وصفها، وتوهمهم شياطينهم، ويصور لهم غرورهم أن الأنبياء كانوا كذلك! وتوهمهم جذباتهم أن الجنة كذلك.
وعندما يزيد المخدِّر عن حده، ويتغلغل في الدماغ يصاب المجذوب بالجنون أو الشلل أو الموت.
هكذا تحدث أحلام الجذبة بجميع أنواعها سواءً أكانت مورفينية أو إندورفينية، أي سواء كانت جذبة تحشيش أو جذبة إشراق.(79/154)
ولعل من آثار الإندورفين أيضاً تمييع الخلايا العصبية، وخاصة خلايا القشرة الدماغية، تمييعاً خفيفاً طبعاً؛ لأن هذا يمكن أن يكون تعليلاً لما يرونه من تضخيم الأبعاد قليلاً أو كثيراً، ومن إطالة الزمن أو تقصيره، ومن رؤية فراغات لا نهائية أو رؤية الأشياء شفافة أو لا وجود لها...وذلك لأن الخلايا المدْرِكة في القشرة، عندما تتميع، يمكن أن يتغير شكلها باتجاه أو بآخر بسبب الضغوط حولها، فيحدث ذلك التشويه في الإدراكات، كما يمكن أن يكون حدوث هذا التميع في مراكز التفسير ذاتها.
وهنا يأتي دور الشيخ؟
فلولا الشيخ لكانت الرؤى متشابهة مع بعضها في الجذبتين (جذبة التحشيش وجذبة الإشراق). لكن توجيهات الشيخ وإيحاءاته المتناسقة مع تجاربه السابقة، تحقن المريد بالعواطف والطموحات التي توجه رؤاه إلى العروج في السماوات والمحاضرات والمكاشفات والمشاهدات والفناءات والتحقق بالأسماء والصفات، ورؤية جبل قاف وكاف وعين وصاد، وغيرها، حيث يرى السالك منها ما يتناسب مع استعداداته الفكرية والإندورفينية.
ولهذا السبب كان الشيخ هو الأصل في طريقهم، ولهذا السبب قالوا: من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن من لا شيخ له تكون رؤاه مثل رؤى حشاشي الحشيش والمورفين وزمرتهما، ولهذا السبب كان الخضوع الكامل للشيخ أساساً ليسهل انطباع توجيهاته وإيحاءاته في أعماق المريد.
مساكين! الحشاشون والمورفينيون! مساكين!
فلو كان لهم شيخ يوجههم، لذاقوا أيضاً الفناءات، وتحققوا بالأسماء والصفات، وتصرفوا بالكون، ولكان منهم الأبدال والأقطاب والأغواث.
أما قولهم بالتصرف في الكون، هذا الهذيان المضحك المبكي (وكلهم هذيانات مضحكة مبكية) فقد رأينا مثله عند حشاش عقار الهلوسة، الذي يكفي، في بعض الحالات، أن يتخيل شيئاً أو يتمنى رؤيته حتى يراه أمامه مجسماً.(79/155)
ومثل هذا يحصل لبعض الواصلين الذين صار خَلَل غددهم المفرزة للهرمونين مقاماً عالياً، فقد يمر بخاطره عرش الرحمن مثلاً، فيراه أمامه مجسماً كما يتصوره بوهم جذبته، لا كما هو على حقيقته التي لا يعلمها إلا الله.
وقد يخطر على بال جذبته أن ينقله من مكان إلى مكان، فيقول له: (انتقل) فيراه قد انتقل.. وهكذا. وهذا ما يسمونه (التصرف في عالم الملكوت).
وكذلك ما يحدث لبعضهم أحياناً من اضطراب في إحساسه بالزمن حيث يحس أنه قطع سنين طويلة في جذبة لم تدم سوى دقائق قليلة! مثل هذا ما رأيناه يحدث لمجذوب المهلسات...
والرجاء من القارئ أن يعود إلى مفعول المخدرات في أول هذا الفصل لتتوضح أمامه ما هي كشوفهم ومعارفهم وعلومهم اللدنية.
والآن، نستطيع أن ندرك بصورة أوضح وأدق، دور الرياضة الصوفية. فهي بعناصرها التي عرفناها والتي يُجْملها قولهم: (اخلع نعليك، الدنيا والآخرة)، تقلل الإحساسات الذاهبة إلى الدماغ تقليلاً كبيراً، وهذا يعني أن السيالات العصبية تقل كثيراً، وهذا يعني كذلك أن الآمينات الوسيطة يقل عملها كثيراً، ومع الزمن تصاب بالكسل، ومع تطاول الزمن بالمثابرة على الرياضة، ومع تكاثر الإندورفين والأنكيفالين بسبب الرياضة أيضاً، يغدو كسل الآمينات الوسيطة مقاماً عالياً، وتغدو مستعدة للشلل أو ما يشبهه بكمية من المخدر أقل من الذي تحتاجه في الحالة العادية، أي: تصل إلى مقام الاستخدار، والذكر الإرهاقي يقوم بنفس المفعول، وإذا ساعدته عناصر أخرى من الرياضة كان أسرع، ولعل التلاحمات العصبونية المحيطة بالدماغ هي محل العمليات المذكورة، وذلك لتكاثر الإندورفين في السائل الدماغي الشوكي أثناء الجذبة.
* فقرات معترضة:
* إكسير الولاية:-(79/156)
تسهيلاً على المريدين وتيسيراً لهم للوصول إلى الولاية والصديقية والغوثية والألوهية بيوم أو يومين، وبدون تعب ولا خلوة ولا جوع ولا سهر، نقترح على الشيوخ العارفين الكمل، ذوي المدد العظيم من الأموال التي تنهمر عليهم من المخدوعين والغافلين، أن يكلفوا واحداً أو أكثر من علماء الكيمياء الطبية، لتحضير نوعين من العقاقير:
أ- عقار يسبب هبوط فعالية الآمينات الوسيطة بشكل دائم (الاستخدار).
ب- عقار آخر يحدث خللاً يضخم الغدد الدماغية المفرزة للمخدرين ويزيد إفرازها زيادة كافية.
عندئذ تصبح الولاية والقطبية والألوهية في متناول الجميع! فكل من يريد التحقق بالأسماء والصفات والفناءات في الذات والتصرف في الكون، ما عليه إلا أن يذهب إلى صيدلية يشتري منها (إكسير الولاية) المكون من عقارين:
- العقار الأول: يأخذه في اليوم الأول، حيث يجتاز كل المقامات في ساعات، ويصل إلى مقام الاستخدار.
- العقار الثاني: يأخذه في اليوم الثاني، حيث تخرق له الحجب وتكشف الغيوب بعد ثوانٍ أو دقائق.
لكن الشيخ يبقى لازماً لا بد منه في جميع الحالات! إذ بدون إيحاءاته وتوجيهاته لن يستطيع المريد الوصول إلى الألوهية، لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم يكن بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فلا يمكن لإيحاءات الشيخ أن تنطبع في أعماقه لتصبح جزءاً هاماً من أمانيه وطموحاته.
وصحبة شيخ وهو أصل طريقهم ……فما نبتت أرض بغير فلاحة
ولهذا، فلن يكون إكسير الولاية خطراً على المدد الذي ينهمر على الشيوخ، بل بالعكس، سيزيد كثيراً عدد السالكين بسبب سهولة (الطريقة الإكسيرية)، وبذلك سيزداد كثيراً مدد الشيخ، كما سيحتاجون إلى عدد أكبر من الشيوخ الكمَّل.
* أحلام النوم:-
فيزيولوجية أحلام النوم تشبه فيزيولوجية أحلام الجذبة، مع فارق هو:(79/157)
في الجذبة: يبقى خدر الدماغ سطحياً وثابتاً في موضعه طيلة الجذبة، بينما تكون بقية أجزاء الدماغ متمتعة بنشاطها المعتاد إلا في حالة (الفناء عن الفناء) أو جمع الجمع.
وفي النوم: يبدأ النوم سطحياً (في القشرة الدماغية) حيث تحدث الأحلام، وتكون أجزاء الدماغ الأخرى في حالة هبوط تدريجي نحو النوم، فحالة الهبوط تجعل الحلم غامض الموضوع، والتدرج نحو النوم الكامل، أو بالعكس، يسبب القفزات في تسلسل حوادثه.
وعندما يصل النوم إلى مراكز التفسير الحسي تنقطع الأحلام.
* هل سيبصر الأعمى:-
لا أظنه بعيداً، ذلك اليوم الذي يذهب فيه الأعمى إلى الصيدلية ليشتري (جهاز إبصار) يضعه على رأسه، ترتبط به نظارات يضعها على عينيه، ثم يخرج وهو يرى الحياة كما يراها البصير العادي. وتحدث عملية الرؤية كالتالي:
تقع الأشعة المنعكسة عن الأشياء على نظارات الجهاز (مثل وقوعها على العين العادية) وترتسم صورها عليها.
تتحول هذه الصور إلى موجات كهرطيسية تسري عبر شريط ناقل إلى الجهاز الموضوع في مكان معين فوق الرأس.
يحول هذا الجهاز الموجات الكهرطيسية إلى موجات عصبية مناسبة تخترق الجمجمة والقشرة الدماغية حتى تصل إلى مركز التفسير البصري الذي يفسرها كما لو كانت آتية إليه عن طريق العين، إذ كل ما يريده مركز التفسير البصري هو أن تصله موجات عصبية مناسبة، ليفسرها ويحس بها ذلك الإحساس الذي يعرفه كل كائن حي بصير.
أما من أين أتت تلك الموجات؟ وكيف؟ وفي أي طريق؟ فهذا لا شأن له به.
وهكذا تحل مشكلة العميان حلاً جذرياً أو شبه جذري، كما يستطيع أي إنسان أن يستعمل هذا الجهاز للتسلية، أو لضرورة ما.
* جهاز فيديو يغني عن الشيخ والرياضة وعن إكسير الولاية:-
نفس جهاز الإبصار الذي يضعه الأعمى على رأسه، يرتبط به جهاز فيديو خاص (بدلاً من النظارات).
يستطيع صاحب الجهاز أن يقتني مجموعة كبيرة من أشرطة الفيديو التي سجلت عليها مناظر متنوعة الأشكال والمواضيع.(79/158)
فما على المرء إذا أراد أن يقوم بسياحة إلى إندونيسيا، مثلاً، إلا أن يضع الجهاز على رأسه، ويضع في الفيديو الشريط المناسب، ويحرك الزر المطلوب، ثم تبدأ الرحلة! فيرى نفسه ذاهباً إلى وكالة سفريات، حيث يشتري بطاقة طائرة، وفي اليوم التالي يستيقظ من النوم باكراً، ويذهب إلى المطار، ويختلط بالمسافرين، ويقف بدوره أمام رجل الأمن المكلف بمراقبة الأمتعة، وبعد أن ينتهي من كل المشاكل، يعبر إلى المدرج، ويصعد إلى الطائرة ليجلس على مقعد فوق مؤخرة جناح الطائرة الأيمن، ويجلس إلى جانبه شاب يمضغ لباناً في فمه مما يثير في نفسه الضيق والحنق معاً... وتتحرك الطائرة وتحلق في الجو، وينظر صاحبنا من النافذة ليمتع نظره بالأرض التي تطوى تحته ببطء لتظهر أرض غيرها...وهكذا حتى يصل إلى مطار لاهور...إلى آخر الرحلة وتفاصيلها... بينما هو في حقيقة الأمر قابع في غرفته لم يتحرك من مكانه!
وإن كان صاحبنا من المريدين الذين لا يريدون إلا وجهه (؟) فيضع في الفيديو شريط الولاية، وإن أراد الحسنى (؟) وضع شريط العروج إلى الله (جل الله وعلا علواً كبيراً)، فيرى الملائكة تتنزل عليه وتقول له: (لا تخف ولا تحزن)...ويرفعه أحدهم...حتى يعبر السماوات ويصل إلى العرش (في قصة طويلة ومناظر متنوعة مذهلة) وهناك تحدث له الفناءات والتحققات والتصرفات، ويذوق من معاني اسمه الصمد والرب والرحمن، حتى الاسم الأعظم.
وهكذا... إلى آخر المناظر المسجلة على الشريط، وعلى بقية الأشرطة.
الباب الثالث
مناقشة الحقيقة
الفصل الأول
مناقشة وحدة الوجود
1- يقول سبحانه: ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15].
الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض.
فوحدة الوجود تجعل من كل مخلوق جزءاً من الله جل وعلا.(79/159)
وتقرر الآية الكريمة الحكم على الذين يؤمنون بهذه العقيدة الذين يجعلون من عباد الله (سبحانه عما يصفون) جزءاً منه، تقرر الحكم عليهم بالعبارة: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15]، التي نفهم منها ما يلي:
أ- قوله: ((إِنَّ الإِنسَانَ)) [الزخرف:15]، يدل على أن المؤمنين بوحدة الوجود هم من بني الإنسان فقط، فلا يوجد بين الجن مثلاً، بل الملائكة، من يؤمن بهذه العقيدة الكافرة.
ب- قوله: ((لَكَفُورٌ)) [الزخرف:15]، على وزن (فعول)، وهي صيغة تدل على المبالغة والاستمرار، تعني: إن المؤمن بوحدة الوجود هو شديد الكفر مستمر عليه، يمتنع رجوعه عنه أو يصعب.
وتعني: إن شدة الكفر واستمراريته الموجودة في نوع الإنسان تجعله يؤمن بمثل هذه العقيدة.
ج- قوله: ((مُبِينٌ)) [الزخرف:15]، أي: مظهر للكفر، مفصح عنه، موضح له، وهذا يعني أن الفكرة واضحة الكفر، والذي يؤمن بها مبين للكفر، الكفر ظاهر له وعليه؛ وذلك لأن الفطرة السليمة (وبعض غير السليمة)، تقشعر رعباً من سماع هذا التطاول على القدسية الإلهية، وترتجف هلعاً من هذا الغرور الغبي الجريء الظالم، لمجرد سماعها ذلك.
2- يقول سبحانه: ((وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)) [الصافات:159].
طبعاً، وحدة الوجود تجعل الجن جزءاً من الله تعالى، وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه؛ لأنه نسب بعض الذات إلى الذات.
لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة، نفياً لها ودحضاً، وتنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه هؤلاء الواصفون.
والعبارة: ((وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)) [الصافات:158]، واضحة الدلالة على أن الجن- لو كانوا يتصلون بنسب إلى الله سبحانه- لما جعلهم من المحضرين. وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفياً كاملاً.(79/160)
3- يقول سبحانه: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)) [مريم:9]، ويقول: ((أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)) [مريم:67].
الآيتان واضحتان كل الوضوح: إن الله سبحانه خلق الإنسان من لا شيء، من العدم، ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئاً قبل أن يوجد، كما هو الآن شيء بعد وجوده.
فكون الإنسان خلق من لا شيء، من العدم، ينفي وحدة الوجود جملةً وتفصيلاً، لأن الله تعالى ليس عدماً، إنه الحي القيوم الخالق البارئ المصور.
4- عشرات الآيات في الكتاب الحكيم تقرر أن المخلوق غير الخالق. منها: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النحل:73]، إذن فالأصنام والأوثان (وهي خلق) هي من دون الله تعالى، وليست جزءاً منه، ولا هي هو. ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)) [النحل:35].
((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [غافر:66].
((إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [يونس:104].
((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) [الممتحنة:4].
ومنها: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)) [الزمر:64]، طبعاً، كانوا يأمرونه أن يعبد أصنامهم وأوثانهم. والآية الكريمة تقرر أنها غير الله، وبما أنها جزء من الخلق، إذن فالخلق غير الله، والمخلوق غير الخالق.(79/161)
((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173]، والذي أُهِلَّ به لغير الله إنما أُهِلَّ به للأوثان والأصنام ولمن يسمونهم (الأولياء)، وهؤلاء كلهم خلق، والآية الكريمة تقرر أنهم غير الله. ومن هذه الآيات: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].
((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [الأنعام:14].
((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)) [الأنعام:114]...
هذه الآيات هي بعض من آيات كثيرة غيرها تقرر أن المخلوق هو من دون الله، وغيره، وهي كافية للرد على كل جحود مؤمن بوحدة الوجود، ولو سماها وحدة الشهود.
5- لو كان الخلق هو الحق، كما يفترون، وكانت المخلوقات جزءاً من الله سبحانه تعينت بهذه الأشكال المختلفة، لما بقي أي معنى للأسماء الحسنى: (الخالق، البارئ، الفاطر، بديع السماوات والأرض)، التي تعني كلها (الإيجاد من العدم).
6- لو كانت وحدة الوجود صحيحة، لكان الإنسان جزءاً من الله، ولكانت الآية: ((إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)) [العصر:2] باطلة! ولكان الإنسان في ربح سواءً آمن أم لم يؤمن، وعمل صالحاً أم لم يعمل، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواصَ؟ لأنه جزء من الله.
وبما أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون باطلة، لأنها وحي من عند الله، إذن فعقيدة الصوفية هي الباطلة، إذ لو صحت عقيدتهم لأصبح معنى الآية: ((إن جزءاً من الله لفي خسر)) وهذا واضح البطلان.(79/162)
7- في القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتماً لله (تعالى)، لو صحت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود، مثل قوله سبحانه: ((وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)) [هود:60]، لأن عاداً، حسب عقيدتهم الباطلة، هم جزء من الله سبحانه، حيث يصبح معنى الآية الكريمة: (إن جزءاً من الله (تعالى عما يصفون) أُتبع في هذه الدنيا؟؟ ويوم القيامة؟! (وناقل الكفر ليس بكافر).
ومثل هذه الآية كثير في الكتاب والسنة.
8- آيات كثيرة في كتاب الله تفهمنا أن العمل السيئ لا يرضي الله ولا يقود إلا إلى السوأى، وأن الحسنى لا يوصل إليها إلا بالعمل الصالح، من هذه الآيات: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)) [النساء:123].
((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)) [الروم:10].
((فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [القصص:84].
((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا)) [الجاثية:21].
((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌَ)) [يونس:26].
((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)) [النجم:31]، وغيرها الكثير.
وطريق الصوفية تبدأ منذ الخطوة الأولى بالشرك الأعظم، فالمريد عندما يضع رجله في عتبة رحاب الشيخ مريداً له ولطريقه، فقد قبل عبادته وقبله رباً من دون الله، سواء عرف ذلك أم لم يعرف، ثم يسير المريد في الطريق الشركية مضيفاً إليها طقوساً ومجاهدات وثنية، حتى يصل إلى الجذبة التي تشرق عليه بوحدة الوجود.
إذن، فوحدة الوجود ضلال وباطل؛ لأن الطريق إليها ضلال وباطل.(79/163)
ثم إن الطريق الذي يتبعه المتصوفة للوصول إلى الجذبة هو طريق الشيطان، ((وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)) [النساء:119]، ((وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)) [النساء:38].
والشيطان لا يقودهم إلى الله كما يتوهمون، بل يضحك عليهم ويوهمهم ويستجرهم، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
9- يقولون في فريتهم هذه، بالقدرة والحكمة؟
فالقدرة: هي تعيينه سبحانه الخلق من ذاته، وهذا ما يسمونه الحقيقة.
والحكمة -عندهم-: هي ستره سبحانه (الحقيقة) عن خلقه. ويقولون: إن الله سبحانه أرسل الرسل بالشريعة من أجل هذا الستر.
- والجواب:
أ- مقولتهم في القدرة والحكمة هي، على كل حال، من الأمور الغيبية التي لا تُعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والنص لا وجود له، إذن فمقولتهم كاذبة، يكذبون بها على الله ورسوله، ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الأنعام:21].
ب- بما أن عقيدتهم في (القدرة والحكمة) وفي وحدة الوجود، لا يوجد أي دليل عليها في الكتاب والسنة إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة، لذلك لا يعدو الإيمان بها أن يكون واحداً مما يلي:
- إما اتهاماً لله (سبحانه وتعالى عما يصفون) بالخوف والكذب؟
- أو اتهاماً له (سبحانه وتعالى) بالجهل، وأنهم هم عرفوها (لأنهم عارفون)؟!
- أو اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة والجبن؟
- أو اتهاماً للدين الإسلامي من أساسه بالبطلان؛ لأنه أُنزل ليحارب، فيما يحارب، هذه العقيدة التي هي أساس العقيدة الوثنية.
10- يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أمر مرة بإغلاق الباب، وسأل أصحابه إن كان فيهم غريب؟ فلما أجابوه بالنفي، بدأ معهم علوم الطريقة...ويقولون: إنه فعل هذا تعليماً لأصحابه على التستر على (حقيقتهم)، وهذا ما يسمونه (الحكمة).(79/164)
- الجواب على هذه الفرية المجردة من الإيمان ومن الإسلام ومن كل معاني الحياء: الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس (مع اختلاف في الشكل) كلهم يؤمنون بوحدة الوجود ديناً، يعلنونها ويبنون عليها كل فلسفاتهم في كل كتبهم، وهؤلاء كانوا وما زالوا يشكلون أكثر من نصف سكان الأرض.
والسؤال: ما هي هذه الحكمة (الخنفشارية) التي تسمح لأكثر من نصف سكان الأرض أن يعلنوا إيمانهم بوحدة الوجود ويبنوا عليها حياتهم وفلسفتهم ولا يكتموا منها شيئاً! ثم تمنع ذلك على المسلمين وعلى رسول الإسلام فقط؟! فأي حكمة هذه؟ إنها مهزلة وليست حكمة!
وإن من يعتقد صحة هذه الحكمة المفتراة، يحكم ضمناً أن الإسلام غير صحيح، وأن الديانات الوحدوية هي الديانات الصادقة! عرف ذلك أم لم يعرف؟ لأن الجهل أيضاً فنون.
11- ماذا كان يخشى محمد صلى الله عليه وسلم من إعلان وحدة الوجود، لو كان يؤمن بها؟ ولو أعلنها لاستجاب له الألوف الكثيرة في مدة قليلة؛ لأنها لن تكون غريبة على الأسماع، ولاستراح هو وأصحابه من كثير من الآلام التي عانوها.
12- الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس، كانوا وما زالوا يؤمنون بوحدة الوجود عقيدة وحيدة.
وأهل الكتاب كانوا وما زالوا يؤمنون بخالق في السماء، خلق الخلق من العدم مع شرك وتشبيه، وبعض رشفات من الوحدة (ما عدا متصوفيهم طبعاً). فجاء الإسلام ليعلن كفر أولئك المطلق، ويحرم على المسلمين ذبائحهم والزواج منهم...
بينما وقف من اليهودية والنصرانية موقفاً أخف بكثير، وسماهم (أهل الكتاب)، ووسع حدود التعامل معهم (وخاصة مع النصارى)، وأجاز ذبائحهم وطعامهم ومصاهرتهم...
فلو كان في دين الإسلام من وحدة الوجود ما يفتريه الصوفية، لانعكست الآية، ولصار النصارى هم الأبعدين، ولصار الهندوس والباقون هم الأقربين.(79/165)
13- عندما انتصر الفرس المجوس على الروم النصارى، كانت عواطف المسلمين مع النصارى، وحزنوا لهزيمتهم لأنهم أقرب إليهم من الآخرين ((غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:2-4].
فلو كان الصحابة يعرفون أباطيل وحدة الوجود، أو يؤمنون بشيء منها، كما يفتري عليهم المتصوفة، لكانت عواطفهم مع الذين يشبهونهم في العقيدة، مع المجوس الذين يدينون بشكل من أشكال وحدة الوجود، لا مع النصارى الذين يؤمنون أن الله في السماء، وقد خلق الخلق من العدم، (مع شرك عظيم طبعاً).
14- كل الأحاديث التي يرويها المتصوفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في موضوع الوحدة هي:
- إما مكذوبة! وهم أنفسهم يعرفون أنها مكذوبة! ومع ذلك يوردونها دون خوف من الله، وكأنهم لم يسمعوا قول رسوله: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}. وأسلوبهم أنهم يروونها، ثم يعلقون عليها بعبارة ما، مثل: (تكلموا فيه)، أو: (فيه نظر)، أو ما شابه ذلك، ثم يبنون عليها ما يشاءون من أحكام ظالمة! وكأنهم إذا قالوا عن الحديث المكذوب: (فيه نظر)، أصبح من الأحكام الشرعية، وأصبح العمل به شرعياً؟!
- وإما أن يكون حديثهم صحيحاً؛ لكنهم يلوون عنقه، فيؤولونه، ويعطونه معنى ما أنزل الله به من سلطان! وكذلك يفعلون مع الآيات القرآنية.(79/166)
وقد مرت في الفصول السابقة أمثلة كثيرة على ذلك، وهو نماذج لما شحنوا به كتبهم من هذه التحريفات، ومنها على سبيل المثال أيضاً: تفسيرهم لقوله سبحانه: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191]، بالحضرة الصوفية والرقص. وتفسيرهم لقوله سبحانه: ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ...)) [مريم:49] بالخلوة. وتفسيرهم لقوله سبحانه: ((وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) [الأعلى:15]، بأن الذكر بالاسم المفرد (الله الله الله) هو صلاة. وتفسيرهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً آذنته بالحرب...}، أن الولي هو الصوفي. وقوله في بقية الحديث: {...فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها...} بأنه يعني وحدة الوجود.
وقد أشبع العلماء هذا الحديث بحثاً، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن نص الحديث ينفي وحدة الوجود! إذ لو كانت وحدة الوجود موجودة، لكان اللهُ (سبحانه عما يصفون) سَمْعَ الإنسان، وبَصَرَه ويَدَه وكُلَّه! سواءً أحبه أم لم يحبه، وقبل أن يحبه وبعد أن يحبه، وفي جميع الأحوال، ولا تكون هناك حاجة لأداء الفروض والنوافل، ولا لأي شيء أبداً لتحقق ذلك.
وكون هذا الوصف: {كنت سمعَه...وبصرَه...} لا يتحقق إلا بعد أداء الفروض والتقرب بالنوافل...ثم بعد أن يحبه الله، يعني بكل وضوح أن هذا لم يكن قبل أن يحبه الله، أي: إن هذه المزية (كون الله تعالى سمع المرء...وبصره...) هي غير متحققة في الإنسان العادي، وبذلك تنتفي وحدة الوجود، وينتفي معها فهمهم الخاطئ.
ويكون معنى الحديث: إن الله سبحانه إذا أحب العبد أعانه إعانة تامة في كل شيء، ولا يكله إلى نفسه أبداً في أي شيء، وطبعاً تكون إعانة الله للعبد كما يريد الله سبحانه لا كما يريد العبد.(79/167)
15- الصوفية أنفسهم يعلمون علم اليقين أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، ولذلك يُتاقون ويكتمونها عن غير أهلها ويتواصون بذلك.
* النتيجة:
وحدة الوجود كفر مبين، ومعتقدها كافر مبين، كافر حسب الشريعة، وكافر حسب الحقيقة الحقة التي هي الشريعة الإسلامية، له في الدنيا عقوبة المرتد عن الإسلام، وله في الآخرة عذاب أليم، إلا أن يتداركه الله سبحانه بلطفه وعفوه.
والصوفي الحق هو الذي يبطن وحدة الوجود، ويظهر التمسك بالشريعة، وهو منافق حقاً، بل هو شر أنواع المنافقين، وليكن مطمئناً (من مقام الطمأنينة) أن مقامه الحقيقي هو في الدرك الأسفل من النار إن لم يتداركه الله برحمته.
والعقيدة الإسلامية هي أن الله جل وعلا خلق الخلق من العدم، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك، والمخلوقات هي من دون الله وغيرُه، أي أنها ليست تعينات من ذاته العلية، جل جلاله، وهو سبحانه فوق خلقه: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...)) [الأنعام:18]، ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)) [الملك:16] (والسماء هنا بمعنى: العلو).
وهو سبحانه فوق السماوات، بدليل قول رسوله صلى الله عليه وسلم معقباً على حكم سعد بن معاذ في بني قريظة: {لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أَرْقِعَة}، والأرقعة هي السماوات، واحدتها: رقيع.
وقول زينب رضي الله عنها تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم: [[زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات]] (رواه البخاري).
وغيرها وغيرها من الآيات والأحاديث.
الفصل الثاني
الباطنية
- عرفنا من الفصول السابقة أن الصوفية عقيدة باطنية، ولا باطنية في الإسلام.
يقول سبحانه: ((قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) [البقرة:118].(79/168)
((قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)) [المائدة:19].
((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)) [إبراهيم:4].
((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)) [البقرة:256].
((لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [النور:46].
((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)) [المائدة:15].
((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الحج:49].
((قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)) [النساء:174].
((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89]...
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها}(1).
- من هذه النصوص الكثيرة، ومن عشرات غيرها، كلها واضحة جلية، نعرف أن ليس في الإسلام باطن وظاهر بالمعنى الصوفي.
ويكون الإيمان بأن في الإسلام ظاهراً وباطناً كفراً بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيباً لها.
- كما أن من الحقائق التاريخية، أنه لم يحدث قط وجود عقيدة باطنية في جماعة إلا إذا كانت هذه الجماعة تضمر الشر والكيد للمجتمع الذي تعيش فيه.
ولم تخرج الصوفية على هذه القاعدة، فقد رأيناها كيداً للإسلام ومكراً بالمسلمين.
__________
(1) سنن ابن ماجة، المقدمة، (حديث: 43).(79/169)
- ويقول أحد الباحثين: حيثما وجدت الباطنية ففكر باليهودية. وفي الواقع سنرى بعد قليل أن لليهودية دوراً في نشر الصوفية بين المسلمين، وعلى كل: (الحضرة) يمكن أن تكون أثراً من آثارها، ومثلها السماع، وتقديس القبور، وبناء القبب، واستعمال السبحة، والجهر بالذكر، وهز الجذع أثناءه إلى الأمام والوراء، أو إلى اليمين والشمال، كل هذه طقوس وممارسات موجودة في اليهودية كما هي موجودة في كل الوثنيات أيضاً! وهي موجودة في الصوفية! فما هي العلاقة؟؟ مع العلم أن كل هذء الأمور لا أساس لها في الإسلام ألبتة.
ولن نعدم مكابراً يقول: ليس في الصوفية باطنية، لن نعدمه رغم كل كتبهم ورغم كل أقوالهم، ورغم مئات الصفحات المدرجة في هذا الكتاب.
ولا جواب لنا على أمثال هؤلاء إلا أن نشكوهم إلى الله تعالى.
وللباطنية لغة اسمها (التقية)، يتعلمونها فيما بينهم، يخاطبون بها الناس، ويتسترون بها على ضلالاتهم، ويمكرون بها بالمسلمين، ويكيدون بها للإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإلى مناقشة التقية.
ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك} (إلا هالك).
الفصل الثالث
مناقشة التقية
من فعل: تاقى، يتاقي، متاقاة، وتقيَّة (بتشديد الياء)، ومُجرَّدُه هو فعل تَقَى يَتْقي تقيَّة، بمعنى اتقى.
التقية هي لغةُ الحركات الباطنية والمجال الذي تتفسح فيه ألسنتها، وفي مقدمتها الصوفية، وقد رأينا أنهم يجعلونها جزءاً من حقيقتهم، وقرأنا مثل قولهم: (التقية: حرم المؤمن)، و(إذا كان قد صح الخلاف، فواجب على كل ذي عقل لزوم التقية)، ومئات الأمثلة غيرها.
وهم يجعلون لها أصلاً قرآنياً في قوله سبحانه: ((...وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) [آل عمران:28].(79/170)
لكن الفرق بين التقاة التي يسمح بها الإسلام، وبين تقيتهم هو نفس الفرق بين الإيمان والكفر.
فالتقاة الإسلامية تكون في حالة واحدة هي: ((مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)) [النحل:106]، إذ في حالة الإكراه هذه فقط يمكن للمسلم المؤمن أن يتظاهر بما يرضي القوة التي تكرهه ريثما يفلت منها، مع بقاء قلبه مطمئناً بالإيمان، أي: إنها حالة استثنائية وطارئة تضمر الإسلام وتظهر غيره.
بينما التقية الصوفية هي عكس ذلك، إذ هي أولاً: إبطان وحدة الوجود، أي: إبطان الكفر وإظهار الشريعة الإسلامية، وهذا هو النفاق عينه الذي هو شر أنواع الكفر، وأصحابه في الدرك الأسفل من النار.
وهي ثانياً: قاعدة مستمرة عندهم، وليست استثناء ولا هي حالة طارئة.
إذن فهي مناقضة للإسلام تناقضاً كاملاً واضحاً لا نقص فيه ولا لبس ولا غموض. وأسلوب التقية في الصوفية يتركب من:
الكذب، والتأويل، والمغالطة، والمراوغة، والمخادعة.
* الكذب:-
مر معنا في الفصول السابقة عشرات النماذج من كذبهم، وهي جرع من بحر، وبتأمل هذه النماذج، وغيرها مما في كتبهم، نرى أنها:
كذب على الله سبحانه، وكذب على ملائكته، وكذب على كتبه، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على أهل الكتاب، وكذب على التاريخ...
أما الكذب على الجغرافية والفلك والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء فهو من علومهم اللدنية التي عرفوها بالكشف الذي هو حق اليقين ونور اليقين وعين اليقين؟!
ويكفي القارئ -إذا لم يرد ترويح النفس بقراءة النصوص الكثيرة- أن يقرأ مثلاً (في فصل: نماذج من حكايات الصوفية...) النص الذي عنوانه: وجعلوا الملائكة معاتيه ومخابيل.
* التأويل:-
للتأويل معنيان:(79/171)
1- المعنى المعروف في اللغة العربية والواردة به الكلمة في القرآن الكريم، وهو كما في (تفسير ابن كثير): التفسير والبيان والتعبير عن الشيء. وهو أيضاً: حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه.
وبشيء من إمعان النظر في المعنيين، نرى الثاني امتداداً للأول وتكملة له.
ولتوضيح ذلك:
نقرأ في الكتاب الحكيم: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11]، و((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [الإنسان:2].
فالله سبحانه سميع بصير، والإنسان كذلك سميع بصير!
لكننا نعرف -بدهياً- وبدون أي تلكؤ، أن الله سبحانه وتعالى سميع بصير، بالمعنى الكلي الكامل المحيط للكلمتين، فهو سبحانه سميع بصير بلا حدود.
وأن الإنسان سميع بصير، بالمعنى الجزئي الناقص المحدود للكلمتين، فسمعُ الإنسان وبصرُه تحدهما عوامل كثيرة.
ومثلها: الحي، الملك، المؤمن، العزيز، الجبار...إلخ.
ومثلها الأفعال التي يمكن أن تعزى إليه سبحانه، وإلى مخلوقاته، مثل: شاء، أراد، وغيرها.
ومثلها: الأسماء التي يمكن أن تضاف إلى الخالق والمخلوق، مثل: أمر، إرادة، مشيئة... ومنها كلمة (تأويل).
فعندما تضاف كلمة (تأويل) إلى الإنسان، يفهم منها التأويل الجزئي الناقص المحدود.
أما التأويل الذي يعلمه الله سبحانه، فهو تأويل كلي كامل محيط، يشمل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء وحقيقته، وما يؤول إليه أمره، وتفصيله الدقيق المحيط...
ومثلاً على ذلك، قوله سبحانه: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)) [القمر:1].
فنحن نعرف أن تأويل: ((اقْتَرَبَتِ)) [القمر:1]، أو (تفسيرها)، هو: صارت قريبة (ضد بعيدة)، لكن، ما هي مدة هذا الاقتراب؟ كم عدد أيامه وساعاته ودقائقه؟ ما هي تفصيلاته بدقة؟ وكيف يتم؟...إلى آخر الأسئلة، وكلها من تأويل ((اقْتَرَبَتِ)) [القمر:1]، الذي لا يعلمه إلا الله.(79/172)
ونعرف أن ((السَّاعَةُُ)) [القمر:1]، هي نفخة الصور الأولى! لكن، كيف تقوم الساعة؟ ما هي عواملها بالتفصيل؟ وما هي نتائجها بالتفصيل أيضاً؟ والأسئلة كثيرة، والأجوبة عليها من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
هذا هو المعنى اللغوي القرآني لكلمة (تأويل).
ومن هنا نعرف أن معرفتنا بمعاني القرآن الكريم، مهما تعمقت، تبقى ناقصة، وأن المعنى الكامل يبقى غائباً عنا، وهو ما يمكن أن يسمَّى (المعنى الباطن)، وهذا هو التأويل الذي يأتي يوم القيامة: ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) [الأعراف:52، 53]، كما أن دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار هو أيضاً من تأويله.
2- المعنى الاصطلاحي الذي تتبناه الحركات الباطنية، من صوفية وغيرها، والذي هو موضوع بحثنا:
وهو إعطاءُ الكلمةِ معنىً يخالف المعنى اللغوي والشرعي المجمع عليه في كتب اللغة والأصول، ويتفق مع العقيدة الباطنية للمؤولين، يفتشون فيه، أو فيها (في اللفظ أو في الجملة) عن أي شيء يمكن أن يكون رمزاً أو إشارة إلى شيء من العقيدة الباطنية، فيبرزونه، موهمين أنه المعنى الحقيقي.
وفي التقية الصوفية، نواجه نوعين من التأويل:
* تأويل نصوص القرآن والسنة لتتفق مع باطلهم، ويسمونه أيضاً (التفسير الإشاري)، نذكِّر ببعضها:
- (لا إله إلا الله)، تأويلها: لا موجود إلا الله.
- و((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8]، تأويلها: إن المخلوقات ترجع إلى ربها الذي صدرت عنه لتندمج فيه.(79/173)
- ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191]، تأويلها:
عبارة: ((يَذْكُرُونَ اللَّهَ)) [آل عمران:191]، يدخل فيها ترديد كلمة: (الله حي) بتقاطيعها لا بألفاظها.
وعبارة: ((قِيَامًا وَقُعُوداً)) [آل عمران:191]، تشير إلى القفز، وبذلك تكون الآية مشيرة إلى الحضرة الصوفية! وينسون طبعاً أو يتناسون عبارة: ((وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191]!
-...((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) [الإسراء:85]: معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذ لَمْ يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)..
- ونزيد في التأكيد بإضافة نص للغزالي في (إحيائه)، مر في مكان سابق من هذا الكتاب. يقول:
...ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه(2)..
إذن، فهم يؤولون نصوص القرآن والسنة التي تخالف كشفهم! وهذا يعني:
أ- لا يؤمنون إلا بكشوفهم وهلوساتهم كمصدر للاعتقادات والعبادات.
ب- ينكرون المعنى الصحيح للنص القرآني أو السني، ويرفضونه.
ج- يخافون من إعلان هذا الرفض؛ لأنه يجرد عليهم سيف الردة (سيف الحلاج).
د- لذلك يتظاهرون بالإيمان بنصوص القرآن والسنة المخالفة لكشوفهم، ولكنهم يقولون: إن لها معنى باطناً، هو معناها الصحيح.
هـ- يفتشون في النص عن أي شيء يمكن أن يروا فيه إشارة أو رمزاً لما يعتقدون.
و- يسلطون الأضواء على هذا الشيء ويبرزونه، وكأنه المعنى الحقيقي للنص!
ز- وإذا لم يستطيعوا إقناع الآخرين لقبول تأويلاتهم، عمدوا إلى خدعة أخرى؟ فقالوا عن المعنى الصحيح للنص: إنه المعنى الظاهر! وقالوا عن تأويلهم الباطل: إنه المعنى الباطن!
والنتيجة:
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/243).
(2) إحياء علوم الدين: (1/92).(79/174)
تأويل نصوص القرآن والسنة، هو كفر صراح بالنصوص، وأسلوب للتخلص من عقوبة هذا الكفر، وخداع للمسلمين لجرهم إلى ضلالات التصوف.
* النوع الثاني من التأويل الذي يمارسه المتصوفة في كل مناسبة هو تأويل ضلالاتهم، وتأويل نصوصهم الدالة على ضلالاتهم لإظهارها وكأنها لا تخالف الشريعة الإسلامية. يفعلون ذلك لأهداف:
أ- التستر على باطلهم، والتظاهر بأنهم لا يخالفون القرآن والسنة!
ب- الضحك على أذقان المغفلين لئلا يتهموهم بالكفر والزندقة.
ج- خداع المسلمين لإقناعهم أن الصوفية من الإسلام، ثم جرهم إليها.
د- خداع الذين لا يقتنعون بضلالات الصوفية، ليتركوا تلك النصوص تسري بين المسلمين بهدوء ليستطيعوا هم أن ينصبوا شباكهم بهدوء، ويصيدوا بها فرائس جديدة بهدوء. وبهذه الفرائس الجديدة يزيد مدد الشيخ وتستمر مسيرة الكهانة. وبهذه الفرائس الجديدة تزداد قناعة المجاذيب بأن جذباتهم التحشيشية الإشراقية هي فتوحات إلهية، وبأن هلوساتهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
وغفلة المسلمين جعلت المتصوفة يتمادون بالقول بالتأويل! فكلما جئتهم بنص من نصوصهم الضلالية، قالوا لك: هذا له تأويل! فنقول:
إن هذا التأويل، والقول بهذا التأويل، هو كفر وزندقة وردة، وهو كيد للإسلام ومكر بالمسلمين، وضحك على ذقون المغفلين لجرهم إلى أحضان الشياطين، ثم إلى جهنم وبئس المصير.
* الخلاصة:
للكفر مدخلان:
1- رفض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بصراحة. وهذا كفر فيه صدق ووضوح.
2- تأويل ما جاء به محمد، أو بعض ما جاء به. وهذا رفض متستر، وهو كفر فيه خبث ومكر وكيد وخداع، فهو شر من الكفر الأول.
* المغالطة والمراوغة والمخادعة:-
سنورد صوراً سريعة من مغالطاتهم ومراوغاتهم ومخادعاتهم، حيث يأتي في قمتها أمران:
- الطريقة البرهانية الغزالية، أي: مزج الإسلام بالتصوف، وهو ما اعتادوا على تسميته بالتصوف السني.
- التأويل الاصطلاحي.(79/175)
وتكاد كل خدعهم ومغالطاتهم ومراوغاتهم أن تكون فروعاً لهاذين الأصلين، منها:
- لو قال قائل: إن الصوفية كفر، لسمع أجوبة كثيرة مثل: الذي يصلي ويصوم ويقرأ القرآن... هل هو كافر؟
الجواب: إن الصلاة والصيام وقراءة القرآن ليست من الصوفية، بل هي من الإسلام الذي مزج به التصوف. والخمر لا يصير طيباً ولا حلالاً إذا مزج بالماء أو بالعسل، بل يبقى خبيثاً ومحرماً. وكذلك الصوفية تبقى زندقةً وكفراً ولو مزجت بالصلاة والصيام وقراءة القرآن والزكاة والقتال مع المجاهدين في سبيل الله...
- من المغالطات أن نسمع من يتظاهر بنقد التصوف، ويقول برزانة: إنهم يبالغون في التعبد، والمبالغة في التعبد ليست حراماً، ولكنها قد تثير الملل عند بعضهم...
- مما يرددونه دائماً وبعناد قولهم عن الآية: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) [آل عمران:191]، تعني الحضرة الصوفية!
الجواب: لا تساعد اللغة العربية على هذا الفهم، كما لم يفهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، ولا التابعون ولا تابعوهم. ومعنى الآية هو أن يذكر المسلم الله في جميع الحالات.
- لو عرضت عليهم أحد النصوص الصوفية المشحونة بالكفر والزندقة، فسترى الجواب حاضراً: (هذا له تأويل)!!، أو يقولون: (هذا مدسوس).
- وهذه صورة من أساليبهم في المراوغة، يتسلى القارئ بتحليلها، يقول ابن عجيبة:(79/176)
...ولذلك كان النظر في الكتب يضعف المسالك لتشعبها وكثرتها عند اختلاف الهمم، لا سيما من جُبلت طبيعته على علم الظاهر، فإنه أبعد الناس عن الطريق ما لم يدَّاركه الله بفتح منه؛ لأن التشريع كلُّ حكمة منها تحتها حِكَم، مَن لم يفهمها فبستانه مزهر غير مثمر، ومن هنا وقع الإنكار، حتى امتحن الله كثيراً من الصوفية على أيدي علماء الظاهر عندما نسبوهم للكفر والزندقة والبدعة والضلال! وسر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة، ((سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)) [الفتح:23].. ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)) [الأنعام:9]. وما هلكت الأمم السابقة إلا بقولهم: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:23]. فتحصل أن الإنسان إذا جال مع النفس في ميدانها فجاهدها حتى هذبها وطهرها من الأوصاف الحاجبة لها، رجعت نفسه حينئذ إلى أصلها، وهي الحضرة التي كانت فيها، إذ لم تكن بينها وبين الحضرة إلا الحجب الظلماتية، فلما تخلصت منها رجعت إلى أصلها نوراً مشرقاً(1)...
- نترك للقارئ التسلية بتحليل ما فيها من المخادعات والمغالطات، لكن ننبه إلى نقطة واحدة فقط، هي قوله: (حتى امتحن الله كثيراً...وسر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة، ((سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ...)) [الفتح:23]، فنقول له: هذا افتراء على الله الكذب، فأكثر من نصف سكان الأرض يؤمنون بسر الخصوصية، هذا الذي تدعيه، ولم يمتحنوا لا هم ولا كهانهم، فالأيونيون والرواقيون والإيلوسيون والغنوصيون والهنادكة والبوذيون والطاويون وغيرهم، كلهم كانوا وما زالوا يحترمون كهانهم الذين تحققوا بسر الخصوصية ويبجلونهم، ولم يُمتحن أصحاب هذا السر إلا في الإسلام!
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:349).(79/177)
لذلك، فإما أن يكون أصحاب سر الخصوصية كفاراً زنادقة، أو يكون الإسلام غير صحيح، ولا ثالث لهاذين الاحتمالين.
- ومن مغالطاتهم، قول محمد المهدي الصيادي (الرواس): ومما لا يلتفت إليه التشدق بما أبهمه وأوهمه المبتدعة أهل الوحدة المطلقة(1)....
هذا القول هو مثل قولهم: علومنا مقيدة بالقرآن والسنة، ومثل قول قائلهم: لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق؛ لأن الصديق يعطي الظاهر حكم الظاهر والباطن حكم الباطن، ويحمل نفس معنى العبارة: اجعل الفرق في لسانك موجوداً والجمع في جنانك مشهوداً، وأترك تحليلها للقارئ، مع التذكير بأن أهل الوحدة المطلقة هم الذين يصرحون بوحدة الوجود ولا يقيدون عباراتهم بالرمز واللغز.
- ومن أساليبهم في المغالطة قول عبد الكريم الجيلي:
...فلا بد لمن يقصد معرفة علمنا هذا.. أن يقيس العلوم الواردة إليه على الأصول المشروعة التي قد ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع؟ فما وجده من تلك العلوم موافقاً للشريعة فيقصده ويتجلى به، وما وجده مخالفاً توقف عن استعماله إلى أن يفتح الله على ما يؤيده من الشريعة، فيستعمله حينئذ(2)...
لملحوظة المغالطة هنا يجب أن ننتبه إلى قوله: وما وجده مخالفاً توقف عن استعماله إلى أن يفتح الله على ما يؤيده من الشريعة.
إذن، فما يخالف القرآن والسنة ليس كفراً، ولا يجب تركه ونبذه، وإنما يتوقف فقط عن استعماله ريثما يفتح الله عليه (تعالى الله عن الخداع)، بنص يمكن تأويله بما يوافق المخالفة.
- ومن مغالطاتهم ومراوغاتهم قول الجيلي نفسه:
__________
(1) فصل الخطاب، (ص:203).
(2) المناظر الإلهية، (ص:9).(79/178)
...ثم قال الإمام الأكمل: كل حقيقة لا يؤيدها شريعة فهي زندقة، يريد أن كل علم يَرِدُ عليك من الحقائق التي لا تؤيدها الشريعة، فاستعمال ذلك العلم زندقة منك؛ لأنك تفعل خلاف الشرائع؛ لأن الحقائق فيها زندقة، إذ ليس في الحقائق مسألة إلا وقد أيدها الكتاب والسنة(1)...
أرجو من القارئ أن ينتبه إلى قوله: فاستعمال ذلك العلم زندقة منك...، وأن يحلل بنفسه المغالطة والمراوغة في هذه العبارة وفي النص كله.
- ومن أشهر مغالطاتهم قولهم بالدس عليهم، وهذا مثل منها:
يقول عبد الوهاب الشعراني:
...وكان (ابن عربي) متقيداً بالكتاب والسنة... وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وما عليه الجمهور فهو مدسوس عليه، كما أخبرني بذلك سيدي الشيخ أبو الطاهر المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم أخرج لي نسخة (الفتوحات) التي قابلها على نسخة الشيخ التي بخطه، في مدينة قونية، فلم أر فيها شيئاً مما كنت توقفت فيه وحذفته حين اختصرت (الفتوحات)(2).
- جوابنا: لم يبين لنا القطب الرباني شيئاً من هذه المدسوسات. ثم إن كل ما في (الفتوحات) يدور حول وحدة الوجود، إما تصريحاً، أو بالعبارة الصوفية، ولو حذفناها لما بقي من (الفتوحات) شيء! فما الذي يمكن أن يدس عليها؟ وهل يحتاج البحر الميت إلى دس الملح عليه ليغدو ملحاً؟؟ ثم إن الفتوحات لا يطبعها إلا المتصوفة وأقطابهم، ولا يهتم بدراستها إلا المتصوفة وأقطابهم، فلِمَ لا يحذفون هذا المدسوس؟... والأسئلة كثيرة.
- ويتمم الشعراني مراوغاته:
وقد دس الزنادقة تحت وسادة الإمام أحمد بن حنبل في مرض موته عقائد زائغة، ولولا أن أصحابه يعلمون منه صحة الاعتقاد لافتتنوا بما وجدوه تحت وسادته.
__________
(1) المناظر الإلهية، (ص:9).
(2) اليواقيت والجواهر: (1/6).(79/179)
وكذلك دسوا على شيخ الإسلام مجد الدين الفيروزأبادي صاحب (القاموس) كتاباً في الرد على أبي حنيفة وتكفيره، ودفعوه إلى أبي بكر الخياط اليمني البغوي، فأرسل يلوم الشيخ مجد الدين على ذلك، فكتب إليه الشيخ مجد الدين: إن كان بلَغَك هذا الكتاب فأحرقه فإنه افتراء من الأعداء، وأنا من أعظم المعتقدين في الإمام...
الجواب على هذا الكلام (مع غض النظر عن صدقه أو كذبه):
عرف أصحاب أحمد بن حنبل العقائد الزائفة المدسوسة فنبذوها، ولم يبق لها أثر، فلِمَ لا تفعلون مثل ذلك وتنبذون ما في كتب المتصوفة من وحدة الوجود وأساليب التقية، وخداع المسلمين؟؟ لِمَ لا تفعلون ذلك؟ إذ لو فعلتم ذلك لأصبحت كتب الصوفية شبه بيضاء.
- يتمم:
وكذلك دسوا على الإمام الغزالي عدة مسائل في كتاب (الإحياء)، وظفر القاضي عياض بنسخة من تلك النسخ فأمر بإحراقها.
وكذلك دسوا علي أنا في كتابي المسمى بـ(البحر المورود) جملة من العقائد الزائفة وأشاعوا تلك العقائد في مصر ومكة نحو ثلاث سنين، وأنا بريء منها...
- نقول: بمثل هذا يخادعون الذين آمنوا ويغالطونهم ويستجرونهم إلى ظلمات التصوف، أو على الأقل يوهمونهم أن المتصوفة مظلومون مكذوب عليهم. والقول بأنهم دسوا على الغزالي مسائل في (الإحياء) هو كذب. وقوله: إنهم دسوا عليه في (البحر المورود) هو كذب، ومثل هذا الكذب يدل على أن قائله لا يخاف الله ولا يرجو اليوم الآخر، مع العلم أن كتاب (الإحياء) الذي أمر القاضي عياض بإحراقه هو نفس هذا المتداول بين الأيدي الآن.
- ومن أبشع مغالطاتهم ومخادعاتهم في كتبهم التي يترجمون فيها لأعيانهم، أنهم يوردون قبل كل شيء أسماء كبار الصحابة على أنهم من أولياء الله المتصوفة، ثم يوردون أسماء كهانهم، ويخلطون معهم علماء أجلاء مثل ابن حنبل أو الشافعي أو الثوري أو العز بن عبد السلام أو ابن الجوزي أو غيرهم، فيوهمون الغافلين ويستجرونهم إلى أحضان إبليس.(79/180)
- وهذا نص من كتاب حديث العهد، قد يزيد عدد الأكاذيب فيه عن عدد سطوره: ولما كان أهل الله هم أهل الرحمة الواسعة، وهم أهل الفتوة والشفقة على عباد الله عامة، فما بالك بمن وقع فيهم من الأمة المحمدية خاصة، سواء كان هذا الوقوع منهم عن قصدٍ أو خطأ في الاجتهاد، فإلى الإمام ابن تيمية ومقلديه من أصحاب سوء الظن بعباد الله، أنقل هذه العبارة من (الفتوحات المكية) (الجزء: الأول) (الصفحة: 616): يقول الشيخ الأكبر: إن من فتوة أهل هذا الطريق ومعرفتهم بالنفوس أنهم إذا كان يوم القيامة، وظهرما لهم من الجاه عند الله، خاف منهم من آذاهم هنا في الدنيا...
- للقارئ أن يتسلى بتحليل هذا النص، لمعرفة ما فيه من افتراءٍ على الله سبحانه، ومخادعةٍ ومراوغةٍ ومناقضةٍ للقرآن والسنة، وتَعَالُمٍ بالغيب.
لكن هذا الإصرار على الكيد للإسلام والمكر بالمسلمين، بأسلوبه العميق الهادئ الأملس المتلوي الذي يحشو زعاف السم في برشامات جميلة المظهر مكتوب عليها: أهل الله، أهل الرحمة، الشفقة على عباد الله..، هذا الإصرار بهذا الأسلوب الخبيث يجعلنا نتوجه إلى الله سبحانه بقلوبنا وكل حواسنا سائلين إياه أن يهدي هذه الطائفة الضالة المضلة، أو أن يكبتها فيقف كيدها ومكرها بالإسلام والمسلمين.
- ومن الملحوظات: يتحدث عن أهل الله الذين هم أهل الرحمة...والجواب:
نعم يوجد في بني آدم من هم من أهل الله ومن أهل الرحمة...ولكن ما هو برهان هذا الدعي أنهم هم المتصوفة؟ وهل تكفي وسوسات إبليس للبرهنة على ما يدعيه؟!
- ثم هو يهاجم بأسلوب فيه نعومة أولئك الذين يسميهم: أصحاب سوء الظن بعباد الله..، والجواب:(79/181)
إن الذين يحكمون على التصوف بأنه مستنقع الكفر والزندقة والضلال، إنما يعتمدون في ذلك على النصوص المبينة من القرآن والسنة، وعلى مخالفة الصوفية الواضحة وضوح الشمس في رائعة نهار مشرق لهذه النصوص، جملةً وتفصيلاً، وعلى التزام المتصوفة بالكذب الفاجر الذي لا حدود له، عندما يقولون دون خوف من الله تعالى ولا خجل من عباده: إنهم ملتزمون بالقرآن والسنة! بينما هم في الحقيقة ملتزمون بهلوسات الجذبة التي يسمونها الكشف.
فهل المسلمون الذين يبينون للناس هذا المنكر الماحق، هم من أصحاب سوء الظن بعباد الله؟!
إن إحسان الظن واجب عندما يتعلق الأمر بمسائل شخصية بحتة.
أما إن كان يمس دين الإسلام وأمة الإسلام، فإحسان الظن والسكوت هما دخول في لعنة الله: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة:79]. وواجب المسلم العمل على إزالة المنكر، وواجب أصحاب المنكر أن يسرعوا في ترك المنكر مع التوبة والاستغفار، فإن أصروا على منكرهم وعلى الدعوة إلى منكرهم! فهل يستطيع مسلم يخاف الله ويرجو اليوم الآخر أن يحسن الظن بهم؟!
- ثم يورد المؤلف قول شيخه الأكبر: إن من فتوة أهل...وظهر ما لهم من الجاه عند الله، خاف منهم من آذاهم...
والجواب:
أ- إن تزكية النفس هي من كبائر الإثم: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32].(79/182)
((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9].
ب- قوله هذا هو، على كل حال، أمر غيبي لا يُعرف إلا بنص من القرآن والسنة، ونصوص القرآن والسنة تحكم عليهم أنهم من أضل عباد الله.
- وهذا نص آخر من نفس الكتاب الذي قد يزيد عدد الأكاذيب فيه عن عدد سطوره، يقول:
وكان الشيخ أبو مدين...إذا قيل له: قال فلان عن فلان عن فلان، يقول: ما نريد نأكل قديداً، ائتوني بلحم طري، وفي رواية: أطعمونا لحماً طرياً، كما قال الله تعالى: ((لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيَّاً)) [النحل:14]، لا تطعمونا قديداً.
يعلق المؤلف فيقول: أي لا تنقلوا إلينا إلا ما يُفتح به عليكم في قلوبكم، لا تنقلوا إلينا فتوح غيركم...
- الجواب: نستطيع أن نعرف المغالطة في هذا الأسلوب والمخادعة، إذا عرفنا أنهم يعتقدون أن الوحي الذي كان ينزل على محمد هو فتوح مثل فتوحهم.
- وكل كتبهم هي من مخادعاتهم ومراوغاتهم، وفي مقدمتها: (اللمع) ولو أنصف لسماه (الظلم)، و(إحياء علوم الدين) ولو صدق لسماه (إحياء علوم الكهانة)، و(الرسالة القشيرية) (رسالة الضلال والدجل)، و(الحكم العطائية) التي هي (نقم ضلالية كفرية)، مروراً بكل كتبهم حتى الوصول إلى الحديث منها، وإلى ما سيؤلَّف في آتٍ من الزمن.
إن كل كتاب جديد يؤلف في التصوف، إنما هو أسلوب جديد في المخادعة والمراوغة والدجل يقدمه مؤلفه ليدعم به مسيرة الكهانة في الأمة الإسلامية.
ومثلاً منها: كتاب من كتبهم الحديثة التي يقتنونها بنشاط، نرى عناوين فصوله كما يلي:
- التعريف: نقرؤه فلا نجد فيه شيئاً من التعريف، وإنما نجد جملاً دعائيه يزينون بها الصوفية للقارئ ليخدعوه ويضللوه.
- الاشتقاق: نقرؤه فلا نجد فيه أي بحث علمي صحيح عن الاشتقاق إلا جملاً للدعاية للصوفية.(79/183)
ثم نقرأ - كما في كل كتبهم- فصولاً عما يسمونه المقامات، مثل التوبة والزهد والورع والتوكل...إلى آخر ما هنالك، وهي كما رأينا، لا علاقة لها بالطريقة ولا بالحقيقة، وإنما هي أساليب دعائية يزينون بها الدعاية للصوفية بأسلوب ماهر ذكي يخدعون به القارئ الذي يجهل ما هي الصوفية.
- ومن أساليبهم الناعمة في المغالطة، إيرادهم قصصاً عن بعض شيوخهم تظهر تمسكهم بالإسلام أو ببعض سننه، وكيف أنهم ينفرون من الإخلال بالآداب الإسلامية، ويجعلون هذا دليلاً على صحة الصوفية.
والجواب: إن التمسك بالتعاليم الإسلامية وسننها وآدابها هو من الإسلام وليس من الإشراق، والتمسك بالإسلام وآدابه لا يجعل الإشراق إحساناً، ولا الزندقة إيماناً، وهم عندما مزجوا الإشراق بالإسلام أساءوا إلى الإسلام ولم يغيروا شيئاً في الإشراق.
- ومن أساليبهم الناعمة في المغالطة: ذكرهم لبعض الطرق التي عمل بعض أتباعها أو مشايخها على نشر الإسلام بين غير المسلمين، أو قاتلوا الاستعمار وجاهدوا لإعلاء كلمة الإسلام.
والجواب على هذا مثل الجواب على سابقه، هو أن العمل على نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله هو من تعاليم الإسلام ولا علاقة له بالإشراق، ويبقى الإشراق زندقةً وكفراً ولو جاهد أصحابه في سبيل الله، ويبقى مزج الإشراق بالإسلام ضلالاً بعيداً وإساءةً كبرى للإسلام وتدميراً للعقيدة في نفوس المسلمين. وهل يصبح الزنا (مثلاً) ولاية إذا مزجه مازجٌ بالإسلام؟!
* الوحدة المطلقة:(79/184)
الوحدة المطلقة هي التصريح بوحدة الوجود بالعبارة المطلقة، أي غير المقيدة بالإشارة والرمز واللغز، وهذا هو الكفر والزندقة عندهم؛ وهم لا يعنون بالكفر والزندقة الخروج من الولاية والصديقية، لا، وإنما يعنون بها أنها كفر وزندقة بالنسبة للشريعة (التي هي الظاهر) لا بالنسبة للحقيقة، إذ هي عندهم، بالنسبة لحقيقتهم، ولاية وصديقية وقرب ومعرفة، لكن يجب أن تبقى مكتومة وألا يعبر عنها إلا بالعبارة الصوفية، وهم في واقع الأمر يستعملون عبارة (الوحدة المطلقة للخداع والتضليل والتهرب من سيف الحلاج).
وقد مر معنا قول قائلهم: إن الجنيد والشبلي أفتيا بزندقة الحلاج وبقتله، وهما يعلمان أنه ولي الله حقاً، كما رأينا قول عارفهم الغوث: وبويعت في الحضرة على التباعد عن أناس ابتُلوا بالانتقاد والاعتراض على أولياء الله تعالى، وذلك فيما يقبل التأويل! وهو يعني بهذا أن العبارة الصوفية يجب أن تكون قابلة للتأويل ليمكن بذلك خداع المسلمين! أما إن لم تكن قابلة للتأويل فالذنب ذنب الصوفي عندئذ؛ لأنه سيكون من أهل الوحدة المطلقة، الذين لا يقيدون عبارتهم بالإشارة والرمز واللغز التي تجعل التأويل ممكناً، والتي هي مجن الطريقة البرهانية الغزالية التي تترست به، فاستطاعت أن تخدع المسلمين وعلماء المسلمين طيلة تسعة قرون أو تزيد، واستطاعت بذلك أن تصل إلى غاية إبليس من ورائها بتحريف العقيدة الإسلامية في النفوس، ودفعها إلى التخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، وإيصال المجتمعات الإسلامية إلى ما هي عليه من فساد وضياع.
ومثال ممن يقولون عنهم إنهم من أهل الوحدة المطلقة (ابن سبعين) لمثل قوله:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم ……والأمر أوضح من نار على علم(79/185)
فهو يطلب ترك التمويه بالإشارة والرمز (كم ذا تموه بالشعبين والعلم)، ويدعو إلى الصدع بحقيقتهم التي هي في نظره أوضح من نار على علم. وقولهم عنه إنه من أهل الوحدة المطلقة لا يعني مطلقاً أنهم لا يعتقدون بولايته العظمى وقطبيته، هذا إن لم يكونوا يعتقدون بغوثيته.
ومثله عمر بن الفارض، لمثل قوله:
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ……بتقييده ميلاً لزخرف زينة
وكلنا يعلم أن عمر بن الفارض عندهم هو سلطان العاشقين، حتى قال فيه شاعرهم:
لم يبق صيب مزنة إلا وقد ……وجبت عليه زيارة ابن الفارض
ومن المشيخات الصوفية التي يجعلونها من أهل الوحدة المطلقة (الطريقة السبعينية)،
لأن ذكرهم كان: (ليس إلا الله) بدلاً من: (لا إله إلا الله)؛ لأن عبارة: (ليس إلا الله) تصرح بوحدة الوجود، ولا تقيدها بالإشارة والرمز واللغز.
وأعيد القول: إنهم يعنون بعبارة (الوحدة المطلقة) أي: الوحدة غير المقيدة بالإشارة والرمز واللغز.
الباب الرابع
مناقشات ودراسات مختلفة
الفصل الأول
مناقشة التعاريف واشتقاق (الصوفية)
* التعاريف:
كثيراً ما تورد كتب التصوف تعاريف للصوفية.
وكل تعاريفهم ليس فيها شيء من التعريف، إلا لافتات دعائية، هي عبارات مرموزة منمقة لا يفهمها إلا المتمرس بأساليبهم، ومع ذلك فهي بعيدة عن أن تكون تعاريف، وهذه أمثلة منها:
- التصوف: علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية.
- التصوف: استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني.
- التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق، زاد عليك بالتصوف.
- التصوف: علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم.
هذه نماذج من تعاريفهم، لو قرأها القارئ ألف مرة وألف مرة وألف مرة لما استطاع أن يتوصل إلى معرفة أي شيء عن الصوفية.(79/186)
على أن المتمرس بأساليبهم يعرف أن عبارتي (تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق) تعني التخلص من الشعور بالمخلوقية أو (العبودية) وتوابعها. وأن (السعادة الأبدية) تعني ذوق الألوهية أو (استشعار الألوهية، أو الفناء في الله)...وكذلك معنى بقية العبارات.
وبدون إطالة، التعريف الصحيح هو:
الصوفية هي رياضات يقوم بها السالك حتى يصل إلى الجذبة، حيث يرى -بتأثير إيحاءات شيخه المؤله- رؤىً يتوهم في بعضها أنها تحقق بالألوهية، وبالتالي استشعار لوحدة الوجود.
* اشتقاق كلمة الصوفية:
كتبوا وقالوا كثيراً عن أصل الاسم (الصوفية) فكان مما كتبوا:
الصوفية من الصوفة، أي: كالصوفة المطروحة استسلاماً، وقيل: من الصَّفَّة، وقيل: من الصِّفَة، وقيل: من الصفاء، وقيل: من الصفوة، وقيل: من صوفة (لقب رجل في الجاهلية)، وقيل: من الصوف، وقيل: من الصوفانة (بقلة زغباء قصيرة). وهم غير متفقين في شيء منها، بل إن كل واحدة منها مردودة أو مرفوضة من أكثرهم، وهذا يريحنا من مناقشتها، فهي كلها غير صحيحة، وهي كلها عبارات دعائية. ونكتفي بإيراد كلمة للقشيري أوردها ابن خلدون في فصل (علم التصوف) في مقدمته، يقول: لا يشهد لهذا الاسم- أي: التصوف- اشتقاق من جهة العربية ولا قياس، والظاهر أنه لقب..
وقد تحمس بعض الباحثين -منهم زكي مبارك مثلاً- لكلمة (الصوف) وأنهم نسبوا إليه لأنهم كانوا يلتزمون بلبسه.
إن صح هذا الاشتقاق، فقد بنوا بنيانهم على باطل؟ فليس في لبس الصوف فضيلة، وليس في الانتساب إليه شرف! وذلك للأسباب التالية:
أ- عدم التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم:-
في البخاري ومسلم (لباس) عن أنس: كان أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحبرة.
وجاء في شرحها للحافظ ابن حجر في الفتح:.. وقال ابن بطال: هي من برود اليمن تصنع من قطن....(79/187)
إذن فقد كان أحب الثياب إلى الرسول ثياب قطن، لا ثياب صوف، والتأسي به صلى الله عليه وسلم يقتضي لبس ثياب قطنية، أو لبس ما يوجد -عدا المحرم- كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، ولبس الصوف ليس من التأسي به، فليس فيه فضيلة.
بل قد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد): (1/ 144) عن عائشة رضي الله عنها: أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم برداً من صوف، فلبسها، فلما عرق فوجد ريح الصوف طرحها...قال المعلقان على (زاد المعاد): هو أيضاً في سنن أبي داوُد (4074) لباس، ومسند أحمد (6/132 و144 و219 و249)، وإسناده صحيح. وهذا يقلب للصوف ظهر المجن.
ب- التشبه بغير المسلمين:
يقول زكي مبارك في كتاب التصوف الإسلامي في الاشتقاق: ...يهمنا أن نقيد في هذا البحث أن لبس الصوف كان من تقاليد النصرانية..
ويقول: والجاحظ يحدثنا أن النصراني يلبس الصوف حين يتنسك، وفي رسائل إخوان الصفا أن راهباً قدم في ثوب من صوف.
ويقول رينولد نيكلسون: كانت الثياب المصنوعة من خشن الصوف علامة على الزهد قبل الإسلام(1).
ويقول عمر فروخ: كلمة (تصوف) مشتقة من الصوف الذي هو لباس العباد وأهل الصوامع(2)...
إذن فلبس الصوف كان من تقاليد زهاد الديانات الأخرى، الذين كانوا ينقطعون في الصوامع للعبادة والتنسك، وقد أمرنا أن نخالفهم، وألا نتشبه بهم، وخاصة في الأمور التعبدية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم}، رواه أبو داوُد (لباس) وأحمد بن حنبل عن ابن عمر، وغيرهما.
والأحاديث كثيرة تأمرنا بمخالفتهم:
ج- الرياء:
__________
(1) في التصوف الإسلامي وتاريخه، (ص:48).
(2) التصوف في الإسلام، (ص:24).(79/188)
عندما كانوا يلتزمون بلباس الصوف فقد كانوا يريدون إشعار الناس أنهم من الزهاد والعباد وغير ذلك، وفي مثلهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من لبس لباس شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله}، ويزيد في رواية ثانية: {ثم تلهب فيه النار}. رواه أبو داوُد (لباس).
وأظن أن القشيري فطن إلى عورات اشتقاق التصوف من الصوف، فرفضه واقترح كلمة (الصفوة) كمصدر آخر للاشتقاق! وهو بعيد كل البعد.
النتيجة: إذا كان التصوف مشتقاً من الصوف؛ لأنهم كانوا يلتزمون بلبسه، فعملهم باطل لأنه مبني على باطل، وهو من الكبائر، وعلى كل حال، النسبة إلى الصوف غير صحيحة.
- إذن، فمن أين جاءت الكلمة (صوفية)؟
الجواب: جاءت من أحد مصدرين، أو منهما مجتمعين. الأول هو كلمة (صوفيا) اليونانية بمعنى (الحكمة) ومنها (حكمة الإشراق)(1).
والثاني كلمة (صوفي) اليهودية التي كانت تطلق على الشيخ المسلك (المرشد) في حلقات المعارف السرية التي كان يتخرج فيها الأنبياء (الكذبة طبعاً) ويتأكد المصدر الأول (صوفيا) اليونانية بالمعطيات التالية:
1- كون الفرضيات الأخرى مردودة لغوياً، لا تتفق مع قواعد اللغة في الاشتقاق.
2- كون كل فرضية منها مرفوضة من أكثرهم، ويدل على هذا كثرة التعاريف التي وضعوها.
3- وجود من رفضها كلها من علمائهم.
4- الناحية اللفظية:
إذ أن النسبة إلى (سوفيا) المعربة هي (سوفي) للشخص. و(سوفية) للفكرة، لكن عندما انتشرت هذه الكلمة، سرعان ما خضعت للذوق العربي في اللفظ، فأصبحت (صوفي) و(صوفية)، ثم قيل (تصوف) و(متصوف).
وغلط المستشرق تيودور نولدكه عندما قال: إن السيغما (السين اليونانية) تقلب عند التعريب سيناً لا صاداً، فنحن نقول في (فيلوسوفيا) فلسفة، لا فلصفة.
غلط لأن المسألة تتعلق بالذوق العربي في لفظ الكلمة، لا بقاعدة في الترجمة.
__________
(1) حكمة الإشراق كتاب للسهروردي الحلبي.(79/189)
5- يدعم قولنا، ما أورده عمر فروخ في حاشية (الصفحة: 24) من كتابه، يقول: إن النصارى الأرثوذكس يسمون فتياتهم (صوفْية) ويكتبونها صاداً ويلفظونها كذلك...على أن ذلك ليس حجة في الفصيح.
نقول: لكنه حجة في الذوق العربي في لفظ الكلمة.
ثم إن كل الذين كانوا يتناقلون هذه الكلمة (سوفية، أو سوفية) كانوا لا يعرفون أصلها ولا من أين أتت- إلا أفراداً قلائل- فمن الطبيعي جداً أن يتصوروا أن لها أصلاً عربياً يكون قريباً من لفظها، وهو كلمة (صوفية، وصوفي) ثم يلفظونها كذلك دون انتظار.
6- قال بهذا الاشتقاق عدة باحثين، منهم أبو الريحان البيروني المتوفى سنة (440هـ)، أي: إنه كان قريباً بعض الشيء من زمن ذيوع الكلمة، وكان أيضاً يتقن أكثر من لغة أجنبية، يقول: ومنهم (أي: من قدماء اليونانيين) من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط...والحق هو الواحد الأول فقط، وهذا رأي السوفية، وهم الحكماء،
فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوبا) أي: محب الحكمة، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سُمّوا باسمهم(1).
وممن قال بهذا الاشتقاق المستشرق فون هامر، وتعصب له الأديب عبد العزيز الإسلامبولي، والأستاذ محمد لطفي جمعة(2)...وغيرهم.
7- الزمن:
يلاحظ أن هذا الاسم (الصوفية) ظهر بعيد حركة الترجمة النشطة من اليونانية في القرن الثاني الهجري وهذا له دلالته القوية.
8- المكان:
كانت مراكز الترجمة هي بغداد وبعض المدن حولها، وخاصة في فارس. وفي هذه الأماكن ظهر أوائل الذين عرفوا بهذا الاسم (المتصوفة) ممن مر معنا بعضهم في هذا الكتاب. بينما لم يعرف هذا الاسم في جنوب العالم الإسلامي ومغربه إلا بعد ذلك بمدة ملحوظة.
وهذا له دلالته أيضاً.
9- التشابه في العقيدة والطريقة:
__________
(1) الفلسفة الهندية، (ص:32).
(2) التصوف الإسلامي، زكي مبارك (الاشتقاق).(79/190)
ظهر في اليونان القديمة فلسفات ونحل متعددة، من أشهرها: أسرار إلوسيس، وإلوسيس مدينة يونانية كانت تعبد الإلهة (ديمثير) التي كانت إلهة الخصب والزراعة والخلود.
ما إن جاء القرن الخامس قبل الميلاد، حتى كانت هذه النحلة قد غزت العالم، فصارت المدينة طوال العصر القديم مزاراً يتقاطر إليه اليونان والرومان، ويحج إليه بعض أباطرة الرومان (إلى معبد ديمثير في المدينة).
تقوم العبادة في هذه النحلة على أسطورة غامضة ظلت سراً مكتوماً ألف عام، وكان المريدون يمثلون قصة ميثولوجية لكي يبعثوا في نفوسهم العواطف التي انفعل بها الإله أو الآلهة، ويتلون عبارات مبهمة، ويرقصون ويصيحون على صوت موسيقى صاخبة، لكي يحققوا حالة الجذب أو الاتحاد بالآلهة(1).
وفلاسفة اليونان الأقدمون (الأيوينون طاليس(2) وتلامذته: انكسيمندريس وأنكسيمانس وهرقليطس) كانوا يؤمنون بوحدة الوجود. فمن كلام هيرقليطس، مثلاً: أنه كان يرى أن النار هي المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع إليه، لا النار التي ندركها بالحواس، بل نار إلهية لطيفة للغاية؛ أثيرية، نسمة حارة حية عاقلة أزلية أبدية. هي حياة العالم وقانونه (لوغوس)(3)... (ترجمت عبارة لوغوس فيما بعد بالكلمة).
والرواقيون كانوا يؤمنون بوحدة الوجود.
__________
(1) تاريخ الفلسفة اليونانية، (ص:6).
(2) ولد سنة 624 ق.م، ومات سنه 546 ق.م.
(3) تاريخ الفلسفة اليونانية، (ص:18).(79/191)
والغنوصية (من gnosis في اليونانية = المعرفة)، وكان المريدون يتناقلونها سراً ويزعمون أنها وحي أنزله الله منذ البدء. وهي هي الصوفية ظاهراً وباطناً، بطريقتها وعقيدتها، وهي نحلة إلوسيس نفسها (مع اختلاف في الأسماء فقط)، وكانت تعدو على الأديان والمذاهب بالتأويل والتحوير، مدعية تحويلها إلى معنى أعمق، فعلت ذلك مع جميع الأديان حتى وصلت إلى الإسلام، وسميت فيه (الصوفية) أو (المعرفة) أو (الإشراق) وهي نفس العبارات والأسماء التي كان كهانها يستعملونها دائماً(1).
إن هذا التشابه في العقيدة والطريق إليها بين الفلسفات اليونانية، وخاصة الإلوسية والغنوصية، وبين الصوفية- مضافاً إلى الأدلة السابقة- يجعل اعتقادنا أن الاسم (الصوفية) انزلق إلى المجتمعات الإسلامية من اليونانية قريباً من اليقين.
1- يضاف أيضاً إلى ما سبق، اعتقاد بعض العلماء من كبارهم أن الصوفية وصلت إلى المجتمعات الإسلامية عن طريق اليونان بصورة رئيسية، وأن فلاسفة اليونان كانوا الشيوخ الأوائل المعروفين.
فمثلاً، يقول السهروردي المقتول: إنه رأى أستاذه أرسطو في النوم، فسأله رأيه عن أقطاب التصوف الذين يستشهد بهم وبآرائهم كل من كتب في التصوف أو تكلم فيه من مثل أبي يزيد البسطامي وسهل التستري وذي النون المصري والحسين بن منصور الحلاج(2)؟
ويقول أيضاً:
...وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة، فخميرة الفيثاغوريين وقعت إلى أخي أحميم (أي: ذي النون المصري) ومنه نزلت إلى سيارتستر وشيعته (أي: سهل التستري)(3).
ويورد ابن سبعين في الرسالة النورية أقوالاً لسقراط وأفلاطون وأرسطو يعبرون بها عن وحدة الوجود وعن أحوالهم وأذواقهم في معرفتها والتحقق بها(4).
__________
(1) تاريخ الفلسفة اليونانية، (ص:244) بتصرف.
(2) ولاية الله والطريق إليها، (ص:175).
(3) ولاية الله والطريق إليها، (ص:170).
(4) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:609).(79/192)
والششتري يجعل سقراط وأفلاطون وأرسطو من مشايخ المعرفة ويذكر إلى جانبهم الحلاج والشبلي والنقري والشوذي والسهروردي وغيرهم، وذلك في قصيدته التي مطلعها:
أرى طالباً مني الزيادة بالحسنى ……بفكر رمى سهماً فعدَّى به عدنا(1)
11- يضاف أيضاً إلى ما سبق، أن هذا الاسم (الصوفية) ظهر في فترة تفشت فيه ظاهرة استعارة الكلمات اليونانية واستعمالها في مختلف الفنون، حيث نقرأ مثلاً: الفلسفة، الفيلسوف، الموسيقا، الموسيقار، الأرثماطيقي، الإسطرلاب، البركار، الهيولى، السفسطائية، المجسطي، الماليخوليا، الأقراباذين، الأسطقسات...إلخ. وعليه فليس مستهجناً ولا غريباً أن يستعيروا كلمة "سوفيا" للتسمي بها، بل كان مثل هذا قاعدة متبعة.
12- في واقع الأمر وحقيقته، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين، فإن كل مصطلح ظهر في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وأردنا معرفة مصدره، فعلينا أن نفتش قبل كل شيء عن أصل له في اليونانية، إما عن طريق الترجمة أو الاستعارة والتعريب، فيما عدا مصطلحات أصول الفقه والفقه والحديث واللغة.
إن هذه المعطيات مجتمعة، تشكل برهاناً قوياً على أن كلمة (صوفية) لها أصل يوناني.
- ويتأكد المصدر الثاني (صوفي) اليهودية بالمعطيات التالية:
1- إن المعطيات (1 و2 و3 و4 و9) السابقة، هي أيضاً معطيات لهذا المصدر.
2- يقول البروفيسور عبد الأحد داوُد(2):
وكان الرجل الذي ينظر أو يرقب من البرج (المصفا أو المسفا) يسمى (صوفي SOPHI)(3).
__________
(1) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:609).
(2) كان اسمه القسيس دافيد بنجامين الكلداني وهو من كبار علماء اللاهوت المسيحي، أسلم سنة 1904م، أو بعدها بقليل، وتسمى عبد الأحد داوُد، وقد كان حياً حتى بعد الحرب العالمية الأولى، ولم أقف على تاريخ وفاته، وهو من أورميا بفارس.
(3) محمد في الكتاب المقدس، (ص:72).(79/193)
...ففي الأصل كانت (المسفا) (مكان ينصب فيه صفاة، أي حجر) مجرد نصب أو مزار على مكان منعزل مرتفع في (جلعاد) حيث كان يعيش المراقب (SOPHI) مع أسرته، ولحق بعد فتح إسرائيل لأرض كنعان واحتلالها ازداد عدد (المسفايات)، وسرعان ما أصبحت مراكز دينية عظيمة، وتطورت إلى معاهد للتعليم والجمعيات الدينية. ويبدو أنها تشبه الجماعات الصوفية والإسلامية مثل المولوية والبكداشية والنقشبندية وغيرها، وكل واحدة منها كانت تحت إشراف شيخها ومرشدها، وكانت هناك مدارس ملحقة بالمسفا حيث كان يجري تدريس الشريعة والدين والأدب العبري وغير ذلك من فروع المعرفة، ولكن فوق هذا العمل التعليمي، كان الصوفي رئيس جماعة الداخلين في هذه المجموعة، وقد اعتاد أن يدرسهم ويلقنهم الدين السري الذي يعرف الآن بالصوفية. والواقع أن من نعرفهم الآن باسم الصوفية كانوا يسمون عندئذ (نبييم NBIYIM) أو أنبياء(1)...اهـ.
انطلاقاً من هذا النص ومما تورده كتب التاريخ، يمكن وضع النقاط التالية:
- كانت الصوفية (الدين السرى) منتشرة في اليهودية وكانت (المسفايات)(2) هي مراكز التسلك فيها.
- كان الشيخ المسلك (المرشد) في المسفاة يسمى (صوفي SOPHI)(3).
__________
(1) محمد في الكتاب المقدس، (ص:72، 73)، وهؤلاء الأنبياء هم الأنبياء الكذبة.
(2) الصفاة كلمة سامية معناها (الحَجَر)، فيكون المعنى الأساسي لكلمة (مسفا) هو المحجرة، والمعنى الأساسي لكلمة (صوفي) هو الحَجَري أو الحجَّار، ثم تطورت لتأخذ معناها الاصطلاحي.
(3) الصفاة كلمة سامية معناها (الحَجَر)، فيكون المعنى الأساسي لكلمة (مسفا) هو المحجرة، والمعنى الأساسي لكلمة (صوفي) هو الحَجَري أو الحجَّار، ثم تطورت لتأخذ معناها الاصطلاحي.(79/194)
- كان الواصل من غير (صوفي) يسمى (نبي) وهي كلمة عبرية معناها (ناطق)، وهؤلاء هم الأنبياء الكذبة، وكان بنو إسرائيل يعظمونهم ويقدسونهم، بينما يقتلون الأنبياء الحقيقيين! ويتبع متصوفة المسلمين سننهم في ذلك؟ فهم يقدسون مشايخ الصوفية ودعاتهم، بينما يحاربون من يدعو إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهذا من مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم...}.
- كان في بغداد- شأن أكثر المدن الإسلامية- جالية يهودية تعرف باسم (الجالوت)، ومن البدهي أن ذلك الدين السري كان منتشراً بينهم، وأن الشيخ المرشد في كل مسفاة كان يسمى (صوفي SOPHI)، لأنه لم يحدث في اليهودية ما يمكن أن يغير ذلك.
- في القرنين الأول والثاني الهجريين ظهر في البلاد الإسلامية عدد ممن ادعى النبوة، ومما لا شك فيه أن أكثر هؤلاء المدَّعين -إن لم يكن كلهم- كانوا من خريجي تلك المسفايات التي كانت معاهد لإعداد الأنبياء، وكانت تجري على أيديهم الخوارق، ولعل أشهرهم الحارث الدمشقي، وكان نصيبهم القتل أو التوبة.
- إن سلوكَ هؤلاء والخوارقَ التي تحدث على أيديهم تدل على أنهم سلكوا طريق الإشراق ومارسوا رياضته حتى وصلوا. وتسميتُهم أنفسَهم أنبياء تدل على أنهم أخذوا الطريقة في مسفاة من المسفايات اليهودية وتسلكوا على يد شيخها (صوفي)، وذلك لأن اليهود هم وحدهم الذين كانوا يسمون الإشراقي (نبياً)، بينما كان غير اليهود يسمونه الكاهن أو العراف أو القديس. وهذا يعني أن من المسلمين من كان ينضم إلى حلقات الإشراق اليهودية ويتسلك على يد صوفيها مستَجَرَّاً بما كان يجري على يده من خوارق.
- إن أول من عرف باسم (صوفي) في المجتمع الإسلامي هو (أبو هاشم الصوفي) المتوفى قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.(79/195)
- ومن غير المستبعد، بل من المقبول، أن يكون أبو هاشم هذا قد تسلك في (مسفا) (سرية طبعاً) في بغداد، ووصل إلى الإشراق (الجذبة) على يد صوفيها، وبتوجيهه تطور في المشاهد والكشوف والعلوم اللدنية (نبي ثم رائي ثم بصير) وأخيراً وصل إلى مقام الإرشاد، وأسس مسفاً إسلامية (سرية طبعاً)، فاستحق بذلك لقب (صوفي)، وصارت له حلقته التي يلقن فيها الدين السري (الإشراق). وبما أنه مسلم فمن البدهي أن تضم حلقته مريدين مسلمين، هذا إن لم يكونوا كلهم مسلمين، ومن البدهي أن يتخرج في حلقته واحد على الأقل يستحق لقب (صوفي)، أي: مرشد ورقيب.
وهكذا كان انطلاق النبرات الأولى للاسم (صوفي).
وجاءت الترجمات عن اليونانية، وانتشرت معها، فيما انتشر، كلمة (صوفيا) بمعنى الحكمة، وانتبه بعض مثقفي الإشراقيين إلى التشابه اللفظي بين (صوفي) و(صوفيا)، كما انتبهوا إلى التوافق المعنوي، ثم انتبهوا إلى أن هذا الاسم سيصرف عنهم الحاجة إلى التسمي بأحد الأسماء السابقة (نبي أو كاهن أو عراف أو قديس) التي تقطر سيوفها دماً، ولعله عرض هذه الفكرة (وهذا هو المعقول) على شيخه وإخوانه فأعجبتهم، وبدءوا يستعملون الاسم (الصوفية) حتى انتشر.
- هذا بالنسبة لاشتقاق الاسم، أما الصوفية ذاتها، عقيدتها وطريقتها، فقد كان لها طرق إضافية.
الفصل الثاني
من أين جاءت الصوفية
* لإبليس شركان:
الشرك الأول: هو الجنس ولواحقه، يمنع به ابن آدم -ابتداءً- من الدخول في الإسلام، والإسلام هو الدين الذي جاءت به جميع الرسل.
الشرك الثاني: هو الإشراق الصوفي أو التحشيشي، ينصبه إبليس لابن آدم الذي سار في طريق الإسلام، ولم ينغمس في غواية الجنس، فيغريه ويقنعه أن أوهام الإشراق هي الخلد وملك لا يبلى، أو هي المعرفة أو الغوثية أو الحلول أو الاتحاد أو الوحدة، حسب استعداده الثقافي والنفسي، ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16].(79/196)
إن دراسةً لأي وثنية من الوثنيات ترينا الدور الرئيسي الذي يلعبه الإشراق في عقائدها وطقوسها، فالحشيش والأفيون يقدِّم للمبتدئين أو الذين لا يريدون إجهاد أنفسهم من السالكين، والرياضة الصوفية يمارسها الذين يريدون أن يكونوا رؤساء دينيين.
ويلاحظ أن الوثنيات المنعزلة تعتمد أساساً في إشراقاتها على الحشيش أو بعض زمرته (كالأفيون أو فطر المكسيك أو الكوكا أو غيرها) ويقل فيها دور الرياضة الصوفية. وكلما تطورت الوثنية، كلما قل دور الحشيش وزمرته (لكنه لا ينعدم)، وكلما زاد دور الرياضة والمجاهدة وصار أكثر بروزاً.
ولا يكون الكاهن كاهناً إلا إذا وصل إلى الجذبة، وأشرق عليه سناها الخداع.
وأكرر القول: إن دراسة كافية لوثنيات التاريخ تؤكد هذه الظاهرة، مما يجعلنا مطمئنين إلى القول بأن الصوفية وجدت منذ أن نزل إبليس إلى الأرض، أو بعد ذلك بقليل.
وهذا يعني أن الصوفية لو لم تنحدر إلى المسلمين من الأمم السابقة لأوجدها فيهم إبليس باستدراج العبَّاد السذَّج ذوي القلوب الطيبة إلى الجذبة، إما باستعمال المورفين الخارجي (شجر الهلوسة) أو بعض زمرته، أو باستعمال المورفين الداخلي (الإندورفين). وهناك من الواصلين من استُدرج إلى الصوفية بالإندورفين مرضياً، وهو الذي يسمونه (المراد)، لكن هؤلاء يشكلون استثناءً في المسيرة؛ لأن الواقع هو أن الصوفية انحدرت إلى المسلمين من الأمم السابقة:
* أولاً: من عرب الجاهلية:
كانت الصوفية منتشرة في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكانت معروفة باسم (الكهانة)، حيث كان في كل قبيلة كاهن.
روى ابن أبي حاتم في تفسير: ((يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)) [النساء:51] عن جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، سئل عن الطواغيت، فقال: إن في جهينة واحداً، وفي أسلم واحداً، وفي هلال واحداً، وفي كل حي واحداً، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين.(79/197)
وكانوا يسمون الكاهن أيضاً (العراف)، والمعنى واحد؛ لأن معنى كلمة (الكاهن) هو (العارف)، جاء في لسان العرب: ...والعرب تسمي كل من يتعاطى علماً دقيقاً كاهناً، ومنهم من كان يسمي المنجم والطبيب كاهناً...الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار....
ومن أشهر كهان الجاهلية شق بن صعب القسري (من نسله خالد بن عبد الله القسري وأخوه أسد)، ويوحي الاسم (شق) أنه لقب وليس اسماً، وكذلك (سطيح)، واسمه ربيع بن ربيعة المازني الأزدي، ومما تذكره الكتب عنهما، نستطيع أن نظن أنهما، مثل أحمد البدوي، جُذبا جذبة استغرقتهما إلى الأبد.
ومن عارفي الجاهلية الذين دخلوا في صراع مع الإسلام: مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وسجاح.
* ثانياً: من الهند:-
حيث يقدَّر أن الهندوسية عرفت هناك منذ حوالي ثمانمائة سنة قبل المسيح، والكهانة الهندوسية هي نفس الكهانة في كل مكان، عقيدة وطريقة، وهي نفس الصوفية، حيث تقوم عقيدتها على وحدة الوجود، وطقوسها هي نفس الطقوس الإشراقية في كل مكان: الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر والبصر والجلسة الثابتة، أو ضبط التنفس حسب إيقاع معين.
* ثالثاً: من فرس الجاهلية:-
وقد كان الفرس قبل الإسلام يدينون بالزرادشتية (المجوسية)، المبنية على وحدة الوجود، منحدرة من اتحاد أو حلول بين انبثاقات صادرة عن إلهين اثنين (النور والظلمة)، وكان مذهب الأكثرية المجوسية يرجع المبدأين (النور والظلمة) إلى كائن أعلى واحد، منه انبثق الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزرادشتية في أصل العقيدة.
* رابعاً: من اليونان:
حيث كانت تسيطر الإيلوسية، التي هي نفس الكهانة الهندوسية ونفس الغنوصية ونفس الصوفية عند المسلمين، مع فوارق يقتضيها اختلاف الظروف والثقافات والإشراقات.(79/198)
وعندما سيطر اليونانيون بقيادة الإسكندر بن فيليب المكدوني على بلاد الشام ومصر والعراق وفارس وبعض الهند، سيطرت ثقافتهم، بعد أن امتزجت بالثقافة الشرقية(1) على البلاد، منذ القرن الثالث قبل الميلاد، فانتشرت الإيلوسية وكهانتها وثقافتها، بما في ذلك الأوفاق والزايرجة والطلاسم واستنطاق الحروف واستخدامها وأسرارها، هذه العلوم التي لم تزل علوماً أساسية عند متصوفة المسلمين، والتي هي نفس السحر وأبوابه، والتي انبثقت أصلاً من الكهانة المصرية الفرعونية.
ثم انحدرت الإيلوسية إلى الرومان، وانتشرت في الإمبراطورية الرومانية، حتى إن بعض القياصرة كانوا يحجون إلى إيلوسيس.
وعندما ظهرت المسيحية، حاربت الإيلوسية (شأن دين الإسلام في أي عصر كان)، فتسترت بالكتمان، حتى ظهرت في القرن الثاني الميلادي باسم (الغنوصية)، أي: المعرفة، (باليونانية Gnosis)، ومنها الغنوصي، أي العارف، وانتشرت الغنوصية حيث انتشرت المسيحية، وخاصة في بلاد الشرق: مصر والشام والعراق واليمن وبعض فارس، وهي البلاد التي دخلت في الإسلام قبل غيرها، وكان بين غنوصية سورية وغنوصية الإسكندرية بعض الفوارق، لتأثر الأخيرة بشيء من اليهودية.
* خامساً: من اليهودية:-
مر في الصفحات السابقة أن الصوفية كانت منتشرة بين اليهودية، وكانت تسمى (التنبؤ)، ويسمى الواصل من السالكين فيها (نبياً)، ويسمى شيخها (صوفياً)، وتسمى مراكزها (المسفايات)، واحدها (مسفا).
وكانت التجمعات اليهودية متناثره في كل البلاد التي دخلها الإسلام، وكانت مسفاياتها منتشرة معها، ولعل هذه المسفايات كانت المنطلق الرئيسي للصوفية في المجتمعات الإسلامية.
__________
(1) يطلق المؤرخون على هذه الثقافة اسم (الهيلينيسية)، أي: (اليونانية الشرقية).(79/199)
- وبعث الله سبحانه محمداً، فحارب الأوثان والأوهام، وكانت الكهانة في مقدمة الأوهام الشركية التي حاربها الإسلام: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)) [الطور:29](1)، ((وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) [الحاقة:42]، ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) [الأنعام:128]، حيث لا يجدي التأويل ولا تزكية النفس ولا ادعاء القربى، ولا افتراء الكذب على الله.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن حفصة: {من أتى عرافاً فسأله عن شيء، فصَدَّقَهُ بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}. وفي روايةٍ بِدُوْنِ: (صَدَّقَهُ).
وقال فيما رواه الأربعة وأحمد والبيهقي والحاكم (وقال صحيح على شرطهما) عن أبي هريرة مرفوعاً: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصَدَّقَهُ بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعاً.
أقول: لعل هذا الحديث هو الذي جعلهم يستبدلون كلمة العراف، بالعارف.
وفي البزار عن عمران بن الحصين مرفوعاً، والطبراني في (الأوسط) عن ابن عباس: {ليس منا من تَطَيَّرَ أو تُطُيِّرَ له، أو تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له، أو سَحَرَ أو سُحِرَ له}.
__________
(1) الجذبة الإشراقية أو التحشيشية هي صورة مخففة من الجنون، وعندما تزداد كمية الإندورفين زيادة كافية يصبح المجذوب مجنوناً ويقولون عنه: إنه في مقام جمع الجمع، أو الاستغراق، أو الإطلاق.(79/200)
وتحرك الكهنة ليدافعوا عن وجودهم، ومن أشهرهم مسيلمة وسجاح والعنسي، فخذلهم الله له المنة، ولزم الكهنة الباقون الصمت واعتصموا بالكتمان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن توبة العارف متعذرة، أو صعبة جداً على الأقل، لسبب بسيط؛ لأنه يعتقد أن هلوساته الشيطانية هي إشراقات إلهية! وللحق، هي خَدَّاعَةٌ خَدَّاعَة.
ولهذا بقيت الكهانة تسري في غيابات الغرف المظلمة، ووراء الأبواب الموصدة، والكهنة يتحاشون إظهار رءوسهم خوفاً من أن تختطفها سيوف الردة، حتى فطن بعضهم إلى أن تغيير الاسم (الكهانة) يمكن أن يساعدهم على التحرك بحرية، وكانت الترجمات من اليونانية، وانتشرت كلمة (سوفيا) بمعنى الحكمة، ممزوجة بالكلمة (فيلو سوفيا) بمعنى حب الحكمة (أي: الفلسفة)، أو غير ممزوجة، وحدث أن وصل واحد ممن تسلك في (المسفا)، إلى مقام (سوفي)، أي: المرشد، ورأى أحد مثقفيهم أن هذه الكلمة العبرية تتوافق مع الكلمة اليونانية (سوفيا)، بمعنى الحكمة، ورآها مناسبة لمقتضى الحال، ولعله عرضها على شيخه أو مريديه، فحازت القبول، فتبنَّوها ونشروها بين طائفتهم التي كانت محدودة العدد في ذلك الوقت، وسرعان ما خضعت للذوق العربي في لفظ الكلمة، فأصبحت (صوفية)، والمنتسب إليها (صوفي).(79/201)
ورفعت الكهانة رأسها بعد أن وضعت عنواناً جديداً لها، ولافتات دعائية ذكية، فصارت الصوفية والقربى والإحسان والصديقية...وتحركت لتكون معول الهدم الذي دمر العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، الذين صاروا يأخذون عقائدهم من الهلوسات ومن شياطين الجن، بعد أن كان مصدرها القرآن والسنة لأولي النهى ولقوم يعقلون ويعلمون ويبصرون ويسمعون ويتفكرون. وكانت معول الهدم الذي دمر المجتمعات الإسلامية، لأنها كانت، وما زالت، تنشر الجهل والخرافة والانحراف عن الصراط المستقيم. وكانت معول الهدم الذي أفسد الأمة الإسلامية؛ لأنها مسخت الفرد المسلم الذي تأثر بها، فجعلته جاهلاً خرافياً ذليلاً خانعاً تواكلياً، يعبد الشيخ بدلاً من عبادة الله، ولا يشغل تفكيره إلا الوصول إلى ساعة الصفا والمتعة التي يسمونها: (روحانية وولاية...)، حيث يقضي ساعة أو ساعات متمتعاً بالذهول (مسطولاً) سادراً في هلوساته وأوهامه الجذبية، الإشراقية أو التحشيشية لا فرق.
* وخلاصة الكلام...
عندما جاء الإسلام، كانت الصوفية منتشرة في كل البلاد التي دخلها، بل في كل العالم. كانت منتشرة في جزيرة العرب باسم الكهانة، وكانت منتشرة في الهند وفارس؛ لأن دياناتهم كانت تقوم على أساس الرياضة حتى الجذبة، وما فيها من رؤى ومكاشفات، وكانت منتشرة في النصرانية التي كانت تسيطر على مصر والشام والعراق وجزء من فارس واليمن، وكذلك اليهودية، وكان الشيخ فيها يطلق عليه باللغة العربية اسم (الكاهن والعارف والعراف) أو ما يرادفها في اللغات الأخرى.
ولما جاء الإسلام، اختبأت وراء الأسوار، حتى قُدر لكهانها أن يجدوا صيغة ملائمة استطاعوا أن يظهروا بها أمام الناس ويدعوهم إليها.
وقد عرف هذه الحقيقة بعض علمائهم القدامى، (إن لم يكن أكثرهم)، فهذا شهاب الدين يحيى بن حبش السهروردي يقول:(79/202)
...وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة، فخميرة الفيثاغوريين وقعت إلى أخي أحميم (أي: ذي النون المصري)، ومنه نزلت إلى سيار تستر وشيعته...وأما خميرة الخسروانيين في السلوك، فهي نازلة إلى سيار بسطام (أبي يزيد)، ومن بعده إلى فتى بيضاء (الحلاج)، ومن بعدهم إلى سيار آمل وخراقان (أبي الحسن الخراقاني)(1).
ونسي السهروردي كهان الحجاز ونجد! وله الحق، فقد كان أكثرهم أدعياء مقلدين، كما يظهر من قراءة أخبارهم، كما نسي اليهود؛ لأنهم كانوا يعملون بصمت وتكتم.
ولعل من المفيد إيراد فقرة للسهروردي نفسه وردت قبل كلامه هذا مباشرة، فقد روى أنه رأى أستاذه أرسطو في النوم، فسأله عن رأيه عن أقطاب التصوف الذين يستشهد بهم وبآرائهم كل من كتب في التصوف أو تكلم فيه، من مثل أبي يزيد البسطامي وسهل التستري وذي النون المصري والحسين بن منصور الحلاج. فقال فيهم: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقاً، ما وقفوا عند العلم الرسمي، بل جاوزوا إلى العام الشهودي، وما اشتغلوا بعلائق الهيولى، فلهم الزلفى وحسن مآب.
- وهذا ابن سبعين يثبت مشيخة فلاسفة اليونان في التصوف، فيقول في إحدى رسائله:
...والأقدمون منهم (أي: من الفلاسفة) في الإلهيات أنبه، غير أنهم يغلطون، وهم أقرب إلى الأنبياء وإلى الإيمان بهم من غيرهم، وأرسطو ذكر أمرهم في (نيقوماخيا)، وهذا الرجل كان جليل القوم في المهنة؛ لأنه في القوى والأحوال الإلهية مثل غيره، وملك بعض الأسرار الطبيعية والإلهية وكتمها، وأفلاطون في التجرد والتوجه وفهم الأحوال الإلهية أثبت، وإن كان أرسطو أجل منه على الإطلاق، فإنه توجه، وكان حاله في سره(2)... (ثم يذكر بعد ذلك جملة من العبارات التي يقول: إنهم كانوا يرددونها).
ويورد ابن سبعين أيضاً في الرسالة النورية:
__________
(1) ولاية الله والطريق إليها، (ص:171).
(2) رسائل ابن سبعين، (ص:268).(79/203)
...وكان سقراط يقول في كل صباح: أنا الدليل بالذات، وأنت العزيز بالذات، فلا تجعلني بعزتك من السعداء بالغرض، يا من هو صورة كل شيء، وقياس هذا العالم، ووجوده القريب...وكان يكثر قول: أنت أنت أنت...
وكان أفلاطون يقول: يا نور العالم، يا سبب الكل...كم ذا نتجرد ونعود إلى هذا الجسم، ونرجع في عالم العقل إليه، قوني بحيث أَثْبُتُ عندك ولا نعود، فإن صرفتني إلى هذا الهيكل فأشغلني بك وألهمني بالرجوع إلى حالتي التي انصرفت من حضرتها الشريفة...
وكان أرسطو يقول: يا علة العلل، يا أزل الأزل، يا سبب أول(1)...
- إن ابن سبعين يورد هذه الأقوال على أنها تتضمن وحدة الوجود (وهي كذلك)، ليدلل على أنهم كانوا من شيوخ الصوفية القدماء.
وقد مر معنا قول الدكتور عبد الحليم محمود:
...فإن الصوفية جميعاً، وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورس وأفلاطون إلى يومنا هذا، يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً ويثقون فيه ثقة تامة... وهو منهج معروف أقرته الأديان جميعها، واصطفته مذاهب الحكمة القديم منها والحديث...(2).
- والششتري في نونيته المشهورة يجعل فلاسفة اليونان شيوخاً في التصوف، ويضمهم، أو يضم إليهم، متصوفة المسلمين، يقول:
وتيم ألباب الهرامس كلهم ……وحسبك من سقراط أسكنه الدنا
وجرد أمثال العوالم كلها ……وأبدى لأفلاطون في المثل الحسنى
وهام أرسطو أو مشى من هيامه ……وبث الذي ألقي إليه وما ضنَّا
وكان لذي القرنين عوناً على الذي ……تبدَّى له وهو الذي طلب العينا
ويفحص عن أسباب ما قد سمعتم ……وبالبحث غطى العين إذ ردَّه غينا
وذوَّق للحلاج طعم اتحاده ……فقال: أنا من لا يحيط به معنى
فقيل له: ارجع عن مقالك. قال: لا، ……شربتُ مداماً كل من ذاقه غنَّى
__________
(1) رسائل ابن سبعين، (ص:162).
(2) المرسي أبو العباس، (ص:10).(79/204)
وأنطق للشبلي بالوحدة التي ……أشارَ بها لما امَّحى عنده الكونا(1)
...إلى أن يذكر جملة من متصوفة المسلمين.
* النتيجة:
للتصوف عند المسلمين جذور يونانية وكسروية ويهودية، وهندية وعربية جاهلية.
إن التصوف عند المسلمين انحدر إليهم من التصوف في الأمم الأخرى، الذي كان يسري فيها منذ أزمنتها البعيدة، وسيبقى ما دام إبليس وجنوده بالمرصاد للإنسان.
وهذه طريقة الإشراق ……كانت وتبقى ما الوجود باقي
وفي الفصل التالي، نصوص إشراقية وحدوية من أديان مختلفة، نوردها زيادة في التأكيد والتوضيح.
وقبل ذلك نورد نبذة عن الحارث الدمشقي، وهو كاهن ظهر في زمن عبد الملك بن مروان، وسمى نفسه نبياً، وكانت الشياطين تُخرج رجليه من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ منه، وكانت الرخامة تسبِّح إذا مسحها بيده، وكان يُري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هم الملائكة. وعندما حكموا بقتله ضربوه فلم يؤثر فيه السلاح، حتى قال أحدهم: (باسم الله)، ثم طعنه، فنفذ فيه الرمح، وقتله.
وفي ظاهرة الحارث هذه ثلاث معطيات، أو استدلالات:
1- الخوارق التي كانت تجري على يديه تدل على ممارسته الرياضة الإشراقية.
2- تسميته نفسه (نبياً) تدل على أنه وصل إلى الجذبة في (مسفا) يهودي، إذ اليهود فقط هم الذين كانوا يسمون الواصل إلى الجدبة (نبياً).
3- نفوذ الرمح فيه عند ذكر اسم الله، يدل على شيطانيات خوارقه.
وهذا كله من الأدلة على أن الكهانة لم تنقطع، بل بقيت تتابع مسيرتها في الخفاء (وهذا هو المعقول).
الفصل الثالث
الصوفية في الوثنيات وعند أهل الكتاب
الصوفية هي المستنقع الذي عاشت فيه أو شربت من شواطئه وثنيات التاريخ.
وهذه لمحات سريعة عن أشهر الوثنيات المعاصرة، وكيف أنها قائمة على الإشراق الصوفي بطريقته وحقيقته، يتلوها عرض سريع للتصوف عند أهل الكتاب.
__________
(1) روضة التعريف بالحب الشريف، (ص:609)، ويعني بذي القرنين الإسكندر بن فيليب، وهذا خطأ.(79/205)
وقبل ذلك، يجب أن نتذكر دائماً أن الأديان جميعها، ما عدا الإسلام، مجهولة التاريخ والجغرافية، وكل ما تذكره كتب هذه الديانات عن تاريخها وجغرافيتها لا أساس له من الصحة، إلا قليلاً مما عند أهل الكتاب، ويجب ألا ننسى هذه الحقيقة في قراءتنا للعروض التالية.
* الطاوية (منتشرة في الصين):-
نسبة إلى (طاو)، وقبل عصر كونفوشيوس (حوالي القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت هذه الكلمة تعني (الطريق وأسلوب العمل)(1)، واستعملها كونفوشيوس بمعنى (الطريق الصحيح للعمل).
أما الطاويون فقد صارت عندهم ذات مفهوم واحد؛ يعني: الأشياء في مجموعها، أو ما يطلق عليه وحدويو الغرب اسم المطلق، وهو ما يطلق عليه متصوفة المسلمين اسم الوجود.
والنصوص المنقولة هنا تُعزى لشخص مقدس معاصر لكونفوشيوس، اسمه (لاو تزو)، أي: الأستاذ لاو، يقال: إنه مؤسس الطاوية، وهذه النصوص من كتابهم المقدس كتاب (لاو تزو)، يقول: الطاو مَثَلُها كوعاء، رغم أنه فارغ، يمكن أن يُسْحب منه بلا نهاية، وليس في حاجة قط لأن يُملأ، وهي عظيمة جداً، وبالغة العمق، حتى ليبدو أنها أقدم من كافة الأشياء، إذا ما انغمس فيها أحد طرف صار ناعماً، وأصعب مشكلة تحل، وأقوى ضوء ساطع ينتشر، وأشد المشكلات تعقيداً تستحيل إلى أمور بسيطة، إنها في سكونها كالخلود نفسه، إنني لا أعرف وليدة من هي. اهـ.
__________
(1) يلاحظ أن كلمة (الطريقة) تحمل نفس معنى كلمة (طاو)، مع التنبيه إلى أن كلمة (طاو) هي كلمة صينية وليست عربية، وأن الكلام هنا عن أمر حدث في الصين، مع ملحوظة أخرى قد يكون لها أهمية، وهي أن المصريين القدماء كانوا يطلقون على مصر اسم (طاو)، فهل هناك علاقة بين (طاو) التي هي مصر وبين الطاولة، كما أن هناك الوادي المقدس (طوى)؟ فهل من علاقة تاريخية وجغرافية نُسيت؟.(79/206)
- في هذا النص، يُعرِّفنا الأستاذ لاو ما هي الطاو، ويُلاحظ أن وصفها يشبه أن يكون وصفاً لله تعالى، لكنه وصف فيه شذوذ وتجرؤ وتشبيه، وهذا نابع من ثقافتهم وتصوراتهم.
ويقول: يأتي إلى الوجود عشرة آلاف شيء، وقد شهدتها تعود، لا يهم كيف تنتعش انتعاشاً بالغاً، كل شيء يجب أن يعود إلى أصله الذي صدر عنه، هذه العودة إلى الأصل تسمى الهدوء، هي تحقيق لمصير فرد، وأن يُحقق كل شخص مصيره لهو النمط الأبدي، وإذا عرفت النمط الأبدي فهو محصَّن من كل ناحية، والمحصَّن من كل ناحية هو عادل تماماً، وإذا كان عادلاً، فهو مَلِكٌ، ومن كان مَلِكاً فهو كالسماء، وإذا كان كالسماء فهو متمشٍّ مع الطاو، وإذا كان متمشياً مع الطاو فهو مثلها لا يفنى، وبرغم أن جسده قد يختفي في خضم محيط الوجود، فهو بعيد عن كل أذى...اهـ.
- يشرح (لاو تزو) في هذا النص وحدة الوجود، وكيف أن الأشياء تصدر عن ذات الطاو ثم تعود إليه، ويلاحظ أنه يستعمل كلمة (الهدوء) والتي يقابلها عند متصوفة المسلمين كلمة (الفناء). ولنلاحظ عبارة: (وقد شهدتها تعود)، والتي لا تعني إلا أنه شهدها بالكشف.
ويقول: الكلمات الصادقة لا تكون منمقة، والكلمات المنمقة لا تكون صادقة، والرجل الصالح لا يجادل، وأولئك الذين يجادلون ليسوا بصالحين، والحكماء ليسوا بعلماء، والعلماء ليسوا بحكماء، إذا ما توقفنا عن العلم لا يواجهنا المزيد من المشاكل...تخلوا عن الحكمة وتخلصوا من الفطنة، وسيصبح الناس أحسن حالاً مائة مرة. اهـ.
- بين (لاو تزو) هنا أن حقيقتهم لا يمكن أن يُبَرْهن عليها بالأساليب الجدلية، والكلمات المنمقة، وأنها تشرح بالكلمات الصادقة البسيطة، والملحوظةالهامة هنا هي الأمر بالجهل! لأن الجهل جزء أساسي من رسالة الإشراق في كل زمان ومكان.(79/207)
ويقول: هو لا يغادر داره قط، ومع ذلك فهو عالم بالعالَم بأسره، ولا يُطلُّ من نافذته، ومع ذلك يسبر غور طريق السماء، وفي الحقيقة كلما سافر الإنسان إلى مكان أبعد، كان أقل إدراكاً، وهكذا يعرف الحكيم دون أن يتحرى، ولا يفعل شيئاً ومع ذلك ينجز كل شيء.
...لهذا السبب يرتدي الحكيم رداءً من قماش خشن يُخفي ما هو أثمن من أنفس درة داخل فؤاده...
هذا ما يسمى الاستغراق الخفي، مَن خَبِرَهُ لا يمكن أن يعامل على أنه مُقَرَّب أو مزجور، لا يمكن أن يعان أو يضار، لا يمكن أن يمجد أو يحط من قدره، ولهذا يحتل المكان الأول بين كافة الكائنات البشرية في العالم. اهـ.
في هذا النص يقدم (لاو تزو) صورة خاطفة للجذبة التي يسميها الاستغراق الخفي ولكشفها الذي يجعل الحكيم عالماً وهو لم يغادر داره، بل ولا غرفته، بل ولم يطل من نافذته..
والتماثل الكامل بين الطاوية والصوفية واضح، حتى لقد دفع هذا الوضوح أحد الباحثين لأن يقرر أن التصوف عند المسلمين هو امتداد للطاوية، وطبعاً؛ لا بد من وجود فروق يقتضيها اختلاف الظروف.
* الجينينة (نسبة إلى جينا، أي: القاهر والمتغلب):-
أسسها مهاويرا الملقب بـ(جينا الرابع والعشرين)، وكان مولده سنة 599 قبل الميلاد.
صام مهاويرا يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافياً..(79/208)
ولجأ إلى الزهد والجوع والتقشف، وغرق في التفكير، واهتم بالرياضة الصعبة القاسية والتأملات النفسية العميقة، وبعد ثلاثة عشر شهراً من ترهُّبه خلع ملابسه دون حياء، إذ كان قد قتل في نفسه عواطف الجوع والإحساس والحياء، وكان أحياناً يعتكف في المقابر... وكان يغرق في المراقبة إلى حد لا يشعر فيه بالحزن أو السرور، ولا بالألم أو الراحة... ووصل مهاويرا إلى حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله (أي: الجذبة)، وأفنى كل اتجاه مادي، فحصل من درجات العلم على الدرجة الخامسة (أعلى الدرجات)، وهي درجة العلم المطلق، ونيل البصيرة أو النجاة، وبعد سنة أخرى من الصراع والتأملات فاز بدرجة (المرشد)...وبهذا بدأ مهاويرا مرحلة جديدة هي الدعوة لعقيدته...
ويقول الجينيون: إن جينا الثالث والعشرين، واسمه: (بارسوانات)، أسس نظاماً رهبانياً شدَّد فيه بضرورة الرياضات الشاقة المتعبة(1)...
__________
(1) أديان الهند الكبرى (سلسلة مقارنة الأديان)، (ص:111، 112، 113).(79/209)
- نرى في هذا النص أن الجينية تقوم على الرياضة الإشراقية، وعلى رأسها الجوع، وهذه الرياضة تقود إلى الجذبة التي يسمونها (حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله وفناء كل اتجاه مادي)، وفي الجذبة يحصل على الدرجات العليا من العلم (العلم المطلق)، وبالمثابرة على الرياضة وصل إلى درجة (المرشد)، كما نلاحظ أن هذا هو (النجاة) عندهم. ولننتبه إلى العري أيضاً. ولعل من المفيد ذكر المنجيات عند الجينيين (وهناك ما يشبهها في الهندوسية والبوذية والطاوية، بل وكل الوثنيات)، وهي: الاعتقاد الصحيح، العلم الصحيح، الخلق الصحيح الذي له أصول سبعة هي: التمسك بالخلق الحميد، والإقلاع عن الخلق السيء، الورع، التقليل من الحركات البدنية ومن الكلام، التحلي بعشر خصال هي العفو، والصدق، والاستقامة، والتواضع، والنظافة، وضبط النفس، التقشف الظاهري والباطني، والزهد، واعتزال النساء، والإيثار، ثم التفكير في الحقائق الأساسية، والسيطرة على متاعب الحياة وهمومها والقناعة الكاملة(1). اهـ.
هذه هي المنجيات في الجينية، وفي كل الوثنيات ما يماثلها في المكان والمقام، وهي تذكرنا بمنجيات الغزالي ومقامات الصوفية، كما يذكرنا العري في الجينية بمثيله عند الصوفية.
* الهندوسية:-
نظرة سريعة:
لا يمكن العثور على تعريف جامع للهندوسية؛ لأن فيها مئات كثيرة من المذاهب المتباينة، لكن عندهم عقيدة رئيسية (يؤمن) بها أكثرهم، إن لم يكن كلهم.
- فكلهم يؤمنون بالفيدا، كتابهم المقدس، لكن يوجد غيره مئات الكتب المقدسة.
- وكلهم يؤمنون بالروح الأزلي (آتمان)، وقد يطلقون عليه أسماء أخرى، والإله عندهم ذو ثلاثة أقانيم (حسب الوظيفة التي يقوم بها).
أ- براهمان (الخالق).
ب- فيشنو (الحافظ).
ج- سيفا (المهلك).
وقد تختلف المذاهب عن بعضها في تقسيم الأعمال بين الأقانيم الثلاثة، كما قد يختلف عدد الأقانيم.
__________
(1) أديان الهند الكبرى، (ص:127، 128، 129).(79/210)
- إلى جانب هذا الثالوث، يوجد عشرات الألوف من الآلهة! والنص المقدس التالي من (الفيدا)، هو حوار بين فِشْنو الذي تجسد بصورة إنسان اسمه (كْرِشْنا)، وبين ملك مقدس اسمه (أرجونا) (صار إلهاً فيما بعد)، والحوار يجري في مستهل معركة حربية بين أفراد عائلة صاروا كلهم آلهة.
يروي هذا الحوار شخص اسمه (سامياجا)، كان حاضراً معهما، يرويه لملك آخر اسمه (هاري)، وطبعاً، كل هؤلاء الأشخاص صاروا آلهة يعبدون.
يقول النص:
قال أرجونا: اللغز السامي، الحديثُ المتعلق بالروح التي وهبتَي إياها بالنعمة، بهذه النعمة انتهى ضياعي، وكما أعلنَتْ عن نفسها، هكذا أنت تكون، أيها الرب السامي، لكنني أرغب أن أرى شكلك المقدس، أيها الشخص السامي، وإذا كنت تعتقد أنني أستطيع أن أراك، فأظْهِرْ لي روحك اللافانية، يا رب اليوجا، يا كرشنا.
قال الرب المبارك: شاهِدْ أشكالي يا أرجونا، هي بالمئات وبالآلاف، متنوعة في شكلها ومقدسة، ولها ألوان وهيئات مختلفة... اليوم، شاهِدْ الكون المتحرك والساكن، وكل ما تريد أن تراه، كله متَّحِدٌ في جسدي يا أرجونا، لكنك لا تستطيع أن ترى بعينيك الإنسانيتين، وسأمنحك أعيناً تفوق الطبيعة، شاهد قدرتي المقدسة.
قال سامياجا: بعد أن تكلم رب اليوجا، أيها الملك هاري، أظهر شكله المقدس السامي إلى أرجونا. لهذا الشكل أفواه وعيون كثيرة، ورؤى عديدة تدهش، وزينات مقدسة، وأسلحة مرفوعة مقدسة، ويلبس الثياب المقدسة، ويتحلى بالعطور والدهون المقدسة، ويتألف من كل الأعاجيب، ويتألق، وغير محدود، ووجهه يلتفت إلى كل اتجاه، ولو شعت ألف شمس في الفضاء، كان من الممكن أن تشبه عظمة الكائن المعظم.
هناك شاهد أرجونا الوجود بكامله، بأجزائه العديدة المتجمعة في واحد، في جسد إله الآلهة(1).
- وفي مكان آخر (والمتكلم الآن هو كْرِشْنا):
__________
(1) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:204).(79/211)
من لا يتعلق فهمه بأي مكان، من يُخضع ذاتَه ومن يطرد رغبته، يأتي عن طريق الرفض إلى الحالة السامية التي تُصعِّد كل عمل. اسمع إلى ما أوجزه لك يا أرجونا: كيف يصل الإنسان عندما يحقق الكمال إلى براهمان؟ من يكون موهوباً بفهم نقي، ويضبط نفسه، ولا يلتفت إلى مواضيع الحس، ويلقي بالجاذبية والاشمئزاز بعيداً، ويسكن في عزلة، ويأكل القليل، ويضبط كلامه وجسده وعقله، ويعتنق التأمل والتركيز، ويلقي الإحساس بالذات والقوة والتنافر والرغبة والبغضاء، أو الملكية بعيداً، أولا يكون أنانياً، بل هادئاً في عقله، يستحق أن يصبح براهمان.
عندما يصبح الإنسان واحداً مع براهمان، ويكون هادئاً في روحه، فلا يحزن، ولا يرغب، وعندما يعتبر كل الكائنات على السواء، ويصل إلى التعبد السامي، إليَّ. بالتعبد يعرفني، ويعرف من أنا، وما هو مقامي، وعندما يعرف من أنا يدخل فيَّ. الرب يسكن قلوب الكائنات، ويجعلها أن تدور بقدرته كأنها على آلة. الْتَجِئ إليَّ بكل قدرتك يا أرجونا، وبنعمتي تحصل على السلام السامي والمسكن الأبدي.
الحكمة أكثر سرية من كل الأسرار التي أعلنتها لك، فكر فيها تماماً، واعمل ما تشاء(1).
- النصان واضحان كل الوضوح، ومع ذلك لا بأس من لفت نظر القارئ إلى بعض النقاط فيهما:
أ- وحدة الوجود في النصين: (شاهد أرجونا الوجود بكامله)، (يصبح الإنسان واحداً مع براهمان).
ب- الرياضة، في النص الثاني: (العزلة والأكل القليل وضبط الكلام والجسد والعقل والتأمل والتركيز).
ج- (إفراغ النفس من كل رغباتها على الإطلاق)، التي تقابل قول المتصوفة: (اخلع نعليك)...وماشابهها.
د- هذه الأمور هي نفس ما نراه ونسمعه ونقرؤه من أقوال متصوفة المسلمين وفي كتبهم.
هـ- كما يجب ألا ننسى الشبه التام بين قول الهنادكة: (إن البراهمة خلقوا من وجه الإله الأعظم)، وقول المتصوفة المسلمين: (إن محمداً خلق من وجه الله).
__________
(1) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:234، 235).(79/212)
كما نلاحظ التوافق بين الكشف (عندما شاهد الرب) والعقائد المسبقة.
ومن يتتبع أقوال المتصوفة ونصوص الفيدا يقف أحياناً على تشابه حتى في المفردات.
- ونص آخر من نصوصهم الكثيرة من (أوبانيشاد شاندوجيا):
1- حقاً إن هذا العالم كله براهمان. وبهدوء، يعبده الإنسان، لأنه قد أتى منه، وسينحل فيه، ولأنه يتنفس بواسطته.
2- هو الذي يتضمن العقل، وجسدُه هو الحياة، وشكله هو النور، وفكره الحقيقة، وذاته هي الفراغ، إنه يتضمن كل الأعمال والرغبات والأوامر والأذواق، ويشمل العالم كله، هو الذي لا يتكلم- روحي هذه ضمن قلبي، هي أصغر من حبة أرز، ذاتي هذه هي أعظم من الأرض ومن الفضاء والجو ومن هذه العوالم(1). (انتهى).
ونص آخر (أوبانيشاد ائتاريا).
...هو براهمان، هو أندرا، هو براجاتي، هو كل هذه الآلهة، هو هذه العناصر، الأرض والريح والفضاء والماء والنور، هذه الأشياء، وتلك التي تمتزج بالنار كما كانت(2)...
- أرجو من القارئ الكريم أن يعود إلى أقوال المتصوفة، وخاصة عينية الجيلي ليرى التشابه.
وهذه صور من ضرب الشيش عند الهندوس، أو عند فرقة من فرقهم التي تعد بعشرات الألوف، وهذه الفرقة موجودة في ماليزيا، ويجعلون رأس الآلهة هو سيفاناتراجا، بدلاً من براهمان. ولهم عيد سنوي يحتفلون به هو عيد (تابوزام)، حيث يكون الاجتماع العام على مقربة من أحد مداخل العاصمة (كوالالامبور).
هذا العيد المجيد يحتفل به هنود ماليزيا سنوياً في شهر (الكوكب)، حيث يتوسط البدر كبد السماء،...وذلك تمجيداً لذكرى الإله (سيفاناتراجا) رب آلهة الهندوس(3) (بالنسة لهذه الفرقة)..
ويبدأ التمجيد أيضاً للإله (مورغان)، وهو حفيد (سيفاناتراجا)(4)...
__________
(1) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:112).
(2) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:109).
(3) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/16).
(4) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/17).(79/213)
إن الصلاة الهندوسية تقام قبل الاحتفال بالعيد المجيد...يمتنعون عن ممارسة الحب، ويكتفون بوجبة طعام واحدة نباتية في اليوم...ثم يدخلون في الصلاة والتأمل والعزلة...التي تتحول تدريجياً إلى غيبوبة عن هذا العالم (أي: الجذبة).
وبفضل تلك الصلاة والعزلة والتأمل التي تفصلهم عن الواقع لتدخلهم في عالم الخيال والغيبوبة الطويلة المقترنة بالتوحيد للذات الإلهية...عندها تمتلكهم نشوة غريبة جداً تدعى (نشوة الرعدة الإنشائية)، فتراهم حالمين بأبعاد لا حدود لها...وبواسطتها يتاح لهم دون استثناء اجتياز المسافات الطويلة (الصاعدة في الجبل الشاهق)، ضمن الدروب الوعرة، والتي تتطلب جهداً ومهارة فائقة، فيصلون بالنهاية إلى المعبد التابوزامي...
وهم في تلك الحالة يبدون في إحساس غامر بالورع والتقى...بينما الرماح الحادة تترنح على وجناتهم...والأسهم الفضية مغروزة في ألسنتهم...والكلاليب التي تنتزع قطعاً من أجسادهم.. والسلال التي تثقل كاهلهم (قد يبلغ وزن بعضها 60 كغ).. وهم لا يأبهون لكافة الآلام والإصابات، بل إنهم من خلالها يستسلمون لنشوة غريبة وعجيبة...والأغرب من كل هذا هو أن تلك الجروح العميقة لا يسيل منها الدم إلا من بضع قطرات تعد على أصابع اليد الواحدة...فسرعان ما تلتئم...فلا يبقى منها سوى آثار ندوب سوداء...وهم فريسة لذلك الشعور الغريب الذي يعبر لهم عن إمكانية الوصول بتلك المآثر والبطولات من خلالها الاتصال بالإله الأكبر سيفاناتراجا...
...فيتجمع أولئك المؤمنون حول زعيمهم الديني (غورو)، وهم يتغنون بنشيد (الفل - فل)، بمعنى (الرمح - رمح)...بينما يقف (غورو) أمام أحد المؤمنين ليثقب وجنة المؤمن بالمغرز بعد أن باركه بدعواته...(79/214)
ولكن عندما يشق السهم الحاد والمسنون لحم وجنة المؤمن اللدنة... يبدأ المؤمن بالارتعاد بشدة كمن أصابه مس أو جنون، فيقفز بالهواء ليدق الأرض بقدميه دقاً رتيباً وشديداً، ومن ثم يتمايل على وقع النشيد الحماسي، بينما يكون قد برز من وجنتيه الغائرتين ذلك السهم الفضي، فلا يسيل من وجنتيه من أثر الجرح إلا قليل من قطرات الدم لا تذكر...وتشق ألسنتهم بأسياخ فضية يتراوح طولهم ما بين (12-18 سم)...والرماح الطويلة التي تخترق الوجنة ويبلغ طولها عادة أربعة أمتار، وعلى طرفي الرمح تعلق السلال المملوءة حليباً وعسلاً، وأما البرتقال فإنه يثبت على الخصر بواسطة سنارات فضية تغرز في الجسد...فيتقدم أحدهم ليجلس على كرسي بلا ظهر، عندها يباشر الزعيم الديني (غورو) في غرز الكلاليب الفضية الحارة في جسده، ويبلغ عدد الكلاليب في بعض الأحيان زهاء ستين كلاباً، والمؤمن لا يزال تحت سيطرة الرعدة الانتشائية الغريبة إلى أن يحني رأسه ليذهب في غيبوبة بلا حدود أو نهاية(1)....إلخ. اهـ.
- لا أظنني بحاجة إلى تعليق، فالأمر واضح؛ لكن الملحوظةأن متصوفة المسلمين لم يبلغوا شأو هؤلاء القوم!
والسؤال: هل هؤلاء القوم تسري فيهم كرامة أحمد الرفاعي؟ أم ماذا؟
* وهذه نصوص بوذية متفرقة من كتاب فايسيسكا سوترا:
الكتاب الأول- الفصل الثاني:
17- الوجود واحد بسبب وحدة العلامة(2)...
الكتاب الثاني- الفصل الأول:
28- تتوضح وحدة الأثير بوضوح وحدة الوجود(3).
الكتاب الثاني- الفصل الثاني:
7- جوهرية وأبدية الزمان تتوضحان بتوضيح جوهرية وأبدية الهواء.
8- وحدة الزمن تتوضح بتوضيح وحدة الوجود.
11- جوهرية وأبدية الفراغ تتوضحان بوضوح جوهرية وأبدية الهواء.
__________
(1) أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: (1/19، وما بعدها).
(2) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:484).
(3) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:486).(79/215)
12- وحدة الفضاء (أي: الفراغ) تتوضح بتوضيح وحدة الوجود(1). اهـ.
ولا حاجة للتنبيه إلى وحدة الوجود الواضحة في هذه النصوص وضوحاً كاملاً، وكذلك الطريقة التي توصل إليها، وللزيادة في الوضوح نورد وصفاً يذكره (آسين بلاثيوس)(2)عن كيفية وصول الهندوسي أو البوذي إلى الجذبة، يقول: ...ومذهب الفيدا الوارد في الأوبانيشاد يجعل غاية الكمال والسعادة في حشد الروح باستبعاد كل خاطر غير فكرة الموجود المطلق، وأصحاب نظام اليوجا(3) كانوا يستخدمون من أجل الوصول إلى هذه الغاية طريقة في الإيحاء الذاتي التنويمي شبيهة جداً بما قرره ابن عربي، فكان اليوجي يجلس القرفصاء ساكناً بلا حراك، ونظره مثبت، وانتباهه مستغرق في الحرفين (أم)، وهو اسم من أسماء براهما المستسرة، ثم يقع في جذبة(4) تفقده الشعور. وتمرين النَّفَس، وهو رياضة إيقاعية للشهيق والزفير، كان يمارسه (تنجل) للوصول إلى نفس الغاية(5) (أي: الجذبة). اهـ.
- أي: إن الرياضة الإشراقية هي الطريق للوصول إلى المعرفة عندهم وعند غيرهم طبعاً، والفرق هو في تفسير هذه الظاهرة، وفي وسائل تزيينها للمريدين. وفي الرياضة الإيقاعية للشهيق والزفير يمكن أن نلاحظ دور الأكسجين مضافاً إلى دور الإيقاع الرتيب.
* الصوفية عند أهل الكتاب:-
* عند اليهود:
__________
(1) الفكر الفلسفي الهندي، (ص:486).
(2) مستشرق إسباني مات سنة (1944م).
(3) اليوجا رياضة تعبدية إشراقية يمارسها الهندوس والبوذيون والجينيون للوصول إلى الجذبة.
(4) كلمة (جذبة) هي مصطلح يستعمله متصوفة المسلمين فقط ويستعمله آسين بلاثيوس هنا بالاستعارة.
(5) النص من كتاب (ابن عربي) لآسين بلاثيوس، (ص:187).(79/216)
مر في فصل سابق وصف الأستاذ عبد الأحد داوُد للتصوف اليهودي الذي كانوا يسمونه (التنبؤ)، وأنهم كانوا يسمون الواصل إلى الجذبة وأحلامها (نبي)، ويسمون الشيخ المسلك (صوفي)، أي المراقب أو المرشد. وكانت عندهم- على قلتهم- عدة طرق، منها (الإلكسائية) و(الأبيونية).
وبعد ظهور الإسلام بقرون، ولعله في حوالي القرن الخامس الهجري، صار التصوف اليهودي معروفاً باسم (الكبالة Gabbalah)، أي المأثور، مع الاحتفاظ بالاسم القديم (التنبؤ).
وهناك أشياء مثيرة للانتباه؟ ففي التنبؤ اليهودي (أو الكبالة) يصنفون الواصلين إلى الجذبة على ثلاث مراتب: نبي (ومعناها الناطق)، أو نبي سفاتايم (أي: ناطق الشفتين)، ثم رائي، ثم بصير- وهو أعلاها- والبصير عندما يتصدى لتسليك المريدين يسمى (صوفي)، أي: المرشد. ورأينا في فصول سابقة أن متصوفة المسلمين يقسمون المكاشفين كذلك إلى نفس المراتب الثلاث: المحاضر (من المحاضرة)، ثم المكاشف (من المكاشفة)، ثم المشاهد (من المشاهدة)، وهو أعلاها، وعندما يتصدى من وصل إلى مقام المشاهدة إلى تسليك المريدين يسمونه (المرشد).
وواضح أن هذه المصطلحات، التصوفية هي مرادفات للمصطلحات الكبالية.
وشيء آخر، نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) وصفاً للكبالة ترجمته كما يلي: (تفسير يهودي باطني ورمزي لنص الكتاب المقدس)، كتابه التقليدي (الكلاسيكي) هو (الزوهار) أو (كتاب الإشراق). وأنصار العلوم الخفائية (الباطنية) يستعملون رموز الكبالة في اتجاه سحري. اهـ.
نلاحظ أن أسلوب الكبالة في تفسير الكتاب المقدس هو باطني ورمزي، مثل تفسير متصوفة المسلمين للقرآن الكريم تماماً.
وكذلك استعمال الرموز الكبالية في السحر هو مثل استعمال الرموز الصوفية في السحر.
أما كتاب الإشراق (الزوهار)، فقد ظهر في أوائل القرن السادس الهجري لمؤلف يهودي من مدينة ليون في إسبانيا، كما يظن، ويمكن أن يكون أقدم من ذلك بقليل أو كثير.(79/217)
ولننتبه إلى أن واقع تصنيف أحلام الجذبة (محاضرة ثم مكاشفة ثم مشاهدة) تابع لتوجيهات الشيخ المسلك، ولتوجيهاته فقط، وأن خوارق شتى تحدث على أيدي الكباليين.
* عند النصارى:
أعلنت الصوفية عن نفسها عند المسيحيين في القرن الثاني الميلادي باسم الغنوصية، أي: المعرفة، ومنها الغنوصي أي: العارف، وسماه العرب منهم الكاهن، وقد رفضتها الكنيسة أولاً، ومع الزمن قبلتها وتبنتها.
وهذا نص لصوفي مسيحي يصف كيفية وصوله إلى الجذبة.
يقول (نيمو)(1)خادم أم الإله، متلقي اعترافات القديسة تيريزا(2)، في كتابه الأسفار:
...وجدت فائدة كبيرة في الدعوات الصوتية التي تسمى بالأذكار، خصوصاً في الكلمات (أبانا الذي...) مما يكرره الفم ساعات طويلة، و(ليتقدس اسمك)، و(وفي القلب رغبة في أن ينحصر هناك)....
كنت أجد في هذه الكلمة وحدها (الله) رضاً بالغاً لنفسي، بحيث لم أشأ ولم أستطع أن أنتقل عنها إلى أفكار أخرى، وكنت أقتصر على ذلك حتى أصل إلى البركة(3)...
رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.
ويعرف القارئ أن البركة تعني الجذبة، كما يظهر في هذا النص تأثر متصوفة المسيحيين بأسلوب الذكر الإرهاقي الذي استعمله متصوفة المسلمين قبل نيمو بحوالي ستة قرون.
وبسبب عوامل ما، تشعبت الصوفية عند المسيحيين إلى أكثر من مذهب، فالقديسة تيريزا الأفيلية، مثلاً، تؤمن أن الخالق غير المخلوق، وتصف وصولها أو (فتوحها) بأنه اتحاد بينها وبين الله (تعالى الله)، فتقول من قصيدة:
...واتحاد النفس بالله في القران الروحي شبيه بشمعتين تذوبان معاً حتى يصبح نوراهما نوراً واحداً(4)...
ومن قصيدة أخرى:
__________
(1) رجل دين إسباني من أهل النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي.
(2) تيريزا الأفيلية من قرية آفيلا الإسبانية، ماتت سنة (1582م).
(3) ابن عربي، لآسين بلاثيوس، (ص:186) في الحاشية.
(4) يسوع المسيح شخصيته وتعاليمه (ص:212).(79/218)
...هاأنذا يا عريسي الأكبر، دعني أقترب منك... وليدخل هذا الجدول الصغير في خضمك، أغثني يا أعذب حليل... ولتسترح نفسي بين ذراعي عريسها(1)...
حيث يظهر من أقوال القديسة هذه أن تجلياتها كانت جمالية لا جلالية، واتحادية لا وحدوية.
بينما نرى القديس خوان دي لا كروث(2) يؤمن بوحدة الوجود، فمن أقواله:
...حبيبي هو الجبال، والوديان المنعزلة المليئة بالأشجار، والجزر الغريبة، والأنهار الرنانة، وصفير الرياح الحبيبة، والليل الساكن(3)...
من النصوص المارة آنفاً، وكذلك من الفصول السابقة، ومن أية دراسة واعية لأية وثنية في التاريخ، يظهر واضحاً دور الإشراق فيها، بل إن الكاهن في كل الوثنيات لا يسمى كاهناً حتى يصل إلى الجذبة عن طريق الرياضة الصوفية، ويحصل على يده بعض الخوارق، وقد يكتفون بالمهلسات، أو يستعملونها كعامل مساعد، مع العلم أن بعض الوثنيات، كديانة الإينكا مثلاً، كانت كما يظهر تكتفي بالمهلسات، وبعضها كالديانة الهندوسية، كانت وما زالت تستعمل الطريقتين، المهلسات والرياضة الصوفية، وبعضها كان ولما يزل يكتفي بالرياضة الصوفية.
للتسلية:
يقول د. سيد حسين نصر:
...بل إن مقام (الخدمة) نفسه الذي يأتي متأخراً بعد مقام البقاء، لا يجوز أن يحمل على معنى العمل أو الفرض الديني بالمعنى المألوف؟ بل بمثابة خدمة أداها كائن تذوق (الوصال)، وهي في منزلتها تقابل العهد الذي قطعه أفالوكتسفارا على نفسه في الدين البوذي، بإنقاذ الخلائق، بعد أن تم له أن يخطو خطوة واحدة في (النيرفانا)(4). اهـ.
__________
(1) عمر بن الفارض من خلال شعره، (ص:77).
(2) إسباني متصوف من أهل القرن السادس عشر الميلادي.
(3) مجلة العربي، (عدد: 305)، (ص:40).
(4) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:67).(79/219)
- النيرفانا هي المصطلح البوذي الذي يقابل مصطلح (الفناء في الله)، وقد عربها بعض المتصوفة في إيران أو (أسلمها)، فصارت (نيروان)(1)، واستعملوها بنفس المعنى. وبقراءة النصوص المترجمة إلى العربية، نجد أن كلمة (النيرفانا) ترد أحياناً بمعنى (المطلق)، وأحياناً بمعنى: (الفناء في المطلق)، وهو الأكثر تواتراً.
- ويجب ألا ننسى ملحوظة هامة، وهي أن الحقيقة الصوفية، (أي: الجذبة ورؤاها)، والطريق إليها (أي: الرياضة الصوفية)، هي واحدة في كل زمان ومكان، ويكون الاختلاف في أشكال الهالات التي تحاط بها، والتفاسير التي تشرح بها رؤاها وأساليب الدعاية التي يقدمونها لها، كما أن للخلفية الاجتماعية المحيطة بالواصل دور شامل في الأطروحات التي تقدمها كشوفه.
الفصل الرابع
الصوفية وتدمير المجتمع الإسلامي
قلنا ونعيد:
لإبليس شركان يصيد بهما بني آدم، فيخرجهم من الهدى إلى الضلال، ومن استقامة الفطرة إلى الانحراف والانحلال، واتباع الأهواء.
* الشرك الأول: الجنس وملحقاته:
بهذا الشرك يستطيع إبليس أن يبعد ابن آدم عن نداء الفطرة، وعن السلوك المستقيم الموجه بالغرائز السليمة (المتوازنة فيما بينها حسب الفطرة التي فطرها الله عليها)، فتنحرف فيه غرائز، وتتضخم أخرى على حساب بقية الغرائز التي تضمر بسبب هذا التضخم.
وأرسل الله سبحانه الرسل بالتعاليم الاعتقادية والفكرية والعملية التي تحفظ على الإنسان سيره المستقيم، وتعيد الغرائز إلى توازنها الفطري، وتحقق عبادة الله في الأرض. والإسلام هو الرسالة التي جاء بها كل الرسل: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19].
* الشرك الثاني: الإشراق.
قد يتغلب نداء الفطرة في الإنسان على نداء الهوى، فيسير في الطريق المستقيم ملتزماً التعاليم الإلهية، متخذاً منها المنطلقات التي توجه كل تصرفاته.
__________
(1) من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر، الفصل الأخير.(79/220)
وهذا يعني أنه أفلت من الشرك الأول، وأنه سار على الصراط المستقيم. لكنه سيجد أيضاً إبليس أمامه، ينتظره على هذا الطريق: ((قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الأعراف:16]، سيجده وقد نصب له الشرك الثاني (الإشراق).
ويستغل إبليس الغرور والجهل في الإنسان ليوقعه في هذا الشرك باسم الإسلام وباسم الولاية وباسم مقام الإحسان، والقرب والمعرفة...و...إلخ.
وللوصول إلى الإشراق يوجد طريقان:
الطريق الأول: طريق شجرة الخلد وملك لا يبلى، وهي أنواع، فعند بعض الشعوب القديمة، وفي الهند خاصة، كانت شجرة الحشيش، وفي الشرق الأوسط، كانت شجرة الخشخاش (الأفيون)، وفي المكسيك كانت فطر المكسيك، وفي البيرو (أمريكا الجنوبية) كانت شجرة الكوكا، وفي ماليزيا كانت شجرة الكافا...إلى غير ذلك مما لم أقف عليه.
كانت شجرة الخلد هذه، وفي قمتها الحشيش والخشخاش، حكراً على الكهان، كما كانت تدخل قصور الملوك في أحيان كثيرة.
وكانت سراً مقدساً يتعاطاها الكهان ضمن طقوس تعبدية سرية كي يقعوا في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.
وبهذه الإشراقات الباطلة، والحكمة المتوهمة، كانوا يخرجون من الإسلام، باباً بعد باب، وتدخل عليهم الوثنية من كل باب.
والطريق الثاني: طريق الرياضة والمجاهدة الصوفية، فكثيراً ما كان يتعذر الحصول على المهلس الخارجى لسبب أو لآخر، حينئذ، كان إبليس يهيئ لأوليائه البديل الناجع، وباسم الإحسان، وباسم السير إلى الله والعروج إليه، وباسم المعرفة، كان يستجرهم إلى الرياضة الصوفية التي تهيئ لهم المهلس الداخلي (الإندورفين) ورفيقه الذي توقعهم دفقاته في الجذبة، حيث تشرق عليهم الأنوار الهلوسية، ويتلقون العلوم اللدنية الهذيانية، وينطقون بما يتوهمون أنه الحكمة.(79/221)
وطريق الرياضة هذه هي طريق خداعة، تخدع الإنسان أكثر من طريق شجر الهلوسة، لذلك كان اعتماد إبليس عليها أكثر من اعتماده على الشجر، وكان اسمها (الكهانة والمعرفة)، وعندما حاربها الإسلام، حولوا اسمها إلى (الصوفية)، وعندما كُفِّر من كهانها من كفر وقُتل من قتل، ظهرت الطريقة البرهانية الغزالية.
والطريقة البرهانية الغزالية، والتي هي الإشراق الممزوج بالإسلام، هي أسلوب إبليسي استعمله إبليس، ويستعمله، للإبقاء على مسيرة الإشراق الذي فتن به بني آدم كما أخرج أبويهم من الجنة.
فأصل الأديان كلها الإسلام: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24] و((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19]، وعن طريق ((شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) [طه:120]، أو بديلها (الصوفية)، أخرج إبليس بني آدم من إسلامهم إلى مختلف الوثنيات التي عرفها التاريخ.
لقد كان، وما زال، يوحي إلى أوليائه أن يتستروا بدين الله، ليهدمه بهم من الداخل، حيث يوهمهم أن هلوساتهم الجذبية هي إشراقات إلهية، وأنها نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ثم يوحي إليهم أن يضيفوا علومهم اللدنية الهلوسية إلى الدين الحق، حيث تتراكم البدع شيئاً فشيئاً، ومع الزمن يختفي الدين الحق، وتسود البدع ويعتقد الناس أنها هي هو.
ومع الزمن، وبإيحاءات الأبالسة وأهواء الكهان وولائجهم، تتشعب البدع وتأخذ طرقاً مختلفة بعيدة كلها عن الدين الحق.
وكثيراً ما يكون للفئات المسيطرة دور في تشجيع مذهب بتشجيع دعاته ودعمهم ومحاولة منع المذاهب المنافسة من التحرك المكشوف، أما التحرك المستور فلا سلطان لهم عليه.
وهكذا ظهرت كل وثنيات التاريخ، وهكذا وجدت الهندوسية والبوذية والطاوية والجينية، أما اليهودية والنصرانية فقد تدخلت فيها عوامل أخرى.(79/222)
وطبعاً لم ينج المسلمون من هذا الشرك الروحاني، حيث ظهرت (وتظهر) آثاره المدمرة في أشكال متعددة، لعل أبرزها ثلاثة:
1- الاستسلام العجيب للتتار.
2- تمزيق الأمة الإسلامية إلى فرق مذهبية تحارب الإسلام باسم إسلام محرف ينتهجونه.
3- إفساد عام في العقائد والعبادات والأخلاق والسلوك وأساليب التفكير.
وفيما يلي بيان لهذه الأشكال التدميرية نذكرها بإيجاز شديد لأن تفصيلها يستوعب مجلدات، مع التذكير أن الكشوف والمشاهدات الجذبية هي دائماً موجهة بالقناعات الفكرية المسبقة، أي: بالأماني والطموحات والمعلومات المختزنة والعواطف المهيمنة.
* الاستسلام العجيب للتتر:-
في العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري وما يليها، كانت الصوفية واسعة الانتشار جداً، وقد مر معنا في الفصول السابقة أمثلة كثيرة عن الحالة التي وصلت إليها الأمة، والتي ظهرت نبتاتها الأولى في أزمنة سابقة، حتى استوت على أيدي دعاة للصوفية (مشايخ) يقدسهم حتى غير الصوفيين، جهلاً بالصوفية، ومن هؤلاء الدعاة: الغزالي (حجة الإسلام)، والجيلاني، والرفاعي، وعدي بن مسافر، والشاذلي، والدسوقي، والبدوي... وغيرهم.
بالإضافة إلى ما مر من الأمثلة في الفصول السابقة، نورد مثالاً (على الماشي) فيه كفاية لأخذ فكرة عن الواقع.
يورد ابن العماد الحنبلي في (الشذرات) في حوادث سنة 657 هـ:
وفيها (أي: توفي في هذه السنة) الشيخ يوسف القميني الموله:
قال الذهبي في (العبر): الذي تعتقده العامة أنه ولي الله، وحجتهم الكشف والكلام على الخواطر، وهذا شيء يقع من الكاهن والراهب والمجنون الذي له قرين من الجن، وقد كثر هذا في عصرنا والله المستعان، وكان يوسف يتنجس ببوله، ويمشي حافياً، ويأوي أقميم حمام نور الدين، ولا يصلي.(79/223)
وقال ابن شهبة في (تاريخ الإسلام): كان يأوي القمامين والمزابل، وغالب إقامته بإقميم حمام نور الدين بسوق القمح، وكان يلبس ثياباً طوالاً تكنس الأرض ولا يلتفت إلى أحد، والناس يعتقدون فيه الصلاح، ويحكى عنه عجائب وغرائب، ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون، ولم يتخلف عن جنازته إلا القليل. اهـ.
- لا تعليق، لكن ملحوظة أنه لم يتخلف عن جنازته إلا القليل، وأن هذا حدث في دمشق، التي ما خلت منذ أسلمت من دعاة للإسلام الحق، لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف تكون الحالة في غيرها.
ثم ننتقل إلى القطاع الذي اجتاحه المغول:
هذا القطاع هو العراق وفارس، وأبرز الطرق التي كانت منتشرة فيه أواخر القرن السادس الهجري هي: الجنبلانية، الملامتية، القشيرية، الصديقية، القادرية، الرفاعية، العدوية، الكبروية، وهناك غيرها طبعاً، مع العلم أن الرفاعية ثم القادرية كانت أبرزها على الإطلاق وأوسعها انتشاراً!
وفي العقود الأولى من القرن السابع ظهرت: الجشتية، السهروردية، البابائية، البكطاشية، وبقيت الرفاعية ثم القادرية هما الأبرز والأوسع انتشاراً، وتليهما السهروردية والملامتية.
من النتائج لهذا الانتشار الصوفي، النتيجة الظاهرة الصارخة، ألا وهي الاستسلام العجيب للغزو التتري الذي كان يبيد المدن والقرى ويقتل الملايين، بينما كان المسلمون يهرعون إلى المشايخ والقبور، ويلجئون إلى الأوراد والطلاسم لاستجلاب النصر، ويستسلمون للذبح استسلام النعاج!!
لأخذ فكرة عن هذا الاستسلام العجيب نورد نبذاً من (الكامل في التاريخ) لابن الأثير، منها:
ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام:(79/224)
لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً... هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها... ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا(1)...
- أقول: رحم الله ابن الأثير، فلقد رأى الخلق قبل أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا أبشع من تلك الحادثة بكثير بكثير بكثير؟ فالماركسية حتى الآن، وفي أقل من سبعين سنة، قتلت من المسلمين ما يزيد عن (100) مليون نسمة، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن (23) مليون كيلومتر مربع (أرقام فلكية)، وهي تزحف وتزحف، وتقتل من المسلمين في أفغانستان والحبشة وغيرها ما يزيد معدله عن (1200) قتيل يومياً عدا عن أضعافهم من المشردين وعدا عن المجازر الاستثنائية التي جرت وتجري في بلاد العرب وغيرها والتي يذهب ضحيتها عشرات الألوف ومئاتهم في أيام أو أسابيع. والفرق بين حالة المسلمين في ذلك الوقت وبين حالتهم الآن، أنهم في ذلك الوقت كانوا يعرفون أن الذين يقتلونهم هم التتر، أما الآن؟ فيرون ويسمعون ويلمسون ولا يحسون ولا يعرفون؟! وإلى الله المشتكى.
ومنها:
ذكر مسير التتر إلى أذربيجان وملكهم أردبيل وغيرها:
__________
(1) الكامل في التاريخ: (9/324).(79/225)
.. ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة (بعد الستمائة)، ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة حتى إنهم يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد، حتى يفرغ من الجميع، لا يمد أحد منهم إليه يداً(1)...
ومنها:
ذكر ملك التتر مراغة:
...وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها، وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح، وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً. وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً، حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس، فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً(2)...
ومنها:
ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد:
...إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه، ومضى التتري أحضر سيفاً فقتله به. وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد، فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف! فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك! فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال ذلك كثير(3)...
__________
(1) الكامل في التاريخ: (9/339).
(2) الكامل في التاريخ: (9/385).
(3) الكامل في التاريخ: (9/337).(79/226)
- أقول: ما دام القتل مؤكداً، وما دام في الدفاع عن النفس إمكانية للنجاة، إذن، فلم يكن ذلك الاستسلام بسبب الخوف فقط، ولو كان الخوف وحده هو السبب لهربوا على الأقل، إن لم يدافعوا! ولو محصنا الأمور لرأينا أن السبب الأساسي هو (مقام التوكل، أو التسليم، أو عدم الاعتراض)، الذي جرتهم إليه الصوفية، وعلى رأسها الرفاعية التي كانت واسعة الانتشار، بسبب ضرب الشيش، والهجوم على النار، وأكل الحيات... ثم القادرية ثم بقية الطرق.
ومنها:
ذكر وصول طائفة من التتر إلى أربل ودقوقا:
...(يذكر حوادث مذهلة) إلى أن يقول: وعادوا (أي: التتر) سالمين، لم يذعرهم أحد، ولا وقف في وجههم فارس! وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها! فالله سبحانه يلطف بالمسلمين ويرحمهم ويرد هذا العدو عنهم(1)...اهـ.
- هنا أذكر تقريراً لصاحب كتاب (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية)، يقول:
...وجلا ابن تيمية حقيقة أخرى، حين قرر أن ظهور الأحمدية (الرفاعية)، وإضعافهم الوازع الديني المتصل بالفقه الإسلامي مباشرة، وتخديرهم الناس، وحملهم على الخمول والكسل والتسليم، كان أكبر أسباب ظهور التتار(2). اهـ.
- أقول: إن دور العقيدة التي غرستها الصوفية أقوى من دور الخمول والكسل، ولنسمع شاعرهم يقول:
يا خائفين من التتر
عوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكمو من الضرر(3)
وهذا تقرير آخر، لأبي الحسن الندوي، يقول:
__________
(1) الكامل في التاريخ: (9/386).
(2) الفكر الشيعي، (ص:88).
(3) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/176).(79/227)
كانت العقائد والتقاليد المشركة نالت رواجاً بين عامة المسلمين باختلاطهم مع غير المسلمين... وانتشار تعليمات الجهلة والضالة من الصوفية وأعمالهم، فقد وجد عدد وجيه من المسلمين في ذلك الحين يعتقدون في أئمة دينهم ومشايخهم والأولياء والصالحين منهم الاعتقادات الفاسدة... وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم، فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومد يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم، كما عمت عادة بناء المساجد الفخمة على قبورهم وجعلها مسجداً، وعقد المهرجانات عليها عاماً فعاماً، وقطع المسافات الطويلة للوصول إليها، وقد تفاقمت هذه العقائد السيئة وانتشرت هذه البدع والمنكرات في أواخر القرن السابع بشكل فظيع(1)... إلخ.
- أقول: كل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ، لم يكن تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين كما قال أبو الحسن! وإنما هو نتيجة طبيعية للصوفية أينما وجدت، يؤمن به كل الصوفية، لكنهم يظهرونه عندما يأخذون قسطاً كافياً من الحرية، ويكتمونه تقيَّةً عندما تتفتح عليهم أعين المسلمين اعتقاداً منهم أن هذا هو رسالة الإسلام، وقد رأينا من أقوالهم مئات النصوص التي تشير إلى هذا.
وترد هنا ملحوظة هامة، هي أن التتر عرفوا للصوفية فضلها في انتصاراتهم التدميرية وقدروها كثيراً، وأعطوها مركزاً مرموقاً، جعلها تهيمن على كل البلاد التي اجتاحها التتر، وقد جلى هذه الحقيقة أحد مشايخ الرفاعية، هو صالح بن عبد الله البطائحي، عندما قال في صراحة تامة لابن تيمية في مناظرته له في مصر سنة 705هـ / 1305م: نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر، وأما عند الشرع فلا.
__________
(1) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/171، 172).(79/228)
وكان هذا التقدير الكبير للصوفية من قِبَل التتر الذين دمروا البلاد وأهلكوا العباد سبباً آخر لإقبال الناس، من أهل البلاد التي اجتاحها التتر، ومن التتر أيضاً، إقبالاً كاملاً على الصوفية وتقديس مشايخها إلى درجة التأليه، حتى عم البلاء إلا من رحم ربك.
* النتيجة:
الصوفية كانت العامل الأساسي الوحيد وراء الاستسلام العجيب لتلك المجازر التي ما عرف التاريخ مثل هولها حتى ظهور الماركسية سنة 1917م في روسيا، ثم امتدادها بعد ذلك، حيث قتلت من المسلمين وحدهم في مدة (68 عاماً) يزيد عن (100 مليون نسمة)، واحتلت من أراضيهم ما يزيد عن (23 مليون كيلو متر) مربع، وهي تزحف بإصرار وبأساليب مبنية على القوانين العلمية للقضاء على العالم الإسلامي عامة، والعربي خاصة، والمسلمون هم الذين يمهدون لها الطريق، ويزيلون من أمامها العقبات، ويعدون مقاتلة أعداء الماركسية جهاداً في سبيل الله، ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي اليهودية، وأنها التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار، وأنها تجند البشر لخدمة اليهود، ولعلهم لم يشعروا بعد أنهم مجروفون فيها بشكل أو بآخر، دون أن يشعروا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {غثاء كغثاء السيل}. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولعلهم لم يشعروا بعد أن الماركسية هي فتنة الدجال، وستبلغ قمتها بظهور المسيح الدجال، ملك اليهود، مع العلم أن أحوال الماركسية وأساليبها وغاياتها (التي لم يشعر بها المسلمون بعد) تطابق أوصاف الرسول لفتنة الدجال مطابقة تامة، وأنها لا تجري بقوى سحرية، وإنما بالدعاية الرمادية الغزيرة منذ عقودها الأولى، حيث اقتنع المسلمون بأوهام لا واقع لها، وصارت عندهم هذه الأوهام حقائق بدهية من طول ما سمعوه من دعاية موجهة وكثرتها، وأصبح المسلمون لا يرون كافراً ولا عدواً للإسلام إلا مَنْ يحارب الماركسية.
* الفرق المذهبية:(79/229)
يمكن أن نميز في الفرق المذهبية عند المسلمين عدة حالات:
أ- فرق ذاتُ منشأ غير صوفي، نشأت فيها طرق صوفية، فشحنتها بالأعداد الكثيرة التي أعطتها الدفع اللازم للاستمرار.
ب- فرق صوفية المنشأ والمسير، يعتبرون أنفسهم صوفية حتى الآن، بينما هم غدوا فرقاً متميزة.
ج- فرق صوفية المنشأ، تطورت حتى نسي أهلها منشأهم الصوفي، وصاروا على دين جديد.
د- فرق لم تنشأ فيها طرق صوفية، فاضمحلت وذابت في إحدى الفرق السابقة أو رجعت إلى الإسلام.
هـ- فرق لم يكن للصوفية فيها دور ملحوظ، ورغم ذلك استمرت مسيرتها، لكنها الآن قليلة الأتباع نسبياً، ولعله لا يوجد منها غير فرقتين: الزيدية بفروعها (السليمانية، والصالحية، والجارودية..)، والإباضية، مع ملحوظة هامة هي: لو اعتبرت الزيدية الصالحية والسليمانية (فقط) مذهباً خامساً، والإباضية مذهباً سادساً، لما كان هذا الاعتبار بعيداً عن الواقع، مع اعتراض على الإباضية، لقولهم بتكفير علي بن أبي طالب.
وفيما يلي، نستعرض بإيجاز أبرز الفرق في عصرنا الحاضر، التي لعبت الصوفية دورها في وجودها أو في استمراريتها:
* الإسماعيلية:
يحتاج التوضيح الموجز إلى دور الصوفية فيها إلى صفحات كثيرة، لذلك نكتفي بإيراد بعض أقوال لبعض الباحثين:
يقول عارف تامر، وهو إسماعيلي من السلمية، في تقديمه لقصيدة عامر بن عامر:
...مما لا ريب فيه أن في القصيدة آراء إسماعيلية ظاهرة، وتعابير إسماعيلية باطنية لا تخفى على المطلعين، ولعل هذا يثبت نظريتنا القائلة بأن المدرستين، الإسماعيلية والصوفية، كانتا متلازمتين تتأثران ببعضهما البعض بالنسبة لوقائع الأزمنة والأحوال(1)...
ويقول الدكتور سيد حسين نصر:
__________
(1) أربع رسائل إسماعيلية، في آخر مقدمته على قصيدة عامر بن عامر.(79/230)
فقد كانت هناك بعض الصلات بين التصوف والتشيع- وعلى الأخص بطابعه الإسماعيلي- كما يبدو مما ذكره إخوان الصفا عن التصوف في رسائلهم، وهم إن لم يكونوا حتماً من أصل إسماعيلي، فهم بلا ريب قد نشئوا في وسط شيعي، واقترن ذكرهم فيما بعد بالحركة الإسماعيلية(1)... اهـ.
- وأضيف: إن العقائد والشطحات عند الإسماعيلية بشكل عام، وعند الحسن بن الصباح منذ استيلائه على قلعة (آلَهْ مُوت) في نواحي قزوين سنة 483 هـ، وعند خلفائه، بشكل خاص، سواء في الأقوال أو الأفعال، وكذلك عند سنان راشد الدين الذي استولى على عدة قلاع في الشمال الغربي من الشام، في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وما يذكر عنه من خوارق تدل على قيامه بالرياضة الإشراقية، وتقديسهم لابن عربي وأفعاله، وتبنيهم تفاسيره الإشارية، كل هذا دليل على دور الصوفية في الإسماعيلية.
وهذه كلمة لعالم من علمائهم شهاب الدين بن نصر ذي الجوشن الديلمي المينفي (نسبة إلى المينفة في شمال غربي سورية)، تظهر فيها وحدة الوجود إلى جانب العقيدة الرئيسية عندهم، يقول:
اعلم أيها الأخ البار الرحيم الرشيد، بأن التوحيد هو صفة الموحَّد المجيد، وهو درجة العقل الفعال، وأحد الحقيقة، والمبدَع الأول، وينبوع الوجود، ومصدر العدد، فمنه إشراق أنوار الكلمة العلية، ومبتدأ الوجود، وابتداع المنزه المعبود، والواحد الفرد الصمد، الذي من جوهره وجدت الموجودات، فلزمتها صفة الأعداد والأزواج والأفراد، وإليه عودتها حين المعاد(2)...اهـ.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:134).
(2) أربع رسائل إسماعيلية، رسالة مطالع الشموس في معرفة النفوس، مطلع المرتبة الثانية في التوحيد والتنزيه والتجريد.(79/231)
تبدو العقيدة الإسماعيلية في هذا النص في (العقل الفعال) وأوصافه، وتبدو وحدة الوجود في قوله: (الذي من جوهره وجدت الموجودات...وإليه عودتها حين المعاد. وشطحاتهم في الأقوال والأفعال، التي هي، بطبيعة الحال، تشبه أحوال متعاطي الحشيش، دعت أعداءهم إلى تسميتهم بـ (الحشاشين)، وانتشر الاسم.
والإسماعيلية تنقسم إلى فرقتين رئيسيتين: النزارية أو (الآغاخانية)، والمستعلية أو (البوهرة)، وكانت الشعائر الإسلامية قد ألغيت عند النزارية منذ العقود الأخيرة في الموت، قبل أن يهدمها التتر؛ لكنهم الآن عادوا إلى تطبيقها على المذهب الشافعي، وعسى أن يرتق الله سبحانه بهم بعض الفتق.
* النصيرية:-
مؤسسها أبو شعيب محمد بن نصير النميري (بالولاء)، مات حوالي سنة (270هـ)، وخلفه تلميذه محمد بن جندب، وكانت مدته قصيرة، وكانت الطائفة في زمنهما قليلة، تتألف من بعض الشيعة الذين قبلوا أقوال ابن نصير. وبعد موت محمد بن جندب بعد عام (270هـ) بقليل، خلفه أبو محمد عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني (مات سنة 287هـ)، وكان يقيم في فارس في بلدة (جنبلا)، ولذلك اشتهر أيضاً بـ (الفارسي)، وقد أحدث طريقة صوفية عرفت بـ(الجنبلانية)، وكانت مثل غيرها من الطرق، تجتذب المريدين المخدوعين من سنة وشيعة، وأكثرهم من السنة؛ لأن أهل السنة كانوا يشكلون الأكثرية الساحقة، وكان كل من دخل الطريقة يتحول مباشرة إلى النصيرية اتباعاً لشيخه، وبذلك ازداد أتباع المذهب النصيري ازدياداً كبيراً.
سافر الجنبلاني إلى مصر، حيث انتسب إلى طريقته الحسين بن حمدان الخصيبي الذي صحب الجنبلاني في عودته إلى فارس، ثم خلفه في مشيخة الطريقة وفي الرئاسة الدينية للطائفة، وقد انتقل إلى حلب، وجعلها موطناً له، وانتشرت الطريقة في عهده بسرعة، وخاصة في سنجار، وانتشارها يعني انتشار المذهب النصيري، وقد ساعد على انتشار الطريقة والمذهب طول عمر الخصيبي، الذي عاش حتى سنة (358هـ).(79/232)
ونورد قولاً في هذا الموضوع لمؤرخ نصيري هو محمد أمين غالب الطويل(1)، يقول: كان السيد أبو سعيد سرور (مات سنة 426 هـ)، أكبر مؤلف بين العلويين، وهو آخر شيخ منفرد بالطريقة الجنبلانية التي استحالت بعد ذلك، وتشكل منها شعب العلويين(2)...(العلويون) اسمٌ ثانٍ للنصيرية استحدث زمن الاستعمار الفرنسي، ويسمون أيضاً (العلي إلهيون).
* اليزيدية (عبدة الشيطان):-
وهي في الأصل طريقة صوفية هي الطريقة العدوية، مؤسسها عدي بن مسافر الأموي، من نسل مروان بن الحكم، وقد تتلمذ على عبد القادر الجيلاني.
كانت بلاد سنجار بجبالها ووديانها شبه منعزلة عن العالم، فترعرعت فيها النصيرية الجنبلانية بحرية، حتى استوت، وعندما هاجر منها النصيريون إلى المناطق الشمالية الغربية من سورية عام (620هـ)، خلفهم فيها أتباع الطريقة العدوية، إذ كان مقر عدي بن مسافر هناك، وترعرعت هذه الطريقة بعيداً بعض الشيء عن أعين المسلمين وعلماء الإسلام، وأخذت حريتها الكاملة، ومن الطبيعي أن تظهر بين مشايخها الأمويين وأتباعهم ردود فعل تتناسب شدتها مع شدة غلو النصيرية في شتمهم للأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، وردود الفعل هذه، مضاف إليها طبيعة الصوفية الخاضعة دوماً للكشف وتوجهاته، والذي هو خاضع بدوره لأهواء الشيخ الكامنة في نفسه من جهة، ووسوسات شياطين الجن والإنس من جهة ثانية، ومضاف إليها الجهل الذي تفرضه الصوفية على أتباعها، كل هذا جعل الانحراف المقابل للتشيع يسير بسرعة حتى استوى في مدة وجيزة وظهر الزيغ والضلال في زمن شيخها حسن بن عدي بن صخر بن أبي البركات بن صخر بن مسافر، وصخر بن مسافر هذا هو أخو عدي بن مسافر الذي عمر حتى تجاوز التسعين من عمره.
__________
(1) من أحياء العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي، لم أقف على تاريخ وفاته.
(2) تاريخ العلويين، (ص:264).(79/233)
مات حسن بن عدي سنة (644هـ) مقتولاً على الزندقة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، ولا بد من أن يكون بعض التطور قد حدث بعده في الطريقة.
ولعل النصيرية هم الذي أطلقوا عليهم اسم (اليزيدية) للتشنيع، بينما قبلوه هم لأنهم كانوا يرون فيه شرفاً لا تشنيعاً بسبب أموية شيوخهم، وهذا يعني أن هذا الاسم يجب أن يكون قد انتشر قبل هجرة النصيرية (وهو كذلك).
ولعل مقام الورع الذي تحقق به مشايخهم، وكانوا يحثونهم عليه، هو الذي أوصلهم إلى عبادة الشيطان! فقد كانوا لشدة تحققهم بهذا المقام، يتورعون عن السب واللعن، حتى عن لعن الشيطان (بدلاً من سب الشيطان قل: لا إله إلا الله)، ثم مع مثابرتهم على التمسك بهذا المقام- ولعل عوامل أخرى تدخلت في الموضوع- صاروا يعنفون من يسب الشيطان، ومع الزمن، وزيادة الورع، تحول هذا إلى تقديس الشيطان ثم إلى عبادة له.
* الدرزية:-
تؤمن الدرزية أن الزمن يقسم إلى أكوار، وكل كور إلى أدوار، وأن الله سبحانه يتأنس (يظهر بصورة إنسان) في أول كل دور، وأنه (سبحانه وتعالى) في الدور الأخير من الكور الحالي تأنس بصورة الخليفة الفاطمي (الحاكم).
مؤسس الدرزية هو الحمزة بن علي الزوزني (اختفى سنة 411 هـ بعد اختفاء الحاكم)، ومما ينعت به: علة العلل، العقل الأول، النور الكلي، الجوهر الأزلي، فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، وعنه ظهرت العناصر، ومنه تفرعت الأصول، وبه تنوعت الأجناس، أصل الوجود، قائم الزمان، هادي المستجيبين... ذو معة. وكانت دعوته بدعم مباشر من الحاكم.(79/234)
ويأتي بعده في المرتبة الدينية إسماعيل بن محمد التميمي (النفس الكلية، المشيئة...ذو مصَّة)، ثم محمد بن وهب القرشي (الكلمة...)، ثم سلامة بن عبد الوهاب السامري (السابق، الجناح الأيمن..)، ثم علي بن أحمد السموقي الطائي (التالي، الجناح الأيسر..)، المعروف بلقب بهاء الدين الضيف (اختفى سنة 434هـ/ 1042م)، ومدته في الدعوة أطول من مدة الأربعة مجتمعين. وهؤلاء يدعون (الحدود الخمسة).
تظهر وحدة الوجود واضحة في أوصاف الحمزة بن علي: فيه بدأت الأنوار، ومنه برزت الجواهر، عنه ظهرت العناصر...إلخ، كما تشم منها زاخمة رائحة الكشف والرؤى الكشفية.
وتصف الدكتورة نجلاء عز الدين مؤلفة كتاب: (الدروز في التاريخ) الحاكم بقولها:
...فالحاكم كغيره من الصوفية، خبر المعراج الروحي فغاب بشهوده عن وجوده... يتكلم وكأن الله هو المتكلم، فيقول: وكما سما أناس بحبنا إلى الفناء في ذاتنا، فلولا المحبة لما فنوا ولما وصلوا إلى طريق الارتقاء إلى العالم الأقدس(1) لو رجعنا إلى فصل لا طريقة بدون شيخ، لرأينا التشابه التام بين هذا القول وأقوال مشايخ الصوفية).
وجاء في الرسالة الثالثة عشر من رسائل الحكمة (كتاب الدروز): إن المولى سبحانه لا يدخل تحت الأسماء والصفات واللغات...هو الموجود في الحقيقة ولا غيره موجود(2). (هذا نفس قول الصوفية).
وتقول المؤلفة أيضاً (وهي درزية): إن مذهب الدروز مسلك صوفي عرفاني...فالسالك بعد أن يكون قد ارتاض بالعمل بموجب ظاهر الشريعة وباطنها يصل إلى مرحلة يصبح عندها مهيأً لتقبل الحقيقة دون حاجة إلى شعائر ووسائط...إن ما هو أهم من ظاهر العبادات معناها الحقيقي، وهو الرياضة الروحية...فتصبح النفس مهيأة للمثول أمام خالقها، فتبلغ بنعمة المولى ولطفه مرتبة المشاهدة(3)...
__________
(1) الدروز في التاريخ، (ص:129).
(2) الدروز في التاريخ، (ص:140).
(3) الدروز في التاريخ، (ص:148و 149).(79/235)
وفي ترجمتها للأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي، وهو يلي الحدود الخمسة في المقام (ت:884 هـ/ 1479 م)، تقول: ...فهو (أي: عبد الله التنوخي) ينبوع الخيرات ومعدن البركات...العارف بالله الرباني...سرعان ما انتشرت شهرته كولي من أولياء الله الصالحين(1)...
وتقول: إن كتابات السيد مفعمة بروح صوفية، فقد اتبع خطا الصوفية في الوصول إلى معرفة الله(2)...
ومما تورده من أقواله: ...فمتى قهرت النفس الشهوات أصبحت خاضعة لله، مراقبة لباريها، سائرة إلى معرفته، فيمن عليها الصفاء والإشراق(3)...
وفي كتاب إلى عبد القادر ريان، أحد المريدين، يقول السيد: وقاعدة السعادة في الدين والدنيا أن يستشعر العبد حضور خالقه في سره وطويته وظاهره وباطنه...وتأتي المشاهدة بعد الانصراف عن كل ما هو سوى الله(4).. اهـ.
* النتيجة:
الصوفية وراء الدرزية، وفي الحقيقة، الدرزية الآن هي الإشراق ذاته غير ممزوج بشيء (الخلوة والرياضة حتى الوصول إلى الإشراق)، والنصوص القليلة السابقة واضحة في هذا المدلول، وهم يسمون أنفسهم (الموحدين)، ويسمون مذهبهم (مسلك التوحيد)، ويعنون بذلك نفس المعنى الصوفي، أي: وحدة الوجود. والواصلون منهم يسمون (أعرافاً)، مفردها (عَرْف)، وهو اشتقاق من (العارف)، مع العلم أن هذا (أعراف)، قلما يستعملونه الآن، ويستعملون بدله كلمة (أجاويد)، مفردها (جويِّد).
وهناك دلائل تشير إلى أن الدروز كانوا يقيمون الشعائر الإسلامية حتى زمان متأخر.
* البكطاشية:-
طريقة صوفية في الأصل، وحتى الآن يعتبرها أتباعها طريقة صوفية، رغم أنها صارت مذهباً -بل ديناً- شاذاً عن الإسلام، وقد لا يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، ويرون أنفسهم أهل مذهب خاص.
__________
(1) الدروز في التاريخ، (ص:229).
(2) الدروز في التاريخ، (ص:236).
(3) الدروز في التاريخ، (ص:236).
(4) الدروز في التاريخ، (ص:237).(79/236)
وهذه بعض معالمها كما يذكرها أحمد حامد الصراف (بغدادي) في كتابه (الشبك).
1- البكطاشية طريقة صوفية لا يتيسر الانخراط في سلكها إلا بعد مضي مدة التجربة، وهي ألف يوم ويوم.
2- البكطاشية تتهاون بأداء الفرائض كالصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد.
3- البكطاشي لا يتحرج في شرب الخمرة، فالخمرة شربها مباح.
4- البكطاشي يعترف عند الباب أو البير بما ارتكبه من آثام ويتلقى منه المغفرة.
5- البكطاشي يغالي في الإمام علي، ويرفعه إلى مقام الألوهية(1). اهـ.
والبكطاشية منتشرة في تركيا وشرق أوروبا، ويقال: إن عدد أتباعها في تركيا وحدها يزيد على ثلاثة عشر مليوناً، وكذلك انتشارها في مصر في تزايد مستمر، والبكطاشي شيعي اثناعشري يسمي نفسه سنياً.
ويوم 16 آب هو عيدهم، حيث يجتمع الآلاف منهم بالألبسة الزاهية، يطوفون حول القبر المقدس في نوشهر في تركيا، ويقيمون الرقصات والأذكار الخاصة، وعلى رءوسهم قلنسوات أسطوانية ذات 12 طية، إشارة إلى الأئمة الاثني عشر، أئمة الشيعة، وحركاتهم في الرقص (الحضرة) عنيفة، ويبقى العيد ثلاثة أيام.
* المتاولة:
شيعة الهند وإيران والعراق الجنوبي وجبل عامل (الشرخ الأكبر في جسم الأمة الإسلامية):-
ما كان التتار في غزواتهم حملة عقيدة يسعون إلى نشرها، وما كان غزوهم إلا من أجل العلو أو الانتقام أو النهب) ولمجرد الغزو والفتح، وكانت عقائدهم التي يدينون بها متشعبة وثنية ساذجة تنفر منها الفطرة السليمة.
عندما تصطدم أمة، هذه حالها، بعقيدة واضحة، متلائمة مع الفطرة، مستقيمة مع المنطق، صادقة المنهج، فسرعان ما تستسلم هذه الأمة لهذه العقيدة.
وهذا ما حدث للتتار، فبعد جيل (في مكان)، أو جيلين (في مكان آخر)، أو أكثر بقليل (في مكان ثالث)، أخذ التتار يدخلون في الإسلام زرافات ووحداناً.
__________
(1) الشبك، (ص:47).(79/237)
وبما أن الصوفية كانت واسعة الانتشار جداً، لذلك كان دعاة الإسلام بين التتار خليطاً من مسلمين صحيحي العقيدة ومن متصوفة، مما جعل دخول قسم لا بأس به من التتار إلى الإسلام على أيدي متصوفة، وخاصة من مشايخ الطريقة الرفاعية الذين كانوا يذهلونهم بالخوارق التي يجرونها أمامهم.
وهنا يجب ألا ننسى أن المتصوفة يظهرون الشريعة ويبطنون الحقيقة (حقيقتهم)، فهم عندما كانوا بخوارقهم يجتذبون التتار إلى الإسلام، كانوا يجتذبونهم إلى الشريعة الإسلامية حسب الظاهر، ثم بعد ذلك يجرونهم وراءهم في طريق التصوف.
كما يجب ألا ننسى أبداً أن إبليس ماهر في الحساب، يتقن الجمع والطرح، ويعرف أن العشرة أكثر من الواحد.
ويجب كذلك ألا ننسى أبداً أن إبليس كان يعرف أن التتار ليسوا حملة عقيدة، وأنهم باختلاطهم مع المسلمين سوف يسلمون، إن لم يكن في هذا الجيل، ففي الذي بعده.
وبذلك كان يعرف أن إدخال أعداد من التتار في الإسلام بواسطة المتصوفة لإضلال أضعاف أضعاف أضعافهم، هو عملية مربحة جداً له.
ولذلك كان وجنده يقدمون خدماتهم للمتصوفة بإجراء تلك الخوارق، وبكل تأكيد، كانوا يقدمونها بحماس، مما سبب دخول أعداد من التتار في الإسلام.
زاد بذلك افتتان الناس بالصوفية، وغدا الشيخ الصوفي إلهاً يعبد ويسجد له، وصارت تقدم له الأدعية والنذور والقرابين، ويتبرك حتى ببوله وخرئه، وصارت الطلاسم والأوراد والأحزاب والقبور هي هم المسلم، وكان الجهل هو المساعد الأكبر.
في ذلك الوقت، أي: في النصف الثاني من القرن السابع (بعد الغزو التتاري)، وما بعده، كان للتشيع فرق كثيرة (قليلة الأتباع)، يمكن توزيعها على ثلاث مجموعات هي:
أ- الغلاة: وأبرزهم النصيرية، وكانوا منتشرين في شمالي سورية وفي جيوب صغيرة في العراق وفارس، وكانوا يسمون أيضاً (العلي إلهيون).(79/238)
ب- الأقل غلواً: وأبرزهم الإسماعيلية والزيدية الجارودية، وكانوا منتشرين في البحرين واليمن والشام وفي جيوب في فارس، وكانت الزيدية في فارس أكثر من الإسماعيلية، ولا يعرف لها وجود متميز في الشام.
ج- المعتدلة: وأبرزهم الزيدية الصالحية والسليمانية في فارس والعراق واليمن، وكذلك شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، والحلة وما حولها في العراق، وفي جيوب صغيرة في فارس والشام.
والشيعة المعتدلة هؤلاء كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، لكنهم يفضلون علي بن أبي طالب، ويرونه أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر وعثمان، ويشتمون الأمويين، وخاصة يزيد بن معاوية، ويرون أن الخلافة يجب أن تكون في العلويين، وأن العباسيين مغتصبون لها، وكانوا يتبعون المذاهب السنية في الفقه.
جاء القرن الثامن والتاسع، والمسلمون (ويهمنا هنا البلاد التي اجتاحها المغول) على هذه الحال، ومن البدهي أن يظهر في الشيعة متصوفة، حيث عمل مثقفوهم على الجمع بين التصوف والتشيع، ساعدتهم طبيعة الصوفية بما فيها من باطنية وادعاء النسب لآل البيت، وزعم التسلسل الذي يوصلونه إلى علي بن أبي طالب عن طريق الأئمة الاثني عشر، لكنهم كانوا يبثون عقائدهم هذه بصورة محدودة بين خواصهم وبعض غيرهم، كما ألف بعضهم كتباً في هذا الشأن، أي إنهم لم يؤسسوا طرقاً صوفية ويحاولوا تشييعها، بل اكتفوا بما كانوا يلقونه من دروس ومواعظ ومناقشات، أو بما كانوا يؤلفون من الكتب، منهم:
آل طاوُس: الذين بقيت نقابة الأشراف فيهم عشرات السنين، وكانوا يعدون أولياء ذوي كرامات أحياءً وأمواتاً، حتى لقد صار قبر السيد أحمد بن طاوُس مزاراً مشهوراً، وحتى تحرج العامة والخاصة عن الحلف به كذباً خوفاً(1). وأهمهم.
- نقيب الأشراف رضي الدين علي بن طاوُس، توفي سنة (644هـ)، قبل دخول التتار إلى بغداد.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:113).(79/239)
- وبعده نقيب الأشراف جمال الدين محمد بن طاوُس، توفي بعد سنة (672هـ) بقليل.
- وبعده غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن طاوُس، توفي سنة (693هـ).
ومن غير آل طاوس:
- كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني مات سنة (679هـ).
- عز الدين، أبو الفضل عامر بن عامر البصري، من أحياء العقود الأولى من القرن الثامن، نظم قصيدة سماها (ذات الأنوار)، عدد أبياتها (507) أبيات، وعدد فصولها (12) فصلاً، نظمها سنة (705هـ)، (لنلاحظ أن 5+7=12 وهو عدد الأئمة الإثني عشرية)(1)، وقصيدته هذه التي مطلعها:
تجلى لي المحبوب في كل وجهة ……فشاهدته في كل معنى وصورة
هى التي يعزو عبد الوهاب الشعراني في طبقاته أبياتها الأوائل إلى إبراهيم الدسوقي، وتوحي هذه القصيدة بأن عامر بن عامر إسماعيلي، تصوف في الطريقة البكطاشية، فصار اثني عشرياً إسماعيلياً.
- الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي، تلميذ نصير الدين الطوسي، صاحب كتاب منهاج الكرامة، الذي نقضه ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة)، مات ابن المطهر سنة (727هـ)، وقد تشيع به جماعات كثيرة.
وهناك غيرهم أعداد.
هؤلاء أوجدوا هنا وهناك بؤراً شيعية جديدة أضيفت إلى القديمة، وفي هذه البؤر وجد مشايخ الطرق المتشيعون الذين جاءوا فيما بعد دعاة، كانوا عوامل، إلى جانب الشيخ، في إقناع الأتباع بالتشيع.
ثم جاءت الطرق لتكون العامل الحاسم في تشييع فارس وبعض العراق، وقبل إلقاء نظرة سريعة على أبرزها، نعود لإلقاء نظرة ثانية، وسريعة أيضاً، على مدى سيطرة الصوفية على المجتمعات في ذلك الوقت:
مما يقرره أبو الحسن الندوي ناقلاً، يقول:
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه...
__________
(1) أشار إلى هذه الملاحظه مؤلف الفكر الشيعي والنزعات الصوفية.(79/240)
فطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبراً الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً...وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجد أحدهم في مساجد الله تعالى...
حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذي لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة، خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه. ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض...
ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده...
وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات...ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينة أو قرية فإنهم ببركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه(1)...
ثم يقول أبو الحسن الندوي معلقاً ومبيناً:
__________
(1) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/172، وما بعدها).(79/241)
وكانت النتيجة الحتمية لهذا الإجلال والتعظيم أن تتزايد أهمية المشاهد بإزاء المساجد...فقد انتشرت هذه المشاهد والمزارات في كل ركن من أركان العالم الإسلامي، ووجدت آلاف مؤلفة من القبور المزورة، وتصدى الأمراء والسلاطين لوقف الممتلكات والأراضي الواسعة عليها، وأقيمت عمارات ضخمة وقباب فخمة في أمكنة هذه القبور ومشاهد المشايخ، كما وجدت أمة بأسرها من العاكفين والكناسين والخدم لهذه القبور، ونالت الرحلة إليها كل إعجاب، حتى بدأت تصل قوافل الحجاج إليها من مسافات بعيدة...
إلى أن يقول:
وفي القرنين السابع والثامن، دخلت هذه المشاهد والضرائح في حياة المسلمين الدينية، ونالت عندهم من القبول والمركزية ما جعلها تنافس بيت الله وتتحداه(1)...إلخ.
وهذا تقرير آخر لابن بطوطة (الرحالة) عن تربة أبي إسحاق، إبراهيم بن شهريار الكازروني في كازرون(2)، يقول:
...ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائناً من كان، من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن، وتؤكل بالرقاق، ولا يتركوا الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء والملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة...
وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل الهند، ومن في الصين، ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذروا لأبي إسحاق نذراً، أو كتب كل منهم على نفسه ما نذره...وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير، فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك...اهـ.
__________
(1) رجال الفكر والدعوة في الإسلام: (2/176 - 187).
(2) مدينة إيرانية داخلية تبعد عن أقرب مرفأ إليها على خليج البصرة حوالي مائة كم، وهو بندر ريك.(79/242)
- أقول: في هذه النصوص كفاية وفوق الكفاية بكثير، لنعرف مدى سيطرة الصوفية، ومدى تأثير المشايخ على العقول، والكتاب كله براهين من أقوالهم على عقائدهم هذه التي يؤمنون بها كلهم ويكتمها الكمل منهم، ويظهرون الشريعة.
وهذه ملحة إضافية من أناشيدهم على لسان شيوخهم:
وأنا صرخت في العرش حتى ضج
وأنا حملت على علي حتى هج
وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج
في هذا المحيط، أخذت الطرق الصوفية تعمل عملها، والبارزة من هذه الطرق هي:
الصفوية:
التي لعبت في هذا المضمار دورين: دورا تأسيسياً في مراحلها الأولى، ثم الدور الحاسم في مراحلها الأخيرة.
مؤسسها هو صفي الدين إسحاق بن أمين الدين جبرائيل الأردبيلي، والظاهر أنه تركي الأصل؛ لكنه مع ذلك من سلالة الحسن أو الحسين (الشك من ابنه)، ولد صفي الدين سنة (650هـ)، ومات سنة (735هـ) على الأرجح، أخذ الطريقة (لعلها القادرية) عن الشيخ إبراهيم الزاهد الكيلاني المتوفى سنة (700هـ) في كيلان، ثم أسس طريقته التي انتشرت في أردبيل وقزوين وما حولهما، وتسربت إلى غيرها من البلدان القريبة.
كان أتباعها يتحولون إلى شيعة (معتدلة) بسبب تشيع شيوخهم ونسبهم العلوي (المدعى)، ودعوتهم إياهم إلى التشيع؛ لأن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان أتباعه قبل الشروع بالحضرة يسجدون له، ثم يتابعون حضرتهم، وهي من الجالسة الصائتة، وقد أخذت الطريقة النعمتللاهية هذا التقليد عن الصفوية(1).
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:249).(79/243)
السنية السعدية: مؤسسها سعد الدين محمد بن المؤيد...بن حمويه، مات في خراسان سنة (650هـ-1252م)، لقبوه بـ (يسعى العجم)، شيعي من تلاميذ ابن عربي (الشيخ الأكبر)، أسس طريقته في دمشق، ثم انتقل إلى خراسان لينشرها هناك. و(يسعى العجم) هذا هو خاتم الأولياء، الذي هو معاد النبي، ومغرب جميع الأنوار المنتشرة في العلويات والسفليات...وهو مظهر قيام الساعة، يعني: قيام نفس الولاية التي تعم الإلهية، وكان (يسعى العجم) هذا يمثل العلم الإلهي المتسلسل من آدم إلى محمد ومندمجاً على ثمرة (تعليم الأسماء وعلم البيان)(1)...
ويسعى العجم هذا نزلت عليه سكينة الله فصار بها حياً باقياً خالداً دائماً في هذه الدار، وأعطاه السلام مفاتيح الغيب...وهكذا صار (يسعى العجم) إنساناً إلهياً لا يختلف عن الله حتى في الخلود(2)..اهـ.
- أقول: ما على القارئ إلا أن يتخيل رجلاً هذه صفاته التي يؤمن بها أتباعه وغيرهم، وهو شيعي يدعوهم إلى التشيع! فهل يمكن أن يوجد في هؤلاء الأتباع من لا يستجيب له؟ وهكذا انتشر التشيع في شرقي إيران، وإن كان انتشاراً محدوداً؛ لأن انتشار الطريقة السنية السعدية لم يكن واسعاً مثل الصفوية مثلاً، ويجب ألا ننسى أن شيخ يسعى العجم، الذي هو محيي الدين بن عربي، كان شيعياً أيضاً(3)، ويجعله الإسماعيلية من أئمتهم.
الحروفية: مؤسسها فضل الله بن عبد الرحمن الحسيني الاستراباذي، شيعي كان يتنقل بين مدن فارس، قتله ميران شاه بن تيمورلنك سنة (804هـ)، له ثلاثة كتب مقدسة: الجاردان نامة، أي: كتاب الخلود، ومحبة نامة، وعرش نامة، والأخيران شعر.
كان الجاردان نامة يدرس سراً، ولخليفته الثاني (علي الأعلى) شرح عليه.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:208).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:209).
(3) ميزان الاعتدال للذهبي في ترجمة ابن عربي.(79/244)
في سنة (786هـ-1384م)، أعلن فضل الله مهديته (مهدي السنة طبعاً) بين أخصائه، وتلقى البيعة سراً(1)...وكانت دعوته مبنية على أنه خليفة الله كآدم وعيسى ومحمد، اجتمعت فيه مُثُل الصوفية والشيعة لإنقاذ العالم بالدم، فكان مهدياً وختماً للأولياء ونبياً وإلهاً في وقت واحد(2).
وبدهي أن يتبع الأتباع شيخهم بالتشيع، لأن المريد يجب أن يكون بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل. وطبعاً، كان الجهل أكبر مساعد.
ومما يجدر ذكره أن علم الحروف، رغم كونه من مستلزمات الكهانة أو (الصوفية؛ لا فرق) في جميع حالاتها، إلا أنه كان مقتصراً على الشيوخ والعارفين، حتى جاءت الحروفية فعممته، وصار علم الحروف (السحر) حرفة ووسيلة لتسخير الطبيعة، بقطع النظر عن كون المستخدم لها براً أو فاجراً، وانشغل الصوفية (وغيرهم) به لرسم الهياكل والطلاسم(3)...والمحبة والقبول والشفاء من الأمراض وغيرها...
ورغم أن الطريقة الحروفية اندثرت باندماجها في البكطاشية فيما بعد؛ إلا أنها تركت أثرها الحروفي في كل الطرق، وبالتالي في الأمة جمعاء، إلا من رحم ربك، وهكذا صار علم الحروف (السحر) من المظاهر البارزة في ثقافة الأمة جمعاء، إلى جانب القبوريات وخوارق المشايخ وتغريبة بني هلال وقصة سيف بن ذي يزن، وكذلك ظهر أثرها بعد زمن في الشيخية، ثم في البابية والبهائية.
الهمدانية:
مؤسسها علي بن الشهاب الهمداني، شيعي فارسي تخرج بالكبروية، وكاد أكثر مريديه من السنة الذين تشيعوا اتباعاً لشيخهم، وكان الجهل أكبر مساعد، مات علي الهمداني سنة (786هـ)، وسار خلفاؤه على نهجه بتشييع أتباعهم على النفس الطويل، وفي الهمدانية تخرج نور بخش.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:181).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:182).
(3) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:197).(79/245)
في هذه العقود -أي: النصف الثاني من القرن الثامن- ظهر أيضاً كتاب من الشيعة المتصوفة دعوا إلى الجمع بين التصوف والتشيع، لعل أشهرهم: بهاء الدين، حيدر بن علي العبيدي الآملي، مات بعد سنة (794هـ)، له كتاب كان مشهوراً، اسمه (جامع الأسرار ومنبع الأنوار في أن عقائد الصوفية موافقة لمذهب الإمامية الإثني عشرية)، وله كتاب في التصوف اسمه: (نص النصوص في شرح الفصوص)، أي: شرح (فصوص الحكم لابن عربي. وبهاء الدين هذا من أتباع الطريقة الأكبرية العربية الحاتمية(1).
- ومن الظواهر البارزة في هذه العقود، تيمورلنك والحركة التيمورلنكية، ننقل جملة موجزة عنه من (الفكر الشيعي والنزعات الصوفية):
... فقد بدأ تيمور علاقاته الشخصية بالصوفية...اتصل في مطلع شبابه في (كش) بالشيخ شمس الدين الفاخوري، وفي خراسان بالشيخ أبي بكر الخوافي (ت: 838 هـ)، ولما ارتفع نجم تيمور غلب عليه السيد محمد بركة (ت: 804)، ولهذا روي عنه أنه كان يقول: جميع ما نلته بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخوري، وهمة الشيخ زين الدين الخوافي والسيد محمد بركة. يضاف إلى هذا أن تيمور كان يزور الصوفية ويكرمهم أينما حل، ويزور قبور شيوخهم، حتى إنه لما فتح العراق، قصد إلى واسط، ليزور قبر السيد أحمد الرفاعي. وفي مقابل هذا كان الصوفية يدعون لتيمور ويؤيدونه، وبخاصة أنه لبس الخرقة منهم، فصار بذلك واحداً منهم، واعتبرت أعماله كرامات صوفية، وصار مظهر تجليات الحق الجمالية والجلالية، ووصفت أعماله كلها بصدورها عن الإلهام الإلهي والهاتف السماوي وأنباء الغيب(2).... اهـ.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:135).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:168، 169).(79/246)
كان تيمورلنك سني المذهب، نشأ في مجتمع سني على مذهب أبي حنيفة، وقد قاده تصوفه إلى التفاعل الكامل مع الطريقة الصفوية الشيعية، فعندما اتصل بشيخها صدر الدين موسى (ت: 794 هـ) ابن صفي الدين وخليفته، أقطعه مدينة أردبيل وما حولها، فصار صدر الدين الحاكم الفعلي لأردبيل، بالإضافة إلى سلطته الصوفية المؤلهة، كما وهب ابنه وخليفته (علاء الدين علي) الأسرى الذين وقعوا في قبضته في حروبه في بلاد الروم(1) سنة (804هـ-1401-1402م)، فسموا (الصوفية الرومللو). بينما نرى تيمورلنك هذا يجتهد في محاربة أهل السنة، وعندما ينتصر عليهم يعاملهم بقسوة بالغة، وخاصة دمشق التي أبادها إبادة كاملة، بحجة أن أهلها شاركوا في مقتل علي والحسين رضي الله عنهما، وأنهم من أتباع الأمويين.
يقول كامل مصطفى الشيبي:
جمع تيمورلنك بين العاطفة الشيعية والفقه السني.
ويقول: كان من الطبيعي أن تظهر في عهد تيمور حركات شيعية غالية، وذلك لغلبة التصوف وارتفاع شأن العلويين(2).
ويحسن أن نذكر هنا أن (خدابندة) خليفة قازان، تشيع وأعلن التشيع في جميع مملكته، لكن ذلك لم يجد شيئاً لندرة دعاة الشيعة في بلاده آنذاك؛ ولأن العقيدة لا يمكن أن تفرض بمرسوم يصدر عن الحاكم؛ ولأن هذا الإعلان دفع دعاة السنة إلى النشاط في الدفاع عن الإسلام، مات خدابندة (716هـ-1316م).
وفي القرن التاسع الهجري ظهرت الطرق التي كان لها الدور الحاسم والنهائي في تحويل الفرس إلى شيعة، هذه الطرق هي: النوربخشية، المشعشعية، النعمتللاهية، ثم الصفوية في دورها الثاني.
قبل إلقاء نظرة سريعة على هذه الطرق، لا بأس من قراءة تضاف إلى ما سبق لبعض ما يقوله الباحثون في وصف الظروف التي كانت تعيشها المجتمعات المسلمة في فارس وغيرها، يقول (الشيبي):
__________
(1) كانوا يطلقون على تركيا اسم (بلاد الروم)، والأسرى المذكورون كلهم مسلمون سنيون أتراك.
(2) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:173).(79/247)
...لقد كانت روح اليأس والشعور بالضعف تملأ المجتمع الإسلامي في هذه الفترة إلى حد أن السلاطين الذين كان بيدهم زمام الأمور، جعلوا وسيلتهم إلى تحقيق مطامعهم اللجوء إلى الطلاسم والأدعية على طريقة البوني(1). وكان من انتشار هذا الميل بين الناس أن انتصار (شاهرخ) على قرا يوسف في سنة (828هـ-1420م) نسب إلى تلاوة القراء لسورة الفتح اثني عشر ألف مرة، ومن هنا جعل المصنفون يتجهون إلى هذا النوع من المعرفة، ويسجلون ما مر بهم من حوادث مماثلة، ليجعلوا من هذا التصرف علماً قائماً بذاته، ومن أمثال ذلك ما فعله (الغياثي) المعاصر لابن فلاح من تعليل قتل (بير بودان) سنة (870هـ-1466م) بكونه من تأثير القران الثاني بالسرطان، وقتل (جهانشاه) هازم (بير بودان) سنة 872هـ تحقيقاً لنبوءة القرآن في قوله: ((غُلِبَتِ الرُّومُ)) [الروم:2]، باعتبار هذه السنة تقابل قيمة ((بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:4](2)القرآنية الواردة في هذه السورة، وهزيمة جهانشاه على يد حسن بك بقول عبد الرحمن البسطامي (من الحروفيين): إذا زاد الجيم في الطغيان فمعه ميم ابن عثمان. وقد قرنت الأحداث التي تمت على يد المشعشعين بقرانات مثل هذه أيضاً...ومن هنا كان في إمكان الإنسان أن يستكنه المستقبل عن طريق التعمق في دراسة أسرار القرآن والاجتهاد في تنمية قوة الكشف النفسية، مع معين من العلم بالأعداد والحروف وتجمعات النجوم ودلالاتها. وكان من الطبيعي في ظروف مثل هذه أن ترتفع مكانة الكرامات الصوفية التي تطورت إلى مسائل عملية تذهل الناس وتستأثر باهتمامهم، وبذلك سمت مكانة الصوفي الاجتماعية...اهـ.
__________
(1) أحمد بن علي البوني في كتابه (شمس المعارف الكبرى).
(2) كلمة (بضع) فقط هي التي تطابق (872) بحساب (الجمّل الكبير).(79/248)
- إذن، ففي مثل هذه الأرضية الاجتماعية، كان باستطاعة الشيخ الصوفي أن يحرك أتباعه كما يريد، وأن يجعلهم يعتقدون ما يريد، وأن يقدموا له أموالهم وأرواحهم وأبناءهم ونساءهم رخيصة لا يبتغون في ذلك شيئاً إلا رضا الشيخ على أنه رضا الله.
لكن، رغم كل هذه التطورات، بقيت نسبة السنة أكثر من نسبة الشيعة في فارس، حتى جاءت الطرق التي كانت الحاسمة في الموضوع. وهي:
النوربخشية:
مؤسسها واهب الأنوار (نور بخش)، مات سنة (869هـ*، شيعي كان يعلن أن همه هو الجمع بين التصوف والتشيع(1)، أخبره كشفه أنه المهدي المنتظر (لم تكن خرافة محمد بن الحسن العسكري قد انتشرت بعد)(2)، وساعده في ذلك اسمه (محمد بن عبد الله)، وسمى ابنه (القاسم)، فصار: (أبا القاسم محمد بن عبد الله)، كما عرف عن طريق الكشف أنه من سلالة فاطمة الزهراء، انتشرت طريقته انتشاراً واسعاً بسبب الخوارق التي كانت تجري على يديه، وبسبب مهديته وعلويته، وبسبب الظروف الاجتماعية المؤاتية، وكان أكثر أتباعه من السنة الذين تشيعوا انقياداً وراء شيخهم، إذ المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وكان الجهل أكبر مساعد، وقد انتشرت النوربخشية في أواسط إيران وجنوبها وبعض شمالها. ولقد حاول نور بخش الانقضاض على الملك، حيث بدأ حركته (826هـ-1423م) في كوه تيري من قلاع ختلان، وكان أنصاره يلقبونه ألقاباً كثيرة، منها: الإمام والخليفه على كافة المسلمين(3)، لكنه
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم (ص:137).
(2) المهدي عند الشيعة الآن هو محمد بن الحسن العسكري، مع العلم أن الحسن العسكري توفي دون أن ينجب، ومحمد المزعوم هذا غائب في مغارة سامراء منذ (ألف ومائة وخمسين سنة) وهم ينتظرون خروجه ليحكم بأحكام داوُد ولا يُسْأل عما يفعل، ويستوزر (سبعة وعشرين) من قوم موسى، ويحيي الله له الصحابة والخلفاء فيقتلهم وعلى رأسهم أبو بكر وعمر.
(3) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:335).(79/249)
فشل، بسبب انشقاق قسم من أتباعه، وانضمامهم إلى الطريقة الهمدانية، وشيخها آنذاك (عبد الله المشهدي)، خصم نور بخش، وهنا يظهر دور الهمدانية بالتشييع على النفس الطويل.
وبعد أن استولى الصفويون على ملك إيران بمدة، هرب شيخ النوربخشية آنذاك (طاهر بن رضا الإسماعيلي القزويني) ومعه جمع من أتباعه إلى الهند، حيث نشر هناك في ولاية (أحمد نكر) الطريقة والتشيع، وكذلك في كشمير، بجهود مير شمس العراقي، الذي يقال: إنه أدخل (34) ألفاً من الهنادكة في النوربخشية (الشيعية طبعاً)(1).
المشعشعية:
ظروفها تشبه ظروف النوربخشية، فقد كان مؤسسها محمد بن فلاح شيعياً، أخبره الكشف أنه من آل البيت، وأنه المهدي المنتظر (مهدي السنة طبعاً)، وكان معاصراً لنور بخش، كثر أتباعه بسبب مهديته ونسبه (المدَّعى)، وخوارقه (التشعشع)، وكان أكثر أتباعه في الأصل من السنة الذين تحولوا إلى شيعة اتباعاً لشيخهم، حتى استطاع أن يؤسس بهم دولة في خوزستان، عاصمتها (الحويزة)، عرفت بالدولة المشعشعية.
يقول المؤرخون لهذه الحركة:
"...يبدو أنهم (المشعشعين) كانوا في حروبهم واقعين تحت تأثير قوة شيخهم المغناطيسية، فلم يكونوا يشعرون بما حولهم، بل كانوا يقدمون على خوض المعارك في حال من الذهول والغيبة عن الحس(2).
ويقولون: وينبغي أن نتذكر أن حركة المشعشعين قامت في بدئها على التصوف، حتى وصف محمد بن فلاح بأنه كان جامعاً بين المعقول والمنقول، وصوفياً صاحب رياضة ومكاشفة وتصوف، وأنه انتقل من التصوف إلى التشيع فشكله بأشكال شيعية(3).
__________
(1) الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:38).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:318).
(3) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:327).(79/250)
- أقول: لقد كان شيعياً قبل تصوفه، تشيع على يد أستاذه وأبي زوجته الشيخ أحمد بن فهد الحلي، وقد تخاصما فيما بعد، وذهب محمد بن فلاح إلى القبائل التي كانت تسكن قرب واسط، وأفتى ابن فهد بقتله، وأرسل رسولاً إلى أمير القبائل التي كان ابن فلاح بينها، يطلب إليه القبض عليه، فلم ينقذ ابن فلاح إلا قسمه بأنه سني صوفي، وبأن ابن فهد وأتباعه شيعة ومن أعدائه(1).
إن هذه الحادثة تظهر أن التشيع في جنوب العراق والغرب الأوسط من إيران كان حتى ذلك الوقت مستهجناً، وكانت الأكثرية الساحقة من السنة.
بعد هذه الحادثة انتقل ابن فلاح إلى خوزستان، وهناك أسس طريقته الصوفية وشيَّع أتباعه، ثم أعلن مهديته (840هـ)، وجمع أموالاً كثيرة من قطع الطرق على الحجاج وغيرهم، ثم أعلن نفسه ملكاً، وبقيت مملكته حتى اجتاحها الصفيون.
النعمتللاهية: مؤسسها نعمة الله الولي، من إحدى قرى حلب، سني حنفي المذهب، تخرج بالطريقة الشاذلية، انتقل إلى فارس، وهناك أسس طريقته، حيث تأثر بجو التشيع الزاحف، فصار شيعياً، وهنا أعيد القول أيضاً، بأن هذا التشيع الزاحف كان من التشيع المعتدل، أي إنهم كانوا يرون أن الخلافة يجب أن تكون في البيت العلوي، وكانوا يشتمون الأمويين، وكانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا معاوية، وينتهجون المذاهب السنية في الفقه، هكذا كان تشيع المتشيعين في إيران في ذلك الوقت، وتحول نعمة الله إلى التشيع يعني أنه صار يرى الخلافة محصورة في آل البيت العلوي، وصار يشتم الأمويين، وبقي يسمي نفسه سنياً، أي: إن الفرق بينه وبين المتشيعة في ذلك الوقت في إيران، كان هو الاسم فقط، أما المضمون فكان واحداً.
__________
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:304).(79/251)
ومثل غيره من الأولياء أخبره الكشف أنه من سلالة علي بن أبي طالب، وأن أئمة الشيعة هم أجداده، وأسس طريقته وهي (جالسة صائتة)، حيث كان المريدون قبل الشروع في الذكر يسجدون له، ثم يضعون اليد اليمنى على الركبة اليسرى، واليد اليسرى على الركبة اليمنى، ويرددون (لا إله إلا الله)، مائلين بأجسامهم من اليسار إلى اليمين مع الناي والدف.
وهؤلاء المريدون الذين يسجدون لشيخهم (وكل الصوفية كذلك وإن أخفوها تقية)، تحولوا إلى عقيدة شيخهم، أي: صاروا شيعة يسمون أنفسهم سنة، وطبعاً أمر هذا الاسم هين في مثل تلك الظروف.
وهكذا جاءت النعمتللاهية لتشيع من شرد على الطرق التي كانت تعلن التشيع، لقد شيعت أتباعها وشيعت عواطفهم وأبقت اسم السنة عليهم.
- لم ينتصف القرن التاسع حتى كان الفرس قد دخلوا في التشيع عن طريق الصوفية، وإن كان بعضهم ما زال يسمي نفسه سنياً، وكانوا كلهم- إلا النادر- من الشيعة المعتدلة، الذين كانوا يحترمون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعون المذاهب السنية، حتى جاءت الصفوية في مرحلتها الثانية التي كانت حاسمة في هذا الموضوع.
الصفوية في مرحلتها الثانية: توسعت كثيراً، وزاد أتباعها بازدياد الإقبال عليها، ودعم موقف تيمورلنك وجماعته التقديسي لها ولشيوخها (ويجب أن ننتبه هنا إلى أن موقف تيمورلنك كان امتداداً للقناعات الفكرية المنتشرة في مجتمعه، وأنه، بصفته حاكماً، كان نتيجة، أو انبثاقاً لها)، وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع، في زمن شيخها حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن علي بن صدر الدين موسى بن صفي الدين (توفي سنة 893 هـ) بلغت قمة قوتها، حتى استطاع إسماعيل بن حيدر وهو في الرابعة عشرة من عمره أن يؤلف جيشاً من أتباع أبيه يسيطر به على إيران كلها، ثم أعلن نفسه ملكاً على إيران سنة (905هـ).(79/252)
ولنستمع في ذلك إلى محمد جواد مغنية، يقول: ...هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهو أول ملوك الصفوية ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا بلقب (سلطان)، وما إن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين العديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل..."(1). اهـ.
ويقول كامل مصطفى الشيبي:
...وسنرى أن فقهاء الشيعة في إيران كانوا من القلة بحيث اضطر الصفويون إلى استقدام فقهاء الشام ليساعدوا في نشر التشيع في بلادهم، وتنظيم الدولة على أساس منه...(2). اهـ.
- نقول: في الواقع كان التشيع قد عم كل إيران، ولكنه كان تشيعاً معتدلاً ينتهج المذاهب الفقهية السنية، فاستقدم الصفويون فقهاء الشيعة من الشام، وكانوا نصيريين، ولعل فيهم فقهاء من شيعة جبل عامل (المتاولة)، إذ الفقه الشيعي كان محصوراً يبن هؤلاء وبين الإسماعيلية، على اختلاف بينهما في الأصول والفروع، ولعل متاولة جبل عامل كانوا قد دخلوا في الغلو قبل ذلك.
جاء فقهاء الشيعة الشاميون إلى فارس، ليفقهوا الشيعة بفقه الشيعة، وطبعاً، في تلك الظروف، (بجميع جوانبها) يجب أن يحدث تفاعل وتداخل وتوازن بين الفقه النصيري وجوانب من فقه الإسماعيلية الذين كان لهم وجود، والفقه السني الذي تنتهجه غالبية الشيعة، وكان علماؤه قليلين، وعلمهم ضحلاً بسبب الصوفية.
تعلم الشيعة في فارس والعراق فقه الشيعة، وصاروا كلهم من الغلاة، وإن استمروا على تسمية أنفسهم من (المعتدلين)، يقول آية الله المامقاني(3)، أكبر علمائهم في الجرح والتعديل:
__________
(1) الشيعة في الميزان،) (ص:175).
(2) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، (ص:338).
(3) محمد حسن بن عبد الله المامقاني، توفي في النجف سنة (1323هـ-1905م).(79/253)
إن ما كان به الغلاة الأقدمون غلاة، أصبح الآن عند جميع الشيعة الإمامية من ضروريات المذهب(1).
ويورد السيد عبد الله بن الحسين السويدي العباسي(2) نصاً عن سجل لنادر شاه (ملك إيران)، قرئ يوم الخميس (25 شوال 1156هـ)، يقول: ...ولم يكن في نواحي إيران ولا في أطرافها سب (أي: سب الشيخين والصحابة)، ولا شيء من هذه الأمور الفظيعة، وإنما حدثت أيام الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي...(3).
ومن الطبيعي أن يظهر في المذهب الجديد علماء، وككل عقيدة جديدة تظهر على مسرح الوجود، يكون أتباعها متحمسين لنشرها باندفاع بالغ، كذلك كان علماء المذهب الجديد ودعاته، انتشروا للدعوة لمذهبهم الجديد، وخاصة بين الشيعة الغلاة والمعتدلة، ومع الزمن والمثابرة على الدعوة تحول القرامطة الذين كانوا يسكنون الشواطئ العربية من خليج البصرة، وكذلك شيعة بلاد الشام، وكثير من الإسماعيلية والفرق الشيعية الأخرى (باستثناء الفرق في اليمن) إلى المذهب الجديد؛ مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية التي صارت من الغلاة، مع العلم أن أكثر متاولة الهند تحولوا من الهندوسية أو من السنة بعد ذلك.
وكان اسم (المتاولة)، ولم يزل يطلق على شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، بينما غالبية الشيعة في العراق وإيران والهند لا يسمون أنفسهم هذا الاسم، وإنما شيعة إمامية إثني عشرية، علماً بأن مذهب الجميع واحد بكل أصوله وفروعه ومراجعه.
وهكذا أحدث التصوف فيما أحدثه من تدمير، أكبر شرخ في جسم الأمة الإسلامية كان من الأسباب الواضحة في ضعفها واندحارها.
__________
(1) الخطوط العريضة،) (ص:42).
(2) عالم بغدادي متوفى سنة (1174هـ-1761م).
(3) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب الخطوط العريضة، (ص:97).(79/254)
وقد احتاجت عملية التحويل هذه إلى قرنين ونصف من الزمن، كانت الصوفية خلالها تعمل بدأب واستمرار، والمسلمون وفقهاؤهم في غفلة مستسلمون بحجة حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين، وكأن حب آل البيت وإحسان الظن بالمسلمين يمنع من وجوب معرفة الحق والأمر به، وتمييز الباطل والنهي عنه، على أن العامل المسبب لهذه الغفلة وهذا الاستسلام هو التصوف ذاته، وما بث من عقائد وفرض من جهل طيلة قرون.
ومن آثار الفقه النصيري البارزة في المذهب الجديد، سب أبي بكر وعمر، وتكفير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأليه الأئمة الاثني عشر، والعصمة، والبداء، والتقية، والرجعة (أي: خرافة مهديهم محمد بن الحسن العسكري الغائب في مغارة سامراء، منذ حوالي اثني عشر قرناً، وهم ينتظرون خروجه)، وقد رأينا أسلافهم، نور بخش والمشعشع والآخرين، كيف كانوا يدعون المهدوية السنِّية؛ لأن محمد بن الحسن العسكري لم يكن معروفاً لا هو ولا رجعته إلا عند النصيرية وعند بعض من كان قد تأثر بهم قبل ذلك. وكان أول المتأثرين بالفقهاء النصيرية الوافدين هم أتباع الطريقة الصفوية المباشرون؛ لأنهم كانوا أول من يستقبل أولئك الفقهاء وأول من يأخذ عنهم، وكانوا يبقون فيهم أكثر من البقاء في غيرهم من الإيرانيين، لذلك انقلب أتباع الطريقة الصفوية إلى النصيرية بكل ما فيها من عجر وبجر.
صار أتباع الطريقة الصفوية في عهد إسماعيل بن حيدر، وبناء على أوامره أو أوامر أبيه، يلبسون طرابيش حمراً، فأطلق عليهم اسم (قزلباش)، أي: الرءوس الحمر، وبانتهاجهم منهج النصيرية، شكلوا فرقة جديدة في الأمة الإسلامية، معروفة الآن باسم (القزلباشية) التي سنراها فيما يأتي.(79/255)
ولعل من المفيد أن نذكر أن نادر شاه (ت: 1160هـ/ 1747م) أراد أن يعيد الشيعة إلى التشيع المعتدل ثم إلى السنة بقوة الحكم، فأصدر مرسوماً يقول فيه من جملة ما يقول: ...فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم (أي: الخلفاء الراشدين) وخلافتهم على هذا الترتيب، فمن سبهم أو انتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاه، وعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين، وكنت شرطت عليكم حين المبايعة في صحراء مغان عام (1148) رفع السب، فالآن رفعته، فمن سب قتلته وأسرت أولاده وعياله وأخذت أمواله...(1). اهـ.
ولكن كما قلنا، إن العقيدة لا يمكن أن تفرض من الحاكم، ولذلك لم تُجْدِ محاولة نادر شاه شيئاً، وبالعكس، فقد اغتاله قواده بعد حوالي أربع سنوات، وبقي الغلو.
ولو استغل دعاة الإسلام وفقهاء السنة هذا الظرف، وانتشروا بين الشيعة يدعون إلى طريق الحق، لتركوا آثاراً ظاهرة قد تكون سبباً في تغيير تاريخ الأمة الإسلامية. وهكذا كانت الصوفية وراء أكبر شرخ في جسم الأمة، وكذلك كانت وراء الفرق الأخرى التي منها:
* القزلباشية:-
يصفها أحمد حامد الصراف كما يلي: القزلباشية فرقة دينية منتشرة في بر الأناضول، وهي تعتبر شيعية المذهب في نظر المسلمين، وهي تقارب كل المقاربة نصيرية سورية، وهم يسمون أنفسهم (العلوية)... وهم يخالفون المسلمين بأمور منها: أنهم لا يحلقون رءوسهم... ولا يصلون الصلوات الخمس، ولا يتوضئون، ويكرعون الخمر، ولا يحافظون على صوم شهر رمضان، ويصومون اثني عشر يوماً من الأيام الأولى من المحرم، ويندبون الحسن والحسين... وعندهم أن علياً تجسد فيه الآله(2)...
ويقول عنهم أيضاً: القزلباشية في بدء نشأتها كانت تسمى (الصفوية) نسبة إلى قطب الأقطاب صفي الدين إسحاق الأردبيلي... وهو الجد السادس للشاه إسماعيل الصفوي(3)...اهـ.
__________
(1) مؤتمر النجف، ملحق بكتاب (الخطوط العريضة)، (ص:96).
(2) الشبك، (ص:243).
(3) الشبك، (ص:48).(79/256)
وقد رأينا قبل قليل كيف تم التحول من الصفوية إلى القزلباشية، ولها وجود في أفغانستان أيضاً.
* الروشنائية:-
نسبة إلى (بير روش)، أي: الشيخ المنوّر، بايزيد بن عبد الله، ولد عام (931هـ)، يقول المترجمون له: صحب اليوغيين، وبدأ يرى رؤى ويسمع أصواتاً تناديه من وراء الغيب، فاشتغل بالذكر الخفي، ثم استغرق في ورد الاسم الأعظم، فلما بلغ الحادية والأربعين من عمره هتف به هاتف من السماء، أنه لم يعد في حاجة إلى الطهارة الشرعية، وينبغي له أن يصلي صلاة الأنبياء بدل صلاة المسلمين... وانصرف إلى الرياضة الأربعينية... وتعاليمه التي وردت في كتابه (صراط التوحيد) يظهر عليها أثر التعاليم الصوفية الغالية.
مات بير روش سنة (980هـ) بعد أن انتشرت طريقته أو (فرقته) انتشاراً واسعاً في الهند، ثم أخذت تتقلص بعده حتى انقرضت(1) لننتبه أن كلمة (روش) تحمل نفس معنى كلمة (بوذا) أي: المستنير. وكان وأتباعه يصرحون بوحدة الوجود (أي: من أهل الوحدة المطلقة).
* المهدوية:-
مؤسسها محمد بن يوسف الجونبوري الذي نشأ في أواخر المائة التاسعة ببلدة جونبور في الهند، وادعى أنه المهدي، وكان أزهد الناس وأورعهم.
من معتقدات المهدوية أن السيد محمد بن يوسف الجونبوري، مهدي موعود، وأنه أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، بل إنه أفضل من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام، وأنه مساوٍ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المنزلة، وإن كان تابعاً له في المذهب، وأنه ومحمد صلى الله عليه وسلم كلاهما مسلم كامل وسائر الأنبياء ناقصو الإسلام، وأنه شريك في بعض الصفات الإلهية، بعد فوزه بمنصب الرسالة والنبوة...
انتشر هذا المذهب في غجرات والدكن من بلاد الهند، ومما وصف به هذا المهدي: إنه كان صاحب المقامات العالية، ذا كشوف وكرامات.
__________
(1) الإمام السرهندي، (ص:42، وما بعدها).(79/257)
ومن أقوال المنتقدين له: إنه كان كذلك، ولكنه أخطأ في دعواه لوقوع الخطأ في الكشف.
ومن أقوال أحد علمائهم وهو الشيخ غلاب بن عبد الله المهدوي: إن للمهدوية أصولاً وفروعاً، الأول منها التوبة...والعمل الصالح و.. ودوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس...(1)...اهـ.
وهكذا يتضح دور الصوفية، فقد كان محمد بن يوسف الجونبوري صاحب مقامات وكشوف، وشاهد بالكشف ما ألقاه إلى مريديه...ومن أصولهم دوام الذكر على طريقة حفظ الأنفاس...وللعلم: حفظ الأنفاس حسب إيقاع معين هو أحد أساليب الرياضة الإشراقية التي توصل إلى الجذبة.
* القاديانية:-
مؤسسها الميرزا غلام أحمد القادياني (نسبة إلى بلدة قاديان)، مات سنة (1908م)، صوفي أخبره الكشف أنه مكلف من الله تعالى بإصلاح الخلق على نهج المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وقد صرح أن له إلهام ومكاشفات. ومن مكاشفاته:
- روح المسيح حلت فيه.
- ما يلهمه هو كلام الله كالقرآن الكريم والتوراة والإنجيل.
- المسيح (الذي هو هو) سينزل في قاديان.
- قاديان هي البلدة المقدسة الثالثة المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى.
- الحج إليها فريضة.
- أوحي إليه بآيات تربو على عشرة آلاف آية.
- من يكفر به فهو كافر.
- القرآن ومحمد وسائر الأنبياء قبله قد شهدوا له بالنبوة وعينوا زمن بعثته ومكانها. اهـ.
ومن أقواله التي تثبت صوفيته، وأن ما جاء به كان من الكشف، قوله:
...وإني ما قلت للناس سوى ما كتبت في كتبي، أي: إني محدث، وإن الله يكلمني كما يكلم المحدثين...جاء جبريل واصطفاني وأدار إصبعه وأشار أن ربك سيعصمك من الأعداء(2)...
__________
(1) الثقافة الإسلامية في الهند، (ص:223، 224).
(2) القاديانية، حسن عبد الظاهر، (ص:77).(79/258)
ومن أقواله: لقد حرم الذين سبقوني من الأولياء والأبدال والأقطاب من هذه الأمة المحمدية من النصيب الأكبر من هذه النعمة (المكالمة الإلهية)، ولذلك خصني الله باسم (النبي)، أما الآخرون فلا يستحقون هذا الاسم(1)...اهـ.
نرى الميرزا نفسه يعترف بأنه من الأقطاب، وأنه محدث، وأنه مكاشف، وأنه من بين الذين سبقوه من الأولياء والأبدال والأقطاب هو الوحيد الذي خصه الله بالنبوة. أي: إن الصوفية هي وراء القاديانية، وطبعاً هناك خلفيات ليس هنا مجال بحثها، لكن لا بأس من التذكر هنا أن الصوفية اليهودية هي التي تسمي الواصل فيها (نبياً).
* البريلوية:
طريقة صوفية منتشرة في شبه الجزيرة الهندية، نشأت شديدة الانحراف عن الإسلام، ولعله لن يمضي وقت طويل حتى ينسى أتباعها أنهم أتباع طريقة صوفية، وتغدو ديانة جديدة مستقلة، والتشيع فيها واضح، وهم يكفرون بشكل خاص الجماعة الإسلامية في الهند، والديوبنديين، وجماعة الدعوة والتبليغ، وإذا شعروا أن أحداً من هذه الجماعات دخل مساجدهم، فالويل له والثبور.
* الشبكية:
يدين بها أهل قرى في شرق الموصل، معروفون باسم (الشبك)، ولعله اسم للقبيلة، أو للشيخ الذي استقل بها، يقول عنها أحمد حامد الصراف:
...وأما مذهبهم فقد كانوا إلى ما قبل ثلاثين أو أربعين سنة (أي: قبل الحرب العالمية الأولى)، بكتاشية يراجعون فيه جلبي قونية ويتلقون منه الإشارة، وكان أحدهم إذا ذهب إلى زيارة كربلاء، يراجع وكيلاً لجلبي قونية هناك(2).
ويقول في مكان آخر: الشبك؛ طريقة صوفية، وللانخراط في سلكها مراسيم خاصة، وبقية العقائد تشبه ما في البكطاشية(3). اهـ.
أقول: لا يقول الشبك الآن عن أنفسهم إنهم أتباع طريقة صوفية، ولعل أكثرهم لا يعرفون ذلك؛ وإنما يعتقدون جميعهم أنهم على دين خاص سرّي لا يجوز البوح به.
* الكشفية أو الشيخية:
__________
(1) القاديانية، حسن عبد الظاهر، (ص:77).
(2) الشبك، (ص:8).
(3) الشبك، (ص:47).(79/259)
نسبة للكشف، تفرعت عن التشيع الإيراني، إذن فجذورها الأساسية هي الصوفية؛ لأن الصوفية هي التي حولت إيران إلى شيعة، ومع ذلك فقد تشكلت الكشفية أيضاً عن طريق الصوفية، بدلالة اسمها (الكشفية) من الكشف الذي كان مؤسسها يقول: إنه حصل له، (مع إنكاره على المتصوفة).
أسسها الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي (1166هـ/ 1753م- 1241هـ/1826م)(1)، ومن عقائدها:
الحقيقة المحمدية تجلت في الأنبياء تجلياً ضعيفاً، ثم تجلت تجلياً أقوى في محمد والأئمة الاثني عشر، ثم اختفت زهاء ألف سنة، وتجلت في الشيخ أحمد الأحسائي، ثم في تلميذه كاظم الرشتي، ثم تجلت في كريم خان الكرماني وأولاده إلى أبي قاسم خان، وهذا التجلي هو أعظم التجليات لله. والأنبياء والأئمة والركن الرابع (الشيخ أحمد وخلفاؤه) هم شيء واحد يختلفون في الصورة، ويتحدون في الحقيقة التي هي (الله ظهر فيهم). والشيخ أحمد وخلفاؤه هم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين، وهم يعبدون علياً على أنه الله. ودور الصوفية واضح فيها من (الكشف، الحقيقة المحمدية، تجلي الحقيقة المحمدية، تجليات الله). وأما الاسم (الشيخية)، فهو نسبة إلى الشيخ أحمد الأحسائي، وهم يسيرون على نهج الطريقة الحروفية(2).
* البابية:
مؤسسها: (الباب) علي محمد رضا الشيرازي، تسلك في الطريقة الشيخية على يد الشيخ عايد، أحد تلامذة كاظم الرشتي، واشتغل بعلم الحروف حسب الطريقة الحروفية، ثم انتقل إلى النجف وكربلاء، وتتلمذ على كاظم الرشتي نفسه، كما اتصل بالمتصوفة حيث انقطع نفر من أصحابه إلى الرياضة الصوفية أربعين يوماً (الأربعينية)، ثم خرج وهو يتكلم بالعلوم اللدنية، وبالكشف أوحي إليه كتاب البابية المقدس (البيان)، وهذه نبذ منه:
__________
(1) يوجد خلافات في تاريخ ولادته وموته، وقد اعتمدت هنا أعلام الزركلي.
(2) حقيقة البابية والبهائية، (ص:45، وما بعدها).(79/260)
(لا تتعلمن إلا بما نزل في البيان أو ما ينشأ فيه من علم الحروف وما يتفرع على البيان، قل يا عبادي تتأدبون ولا تخترعون. ثم تخضعون على أنفسكم ثم تنصتون. ثم الواحد من بعد العشر أن لا تتجاوزون عن حدود البيان فتحزنون).
(إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين. وإنا قد جعلناك عظيماناً عظيماً للعاظمين. وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً نويراً للناورين. وإنا قد جعلناك رحماناً رحيماً للراحمين. وإنا قد جعلناك تماماً تميماً للتامين. قل إنا جعلناك كمالاً كميلاً للكاملين. قل إنا قد جعلناك كبراناً كبيراً للكابرين. قل إنا قد جعلناك حباناً حبيباً للحابين. قل إنا قد جعلناك شرفاناً شريفاً للشارفين. قل إنا قد جعلناك سلطاناً سليطاً للسالطين. قل إنا قد جعلناك ملكاناً مليكاً للمالكين. قل إنا قد جعلناك علياناً عليلاً للعالين. قل إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين...).
(تبارك الله من شمخ مشمخ شميخ. تبارك الله من بذخ مبذخ بذيخ. تبارك الله من بدء مبتدئ بديء. تبارك الله من فخر مفتخر فخير. تبارك الله من ظهرمظهرظهير. وتبارك الله من قهر مقهر قهير. وتبارك الله من غلب مغتلب غليب...) إلخ.
هذه نماذج من علوم الباب اللدنية الكشفية، والكتاب محشو بالعبارات الصوفية والمشيرة إلى وحدة الوجود.
مع ملحوظة هامة، هي أن من أصحاب الباب السابقين يقرب من أربعمائة يهودي، اثنان منها حاخامان.
كان إعلان الباب عن دعوته سنة (1260هـ-1844م)، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقد أصدر العلماء فتوى بقتله على الردة، ونفذ فيه حكم الإعدام بأمر من الشاه ناصر الدين سنة (1265هـ-1849م)(1).
والمهم أن نعرف أن الصوفية كانت وراء البابية مع عوامل أخرى طبعاً.
* البهائية:
تفرعت مباشرة عن البابية، إذن فجذورها صوفية، بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبته الصوفية في نشأتها.
__________
(1) حقيقة البابية والبهائية، (ص:57، وما بعدها).(79/261)
مؤسسها (بهاء الله) الميرزا حسين علي بن الميرزا عباس بزرك المازندراني النوري، ولد سنة (1233هـ)، وكان يعاشر الصوفية ويتعب نفسه في قراءة كتبهم، انضم إلى البابية مع أوائل من انضم إليها، تنقل ورجع إلى طهران، ثم نفي إلى بغداد، واشتد الخلاف بينه وبين البابية، فهرب خفية إلى غار قريب من قرية (سركلو) التابعة لناحية (سورداش) في لواء السليمانية شمالي العراق، وأظهر هناك النسك والتصوف، وكان يحضر مجالس الصوفية كثيراً.
يقول صاحب كتاب (حقيقة البابية والبهائية):
...وهناك رافد آخر أثر في عقله وثقافته وأسلوبه، وهو المذاهب الصوفية، وبالأخص ما يتصل بوحدة الوجود والحلول والفناء، ولا غرابة في ذلك، فلقد خالط الصوفية منذ صغره، وتتلمذ على أيديهم...وتأثير الكتابات الصوفية قد بلغ في أسلوب الميرزا حسين مبلغاً عظيماً، حتى إنك لا تكاد تقرأ صفحات من كتاباته إلا وتحسب نفسك أمام كتاب من كتب متطرفي الصوفية في معانيه ومبانيه... اهـ.
وله كتب مقدسة، منها: الإيقان، والأقدس، والإشراقات، وغيرها.
وهذه نبذ من (إشراقات بهاء الله)، يقول مخاطباً البابيين: (يا ملأ البيان، ضعوا أوهامكم وظنونكم ثم انظروا بطرف الإنصاف إلى أفق الظهور، وما ظهر من عنده ونزل من لدنه، وما ورد عليه من أعدائه.. قد حبس مرة في الطاء، وأخرى في الميم، ثم الكاف مرة أخرى...).
من قوله في إشراقاته مخاطباً المسلمين: (قل يا ملأ القرآن قد أتى الموعد الذي وعدتم به في الكتاب، اتقوا الله ولا تتبعوا كل مشرك أثيم، إنه ظهر عليَّ شأن لا ينكره إلا من غشته أصحاب الأوهام وكان من المدحضين...).(79/262)
ادعى الميرزا حسين أنه المسيح عيسى عليه السلام، ثم ادعى الربوبية، وقال: إن الله يتجلى عليه، فيفنى منه العرض، ولا يبقى إلا الجوهر الرباني الخالص، ومن هنا جاء لقبه: (بهاء الله)، ومن أقواله في ذلك: (يا حسين، اسمع النداء من شطر السجن، إنه لا إله إلا هو الفرد الخبير، إذا رأيت أنجم سماء بياني، وشربت رحيق العرفان من كأس عطائي، قل: إلهي إلهي! لك الحمد بما أيقظتني وذكرتني في سجنك، وأيدتني على الإقبال إليك، إذا أعرض عنك أكثر عبادك).
وأساس عقيدة البهائية أن الله (جل وعلا) ليس له وجود الآن إلا بظهوره في مظهر البهاء، وكان يظهر قبلاً بمظاهر تافهة في الديانات السالفة؛ لكنه بظهوره في البهاء الأبهى، بلغ الكمال الأعلى...
ويصرح البهائيون في كتبهم بأن الميرزا حسين البهاء هو ربهم(1).
المهم هو أن الصوفية وراء البهائية ومنشئتها.
* وفي الختام:-
(كفرداعل) و(خان العسل) قريتان من قرى حلب، أهلها مسلمون حتى سبعينات القرن الرابع عشر الهجري، حيث وفد إليهما بعض النصيرية، وفيهم شيخان صوفيان: الشيخ حسين وأخوه الشيخ نصّوح، ولعلهما من الطريقة الجنبلانية، سلكا المريدين، وكانت تحدث على أيديهما بعض الخوارق، وفي سنين قد لا تتجاوز العشرين، كان أهل القريتين قد تحولوا إلى النصيرية مع مجموعات في القرى المجاورة.
مات الشيخ حسني (لعله في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري)، وبنوا له مقاماً يناسب المقام، ولعل أخاه الشيخ نصّوح لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات.
ومن قصصه التي يرويها شاهد عيان: ذهب الشيخ نصّوح إلى قرية (عَنَدان) القريبة من القريتين السابقتين لزيارة جماعة من مريديه الذين تحولوا إلى نصيرية على يده ويد أخيه، وبعد هدأة من الليل طلب من المجتمعين عنده الخروج معه إلى خارج القرية، وهناك أخبرهم أنهم سيقومون بغارة على إسرائيل؟ وأمرهم أن يفعلوا مثله.
__________
(1) حقيقة البابية والبهائية، (ص:147، وما بعدها).(79/263)
وعادة، في الحقول والبيادر المحيطة بالقرى، يعينون الحدود بين العقارات بسلاسل من الحجارة الصغيرة (الدبش) يبنونها عليها.
أخذ الشيخ نصوح يتناول من هذه الحجارة الواحد بعد الآخر، ويقذفها باتجاه فلسطين مع ترديد صوت (رْرْرْرْرْرْرْرْرْ...) بصوت عال عندما ينطلق الحجر من يده، وصوت (بومْ مْ) عندما يسقط على الأرض.
وأخذ مريدوه يفعلون نفس الشيء، يأخذون الحجارة من سلاسلها، ويقذفونها باتجاه فلسطين، وكانت أصوات (رْرْرْرْرْرْرْ...بومْ مْ...رْرْرْرْرْرْرْرْ...بومْ مْ) تنطلق في الفضاء مختلطة ببعضها مغطية على أصوات وقع الحجارة أو ارتطامها ببعضها. بقي الفقراء هكذا طيلة ساعات، زالت بعدها معالم الحدود بين العقارات، وتوعرت أراضي سيئي الحظ الذين كان نصيبهم أن يحصل هذا الجهاد في أرضهم.
بعد منتصف الليل، عاد المجاهدون إلى بيوتهم منهكين من التعب فرحين بما تيسر لهم من الجهاد في سبيل الله على يد شيخهم العظيم.
في الصباح، ذهب أحد المجاهدين إلى دكان بقال صديق في حاجة له، وأثناء الحديث أخبره بغزوة الليل، فما كان من البقال إلا أن طلب من صديقه البقاء في الدكان ريثما يعود، وخرج مسرعاً إلى البيت الذي ينزل فيه الشيخ نصوح، حيث وجد القوم مجتمعين عنده، فسلم وجلس بخشوع ظاهر، وبعد أن استأذن من الشيخ بالكلام قال له: يا سيدي، رأيت هذه الليلة حلماً شغلني، أريد أن أعرضه عليك، رأيت أني في إسرائيل، ورأيتك هناك، ومعك جماعة لم أتبين وجوههم، في أيديكم القنابل تلقونها على اليهود، وكانت كل قنبلة تقتل عدداً منهم.
انفلت الشيخ نصوح يصيح بصوت عال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أنت ولي، أنت مكاشف، تبركوا به يا مؤمنون هذا ولي مكاشف...إلى آخر ما قاله. وعاد البقال إلى دكانه وقد ربح زبائن جدداً لبقالته.(79/264)
ولعل قارئاً أو سامعاً يظن أن هذه حادثة شاذة، فنقول له: بل هي من صميم الصوفية، تورد كتبهم ما يشبهها عن أبي يعزى، وأبي مدين الغوث، وأبي الحسن الشاذلي، وأحمد البدوي، وأحمد الرفاعي، وعبد القادر الجيلاني، وغيرهم الكثير، ولعل كثيراً من القراء سمعوا الأنشودة الصوفية: (الله الله يا بدوي وجا باليُسَرى)، أي: جاء بالأسرى..
* خلاصة ما سبق:-
الصوفية سبب أساسي في تمزيق المسلمين، ووراء المذاهب المنتشرة التي جعلتهم فرقاً وأشياعاً.
* الإفساد العام:
المسلمون بحمد الله كثيرون، يعدون بمئات كثيرة من الملايين، لكنهم في حالتهم الحاضرة، كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {غثاءكغثاء السيل}، وسبب هذه الغثائية هي الصوفية التي وصل فسادها في الأمة حتى الأعماق، وبيان ذلك:
أولاً: إفساد العقيدة
(أ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن الله جلت قدرته خلق الكون من العدم لا من ذاته سبحانه، وأن المخلوقات غير الخالق، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها في فصول سابقة..
وجاءت الصوفية..
فحولت أتباعها عن هذه العقيدة الإسلامية إلى عقيدة وثنية هي وحدة الوجود، تؤمن أن الله هو الكون، وأن الكون والمخلوقات هي تعينات من ذاته سبحانه، تكثف كل منها حسب شكله المرئي، الذي يطلقون عليه فيما يطلقون اسم (الإناء)، ويسمون أيضاً هذه المخلوقات أو (الجزء المتعين من الذات الإلهية كما يفترون)، يسمونه (عالم الملكوت)، أما الجزء الباقي على حاله اللطيفة من الذات الإلهية (حسب افتراءاتهم)، فيسمونه: (عالم الجبروت) (سبحان الله العظيم، وتعالى علواً كبيراً، وما قدروا الله حق قدره).
(ب) من الإيمان في الإسلام أن الله سبحانه فوق السماوات والعرش، وذلك بنصوص من القرآن والسنة مر بعضها.
وجاءت الصوفية...(79/265)
فحولت أتباعها إلى عقيدة وثنية تؤمن أن كل ما نراه وما نحسه هو الله، أو هو جزء منه سبحانه وتعالى عما يشركون. ومن تعابيرهم عن هذه العقيدة قولهم المنتشر على الألسنة: إن الله في كل مكان، قولهم بتكفير من يقول بالجهة، ويعنون بالجهة (العلو)، أي: إنهم يحكمون بكفر من يقول: إن الله سبحانه فوق السماوات، وبذلك يحكمون (شعروا أو لم يشعروا) بكفر القرآن والسنة، وبالتالي يحكمون أن محمداً وأصحابه كفرة، ولعلهم لم يشعروا بذلك، لأنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وقد مر معنا قول قائلهم: إن ظاهر القرآن من أصول الكفر.
(جـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن النبوة فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.
وجاءت الصوفية...
فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية، تؤمن أن النبوة نتيجة لممارسة الرياضة الإشراقية، حتى قال قائلهم (ابن سبعين): لقد ضيق ابن آمنة واسعاً عندما قال: {لا نبي بعدي}.
(د) تؤمن العقيدة الإسلامية أن محمداً، ومثله جميع الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم بشر مثل بقية البشر في كل شيء، وإنما يمتازون عنهم بالوحي، وبالأخلاق العظيمة.
وجاءت الصوفية..
فحولت أتباعها عن هذه العقيدة إلى عقيدة وثنية تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم المجلي الأعظم للذات الإلهية، منه تنبثق المخلوقات وتعود إليه في حركة مستمرة (الحقيقة المحمدية)، وأطلقت عليه أسماء وصفات هي من أسماء الله سبحانه وصفاته، ويمكن الرجوع إلى كتاب (دلائل الخيرات) مثلاً، لرؤية هذا الشرك.
(هـ) تؤمن العقيدة الإسلامية أن أول ما خلق الله القلم...(الحديث).
وجاءت الصوفية...
فجعلت أتباعها يؤمنون أن أول خلق الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، وللتوفيق بين الحديث وبين ضلالهم، جعلوا (القلم) اسماً لمحمد صلى الله عليه وسلم، واخترعوا ما سموه (الحقيقة المحمدية)، وتجلياتها، ليجعلوا شيئاً من التنسيق بين الإسلام وبين اليونانيات.(79/266)
ونحن نسمع المؤذنين يختمون الأذان بمثل: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله...، ونسمع عبارة: (أسبقية النور المحمدي) على ألسنة الصوفية وأتباعهم يؤكدونها ويصرون عليهم. وبذلك يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
(و) من العقائد الإسلامية أن الوحي الذي أنزله الله على محمد وعلى سائر الرسل، إنما نزل به ملك مقرب: ((ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)) [التكوير:20]، هو جبريل عليه السلام، كان ينزل به ويعلمه محمداً والأنبياء قبله، ويذاكره به.
وجاءت الصوفية...
فجعلت أتباعها يعتقدون أن الوحي هو هذيان مثل هذياناتهم، وكشوفاتهم الجذبية التي تقود إليها الطريقة.
(ز) للعقائد الإسلامية، في الإسلام، مصدران فقط، لا ثالث لهما، هما القرآن، وصحيح السنة.
وجاءت الصوفية...
فجعلت للعقائد مصدراً ثالثاً، هو الكشف والكتب المنبثقة عنه، وجعلوه -عملياً- المصدر الأساسي للعقائد، وإن أنكروا ذلك نظرياً، أما القرآن والسنة، فما وافق الكشف قرروه، وما خالفه أولوه، ليتفق مع الكشف! وقد صرح بذلك حجتهم الغزالي في كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين)، وكلهم بدون استثناء يقدسون الغزالي و(إحياءه)، وهذا يعني أنهم كلهم، يؤمنون بما في (الإحياء)، كما أنهم يرددون نفس الفكرة في كثير من كتبهم المتداولة.
وكتاب (الإحياء)، ومعه بقية كتب الكهانة، كالرسالة القشيرية، والحكم العطائية، وقوت القلوب، واللمع، وبوارق الحقائق، والفتوحات المكية، والفيوضات الربانية، وفتوح الغيب...وغيرها وغيرها، تدرس في مساجد المسلمين منذ قرون طويلة، وينشأ عليها شباب المسلمين، حتى صاروا يعتقدون أنها قمة الإسلام وقمة العلم وقمة التقوى وسبيل النجاة، بينما هي في الحقيقة الكهانة التي جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب.(79/267)
(ح) من العقائد الإسلامية أنه يمكن أن يتبين لنا من هم أصحاب الجحيم، أما أصحاب الجنة المزكَّون، وعباد الله المخلصون، فلا نستطيع معرفتهم، بل ولا الرسول نفسه يستطيع معرفتهم إلا بالوحي: ((...وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9]، وغيرها من الآيات والأحاديث التي مرت في فصل سابق، والتي لم تمر.
وجاءت الصوفية...
فجعلت أتباعها، وغير أتباعها، يوزعون الولاية حسب ترتيبات شياطينهم من الإنس والجن، وحسب أوهامهم المنبعثة من هلوساتهم الكشفية وعلومهم اللدنية.
بل وأكثر من ذلك بكثير، أكثر بنسب تفوق الأرقام الفلكية بكثير، فقد جعلتهم إيحاءات شياطينهم وهلوساتهم يتحققون بما يقفز فوق الخيال والأوهام ويتجاوز قيم الأبعاد الفلكية بأكثر بكثير من الأبعاد الفلكية، جعلتهم يتحققون بالألوهية، فالولي منهم يصل إلى الإحساس والتحقق والذوق والاستشعار أنه الله (سبحان الله) بجميع أسمائه وصفاته، أو ببعضها على الأقل، إن كان في أول الوصول، وأنه يتصرف في الكون، والمتواضع منهم يتصرف بأجزاء منه، قد تصغر وقد تكبر، حسب مقامه، وهذا هو الذي لم يصل بعد إلى (حيث لا إلى).
وقد مضت على الأمة الإسلامية قرون طويلة، كانت هذه الخرافات الضلالية تشكل الجزء الرئيسي من ثقافتها وأحاديثها في أسمارها وفي وعظ وعاظها، حتى وصلت إلى ما هي عليه، بل هي الآن خير مما كانت عليه في تلك القرون.
إفساد العبادات:
أقحمت الصوفية على الإسلام عبادات غريبة عنه، منها:
(أ) مزجت الرياضة الإشراقية (الخلوة، والجوع، والسهر، والذكر الإرهاقي البدعي، والحضرة؛ (الراقصة والجالسة)، والرقص؛ (بنقص أو بدون نقص)، بالإسلام، وجعلتها طريق السير إلى الله (أي: إلى الألوهية).(79/268)
(ب) في الوثنيات طقوس جاء الإسلام ليحاربها فيما يحارب، كعبادة الشيوخ والأولياء الذين كانوا في الجاهلية يسمون (الكهان)، يعبدونهم عملياً وينكرون ذلك نظرياً)، والاستغاثة بالقبور والأموات، وتقديس الأضرحة والحجارة والقبب والأشجار...وغيرها.
وجاءت الصوفية...
فأقحمت هذه الطقوس على الإسلام، وجعلتها عبادات يتقربون بها إلى الله، إلى جانب العبادات الأصلية، وكثيراً ما كنا نرى أناساً أضاعوا الصلاة وارتكبوا المنكرات، دون أي شعور بحرج، ومع ذلك كانوا ملتزمين بهذه الطقوس.
وجعلت الصوفية أتباعها يعتقدون أن الالتزام بهذه الطقوس هو من المنجيات، وأن إهمالها من المهلكات، بل وكثير من المتصوفة يعتقدون ويصرحون أنها كافية.
(جـ) ابتدعوا أقوالاً وأعمالاً أقحموها على العبادات الإسلامية الأصيلة، في أوائلها وثناياها وأواخرها، حتى صار أكثر المسلمين يتمسكون بها على أنها جزء من العبادة، لا يجوز تركه، وقد يقيمون القيامة على من يتركه، مثل: التلفظ بالنية للدخول في العبادة (تكبيرة الإحرام هي المدخل للصلاة، فبطل ذلك، أو نسخ، أو عدل.. لا ندري؟ وصار المدخل هو قولهم: نويت أصلي...إلخ)، وفي كثير من المساجد، شاهدناهم في رمضان بعد صلاة العشاء، وبإيعاز من الإمام أو الشيخ، يقولون جماعة بصوت عال: نويت صيام نهار غد من شهر رمضان وهكذا بقية العبادات، بل وأقحموا هذا التلفظ على العادات، على أنها بذلك ستصير عبادات.(79/269)
وأقحموا المصافحة عند انتهاء الصلاة، مع ترديد (تقبل الله) مع الجهر جماعة بالاستغفار وغيره، وأضافوا إلى الأذان في آخره ما لم يأذن به الله، وتكون هذه الإضافة في كثير من الأحيان أطول من الأذان، عدا عما فيها من كذب على الله ورسوله، كقولهم: إن محمداً أول خلق الله، كما أضافوا في أول الأذان ما يسمونه التذكير، وذلك في أوقات مخصوصة ما أنزل الله بها من سلطان، عدا ما يرددونه في هذا التذكير، من مثل قولهم: (نعم أنت مخلوق ولست بخالق، ولكن لك الرحمن قد وكل الأمرا)، وغيرها الكثير مما تصدى العلماء لنقضه في كتبهم ورسائلهم.
وسموا ذلك: (بدعة حسنة) تبريراً لإحداثهم في دين الله.
(د) أحدثوا طقوساً ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، كمولد النبي، وموالد من يسمونهم (الأولياء)، ومجالس الصلاة على النبي بما فيها من مخالفة لأركان الذكر والدعاء في الإسلام، ومثل قراءة (صحيح البخاري) جماعة في المساجد إذا حزبهم أمر، وغير ذلك مما يعرفه المسلمون ومما لم يرد فيه أي نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم، عدا عما فيها من شركيات ومخالفات وكبائر. وقد طغت هذه الطقوس، وتمسك بها الكثيرون على أنها من صميم الإسلام يتقربون بها إلى الله، حتى إن بعض من يسمَّون (علماء) يكفرون من ينتقد هذا أو يفسقونه.
وللعلم: المعروف عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يوم الإثنين، أما (12 ربيع أول)، فهو اختراع، والتلفيق واضح فيه، و(12 ربيع أول) من عام الفيل كان يوم خميس.(79/270)
(هـ) تهاونوا بالعبادات بحجة الوصول إلى مقام رفع عنهم فيه التكليف، أو بحجة أن الشيخ يدخلهم الجنة دون حساب، أو بحجة أن تارك العبادة منهم أفضل من العابد من غيرهم، أو بالحجة التي تقول: جذبة من جذبات الحق تساوي عمل الثقلين، أو بحجة أن قراءة الورد الفلاني أو الصلاة على النبي الفلانية أفضل من عبادة كذا وكذا، أو بحجة أن من زار قبر الشيخ فلان، أو رآه أو رأى من رآه أو مر بمدرسته أو اتبع طريقته يغفر له كل ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر...إلى آخر ما رأينا أمثلة منه في الفصول السابقة.
وبذلك كانت الصوفية وراء ابتعاد الناس عن الإسلام وإهمالهم لتعاليمه.
إفساد الأخلاق والسلوك
* النفاق:-
يقول سبحانه: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) [النساء:145]، ويقول جل وعلا: ((...وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [المنافقون:4].
هذا هو حكم النفاق في الإسلام.
والنفاق هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
ولو غيرنا الاسم (النفاق)، وجعلناه (التقية)، لبقي حكمه نفس حكمه؛ لأن تغيير الاسم لا يغير الحكم، فعندما نسمي الخمر (فودكاً) تبقى خمراً وتبقى محرمة.(79/271)
ولو عبرنا عن النفاق بمثل قولهم: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً)، فسيبقى حكمه نفس الحكم، وسيبقى نفاقاً، ولو وضعنا عبارة أخرى، مثل: (مع مشاهدة المشيئة العامة لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه)، أو مثل: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)، أو مثل: (يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل أنت ممن يعبد الوثنا)، أو مثل: (طريقتنا أن نحفظ الشرع ظاهراً، وهذا هو السر العميق المطلسم)، أو غيرها من مئات عباراتهم المدونة في كتبهم وفي معاجمهم ليستعملوها هم ومريدوهم والسالكون في طريقهم في التمويه على أهل الشريعة. لو عبرنا عن النقاق بأي عبارة كانت، فسيبقى نفاقاً، وسيبقى مصير أهله الدرك الأسفل من النار. لكن الصوفية جعلت النفاق شطراً من الولاية والصديقية، ومن أقوالهم في ذلك: (التقية حرم المؤمن...)، وغيرها مما مر. ومعنى التقية في الإسلام هو إبطان الإيمان وإظهار ما يخالفه في حالة الاستكراه ولمدة محدودة عابرة، إلا في حالات استثنائية جداً، أما عندهم فهي على العكس تماماً، إبطان وحدة الوجود، وإظهار الإسلام.
* الكذب:-
في الواقع النفاق هو الكذب، بل هو من شر أنواع الكذب، وهذا المرض (الكذب) المستشري في سلوكنا ومعاملاتنا إنما هو مظهر من مظاهر اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً، أو انبثاق عنها تسرب من الشيوخ الذين كانوا على مدى قرون يعدون بعشرات الألوف، إلى مريديهم الذين كانوا يعتبرون نخبة المجتمع، ثم إلى الأتباع والمؤمنين، وبالتالي إلى الجميع.
* نسخ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-(79/272)
اللذين تأتي فرضيتهما بعد الأركان مباشرة، وهما الركنان اللذان يقوم عليهما المجتمع الإسلامي واستمراريته، وتركهما، أو ترك أحدهما، يدخل في لعنة الله ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ...)) [المائدة:78] ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)) [المائدة:79]، ويجعل الفساد ينتشر في الأمة.
جاءت الصوفية فألغت الأمر بالمعروف بحجة الخوف من الرياء، وحصرته فيما يكفي لاستمرار المسيرة الصوفية في المجتمع، وألغت النهي عن المنكر بنفس الحجة وبحجة الخوف من وقوع الناهي فيما نهى عنه، وحصرته في النهي عما يعرقل مسيرة التصوف في المجتمع.
وقد مرت الأمثلة على ذلك في فصول سابقة.
* التزهيد بالعمل والدعوة إلى التواكل والكسل:-
العمل من أجل العيش هو من تعاليم الإسلام، ونصوصه كثيرة ومعروفة، وجاءت الصوفية فزهدت المسلمين بالعمل بحجة الزهد والتوكل، بل قررت عدم جواز الصلاة وراء من يأمر بالعمل، وقد مر هذا في فصل سابق نقلاً عن (الإحياء)، وبذلك انتشرت التكايا في البلاد الإسلامية، وغصت بالتنابل، وامتلأت شوارع المدن والقرى وأزقتها بالمكدين (الشحاذين)، وتعطلت الأرض، وتوقفت الأعمال، وكانوا يعدون ذلك من الورع والزهد والتوكل، وأحياء هذه الأيام الذين عاشوا العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي يعرفون هذا تمام المعرفة.
* نشر الذل والخنوع والخضوع:-
إن انتشار الصوفية الواسع جعل سلوك المريدين تجاه الشيخ ينزلق إلى المجتمعات الإسلامية، فانتشر الخنوع والخضوع وتقبيل اليد والرجل والوقوف للاحترام، وهي أمور كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهها، وشيوخ المتصوفة ومريدوهم يدافعون عنها حتى الآن بأساليب كلها مغالطة والتواء.
* تقديس المجانين:-(79/273)
المجانين هم مرضى يستحقون العطف والعناية والدواء، لكن شيوخ الصوفية كانوا، وما يزالون يعدون المجانين أولياء أرادهم الله سبحانه لولايته، دون سعي منهم (المراد)، ويصفونهم أنهم سائحون في حب الله، ويتبركون بهم بل وببولهم وروثهم، وإذا ماتوا بنوا لهم المقامات والزيارات.
ولسعة انتشار الصوفية طغت هذه النظرة على المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في فصول سابقة من أمثلة ذلك، وكبار السن الآن يعرفون هذه الأمور في صغرهم في مجتمعاتهم. وماذا يمكن أن يُنْتَظَرَ مِن مُجْتَمَعاتٍ تُقَدِّسُ مَجانينَها.
* التوكل والتسليم والزهد والورع والإخلاص:-
رأينا في فصول سابقة كيف شوهوا معنى التوكل والتسليم والزهد والورع في نفوس المسلمين، وكيف كانت نتائج ذلك التشويه مما عانت منه الأمة وتعاني حتى الآن، وأذكر القارئ بوقائع التتر واستسلام المسلمين لهم استسلام النعاج.
وحتى الآن، فقد سمعنا ونسمع وعاظاً وخطباء يطلبون من الناس أن يخرجوا من مسجد ليدخلوا في مسجد، وأن هذا كافٍ لدحر أعداء الإسلام، أي أنهم يقولون بلسان حالهم، بل ولسان مقالهم أيضاً: ربنا حارب، إنا ههنا في المساجد قاعدون. وسمعنا من يقول وهو يعظ ويحث المسلمين على الخير: الحمد لله الذي سخر لنا أمريكا وإنكلترا وفرنسا وروسيا يخترعون الاختراعات ويصنعون الصناعات ويقدمونها لنا، ونحن نتفرغ فقط لعبادة الله؟! إلى آخر قائمة طويلة من التشويه والتزوير لمعاني القيم الإسلامية والأخلاق التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* إفساد الفكر:
يقوم بناء الفكر الإنساني، كائناً ما كان، بمعطيات ثلاث:
1- المنطلقات أو الأسس، التي يستند إليها ويأخذ منها عناصر بنائه.
2- كيفية البناء.
3- الغاية التي يرمي إليها.
وفي الإسلام:
- المنطلقات هي القرآن وصحيح السنة وواقع الحياة والوجود على حقيقته.(79/274)
- كيفية البناء موجهة بالفهم المبني على أسس علمية مدروسة للقرآن والسنة، وبفهم الصحابة رضي الله عنهم وتطبيقاتهم، كما هي موجهة، في الأمور الدنيوية، بمعرفة واقع الحياة والوجود معرفة علمية صحيحة.
- الغاية التي يرمي إليها بناء الفكر الإسلامي ويسعى إليها المسلم هي الأجر والثواب من الله سبحانه كما وعد به عباده المؤمنين في القرآن والسنة، لا كما يتوهمه المتوهمون.
وقد أفسدت الصوفية هذه العناصر إفساداً بالغاً، ففسد فكر المسلم، ووصل المسلمون إلى الحالة الراهنة التي لا يحسدون عليها، مع التذكير بأن حالتهم في القرون الأخيرة حتى النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري كانت الأنموذج الكامل لمجموع الإفسادات التي أنتجتها الصوفية، حتى هيأ الله سبحانه لدعوة الحق من أعاد لها جدتها، فأخذت الأمة تستيقظ شيئاً فشيئاً من سبات كان عميقاً كالموت.
وقد مرت في فصول الكتاب، وتمر، أمثلة كثيرة من صور الإفساد، وما هي إلا عرض بسيط له.
* إفساد المنطلقات:
* القرآن:-
لم يستطع المتصوفة تحريف القرآن؛ لأن الله، له الحمد، حفظه باعتناء المسلمين بحفظه ودرسه وتدريسه والتعبد بقراءته في الصلاة وفي التلاوة آناء الليل وأطراف النهار، فعمدوا إلى تحريف معانيه، وهذا مثل من تفسيرهم، منقول عن (تفسير القرآن الكريم للشيخ الأكبر العارف بالله العلامة محيي الدين بن عربي):(79/275)
((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران:172]: يقول الشيخ الأكبر مفسراً هذه الآية: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ)) [آل عمران:172]، بالفناء في الوحدة الذاتية. ((وَالرَّسُولِ)) [آل عمران:172]، بالمقام بحق الاستقامة. ((مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)) [آل عمران:172]، أي: كسر النفس. ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ)) [آل عمران:172]، أي: ثبتوا في مقام المشاهدة. ((وَاتَّقَوْا)) [آل عمران:172]: بقاياهم. ((أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران:172]، وراء الإيمان، هو روح المشاهدة(1).
ومثل آخر: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ..)) [التوبة:100]: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ)) [التوبة:100]، أي: الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصف الأول. ((مِنَ الْمُهَاجِرِينَ)) [التوبة:100]، الذين هجروا مواطن النفس. ((وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100]، الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس، ((وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ)) [التوبة:100]، في الاتصاف بصفات الحق.
((بِإِحْسَانٍ)) [التوبة:100]، أي: بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال(2)...
وقد مر في الفصول السابقة أمثلة أخرى على تحريفهم لمعاني القرآن، وهي بعض من كل، ومن يريد الاستزادة يستطيع الرجوع إلى كتابهم المقدس (إحياء علوم الدين) ليرى من التزوير في التفسير ما تقشعر له أبدان الذين يؤمنون بالله ورسله وكتبه ويرجون اليوم الآخر، وكذلك بقية كتبهم على تفاوت بينهم في العبارة وفي عدد ما يفسرونه من آيات. وقد رأينا نثرات من تفاسيرهم للقرآن تفاسير سحرية، وكتبهم ملأى باستعمالات القرآن في اتجاهات سحرية.
* الإفساد في الحديث:-
__________
(1) تفسير ابن عربي: (1/235).
(2) تفسير ابن عربي: (1/505).(79/276)
كان اعتناء المسلمين بالحديث الشريف، وما زال، أقل من اعتنائهم بالقرآن الكريم، لأسباب معروفة، مما ترك مجالاً للدس والتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ المتصوفة حريتهم بوضع ما يملي عليهم الكشف من أحاديث، وتضعيف ما يضعفه الكشف، وتصحيح ما يصححه، حتى كانوا هم وراء قسم كبير من ركام الأحاديث الموضوعة المعروفة، وتلك التي لم تزل مدرجة في قسم الأحاديث الضعيفة، والتي تشكل نسبة عالية فيها.
وأوضح دليل على هذا هو كتاب (إحياء علوم الدين) لحجة الإسلام، الإمام، فقيه مئات من الأحاديث الموضوعة التي يقول عنها الحافظ العراقي: لم أجده، أو لم أجد له أصلاً، وهذا يعني، بدهياً، أن الواضع لها هو الغزالي أو كشفه، ونقول للذين يقولون خلاف هذا: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وأرونا المصدر الذي أخذ منه الغزالي هذه الأحاديث.
ومظاهر التقوى والورع التي يتحلى بها كثير من الصوفية جعلت، وتجعل، الناس يثقون بهم ويأخذون عنهم، مع العلم أن التقوى والورع والزهد ولواحقها لا تدل على صحة العقيدة! فكل المؤمنين المخلصين لدينهم، في كل الأديان، يكونون أتقياء ورعين زاهدين...
ونعرف أن متصوفة المسلمين يدينون بالطريقة البرهانية التي مزجت الإشراق بالإسلام، فهم يؤمنون بها، والمخلص منهم ينتهج الإسلام والإشراق معاً.
ولا بأس هنا من عرضٍ يعرض على علماء الحديث، لا أظنهم ناجين من السؤال عنه أمام التاريخ على الأقل، بعد إذ تبين لهم الحق.
هذا العرض هو مراجعة كتب الرجال، والبحث في الرواة عن الشيوخ الكمل الذين تمكنوا من مقام الفرق الثاني، فلم يظهر في سلوكهم وأقوالهم ما يدل على ما في قلوبهم، أي: وصلوا إلى تطبيق القاعدة: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. والتي عبر عنها الجنيد بعبارة: مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه تطبيقاً تاماً.(79/277)
وأعتقد أن بحثاً جاداً في هذا المجال، إن كان مخلصاً، لا يبتغي إلا رضا الله سبحانه، والوصول إلى الحق، سوف يخلص كتب الرجال من إشكالات واردة فيها، وهذه الإشكالات رغم قلتها، لكنها هامة، من ذلك مثلاً، نرى بعض الرجال موثقاً عند عالم ثقة، ومضعفاً عند مثله، وقد وضع علماء الحديث قواعد دقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها.
ومن ذلك مثلاً أن قسماً من الأحاديث الضعيفة، يمكن أن يدرج بعد هذه الدراسة تحت عنوان (المكذوبات).
ومن ذلك مثلاً ما يبدو بعض الأحيان من تناقض ظاهري بين حديثين صحيحين، وقد وضع علماء الحديث عشرات القواعد الدقيقة لحل مثل هذه المشكلة، وهذه قاعدة تضاف إليها، قد يكون لها القول الفصل في كثير من الأحيان أو في بعضها.
ولست أدري، هل أكون مصيباً أو مخطئاً إذا قلت بوجوب إعادة النظر بمثل أبي نعيم الأصفهاني و(حليته)، وذلك بدراسة دقيقة من قبل أكثر من عالم حديث، شريطة أن يكونوا كلهم، على معرفة كاملة واضحة بالكشف والرؤى الكشفية، وكيف يمكن أن يذهب المكاشف إلى مسجد (مثلاً)، فيرى فيه شيخاً معيناً وتلاميذ يطلبون العلم عليه، فيجلس معهم، ويكتب ما يمليه الشيخ، ثم يعود إلى بيته، وفي كراسته علوم جديدة، بينما كان ذلك المسجد، في حقيقة الأمر، خالياً إلا من هذا المكاشف الذي رأى الشيخ وتلامذته بوهم كشفه، وسيقسم هذا المكاشف اليمين تلو اليمين أن ما كتبه كان سماعاً من الشيخ المعين بحضور تلاميذه أو بدون حضورهم (حسب الكشف).
وذلك لأن المكاشف كثيراً ما يختلط عليه الأمر، فلا يفرق بين الرؤى الكشفية والواقعية، وقد رأينا في فصل سابق مئات الأمثلة على ذلك، إضافة إلى عشرات الأمثلة المتفرقة بين الفصول.(79/278)
ومن إفسادهم في الحديث تزوير معانيه بالتفسير الإشاري، وقد رأينا في ثنايا الكتاب أمثلة منها، ومن يريد الزيادة فأمامه كتبهم، وعلى رأسها (إحياء علوم الدين).
* واقع الحياة والوجود:-
إن واقع الحياة والوجود قائم كما أراده الله، متحرك بسننه تعالى في خلقه التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتي يسمونها في لغة العصر الحديث (القوانين الطبيعية)، فلا يستطيع مخلوق إفساد شيء منه إلا في إطار الحدود التي قدر الله سبحانه أن يكون هذا المخلوق القدرة على التصرف فيها، وهي لا تزيد عن عمليات نقل للأشياء أو لأجزاء منها من مكان ووضعها في مكان ملائم، أو غير ملائم، وكل ما صنعه الإنسان، وما يصنعه، لا يخرج عن هذا قيد شعرة، وكان إفساد الصوفية في هذا المجال بإفساد فهم الواقع وتفسيره، وبإفساد أساليب التعامل معه، وفي وضع الأمور في غير مكانها الصحيح.
ففي مجال تفسير الواقع، زورت الصوفية الفكر لدى أتباعها الذين كان ينظر إليهم في أوقات كثيرة على أنهم نخبة المجتمع، زورت التفكير عندهم، حتى أصبحوا، هم والأمة من ورائهم، لا يرون الأمور إلا رؤىً ضبابيةً، ولا يفسرونها إلا تفاسير مبنية على الكرامات وتصرفات الجن وتهاويل الخوارق، ويرسمون للكون صوراً في أذهانهم مأخوذة من كشوف المكاشفين الهلوسية، ومن علومهم اللدنية، وتفصيل هذه وحدها يحتاج إلى كتاب مستقل؛ لأنها تشمل كل نواحي الحياة، وقد مر بعضها في فصول سابقة.(79/279)
وفي مجال التعامل مع الواقع، صارت الأوراد والأقسام والطلاسم والحجب هي الأساليب التي يتعامل بها الفرد والمجتمع مع واقع متوهم، وصار العلماء إلا من رحم الله، يمزجون فقههم بكتابة الحجب والأوفاق والدوائر لتسهيل الأمور في شتى نواحي الحياة، وأظن أن أكثر العلماء الآن (في السنين الأولى من القرن الخامس عشر الهجري)، إن لم يكونوا كلهم، قد عانوا من طلبات كثير من الناس، حتى من بعض المثقفين، أن يفكوا لهم سحراً، أو يخلصوهم من أمور لا تزيد عن كونها أوهاماً من أوهام الصوفية. ورقصات الزار في مصر والسودان والحبشة والحضرات الصوفية في كل البلاد الإسلامية، والسيارة والعدة لزيارة القبور جماعياً وضرب العدة حولها (وقد تقلص هذا كثيراً بسبب انتشار الثقافة، والزيارات الإفرادية التي تجر إلى الاستغاثة بالأموات، وطلب النصرة حسب الأوهام...
كل هذا من نتاج التصوف، وإن ظهر بعضه في جماعات تدعي أنها غير متصوفة؛ لأن القناعات الفكرية إذا عمت جرفت أمامها كل من لم يعصمه الله سبحانه.
وكان من نتائج هذا الفهم السحري، المرتبط بالكرامات كلياً أو قريباً من الكلي، وهذا التعامل المبني على الفهم السحري، ما نراه من ضياع وتخبط ووضع للأمور في غير أماكنها الصحيحة، بل وعدم القدرة على ذلك فكرياً وعملياً.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، يحتاج تفصيلها إلى مئات الصفحات، ونورد منها أمثلة عابرة، جرت وتجري حالياً.
* حادثة:-
كانت فئة من المجاهدين تعاني في قطاعها فقراً شديداً بالمال والسلاح والطعام، حتى عرف أفرادها الجوع، ورأى أحد الأثرياء المخلصين المتصلين بهذه الفئة في المنام من يقول له: إنه إذا وزع أربعين ألفاً على العميان والفقراء المجاورين عند المقام الفلاني فسينتصرون.
ووزع المبلغ على العميان والفقراء المجاورين، وأخذ ينتظر النصر.(79/280)
ولم يطل الانتظار، فقد هوجمت هذه الفئة دون أن تستطيع مقاومةً ولا دفاعاً وسحقت؛ لأنها كانت مفتقرة إلى السلاح، وكان الجوع ينهكها.
* حادثة ثانية:-
أربعة شباب باعوا أنفسهم لله، وانضموا إلى فئة من المجاهدين، لكنهم رأوا أفراد هذه الفئة يعكفون على قبر يطلبون عنده الثواب، ويستنزلون النصر! فنصحوهم وجاءوهم بالبينات من نصوص القرآن والسنة التي تثبت أن هذا العمل من الشرك العظيم.
عقد أفراد الفئة المجاهدة مؤتمراً فيما بينهم وشكلوا محكمة برئاسة عالمهم، حاكمت الشبان الأربعة محاكمة (عادلة)! فقد استمعت إلى أقوالهم وأدلتهم من القرآن والسنة برحابة صدر، ثم أصدرت حكمها عليهم بالإعدام، ونفذ الإعدام.
* واعظ:-
رجل يقول بلسان حاله: إنه عالم، يناقش حالة المسلمين، ويلقي مواعظه، ومن هذه المواعظ ما معناه:
إن السبب في انهيار المسلمين هو عدم الإخلاص، فلو كنا مخلصين لكفانا أن نحمل البندقية، ونوجهها باتجاه العدو كيفما كان، وستخرج الرصاصة لتصيب منه مقتلاً...
* وواعظ آخر:-
يقول ما معناه:
إن العلة في المسلمين هي عدم الخشوع في الصلاة، وعلينا أن ندعو للخشوع، ونحث عليه، وعندما يتحقق ذلك يتحقق النصر.
وتعليقاً على هذه المواعظ نقول:
الإخلاص مطلب أساسي، لكن نسأل: الإخلاص لماذا؟ هل نخلص لما نتوهمه أنه الحق؟ إن هذا النوع من الإخلاص ليس إسلامنا؛ لأن الإسلام يأمرنا أن نعرف الحق أولاً بالأسلوب العلمي الصحيح، ثم نخلص في أقوالنا وأعمالنا وكل سلوكنا لهذا الحق. والخشوع أيضاً مطلوب، لكن كيف يكون؟ وفيم؟ إن كانت العقيدة فاسدة فالخشوع ضغث على إبالة، وإن كانت العبادة غير صحيحة، فالخشوع فيها رزء فوق رزء، وإن كان العمل الدنيوي في اتجاه معكوس أو منحرف فالخشوع يزيد الطين بلة، إن الوثني التقي يخشع أمام وثنه وفي عبادته، فهل ينفعه خشوعه؟ والماركسية الزاحفة يعجبها كثيراً أن نعمل على إيقافها بالخشوع، وبقراءة البخاري جماعة في المساجد.(79/281)
وزيادة في التوكيد، نضيف كلمة أخرى لأبي الحسن الندوي عن حالة المسلمين التي كانوا عليها في القرون الأخيرة، يقول:
...لا بد أن نشير إلى أن ذلك الوسط والعهد (القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين)...كان التصوف فيهما قد تغلغل في أحشاء المجتمع الإسلامي، وامتزج بلحمه ودمه، حتى أصبح التصوف له طبيعةً وذوقاً، وسمةً وشعاراً... بل كانت العامة لا تعبأ بعالم أو مرب أو مصلح، ولا تقيم له وزناً، ولا تعتقد فيه الخير والصلاح، ولا تنتفع بمواعظه وكتاباته، ما لم يكن له إلمام بالتصوف والسلوك، ويكون قد صحب بعض المشايخ المعروفين، وانخرط في سلك بعض الطرق السائدة المقبولة في الناس(1).
ويقرر في كتاب آخر ناقلاً:
...في القرن الثامن عشر (الميلادي)، كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركه، فارْبَدَّ جَوُّهُ، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب وتلاشى ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي.
واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال...وقام كثير من الولاة والأمراء يخرجون على الدولة التي هم في حكمها، وينشئون حكومات مستقلة، ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخوارج لا يستطيعون إخضاع من في حكمهم من الزعماء هنا وهناك، فكثر السلب والنهب، وفقد الأمن، وصارت السماء تمطر ظلماً وجوراً، وجاء فوق جميع ذلك رجال الدين المستبدون يزيدون الرعايا إرهاقاً فوق إرهاق، فغلّت الأيدي، وقعد عن طلب الرزق، وكاد العزم يتلاشى في نفوس المسلمين، وبارت التجارة بواراً شديداً، وأهملت الزراعة أيما إهمال.
__________
(1) الإمام السرهندي حياته وأعماله، (ص:124).(79/282)
وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عديد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون (والحشيشية)، في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات من غير خشية ولا استحياء(1). اهـ.
يقول أبو الحسن الندوي عند إيراده (مقرراً) هذا النص: إنه لا يتحمل مسؤولية صحته مائة في المائة.
ونجيبه: تأكد يا أستاذنا أنه صحيح مائة في المائة، وأن الإسلام يعيش غربته منذ قرون طويلة.
* وثنية الأمير:-
رأينا من أقوالهم في الفصول السابقة مدى تقديسهم للشيخ، وما يعتقدونه في الشيوخ من القدرة الإلهية والتصرف في الكون، بل وكل الصفات الحسنى.
وعملياً، كان هذا التقديس وهذا الاعتقاد عندهم ركنين أساسيين من أركان الإسلام والإيمان، أو كانا الركنين اللذين يقوم عليهما ما يسمونه (الإحسان).
وبما أن الصوفية كانت مسيطرة على المجتمعات الإسلامية، ومتغلغلة في نفوس كل المسلمين، إلا من رحم الله، لذلك كانت نظرة الجميع إلى الشيخ هي هذه النظرة التقديسية.
وبطبيعة الحال، انزلق هذا التسليم للشيخ والاعتقاد بقدرته الإلهية، إلى التسليم لأي رئيس والاعتقاد بقدرته الإلهية، فصاروا ينتظرون من الأمير أن يصلح ما يفسدون وأن يقول للشيء: كن فيكون.
__________
(1) الإمام الدهلوي، (ص:34).(79/283)
وهذه العقيدة بالذات هي التي أضاعت بلاد المسلمين، فلقد كان الفساد الذي رأينا صوره، مستشرياً هناك بسبب الصوفية، وكان الدعاة والوعاظ كلهم، حتى من كان على نهج الإسلام الصحيح، ينتظرون الأمير الذي يغير ذلك الحال ويصلح الأحوال، ناسين قوله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11].
وطبعاً، لا يملك الأمير القدرة الإلهية، ولم تكن لديه تلك العصا السحرية التي يحركها فتغدو الخيانة أمانة والكذب صدقاً والقناعات الفكرية المزورة حقاً ووعياً.
وبما أن القناعات المسيطرة على الناس والمتغلغلة في أعماق نفوسهم هي قدرة الأمير، لذلك كانوا يتهمونه بالجبن أو بالخيانة أو بالظلم أو ما شابهها. فيثور عليه ثائر يزيحه ويجلس مكانه، وهو يظن أنه شجاع وأمين، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فيتهمه الناس بدورهم بما اتهموا سلفه، فيضطر للبطش بهذا أو ذاك دفاعاً عن نفسه، ويستشري التناحر بين أنصاره وأعدائه، حتى يثور عليه ثائر آخر، فإما أن يزيحه أو ينفصل عنه... وهكذا.
وهكذا بقيت الأمة تعيش في فتن مستمرة، ونهاية الفتن معروفة، إنها دمار الأمة. وهكذا ذهبت بلاد المسلمين، كما أنها الآن في طريقها للضياع بلداً بعد آخر بيد الماركسية، على يد دعاة ينبثقون من روح وثنية الحاكم، مثيرين الفتن ضد أعداء الماركسية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهؤلاء، وإن كان بعضهم غير صوفي، لكن نظرتهم هذه انبثقت في أساسها من الصوفية التي حرثت، وجاء الخبثاء؟ فزرعوا وحصدوا.
* النظرة الطفولية للأمور:-
إن تقديس الشيخ الذي انزلق إلى النظرة التأليهية للحاكم، ومرور قرون على المسلمين وهم يتحركون في هذا الإطار، جعل النظرة الطفولية للأمور من الخواص المسيطرة على التفكير والمسيرة له، إلا من رحم الله.(79/284)
فالطفل في أشهره الأولى لا يرى إلا البارز من الأشياء، فعندما يحمله أبوه، يمد يده إلى أنفه، أو إلى يده إن كانت قريبة منه، ولو وضعت أمامه على الأرض أشياء مختلفة الأحجام، فإنما يمد يده إلى البارز منها سواء لكبر حجمه أو لوجوده على مكان بارز. فهكذا المسلمون الآن لا يرون في المجتمعات إلا البارز، والحاكم أبرزهم، لذلك فهو المطالَب بإقامة حكم الله، وهو المطالب بالنصر، وعليه تبعة انهيار الأخلاق وتبعة الهزائم...إلخ. والعجب العجاب المثير للارتياب أنهم لا يلقون هذه التبعات إلا على الذين يحاربون الماركسية.
ومما نسمعه، مثلاً، من أدعية يدعو بها من يسمونهم (علماء): اللهم هيئ لهذه الأمة قائداً صالحاً يقيم فيها حكم الله ويقودها إلى النصر...إلخ.
وكأن القائد معه عصاً سحرية، أو له قوة إلهية، وكأن الإسلام نزوة حاكم، وكأنهم نسوا قول الله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) [الرعد:11].
ومن الأمثلة على النظرة الطفولية للأمور، سؤال كثيراً ما سمعناه، وهو: هل نحن الآن في عهد مكي، أو في عهد مدني؛ وكثيراً ما دارت النقاشات حول هذا التساؤل! وكأن التاريخ عبارة عن كليشة يكرر طبعها في كل مكان وزمان، وعلينا أن نعرف موضعنا من هذه الكليشة. ورغم أن هذا السؤال قد يصدر عن غير متصوفة، لكن ما كان يمكن قبوله لولا النظرة الطفولية التي انبثقت من التسليم للشيخ، وعدم القيام بأي عمل، بل وعدم التفكير بالقيام به أو التفكير بكيفية هذا القيام، وإنما يعرض الأمر على الشيخ، ويطبق ما يقوله حرفياً دون مناقشته أو حتى الاستفهام منه عن غريبه (من قال لشيخه: لِمَ؟ لا يفلح أبداً). وكان التقي الورع الذي يرجو الفلاح والذي كان يَنْظُر إليه على أنه نخبة الأمة، كان لا يفكر في أي أمر، وإنما يعرضه على الشيخ، ويطلب توجيهه المقدس، ويدعو الناس في وعظه وخطبه إلى مثل هذا.(79/285)
ومن أخطر مظاهر هذه النظرة الطفولية الواضحة، إن لم يكن أشدها خطراً، هو مناقشة الأمور دون إدراك للعلاقة بين الأسباب والنتائج.
ومن المفاسد القاتلة التي انبثقت عن الصوفية قبول المتناقضات على أنها كلها صحيحة؛ لأن احترام الشيوخ وتقديسهم وتقديس أقوالهم كان طيلة قرون طويلة هو طريق النجاة والفلاح، وبطبيعة الحال، كانت أقوالهم متناقضة وساقطة بسبب جهلهم من جهة، ولأنهم كانوا يأخذون علومهم من الكشف والعلم اللدني من جهة ثانية، وبسبب الغرور الذي يسببه تقديس الناس لهم، والذي يجعلهم يعتقدون أن كل ما يجري على ألسنتهم من هذيانات هو من باب (حدثني قلبي عن ربي) ؛ وكان الناس كلهم إلا من رحم الله، يعتقدون في الشيوخ هذا الاعتقاد ويطبقونه؟ لذلك كانوا يقبلون المتناقضات على أنها من عند الله، ولا تعترض فتنطرد، وكانت هذه الحالة من الأسباب الرئيسية في تشتت أفكار الأمة وتخبطها.
ومن مظاهر الفساد المدمر التي انبثقت عن الصوفية (الطبطبة) على المفاسد ومحاولة تبريرها، بل والإصرار على عدم وجودها ومهاجمة من يحاربها بأساليب شتى.
وطبعاً، انبثقت هذه الظاهرة من قاعدة: سلم تسلم، أو لا تعترض فتطرد.
ومن الفساد الذي سيطر على الأمة قروناً طويلة الازدواجية في العقيدة وفي التفكير التي كان يعيشها وعاظ الأمة وموجهوها ودعاتها، إلا من رحم الله، حيث كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون، يبطنون وحدة الوجود وما يتفرع عنها، ويظهرون الشريعة الإسلامية التي يحاولون توجيهها لتتفق مع ما يبطنون.
وفي واقع الأمر كان هناك صراع خفي يتفاعل في ضمير كثير من العلماء الذين قبلوا الصوفية حيث كان يظهر هذا الصراع في كتابات بعضهم وفي أقوالهم وبعض أفعالهم، مثل ما نراه عند أحمد الفاروقي السرهندي وأمثاله الذين كانوا يتشددون في وجوب كتمان السر إلا عن مستحقيه، ويهاجمون من يصرح بالوحدة.
هذا موجز لدور الصوفية في تمزيق الأمة الإسلامية.(79/286)
لكن يوجد إلى جانبها عاملان آخران تأتي أهميتهما بعد الصوفية، وهما:
أ- الخلفيات الفكرية والعقائد والفلسفات: التي كانت تشكل تيارات في المجتمعات الإسلامية تحيط بالشيخ وتوجه كشوفه وعلومه اللدنية؛ لأن الرؤى الكشفية هي انبثاقات للمعلومات والتوجهات والأماني والطموحات المختزنة في أعماق الشيخ، ومنها تلك الخلفيات الفكرية والعقائد، مع العلم أن بعضها وجد بسبب الصوفية أيضاً. فمحمد بن فلاح، مثلاً، تشيع بسبب المحيط الذي كان يعيش فيه، في الحلة التي كان التشيع غالباً في أهلها، ثم شيع أتباعه بمئات الألوف بواسطة الصوفية...وهكذا.
ب- الموقف السلبي في مواجهة الصوفية: وذلك بحجج هي أقبح من الصوفية، وهي متعددة، لكن أبرزها وأبشعها حجتان:
1- قول من يقول: لا تفرقوا صفوف المسلمين. يقولها لمن يشرح للناس خطر الصوفية ويبين زيفها وضلالها؟!
والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو قوله سبحانه: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران:103]، أي: إن جمع الصفوف يكون بالاعتصام بالقرآن والسنة اللذين هما حبل الله، وتفريق الصفوف يكون بالابتعاد عنهما.
وهذا الذي يقول لدعاة الحق: لا تفرقوا صفوف المسلمين، إنما يقدم العون الأكبر لاستشراء الداء وتفريق المسلمين وتمزيقهم، كما هو حاصل؛ وهو داخل في زمرة الموصوفين بالآية الكريمة: ((....كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ...)) [المائدة:79].
2- قول من يقول: لا تكفر مسلماً! كيف تكفر رجلاً يشهد أن لا إله الا الله؟
والجواب على هذه الحجة الفاسدة هو أولاً: أن المسألة ليست مسألة تكفير مسلم، وإنما هي مسألة بيان الحق من الباطل والهدى من الضلال، ثم إن كل البلاء الذي أصاب الأمة ودمرها، جاء في الأساس على يد أناس يشهدون أن لا إله إلا الله ويضمرون ما يضمرون، وأكثرهم- إن لم يكونوا كلهم- مخلصون فيما جاءوا به ويعتقدون أنه الحق.(79/287)
كما أن الواجب على المسلم أن يعرف الحق أولاً، كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[اعرفوا الحق تعرفوا أهله]]، وطبعاً، إذا عرفنا الباطل نعرف أهله أيضاً، ويجب أن نعرفه لنعرفهم.
قد كان من واجب علماء المسلمين أن يدرسوا الصوفية دراسة واعية ثم ينبهوا الأمة إلى خطرها؛ لكن الذي حصل أن فطاحل العلماء كانوا لا ينظرون إلا إلى ظاهرها وإلى عباراتها المتداولة دون محاولة لتفهم حقيقة معانيها ومراميها، فما كان واضح الدلالة على وحدة الوجود، أي ما كان من عبارات الوحدة المطلقة، حكموا عليه بالكفر، وما كان غامضاً أولوه التأويل الحسن بحجة عدم تكفير المسلم؛ ولأنهم لم يحاولوا دراسة الصوفية بعمق، ولم يتنبهوا إلى تواصيهم بالتقية وكتمان السر عن غير أهله، وأن هذا السر كفر وزندقة!
وعدم دراستهم للصوفية جعلهم يرتكبون أخطاءً كان لها دور واضح في بقاء مسيرة التصوف لتفعل فعلتها التي فعلت، ومن هذه الأخطاء:
* قولهم: إن في المتصوفة من يؤمن بوحدة الوجود، ومنهم من يقول بالاتحاد أو بالحلول، وفيهم الأتقياء الذين يسيرون على منهج الصوفية الحقة التي لا تؤمن بهذه الأمور.
وطبعاً؛ هذا كلام خطأ كله، فالصوفية مذهب واحد، وعقيدتها هي وحدة الوجود، ولا يوجد بين متصوفة المسلمين من يقول أو يعتقد بالاتحاد أو الحلول، (لا يوجد ولم يوجد)، كما أن الذين لا يعرفون وحدة الوجود بينهم هم السالكون الذين لم يبلغوا بعد محل ثقة الشيخ.
* ومن هذه الأخطاء قولهم: إن في المتصوفة من يقول بالحقيقة المحمدية، ومنهم من لا يقول بها! وهذا خطأ كله؛ فالمتصوفون كلهم، حتى السالكون المبتدئون، تشرح لهم الحقيقة المحمدية ويؤمنون بها، وقد يسمونها أسماء أخرى، مثل: (أسبقية النور المحمدي، أو أول خلق الله...).(79/288)
وقد استغل المتصوفة هذا الموقف، وصاروا كلهم يقولون عن أنفسهم وعن مشايخهم وأتباعهم وأمثالهم: إنهم على الصوفية الحقة، ثم ينهالون بالشتائم على الدخلاء على الصوفية وعلى المبتدعة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، أو الذين يقولون بالوحدة المطلقة (أي: غير المقيدة بالرمز واللغز).
وهكذا بقيت مسيرة التصوف، وأوصلت الأمة إلى ما نراه الآن، مع العلم أنها الآن أقل سيطرة بكثير مما كانت عليه في قرون سابقة.
لكن بشيء من التدقيق، يتضح أن هاتين الحجتين السلبيتين هما أيضاً من نتاج الصوفية، ومن أساليب المتصوفة في الدفاع عن أنفسهم ومعتقدهم، حتى فشتا بين الأمة.
إن هذه الأمراض والمفاسد، ارتكزت في سريانها في الأمة على مرضين خبيثين بعثتهما الصوفية في الأمة، هما: الجهل والعقم الفكري.
* الجهل:-
لولاه لما استطاعت هذه المفاسد- وغيرها- أن تجد لها مكاناً في المجتمعات الإسلامية، وقد رأينا في الفصول السابقة النصوص الكثيرة لأقطابهم وعارفيهم، التي يأمرون بها بالجهل والابتعاد عن العلم، بل وينفرون بها من مجرد معرفة القراءة والكتابة، وهي غيض من فيض، ولولا أن تلاوة القرآن فرض على المسلمين، ومعرفة الحلال والحرام فرض على فئة منهم، لنسيت القراءة والكتابة جملةً وتفصيلاً، والله وحده يعلم إلى ماذا كانت ستؤول إليه أحوال الأمة.
* العقم الفكري:-
رأينا في الفصول السابقة، ونرى في مجتمعاتنا الحالية، الأمثلة الكثيرة الكثيرة على فرض الصوفية على المريدين أن يكونوا بين يدي الشيخ كالأموات بين أيدي الغاسلين، ورأينا، ونرى، كيف أن الفرد من المريدين لا يفكر لنفسه ولا لغيره، وإنما يذهب إلى الشيخ ليفكر له، ولا يطلب معرفة، بل يذهب إلى الشيخ ليفيض عليه من معارفه اللدنية، ولا يقضي أمراً حتى يرى الشيخ فيه رأيه...إلخ.(79/289)
كانت هذه حالة كل الأمة، إلا من رحم الله، بل إن هذا (الحال) صار (مقاماً) عالياً، حتى كانوا لا يحاولون، بل يتواصون بعدم محاولة فهم نصوص القرآن والسنة إلا من الشيخ، فإذا أخطأ الشيخ، فخطؤه خير من صوابك! وإذا كان جاهلاً، فجهله خير من علمك! وإذا ناقضت أقواله النصوص، فاتباع فهمه هو الإيمان، واتباع فهمك هو الضلال! وإذا تناقضت أقوال الشيوخ فيما بينهم، فكلهم من رسول الله مقتبس (بالكشف طبعاً)...إلى آخر القائمة...ومثل هذا موجود حتى الآن.
وبذلك سيطر العقم الفكري، بل الشلل الفكري على الأمة، حتى وصلت إلى ما هي عليه.
إن الله سبحانه وتعالى لم يظلم المسلمين عندما سلط عليهم الاستعمار. حاشاه سبحانه وتعالى من الظلم؛ وإذ كان الجزاء من جنس العمل، فقد كان الاستعمار هو الدواء النجس لتلك العلة الخبيثة.
وقد يسأل سائل: ألا يوجد في الصوفية إيجابيات؟ والجواب: نعم، لها إيجابيتان:
1- الأدب الرمزي، إذ أن متصوفة المسلمين هم الذين ابتكروه لستر حقيقتهم، ولم ينتشر في العالم إلا بعدهم بقرون طويلة، ويظهر أن مبتكريه كانوا سابقين للجنيد في الزمان، لكن الجنيد هو الذي بلوره ووضع له القواعد والمصطلحات وكثيراً من عباراته التي يستعملونها.
2- بعض التفاصيل التاريخية، حيث تقدم كتب المتصوفة صوراً من حياة المجتمعات الإسلامية وعاداتها لا نراها في غيرها، كما نستطيع من خلالها تفسير بعض إشارات الاستفهام التاريخية عند المسلمين وعند غيرهم أيضاً.
الفصل الخامس
تكفير المتصوفة
لقد كُفِّر المتصوفةُ وزُنْدِقوا، وقُتِل منهم مَن قُتِل على الزندقة، واستطاع الباقون التخلص من عقوبة الزندقة بالتستر بالفقه والصلاة والصيام وقراءة القرآن، وكان هذا هو المنطلق لإيجاد الطريقة البرهانية الغزالية التي مزجت الإسلام بالتصوف، واستطاع هذا السرطان القاتل أن يسري في جسم الأمة الإسلامية ليدمر دينها ودنياها.
وهذا كشف ببعض من كفر وزندق وقتل، منقول من كتبهم:(79/290)
يقول عبد الوهاب الشعراني في طبقاته(1):-
...ونقل الثقات (ويزيد في كتاب اليواقيت والجواهر قوله: منهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، وأحمد بن خلكان، والشيخ عبد الغفار القوصي، وغيرهم)(2)عن:
- أبي يزيد البسطامي أنهم نفوه من بلده سبع مرات.
- وكذلك وقع لذي النون المصري أنهم وشوا به إلى بعض الحكام، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولاً مقيداً، (ويضيف في اليواقيت والجواهر: سافر معه أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة).
- وكذلك وقع لسمنون المحب محنة عظيمة... ثم إن الخليفة أمر بضرب عنق سمنون وأصحابه فمنهم من هرب، ومنهم من توارى سنين...
- وكذلك وقع أنهم رموا أبا سعيد الخراز وأفتى العلماء بتكفيره.
- وأخرجوا سهل بن عبد الله من بلده (تستر) إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه.
- وقتل حسين الحلاج... (وبعد صفحتين: ووقع الاختلاف أهو الذي صلب أم رفع كما وقع في عيسى عليه الصلاة والسلام).
- وشهدوا على الجنيد حين كان يقرر في علم التوحيد، ثم إنه تستر بالفقه...
(ويقول صاحب اللمع: فكم من مرة قد طلب وأخذ، وشهدوا عليه بالكفر والزندقة)(3)، وصاحب اللمع قريب عهد بالجنيد.
- وأخرجوا محمد بن الفضيل البلخي بسبب المذهب.
- وعقدوا للشيخ عبد الله بن أبي جمرة مجلساً في الرد عليه...فلزم بيته، فلم يخرج إلا للجمعة حتى مات.
- وأخرجوا الحكيم الترمذي (من ترمذ)...حين صنف كتاب علل الشريعة وكتاب ختم الأولياء وأنكروا عليه..
- وأنكر زهاد الراز(4) وصوفيتها على يوسف بن الحسين وتكلموا فيه ورموه بالعظائم.
__________
(1) الطبقات الكبرى: (1/15، 16، 17).
(2) اليواقيت والجواهر: (1/13).
(3) اللمع، (ص:500).
(4) المدينة هي الري، وليست الراز، والنسبة إلى الري هي (الرازي)، ولعله عرف أن اسم المدينة هو الراز عن طريق الكشف والعلم اللدني. أما قوله: وصوفيتها، فيدل على أن الصوفية قد يشتركون أيضاً في تكفير الصوفي، لكن مجاراة للناس وتستراً على حقيقتهم.(79/291)
- وأخرجوا أبا الحسن البوشنجي وأنكروا عليه وطردوه...
- وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة.. وطاف به العلوية (أي: أحفاد علي بن أبي طالب) على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه ومنكبيه...
- وشهدوا على السبكي بالكفر مراراً...
- وقال أهل المغرب على الإمام أبي بكر النابلسي...فأخرجوه من المغرب مقيداً إلى مصر وشهدوا عليه عند السلطان...فأخذ وسلخ وهو حي...أو قتل ثم سلخ. - وأخرجوا الشيخ أبا مدين المغربي من بجاية...(مات وهو في طريقه إلى القتل).
- وأخرجوا أبا القاسم النصراباذي من البصرة وأنكروا عليه..
- وأخرجوا أبا عبد الله الشجري صاحب أبي حفص الحداد...
- وشهدوا على أبي الحسن الحصري بالكفر...
- وتكلموا في ابن سمنون وغيره بالكلام الفاحش حتى مات فلم يحضروا له جنازة.
- وتكلموا في الإمام أبي القاسم بن جميل بالعظائم إلى أن مات...
- وأفتوا بتكفير الإمام الغزالي وأحرقوا كتابه (الإحياء)...وكان من جملة من أنكر على الغزالي وأفتى بتحريق كتابه القاضي عياض وابن رشد..
- وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من بلاد المغرب بجماعته ثم كاتبوا نائب الإسكندرية بأنه سيقدم عليكم مغربي زنديق...
- ورموا الشيخ أحمد بن الرفاعي بالزندقة والإلحاد...
- وقتلوا الإمام أبا القاسم بن قسي...
- وقتلوا ابن برّجان (شيخ ابن عربي أو شيخ شيخه)، والخولي، والمرجاني...فشهدوا عليهم بالكفر...
- وأما الشيخ محيي الدين بن عربي وسيدي عمر بن الفارض فلم يزل المنكرون ينكرون عليهما إلى وقتنا هذا...
- وأنكروا على الشيخ عبد الحق بن سبعين وأخرجوه من بلاد المغرب وأرسلوا نجاباً بدرج مكتوب أمامه يحذرون أهل مصر منه.
- ومما أورده الشعراني أيضاً في نفس طبقاته متفرقاً في ترجماته للمذكورين.
- أبو نعيم الأصفهاني، أخرجه أهل أصفهان ومنعوه من الجلوس في الجامع.
- عبد السلام بن مشيش، شيخ أبي الحسن الشاذلي، قتل في بلاد المغرب.(79/292)
- محمد الرويجل العريان قتله العثمانيون حين دخول مصر.
- أبو العباس أحمد الملثم كفروه.
- أبو الفتح الواسطي كان مبتلى بالإنكار عليه، مات في الإسكندرية حوالي سنة (580هـ).
- عبد الله بن محمد العرشي المرجاني، امتحن وأفتى العلماء بتكفيره، قتل في تونس سنة (669هـ).
- محمد القونوي (صدر الدين) صاحب ابن عربي وابن زوجته كان مبتلى بالإنكار عليه مات في قونية سنة (672هـ).
ومما أورده الشعراني أيضاً في اليواقيت والجواهر:
- وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً(1).
- وأنكروا على سيدي إبراهيم الجعبري، وسيدي حسين الجاكي(2).
* ملحوظة: شهادات التكفير هذه هي مما أورده الشعراني في طبقاته ويواقيته.
وقد أخذها من كتب التراجم المختلفة.
ومما لم يذكره الشعراني وذكره صاحب اللمع:
- أبو عبد الله الحسين بن مكي الصبيحي: كفره أبو عبد الله الزبيري وهيج عليه العامة.
- أبو العباس أحمد بن عطاء: رفع إلى السلطان ونسب إلى الكفر والزندقة، فقتل ضرباً بخفه.
- أبو حمزة الصوفي: كفروه، ويقول ابن الجوزي في (تلبيسه): إنهم قتلوه ونادوا على فرسه: هذا فرس الزنديق.
- محمد بن موسى الفرغاني: لأهل التعنت فيه مقال.
- أبو الحسين النوري: شهدوا عليه بالكفر.
هذا مما أورده أبو نصر الطوسي في كتابه اللمع (في ترجمته للمذكورين).
وأورد اليافعي في نشر المحاسن:
__________
(1) اليواقيت والجواهر: (1/13).
(2) اليواقيت والجواهر: (1/14).(79/293)
...لما سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور، وهو إمام القوم وسيدهم...وأما أبو الحسين النوري فقبض عليه، وكان أحد أركان المذهب وسادات القوم...وقبض معه أيضاً على أبي حمزة البغدادي، وكان أحد علماء القوم وساداتهم والمذكورين بالفتوة والتوكل...وقبض أيضاً على أبي بكر الزقاق، وكان أيضاً أحد سادات القوم والمتكلمين في المعاملات بأحسن الكلام...وقبض أيضاً على الشحام والرقام، وبسط النطع لضرب رقابهم...(1).
- أقول: يظهر أن الوزير كان من القوم، وكان يتستر بالفقه، فأنقذهم من القتل بأسلوب ذكي.
- وعدي بن مسافر، شيخ الطريقة العدوية التي هي الآن اليزيدية، نبش قبره وأحرق ما فيه مرتين، مرة سنة (652هـ) على يد أمير الموصل، ومرة سنة (817هـ) على يد جماعات كبيرة من الأكراد(2).
- وأبو حيان التوحيدي، نفي لسوء عقيدته، وكان من شيراز وهو شيخ الصوفية(3).
- وشهاب الدين السهروردي المقتول (يحيى بن حبش) قتل في حلب على الزندقة سنة (587هـ).
- وعبد القادر الجيلاني، يقول المؤرخون: إن الوزير عبيد الله بن يونس أخرب بيته وشتت أولاده، ويقال: إنه بعث في الليل من نبش عليه (في قبره)، ورمى بعظامه في اللجة(4).
- لسان الدين بن الخطيب (وزير غرناطة) قتل على الزندقة بسبب كتابه في التصوف روضة التعريف سنة (776هـ)(5).
__________
(1) نشر المحاسن الغالية، (ص:422).
(2) اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، (ص:136، 138).
(3) لسان الميزان للذهبي.
(4) النجوم الزاهرة وشذرات الذهب وغيرها في حوادث سنة (593هـ).
(5) روضة التعريف بالحب الشريف، (التقديم)، (ص:33).(79/294)
- إن كهان التصوف الذين ذكروا في كتبهم حوادث التكفير والتقتيل والتشريد إنما ذكروها ليخدعوا بها القارئ الغافل، وليقولوا له: إن الأولياء مبتلون دائماً بالأعداء. وهي خدعة فيها كثير من الذكاء والخبث؛ لأنهم بهذا الأسلوب يؤولون حقائق التاريخ التي لا يستطيعون طمسها تأويلاً يخدم أغراضهم ويخفي سوءاتهم ويكسبهم عطف الآخرين.
- كما إن إصرارهم العجيب على الالتزام المريب بالحفاظ على مسيرة الكهانة وعلى نموها في المجتمعات الإسلامية، رغم التكفير والتقتيل والتشريد، هو دليل جديد على أن الكهانة لم تمت بظهور الإسلام، وإنما لاذت في الظلام، وبقيت تعمل بصمت وتنفث سمومها بهدوء حتى تهيأت لها الظروف الاجتماعية والفكرية، فعادت إلى الظهور من جديد.
- كما تجدر الملحوظةأن كتب المتصوفة مشحونة بالكذب الذي لا يعرف الحدود، ولكن كل كذبهم هو في صالح التصوف، وفي موضوع التكفير هذا، لم يكذبوا بتقرير واقع الذي كفروا أو قتلوا؛ لأن هذا ثابت في كتب التاريخ، وإنما كذبوا بتفسير ذلك لمصلحتهم.
- كما أن هذا التكفير والتقتيل هو صورة من صور محاربة الإسلام للصوفية، منذ ظهوره وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
مع الظن الذي يكاد يقترب من الاعتقاد، أن القيامة ستقوم على الصوفية الممزوجة بشكل متطور عن الشيوعية، والذي يدعو إلى هذا الظن هو ملحوظة الخط البياني لمسيرة التصوف عبر التاريخ، وكون الإشراق (التحشيشي والرياضي) هو أحد شركي إبليس لإخراج بني آدم من الجنة، والذي نستطيع أن نسميه (الشرك الروحاني) مقابلة مع الشرك الأول (الشرك الجنسي).
- ولا يظن ظان أن هؤلاء المذكورين هم وحدهم الذين كفروا وشردوا وقتلوا بسبب كفرهم، بل هم كثير، وأي مسلم عندما يعرف أي حقيقة من حقائقهم يحكم عليها وعلى فاعلها بالكفر، إلا الذين عميت منهم البصائر واستجرهم إبليس إلى حظائره.
* للتسلية: حرق كتب الغزالي وتضليله:(79/295)
يقول عبد القادر بن شيخ العيدروس في تعريف الأحياء بفضائل الإحياء:
...نقل ابن السمعاني من رؤيا بعضهم فيما يرى النائم كأن الشمس طلعت من مغربها، مع تعبير ثقات المعبرين ببدعة تحدث، فحدثت في جميع المغرب بدعة الأمر بإحراق كتبه(1)...(أي: كتب الغزالي).
ويقول الغزالي ذاته في كتابه (الإملاء في إشكالات الإحياء):
...سألتَ...عن بعض ما وقع في الإملاء الملقب بالإحياء مما أشكل على من حُجب فهمه وقصر علمه ولم يفز بشيء من الحظوظ الملكية قِدْحه وسهمه، وأظهرت التحزن لما شاش به شركاء الطعام وأمثال الأنعام وإجماع العوام وسفهاء الأحلام وذعار أهل الإسلام، حتى طعنوا عليه ونهوا عن قراءته ومطالعته، وأفتوا بمجرد الهوى على غير بصيرة بإطراحه ومنابذته، ونسبوا ممليه إلى ضلال وإضلال، ونبذوا قراءه ومنتحليه بزيغ في الشريعة واختلال(2)...
- يهمنا في هذه النصوص إحراق كتب الغزالي وتضليله، أما دفاعه عن نفسه ودفاع العيدروس عنه فهو أمر عادي، إذ كل إنسان يدافع عن نفسه وعن عقيدته بما يستطيع. - وهذه طائفة من العلماء الذين اعترضوا على الغزالي وكتبه، منهم:
- الإمام أبو عبد الله محمد بن علي المازري (من فقهاء المالكية توفي سنة 536 هـ في المهدية). له كتاب الكشف والإنباء في الرد على الإحياء، من أقواله في الغزالي: ...وعرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة...(إلى أن يذكر ابن سينا) ثم يقول: وقد رأيت جملاً من دواوينه (أي: ابن سينا)، ورأيت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من الفلسفة(3)...
__________
(1) هامش إحياء علوم الدين: (1/29).
(2) هامش إحياء علوم الدين: (1/49).
(3) غاية الأماني: (2/366) نقلاً عن طبقات السبكي.(79/296)
- ابن الصلاح، تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن (المحدث المعروف، تنقل وتوفي في دمشق سنة 643 هـ): تكلم في الغزالي بكلام قادح فيه، وطعن على كتبه بأنها مشتملة على خرافات وأكاذيب وموضوعات(1).
- عبد اللطيف الحنبلي(2): يقول في رسالة لبعض أصحابه: ...بلغني أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين...قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها.. بل أفتى بتحريفها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين، وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل(3).
- والقاضي عياض(4): من أقواله: الشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة...وساءت به ظنون الأمة(5)...
- والذهبي(6): يقول: قد ألف الرجل (أي: الغزالي) في ذم الفلاسفة...ووافقهم في مواضع ظناً منه أن ذلك حق أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسُمٌّ قاتل...فالحذر الحذر من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل(7)...
__________
(1) غاية الأماني: (2/368).
(2) لم أستطع معرفة هويته.
(3) غاية الأماني: (2/369).
(4) القاضي عياض (أشهر من أن يعرف) بن موسى بن عياض، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث في وقته، توفي في مراكش سنة (544هـ-1149م).
(5) غاية الأماني: (2/370).
(6) الذهبي، أشهر من أن يعرف، هو محمد بن أحمد بن عثمان.. الحافظ المؤرخ العلامة، توفي في دمشق سنة (748هـ-1348م).
(7) غاية الأماني: (2/370).(79/297)
- وأبو عبد الله القرطبي(1) (صاحب التفسير) يقول: إن بعض من يعظ، ممن كان ينتحل رسم الفقه ثم تبرأ منه شغفاً بالشرعة الغزالية والنحلة الصوفية، قد أنشأ كراسة على معنى التعصب لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين وشريعة سيد المرسلين(2)...
- وأبو بكر الطرطوشي(3): يقول: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة(4). وللطرطوشي كتاب كبير في الرد على إحياء علوم الدين.
- ابن رشد (الحفيد)، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، أشهر من أن يعرف(5)، من أهل قرطبة له كتاب تهافت التهافت في الرد على الغزالي.
- وغيرهم كثير.
* وقفة مع آية قرآنية:
أليس من الجائز أن تكون الشجرة التي نُهيَ آدم وحواء عن أكلها هي من نوع القنب الهندي (الحشيش) أو الخشخاش (الأفيون) أو فطر المكسيك أو ما شابهها؟ مما يسبب الهلوسة؟
الدافع إلى قبول هذه الفكرة ما يلي:
1- ((.. قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) [طه:120]، ((...مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20].
__________
(1) محمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرجي الأندلسي، صاحب التفسير المشهور، رحل وتوفي في مصر سنة (671هـ)/1273م.
(2) غاية الأماني: (2/372).
(3) محمد بن الوليد الفهري الأندلسي الطرطوشي، رحل وتوفي في الإسكندرية سنة (520هـ-1126م).
(4) غاية الأماني: (2/372).
(5) توفي في مراكش سنة (595هـ-1198م)، ونقلت جثته إلى قرطبة.(79/298)
رأينا أن من آثار تناول المهلسات، شعور المجذوب بسببها أنه ملك من الملائكة، وشعوره باللحظات القصيرة وكأنها آلاف السنين، وشعوره بأنه أدرك الواقع الحقيقي للعالم، وأن كل الأسرار تتكشف أمامه، وشعوره بأن نظره يحيط بفراغات لا متناهية، ورؤيته قصوراً وباحات وأقواساً وحدائق، ورؤيته أنه يعيش في رؤى جنة.
هذه المشاهدات والإحساسات، أليست نفس ما وصف به إبليس الشجرة المحرمة: ((شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) [طه:120]، ((أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20].
2- كذلك تقديس الأمم الوثنية لها، وتسميتهم الأفيون (حجر الخلود) و(شراب الآلهة)، وتسمية الحشيش (إكسير الخلود)...إلى آخر ما مر قبل صفحات.
أليس هو نفس معنى ((شَجَرَةِ الْخُلْدِ)) [طه:120]، و((تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20]، مع العلم أن المصدر في الحالتين هو إبليس.
3- ((يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)) [الأعراف:27]، ((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا...)) [الأعراف:20]، ((....فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)) [طه:121].
أكلا منها، فنزع عنهما لباسهما، فبدت لهما سوآتهما: أليس هذا ما يحدث لمتعاطي المهلسات؟
إن الصحف والمجلات تحدثت كثيراً عن شباب وفتيات يتعرون في الطرقات أثناء جذبة المخدرات، كما رأينا أن التعري يكاد يكون من لازمات جذبة التصوف!
والمصدر هو إبليس في جميع الحالات.
أفلا يساعد هذا على قبول أن الشجرة المحرمة هي من أشجار الهلوسة؟(79/299)
4- رأينا أن من هلاوس جذبة المخدرات (وجذبة التصوف)، رؤية الأطراف طويلة جداً، فعندما يتعرى المجذوب، يرى ما كان ذا امتداد من السوأة وقد غدا طويلاً، حتى قد يثير طوله الرعب! كما يرى ما كان ذا انخفاض منها خندقاً عميقاً، قد يثير الرعب أيضاً! كما يظهر الفرق بين سوأتي الرجل والمرأة مثيراً للدهشة! خاصة إن كانت الرؤية تحدث لأول مرة! الأمر الذي يثير الانتباه مهما كانت الغفلة! أفلا تسيطر علينا فكرة أن هذا ما حدث لآدم وحواء؟ أكلا من الشجرة، فنزع عنهما لباسهما، فبدت سوآتهما مختلفة الشكل مضخمة الأبعاد، مما أثار انتباههما؟
5- ((يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)) [الأعراف:27] أفلا تبين هذه الآية بوضوح أن إبليس يفتن بني آدم بنفس الخدعة التي أخرج بها أبويهم من الجنة؛ لأن الله سبحانه لم ينهنا أبداً عن شيء لا وجود له في الواقع، وهذه الآية لن تكون شاذة عن سائر الوحي.
وبدراسة الأديان الوثنية نرى الحشيش والأفيون وما شابههما، تلعب دوراً هاماً في عقائدها، وقد مر بعض هذا في فصل سابق.
كما أن كهانهم كانوا يقدمونها لمريديهم بنفس الحجة التي قدمها إبليس ((شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) [طه:120]، وكانوا يستعملونها كذلك للحصول على الحكمة وللوصول إلى الحقيقة وبنفس الحجة.
أي: إن إبليس فتن بني آدم بشجر الهلوسة (الحشيش ورفاقه).
أفلا يحق لنا أن نعتقد أن هذه الفتنة هي نفس الفتنة التي أخرح بها أبويهم من الجنة من قبل؟ انطلاقاً من منطوق الآية: ((لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ...)) [الأعراف:27].(79/300)
6- عند عدم وجود هذه الشجرة، بسبب عدم زرعها، أو بسبب تحريمها دينياً، نرى أن إبليس لم يتنازل عنها، بل فتش عما يقوم مقامها حتى وجده، فعلم بني آدم طريقة في الرياضة يستطيعون بها استغلال المخدر القوي الذي تفرزه بعض غددهم، واستعماله في غير ما خلق له، وأقنعهم كما أقنع أبويهم من قبل، أن هذا هو طريق الخلود والملك الذي لا يبلى والسير إلى الله...وسماها لهم أسماء خداعة كالحكمة والإشراق والمعرفة...
أي: إنه فتنهم بمادة من زمرة المادة الموجودة في شجرة الهلوسة، بل وأقوى منها.
أفلا نرى في هذا دليلاً مؤكداً على أن الشجرة المحرمة من شجر الهلوسة؟
7- في هذا التفسير القائل بأن الشجرة المحرمة هي شجرة هلوسة من زمرة الحشيش، نجد مكاناً لكل كلمة وفكرة واردة في الآيات الكريمة.
بينما في بقية التفاسير المعروضة حتى الآن (كالقول أنها الحنطة أو التفاح أو شجرة تسبب الغائط..) لا نجد مكاناً لأكثر كلمات الآيات، أو لبعضها على الأقل.
أفلا يصح هذا أن يكون دليلاً على أن الشجرة هي من زمرة الحشيش والأفيون؟
- بلى، إن قبولنا أن الشجرة المحرمة هي من زمرة الحشيش والأفيون، يعطي تفسيراً كاملاً للآيات، كما ينسجم مع أسلوب إبليس التاريخي والمستمر في إضلال بني آدم، ومع واقع الأديان الإنسانية.
وعندما يتعذر وجود الحشيش وزمرته، بسبب من الأسباب، فالمجاهدة الصوفية أو (الرياضة) تقوم بالواجب الكامل وتؤدي نفس الدور بدقة تامة ومظهر أكثر خداعاً وأشد مكراً وأقوى تأثيراً.
- ولنتذكر أن المخدرات والمهلسات مقدسة في الأديان الوثنية، وأنها مصدر رئيسي لعقائدهم.
وقد يقول قائل: إن أشجار الهلوسة من الخبائث، وليس في الجنة خبائث.
والجواب:
1- إن الله يفعل ما يريد، وهو سبحانه غير خاضع لمنطقنا الإنساني، ودور منطقنا وعقلنا في هذه الأمور الغيبية لا يتعدى العمل على فهم النص فهماً صحيحاً.(79/301)
2- تحريم أكل تلك الشجرة على آدم لا يدل بالضرورة على أنها من الخبائث، فقد تكون خلقت لغاية أخرى غير الأكل، كأن تكون طيبة الرائحة أو اللون أو غير ذلك مما لا نعرفه، أو تكون من الأشجار التي تثمر بعض حاجيات أهل الجنة، كاللباس مثلاً، وقد تكون طعاماً طيباً لبعض مخلوقات الجنة، إلى غير ذلك.. فتكون من الطيبات. ويكون الخطأ هو استعمالها في غير ما خلقت له، ومثل ذلك شجرة العنب التي هي من الطيبات، حتى إذا استعملت للخمر أصبحت من الخبائث.
وأوضح من كل هذا، الإندورفين الذي يفرزه الدماغ في جسم الإنسان، فهو ليس من الخبائث، لكن سوء استعماله هو الخبيث.
* نماذج من دور (شجرة الخلد وملك لا يبلى) في الوثنيات:
يقول الدكتور نقولا فياض:
...وقد أبقت ألواح الآشوريين وورق البردي في مصر لألف وخمسمائة سنة قبل المسيح صوراً تمثل الرجال والنساء والبنات والشباب وهم يسيرون نحو الحقول تحت ستار الليل ليحصدوا رءوس الخشخاش الخضراء ويستخرجوا حصيدها المسكر، مستعملين في ذلك حركات وإشارات وطقوساً دينيه(1).
- لعل القارئ انتبه أيضاً إلى أن قطاف الخشخاش بالليل بالذات هو طقس ديني، وطبعاً، الخشخاش هو النبات الذي يستخرج منه الأفيون.
ويقول أيضاً:
وكان كهان المجوس وعبدة الأوثان يعتبرون نوم الأفيون جسراً يربط النفس البشرية بمقر الآلهة. والدراويش يسمونه عطر الفردوس. وفيه يقول الشاعر:
يحيا من الأفيون في عالمٍ ……لا لُوَّمٌ فيه ولا حُسَّدُ
مِنْ ظلمة الأرض ومِنْ ظلمها ……إلى ذرى الخلد به يصعدُ
عطر من الفردوس مَن شمَّه ……كواكب الأفق له تسجد(2)
- يجدر بنا أن نلاحظ التشابه بين وصف الأفيون هنا وبين (شجرة الخلد وملك لا يبلى)، مع التذكر أن إبليس هو نفسه وراء الحالين أو (المقامين).
ومما يورده الدكتور صلاح يحياوي:
* المسكالينا (مهلس):-
__________
(1) قصة التغلب على الألم، (ص:142).
(2) قصة التغلب على الألم، (ص:142).(79/302)
يذهب هنود الهينشولا في شهر تشرين الأول من كل عام للبحث عن البِيّوته، وهي نبتة صغيرة من الفصيلة الصبارية، ليس لها أشواك، تنمو في السهول العليا من شمالي المكسيك.
ليس سهلاً على هنود الهينشولا بلوغ المناطق حيث تنمو البيوته، إذ إن عليهم أن يتسلقوا جبالاً ويتخطوا أفجاجاً ضيقة خطيرة، ويعرضوا حياتهم إلى مشاق هذا السفر الطويل؛ كانت كل تضحية تهون على الهندي المكسيكي، لأن هدف مسيرته هو البيوته، الهبة السماوية التي يمنحها له- حسب اعتقاده- الإله (بيولت). هذا وتوضح الطقوس الدينية لِجَنْيِ البيوته عند هنود الهينشولا اعتبارهم لها كهبةٍ إلهية، فبينما يتقدم الرجال نحو أعالي القمم حيث تنمو نبتة العقار، فإن النساء يبقين في القرى صائمات، معترفات بصورة علنية بخطاياهن، يعترفن بكل ما اقترفن في حياتهن، وكي لا ينسين شيئاً فإنهن يعقدن- بعد كل اعتراف على خطيئة- عقدة في حبل من مسد، ويَحذَرْن جداً من نسيان أية خطيئة عندما تأتي ساعة إعادة روايتها، إنهن يعرفن أنهن إذا لم يندمن على كل خطاياهن، أي على كل عقدة من عقد الحبل، فإنهن سيتعرضن إلى غضب الإله بيولت، والإله بيولت إله منتقم جبار، وأقل انتقام ينزله بهم هو حرمانهم من المخدر.
أما عندما يرضى الإله (بيولت) عن الهينشولا الأمناء فإنه يمنحهم الهبة السماوية من أوراق البيوتة.
وما إن يعود الهنود إلى قراهم محملين بأوراق المخدر الثمين، حتى يقوموا بتحضيره لتناوله. ويُضفى على أول حفلة سنوية لتناول البيوته كل صفات المشاركة العامة، ويتم ذلك بين الأناشيد وباتباع طقوس دينيه موروثة عن هنود الأستيك، وينتهي الأمر بهنود الهينشولا إلى الاستسلام إلى رؤى الخبل (الهلوسة) التي يهيؤها لهم المخدر.(79/303)
إن سبب هذيان الجنون هذا هو المسكالينا، شبه القلوي الموجود في البيوتة...أما المسكالينا فهي...تجعل متعاطيها ينطوي على نفسه، فهو يعاني هذيانات الجنون التي يسببها الورع الصوفي(1).
- الرجاء من القارئ أن يلاحظ وصف نوم الأفيون: (جسر يربط النفس البشرية بمقر الآلهة)، وبين عبارات: (الفناء في الله) و(العروج إلى الله)، التي يطلقونها على الجذبة. بل إن كلمة (الجذبة) ذاتها تعني (ربط النفس البشرية بالإله).
- والرجاء من القارئ أن يلاحظ الدور الذي تلعبه أشجار الهلوسة في ابن آدم وتديُّنه، وكيف يطلق عليها الصفات التي تشبه وصف إبليس للشجرة المحرمة.
كما يرجى أيضاً الرجوع إلى آخر فصل لمحة عن المخدرات لمراجعة نماذج أخرى من دور شجرة الخلد وملك لا يبلى في فتنة بني آدم.
الفصل السادس
الصوفية والسحر
الصوفية هي السحر، والفرق بينهما هو في الادعاء وفي الغاية، فالساحر صادق يعترف أنه ساحر، ويقف عند خرق العادة، والصوفي مخدوع يظن خرق العادة الذي يحدث أمامه من الكرامات، كما أنه يتجاوزه، ويبقى مثابراً على الرياضة حتى يصل إلى الجذبة، ثم يبقى مثابراً حتى يشهد وحدة الوجود، وهذه أقوال من أئمتهم تثبت أن الصوفية هي السحر.
يقول الغزالي (حجة الإسلام):
__________
(1) المخدرات، (ص:148، وما بعدها).(79/304)
أما السحر فهو عمل وكلام قد تداولوه بينهم في أوقات معلومة وطوالع معروفة وطلسمات مضروبة، فإذا أردت أن تولد طلمساً يصلح لما تريد، فخذ من كل ثلاثة أحرف حرفاً، فإذا اجتمعت لك في التأليف ثلاثة أحرف من تسعة فهو طلسم يصلح لما تريد، فانظر في الإسطرلاب عند ساعة التأليف، فهو يصلح لما دلت عليه الدقيقة من الساعة، ومثال: أ ب ت ث فتأخذ الجيم، والثاء أليق عوضاً عن الجيم، ج ح خ خذ الصاد، ص ط ظ خذ العين، فيصير عقرباً(1)، لتدوير الحروف، فضع صورتها على خاتم والقمر في العقرب تكف خاصيتها عنك أذى النساء، ترمي الخاتم في الماء فينفع سقياه الملسوع. وتلقي به سوءاً بين من أردت، وترش من مائه على سطح المبغض أو طريقه أو داره فإنه يستضر من سنة...
(ذكر كلمات تفرق بها بين جماعة فاسدة تخافهم) تأخذ أفراداً من شعير حزام، وتقول عليه أربع مرات: (هاطاش ماطاش هطاشنة، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)، وترميه من حيث لا يشعرون، وتنظر ما يصنع الله...وكثير مثل هذا، وقد حصرناها وشرحناها في كتاب (عين الحياة)، وهو صغير الحجم كثير الفوائد(2)...ومما يقول: واعلم أن هذه الصناعة (صناعة الإكسير) هي صناعة ربانية لا يقدر عليها إلا الأبدال والرجال والأبطال الذين كشف الله الرين عن عيون قلوبهم، وهذه لا تصح إلا للطائع...ونحن نذكر خواصاً دالة مظهرة لبدائعها وصناعتها مذكورة في كتاب (عين الحياة)(3)...
ومما يقول:
__________
(1) جصع أو ثصع لها شكل العقرب إذا قلبت إلى الأعلى.
(2) سر العالمين: (2/65، 66).
(3) سر العالمين: (2/68).(79/305)
من أراد أن لا تبصره ولا تراه العيون، فليزرع الخروع عند بدو زراعة القطن في رأس سنور أسود، فإذا طلع يخيط عليه كيساً، ويربيه حتى يجني القطن، ثم يقطف العنقود كما هو بكيسه، ويشقه حجرة، ويأخذ مرآة بيده، ثم يقطف منه حبة حبة ويضعها في فمه وينظر صورته في المرآة، فأي حبة لم يشاهد فيها نفسه عند نظر المرآة فليمسك عليها.
ولهم الأبهر الضم، وهو نبت في الأرض على صورة ابن آدم، فهذا يصلح لمن علقه على نفسه، لو مر بحجر لتبعه الحجر.
ولهم حشيشة تسمى بحشيشة الراسن، تبخر من أوراقها على اسم من تريد، فيأتيك وإن لم يرد، ولكن بشرط أن تقول هذه الكلمات على البخور، تقول: يا جامع يا جن اجمعوا وقدموا لاق لاق عاجلاً عاجلاً أشروثا أشروثا كبيبا ال صبي، ائتنا كرهاً أو طوعاً، قالتا أتينا طائعين، وليكن في يوم الأحد أو الأربعاء(1)...
ومما يقول.
المقالة الثامنة عشرة في عزائم التسخير:
تقف أول ساعة من يوم السبت مستقبل الغرب بثياب سوداء وزرق بأبخرة مذكورة مثل اللبان والحرمل وقشور الرمان والخردل البري، ثم تقول في وقت سعيد من تثليث أو تسديس مناطٍ إلى شرف، فتقول: أيها السلطان الأعظم، والملك العرمرم، مالك الفلك التابعة له النجوم، الخاسف المزلزل، زحل أنت أشرف الكواكب وسيدها وقائدها ومؤيدها، أسألك أن تعطيني وأن تمنحني ما يصلح منك لي(2)...
__________
(1) سر العالمين: (2/71).
(2) سر العالمين: (2/73).(79/306)
...فالذي يطلب من زحل، وهو كيوان، مثل المنافع الأرضية، وإظهار الكنوز وشق الأنهار والأشجار، وأما ما يخص الشمس فمثل الملك والملكة، والقمر لائق بالوزارات، والمريخ بالحروب والبأس، وعطارد للكتابة والنقش والحساب والهندسة والعلوم الدقائق والعزائم ومخاطبات الجن، كما سبق ذكره، وأما المشتري فهو للزهد والديانة وحل الطلسمات السماوية، ثم الجمعة للزهرة، قالوا: إنما أمر باجتماع الخلق عند نصف النهار في هيكل العبادات، لاجتماع خواص الأنفاس ليؤثر ذلك في حصول المطالب، لشرف نفسه الفياض منه على تابعيه من قولهم في لحظة واحدة (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)(1).
ويقول محيي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر):
...وإن سألك عن الحرز، فاكتب له هذه الأسماء: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. (...مجموعة [طلاسم] مخطوطة باليد...) ويضاف إليها آيات، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم،...ويضيف: وخوفي أخوف من خوف مساء أو صباح أصباؤت آل شداي على الأعلى عظيم الأمور إن الله هو التواب الرحيم لسالمين الصالحين اركض برجلك...(...مجموعة [طلاسم] مخطوطة باليد...)...
وإن سألك عن زيادة البخور فاكتب له هذه الأسماء في قرطاس...ثم تبخره ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث ترمي المجمرة وما فيها من الفحم وغيره في مفرق طريق له أربع طرائق، أو تكتب له ذلك أربعة أيام وترمي المجمرة كل يوم في مفرق آخر(2)...
ويقول في نفس الكتاب:
...وإن سألك عن العزيمة فقل له: يحتاج إلى بيضة دجاجة حمراء، ويكتب عليها هذه العزيمة: (يا سما سلمعونة يا القب المدين مدين الاسمين، يا مالك الجن والشياطين يا حي يا قيوم احبس السارق...أهيا شراهيا أدوناي أصباؤت آل شداي الساتر) ثم تدفنها في المطبخ(3)...
__________
(1) سر العالمين: (2/75).
(2) مجموعة ساعة الخبر (ص:6).
(3) مجموعة ساعة الخبر، (ص:6).(79/307)
...وإن سألك عن العزيمة. فاكتب له هذه العزيمة والأسماء في قرطاس، وعلقها في مهب الريح، فإنه يرجع ما سرقه بإذن الله تعالى، وهذا كتابه: (هطوس هطوس واله قادس ماس ريحان الأطبال آل شداي اسلام أم موسى أهيكلات داود وحرز عظيم فلعلعح العميلع سيرهوه عبوس عبوس كمال الما أجيبوا الله)(1)...
* الملحوظة:
من اطلع على كتب السحر يعرف أن هذا هو السحر نفسه.
وهذه رشفة أخرى من كتابات قطب آخر هو أحمد بن علي البوني، ولكن قبل إيراد بعض أقواله، قد يكون من المفيد أن نعرف مكانته عند القوم ودرجته في التصوف.
يقول يوسف النبهاني، في ترجمته للمذكور:
(أبو العباس أحمد بن علي البوني) من كبار المشايخ ذوي الأنوار والأسرار، وممن أخذ عنه المرسي، فمن كراماته أنه كان مجاب الدعوة...توفي سنة (622هـ)، قاله المناوي(2).
أظن أن القارئ عرف أن المرسي هو أبو العباس المرسي، قطب الغوث، تلميذ أبي الحسن الشاذلي، وهذه شذرة من كتاب البوني المشهور (شمس المعارف الكبرى):
باب رياضة (قل أوحي) المشهورة:
__________
(1) مجموعة ساعة الخبر، (ص:7).
(2) جامع النبهاني: (1/508).(79/308)
اعلم أيها الأخ إذا أردت ذلك، صم ثلاثة أيام أولها الثلاثاء ثم الأربعاء والخميس، وهو صيامك عن غير ذي روح، وأنت تبخر بحصا لبان وجاوي ليلاً ونهاراً، وأنت تقرأ السورة الشريفة في مدة ثلاثة أيام ألف مرة في تلك المدة المذكورة...واجتهد أن يكون ختمك من قراءتها ليلة الجمعة الثلث الأوسط من الليل، فإنه يحضر لك خادمها، وهو رجل قصير طويل اليدين، فيجلس قدامك، ويقول لك: السلام عليك، فثبت جنانك، فإن عليه هيبة عظيمة...والعزيمة والدعوة هي السورة الشريفة بتمامها وكذا البخور. واعلم أيها الواصل أنها من الأسرار المختصة وأنها من كتب الأنبياء والأولياء وأسرارهم، وهي هذه، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ)) [الجن:1]، اللهم إني أسألك يا منزل الوحي من فوق سماوات...((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ...)) [الجن:27] ((...وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)) [الجن:28]، اللهم إني أسألك بحق المساجد لله وبحق عبادك الصالحين...يا خدام هذه الدعوة الروحانيين...أقسمت عليكم بهذه الدعوة والأسماء والسورة بحق أرقوش، كلهوش، بططهوش، كمطهلوش، بهوش، قانوش، أقسمت عليك يا روقيائيل الملك الموكل بفلك الشمس(1)...
ونص آخر:
(فصل): تكتب هذه الأسماء في وسادة للمتباغضين من الزوجين، وهي أسماء أم موسى، يوم الجمعة عند جلوس الإمام على المنبر، أو شرع في الأذان الأول، بالزعفران وماء الورد والطيب والقرنفل مفروكاً في ماء ورد، ثم اطو الكتاب وتصمغه بالغالية، وتجعل الكتابة في جوف الوسادة التي ينامان عليها، فإنهما يتحابان، وهذا ما تكتب: (طسوم، عيسوم، علوم، كلوم، حيوم، قيوم، ديوم،..)(2).
- أقول: إن هذا هو السحر نفسه، والذي لا يصدق يستطيع أن يلقي نظرة على كتب السحر.
- وهذه أسانيد علوم البوني، يقول:
__________
(1) شمس المعارف، (ص:122، 123، 124).
(2) شمس المعارف الكبرى، (ص:213).(79/309)
...(وأيضاً سندي بعلم الحروف) إلى الشيخ الإمام أبي الحسن البصري، وهو أخذ عن(1) حبيب العجمي وهو أخذ عن الشيخ داوُد الجيلي وهو أخذ عن الشيخ معروف الكرخي، عن الشيخ سري الدين السقطي، عن شيخ الوقت والطريقة معدن السلوك والحقيقة الشيخ الجنيد البغدادي، عن الشيخ حماد الدينوري، عن الشيخ أحمد الأسود، عن الشيخ محمد الغزالي، عن الشيخ أبي النجيب السهروردي وهو لقن الشيخ العارف الفاضل أصيل الدين الشيرازي، وهو لقن الشيخ عبد الله الباياني، وهو لقن الشيخ قاسم السرجاني، وهو لقن الشيخ السيرجاني، وهو لقن الشيخ الإمام العارف الصمداني والهمام النوراني جلال الدين عبد الله البسطامي، وهو لقن شمس وصلتي وبدر قلبي طود الحقائق الشامخ وجبل المعارف الراسخ شمس العارفين وسر الله في الأرضين أبا عبد الله شمس الدين الأصفهاني.
(وأيضاً سندي بعلم الأوفاق)...وأخذ منه أيضاً عن الشيخ الإمام العلامة سراج الدين الحنفي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين القدسي، وهو أخذ عن الشيخ شمس الدين الفارسي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين الهمداني، وهو أخذ عن الشيخ قطب الدين الضيائي، وهو أخذ عن الشيخ محيي الدين بن عربي، وهو أخذ عن الشيخ أبي العباس أحمد بن التوريزي، وهو أخذ عن الشيخ أبي عبد الله القرشي، وهو أخذ عن الشيخ أبي مدين الأندلسي.
(وأيضاً) أخذت هذه الرواية عن الشيخ محمد عز الدين بن جماعة الشافعي، وهو أخذ عن الشيخ محمد بن سيرير، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين الهمداني، وهو أخذ عن قطب الدين أيضاً، وهو أخذ عن الشيخ محيي الدين بن عربي.
__________
(1) يجب أن تكون: هو أخذ عنه حبيب العجمي، وهو أخذ عنه الشيخ داوُد...وهكذا حتى: عنه الشيخ أبي النجيب.(79/310)
(وأيضاً) سندي بعلم الحروف والوفق إلى الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الثقة مساعد بن سادي بن مسعود بن عبد الله بن رحمة الهواري الحميري القرشي، وهو أخذ عن الشيخ شهاب الدين أحمد الشاذلي، وهو أخذ عن الشيخ تاج الدين عطاء المالكي الشاذلي، وهو أخذ عن الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي.
و (أيضاً) سندي بعلم الحروف والوفق إلى الشيخ الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن ميمون القسطلاني، وهو أخذ عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد القرشي، عن الشيخ الإمام العلامة أستاذ العصر وأوحد الدهر أبي مدين شعيب بن حسن الأنصاري الأندلسي رأس السبعة الأبدال وواحد الأربعة الأوتاد(1)...إلخ.
* الملحوظة:
لو رجع القارئ الكريم إلى كتب السحر لوجد أن علم الحروف وعلم الأوفاق (أو الوفق) هما بابان من أبواب السحر. ولنلاحظ أن رجال الأسانيد من أقطاب الصوفية.
ومن أقوال ابن سبعين في الرسالة النورية:
__________
(1) شمس المعارف الكبرى، (ص:530، وما بعدها).(79/311)
...ومن فضيلته (أي: الذكر) أنه ينفع في سبع خواص من السيمياء.. ومن أراد استعمال قوى الكواكب بحسب صناعة أهل العلم الرياضي لا بد له من الذكر، وذلك بعد الدستورية، أعني أن يكون الكوكب في بيته أو شرفه في الوتد وينظر الكوكب إليه من بيته أو شرفه من الوتد، كالزهرة في الميزان في الطالع، وزحل في الجدي أو في الميزان، والمريخ في الجدي، واعلم أن الكوكب إذا كان في الحيز أو البرج أو الدستورية كان أظهر فعلاً وأقوى تأثيراً، ثم يعمد إلى اتخاذ الصورة والاسم والبخور والأفعال، مثال ذلك برج الثور: تستعمل صورة إذا كان في الوجه الثاني ويريد الحكيم أن يخدم أمره، يتخذ صورة ثور مضروب الوسط ويناديه: (لهرلرل)، وينجر بذنب الفأرة، ويفعل الأمور المهلكة بإذن الله، ويقول في جميع خدمته: يا حمرلايل يا ديرلايل يا جبرلايل، ومفهوم ذلك: يا ملك القوى السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية والذرات العارفة لك والتي فوقها يا نور النور(1)..
ويقول في فصل آخر:
...وهذه السيمياء تنقسم إلى خمسة أقسام: الكاذبة منها الذي يذكرها مسلمة المجريطي صاحب (رسائل إخوان الصفا)(2)، والمشكوك منها الذي يزعم ابن مسرة أنه وصله، والصحيح منها الذي إذا وصف للفقيه سماه كرامة، وإذا ذكر للحكيم سماه تصريفاً، وإذا ذكر للمقرب المحقق سماه فتنة(3)...
- أظن أن القارئ الكريم يعرف أن السيمياء هي السحر.
ويقول عبد الوهاب الشعراني مدافعاً عن الصوفية:
__________
(1) رسائل ابن سبعين، (ص:160، 161).
(2) المشهور أن رسائل إخوان الصفا من تأليف جماعة من البصرة، وقول ابن سبعين هذا يحتاج إلى تحقيق.
(3) رسائل ابن سبعين، (ص:253، 254).(79/312)
...فإن قيل: إن هذه الكرامات تشبه السحر، فإن سماع الإنسان الهواتف في الهواء، وسماع النداء في بطنه، وطي الأرض له، وقلب الأعيان، ونحو ذلك غير معهود في الحس أنه صحيح، إنما يظهر ذلك من أهل السيمياء والنارنجات؟ فالجواب ما أجاب به المشايخ العارفون والعلماء المحققون في الفرق بين الكرامة والسحر، أن السحر يظهر على أيدي الفساق والزنادقة والكفار الذين هم على غير شريعة، وأما الأولياء رضي الله عنهم فإنهم وصلوا إلى ذلك بكثرة اجتهادهم واتباعهم للسنة(1)...
* الملحوظة:
إنه يجعل الصوفية متبعين للسنة بكثرة اجتهادهم، وهذا غير صحيح، إذ أنهم يصلون إلى خرق العادة بالرياضة الصوفية التي لا تمت إلى السنة ولا إلى الإسلام بأية صلة.
كما أن الساحر أيضاً يصل إلى خرق العادة بنفس الأسلوب تماماً. والشيخ هنا يعترف أن خوارق المتصوفة وخوارق السحرة هي شيء واحد.
ويقول أحمد بن محمد المالكي الصاوي في حاشيته على (شرح الخريدة البهية):
...سيدي محمد الخلوتي... أخذ عن الشيخ دمرداش فأحبه وقربه وشغله بالطريق وأخلاه (أي: أدخله الخلوة) مراراً، وظهرت نجابته وجد واجتهد واشتهر وتلقى عنه علم الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل، فأتقن ذلك(2)...
- أظن أن القارئ الكريم يعرف أن الأوفاق والحرف والزايرجا والرمل هي من أبواب السحر، ولعله يعرف أيضاً أن أحمد الصاوي كان شيخ الطريقة الخلوتية.
ومن كتاب (النفحة العلية في أوراد الشاذلية):
(فصل) في ذكر الدائرة والخاتم والحرز والسيف، وكلها أسماء بمسمى واحد، وفي كيفية وضعها وما فيها من الخواص قراءةً وحملاً، وضبط أسمائها المعجمة وغير ذلك. اعلم أن الرواية في هذه الدائرة من طريقين، أحدهما: عن سيدي الإمام أحمد أبي العباس المرسي، والثانية: عن سيدي الإمام شهاب الدين ولد الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهم.
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/14).
(2) حاشية العلامة الصاوي على شرح الخريدة البهية، (ص:149).(79/313)
أما خواصها؛ فمنها ما رواه سيدي الإمام شهاب الدين عن والده قال: هذه الدائرة ورثتها عن آبائي وأجدادي الكرام، ويريد آباءه في الطريق، قال: وكان الشيخ يكتب هذه الدائرة بالسند، وقال: من كانت هذه الدائرة على رأسه لا يموت (أي: ما دامت على رأسه)(1)..
وهذه هي الدائرة: طهورٌ، بَدْعقٌ (وفي رواية بالمثناة)، مَحْبَبَهٌ، صورهٌ (وفي رواية بالسين) سقغاطيس (وفي رواية: سبقاطيس)، سقاطيم (وفي رواية: سفاطيم)، أحونٌ، قافٌ، أَدُمَّ، حَمَّ، هاءٌ، أمينٌ أو (آمين).
...اعلم أن هذه الأسماء هي من أسماء الله تعالى، ليست بلسان من ألسنة عالم الملك ولا عالم الملكوت، ولا بلغةٍ من لغات العالمين، وإنما هي أسماء جبروتية يذكر الله تعالى بها في روضة من رياض جبروته...فاعلم أن الله قد جمع في هذه الأسماء علوم الأولين والآخرين(2)...(ثم يرسم صورتها التي تكتب بها في الحرز، وهي مربع داخله ست دوائر مكتوب على دائرته الكبرى الطلسم نفسه، وعلى بقية الدوائر آيات قرآنية)، ثم يقول:
هذه على وفق العبارة المتقدمة، ورأيتها بخط شيخنا حفظه الله تعالى، وقال في الحاشية من نسخته: وينبغي أن تكون الدائرة الكبرى ملاقيةً للخطوط الأربعة (أي: أضلاع المربع) لا خارجة عنها ولا داخلة.
__________
(1) النفحة العلية، (ص:191).
(2) النفحة العلية، (ص:203، 204).(79/314)
وقد وضع صورتها الشيخ اليافعي في كتاب (الدر النظيم في خواص القرآن العظيم) على كيفيتين رواهما من طريقتين، الأولى عن الشيخ أبي العباس المرسي.. والرواية الثانية عن سيدي الإمام تقي الدين عن أبيه سيدي الإمام شهاب الدين عن أبيه الشيخ أبي الحسن الشاذلي(1)...(يرسم الصورتين وهما مختلفتان عن الصورة الأولى)...إلى أن يقول: وذكر أنها أيضاً تكتب في حريرة بيضاء بمسك وزعفران وماء ورد في رابع عشر من رمضان، وتلف في رق غزال. وهو سيف الشاذلية وفيه اسم الله الأعظم وسره الأفخم. فتدبره فهو الكبريت الأحمر وبعضه من الدرياق الأكبر(2)...
- الدرياق معربة من كلمة (تارياك) التي تعني (الأفيون).
وكل من اطلع على فنون السحر يعرف أن هذا الذي ذكروه (الدائرة والأسماء والحريرة ورق الغزال..) هو من أبواب السحر.
ومما يورده أحمد أبو كف في (أعلام التصوف الإسلامي):
يقول ابن عطاء الله السكندري عن علم أبي العباس (أي: المرسي): هو الجامع بين علم الأسماء والحروف والدوائر...(3) اهـ.
وطبعاً، علم الأسماء والحروف والدوائر هو من أبواب السحر.
- نكتفي بهذه النصوص، وهي كافية للدلالة على أن الصوفية هي السحر.
ولا بأس من توضيح الطريقة التي يتبعها المريد ليكون من السحرة، وقبل ذلك نقول للقارئ: اتق الله واعلم (أنها فتنة فلا تكفر) ولا تسر في هذا الطريق تحت أي عذر، كان ما كان هذا العذر؛ لأنها طريق إلى الهاوية. وهذه هي الطريقة:
وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم ……فما نبتت أرض بغير فلاحة
فالشيخ الساحر الكامل ضروري، فهو الذي يوجه مريده حسب خبراته وتجاربه السابقة.
والطريقة هي نفس الطريق الإشراقية، خلوة وجوع وسهر وصمت وجلسة من جلسات اليوغا وتركيز الذهن على الأمر المراد تحقيقه مع تركيز البصر على شيء يختاره الشيخ.
__________
(1) النفحة العلية، (ص:206، 207).
(2) النفحة العلية، (ص:208).
(3) أعلام التصوف الإسلامي، (ص:63).(79/315)
يبقى المريد مثابراً على هذه الرياضة مدة قد تقصر وقد تطول، حسب مهارة الشيخ واستعداد المريد، حتى يتحقق الأمر المراد تحقيقه، فيستريح المريد مدة يقررها الشيخ، وهي لا تزيد على أيام على كل حال، ثم يعيد الكرة حتى يتحقق نفس الأمر ثانية، ثم يعيد...وهكذا حتى يصل إلى أن يتحقق هذا الأمر له بسهولة كبيرة، وهذه الرياضة صالحة لبعض الخوارق، وخاصة منها ما يتصل بالتأثير على نفوس الآخرين، أو بالاتصال عن بعد (التلباثي).
أما الطريقة الجامعة فهي الخلوة والجوع والسهر وترديد عبارة معينة خاصة بخرق معين يعرفها الشيخ ويلقنها لمريده، وقد يضاف إليها البخور لتسريع الوصول، وهذه الطريقة يستعملها السحرة المسلمون.
يثابر المريد على هذه الرياضة التي قد تقصر وقد تطول، حتى يحصل خرق العادة المطلوب، فيستريح أياماً، حسب توجيه الشيخ، ثم يعاود الكرة حتى يحصل الخرق من جديد، ثم يعاود، وهكذا حتى يصبح الحال عنده مقاماً، حيث يحصل الخرق أمامه بترديد العبارة المعينة (الطلسم) مرات قليلة، وعندئذ يكون قد أتقن عملية سحرية واحدة.
ثم يلقنه الشيخ طلسماً آخر خاصاً بخرق عادة آخر، فيعود إلى الرياضة من جديد بهذا الطلسم الجديد كما فعل في رياضة الخرق الأول، حتى يصبح الخرق الثاني له مقاماً، فيكون قد أتقن عمليتين سحريتين، وهكذا..
ويتفاضل السحرة بينهم بعدد العمليات السحرية التي يتقنها كل واحد منهم، ومن يريد الوصول إلى الجذبة منهم ثابر على طلسم واحد لا يغيره ولا يستريح حتى يصل إليها.
وقد يمكن الاستغناء عن الشيخ لأفراد نادرين عندهم استعداد نفسي، أو فيزيولوجي أو تشريحي خاص، كما يمكن الاستغناء عن الخلوة والجوع والسهر لأفراد مماثلين.(79/316)
أي: إن السحر هو نفس الصوفية بطريقته ونتائجه، والفرق بينهما هو في الادعاء والتوجه. ثم يأتي بعد ذلك دور الطلاسم والأقسام التي يسميها المتصوفة (الأوراد والأذكار) وهي وإن اختلفت ألفاظها لكن النتيجة واحدة، وكذلك بقية الأبواب.
الفصل السابع
الصوفية والشيوعية
هناك تشابه عجيب بين الصوفية والشيوعية! ومن وجوه هذا التشابه:
1- الصوفية والشيوعية تلتقيان بعقيدة وحدة الوجود! والخلاف بينهما لفظي؟
فالصوفية يقولون: لا موجود إلا الله، وكل الموجودات هي الله.
والشيوعية يقولون: لا موجود إلا المادة، وكل الموجودات هي المادة.
إذن فالخلاف في التسمية فقط، هؤلاء يسمونها (الله) جل الله وعلا، وهؤلاء يسمونها (المادة).
2- الصوفية والشيوعية تلتقيان في الكذب الذي لا يعرف الحدود.
فالصوفية يكذبون على الله ومخلوقاته (من العرش إلى الفرش) من دون خوف ولا حياء!
والشيوعيون شعارهم (اكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة).
3- تلتقيان في الكيد للدين والمكر به! فمثلاً:
يقول المتصوفة: إن الصوفية نزلت وحياً من الله على رسوله، وهي مقام الإحسان! وكان محمد صلى الله عليه وسلم صوفياً، أخذ عنه الطريقة أبو بكر وعمر وعلي، وغيرهم...وغيرها من المخادعات.
ويقول الشيوعيون: إن الإسلام دين الاشتراكية، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم اشتراكياً، وكذلك خديجة وعمر وعلي وأبو ذر.. كانوا اشتراكيين...وغيرها من المخادعات.
4- تلتقيان بتأليه البشر وعبادتهم وتقديسهم في حياتهم وبعد موتهم.
فالمتصوفة يؤلهون سدنة الصوفية وكهانها (الشيوخ) بشكل عام وشيخ طريقتهم بشكل خاص، والشيوعيون يؤلهون سدنة الشيوعية وكهانها (لينين، ماركس، ماوتسي تونغ، غورغي ديمتروف،...وغيرهم) بشكل عام، وحاكم بلدهم بشكل خاص أو (قائد حزبهم).
5- تلتقيان في سَجْن الفرد المنتمي إليهما في زنزانة فكرية لا تسمحان له بالتطلع خارجها.
6- تتشابهان في الغاية؟(79/317)
فالصوفية تعد مريدها أن يكون هو الله المتصرف في الكون!
والشيوعية تعد مريدها أن يكون سيد مصيره.
وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
7- الصوفية تدعي أنها الطريق المؤدية إلى السعادة الأبدية التي لا تزيد عن كونها تلبيساً وخدعة.
والشيوعية تدعي أنها تؤدي إلى نعيم الإنسان، والذي لا يزيد عن كونه تلبيساً وخدعة.
8- كلتاهما تنبذان الآخرة (مر معنا قولهم: اخلع نعليك الدنيا والآخرة).
9- كلتاهما تستعملان في خداعهما ومراوغتهما أسلوب إماتة الاحتمالات الحية، وتحريك الاحتمالات الميتة وتسليط الأضواء عليها حتى تبدو وكأنها حية!
تشابهٌ بين الضلالتين يثير الانتباه، وتلاقٍ يبعث على التساؤل؟
وبرسم الخطين البيانيين للمسيرتين، مسيرة الصوفية، ومسيرة الشيوعية التي هي التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار، برسم خطيهما البيانيين تاريخياً وجغرافياً، وملحوظة حاجة الصوفية إلى أساليب جديدة في الخداع والمناورة تتفق مع واقع الإنسانية الفكري في عصرها الحاضر ومستقبلها، أساليب مبنية على قوانين العلم في النفس والمجتمع والدعاية وتحريك الجماهير، وقد أتقنت الشيوعية هذه الأساليب وطورتها وتطورها؛ وكذلك مع ملحوظة حاجة الشيوعية لما يسمونه (الروحانيات) كبديل للدين؛ لأن تجارب الشيوعية أو (اليهودية لا فرق) أثبتت لها أن التدين غريزة في الإنسان لا يمكن فصله عنه.
مع ملحوظة هذه الأمور، نستطيع أن نظن، مع الترجيح، أن القيامة ستقوم على الشيوعية الممزوجة بالصوفية، ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)) [الكهف:10]
((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)) [الكهف:17]
المراجع(79/318)
* آراء نقدية في مشكلات الدين والفلسفة والمنطق: الدكتور مهدي فضل الله، الطبعة الأولى، (1401هـ- 1981م)، دار الأندلس.
* الإبريز: الذي تلقاه نجم العرفان الحافظ سيدي أحمد بن المبارك عن قطب الواصلين سيدي عبد العزيز الدباغ، وبهامشه كتابان (درر الغواص) ثم (الجواهر والدرر)، يطلب من مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، ميدان الأزهر.
* ابن سبعين وفلسفته الصوفية: د. أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى (1973م).
* ابن عربي، حياته ومذهبه: آسين بلاثيوس، ترجمه عن الإسبانية عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم، بيروت، لبنان، (1979م).
* أبو بكر الشبلي، حياته وآراؤه: عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر، منشورات المكتبة العصرية، بيروت - صيدا.
* أبو الحسن الشاذلي: الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، الناشر: دار الإسلام القاهرة، والمكتبة العصرية بيروت، (1387هـ-1967م).
* أبو مدين الغوث: د. عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا.
* أحلام اليقظة: جورج هنري جرين، ترجمة إبراهيم حافظ، راجعه زكي المهندس بك، الطبعة الأولى، لجنة البيان العربي.
* إحياء علوم الدين: الغزالي (4 مجلدات)، يطلب من مكتبة عبد الوكيل الدروبي في دمشق، وبهامشه ثلاثة كتب (تعاريف الأحياء بفضائل الإحياء)، ثم (الإملاء في إشكالات الإحياء)، ثم (عوارف المعارف).
* أبو العباس المرسي (العارف بالله): د. عبد الحليم محمود، الطبعة الثانية.
* أربع رسائل إسماعيلية: تحقيق عارف تامر.
* أخبار الحلاج: (ومعه الطواسين ومجموعة من شعره)، بعناية الناشر، وتقديم وتعليق وتصحيح عبد الحفيظ بن محمد مدني هاشم، طبعة ثانية، رمل الإسكندرية، (1390 هـ-1970م).
* الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري: د. علي صافي حسين.(79/319)
* إدمان المخدرات (أضرارها وعلاجها): نخبة من أساتذة كليات الطب، إعداد: محمد رفعت، رئيس تحرير مجلة (طبيبك الخاص)، الطبعة الأولى، (1400هـ-1980م).
* أديان الهند الكبرى (الهندوسية، الجينية، البوذية، ملحق خاص عن قضية الألوهية): الدكتور أحمد شلبي، الطبعة الرابعة، (1976م).
* الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية على الصلوات الدرديرية: للإمام الهمام العالم العامل واللوذعي الكامل العارف بالله تعالى شيخنا وأستاذنا معدن الشريعة والحقيقة الشيخ أحمد الصاوي المالكي الخلوتي.
* الإشارات الإلهية: لأبي حيان التوحيدي، حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات الكويت، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى، (1981م).
* اصطلاحات الصوفية: عبد الرزاق القاشاني، تقديم وتحقيق: د. عبد اللطيف محمد العبد، الطبعة الأولى، (1397هـ-1977م).
* الأعلام: خير الدين الزركلي.
* أعلام التصوف الإسلامي: بقلم أحمد أبو كف، دار الهلال.
* أعلام ليبيا: الطاهر أحمد الذادي الطرابلسي، الطبعة الثانية، (1390هـ-1971م).
* أفضل الصلوات على سيد السادات: يوسف بن إسماعيل النبهاني، دار الفكر.
* الإلهامات الإلهية على الوظيفة الشاذلية اليشرطية: الشيخ محمود أبو الشامات الدمشقي، الطبعة الثانية، (1350هـ-1960م).
* أناشيد الصفا في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومولد البرزنجي: طبعة جديدة، جمع وإعداد مكتبة الغزالي، دمشق- بيروت.
* الإمام السرهندي، حياته وأعماله (سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الجزء الثالث): تأليف أبو الحسن علي الحسني الندوي، الطبعة الأولى، (1403هـ-1983م).
* الإمام الدهلوي (من سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الجزء الرابع): تأليف أبو الحسن علي الحسني الندوي، الطبعة الأولى، (1405هـ-1985م).
* إلجام العوام عن علم الكلام: أبو حامد الغزالي.
* الإنسان الكامل في الإسلام: الدكتور عبد الرحمن بدوي، الطبعة الثانية، مايو (1976م).(79/320)
* الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل: الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، جزءان في مجلد، الطبعة الرابعة، (1395هـ-1975م).
* الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية: عبد الوهاب الشعراني، جزءان في هامش الطبقات الكبرى للمؤلف (مجلد واحد).
* الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية (جزءان): الإمام العلامة عبد الوهاب الشعراني، حققه وقدم له طه عبد الباقي سرور، الطبعة الأولى.
* إيضاح أسرار علوم المقربين: السيد الشريف والمولى المنيف، بركة الأنام وقطب الزمان، مربي المريدين، الإمام جمال الدين الشيخ محمد بن عبد الله بن شيخ العيدروس باعلوي، ويليه كتابان (الكبريت الأحمر) و(غاية القرب)، المكتبة النبهانية الكبرى، سربايا، جاوى، (1352هـ-1933م)، (رقم: 11)، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* إيقاظ الهمم في شرح الحكم: للعارف بالله أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني وبحاشيته الفتوحات الإلهية للمؤلف، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
* الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).
* أغرب القبائل والشعوب بالقرن العشرين: الجزء الأول، رياض مصطفى العبد الله، الطبعة الأولى.
* بد العارف: ابن سبعين، تحقيق وتقديم د. جورج كتورة، الطبعة الأولى، 1978م، دار الأندلس ودار الكندي، بيروت.
* بدائع الزهور في وقائع الدهور: العالم الفاضل...محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت.
* بداية الطريق إلى مناهج التحقيق في ظلال الشريعة ورحاب الحقيقة: السيد محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني، (سلسلة من الشرق والغرب)، الدار القومية للطباعة والنشر.
* بغية المستفيد لشرح منية المريد: تأليف سيدي محمد العربي السائح الشرقي العمري التجاني، (1393هـ-1973م)، دار العلم للجميع.
* بهجة الأسرار ومعدن الأنوار: نور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن جرير اللخمي الشطنوفي، في بعض مناقب القطب الرباني محيي الدين أبي محمد عبد القادر الجيلاني.(79/321)
* بوارق الحقائق: القطب الغوث الفرد المتمكن العارف بالله...الشيخ الكبير السيد بهاء الدين محمد مهدي الشيوخي الشهير بالرواس ابن السيد علي ابن السيد نور الدين الرديني الرفاعي الصيادي، عني بنسخه وتحقيقة وطبعه ونشره: عبد الحكيم بن سليم عبد الباسط، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.
* البهجة الخالدية: مع (السعادة الأبدية)، ثم (الحقيقة الندية)، ثم (البهجة الخالدية)، محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي، إستانبول، (1401هـ-1981م).
* تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس: تأليف الشيخ الإمام تاج الدين أبي العباس أحمد بن عطاء الله السكندري ويليه منظومة (بدء الأماني).. الطبعة الثانية، (1375هـ-1956م).
* تاريخ العلويين: محمد أمين غالب الطويل، الطبعة الرابعة، (1401هـ-1981م).
* تاريخ الفلسفة اليونانية: يوسف كرم، طبعة جديدة، دار القلم، بيروت.
* تحفة السفرة إلى حضرة البررة: سلطان العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، حققه وعلق عليه محمد رياض المالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
* تربيتنا الروحية: سعيد حوى، الطبعة الأولى.
* التصوف الإسلامي: زكي مبارك.
* التصوف الإسلامي الخالص: السيد محمود أبو الفيض المنوفي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة.
* التصوف بين الحق والخلق: فهر الشقفة.
* التصوف الثورة الروحية في الإسلام: د. أبو العلا عفيفي، دار الشعب، بيروت.
* التصوف عند ابن سينا: د. عبد الحليم محمود، مكتبة الأنجلو المصرية.
* التصوف عند المستشرقين: أحمد الشرباصي (سلسلة الثقافة الإسلامية 27)، شوال (1380هـ)- مارس (1961م).
* التصوف في الإسلام: د. عمر فروخ، عن دار الكتاب العربي، بيروت، (1401هـ-1981م).
* تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة: (انظر الفلسفة الهندية) لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، راجعه وقدم له د. عبد الحليم محمود وعثمان عبد المنعم يوسف، مع مقارنة.(79/322)
* التصوت وأقطابه: الشيخ محمد محمود السطوحي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية (كتاب الجمهورية الديني) أول يوليو، (العدد:10)، (1390هـ-1970م).
* التعرف لمذهب أهل التصوف: تأليف تاج الإسلام أبو بكر محمد الكلاباذي، (1400 هـ-1980م)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
* تلاوة الأوراد وإقامة الأذكار في الطريقة الشاذلية اليشرطية: فاطمة اليشرطية الحسينية.
* تلبيس إبليس: ابن الجوزي، عني بنشره وقدم له...محمود مهدي استانبولي، (1396هـ-1976م).
* تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران: أحمد بن حجر آل بوطامي آل بن علي، الدوحة، (1399هـ).
* التنوير في إسقاط التدبير: الشيخ الإمام ابن عطاء الله السكندري، تحقيق وتعليق موسى محمد علي، وعبد العال أحمد العرابي، دار التراث العربي للطباعة والنشر، ميدان المشهد الحسيني.
* تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب: تأليف مولانا العارف بالله الشيخ محمد أمين الكردي الإربلي الشافعي مذهباً النقشبندي مشرباً، الطبعة التاسعة (1372هـ)، ومقدمة الكتاب لخليفته مولانا (الشيخ سلامة العزامي)، يترجم بها للمؤلف.
* تقريب الأصول لتسهيل الوصول: أحمد زيني الدحلان، الطبعة الأخيرة، (1385هـ-1965م).
* تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر: للشعراني، ويليه (الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين) للغزالي، (1390هـ-1970م).
* الثقافة الإسلامية في الهند (معارف العوارف في أنواع العلوم والمعارف) تأليف عبد الحي الحسني، راجعه وقدم له أبو الحسن علي الحسني الندوي، الطبعة الثانية، دمشق، (1403هـ-1983م)، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.
* جامع كرامات الأولياء: يوسف بن إسماعيل النبهاني، جزءان في مجلدين، تحقيق ومراجعة: إبراهيم عطوة عوض، الطبعة الثانية، (1394هـ-1974م)، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.(79/323)
* جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف: تأليف العالم الجليل السيد محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني (جزءان في مجلد)، الطبعة الأولى، (1387هـ-1967م).
* الجواهر والدرر: مما استفاده سيدي عبد الوهاب الشعراني من شيخه سيدي علي الخواص أيضاً للقطب العارف بالله سيدي عبد الوهاب الشعراني، في هامش الإبريز.
* جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما: سعيد حوى، دار الأرقم- عمان، الطبعة الأولى، (1400هـ-1980م).
* الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية: للعلامة محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي، مع كتاب (السعادة الأبدية)، ويليه (البهجة الخالدية)، إستانبول، (1401هـ-1981م).
* حاشية العلامة الصاوي على شرح الخريدة البهية لأبي البركات سيدي أحمد الدردير: تطلب من مكتبة القاهرة لصاحبها علي يوسف سليمان.
* الحشيش قاتل الإنسان ودعامة الاستعمار: هادي المدرِّس، الطبعة الأولى، (1979م).
* حقائق عن التصوف: عبد القادر عيسى، الطبعة الثانية، (1390هـ-1970م).
* الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي: محمود البهلي النيال، نشر مكتبة النجاح - تونس، (1384هـ).
* حقيقة البابية والبهائية: الدكتور محسن عبد الحميد، جامعة بغداد، الطبعة الثانية.
* حكاية إبليس بما أخبر به النبي المعظم صلى الله عليه وسلم: تلي (شجرة الكون) في كتاب واحد، الطبعة الأخيرة، (1388هـ-1968م)، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني. حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب: لعماد الدين الأموي، الكتاب الثاني بهامش (قوت القلوب).
* حاشية العروسي: انظر (نتائج الأفكار القدسية).
* الحلاج: طه عبد الباقي سرور.
* حي بن يقظان: لابن طفيل، قدم له وحققه فاروق سعد، الطبعة الثالثة.
* الخير الكثير الملقب بخزائن الحكمة: ولي الله الدهلوي، الطبعة الأولى، (1394هـ-1974م)، دار الطباعة المحمدية بالأزهر.(79/324)
* الخطوط العريضة: السيد محب الدين الخطيب، ويليها (مؤتمر النجف)، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، (لعلها الطبعة التاسعة).
* درر الغواص على فتاوى سيدي علي الخواص: الأول على هامش (الإبريز)، عبد الوهاب الشعراني.
* دلائل الخيرات: ويليه قصيدة (البردة).. محمد بن سليمان الجزولي.
* الدواوين الست: لشيخ الإسلام وغوث الزمان الحاج إبراهيم ابن الشيخ الحاج عبد الله الكولخي، علق عليها الشيخ الحاج أبو بكر عتيق ابن المرحوم الخضر الكشتاوي ثم الشيخ الحاج محمد الثاني ابن المرحوم الحسن كافنغ.
* ديوان البرعي: الطبعة الأخيرة، (1389هـ-1970م)، المكتبة الثقافية، بيروت، لبنان.
* ديوان الحلاج: صنعه وأصلحه الدكتور كامل مصطفى الشيبي.
* ديوان ترجمان الأشواق: ابن عربي.
* الرسالة القشيرية في علم التصوف: الإمام الجامع بين الشريعة والحقيقة أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، وعليها هوامش من شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، الناشر دار الكتاب العربي بيروت.
* رسالة المسترشدين: الحارث المحاسبي. المقدمة لعبد الفتاح أبو غدة.
* رسائل ابن سبعين: سلسلة تراثنا، حققه وقدم له الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة.
* رسائل ابن عربي: للشيخ الأكبر محيي الدين أبي عبد الله العربي الحاتمي، الطبعة الأولى، بمطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية بعاصمة الدولة الآصفية، حيدر آباد الدكن، (1361هـ).
* الرمز الشعري عند الصوفية: الدكتور عاطف جودة نصر، الطبعة الأولى، (1978م).
* روضة التعريف بالحب الشريف: الوزير لسان الدين بن الخطيب، تحليل وتعليق وتقديم عبد القادر أحمد عطا (عبد الستار)، ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي.
* رشح الزلال في شرح الألفاظ المتبادلة بين أرباب الأذواق والأحوال: عبد الرزاق القاشاني.
* رسالة الأنوار: ابن عربي.(79/325)
* سر العالمين، ومعه الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة: للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، المتوفى سنة (505هـ)، الناشر: مكتبة الجندي بمصر (صاحبها محمد علي الجندي)، تقديم مصطفى أبو العلا الشهير بحامد.
* سد هارتا: هيرمان هيسِّيه، ترجمة سمير علي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام (1981م)، الجمهورية العراقية، سلسلة الكتب المترجمة (107).
* سراج القلوب وعلاج الذنوب: للشيخ أبي علي زين الدين علي المعيري الفناني (الكتاب الأول بهامش قوت القلوب).
* السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية: للحقير الفاني عبد المجيد بن محمد الخاني الخالدي النقشبندي...ويليه (الحديقة الندية)، ثم (البهجة الخالدية)، اعتنى بطبعه حسين حليم بن سعيد استانبولي، استانبول (1401هـ-1981م).
* سنن ابن ماجة.
* سنن أبي داوُد.
* سنن الترمذي.
* السيد عبد الرحيم القنائي (شخصيات صوفية): صلاح عزام، الشعب، القاهرة، جمادى الأولى (1390هـ-يوليو 1970م).
* السر الأبهر في أوراد القطب الأكبر سيدي أحمد التجاني: الجوسقي، قبله ثلاثة كتب في مجلد واحد: (الفتح الرباني)، (الفتوحات الربانية)، (النفحة الأقدسية).
* الشبك: من فرق الغلاة في العراق، أحمد حامد الصراف، مطبعة المعارف، بغداد، (1373هـ-1954م).
* شجرة الكون: الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن العربي ويليها (حكاية إبليس)، الطبعة الأخيرة، (1388هـ-1968م)، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* شرح الرسالة القشيرية (بهامش نتائج الأفكار القدسية): لزكريا الأنصاري.
* شرح كلمات الصوفية: الرد على ابن تيمية، من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، جمع وتأليف محمود محمد الغراب، (1402هـ-1981م).
* شروح رسالة الشيخ أرسلان ومنها (شرح عبد الغني النابلسي).(79/326)
* شرح دعاء السحر: لسماحة آية الله العظمى الإمام الخميني دامت بركاته، قدم عليه السيد أحمد الفهري، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، (1402هـ-1982م).
* شرح مجموع الأوراد (شرح أوراد العارف بالله المرحوم الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسين الشريف الحسيني): لحفيد المؤلف محمد عادل الشريف الحسيني الخليلي، (1399هـ-1979م).
* شطحات الصوفية: عبد الرحمن بدري، طبعة ثالثة، (1976م).
* شمس المعارف الكبرى: للشيخ أحمد بن علي البوني (4 أجزاء في مجلد)، ويليه رسالة (ميزان العدل في مقاصد أحكام الرمل)، ورسالة (فواتح الرغائب)...ورسالة (زهر المروج) ورسالة (لطائف الإشارة)، تأليف عبد القادر الحسيني الأدهمي.
* شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث، حياته ومعراجه إلى الله: الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، شيخ الإسلام، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت.
* شرح القاشاني على الفصوص: انظر (فصوص الحكم).
* شرح الطريقة المحمدية: عبد الغني النابلسي.
* شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد.
* الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية، دار الشروق، بيروت.
* صحيح مسلم.
* صفة الصفوة: ابن الجوزي.
* الصوفية بين الأمس اليوم: دكتور سيد حسين نصر، ترجمة د. كمال خليل يازجي، الطبعة الأولى، (1975م).
* الصوفية في نظر الإسلام: سميح عاطف الزين، الطبعة الثانية، دار الكتاب اللبناني، ودار الكتاب المصري.
* الصلة بين التصوف والتشيع: الدكتور كامل مصطفى الشيبي، مطبعة الزهراء، بغداد، (1382هـ-1963م).
* طبقات الأولياء: لابن الملقن، سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد المصري، الطبعة الأولى، (1393هـ-1973م). حققه وخرجه نور الدين شريبة (مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر).
* طبقات الصوفية: أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق نور الدين شريبة، الطبعة الثانية، (1389هـ-1969م)، مكتبة الخانجي.(79/327)
* الطبقات الكبر ى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار: أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري (الشعراني) (جزءان في مجلد)، وبهامشه الأنوار القدسية (1 و2).
* الطواسين: الحلاج، أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى- بغداد.
* علم الأدوية الخاص (الفارماكولوجيا): الدكتور أكرم المهايني، الطبعة الرابعة، مطبعة جامعة دمشق، (1980م-1981م).
* علم القلوب: أبو طالب المكي، حققه وعلق حواشيه وقدمه عبد القادر أحمد عطا، الناشر مكتبة القاهرة.
* عمر بن الفارض من خلال شعره: ميشال فريد غريب، الطبعة الأولى، سلسلة أعلام التصوف.
* عوارف المعارف: شهاب الدين السهروردي البغدادي، بهامش الإحياء.
* غاية الأماني في مناقب وكرامات أصحاب الشيخ سيد أحمد التجاني: جمع وتأليف محمد السيد التجاني، الطبعة الثانية، المكتبة الشعبية، بيروت- لبنان.
* الغنية لطالبي طريق الحق: (جزءان في مجلد واحد)، للشيخ عبد القادر الجيلاني، المكتبة الشعبية، بيروت- لبنان.
* غاية القرب في شرح نهاية الطلب: لولي الله الشريف الحبيب محيي الدين عبد القادر ابن شيخ العيدروس، قبله (إيضاح أسرار العلوم) و(الكبريت الأحمر) في مجلد واحد.
* فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني.
* الفتح الرباني: سيدي عبد القادر الجيلاني، دار الكتاب العربي، بيروت.
* الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التجاني: محمد بن عبد الله بن حسنين الشافعي الطصفاوي التجاني، ويليه ثلاث رسائل: (الفتوحات الربانية)، و(النفحة الأقدسية)، و(السر الأبهر)، الطبعة الثالثة، (1377هـ-1958م).
* الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية (في حاشية إيقاظ الهمم): كلاهما للعارف بالله أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.(79/328)
* الفتوحات الربانية في الطريقة الأحمدية التجانية: للشنقيطي قبله (الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التجاني)، وبعده (النفحة القدسية).. و(السر الأبهر) في مجلد واحد، الطبعة الثالثة، (1377هـ-1985م).
* الفتوحات المكية: ابن عربي.
* فتوح الغيب: سيدي عبد القادر الجيلاني، الطبعة الثانية، (1392هـ-1973م)، مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* فصوص الحكم: الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، المتوفى سنة (638هـ)، والتعليقات عليه بقلم (أبو العلا عفيفي)، الطبعة الثانية، (1400هـ-1980م)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
* فصوص الحكم: محيي الدين بن عربي، شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني، المطبعة الميمنية بمصر.
* الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى القرن الثاني عشر: كامل مصطفى الشيبي.
* الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة: عبد الرحمن عبد الخالق، الطبعة الأولى، (1395هـ-1975م).
* الفكر الصيني: H. G Creal ترجمة عبد الحميد سليم، مراجعة علي أدهم.
* الفلسفة الهندية مع مقارنة بفلسفة اليونان والتصوف الإسلامي: البيروني، راجعه وقدم له الدكتور عبد الحليم محمود، عثمان عبد المنعم يوسف، وهو فصول من كتاب: (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) للبيروني.
* الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية: جمع وترتيب العبد الفقير الحاج إسماعيل بن السيد محمد سعيد القادري، ويليه القصيدة الخمرية، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
* في التصوف الإسلامي وتاريخه: رينولد. ا. نيكولسون، نقلها إلى العربية أبو العلا العفيفي، (1388هـ-1969م).
* الفكر الفلسفي الهندي: سرفبالي راداكْرِشنا، ترجمة ندرة اليازجي، (1967م).
* فصل الخطاب فيما تنزلت به عناية الكريم الوهاب: محمد مهدي الصيادي (الرواس)، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.(79/329)
* الفرق بين الفرق: عبد القاهر بن طاهر البغدادي الإسفراييني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
* القاديانية: د. حسن عيسى عبد الظاهر.
* قصة التغلب على الألم: الدكتور نقولا فياض، حزيران (يونيو:1979م).
* القصد المجرد في معرفة الاسم المفرد: لابن عطاء الله السكندري، منشورات مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر.
* قلائد الجواهر: العلامة المرحوم الشيخ محمد بن يحيى التادفي الحنبلي، وبهامشه كتاب (فتوح الغيب) للجيلاني، طبع بمطبعة مصر، شركة مساهمة مصرية، ويطلب من مكتبة الشيخ مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
* قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر: تأليف مولانا العالم العلامة الفاضل والجهبذ النحرير...محمد أبي الهدى أفندي الرفاعي الخالدي الصيادي، الطبعة الأولى، (1400هـ-1980م)، بيروت، لبنان.
* قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد: للشيخ أبي طالب المكي (جزءان في مجلد)، وبهامشه كتابان جليلان (سراج القلوب) و(حياة القلوب).
* الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر: (بهامش اليواقيت والجواهر، كلاهما للشعراني، مجلدان، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
* الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر المعبر عنه بالدر والجوهر: للعارف بالله الشريف الحبيب عبد الله بن أبي بكر العيدروس، قبله كتاب: (إيضاح أسرار علوم المقربين)، وبعده: (القرب في شرح نهاية الطلب)، كلها في مجلد واحد باسم الكتاب الأول، المكتبة النبهانية الكبرى، سربايا، جاوى، (1352هـ-1933م).
* كتاب الرياضة وأدب النفس: للإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي، عني بإخراجه الدكتور ا. ج. آربري- الدكتور علي حسن عبد القادر، (1366هـ-1947م).
* الكامل في التاريخ: عز الدين بن الأثير.
* كشف الأسرار لتنوير الأفكار: للشيخ مصطفى بن محيي الدين نجا، الطبعة الرابعة، (1398هـ-1978م).(79/330)
* كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب: للعلامة سيدي الحاج أحمد بن الحاج العياشي سكيرج، (1381هـ-1961م).
* كشف الظنون: حاجي خليفة.
* الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين: ملحق بكتاب (تنبيه المغترين) للغزالي.
* اللطائف الروحية لأبناء الطريقة الشاذلية اليشرطية. مطبعة الإنصاف، بيروت، (تصوير سحب).
* اللمع: لأبي نصر السراج الطوسي، حققه وقدم له وخرج أحاديثه الدكتور عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، (1380هـ-1960م)، لجنة نشر التراث الصوفي.
* ميزان الاعتدال: الذهبي.
* ما قبل الفلسفة: هـ. فرانكفورت - هـ. أ، فرانكفورت - جون. أ. ولسن - توركيد جاكوبس. ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، مراجعة الدكتور محمود الأمين، منشورات دار مكتبة الحياة، فرع بغداد، (1960م).
* محمد في الكتاب المقدس: البروفيسور دافيد بنجامين الكلداني (عبد الأحد داوُد)، ترجمة فهمي شما، الطبعة الأولى، (1405هـ-1985م).
* المجموعة النادرة لأبناء الآخرة: (أربعة كتب في كتاب)، محمد مهدي الصيادي الرواس، عني بتحقيقها وجمعها عبد الحكيم بن سليم عبد الباسط، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.
* مجموع أوراد الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية: جمع وطبع على نفقة الفقير إلى الله تعالى ياسين بن الشيخ حسني الدين القاسمي الخليلي، خادم الطريقة الخلوتية، الطبعة الأولى، سنة (1387هـ).
* مجموعة ساعة الخبر: تشتمل على حكم السبعة الأفلاك ومعرفة أسماء البروج ومعرفة منازل القمر، مأخوذة عن سيدي محيي الدين بن العربي، جعلها للأولياء الصالحين والطائفين المريدين، الطبعة الأخيرة، (1368هـ-1949م).
* محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار: للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، الجزء الأول، تحقيق محمد موسى الخولي، القاهرة، شعبان (1392هـ)، أكتوبر (1972م).(79/331)
* محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين: للإمام الأعظم فخر الدين محمد بن عمر الخطيب الرازي، وبذيله تلخيص المحصل للعلامة نصير الدين الطوسي، راجعه وقدم له طه عبد الرءوف سعد.
* المخدرات: الدكتور صلاح يحياوي، الطبعة الأولى، (1401هـ-1981م).
* المسلك القريب لكل سالك منيب: الحبيب الفاضل العالم العامل...سيدنا الحبيب طاهر بن حسين بن طاهر، المكتبة الشعبية.
* مسند الإمام أحمد بن حنبل.
* مشكاة الأنوار: أبو حامد الغزالي، حققها وقدم لها الدكتور أبو العلا عفيفي، القاهرة، (1383هـ-1964م).
* مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، (1400هـ -1980م).
* معارج القدس في مدارج معرفة النفس: حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، وتليها القصيدة الهائية والقصيدة التائية للمؤلف، الطبعة الرابعة، (1980م).
* المربي: محمد محمد أبو خليل.
* معالم الطريق إلى الله: محمود أبو الفيض المنوفي، دائرة المعارف الصوفية، دار نهضة مصر للطبع والنشر.
* معجم مصطلحات الصوفية: دكتور عبد المنعم الحفني.
* مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح: تاج الدين أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندري، الطبعة الأولى، 1381هـ-1961م، مصطفى البابي الحلبي.
* مقدمة ابن خلدون: ابن خلدون.
* من أعلام التصوف الإسلامي: طه عبد الباقي سرور، لجنة الدراسات الصوفية، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها.
* المناظر الإلهية: للعارف بالله تعالى الإمام سيدي عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، الطبعة الأولى، (1382هـ-1962م).
* من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر: (معالم الفكر)، (نداء الحقيقة)، (رسالة القلب)، (نيروان)، تأليف مولانا محمد صادق عنقا شاه مقصود بير أويسي، ترجمة وتقديم دكتور السباعي محمد السباعي- دكتور إبراهيم الدسوقي شتا، دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة.
* المنح القدوسية: ابن عليوة المستغانمي، طبعة ثانية.(79/332)
* منظومة بدء الأماني في التوحيد: لسراج الدين علي بن عثمان الأوشي الفرغاني، الطبعة الثانية، (1375هـ-956م).
* المندل والخاتم السليماني والعلم الروحاني: للإمام الغزالي، جمع وتأليف الأستاذ الكبير عبد الفتاح السيد الطوخي.
* المنقذ من الضلال: للغزالي، ويليه (تحفة الأريب) لعبد الله بن عبد الله، اعتنى بطبعه حسين حلمي بن سعيد استانبولي، استانبول، (1401هـ-1981م).
* المنتخبات من المكتوبات للإمام الرباني المجدد للألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي: تعريب محمد مراد المنزاوي تولداً، المكي توطناً، استانبول، تركيا، (1399هـ-1979م).
* المواقف الإلهية: ابن قضيب البان.
* ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التيجانية: الشيخ العلامة العارف بالله سيدي عبيدة بن سيدي محمد الصغير بن أنبوجة الشنقيطي التيشيتي، دار العلم للجميع، (1393هـ-1973م).
* ميزان العمل: الغزالي، كتب المقدمة وترجم للمؤلف ونوه بالكتاب وصححه وعلق عليه فضيلة الشيخ محمد مصطفى أبو العلا، مدير عام التعليم الابتدائي بالأزهر الشريف.
* نتائج الأفكار القدسية أو (حاشية العروسي): في بيان معاني شرح الرسالة القشيرية، العنوان الموجود على الغلاف الداخلي هو: الجزء الأول من حاشية العالم العلامة الحبر الفهامة إمام الفضلاء الفخام وشيخ مشايخ الإسلام مظهر الفيض القدوسي الأستاذ السيد مصطفى العروسي، المسماة بنتائج الأفكار في بيان معاني شرح الرسالة القشيرية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وبهامشها الشرح المذكور.
* نسيم السحر: للعارف بالله تعالى الإمام سيدي عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، مكتبة الجندي بسيدنا الحسين بمصر.
* نشأة التصوف: عبد الكريم الخطيب.
* النجوم الزاهرة: ابن تغري بردي.
* نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية: لأبي محمد عبد الله بن أسعد اليافعي، الطبعة الأولى، عام (1381هـ-1961م).(79/333)
* النفحات الأقدسية في شرح الصلوات الأحمدية الإدريسية: لمحمد بهاء الدين البيطار الشامي الميداني خادم الطريقة الرشيدية الأحمدية (سنة:1314هـ)، دار الجيل، بيروت.
* نفحات الحق: فاطمة اليشرطية، الطبعة الأولى.
* النفحات الغزالية: أبو بكر أبو بكر عبد الرزاق، المحامي بوزارة الأوقاف (مصر)، دار الفكر العربي.
* النفحة العلية في الأوراد الشاذلية: لجامعه عبد القادر زكي، على الغلاف الخارجي: الطبعة الثالثة، وعلى الغلاف الداخلي: الطبعة الثانية، المكتبة الشعبية، بيروت- لبنان.
* النفحة القدسية في السيرة الأحمدية التيجانية: للجوسقي، وهي رسالة في كتاب (الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التجاني) من ثلاث رسائل.
* هذه هي الصوفية: عبد الرحمن الوكيل، الطبعة الثالثة، (1399هـ-1979م)، دار الكتب العلمية.
* هياكل النور: يحيى بن حبش السهروردي.
* الوصايا: لابن عربي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان.
* ولاية الله والطريق إليها: إبراهيم إبراهيم هلال، تقديم ابن الخطيب، دار الكتب الحديثة.
* يسوع المسيح (شخصيته وتعاليمه): الأب بولس إلياس اليسوعي، الطبعة الثانية.
* اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر: (مجلدان)، عبد الوهاب الشعراني، دار المعرفة، بيروت- لبنان.
* اليزيديون في حاضرهم وماضيهم: السيد عبد الرزاق الحسني، الطبعة الثامنة، (1402هـ-1982م).
فهرس المحتويات
الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ…1
القسم الأول الدراسات الحقيقة - الطريقة - الوصول…4
الباب الأول الحقيقة الصوفية…5
الفصل الأول مذهب واحد…5
الفصل الثاني مدخل إلى فهم النصوص الصوفية…10
الفصل الثالث وحدة الوجود عقيدة كل الصوفية…74
الفصل الرابع الحقيقة المحمدية…192
الفصل الخامس غاية التصوف…206
الفصل السادس العارف…215
الباب الثاني الطريقة…225
الفصل الأول الشيخ…229
الفصل الثاني الرياضة (المجاهدة)…240(79/334)
الفصل الثالث كشف بطائفة مما يسمونه الطرق الصوفية…254
الباب الثالث الوصول…271
الفصل الأول الأحوال والمقامات وتوابعها…271
الفصل الثاني نماذج من حكايات الصوفية ومكاشفاتهم وكراماتهم وعلومهم اللدنية…302
القسم الثاني المناقشات…428
تقديم وجيز في البدعة:…428
الباب الأول مناقشة الطريقة…431
الفصل الأول مناقشة مفهوم الصوفية للشيخ…431
الفصل الثاني مناقشة الرياضة (المجاهدة)…437
الفصل الثالث مناقشة الطريقة البرهانية (الغزالية)…450
الباب الثاني مناقشة الوصول…456
الفصل الأول مناقشة خرق العادة…456
الفصل الثاني مناقشة الجذبة وأحلامها…462
الباب الثالث مناقشة الحقيقة…493
الفصل الأول مناقشة وحدة الوجود…493
الفصل الثاني الباطنية…500
الفصل الثالث مناقشة التقية…502
الباب الرابع مناقشات ودراسات مختلفة…514
الفصل الأول مناقشة التعاريف واشتقاق (الصوفية)…514
الفصل الثاني من أين جاءت الصوفية…522
الفصل الثالث الصوفية في الوثنيات وعند أهل الكتاب…529
الفصل الرابع الصوفية وتدمير المجتمع الإسلامي…539
الفصل الخامس تكفير المتصوفة…587
الفصل السادس الصوفية والسحر…598
الفصل السابع الصوفية والشيوعية…606
المراجع…608
فهرس المحتويات…623(79/335)
اتهامات الحبشي لأبن تميمة
…وقد نسب الحبشي إلى ابن تميمة جملة من الإفتراءات واتهمه باتهامات شتي لم يحل فيها إلى كتاب من كتب ابن تميمة وننتظر منه ذلك ، وربما أحال إلى بعض النصوص التي يحملها ما لا تحتمل ، أو يوردها مقطوعة مبتورة على طريقة لصوص النصوص .
…وشهادة الحبشي وأتباعه مردودة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تقبل شهادة خائن ، ولا خائنة ، ولا ذي غمر على أخيه المسلم " (1)
…وذو الغمر : ذو الحقد ، والحقد المذهبي أعمي ترد به شهادتهم في حق ابن تميمة ، فاجتمعت فيهم الصفتان في الحديث : الخيانة المعروفة عنهم ، والحقد المذهبي الذي أمتازوا به.
…وهذه الالسن التي تطعن هي نفس الألسن التي تمد الظالمين وتدخلهم على حسابها إلى بيت الإسلام
…فمن أثني على هؤلاء فلا يؤخذ بشهادته في أولئك .
…وهذه الألسن التي تطعن في سلف الامة كمعاوية وم نوافقه من الأصحاب . وليس ابن تميمة بأفضل عند أهل السنة من معاوية والعلم عند الله .
…ولا يدري هؤلاء أنهم بطعنهم بابن تميمة إنما يطعنون بأنفسهم وجرحهم له تجريح لأنفسهم ولكنهم لا يفقهون .
…فيوم أن طعن ابن معين في الشافعي قائلاً " ليس بثقة " قال الذهبي " فقد آذي ابن معين نفسه بذلك ، ولم يلتفت أحد إلى كلامه في الشافعي ولا إلى كلامه في جماعة من الأثبات . كما لم يلتفتوا إلى توثيقه بعض الناس "
وإليكم مجموعة الإفتراءات التي اختلقها .
…*زعم أن بن تميمة يشبه الله بخلقه . مع ان نقل عن السبكي أن كلامه يقتضي تشبيه الله بخلقه (2) ، ومعلوم أن طريقة غلاة التنزية : " التأويل " وإثبات الصفات من غير تأويل لها يقتضي التشبيه عندهم ، مع لازم المذهب ليس بمذهب . فهل صرح ابن تميمة بالتشبيه أم قال ما يقتضي ذلك عند الحبشي ؟!
هكذا تتقد الامانة العلمية عند أهل البدع .
__________
(1) رواه أبو داود وأبن ماجه بسند قواه الحافظ في التلخيص 4/198
(2) المقالات السنية 15 .(80/1)
- وزعم أنه قال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له جاه (1) . اكتفي بذلك من غير ان يحيل إلى شئ من كتب ان تميمة .ويأبي الله إلا أن يكشف كذب الحبشي ، فقد قال ابن تميمة " وقد اتفق المسلمون على انه - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخلق جاءها عند الله ولا شفاعة أعظم من شفاعته " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة 7 "
… - وزعم أن ابن تيميه قال " لا مانع أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله (2) وأنه كذاب أفاك لدعواه أن السلف قالوا " إن الله ينزل ولا يخلو منه العرش " (3) مع أن القاضي أبا يعلى ذكر للسلف ثلاثة أقوال : أولها أن نزوله بحركة وانتقال وهو قول عبدالله بن حامد وحرب الكرماني والدرامي وابن راهوية وسعيد بن منصور ، والثاني أنه بغير حركة وانتقال وهو قول أبي الحسن التيمي والثالث وهو لا يخلو منه العرش : قول ابن بطه وغيره .
… - وزعم أن ابن تميمة قال " إن الله مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء " (4)
… - وأنه " بقدر العرش لا أكبر منه ولا أصغر منه .
… - وأنه وأتباعه يكفرون (5) المتوسلين بالرسولصلعم .
… - وأنه جعل زيارة الأنبياء والصالحين بدعة بل معصية بالإجماع (6)
… - وأنه نقض إجماع المسلمين فقال إن نار جهنم تفني (7)
…ولكن لماذا لم يحل الحبشي إلى شئ من كتبه ؟ الجواب ببساطة لأنه لا يوجد شئ مما يزعم .
… - وزعم تلميذه " نزار حلبي " أن " ابن تميمة رأس التطرف في القرن الثامن الهجري حيث كفر كل المسلمين باختلاف مذاهبهم ومشاربهم " (8) ونسي أن يحيلنا إلى الكتاب الذي قال فيه ذلك .
عصبية ابن الهيتمي
__________
(1) المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 16 و 76 .
(2) المقالات السنية160
(3) المقالات السنية 24 .
(4) المقالات السنية76 .
(5) المقالات السنية26 .
(6) المقالات السنية 73 .
(7) المقالات السنية 57 و 76 .
(8) المقالات السنيةمجلة منار الهدي 29 / 5 .(80/2)
…وسبقه إلى هذه الاتهامات أحمد المكي الهيتمي عفا الله عنه حيث رمي ابن تيميه بالعظائم والمفتريات وزعم أنه عبد أضله الله 0000 إلخ "
…وهذا مادعا الآلوسي رحمة الله إلى أن يكتب كتاباً بعنوان " جلاء العينين في محاكمة الاحمدين " قارن فيها بين إدعاءات الهيتمي ظلماً وطالبه بالدليل عليها من كتب ابنتيميه ، ثم ختم كتابه يقوله " قد ظهر لك جميع ما تقدم أن الشيخ ابن حجر الهيتمي نسب إلى شيخ الإسلام من الاقوال التي لا أصل لها ولا سند في نقلها " (1)
…بل يظهر لك تعصبه رحمة الله حين صب جام سخطه على شيخ الإسلام زاعماً أنه ارتكب العظائم .
…ولعلك تسأل ما هي هذه العظائم : يقول الهيتمي " فإنه وقع في حق الله تعالي ونسب إليه العظائم كقوله إن لله تعالي وجهه ويداً ورجلاً وعيناً وغير ذلك من القبائح الشنيعة .(2)
…ولا يخفاك أيها المنصف أن هذه التي يصفها الهيتمي بالعظائم والقبائح ليست من اختلاق ابن تيميه بل هي مما وصف الله به نفسه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالي لأبليس " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله " كتب التوارة بيده " وقوله عن الدجال " إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور " وأن جهنم " لا تزال تقول هل من مزيد حتي يضع الجبار فيها رجله " قمه " فتقول قط قط .
الهيتمي والباقلاني يرجحان إيمان فرعون.
…وموقفه الشديد من ابن تيميه يقابله لين ورقه تجاه أهل الكفر . فلقد عاتب الهيتمي أبن عربي عتاباً رقيقاً لأعتقاد هذا الأخير بإيمان فرعون قائلاً (3) " فنحن وإن كنا نعتقد بجلالة ابن عربي فقوله بإيمان فرعون مردود " وكان حرياً به أن يغلظ له القول .
ولكن وكما يوقل الشاعر :
فرصاص من أجببته ذهباً كما
__________
(1) جلاء العينين في محاكمت الاحمدين 526 ز
(2) حاشية ابن حجر الهيتمي على شرح الأيضاح ص 489 نقلا عن المقالات السنية للحبشي ص 94 .
(3) الزواجر 1/33(80/3)
…………ذهب الذي لم ترض عنه رصاص .
…فإن هذا القول من مستنشعات الصوفية أخدوه عن أئمة الزنادقة كابن عربي وزينة الشيطان لهم فبرؤوا به ساحة فرعون .
…بل قد نقل الزبيدي عن ابن حجر المكي الهيتمي أن ظاهر الآية يفيد وجود إيمان فرعون . ونقل الباقلاني قوة دليل من استدل بالآية على إيمان فرعون .
الزبيدي والقاري يثبتان قول ابن عربي بايمان فرعون (1).
…قال المرتضي الزبيدي " وممن قال بإيمانه – أي فرعون – الشيخ محيي الدين بن عربي في مواضع من قتوحاته وفصوصة : لا يستريب مطالعها أنه كلامه وأنه غير مدسوس عليه " وقد رد على الشيخ عبد الوهاب الشعراني زعمه أن هذا الكلام مدسوس على ابن عربي المقري صاحب الأرشاد والحافظ بن حجر وتلميذه البقاعي ومن المتأخرين ملا على لقارئ من الحنفية والذي يصف ابن عربي بأنه زنديق منافق إمام الاتحادية (2) وكتب رسالة بعنوان " فر العون من القول بإيمان فرعون " وقال في شرح الفقيه الأكبر " وفيه رد على بن عربي ومن تبعه كالجلال الدواني ، وقد ألفت رسالة مستقلة في تحقيق هذه المسألة " (3) وحكي عن العلامة ابن نور الدين أنه صنف مجلداً كاملاً في الرد على ابن عربي " (4)
واعترف السرهندي النقشبندي أن ابن عربي أول من صرح بالتوحيد الوجودي وبوب مسألة الوجود وفصلها وقال إن خاتم النبوة يأخذ بعض العلوم والمعارف عن خاتم الولاية وأراد بخاتم الولاية نفسه (5) . أي أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يأخذ العلم من ابن عربي .
__________
(1) إتحاف السادة المتقين 2/246 .
(2) الرد على القائلين بوحدة الوجود " 56 و 60 وأنظر 64 تحقيق على رضا ط : دارالمأمون للتراث دمشق .
(3) الفقه الأكبر 25 وقال مثله في كتابه " الرد على القائلين بوحدة الوجود " ص 32 و 37 .
(4) الرد على القائلين بوحدة الوجود 37 .
(5) مكتوبات الأمام الرباني 287 .(80/4)
وممن ذهب إلى تأييد كلامه في وحدة الوجود شراح الفصوص الجندي والكازروني والقيصري والجامي وعلى المهايمي والجلال الدواني وعبدالله الرومي وللكازورني كتاب بالفارسية سماه " الجانب الغربي " رد فيه على من اعترض على الشيخ ابن عربي منها هذه المسألة " (1)
وقد عرض بعض الصوفية على يهودي بعد أن أسلم " أن يوافقهم باعتقاد بإيمان فرعون فصرخ قائلاً : قد كنت أقول بكفره حين كنت يهودياً أفاقول بعد ان أسلمت .
…وقد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنموذج الكفر وقدوة الجبابرة والطغاة ، فلما مات أبو جهل جعل - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى جثته ويوقل " هذا فرعون هذه الأمة " فكيف يشبه النبي أبا جهل برجل مؤمن "؟!
…ولوكان أبو تيميه هو القائل بإيمان فرعون لتوقعنا حينئذ من الهيتمي أن يقول " وهذا من ابن تيميه كفر ، فإن القرآن والسنة يشهدان بكفر فرعون ، وكل من شك في كفره فهو كافر ، لأن من لم يكفر كافراً فقد كفر " . ولكنه لتحيزة لأبن عربي وتعصبه له لا يقول بمثل ذلك لأنه من الاولياء عنده ، ونعوذ بالله من التعصب المقيت .
ولاننسي أن الهيتمي من أهل الغلو الصوفية القائلين بازلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أن الله أخذ قبضة من نوره قبل أن يخلق الخلق وقال لها كوني محمداً ، وقد حكي عنه الحبشي هذا الاعتقاد في النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) لكنه لم يلزمه بالقول بقدم شئ مع الله مع ان العقيدة الحبشية أن من الكفر " قول أن محمد خلق من نور " (3)
__________
(1) اتحاف الساده المتقين 2/246 .
(2) الدليل القويم 179 .
(3) منار الهدي 34/25 .(80/5)
…وكان يميل بعصبية إلى قل من زعم أن الله أحيا أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتي أسلما . (1) ومعتمده في ذلك الاحاديث الضعيفة المخالفة للصحيحة مثل ثول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إستاذنت ربي ان أستغفر لأمي فلم يأذن لي " (2) وقوله لرجل " إن أبي وأباك في النار " (3)
فموقفه المؤيد لأبن عربي الاتحادي وغلوه في النبي حتي جعل نوره أزلياً . ووافق من زعموا أن القول بكفر أبويه قله أدب في حقة - صلى الله عليه وسلم - كل هذا يلحقه بالغلاة الذين لا يؤخذ منهم جرح ولا تعديل ولا يجوز تقديم تجريحهم على تعديل العدول لابن تيميه كالعسقاني والذهبي والحافظ المزي وابن كثير والزملكاني والسيوطي رحمهم الله .
موقفه من ابن عربي دليل على الظلم
…وقبل الدخول في تفاصيل الرد على هذه الافتراءات الجائرة أود لفت نظر القارئ إلى أن الحبشي وجماعته يكفرون من لا يستحق التكفير " كابن تيميه ويدافعون عمن ثبت تكفيره من قبل معاصرية .
…*كابن عربي الذي حكم عليه معاصره .
…العز بن عبد السلام " سلطان العلماء " بالزندقة والانحلال وذلك حين سأله عنه ابن دقيق العبد فأجابه قائلاً " إبن العربي " شيخ سوء كذاب ، يقول بقدم العلماء ولا يحرم فرجاً " (4)
…*وقد اعترف ابن حجر الهيتمي بأنه كان يصرح بإيمان فرعون (5)
…
*واتهمه الحافظ بن حجر العسسقلاني وابن حيان النحوي بالقول بوحدة الوجود المطلقة والتعصب للحلاج (6) .
__________
(1) الزواجر 1/33 .
(2) رواه مسلم ( 976 ) .
(3) رواه مسلم ( 203 ) أن من مات عاى الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعة قرابة المقربين .
(4) سير أعلام النبلاء 23 / 48 – 49 ورسالة القاري في الرد على القائلين بوحدة الوجود ص 34 .
(5) الزواجر 1/35 .
(6) لسان الميزان 2/384 تفسير البحر المحيط 3/449 .(80/6)
…*واتهمه السخاوي بالقول بوحدة الوجود وأنه من جملة الاتحادية المحضة للقائلين بوحدة الوجود بين الله وخلقه كالحلاج وابن الفارض ، وعاتب ابن قطلوبغا من حسن العقدية .(1) !
…*وذكر البنهاني أنه كان يقول بأن الأولياء ينتقلون إلى مقام كريم يقولون للشئ كن فيكون . (2)
…*وذكر السرهندي أنه كان يقول بقدم أرواح الكمل من المشايخ وأن ترتيب الخلفاء كان بحسب أعمارهم . وأعترف أن أكثر كشوفاته تأتي مخالفة لعقدية أهل السنة ولا يتابعها إلا مريض القلب (3)
وقال ابن المقري في أبن عربي " ومن لم يكفره كان كمن لم يكفر اليهود والنصاري " (4) حكاه عنه ابن حجر المكي غير أنه علق على ذلك بقوله " وهذا اعتراض منه على بن عربي وابن الفارض " ثم تسأءل عن الدليل الذي يبرر تكفيره متجاهلاً بذلك ما في الفتوحات والقصوص من مقولات الكفر الصريح في حين يرمي بن تيميه بسلسلة من التهم ولا يكلف نفسه الإتيان بدليل عليها من كتبه ، فأجدر به أن يلحق بطائفة المتعصبين الذين لا يؤخذ منهم جرح ولا تعديل .
افحام المتعصبين
…وهذه الأجابة تخرس ألسنة المتعصبين لأبن عربي ، فأن قالوا من لم يكفر ابن تيميه فهو كافر فقل لهم : هؤلاء كبار الأئمة كالحافظ ابن حجر وابن عبد السلام وابن المقري سراج الدين البلقيني " (5) وأبي حيان قالوا بكفر ابن عربي .
…وأبي بكر محمد بن صالح المعروف بابن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر على الناشري وهما مما يقتدي بهما من علماء اليمن " (6)
__________
(1) الضوءاللامع 6/186 و 9/220 – 221 .
(2) جامع كرامات الأولياء 1/32 .
(3) مكتوبات الأمام الرباني السرهندي الفاروقي 264 و 277 و 303 .
(4) الزواجر عن أقتراف الكبائر 2/379 .
(5) الأعلام بقواطع الإسلام للهيتمي 77 .
(6) الرد على القائلين بوحدة الوجود للشيخ على قاري 135 و 138 – 139 .(80/7)
…فإما أن توافقوهم في ذلك ، وإلا فمن لا يكفره يكون كافراً ، وإما أن تقولوا ليس كافراً فيصير من حكموا بكفره كابن عبد السلام وابن المقري وابن حجر وغيرهم كفاراً .
…وهكذا نلحظ الفرق بين موقف أهل البدع من ابن تيميه وبين موقفهم من ابن عربي ، نري التحامل على ابن تيميه بينما نجد التغاضي المطلق عن ابن عربي الذي شهد علماء عصره وشهدت كتبه بزندقته .
…حتي إننا لنجد السبكي يطعن في ابن تيميه في كتابه " طبقات الشافعية " في حين يسكت عن التحذير من ابن عربي أو على الأقل من كتبه الفصوص والفتوحات المكية التي اتفق الجميع على أن فيها كفراً يفوق كفر اليهود والنصاري ، وقد حكي محقق كتاب سير أعلام النبلاء " أن السبكي مؤاخذات على الذهبي صاغها بأسلوب مقيت ينبئ عن تحامل وحقد وبعد عن الانصاف وجهل أو تجاهل بمعرفة القول الفصل في مواطن الخلاف (1) .
…وهؤلاء المتعصبون إذا قالوا : " إن هذا الكلام مدسوس عليه " فأنهم يقولونه تقليداً لأئمتهم لا عن تحقيق علمي ورجوع إلى اصل مخطوطة كتاب من يدافعون عنه .
ثناء بدر الدين العيني على ابن تيميه
…وقد أثني بدر الدين العيني على ابن تيميه ومواقفه الشجاعة من التتار وأنه كان يحرض الناس على قتالهم حتي دحرهم ، (2) ولهذ كان العيني يجله ويدعو له بالرحمة (3) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 18/471 .
(2) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان 4/30 الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(3) عقد الجمان 4/223 .(80/8)
…ويذكر انه كان ينزل إلى الأسواق مع تلاميذه فيمر بالمعروف وينهي عن المنكر بيده ، وأن أهل مشق شكوه إلى السلطان لأنه ذهب لقلع صخرة يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد عليها فكانوا يعظمونها ويسألون الله عندها ، فأخذ بن تيميه فأساً ونزعها فلما بلغ الامر السلطان أثني عليه لذلك وكان يوقم بنفسه بإزالة المنكرات فيقلب الرقع التي توضع عليها الشطرنج ويمر ومن معه على الخمارات وأماكن الفواحش فيربقوا ويكسروا أونيها (1) .
…وذكر العيني مناظرة ابن تيميه المشهورة مع دجاجلة الرفاعية وأنه عرض عليهم حين زعموا أنهم اصحاب كرامات يدخلون النار فلا يصيبهم شئ منها : عرض أن يدخلها معهم واشترط عليهم أن يغتسل الجميع بالماء الحار والخل وأثبت أنهم يستخدمون بعض الدهون يحتالون بذلك على العامة حتي يظنوا فيهم الولاية ، وأن زعيمهم اعترف لأبن تيميه أن كراماتهم تظهر أمام التتار وأما قدام الشراع فلا (2) .
…وأوضح العيني أن الشكوي ازدادت من ابن تيمية لكثرة ما ينال من ابن عربي حتي سجن بإشارة من المنبجي (3) الذي كان معظماً لأبن عربي . هذا موقف العيني رحمة الله من ابن تيميه فماذا تقولون في ذلك ؟!
…إذن ، فقد بات واضحاً سبب سجن السلطان لأبن تيميه فقد كان وراء المرسوم السلطاني شيخ متعصب ينتصر لأبن عربي وتواطؤ شلة من المتعصبين للحلاج وابن عربي .
الذين اثنوا على ابن تيمية
…وقد شهد العديد من الأئمة المعتبرين بصلاح حالة وقوته في الحق وذبه عن السنة وتفرده عن أقرانه في سعة علمه واجتهاده واقتفائه أثر السلف الصالح حتي قالوا " كان السنة نصب عينيه " ونذكر منهم :
__________
(1) عقد الجمان 4/357 العقود الدرية 288 البداية والنهاية 14/11
(2) عقد الجمان 473 .
(3) عقد الجمان 4/460 – 461 .(80/9)
…الشيخ محمد ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي " ت 842 " الذي كتب كتاباً بعنوان " الرد الوافر على من زعم بأن من سمي ابن تيمية " شيخ الإسلام " كافر " أورد فيه شهادات المئات من كبار الائمة في الثناء على ابن تيمية وقرظه : الحافظ ابن حجر والعيني والتفهني والبلقيني " (1)
نص تفريط الحافظ بن حجر للرد الوافر
كما أورده السخاوي
…قال السخاوي في الجواهر والدور في ترجمة الحافظ ابن حجر في معرض سرد تقريظات ابن حجر للكتب ما نصه :
…" ومن ذلك ما كتب في الرد الوافر على من زعم أن ابن تيميه شيخ الإسلام كافر لحافظ الشام ابن ناصر الدين في سنة خمس وثلاثين وحدث به في أواخر السنة التي تليها بالشام بقراءة صاحبنا النجم الهاشم .
…الحمدلله وسلام على عبده الذين أصطفي وقفت على هذا التأليف النافع والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع ، فتخفقت سعة إطلاع الإمام الذي صنفه وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه .
…وشهرة إمامه الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الإنصاف مما أكثر غلط من تعاطي ذلك وأكثر عثارة .
…فالله تعالي هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله ، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا مانبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لمامات في جنازة الشيخ تقي الدين وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها ما بين مئي ألوف ، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته .
__________
(1) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية 72 لمرعي الحنبلي .(80/10)
…وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد زكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم بخلاف ابن تيميه فكان أمير البلد حين مات غائباً وكان أكثر من في البلد من الفقهاء فتعصبوا عليه حين مات محبوساً بالقلعة ، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية على أنفسهم من العامة .
…ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته : لا بجمع سلطان ولا غيره .
…وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أنتم شهود الله في الأرض .
…ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأاصول والفروع وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ودمشق ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته حكمه بسفك دمه مع الشدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة حتي حبس بالقاهرة ثم بالاسكندرية ،ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده ووصفة بالسخاء والشجاعة وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء الى الله تعالى في السر والعلانية فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كان كافراَ بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر . وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ شيخ الإسلام بلا ريب والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداَ .(80/11)
وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب فالذي أصاب فيه – وهو الأكثر – يستفاد منه ويترجم عليه بسببه والذي أخطأ فيه – بل هو معذور – لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الأجتهاد أجتمعت فيه حتى كان أشد المتشغبين عليه القائمين في إيصال الشر اليه وهو كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره .ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم قياماَ على أهل البدع من الروافض والحلولية والأتحادية وتصانيفه في ذلك كثيرة مشتهرة وفتاويه فيهم لا يدخل تحت الحصر فيا قرة أعينهم أذا سمعوا تكفيره ويا سرورهم أذا رأوا من يكفره من أهل العلم فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة أومن ألسنة من يوثق به من أهل النقل فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه على قصد النصح ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب الا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة على عظيم منزلته فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلا عن الحنابلة .
فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام لا يلتفت اليه ولا يعول في هذا المقام عليه بل يجب ردعه عن ذلك الى أن يراجع الحق ويذعن للصواب "
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل " (1) انتهي كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله .
__________
(1) مخطوطة موجوده في مكتبة طوبقبو بتركيا رقم المخطوطة 2991 .(80/12)
وقد أثني الحافظ ابن حجر العسقلاني عليه في الدرر الكامنة 1/154 ودعا له بالرحمة فقال " قال شيخ شيوخنا الحافظ المزي (1) في ترجمة ابن تيمية " كان يستوعب السنن والآثار حفظاَ إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك أبناء جنسه " (2)
وخذه حيث حافظ عليه نص
فهاهو حافظ عليه نص فمابال الأحباش خالفوا موقف الحافظ هنا مع أنهم حاملو راية " خذه حيث حافظ عليه نص "؟
وما زال الحافظ ابن حجر يحتج بأقواله بل يسلم له في نقده في الحديث كما في رواية ( كان الله ولا مكان ) (3) بل أعطاه لقب (حافظ) فقد ذكر في ( التلخيص الحبير 3/109 ) حديث ( الفقر فخري وبه أفتخر ) ثم قال " وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية فقال إنه كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المروية "
ووصفه الشيخ ابن عابدين الحنفي صاحب الحاشية المشهورة بصفة ( الحافظ ) (4)
الشيخ ملا على القاري (5) الذي يذب عنه وعن تلميذه ابن القيم ويقول " ومن طالع كتاب مدارج السالكين تبين له أنهما من أكابر أهل السنة والجماهة ومن أولياء هذه الأمة " (6)
وشيخكم محمد رمضان البوطي لا يكاد يذكره مره الا قال " رحمه الله تعالى " (7)
الحافظ عمر بن على البزار له كتاب الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية ذكر فيه فضائلة ومناقبه ومنذلته عند العلماء.
محمد ابن عبد البر السبكي القائل " والله ما يبغض ابن تيمية الا جاهل أو صاحب هوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به " (8).
__________
(1) قال فيه السبكي " حامل راية أهل السنة والجماعة " ( طبقات السبكي 10/395 محققة ).
(2) الدرر الكامنة 1 : 156 و 157 .
(3) فتح الباري 6/289 .
(4) رد المحتار على الدر المختار 2/257 ط : دار إحياء التراث العربي .
(5) وصفة الكوثري بأنه " ناصر السنة " ( تبديد الظلام 100 )
(6) مرقات المفاتيح 8 : 251 – 252 .
(7) السلفية مرحلة زمنية مباركة ص : 155 ط : دار الفكر .
(8) الرد الوافر 95 .(80/13)
ابن الزملكاني الذي اوذي بسبب انتمائه لابن تيمية وكان ذلك بإشارة من المنبجي (1) المنتصر لعقيدة ابن عربي في وحدة الوجود وأدى إنكاره الى النقمة عليه والوشاية به ذكره الحافظ (2)
وكان على أعدئه أن ينصفوه لهذا الموقف الشجاع وهم الذين يزعمون أنهم أعداء للقائلين بوحدة الوجود لكن أعداءه لا يعرفون الانصاف ولا العدل .
وأثني عليه ابن سيد الناس .
وتاج الدين الفزارى شيخ الشافعية (3)
وابن دقيق العيد الذي قال لابن تيمية لما اجتمع به " ما أظن بقي يخلق مثلك " ذكره الحافظان ابن كثير وأبن رجب (4)
وأنصفه ابن كثير: وبين عقيدته وعلمه وكيد الحاسدين له وقد زعم الحوت في رسائله السبكية أن الأرموي ناظر ابن تيمية وأفحمه مع أن أبن كثير كذب ذلك وأكد أن ساقية الأرموي لاطمت بحراَ " (5)
وأنهم لما عقدوا له مجلساَ لمناقشة رسالته الحمودية أجابهم بما أسكتهم (6) وكتب لهم عقيدته الواسطية وأمهلهم ثلاث سنوات أن يراجعوها ويجدوا فيها ما يخالف عقيدة السلف .
وشرف الدين المقدسي الذي كان يفتخر بابن تيمية ويفرح به (7)
وابن منجا التنوخي .
والشيخ أحمد ولي الله الدهلوي كما في كتابه التفهيمات الالهية.
والشيخ محمد أنور الكمشيري صاحب فيض الباري الذي غالبا ما يصفه بالحافظ (8) وشيخ الإسلام (9)
__________
(1) البداية والنهاية 14/50 .
(2) الدرر الكامنة 1/147 .
(3) البداية والنهاية 13: 303 .
(4) البداية والنهاية 14 : 27 الذيل على طبقات الحنابلة 2/392 .
(5) البداية والنهاية 14 : 36 ووصف السبكي الأرموي بأن خطه في غاية الرداءة وكان رجلا ساذجاَ " ( طبقات السبكي 9/163 محققة ).
(6) البداية والنهاية 14 : 40 .
(7) البداية والنهاية 14 : 341 .
(8) إكفار الملحدين 23 و 46 و 75 و 90 و 103 و 113 .
(9) إكفار الملحدين 113 .(80/14)
وشيخ الحزاميين الوسطي الذي قال " فوالله ثم والله لم ير تحت السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماَ وعملا وحالا وخلقاَ واتباعاَ وكرماَ وقياماَ في حق الله تعالى عند أنتهاك حرماته " (1)
وأثني عليه الشيخ شهاب الدين الأذرعي وذكر شيئاَ من كراماته قاله الحافظ ابن حجر (2)
وابن طولون الحنفي (3)
وابن عبد الهادي وله كتاب العقود الدرية في مناقب ابن تيمية رد فيه على السبكي وكشف ضعفه في الحديث وأعتماده في رده على ابن تيمية حول شرعية شد الرحال الى القبور على الروايات الضعيفة الموضوعة
وبالغ الحافظ العلائي في الثناء عليه الى أن قال " اللهم متعنا بعلومه الفاخرة وأنفعنا به في الدنيا والآخرة " (4)
والحافظ عبد الرحمن ابن رجب الذي أثني عليه كثيراَ وقال " هو الامام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ المفسر الزاهد تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام وعلم الأعلام وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره ... كان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن ومعرفة حقائق الإيمان " (5)
والحافظ العراقي .
وعمر بن سعد الله ابن نجيح .
وحافظ زمامه الشيخ أبو الحجاج المزي .
وأبو بكر الرحبي .
وفضل الله العمري .
والشيخ قاسم بن طوبغا الحنفي .
وشيخ الإسلام عمر بن سلان البلقيني مجتهد عصره.
وامام الحنفية الشيخ بدر الدين " محمود بن أحمد " العيني الذي قال " فمن قال ابن تيميه كافر : فهو الكافر حقاً ، ومن نسبه إلي الزندقة فهو نديق ، وكيف ذلك ، وقد سارت تصانيفه في الآفاق ، وليس فيها شئ مما يدل علي الزيغ والشقاق " (6)
الحافظ السخاوي الذي لم يزل يحتج ويعتممده في ترجيح درجة الاحاديث " وناهيك بابن تيميه إطلاعاً وحفظاً أقر له بذلك المخالف.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 14/137 .
(2) الدرر الكامنة 1 : 160 .
(3) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/583 .
(4) الدرر الكامنة 1:159 .
(5) الذيل على طبقات الحنابلة 2/387 – 392 .
(6) الرد الوافر 245 .(80/15)
شمس الدين الذهبي : وما رأيت أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه كأن السنة بين عينيه وعلي طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحه .
…ووصفة العلامه فتح الدين ابن سيد الناس مصنف السيرة النبوية المشهورة فقال " وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً ثم قال السخاوي بعد هذا النقل " نعم . قد نسبت إليه مسائل أنكرت عليه مقرره عند أهل العلم ، والسعيد من عدت غلطاته رحمة الله وإياناً " (1)
…وقد أمتلاء كتابه " المقاصد الحسنة " بالاحتجاج بابن تيميه في نقده للاحاديث الروايات تصحيحاً وتضعيفاً ونحيلك إلي جملة من ذه الأحاديث : حديث رقم " 45 " و " 17 " و " 233 " و " 384 " و " 609 " و " 838 " و 865 " و 856 " و 883 " و " 714 " و " 1356 " و "1126 " ولم يزل يحتج بتصحيحه وتضعيفه لروايات الحديث فيقول مثلاً " قال ابن تيميه : هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم . (2)
تعظيم الزبيدي لأبن تيميه
__________
(1) الفتاوي الحديثية عند حديث " كنت نبياَ وآدم بين الماء والطين ".
(2) أنظر الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ص 200 و 204 تحقيق الصباغ ط : الوراق – الرياض(80/16)
…وما زال الزبيدي يعظم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم كقوله " والله يغفر لابن القيم " " 1 / 39 " ويكثر من الاحتجاج باقوال بن القيم " 1 / 67 " و 132 و 406 و 413 و 420 و 2 / 270 " وبأقوال شيخه ابن تيميه 1 / 170 و 176 " ويصف بن تيميه ب " الحافظ " " 1 / 400 " " 2 / 106 " و الإمام " 1 / 170 " بل وبشيخ الإسلام " 4 / 537 و 3 / 482 " فمإذا يقول الاحباش الذين يحتجون بقول العلاء البخاري " من قال ابن تيميه شيخ الإسلام فهو كافر (1) هل يحكمون بكفر الزبيدي ؟
…ولئن كان تكفير العلاء البخاري حجة فليوافقوه في تكفيره لأبن عربي كما ذكر صاحب براءة الأشعريين " 2 / 65 – 66 " !! وابن طولون في " القلائد الجوهرية 2 / 538 " وكتب في الرد عليه كتاب " فاضحة الملحدين "
…وهذا العلاء كان طعاناً بالنووي ويحرم النظر في كتبه فإن كانت شهادته عندكم معتبره فخذوا بحكمة في النووي وابن عربي .
…ويحتج الزبيدي هو والحافظ العراقي بتصحيحات وتضعيفات ابن تيميه في الحديث كما في شرح الأحياء " 1 / 449 " فقد قال عن حديث " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " قال العراقي : وسئل عنه الشيخ تقي الدين ابن تيميه في جملة أحاديث فأجاب بأنه لا أصل له .
…ولقد قرأت كتابه " الإتحاف كله " وعرفت الزبيدي رجلاً دث الخلق موقراً لأهل العلم ولو كان مخالفاً لهم في بعض المسائل .
السيوطي يقل ثناء الزملكاني علي ابن تيميه
…والسيوطي يصف ابن تيميه " شيخ الأسلام أحد المجتهدين ( تقي الدين ) وتلميذه ب " العلامه شمس الدين ابن القيم " (2)
__________
(1) يحتج جميل حليم بما ذكره صاحب كتاب " براءة الأشعريين من عقائد المخالفين 2/65 – 66 " كدليل على كفر من يقول بأن ابن تيمية شيخ الإسلام وقد كتب الشيخ ناصر الدين الدمشقي كتابا في الرد على مقولة العلاء البخاري بعنوان " الرد الوافر على من زعم أن ابن تيمية كافر " .
(2) صون المنطق 201 الحاوي للفتاوي 1/123 و 221 و 2/136 و 341 .(80/17)
…ونقل عن الزملكاني ثناءه علي ابن تيميه أنه " سيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام ألأئمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء أخر المجتهدين وأحد علماء الدين بركة الأسلام حجة العلام برهان المتكلمين قامع المبتدعين ذي العلوم الرفيعة والفنون البديعة ، محي السنة ، ومن عظمت به الله علينا المنه ، وقامت به علي أعدائه الحجة ، وايتبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين بن تيميه : أعلي الله منارة وشيد الدين أركانه "
ثم أنشد يقول :
مإذا يقول الواصفون له ………وصفاته جلت عن الحصر .
هو حجة لله قاهرة ………وهو بيننا أعجوبة الدهر .
هو آية في الخلق ظاهرة ……وأنوره أربت علي الفجر .
…قال السيوطي : نقلت هذه الترجمة من خط العلامه فريد دهره ووحيد عصره الشيخ كمال الدين الزملكاني .
وكان يقول " لم ير منذ خمسمائه سنة أحفظ منه " (1)
وكان يدعو لأبن تيميه (2) ويحتج كثيراً بأقوال تلميذه ابن القيم ويصفه بالعلامه شمس الدين . (3)
وينقل ثناء البرزالي عليه .
…قال السيوطي " ونقلت من علم الدين البرزالي : قال : قال سيدنا شيخنا الإمام العالم العلامة القدوة ، الحافظ ، الزاهد ، العابد ، الورع ، إمام الأئمة ، حبر الأمة ، مفتي الفرق ، علامة الهدي ، ترجمان القرآن ، حسب الزمان ، عمدة الحفاظ ، فارس المعاني والألفاظ ، زكي الشريعة والفنون البديعة ، ناصر السنة ، قامع البدعة ، تقي الدين ابن تيميه الحراني ، أدام الله بركته ورفع درجته " الأشياء والنظائر النحوية 3 / 681 – 683 "
الذين لقبوا ابن تيميه " شيخ الإسلام "
أما عن استحقاق ابن تيميه للقب شيخ الإسلام :
__________
(1) الأشباه والنظائر النحوية 3/681 أعين العصر وإعوان النصر لصلاح الصفدي 1/71 الذيل على طبقات الحنفية 2/392 – 393 .
(2) صون المنطق 201
(3) صون المنطق 201 الحاوي للفتاوي 1/123 و 221 و 2/136 و 341 .(80/18)
فأسال الحفاظ : السيوطي وابن رجب وأسأل الشعراني لمإذا لقبوه بهذا اللقب ، فقد جاء في كلام السيوطي عن بن تيميه " شيخ الإسلام . الحافظ الفقية المجتهد المفسر البارع . شيخ الأسلام نادرة العصر ، علم الزهاد " (1)
وأسأل الزبيدي صاحب تاج العروس واتحاف السادة : لمإذا وصفه في كتابه " إتحاف السادة " بشيخ الإسلام وأثني عليه وأحتج بأقواله مرات عديده في اتحافه ثم بعد أن وصفه بشيخ الإسلا مونقل له كلاماً عظيماً في أصول القرآن قال " انتهي ملخصاً من كلام ابن تيميه وهو كلام نفيس جداً " (2)
بل أسأل التاج السبكي الذي كان يفخر بأن الحافظ أبا الحجاج المزي لم يكتب لفظ شيخ السلام إلا أثنين : لأبيه تقي الدين السبكي ولتقي الدين بن تيميه . (3)
واعترف الحافظ العلائي بأن المزي لم يكن يثبت لفظ " شيخ الإسلام " إلا للتقي السبكي ولأبن تيميه " (4)
والشيخ ملا علي القارئ الحنفي الذي كان كثير الذب عن ابي تيميه وتلميذه ابن القيم كما في شرح الشمائل ووصفهما بأنهما شيخا الإسلام ومن أولياء هذه الأمة وأكابرها .
والشعراني " عبد الوهاب " الذي كان يصفه " شيخ الإسلام " (5)
والشيخ شمس الدين محمد بن صفي الدين الحنفي الذي قال " إن لم يكن ابن تيميه شيخ الإسلام فمن ؟ وقالها قاضي القضاة ابن الحريري الحنفي الذي لقي الأذي بسبب وقفته المنصفة تجاهه (6) .
__________
(1) طبقات الحافظ 516 ترجمة رقم ( 1144 ) ومقدمة كتاب السيوطي صون المنطق والكلام ص 1 والأشباه والنظائر للسيوطي 3/683
(2) أتحاف السادة المتقين 4/537 .
(3) طبقات الشافعية 10/195 الذيل على طبقات الحنابلة 2/387 الأشباه والنظائر 3/681 – 683 .
(4) نقد الطالب لزغل المناصب 54 للعلائي .
(5) لطائف المنن والأخلاق في التحدث بنعمة الله على الأطلاق 556 .
(6) الدرر الكامنة 1/147 البداية والنهاية لابن كثير 14/142 .(80/19)
وابن طولون الذي يصفه ب " التقي شيخ الإسلام " ويشهد له بأنه " علامة زمانه " (1) فهؤلاء أثنو عليه بعد موته حتماً وفيه رد علي أدعاء الحبشي أن ذاك الثناء كان أول الأمر .
ومحمد أنور الكشميري الحنفي صاحب فيض الباري شرح صحيح البخاري الذي يثني عليه الكوثري وأبو غدة الثناء البالغ " (2)
الذهبي يصفه بشيخ الإسلام :
…ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الذهبي من الثناء علي بن تيميه ووصفه بشيخ الإسلام (3)
…وقال في كتاب دول الإسلام " وفي ذي القعدة توفي بالقلعة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيميه الحراني ، عن سبع وستين وأشهر ، وشيعه خلق أقل ما حزروا بستين ألفاً ، ولم يخلف أقاربه بعده من يقاربه في العلم والفضل " (4)
…وأنتم تبطلون كلام الحافظ بن حجر الذي يثبت اختلاط السبيعي وترجحون عليه قول الذهبي في نفي الاختلاط عنه : فما لكم تتجاهلون ثناءه علي بن تيميه ووصفه بشيخ الإسلام ؟
موقف الرفاعية من ابن تيميه
…وبالرغم من نقد ابن تيميه للرفاعية إلا ان العديد من كبارهم كانوا يثنون عليه ومع هذا لم يخطر ببال واحد منهم أن يتهمه بالكفر .
…*فمع تحامل الصيادي " محمد أبو الهدي " عليه إلا أنه كان يدعو له قائلاً " نسأل الله أن يرحمه ويعفو عنه " (5) وكذلك الوتري (6)
__________
(1) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/452 و 458 .
(2) إكفار الملحدين 113 نشر المجلس العلمي في كراتشي وأنظر التصريح بما تواتر في نزول المسيح 12 .
(3) سير أعلام النبلاء 7/373 و 11/350 و 21/156 – 21/161 .
(4) دول الإسلام للذهبي 237 ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 .
(5) قلادة الجواهر في سيرة الرفاعي وأتباعة الأكابر لمحمد بن حسن وادي الصيادي 208 و 215 و 217 .
(6) روضة الناظرين وخلاصة مناقب الصالحين للوتري 141 .(80/20)
…*وكان الشيخ صالح المنيعي الرفاعي يصفه ب " العالم المبارك " مع معاداته له (1) وهذا يدل علي أنه لم يكن عندهم كافراً ومع كون الحبشي رفاعي الطريقة فإنه لا يبالي برأي أعيان طريقته في ابن تيميه . فأن كنا عند الحبشي ضالين لأمتناعنا عن تكفيره فلمإذا لا يحكم بكفر الأئمة الآفاضل الذين أثنوا علي بن تيميه أولاً ، وبكفر الشعراني الذي وصفه ب " شيخ الإسلام " ثم بكفر رفقائه في الطريقة الرفاعية التي ينتمي إليها لثنائهم عليه ، ثم يحكم علينا بعد 1ذلك بالكفر ! .
…فلست أعتقد أن يخفي حال ابن تيميه علي هؤلاء جميعاً ، ثم لا يتفطن لذلك إلا الحبشي وأتباعه المشتهرون بتكفير أغلب الناس حتي ضرب بهم المثل ولقبهم الآخرون ب " فرقة المكفرة"(2)
الجواب الفصل
…وإذا كان الحبشي يحتج بتزكية عبد الوهاب الشعراني لأبن عربي وتبرئته من الكفر (3) فلمإذا لا يقبل في ابن تيميه وهو الذي كان إذا ذكره يلقبه بشيخ الإسلام (4) والفرق أن أكثر الذين أثنوا علي بن تيميه اتفقوا علي كفر ابن عربي وعلي التحذير من كتبه الفاسدة
…غير أن الحبشي لا يقيم لشهاداتهم وزناً ويتمسك بشهادة الشعراني : فهلا تمسك بشهادة الشعراني في ابن تيميه ؟هذا جواب ملزم له ولأتباعه لا يسهل لهم الأجابة عليه .
…وإذا لم يقل أفاضل العلماء بكفره بل أثنوا عليه وعظموه وأنصفوه فما الذي يجعلنا نبطل شهادتهم كلهم ونستبدلها بشهادة حبشي شهد أن ألفاظ القرآن من إنشاء جبريل لا من كلام الله ، وان القرآن ليس باللغة العربية وأباح خروج المرأة متعطرة متزينة متبرجة وأباح الربا ومنع الزكاة وأباح صلاة المتلبس بالنجس والتحايل علي الله وأجاز الأستغاثه بالموتي دون الله ، واستباح الكذب واستعان بالباطنيه والقرامطه كيف تؤخذ شهادة رجل كهذا وترد شهادات العدول الأفذاذ ؟
__________
(1) روضة الناظرين 141
(2) الموسوعة الحركية 259 للأستاذ فتحي يكن .
(3) الدليل القويم 152 .
(4) لطائف المنن والأخلاق 556 .(80/21)
…نعم .روي عن العلائي تضليل ابن تيميه ولعله حمله علي ذلك تعصبه عفا الله عنه (1) ومثال التعصب قوله بأن رئيساً أهل السنة هما الماتريدي والأشعري اللذين لا يعارضهما إلا ضال مبتدع(2)
…وهذا عجيب منه : فإن إتباع كل من الفريقين لم يزل معترضاً علي الآخر ، حتي حكم الماتريدية بضلال الأشاعرة في بعض المسائل بل كفروهم كما في مسألة خلق الإيمان . فالمذهبان ليسا مذهبا واحداً وأحدهما يري الآخر ضالاً . وكلاهما يتفقان علي تقديم الرأي علي النص ولهذا تضاربت أراؤهم واختلفوا .
…وكذلك مر بالنسبة للسبكي والحصني والهيتمي فهؤلاء أشاعرة في العقيدة مدافعون عن المذاهب ، دعاة إلي التأويل في أسماء الله وصفاته يحكمون علي مثبت الصفات بخبث الاعتقاد وتشبيه الله بخلقه فتنه له عن إثبات الصفات ، ودفعاً به إلي التأويل المحفوف بالمخاطر .
…وليس من النصاف جعل الخصم هو الحكم وتحكيم من تخاصموا مع ابن تميميه في العقائد فإنهم علي مذهب جديد أسمه المذهب الأشعري أو الماتريدي لم يعرفه الأشعري نفسه الذي تاب من بدعة الاعتزال وصار يحيل الناس إلي معتقد أحمد بن حنبل ومجرد تعصب المنتمين لمذهبهم سبب كاف للطعن في المخالف له ، كما رأيت من العلائي .
…ولذلك قال بن تيميه لخصومه الذين عقدوا له مجلس تحقيق : من الذي يحكم بيننا فقالوا : نحن الحكم فيك فقال : أنتم خصمي فكيف تكونون الحكم فيما بيني وبينكم .
قاعدة في جرح العلماء لبعضهم البعض
…قال الألوسي " فإن قلت : قد تبين أن من العلماء من هو قادح في الشيخ ابن تيميه وإن كانوا أقل من الفرقة الراضية المرضية ، إلا أنه قد عرف من القاعدة التي عليها التعويل : أن الجرح مقدم علي التعديل ، فما الجواب المميز للخطأ عن الصواب "
__________
(1) وروي عنه عكس ذلك من الثناء عليه .
(2) نقد الطالب لزغل المناصب 36 .(80/22)
…والجواب : قال العلامة ابن عابدين في محشي " الدر المختار " في كتابه " سل الحسام " (1) " إن هذه القاعدة " الجرح مقدم علي التعديل " إنما هي في غير من اشتهرت عدالته ، وفي غير علم أن التكلم فيه ناشئ عن عداوة أو جهالة وغباؤه ، فقد قال الحافظ الباجي .
…الصواب عندنا أن من كثر مادحوه ومزكوه ، وندر جارحه ، وكانت هناك قرينة دالة علي سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره فأنا لا نلتفت إلي الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة ، وإلا : فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح علي إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون .
…وعن مالك بن دينار " يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شئ إلا في قول بعضهم في بعض " (2) وعن ابن عباس " اسمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم علي بعض فوالذي نفسي بيدي هو أشد تغايراً من التيوس علي زوربها " (3)
…قال " ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح : حال العقائد وخلافتها بالنسبة إلي الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك ، وإليه شار الرافعي بقوله " وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك علي جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء علي معتقدهم المخطئون والمجروح مصيب "
…وقال الذهبي والحافظ بن حجر العسقلاني وأبو نعيم الأصفهاني " إن قول الآقران بعضهم في بعض غير مقبول ، لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو مذهب إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالي . قال الذهبي " وما علمت عصراً سلم أهله من ذلك "
__________
(1) لعله نقلها عن السبكي .
(2) طبقات السبكي محقق 2/9 غير محقق 1/188 .
(3) أتحاف السادة المتقين 6/362 .(80/23)
…وقال عند ترجمة الفضيل " إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج ومثل الفضيل بن عياض يتكلم فيه ، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس ؟ ولكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله لم يضره ما قيل فيه ، وإنما الكلام في العلماء يفتقر إلي وزن بالعدل والورع " (1)
…وقال القنوجي في هداية السائل إلي أدلة المسائل " قد فتح باب التقليد والتمذهب عدوات وتعصبات قل من سلم منها إلا من عصمه الله " (2)
…وقال الإمام أحمد " كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتي يبين ذلك بأمر لا يحتمل غير جرحه " (3)
…وقال ابن جرير الطبري " لو كان كل من أدعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما أدعي به ، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ، لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلي ما يرغب به عنه ومن ثبتت عدالته لم يبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظن " (4)
…ولنمض بعد هذه القواعد المهمة مع بعض خصوم بن تيميه .
عصور التعصب والمذهبية
…وقد اتسم عصر بن تيميه بالتحيز الفكري والغلو الصوفي والتعصب الأشعري " فكل له إمام وفي العقيدة " (5) وفي كل مدينة أربعة قضاة : قاض يقضي حسب المذهب ، وإمام يؤم حسب المذهب .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8/448 .
(2) ميزان الأعتدال 1/111 سير أعلام النبلاء 5/399 وأنظر كلام الصيادي في ذلك ( قلادة الجوأهر 207 ) .
(3) تهذيب التهذيب ص 428 .
(4) هدي الساري ص 428 .
(5) تاريخ المذهب الإسلامية 642 محمد أبو زهرة .(80/24)
…قال في مقدمة سير أعلام النبلاء للذهبي " وكانت بلاد الشام تشهد نزاعاً مذهبياً وعقائدياً حاداً ، كان الحكام المماليك يتدخلون فيه فيكثير من الأحيان فيناصرون فئة علي أخري ، وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عنوا بنشر عقيدة الأشعري وأعتبروها العقيدة الحقة الت ييجب أتباعها وكان صلاح الدين الأيوبي رحمة الله أشعرياً متعصباً كما هو معروف من سيرته ، فلذلك أصبحت للأشاعرة قوة عظيمة في مصر والشام " (1)
…وكل هذا يؤكد أنه من الأجحاف أن تكون محاكمة ابت تيميه بيد خصومه ، وأن العصبية للمذهب وحسد العلماء المعاصرين كان الدافع وراء الحملات عليه عفا الله عنهم جميعاً .
موقف الحصني من ابن تيميه
…واحتج الحبشي بموقف تقي الدين الحصني الشدسد العادء من ابن تيميه .
…*ويكفي في بطلان هذا الاحتجاج بشهادة كثيرين في الحصني كالحافظ بن حج ر وابن قاضي شهبه والقريزي والسخاوي أنه كان شديد التعصب (2) يعمي عن الحق ويودي إلي ظلم الآخرين .
…وكان الحصني يصرح بكفر ابن تيميه فأهانة القضاة والحنابلة وأهالي دمشق إهانات كثيرة واحتقروه (3) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1/13 .
(2) الضوء اللأمع 6/83 أنباء الغمر بأنباء العمر 8/110 - 111 طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 4/98 الضوء اللأمع 6/83 .
(3) الرد الوافر 261 الضوء اللأمع 1/145 البدر الطالع 1/28 .(80/25)
…ونرى الإمام السخاوي ينقل عن الإمام المقريزي شدة عصبية الحصني وغلوه تجاه ابن تيميه بل وتجاه الحنابلة بشكل عام فيقول وذكر المقريزي في عقوده أن الحصني كان شديد التعصب للأشاعرة منحرفاً عن الحنابلة إنحرافاً يخرج منه عن الحد وتفحش في ابن تيميه وتجهر بتكفيره من غير احتشام ، بل يصرح بذلك في الجوامع والمجامع ، بحيث تلقي ذلك عنه أتباعه ، واقتدوا به جرياً علي عادة أهل زماننا في تقليد من اعتقدوه ، وسيعرضان جميعاً علي الله الذي يعلم المفسد من المصلح ، ولم يزل علي ذلك حتي مات عفا الله عنه " (1)
…وذكر السخاوي أيضاً أن الشيخ إبراهيم بن محمد الطرابلسي اجتمع بالحصني وقال له " لعلك التقي الحصني ثم سأله عن شيوخه فسماهم فقالله إن شيوخك الذين سميتهم عبيد ابن تيميه أو عبيد من أخذ عنه ، فما بالك تحط عليه أنت ؟! فما وسع الحصني إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر يرد عليه " (2) انتهي قول السخاوي .
…فهذا الموقف من الحصني دليل علي الشذوذ والتعصب لا سيماأن عامة أهل العلم لم يعرف عنهم مثل هذا الموقف ولذلك كان كلام المقريزي السخاوي مشعران بتوبيخه .
…وقد نقل الحبشي من كلام الحصني (3) أنه " بلغه عن شخص أنه نبش قبر بن تيميه فوجد علي صدره ثعباناً مخيف المنظر . (4)
…وهذا الذي بلغه عن مجهول " ولعله من مكاشفي الصوفية " لو صح لكان كرامة لأبن تيميه فلعل ذلك الثعبان يكون من جنود الله يحميه به من أمثال هذا الحاقد الذي يحمله حقده علي نبش قبور أعدائه ، ونبشه للقبر يجعله مستحقاً مستحقاً للعنة لما جاء عن عائشة " أن النبي صلي الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية " (5) أي نباش القبور .
__________
(1) الضوء اللأمع 6/83 – 84 .
(2) الضوء اللأمع للسخاوي 1/145 البدر الطالع للشوكاني 1/30 .
(3) في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد 88 .
(4) المقالات السنية 77 .
(5) رواه البيهقي في السنن 8/270 بسند صحيح ( الصحيحة 2148 ).(80/26)
…والمتأمل في كتاب الحبشي المذكور يجد العديد من الخرافات والمبالغات وكثرة محادثة رسول الله والاستغاثة به عند قبره فالحصني " حبشي المنهج "
موقف أبي حيان من ابن عربي
…وذكر الحبشي أن السبكي نقل عن أبي حيان المعاصر لأبن تيميه أه أطلع علي رسالة ابن تيميه العرشية فلما قرأها زال يلعنه حتي مات لما رأي فيها من الكفر (1) زعموا أنه قال فيها إن الله أخلي لمحمد صلي الله عليه وسلم مكاناً علي عرشه ليجلسه عليه .
…وهذا جرح مبهم فما الذي قاله ليستحق عليه اللعن فليعرضه حتي ننظر فيه أم أنكم مقلدون حتي في اللعن المطلق .
…أين هذه الرسالة المجهولة التي لا يبدو أن كبار الأئمة يعرفون عنها شيئاً .
…وقد كان السبكي بحاجة ماسة إلي ما يثبت موقفه من ابن تيميه فلمإذا لم يحك ما في فحواها؟
…ولمإذا لم يتكلم عنها العلماء عصره حتي يثبتوا فيها إنحراف ابن تيميه ؟
…وكيف مع ذلك يضرب عنها امراء النقد صحيحاً ، فيبالغوا في الثناء علي ابن تيميه كالسيوطي والمزي والذهبي وابن حجر العسقلاني وابن رجب وابن دقيق العيد ، والحافظ البزار وبدر الدين وملا علي قاري وغيرهم ؟
…وتقديم شهادة لغوي أشعري متعصب علي جملة من الحفاظ هو عين التجني .
الصوفية يدعون أن العرش مملوء من رسول الله .
…*فإن كان صاحب هذا الكلام – علي افترض صحته عن ابن تيميه يستحق صاحبه به اللعن فإليكم ما حكاه السيوطي (2) عن أبي العباس الطنحي تلميذ شيخكم أحمد الرفاعي ، وفيها أن الشيخ عبد الرحيم بقنا قال له " هب إلي بيت المقدس لتعرف رسول الله هناك . قال : فحين وضعت رجلي وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلي الله عليه وسلم .
…فالعرش مملوء بالنبي صلي الله عليه وسلم وليس جزءاً منه فقط ؟!
هل يعني ذلك جواز لعن ابن فورك والخطيب
__________
(1) الدليل القويم 39 .
(2) الحاوي للفتاوي 2/260 و 265 .(80/27)
…فإن كان ابن تيميه يستحق اللعن لمجرد روايتها فقد رواها الخطيب في تاريخه الذي أخذتم منه رواية تبرط الشافعي بقبر أبي حنيفة وتمسكتم بها تعصباً منكم وتحيزاً . فقد ذكر الخطيب رواية " الكرسي الذي يجلس عليه الرب عز وجل ، وما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع وإن له أطيطاً كأطيط الرجل الجديد " قال الخطيب " قال أبو بكر المروذي قال لي أبو علي الحسين بن شبيب قال لي أبو بكر بن العابد – حين قدمنا بغداد – أخرج ذلك الحديث الذي كتبناه عن أبي حمزة فكتبه أبو بكر بن سلم بخطه وسمعناه جميعاً .
…وقال أبو بكر بن سلم " إن الموضع الذي يفضل لمحمد صلي الله عليه وسلم ليجلسه عليه ، قال أبو بكر الصيدلاني : من رد هذا فإنما أراد الطعن علي أبي بكر المروذي وعلي أبي بكر بن سلم العابد " تاريخ بغداد 8 / 52 "
…فهل تلعنون الخطيب البغدادي لهذه الرواية التي لا يعقب عليها بشئ بل يحكي ما يفيد الزجر علي من يطعن في صحتها !
…وهل تلعنون ابن فورك وهو الذي روي الحديث الباطل الذي تتهمون ابن تيميه بروايته وهو " إن الله ملأ العرش حتي ان له إطيطاً كأطيط الرجل الجديد قائلاً ووضع أحدهما علي الاخري ، قال ووضع حماد ساقه علي ركبته اليسري "
…ثم حاول أن يوجد له تأويلاً علي عادته في سياقة الروايات الباطئة وتأويلها " فقال " يحتمل أن يكون المراد ملأة عظمة ورفعة " (1)
…وبالجملة فالرسالة العرشية التي بين أيدينا ليس فيها ما يزعمون ؟ بيد أنهم يصرون علي أن له رسالة عرشية أخري غير هذه المتداولة أو أن هذه الرسالة قد تم حذف شئ منها ، هكذا ادعاء لا أساس له ، فليبرزوا لنا الأصل المخطوط للرسالة إن كانوا صادقين .
…وعجباً لهؤلاء أن يقولوا عن كتب خصومهم " حذف منها هذا الكفر ، بينما يقولون في كتب أحبابهم من أهل الحلول والاتحاد كابن عربي " دس فيها هذا الكفر "فتأمل التحيز والتعصب واتباع الهوي .
__________
(1) مشكل الحديث وبيانه 341 .(80/28)
…ثم أن الحافظ ابن الحجر صرح بأن الأشكال بين ابي حيان وابن تيميه إنما وقع حول قضية تتعلق بالنحو فقد دار جدال بينهما في النحو فخطأ ابن تيميه سيبويه في مسائل فلما عارضه أبو حيان لذلك قال له ابن تيميه " لم يكن سبيويه نبياً معصوماً "
…قال ابن حجر (1) فأعتبر أبو حيان هذه الكلمة ذنباً لا يغتفر وكان هذا سبب مقاطعته إياه .
اختبار الصدق
…ولئن كانت شهادة أبي حيان معتبرة عند الحبشي إلي هذا الحد : فليأخذ بشهادته في ابن العربي بأنه حلولي فاجر بوحدة الوجود ؟!
…فقد قال أبو حيان في قوله تعالي " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " " ومن بعض اعتقادات النصاري استنبط من تسر بل الإسلام ظاهراً وانتمي إلي الصوفية : " استنبط " حلول الله في الصور الجميلة .
…ومن ذهب من ملاحدتهم إلي القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشوزي وابن عربي المقيم بدمشق وابن فارض والمعلعون العفيف التلمساني 00 قال " وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله تعالي وليحذر المسلمون منهم " (2) انتهي .
…فلمإذا يميل الحبشي إلي موقف أبي حيان من ابن تيميه ولا يميل إلي موقفه من ابن عربي ؟ أنه الهوي والجور .
…وبهذه الطريقة أيضاَ تستطيع أن تلقم هؤلاء المفرين حجراً فإن قالوا لك إن أبا حيان لعن ان تيميه (3) فقل لهم وكذلك لعن أبو حيان ابن عربي فهل تقبلون بحكمة في كلا الرجلين .
…علي ابن حيان لا يعبأ بقوله في ابن تيميه بعد أن ثبت ثناء أكابر أهل العلم عليه الثناء البالغ . فهو ليس من الائمة المعتبرين المعروفين الذين يؤثر قولهم علي قول ابن حجر والمزي والذهبي والحافظ ابن عبد الهادي وابن رجب وغيرهم .
ابن طولون يحكي الإجماع علي كفر ابن عربي
__________
(1) الدرر الكامنة 1/152 – 153 .
(2) تفسير البحر المحيط 3/449 .
(3) وهل كل لاعن يكون محقاَ في لعنه ؟!(80/29)
…ونص ابن طولون علي أن غالب الفقهاء وجميع المحدثين يعتقدون في ابن عربي أنه مبتدع إتحادي ملحد " قال وسمعت الشيخ الكفر السوسي بقول : رقاهم بعض المتأخرين إلي نحو خمسمائة منهم قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز المصري والعلامة شهاب الدين أحمد بن حمدان الحراني ، وعلامة زمانه تقي الدين ابن تيميه والعلامة كمال الدين جعفر الأدفوي والحافظ بن كثير ونادرة زمنه علماً وعملاً علاء الدين البخاري وقاضي القضاه أبو زرعة العراقي وقاضي القضاه بدر الدين العيني وشيخ الإسلام شمس الدين البلاطنسي والعلامة محمد بن امام الكاملية الصوفي ، وحافظ العصر شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ، والفقيه تقي الدين ابن الصلاح وقاضي القضاه ابن دقيق العيد ، وبدر الدين ابن جماعة ، وشيخ الاسلام تقي الدين لسبكي (1) فمإذا عساكم تقولون ؟!
…ثم أن محاولة تبرئة ابن العربي محاولة فاشلة فقد ثبت عليه القول بوحدة الوجود وتتلمذ عليه أناس من كبار القائلين بوحدة الوجود مثل القونوي وبخاصة عبد الحق ابن سبعين الذي شنع عليه أبو حيان والذهبي وابن حجر وكذلك بدر الدين العيني الذي أثني علي موقف ابن تيميه في التشنيع عليه وعلي أمثاله من القائلين بوحدة الوجود . (2)
…فتلمذة ابن سبعين علي بن عربي وتأثره بتعاليمه يعتبر الدليل الأكبر علي صحة نسبة كتاب الفصوص إليه لا سيما وان ابن بعين شرح الكتاب المذكور (3) .
موقف التقي السبكي
…وقد وبخ الذهبي السبكي لتكلمه في حق ابن تيميه فأجابه السبكي برساله أثني فيها علي ابن تيميه .
…قال الحافظ ابن حجر " وكتب الذهبي إلي السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيميه فكان من جملة جواب السبكي .
__________
(1) القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية 2/538 – 539 .
(2) عقد الجمان لبدر الدين العيني 2/86 النجوم الزاهرة للاتابكي 7/232 .
(3) مخطوط بمكتبة برلين 2849 .(80/30)
…" وأما قول سيدي الشيخ في حق ابن تيميه ، فالمملوك يتححق كبير قدره وزخارة يحره وتوسعة في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ اذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً ، وقدرة " أي قدر ابن تيميه " في نفسي أكبر من ذلك وأجل ، مع ما جمعه الله له من الزهاده والورع والديانه ونصرة الحق والقيامة فيه لا لغرض سواه ، وجريه علي سنن السلف وأخذخ من ذلك بالمآخذ الأوفي ، وغرابة مثلة في هذا الزمان بل من أزمان " أنتهي قول السبكي فيما حكاه الحافظان ابن حجر وابن رجب (1)
…هكذا كان موقف السبكي الأب " تقي الدين " من ابن تيميه يدعو له بالرحمة بالرغمن من العداء العقائدي ويصفه ب" تقي الدين " (2)
تهور السبكي الابن :
…ولم يسلك السبكي الابن مسلك والده ، فقد يطعن في ابن تيميه بأقذع النعوت وأقبحها وانتقده الناس علي ذلك حتي نسبه السخاوي إلي التعصب المقيت لقوله في طبقاته " وهل ارتفع للحنابلة قط رأس "
قال السخاوي وهذا من أعجب العجائب وأصحب التعصب . ولذا كتب تحت خطه قاضي عصرنا وشيخ المذهب العز الكنائي ما نصبه " كذلك والله ما ارتفع للمعطلة رأس 000 " إلي أن قال عن التاج السبكي " هو رجل
قليل الأدب .
عديم الانصاف .
جاهل بأهل السنة ورتبهم " (3) انتهي .
…ولقد عامل الله السبكي بما يستحق ، فقد ذكر الشعراني في الأجوبة المرضية أن الناس شهوداً علي السبكي بالكفر والانحلال والزنا وشرب الخمر وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل زيخلعهما بالنهار " (4)
__________
(1) الدرر الكامنة 1/159 الذيل على طبقات الحنابلة 2/392 .
(2) شفاء السقام 139 و 145 و 147 و 148 و 150 و 129 – 132 .
(3) الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 94 ط : الرسالة .
(4) قلادة الجواهر 206 جلاء العينين 24 – 25 والأعلام للزركلي 4/184 .(80/31)
…قالوا ابن كثير " وعقد مجلس لقاضي القضاة السبكي بسبب عظائم اتهموه بها ينبو السماع عن استماعها " (1)
…ونحن والله لا نرجو أن يكون صدقاً . ولن نسارع أو نميل إلي تصديقه . ولكن لعل الله ابتلاه بما ظلم ابن تيميه ولابد للظالم أن يبتلي بظلم مثله .
…*وأي إنصاف نتوخاه من رجل لم يتورع عن الطعن واللعن بالمخالفين لمذهبه حتي ادي به الأمر أن أكثر من النيل من شيخه الذهبي ، ولم يتوخ الأدب بحقه وهو من هو الناقد البصير الذي شهدت كتبه وسيرته الحسنة بإنصافه وحسن عقيدته ولا زال أهل العلم بل والمخالفون له من أهل البدع يحتجون بحكمه علي احاديث الحاكم في المستدرك صحة وضعفاً .
…وإذا بلغ الأمر بالتاج السبكي إلي هذا الحد فما الذي يجعله يتورع عن شب شيوخه والتشهير بهم ؟! أليس هذا التطاول والجرأة في الطعن يجعله جديراً بما رواه السخاوي عن الكناني من أن السبكي رجل " قليل الأدب عديم الأنصاف ، جاهل بأهل السنة ورتبهم " (2)
…ولذلك فلا أزال أقول : راقبوا وتأملوا سير وأخلاق ومنهج الطاعتين – المتعصبين – في ابن تيميه وقارنوهم بأولئك الائمة العدول الكبار الذين أثنوا عليه : عندها تعرفون الحقيقة .
دعاؤه لابن تيميه بالمغفرة يكشف أحقاد المعاصرين
…ومع طعن السبكي الكبير بابن تيميه فأنه كان يدعو له من وقت لآخر كما قال في طبقاته " يغفر الله لابن تيميه ولا حرمه وسيلة النبي صلي الله عليه وسلم " (3) ويصفه بالشيخ تقي الدين (4). ومعلوم أن تقي الدين وصف له وليس اسماً .
__________
(1) البداية والنهاية 14 : 316 .
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 97 – 95 .
(3) طبقات السبكي 10/149 محققة ذكر ذلك عند ترجمة والده .
(4) طبقات السبكي 10/167 و 195 محققة .(80/32)
…كما كان يترجم الذهبي علي ابن تيميه وكان يدعو له في كل مناسبة يذكره فيها (1) خاصة بعد موته ، ودعا له الوتري (2) والصيادي (3) والامام الأذرعي كما حكاه الحافظ (4) ودعا له بدر الدين العيني بالرحمة (5)
…ودعاء السبكي لابن تيميه في لاطبقات نفي صاحب الرسائل السبكية والتوفيق الرباني أن يكون السبكي قد دعا له بالمغفرة
علامات التحيز والتعصب والعلو
…ومن تعصب التاج السبكي قوله عن أبيه وهو يترجم له :
…*" إعلم أن باب مباحثه بحر لا ساحل له ، بحيث سمعت بعض الفضلاء يقول : أنا أعتقد أن كل بحث يقع اليوم علي وجه الارض فهو له ، أو مستمد من كلامه وتقريراته التي طبقت الأرض . (6)
…وكانت دعواته تخترق السموات السبع الطباق ، وتفترق بركانها فتملأ الآفاق . وتسترق خبر السماء . (7)
…وأقسم بالله إنه لفوق ما وصفته ، وإني لناطق بهذا وغائب ظني أني ما ،صفته " إلي ان قال " وما ساقة الله حين قبضه إلا إلي جنة عدن أعدت لأمثاله من المتقين الأبرار " (8) وما عانده أحد ألا وأخذه الله بعقوبته سريعاً " (9)
…وسافر إلي مصر وكان يذكر أنه لا يموت إلا في في مصر (10) وكأن الله استثناه من الأية " وما تدري نفس بأي أرض تموت " فصارت : إلا السبكي .
__________
(1) المعجم المختص 25 .
(2) روضة الناظرين 141 .
(3) قلادة الجواهر 208 و 217 .
(4) الدرر الكامنة 1/160 .
(5) عقد الجمان 4/223 .
(6) طبقات الشافعية 10/266 .
(7) وما أدراك أيها الغالي ويحك قطعت ظهر أبيك !
(8) طبقات الشافعية 10/142 – 143 محققة وقد سقطت العبارة الأتية من النسخة المطبوعة ( وإن سيظن في أمراَ ما تصورتة ) وجاء في الطبقات الوسطى ( ولو عددت ما شاهدت وحكيت ما عانيت لطال الفصل وقال الغبي النذل : ولد يشهد لأبيه .
(9) طبقات السبكي 10/210 .
(10) طبقات السبكي 10/315 .(80/33)
…وزعم أن رجلاً رآه في المنام فسأله عما فعل الله به فقال : فتحت لي أبواب الجنة وقال لي : أدخل ، فقلت : وعزتك لا أدخل حتي يدخل كل من حضر الصلاة علي " (1)
ونقل عن برهان الدين القيراطي رثاءه لأبيه قائلاً (2) :
أمسي ضريحك موطن الغفران ………ومحل وفد ملائك الرحمن
وتبوأت غرف الجنان وجوزيت ………فيها علي الإحسان بالاحسان .
وتلقيت بتحية وأتت لها …………تحف الجنان علي يدي رضوان .
واستبشرت بقدومها أملاكها ………وسعي لها رضوان بالرضوان .
روح لها حور الجنان تشوفت ………حبا لها كتشوق الولدان .
كانت لها الدنيا محلاً أولا ………والجنة العليا محل ثان .
وهكذا جعلوه قبره مصدر المغفرة ، وحكموا له نيابة عن الله بأنه يتقلب الآن في الجنة ، هكذا يروج الولد لأبيه بضاعته .
واما أبوه فكان يتلو القرآن جهراً ولو في الحمام ، وإذا كانت له حاجة يكتب بخطه إلي الله تعالي ويعلقها علي خشبة السطح (3).
وكان يسعي سعياً حثيثاً إلي منصب القضاء (4) حين كان يعتبر هروب كثيرين من القضاء منقبه وفضيله . وكان قد أمر المؤذنين بزيادات طويلة بعد الإذان وقبله (5) .
وكان الناس يبغضونه وينقمون منه (6)
وكان عصبي المزاج متعصب المنهاج لا يتورع عن وصف مخالفي رأية بالزندقة فقد حكي عنه الهيتمي وقوله " لا ينقص الغزالي إلا حاسد أو زنديق " (7) والنقد عنده انتقاص .
…ولا يخفاك أيها الأخ المنصف نقد كثيرين للغزالي أبرزهم في ذلك ابن الجوزي وابن الصلاح والقاضي أبو بكر ابن العربي الذي كان معاصراً له ، والمازري وأبو كبر الطرطوشي .
__________
(1) طبقات السبكي 10/317 .
(2) طبقات السبكي10/331 .
(3) طبقات السبكي 10/205 و 215 مفتاح السعادة 2/329 طاش كبري زادة .
(4) البداية والنهاية 14 : 204 .
(5) البداية والنهاية 14 : 194 .
(6) 14 : 206 .
(7) الزواجر 2/379 الإعلام بقواطع الإسلام 77 .(80/34)
…قال ابن الجوزي " وجاء أبو حامد فصنف لهم كتاباً علي طريقة القوم " الصوفية " وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا علم بطلانها ، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه ، وقال إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي راهن إبراهيم أنور هي حجب الله ولم يرد هذه " الكواكب " المعروفات " هذا من جنس كلام الباطنية ، وأن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الانبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد . ثم يرقي الحالمن مشاهدة الصور إلي درجات يضيق عنها نطاق النطق " (1)
…وأوصي الغزالي سالك التصوف أن " لا يفرق كره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديت " وذكر في ميزان العمل " 31 " أنه رغب مرة في قراءة القرآن فمنعه شيخه الصوفي من ذلك قائلاً " السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية " فجعل تلاوة القرآن من مشاغل الدنيا .
طلب علم الحديث ركون إلي الدنيا ؟؟
…وأما طلب علم الحديث فقد نقل عن الداراني قوله " إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلي الدنيا لأن الزهد عندنا ترك كل شئ يشغلك عن الله عز وجل " (2)
…علق ابن الجوزي علي ذلك قائلاً : " عزيز أن يصدر هذاالكلام من فقيه ، فإنه لا يخفي قبحه فإنه طر لبساط الشريعة التي حثت علي تلاوة القرآن وطلب العلم (3) فهل نعتبرالزندقة في نقد ابن الجوزي أما مإذا ؟
…غير ان المتعصبين أول ما يتبادر إليهم عند نقد من يحبونه أنه طعن فيه ولا ينصفونه ولا يتقبلون نقده مع إحسان ظن ولا ينظرون نظرة تجرد وغيره علي الدين ولا إلي ما وراء نقد الخاطئين من صيانة للدين ومن هنا يسارعون إلي الطعن والتشكيك في مصداقية الناقد في نصحه بل في نيته ، ولا ينظرون نظرة واقعية متجردة إلي ما فيه قيام الدين .
هجاء السبكي لابن تيمية
__________
(1) تلبيس ابليس 166 وأنظر المنقذ من الضلال للغزالي 50 .
(2) الأحياء 1/61 و 2/24 و 2/237 و 4/229 .
(3) تلبيس ابليس 323 .(80/35)
والرد عليه في ذلك
هذا ويحتج الحبشي ببعض أبيات للسبكي يقول فيها:
ولابن تيمية رد عليه وفي ... بمقصد الرد استيفاء اضربه
لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه
يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به
كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيادة أقفو إثر سبسبه
ولقد ردَّ عليها اليافعي [وهو عبد الله بن أسعد بن علي وقصيدته لا تزال مخطوطة محفوظة في مكتيبة شيستربتي بإيرلندا رقم (4907/3) تحت عنوان (قصيدة فريدة) ومصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وذكرها الآلوسي كاملة في جلاء العينين 19] بقصيدة مطولة جاء فيها:
اليافعي يستعرض كلام السبكي
وبعد فاسمع كلاماً قد تقوله ... قاضي القضاة تقي الدين وانتبه
أعني أبا الحسن السبكي حين غدا ... يبغي من الأمر ما لا يستق به
فقال ذلك إذ رد الإمام على حزب ... الروافض رداً غير مشتبه
أعني ابن تيمية الحبر الذي شهدت ... بفضله فضلاء الناس والنبه
فاستحسن الرد حتى راح يمدحه ... بما أزال من الإشكال والشبه
لكنه بعد هذا المدح خالفه ... وقال أبيات شعر غير منجبه
أبيات السبكي في حق ابن تيمية
إن الروافض قو لا خلاق لهم ... من أجهل الناس في علم وأكذبه
والناس في غنية عن رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستقباح مذهبه
وابن المطهر لم تطهر خلائقه ... داع إلى الرفض غال في تعصبه
ولابن تيمية رد عليه وفى ... بمقصد الرد استيفاء أضربه
لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه
يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدأ لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به
كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيارة أقفو إثر سبسبه
وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أظن به
هذا الذي قاله السبكي مرتجلاً ... وللبسيط أنمي بعض أضربه
رد اليافعي على اتهامات السبكي(80/36)
فقال مرتجلاً للحق منتصراً ... عبد يرد عليه في تأدبه
يا أيها الرجل الحامي لمذهبه ... ألزمت نفسك أمراً ما أمرت به
وما عزوتم إلى الشيخ الجليل أبي ... العباس أحمد أمر لا يخص به
في قولكم خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه
يحول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدأ لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به
لقد علمتم بأن السلف الـ ... ـماضين ما خرجوا عما أقر به
هم القرون الألى في نص سيدنا ... حازوا الفخار بأمر غير مشتبه
لئن رددت عليه في مقالته ... فقد رددت عليهم فبادر وانتبه
ثم الأئمة أهل الحق كلهم ... يرون ما قاله من غير ماجبه
فردكم ليس مخصوصاً بواحدهم ... بل بالجميع وهذا موضع الشبه
هلا جمعت الألى قالوا بمقالته ... ليستبين خطاهم من مصوبه
فكلهم خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه
فكلهم كان حشوياً لديك يرى ... وكلهم أنت تقفو إثر سبسبه
وانظر إلى مطلب حاولته طلبا ... فنسبة للمر تلغى عند مطلبه
وخذ أدلة ما قالوه واضحة ... من الكتاب ودع ما قد هذوت به
فللإله صفات الذات قد وردت ... بها النصوص بلا ريب ولا شبه
كما تراها على قسمين قائمة ... بها يقينا يراها من أقر به
هو القديم بأوصاف منزهة ... عن الحدوث كما تأتيك فانتبه
حي سميع بصير قادر صمد ... فرد جليل عظيم الشأن فارض به
فهذه كلها ذاتية وردت ... ومثلها في المعاني غير مشتبه
كذلك فعليه فانظر مثالهما ... وقس عليه وراع الفرق تنج به
يحب يبغض يرضى يستجيب يرى ... يجيء يأتي بلا كيف ولا شبه
وخالق قبل مخلوق يكونه ... وقاهر قبل مقهور يكون به
وراحم قبل مرحوم فيرحمه ... ورازق قبل مرزوق بأضربه
عن أمره صدر المخلوق أجمعه ... والأمر ويحك لا شك يقوم به
وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ ... ـمنزلات كلاماً لا شبيه به
ولم يزل فاعلاً أو قائل أزلاً ... إذا يشاء وهذا الحق فارض به(80/37)
هذي حوادث لا مبدأ لأولها ... بالنص فافهمه با نومان وانتبه
إذ هل صفات لموصوف تقوم به ... قديمة مثله من غير ما شبه
ومذهب القوم مروي كما وردت ... من غير شائبة للتكييف والشبه
ولا يرون بتعطيل الصفات كما ... يقول جهم ومن والاه في الشبه
ما شبه الله إلا عابد صنماً ... يدلي بأخبث معبود وأغربه
ولا يعطل إلا عابد عدماً ... وليس يدري رباً يلوذ به
سوى أباطيل ما يختاره عبثاً ... يرى أمانيه تسري لمركبه
وما رددت عليه في الطلاق فما ... حققت عقلاً ولا نقلاً ظفرت به
بل فاسد القصد أعيا الذهن منك كما ... هو عادة الله في قال لمذهبه
نزلت حول حماه كي تنازله ... فما علوت عليله بل علوت به
وما نسبتم إليه عند ذكركمو ... ترك الزيارة أمراً لا يقول به
فقد أجابكمو فيها بأجوبة ... أزال فيها صدا الإشكال والشبه
وقد تبين هذا في مناسكه ... لكل ذي فطة في القول والنبه
رميتموه ببهتان يشان به ... فالله ينصفه ممن رماه به
وفي الجواب أمور من تدبرها ... سقى الأنام بها من صفو مشربه
ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل ... شد الرحال إليها فوق مركبه
مستمسكاً بصحيح القول متبعاً ... خير القرون الألى جاءوا بمذهبه
وقال آخر
فضحت نفسك في هذا المقال ولم ... تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه
عرفتنا أن ما قد قلت ليس لوجه ... الله بل للمراء أقبح منصبه
إذ لو أردت بيان الحق قلت به ... في محضر الخصم أما في مغيبه
ما ذاك صدك بل خوف الجواب كما ... أجبت قبل بسهم من مصوبه
لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ ... عرين تسمع فيه ضبح ثعلبه
وفي الزيارة لم تنصف رددت على ... ما لم يقله ولم تمرر بسبسبه
رد ملخص أشياء أذكرها ... إما حديث ضعيف عند مطلبه
إما صحيح ولكن لا دليل به ... على مرادك بل هدم لمنصبه
ثناء الحافظ بن حجر علي بن تيميه
ووصفه بشيخ الاسلام(80/38)
…إن أهم الادلة علي ثناء الحافظ علي ابن حجر علي بن تيميه ما قاله فيه عند تفريطه كتاب الرد الوافر علي من زعم ان ابن تيميه كافر لابن ناصر الدين المشقي كما أثبته السخاوي في كتابه الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ بن حجر قال فيه ما نصه
…قال السخاوي في الجواهر والدرر في ترجمة الحافظ بن حجر (1) في معرض سرد تفريطات ابن حجر للكتب ما نصه .
" ومن ذلك ما كتب به في الرد الوافر علي من زعم أن ابن تيميه شيخ الإسلام كافر لحافظ الشام ابن ناصر الدين في سنة خمس وثلاثين وحدث به في أواخرالسنة التي تليها بالشام بقراءة صاحبنا النجم الهاشم .
…الحمد لله وسلام علي عبادة الذين أصطفي .. وقفت علي هذا التأليف النافع المجموع الذي هو المقاصد التي جمع لأجلها جامع . فتحققت سعة إطلاع الإمام الذي صنفه ، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمة بين العلماء وشرفه .
…وشهرة إمامه الشيخ تقي الدين أشهر من شمس ، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلي الأن علي الآلسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس ، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الأنصاف مما اكثر غلط من من تعاطي ذلك وأكثر عثاره فالله تعالي هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله .
…ولو لم يكن من الدليل علي إمامة هذا الرجل إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين ، وأشار إلي أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جدا شهداها ما بين ألوف ، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته .
__________
(1) المخطوط موجود في مكتبة طوبقبو بتركيا رقم المخطوط 1992 .(80/39)
…وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا أقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم ، بخلاف ابن تيميه فكان أمير حين مات غائباً ، وكان أكثر من في البلد من الفقهاء فتعصبوا عليه حين مات محبوساً بالقلعة ، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية علي أنفسهم من العامة .
…ومع حضور هذا الجمع الكبير والعظيم فلم يكن لذلك باعث إلاعلي إعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره .
…وقد صح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال أنتم شهود الله في الارض .
…ولقد قام علي الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من لااصول والفروع وعقدت له بسبب ذلك مجالس بالقاهرة ودمشق ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفني بزندقته ظلا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة ، حتي حبس بالقاهرة ثم بالاسكندرية ، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلي الله تعالي في السر والعلانية .
…فكيف لا ينكر علي من أطلق أنه كان كافراً بل من أطلق علي من سماه شيخ الاسلام الكفر . وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فانه شيخ الإسلام بلا ريب .
…والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر علي القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً .
…وهذه تصانيفه طافحة بالرد علي من يقول بالتجسيم والتبري منه ، ومع ذلك فهو بشؤ يخطئ ويصيب فالذي أصاب فيه – وهو الأكثر – يستفاد منه ويترحم عليه بسببه ، والذي أخطأ فيه – بل هو معذور – لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه حتي كان أشد المتشغبين علي القائمين في إيصال الشر إليه وهو كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك ، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره .(80/40)
…ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم قياماً علي أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية ، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة ، وفتاويه فيهم لا يدخل تحت الحصر .
…فيا قرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم .
فالواجب علي من تلبس بالعلم وكان له عقلاً من تصانيفه المشهورة أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه علي قصد النصح ، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء .
ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب الا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان غاية في الدلالة علي عظيم منزلته – فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة .
…فالذي يطلق عليه – مع هذه الأشياء – الكافر أو علي من سماه شيخ الاسلام لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه بل يجب ردعه عن ذلك إلي ان يرجع الحق ويذعن للصواب .
…والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل "
…انتهي كلام الحافظ بن حجر رحمة الله وهو كلام نفيس جداً.
احتجاجه الدائم بابن تيميه
…ويكفيك من ثناء الحافظ بن حجر علي بن تيميه احتجاجه بأقواله وأقوال تلميذه ابن القيم في العديد من المسائل ويصفة بـ" العلامة " و الحافظ وقد احتج بحكم بن تيميه علي زيادة " كان الله ولا مكان " بأنه لا أصل لها . قال الحافظ بن حجر في الفتح " 6 / 289 " ما نصه .
…" تنبيه : وقع في بعض الكتب في هذا الحديث " كان الله ولا مكان " " وهو الآن علي ما عليه كان " وهي زيادة ليست في شئ من كتب الحديث نبه علي ذلك العلامة تقي الدين ابن تيميه ، وهو مسلم في قوله " وهو الآن " إلي أخره (1)
__________
(1) فتح الباري 6/289 .(80/41)
…وهذه الرواية معتمد الاحباش وغيره يتمسكون بها ويعارضون بها كثيراً من نصوص الأيات والأحاديث .
…فهذا يبين منزلة بن تيميه عند الحافظ رحمة الله . قال الحافظ بعد موت بن تيميه فهل خفي عليه أخر حال بن تيميه كما تدعون ؟
وشهد لأبن تيميه استحقاقه مرتبة " حافظ " واحتج بحكمة علي درجة الاحاديث كما في كتاب " التلخيص الحبير 3 / 109 "
…وحكي المرتضي الزبيدي في شرح الأحياء " 1 / 449 " عن الحافظ العراقي احتجاه بحكم بن تيميه علي الحديث فقال عن حديث " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " " قال العراقي : وسئل عنه الشيخ تقي الدين ابن تيميه في جملة أحاديث فأجاب بأنه لا أصل له "
…قال الحافظ " وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي عن وصف بن تيميه منها قوله " متعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والاخرة وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوواني إمام الأئمة بركة الأمة وارث علوم الأنبياء : آخر المجتهدين واحد علماء اليدن شيخ الإسلام ، قدوة الانام برهان المتعلمين ، قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفدين ، ترجمان القرآن أعجوبة الزمان ، فريد العصر والاوان ، تقي الدين إمام المسلمين ، حجة الله علي العالمين ، اللاحق بالصالحين والمشبه بالماضيين ، مفتي الفرق ، ناصر الحق ، علامة الهدي عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أبو العباس بن تيمية " (1)
…ولم يقل الحافظ " هذا المدح كان قبل أن تفسد عقيدة بن تيميه كما يزعمه المفتري .
موقف الذهبي من ابن تيميه
وحقيقة النصيحة الذهبية المزعومة
…وأوردوا ما يسمي ب " النصحية الذهبية " زعموا نسبتها للذهبي وجهها إلي ابن تيميه وهي رسالة :
…* لم تعرف عنه أبداً .
…*ولم يذكرها أحد ممن أعتني بمؤلفات الذعبي .
__________
(1) الدرر الكامنة 159 – 160 وللمذيد طالع الكتاب المذكور . وأنظر كتاب الأشباة والنظائر 3/681 – 683 للسيوطي .(80/42)
…*أنها كتبت بخط خصم ابن تيمية وهو بن قاضي شهبة علي زعم ناشرها المقدسي بتعليقات الكوثري . فهي محكمة أشعرية أو قل تحكم أشعري .
…*وهي تخالف اخر ما كتبه عنه الذهبي .
…*أن أهل كتاب الذهبي ورد فيه كلام علي بن تيميه ينادي بأن هذه النصيحة جهمية لا ذهبية ولا تعدو نصحية أعتبره صاحبها " ذهبية " وليس كل الذهب حكراً علي الذهبي ! .
أخر أقوال الذهبي قبل موته .
…ومن يطلع علي كلام الذهبي عن بن تيميه بعد وفاته يتأكد له كذب هذه الرسالة المزعومة . فلا يوجد كتب للذهبي إلا وفيه الثناء علي ابن تيميه لا سيما بعد موته . وإذا أنكره الذهبي قال " شيخنا " وتارة يقول " شيخ الإسلام " (1) مثال ذلك .
…قال في كتاب دول الأسلام " وفي ذي القعدة توفي بالقلعة شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيميه الحراني ، عن سبع وستين سنة وأشهر ، وشيعه خلق أقل ما حزروا بستين ألفاً ، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل " (2)
…وقال في تذكرة الحافظ " كان بحور العلم ومن الاذكياء المعدودين ، والزهاد والافراد الشجعان الكبار والكرماء الاجواد : أثني عليه الموافق والمخالف وسارت بتصانيفه الركبان وقد أمتحن وأوذي وحبس بقلعة مصر والقاهرة والاسكندرية وبقلعة مصر مرتين وبها توفي ثم جهز وأخرج إلي جامع البلد فشهده أمم لا يحصون فحزروا بستين ألفاً . وقد أنفرد بفتاوي نيل من عرضه لأجلها . وهي مغفورة في بحر علمه ، فما رأيت مثله " (3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7/373 و 11/ 350 و 21/156 – 21/161 .
(2) دول الإسلام للذهبي 237 ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974 .
(3) تذكرة الحافظ 4/1497 .(80/43)
…" نصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين ، واوذي في ذات الله من المخالفين ، واخيف في نصر السنة المحضة حتي أعلي الله منارة وجمع قلوب أهل التقوي علي محبته " (1) والدعاء له وكبت أعداءه وأحيا به الشام : بل والاسلام ، وهو أبر من أن ينبه علي سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله . (2) وقال في المعجن المختص " فوالله ما مقلت عيني مثله ولا راي هو مثل نفسه " (3)
…ونقل الحافظ ابن رجب عن الذهبي ان ابن تيميه " كان إماما ً متبحراً في علوم الديانة . صحيح الذهن ، سريع الإدراك ، سيال الفهم كثير المحاسن ، موصوفاً بفرط الشجاعة والكرم ، فارغاً عن شهوات المأكل والملبس والجماع ، لا لذه له إلا نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه " ونقل الذهبي عن إعجاب ابن سيد الناس به وقوله " أن تكلم في التفسير فهو حامل رايته ، أو أفتي في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر بالحديث فهو ذو رايته . برز فب كل فن علي أبناء جنسه ، ولم تر عيني مثله ولا رأت عينه مثل نفسه " (4)
…فهذا الثناء البالغ من الذهبي علي بن تيميه لا يتفق و " النصيحة الذهبية " المزعومة .
…وقال الذهبي " قد سجن غيره مرة ليفتر عن خصومه يقصر عن بسط لسانه وقلمه ، وهو لا يرجع ولا يلوي علي ناصح إلي أن توفي معتقلاً بقلعة دمشق ، وشيعه أمم لا يحصون إلي مقبرة الصوفية ، غفر الله له ورحمه أمين (5) انتهي .
__________
(1) ولذا بغضتة قلوب أهل الكلام لآنهم كما وصفهم أبو حنيفة ( ليس عندهم ورع ولا تقوي ) سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2/136 والذيل على طبقات الحنابلة 2/389 – 390 .
(2) الذيل على طبقات الحنابلة 2/390 .
(3) المعجم المختص 25 تحقيق محمد حبيب الهيلة .
(4) الذيل على طبقات الحنابلة 2/390 .
(5) المعجم المختص 25 .(80/44)
…أوردت هذا النص لأن أتباع الحبشي زوروا كلاماً علي الذهبي ونسبوا إليه في هذا الكتاب أن بن تيميه معجب برأية جرئ علي الامور (1) وهذه العبارة لم ترد في حق بن تيميه وإنما وردت في ترجمة بن القيم (2) وحول ثبوتها كلام . فقد جاء في النسخة الأصلية من كتاب المعجم " جري عليه أمور " ولكن وردت في الدور الكامنة " معجب " حول إثباتها في النسخة المخطوطة كلام .
…فواعجبا من الكذب ومن تصرفهم في نصوص الكتب . ومن أراد التأكد فليسأل صاحب دار عالم الكتب كيف تصرف كمال الحوت في نص الكتاب الذي أرسله الشيخ عبد الفتاح أبو غدة للطبع مما أثار سخط صاحب الدار عليه وجعله يطرده من داره لينظر مإذا فعل الأاحباش بكتاب " تحفة الانام " للشيخ عبد الباسط فاخوري حيثأسقطوا منه ما يقارب الست صفحات .
…فهذا الذهبي يثني عليه الثناء البالغ ويذكر علمه وفضله ، وبخلاف ما زوروه عليه ، لا سيما تلك النصيحة المزعومة التي تخالف كل مصنفات الذهبي التي يبن أيدينا .
…وقال في كتاب زغل العلم " فوالله ما رمقت عيني أوسع علماً ولا اقوي ذكاء من رجل يقالله ابن تيميه مع الزهد في المأكل والملبس والنساء مع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن 000 مقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا للكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة ومحبة الظهور نسأل الله تعالي المسامحة ، فقد قام عليه أناس ليسوا بأروع منه ولا بأعلم منه ولا أزهد منه ، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وأثام أصدقائهم . وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه ، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر وما جري عليهم إلا بعض ما يستحقون (3)
__________
(1) الرسائل السبكية في الرد على ابن تيمية 78 .
(2) أنظر المعجم المختص 269 .
(3) كتاب زغل العلم 38 تحقيق محمد بن ناصر العجمي ط : الصحوة الكويت .(80/45)
…فهذه شهادة الذهبي المنثورة في كتبه منها ما كتبه في حياة ابن تيميه ومنها ما كتبه بعدها ، فمنذ متي تقدمون أبا حيان النحوي اللغوي علي الذهبي المحدث الناقد في الجرح والتعديل ؟ هل صار أبو حيان ناقداً في الجرح والتعديل مقدماً – في حكمه علي الرجال – علي كل هؤلاء العلماء الحفاظ الذين أثنوا علي ابن تيميه كالبزار والمزي ؟
تزوير أخر من الحبشي
ويضاف إلي تزوير الحبشي علي أبي حنيفة والطحاوي " كما مر معنا " هذا التزوير حيث أستغل الحبشي جملة " وما جري عليهم إلا بعض ما يستحقون " وجملة " وما سلطهم الله عليهم بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه " (1) استغلالاً سيئاً وزعم أن هاتين الجملتين في النص صريحتان في طعن الذهبي بابن تيميه . وهو كذب وتلفيق علي النص فإن المقام في النص مقام ثناء لا ذم وكيف يكون ذماً وهو وكيف يكون ذماً وهو يقول " فوالله ما رمقت عيني اوسع علماً ولا اقوي ذكاء من رجل يقال بن تيميه ويقول " فقد قام عليه اناس ليسوا باروع منه ولا باعلم منه ولا بازهد منه .
…فانظر كيف ينصرف عن نعن صريح كلام الذهبي في النصوص الاخري التي كتبها بعد موت ابن تيمية حتي دفعة الجور وعدم انصاف الي الاعراض عن صريح ثناء الذهبي هلي ابن تيميه وبني علي المبهم من الكلام ما يوافق هواه .
…فاما العبارة " جري هليهم الا بعض ما يستحقون " فالمقصود بها اعداء ابن تيميه حين تغير السلطان القديم الذي كان يطيعهم في سجن اب تيميه فلما استولي السلطان السابق بخوله السجن فرفض قائلاً " من إذاني فهو في حل مني ، ومن آذي الله ورسوله فالله ينتقم منه . وانت إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم " (2)
__________
(1) المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية 18 .
(2) العقود الدرية 195 .(80/46)
…وقد جري علي السبكي فتن ومحن فقد شهد عليه الناس بالكفر والانحلال وشرب الخمر وغير ذلك من الاتهامات (1) ,وتعرض الحصني لنقمة أهل الشام عليهم وإذلالهم له (2) ونقل السخاوي معاتبة المقريزي للحصني علي تفحشه ومبالغته في ابن تيميه وكذا نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني الشئ نفسه عن ابن قاضي شهبة
…واما العبارة الثانية " بل بذنوبه " بل بذنوبه " فقد أجلب الحبشي عليها بخيله ورجله ونفخ الشيطان وزعم انها صريحة في ذم الذهبي له .
وهذا باطل :
…فقد قال الذهبي عن مالك – حين ابتلي وثبت علي الابتلاء – ما نصه " هذه ثمرة المحنة المحمودة ، انها ترفع العبد عند المؤمنين ، وهي بكل حال بما كسبت ايدينا ويعفو عن كثير (3).
…فوضح مقصودة أن الله يجعل من طعن الاخرين وحسدهم سبباً يكفر به عن ذنوب أهل العلم والفضل كابن تيميه ويبتليهم بذلك :
فالذهبي من كبار أئمة الجرح والتعديل والحكم علي الرجال .
وهو من المأخوذ بحكمهم علي الحديث والحبشي معترف بذلك حين اشترط لقبول تصحيح الحاكم : أن يوافقه الذهبي .
وقد عاصر الذهبي بن تيميه وعرف تفاصيل أحواله . فلمإذا تعرض عن شهادته فيه وتقبل شهادة رجل كالحبشي له بالكفر ؟
أن الذهبي بالغ في الثناء علي بن تيميه في الكتب التي كتبها بعد موته كالمعجم المختص ودول الاسلام وغيرهما من غير أن يذكر نقداً واحداً مما تضمنته النصيحة المكذوبة وهذا اكبر دليل علي كذبها .
شهادة الحبشي لا يعتد بها
…وذكر الحبشي أن الالسن اتفقت بالثناء علي بن تيميه إلا من لا يعتد به وأن الناس في شأن هذا الرجل قسمان :
قسم يرميه بالعظائم .
وقسم أخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد .
__________
(1) الاعلام للزركي 4/184 قلادة الجواهر 206 جلاء العينين 24 – 25 البداية والنهاية 14 : 316 .
(2) أنظر البدر الطالع للشوكاني 1/28 .
(3) سير أعلام النبلاء 8/81 .(80/47)
…وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعرف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة .فأنه لابد أن يستنكره المقصرون ، ويقع له معهم محنة بعد محنة بعد محنة . ثم يكون من الاعلي وقوله الاولي ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره .
…وهكذا حال هذا الامام ، فإنه بعد موته عرف الناس مقداره ، واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا يعتد به (1)
…وقال الكتاني " ابن تيميه من الأفراد الذين كثر الخلط فيهم بين مكفر وبين ذاهب بهم إلي منزلة المعصومين . والإنصاف فيه قول الحافظ بن كثير " كان من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلي صوابه كنقطة في بحر ن وخطأه أيضاً مغفور له كما في الصحيح " (2)
وقال فيه ابن شاكر في " فوات الوفيات " " 00 وصار بن تيميه " من أئمة النقد وعلماء الأثر مع التدين والذكر والصيام والنزاهة عن حطام هذه الدار ، ثم أقبل علي الفقه ودقائقه ، أما أصول الدين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يشق فيها غباره مع ما كان عليه من الكرم الذي لم يشاهد مثله ، والشجاعة المفرطة والفراغ من ملاذ النفس "
…ثم نقل عن الذهبي قوله " 000 وكان قوالاً بالحق نهاء عن المنكر ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة " (3)
اتهام ابن تيميه بأنه من المشبهه
…وزعم الحبشي ان ابن تيميه يشبه الله بخلقه ، غير ان الحافظ ابن حجر نص علي أن التشبيه والتجسيم شئ ينسبه الناس إلي ابن تيميه (4) وهي طريقة أهل الكلام المعتادة في إلزام الخصم بما لا يلزم وهي عين طريقة المعزلة في إلزام الأشاعرة بالتجسيم لإثباتهم رؤية الله والصفات السبعة .
البوطي يحكم بكذب السبكي وإضرابه
وينفي عن ابن تيميه تهمة التجسيم
__________
(1) البدر الطالع 1/65 .
(2) فهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني 1/201 – 202 تحقيق أحسان عباس .
(3) فوات الوفيات 1/5 و 74 – 80 تحقيق أحسان عباس .
(4) الدرر الكامنة 1/155 .(80/48)
…قال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي " ونحن نعجب عندما نجد غلاة يكفرون ابن تيميه رحمه الله ويقولون أنه كان مجسداً ، ولقد بحثت طويلاً كي أجد الفكرة أو الكلمة التي كتبها أو قالها ابن تيميه والتي تدل علي تجسيده ، فيما نقله عنه السبكي أو غيره فلم أجد كلاماً في هذا قط (1) كل ما وجدته أنه في فتواه يقول " أن الله يدا كما قال واستوي علي العرش كما قال ، وله عين كما قال "
…وأضاف البوطي " ورجعت إلي اخر ما كتبه أبو الحسن الأشعري وهو كتاب الأبانة – فرأيته هو الآخر يقول كما يقول ابن تيميه وأقرأوا كتاب الإمام أبي حسن الأشعري " الأبانة " الذي يقول فيه نؤمن أن لله يدا كما قال ، وأنه علي العرش استوي كما قال " إذن فلمإذا نحاول أن نعظم وهماً لا وجود له ؟ ولمإذا نحاول أن ننفخ في نار شقاق ؟ والله سبحانه وتعالي سيحاسبنا علي ذلك (2) انتهي كلامه النفيس .
…لكن الحبشي يريد نفخ الشقاق كما نفخها من قبل في موطنه هرار ، ولذلك حكم علسي كفر ابن تيميه بالاجماع ، ويبدو أنه يعني بالإجماع : إجماع حفنة من المتعصبين .
ولقد تعقب الشيخ إبراهيم الكوراني في إفاضة العلام من اتهم ابن تيميه وتلميذه ابن القيم بالتجسيم قائلاً :
…" اما إثبات الجهة والجسمية إليهما فقد تبين حالة وإنهما لم يثبتا الجسمية أصلاً بل صريحاً بنفيها في غير غير موضع من تصانيفهما " وقد احتج الألوسي بكلام الكوراني في تبرئة ابن تمييه من تهمة التشبيه والتجسيم " (3) وبرأه من تهمة التجسيم والتشبيه قائلاً " حاشا لله تعالي أن يكون من المجسمة ! بل هو أبرأ الناس منهم " (4)
__________
(1) وهذا ولله الحمد شهادة على تعدي السبكي وظلمه لابن تيمية وأن أتهامه له كان زوراَ وعدواناَ منه .
(2) ندوت أتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر 264 – 265 مجموعة محاضرات ألقيت في البحرين عام 25/2 1985 .
(3) جلاء العينين 569 .
(4) جلاء العينين 340 .(80/49)
…والاتهام بالتجسيم ناشئ عن القاعدة الكلامية أن الاجسام متماثلة فبسبب هذا هربوا من إثبات ما أثبته الله لنفسه وهذه القاعدة مبنية علي جهل بحقيقة الاجسام : فأن الأجسام مختلفة فالهواء جسم وليس كالماء وأبدان الحيوان ليست كأجسام الحديد فإذا كانت الأجسام المخلوقة تتفق في لفظ الجسم وتختلف حقائقها فما بين المخلوق أولي مع العلم أن لا أطلق علي الله بأنه جسم فهو بدعة لا ننفي ولا نثبت ولا يوصف الله إلا بما وصف نفسه .
أكذوبة الاستقرار علي بعوضة .
…وقد موه بعضهم بعبارة نسبها لأبن تيميه إنما هي في الحقيقة عبارة لعثمان بن سعيد الدرامي نقلها ابن تيميه من كتابه " الردعلي بشر المريسي ص 85 " . ونص العبارة كالآتي " ولوشاء لاستقر علي ظهر بعوضة ، فاستقلت بقدرته ولطف ربوبيته ، فكيف علي عرش عظيم أكبر من السموات والأرض " " بيان تلبيس الجهمية 1 / 568 "
…وهذا من أعظم الافتراءات علي بن تيميه رحمه الله ، وعلي اقل تقدير فقد يرد السؤال التالي : إذا كان ليس من كلامه فمإذا أرد بنقله لهذا الكلام من الدرامي أراد ؟
…فالجواب أن الدرامي أراد بذلك أن الله غني عن العرش غناه عن البعوضة سواء بسواء .ويؤكده ما قاله في " مجموع الفتاوي ص 2 / 88 " " وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول : إن السموات نقله أو تظله لما في ذلك من احتياجه إلي مخلوقاته ، فمن قال " أنه في استوائه علي العرش محتاج إلي العرش كاحتياج الرسول إلي حامله ،فأنه كافر "
أكذوبة قصة ابن بطوطه
…ويحتج الحبشي وأصحابه برواية أبن بطوطة المكذوبة علي ابن تيميه بل والتي ربما كانت مكذوبة علي ابن بطوطة نفسه كما ستعلم .
…فقد ذكروا (1) أن ابن بطوطه دخل المسجد الأموي بدمشق ورأي بن تيميه علي المنبر وهو يوقل " إن الله ينزب إلي السماء الدنيا كنزولي هذا " ثم نزل درجة من المنبر " (2)
__________
(1) أنظر مجلتهم منار " الهدي " 15/50 .
(2) رحلة أبن بطوطة أو تحفة النظار في غرائب الأمصار 110 .(80/50)
…*أن رحلة ليست من كتب التاريخ المعتمدة ، وليس مؤلفها معروفاً من اهل العلم ، وإنام كان من عوام المتصوفة . وقد غلب علي رحلته زيارة أضرحة الاولياء والتبرك بقبورهم وتقبيل أعتابها حتي أن الشيخ حسن السائح أشار إلي هذه الحقيقة في مقدمته لكتاب تاج المفرق " في تحلية علماء المشرق " للشيخ خالد بن عيسي البلوي . وأنه ربما سمع بأسم عالم من علماء المشرق " للشيخ خالد بن عيسي البلوي ، وأنه ربما سمع بأسم عالم من علماء البلد التي زارها فيذكر اسمه في الرحلة ولو لم يتصل به اتصالاً شخصياً كما فعل في تونس حسن ذكر علماً من أعلامها وهو ابن الغماز "
…وثمة ملاحظة أخري مهمة وذكرها الحافظ الحافظ بن حجر وهي أن ابن بطوطة لم يكتب تفاصيل رحلته إنما جمعها منه أبو عبد الله بن جزي ونمقها وكان البلفيقي يتهمه بالكذب (1) وعلي كل حال فهذا يفيد أن ابن بطوطة ليس هو الذي كتب تفاصيل رحلته بيده .
…ولقد عجب محقق كتاب رحلة ابن بطوطة " الدكتور علي المنتصر الكتاني " من هذا الكذب فقال " هذا محض افتراء علي الشيخ رحمه الله فإنه كان قد سجن بقلعة دمشق قبل مجئ ابن بطوطة إليها بأكثر من شهر . فقد أتفق المؤورخون أنه أعتقل بقلعة دمشق لأخر مرة في اليوم السدس من شعبان " سنة 726 هـ ولم يخرج من السجن إلا ميتاً ، بينما ذكر الملف في الصفحة " 102 " من كتابه هذا انه وصل دمشق في التاسع من رمضان " وهذا ما نص عليه الحافظ ابن كثير والحافظ بن رجب والحافظ بن عبد الهادي حيث ذكروا ان ابن تميمه مكث في السجن في السادس من شعبان سنة ست وعشرين سنة 726 حتي موته " (2)
ومعلوم أن تيميه كان واعظاً وكان يلقي الدرس جالساً علي كرسي وكان الخطيب المسجد الأموي آنذاك قاضي القضاة القزويني .
__________
(1) الدرر الكامنة 3/480 .
(2) طبقات الحنابلة 2/405 البداية والنهاية 14/123 العقود الدرية 329 .(80/51)
…ولو كان ما ادعاه ابن بطوطة صحيحاً لقام عليه علماء عصره ولشكوه إلي السلطان ولألفوا رسائل في الرد علي قوله . فالمشنعون عليه كثر ومع ذلك لم يذكر احد منهم شيئاً من ذلك .
…ثم أن ابن تيميه كتب كتاباً ضخماً في شرح حديث النزول ، ولم يقل فيه شيئاً مما ادعاه ابن بطوطه ، وانما شدد فيه علي نزول الله كنزول البشر .
راي ابن تيميه في المشبهه :
…ومن المثير للعجب ان ينسب الي ابن تيميه مثل هذا الكلام في الوقت الذى يحكم هو بالكفر على من يقول بمثله ، فقد قال في مجموع الفتاوى " فمن قال أن علم الله كعلمى ، أو قدرته كقدرتى .. أو إستواؤه على العرش كاستوائى أو نزوله كنزولى ، أو إتيانه كاتيانى : فهذا قد شبه الله بخلقه ، تعالى الله عما يقولون ، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر .(1)
…وقال " ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا " (2) فالدليل من كتاب إبن تيمية نفسه أقوى شهادة من هذه والروايات والإشاعات .
…إن هؤلاء يتذمرون مما يشيعه النصارى حول الآسلام ونبيه من الأكاذيب ويطالبونهم بأن لا يتكلموا عن الاسلام إلا بدليل ، ولكنهم بدورهم يستخدمون طريقة النصارى في إشاعة الأكاذيب من غير تدقيق ولا تحقيق .
…ومن المثير للعجب أيضاً أن نجد تشديد إبن تيمية في تكفير من يشبه الله بخلقه في حين نجد إبن حجر الهيتمى يصرح بأننا لا نكفر المشبهة على المشور الا إن إعتقدوا لازم ما يثبتونه من الحدوث(3) .
أول القائلين بالتجسيم عند إبن تيمية
__________
(1) مجموع الفتاوي 11/482 الرسالة التدمرية 20 ط المكتب اٌسلامي .
(2) مجموع الفتاوي 5/352 .
(3) الإعلام بقواطع الإسلام 68(80/52)
…وحول لفظ الجسم قال إبن تيمية " وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لا أصل لها في الكتبا والسنة ، ولم يتكلم به أحد من السلف والأئمة ، وأهل السنة والجماعة لا يطلقون هذا اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً ، كما أنهم لم يثبتوا لفظ التحيز و لا نفوه و لا لفظ الجهة و لا نفوه ، ولكن أثبتوا الصفات التى جاء بها الكتاب والسنة ، ونفوا مماثلة المخلوقات " . قال " وإنما يطلقه أهل الكلام مثال هشام إبن الحكم الرافضى و هشام الجواليقى فانه " أول من قال إن الله جسم(1) " .
…ثم بين اختلاف المتكلمين في معنى لفظ الجسم أن مفهومه للجسم مخالف لمهوم اللغويين له
…وذكر أن " ما كان مبتدعاً من الألفاظ يجب إستفصال صاحبه والنظر إلى مراده : فإن كان يريد معنى صحيحاً قبل منه ذلك ونبه على أنه لايجوز إستعمال مثل هذه الألفاظ . إن كان مراده نفي ما وصف الله به نفسه من العلو والأستواء والنزول فالمعنى باطل واللفظ باطل .(2)
…ومع ذلك فإن كبار الأشاعرة من يجيز وصف الله بالجسم بشرط معين ، فقد صرح أبو جعفر السمانى رأس الأشاعرة وكبيرهم (3) أن " من سمى الله جسماً من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى أخطا في التسمية " (4)
…فهذا اللفظ الذى قاله أحد كبار الأشاعرة يرفض إبن تيمية مجرد إطلاقه على الله تعالى فكيف يكون قائلاً بأن الله جسم كما زعم المفترون ؟!
…وعلى إفتراض تصريح إبن تيمية بالجسم فإنه لم يقل " جسم كجسم " أو " يد كيد " أو " عين كعين " كما تقول المجسمة والمشبهة ، فكيف وانه لم يقل ذلك وهيهات أن يجد أعداؤه في كتبه ما يؤيد افتراءهم .
لذا فأنتم مطالبون بأمرين
1)أن تثبتوا بالدليل أن ابن تيمية صرح بأن الله جسم .
__________
(1) درء التعارض 2 : 288 – 289 وأنظر مجموع الفتاوي 17 : 301 – 329 .
(2) بيان تلبيس الجهمية 9 ط الرياض
(3) فتح الباري 1/70 .
(4) سير أعلام النبلاء 17 : 651 – 652 .(80/53)
2) أن تثبتوا لنا على أفتراض أنكم وجدتم أنه جسم أن تثبتوا أنه قال جسم كجسمي
((( حكم التجسيم عند الشافعية)))
*ولقد نص ابن حجر المكي الهيتمي على أن المشهور [ بل ] الصحيح من المذهب عدم تكفير المجسمة كما قاله جمع من المتأخرين : من أن المجسمة لا يكفرون ولكن أطلق في المجموع تكفيرهم (1)
قال " وينبغي حمل الأول [ أي عدم التكفير ] على ما إذا قالوا جسم لا كالأجسام والثاني [ أي التكفي ] على ما إذا قالوا : جسم كالأجسام لأن النقص الازم على الأول قد لا يلتزمونه ولازم المذهب ليس بمذهب (2) وانتهي إلى أن الصحيح أننا لا نكفر الجهوية (3) ولا المجسمة إلا إن صرحوا بإعتقاد لوازم الحدث .... " الخ .
*ونص العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى على أن معتقد الجهة مخطئ خطاَ معفواض عنه لأن اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة ولا يهتدي اليه أحد الا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم (4) قال : فإن قيل يلزم من الأختلاف في كونه سبحانه في جهة أن يكون حادثاَ قلنا : لازم المذهب ليس بمذهب لأن المجسمة جازمون بأنه في جهة وبأنه قديم أزلي ليس بمحدث فلا يجوز أن ينسب إلى مذهب من يصرح بخلافه وإن كان لازما من قوله " (5)
وقال الأسنوي " لا نكفر المجسمة على المشهور كما دل عليه كلام الشرح والروضة في الشهادات "(6)
__________
(1) الإعلام بقواطع الإسلام ص 38 و 50 .
(2) الزواجر عن أقتراف الكبائر 2/358 وأنظر 351 و 387 .
(3) أي القائلين على الله بالجهة .
(4) قواعد الأحكام الكبري 170 الحاوي للفتاوي 2/133 والحمد لله على أعتراف العز بأن طريقة أهل الكلام صعبة المدرك عسيرة الفهم فهذا أحد أدلة أهل السنة على بطلان طريقة أهل الكلام .
(5) قواعد الأحكام الكبري 172 .
(6) الإعلام بقواطع الإسلامللهيتمي 25 و 38 و 50 .(80/54)
*وقال به أبو حامد الغزالي (1)
وقال الجلال الدواني في شرحه على العقائد العضدية " ص532 " " ومنهم من تستر بالبلكفة وقال : هو جسم لا كالأجسام وله حيز لا كالأحياز ونسبته إلى حيزه ليست كنسبة الأجسام إلى أحيازها " وهكذا ينفي عنه جميع خواص الجسم حتى لا يبقي الا أسم الجسم وهؤلاء لا يكفرون بخلاف المصرحين بالجسمية "
*وقال العضد الإيجي في المواقف ( 273 ) :
" أنه تعالى ليس بجسم وذهب إلى ذلك بعض الجهال كالكرامية وقالوا : هو جسم : أي موجود وقوم قالوا : هو جسم : أي قائم بنفسه فلا نزاع معهم إلا في التسمية .
الذهبي ينفي التجسيم عن الحنابلة
قال الحبشي " هؤلاء الحنابلة يحبون ابن تيمية لأنه مجسم وهم يكثر فيهم التجسيم وفي مشايخهم قبل ابن تيمية وبعد ابن تيمية هؤلاء سموه شيخ الإسلام ثم بعض علماء أهل السنة قد أغتر بكلام هذين فسموه شيخ الإسلام من أين يستحق هذا اللقب (2) ؟
وقد رد الذهبي هذه التهمة فقال " والجهال يتكلمون على الحنابلة ويرمونهم بالتجسيم وبأنه يلزمهم وهم بريئون من ذلك الا النادر والله يغفر لهم " (3) وصدق الذهبي بذلك فإن المعتزلة المعطلة يقولون لمن أثبت الصفات وخالفهم في التأويل : يلزم من ذلك التجسيم والتشبيه (4) .
ومن هذا النادر ما كتبه القاضي أبو يعلي الحنبلي صاحب كتاب إبطال التأويل الذي أنتقده ابن تيمية لأنه حشا فيه الضعيف والموضوع من روايات ونصوص الصفات التي لا تليق بالله تعالى وهذا يدل على إنصاف الرجل وأنه يثبت نصوص الصفات من كتاب الله وما صح من السنة (5)
ولهذا صرح كثير من المنصفين بأن تهمة التجسيم التي ألصقت بالامام ما هي الا شهادة زور في حقه يؤكد ذلك كلامه نفسه كما في فتاويه ( 11/482 ) حيث أفتي بكفر الذين يشبهون الله بخلقه .
__________
(1) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 129 و 148 .
(2) شريط 12 ( أ ) 300 – 345 .
(3) زغل العلم 39 .
(4) مجموع الرسائل الكبري 1 : 418 .
(5) الدرء 5 : 237 .(80/55)
ولهذا فإنا نطالب هؤلاء أن يأتونا بكتاب من كتب الحنابلة المعتبرة يقولون فيها إن يد الله كيدي أو سمعه كسمعي أو أستواءة كاستوائي الخ .
وإنما يراد بهذه الاتهامات تقبيح طريقة إثبات صفات الله عند عامة الناس وترغيبهم بطريقة التأويل ويعتمدون في ذلك سياسة المعتزلة في التهويل والتهور في تكفير المثبتين لصفات الله .
كما تظلموننا يظلمونكم
وقد نص الكوراني في شرح عقيدة القشاشي في بحث رؤية الله يوم القيامة : أن المعتزلة كفرت أهل السنة ( الأشاعرة ) لقولهم برؤيته سبحانه يوم القيامة ظناَ منهم أن ذلك يستلزم التجسيم وهذا ظن فاسد لأن أهل السنة يثبتونها بلا كيف لكن الأشاعرة أنفسهم يكررون اليوم الظلم نفسه فيزعمون أن إثبات صفة الاستواء يلزم منه التجسيم لأنهم لا يتصورون مستوياَ إلا ما كان جسماَ ولم يتصوروا مرئيا الا ما كان جسماَ لأنهم على التقليد في العقائد .
لفظ الحد
وقد حكم نبيل الشريف بكفر ابن تيمية لقوله " وقد أتفقت كلمة المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك " (1) .
فكفره حيث زعم أنه وصف نفسه الله بأنه حد وهذا جهل وتسرع وظلم بل الحد هو الوصف نفسه إذ قوله وحدوه أي أثبتوا له هذا الوصف .
وكان عليه أن يعترف باختلاف أهل المنطق والكلام اختلافاَ كثيراَ حول تعريف الحد .
إذ ليس للحد تعريف واحد وانما تعريفات متعددة .
فالحد في عرف النحاة والفقهاء والأصوليين هو ما يميز الشيء عن جمع ما عداه .
وعند أهل الكلام أن حد الشيء معناه : الذي لأجله استحق الوصف المقصود بالذكر .
وعند أهل المنطق : هو القول الدال على ماهية الشيء . ويطلق ويراد به نهاية الشيء (2) .
__________
(1) شريط 15 مجالس الهدي الوجه ( ب ) 65 .
(2) معيار العلم للغزالي 234 والبحر المحيد للزركشي 1/29 الكفاية في الجدل 1 .(80/56)
وقد أصيبوا بالوسوسة من قول النبي " جعل الله الرحمة مئة جزء " لأنه عندهم صريح في التحديد والتجزئة نقل الزبيدي تعليق التوربشتي على الحديث بقوله " رحمة الله تعالى غير متناهية فلا يعتورها التقسيم ... ولم يرد – أي النبي به تحديد ما قد جل عن الحد أو تعديد ما جاوز العد " (1)
قال أبو القاسم التيمي " تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره " (2)
فإذا كان للحد معان متضاربة لم يجز تحميل أحدها على ابن تيمية الا يصرح هو بالمعني الذي يقصده .
وقد أبان ابن تيمية عن مفهومه للحد فقال " الحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره " (3) وسبب الحد الرد على الجهمية الذين قالوا ليس له حد وقصدوا بذلك أنه لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك عندهم مستلزم للحد .
ونحن نعلم أن أهل المتاب يقرون بأنه في السماء ولا يقال هذا تقليد لهم لأن معنا من الأدلة القرآنية على ذلك ما لا يحصى .
وذكر ابن تيمية (4) أن أهل السنة قالوا إن الله ينزل إلى السماء الدنيا من غير أن يحدوا فيه حدا وأحتج بقول ابن وضاح " وسألت يوسف بن عدي عن النزول : قال نعم اؤمن به ولا أحد فيه حدآ وسألت ابن معين فقال : نعم أقر به ولا أحد فيه حداَ "
يتجاهلون تحديد الغزالي لقدرة الرب
ولكن لمإذا لم يحاكم الأشاعرة الغزالي لتحديده قدرة الله حين قال " ليس في الامكان أفضل من مما كان "(5) أليس في هذا وضع حد لقدرة الله أو إثبات لعجز الله كما أعترف به البيجوري في شرحه على جوهرة التوحيد ؟ (6)
__________
(1) أتحاف السادة المتقين 10/557 – 558 .
(2) سير أعلام النبلاء 20/86
(3) نقض التأسيس 1/442 .
(4) الفتاوي 5/65 .
(5) الاملاء في أشكالات الأحياء 5/13 على هامش أحياء علوم الدين
(6) أنظر تحفة المريد شرح جوهر التوحيد ص 40 .(80/57)
إن إنكار المنكر والغيرة على الدين بقدر ما هو تعصب مذهبي وتقليد محض في الثناء والذم والا فهل يجوز السكوت عن الطاعن في قدرة الله إذا كان أشعرياَ ؟
بل إن الأشاعرة هم الذين يحدون الله بصفة الحد حيث يجعلون لقدرة الله حداَ فيقولون : لا يستطيع أن يظلم . وبسبب ذلك ألزم ابن حزم الأشعرية بتحديد قدرة الله تعالى (1)
عبد الله ابن المبارك
وموقفه من لفظ الحد
غير أن هناك أثرا عن عبد الله بن المبارك رواه البيهقي في الاسماء والصفات عن علي بن الحسن قال " سألت عبد الله بن المبارك : كيف نعرف ربنا ؟ قال : في السماء السابعة على عرشه قلت : فإن الجهمية تقول : هو هذا قال إنا لا نقول كما قالت الجهمية نقول هو هو قلت : بحد ؟ قال : أي والله بحد " (2)
__________
(1) الفصل في الملل والنحل 4/213 .
(2) الأسماء والصفات 2/169 والسنة لعبد الله بن أحمد 1/175 والرد على الجهمية للدرامي 162 والرد على بشر المريسي الجهمي 34 قال الذهبي في مختصر العلو " هذا صحيح ثابت عن ابن المبارك " غير أن الكوثري أعل هذا الأثر بثلاث علل : اولاَ : الحسن بن الصباح روايه عن علي بن الحسن عند البيهقي : قال النسائي " ليس بالقوي " ثانياَ : ابن شقيق تكلموا فيه في الإرجاء . ثالثاَ : أختلاف الروايات عن ابن المبارك كما تري ( الاسماء والصفات بتحقيق الكوثري ص 537 ) وقد رد على هذه العلل بما يلي : أولاَ : الحسن بن الصباح متابع من غير واحد فضلاَ عن أن قول النسائي هذا فيه غير مقبول كما تراه بالدلائل في دفاع الحافظ بن حجر عنه في " هدي الساري ص 397 " ثانياَ : الطعن بالبدعة – على الراجح – لا يطعن برواية الثقة من الحفاظ وبخاصة أن روايته هذه ليس لها مدخل في شيء من الإرجاء . ثانيهما : أن دعوي الإرجاء باطلة مردودة فقد قيل له في ذلك فقال " لا أجعلكم في حل " وقد جاء في تاريخ بغداد ( ص 371 ) وتهذيب الكمال ( 20 / 372 ) ثالثاَ : دعوي أختلاف الروايات مردودةأذ ليس هناك أدني وجه من وجوه الأختلاف .(80/58)
فتأمل كذب الأحباش حيث قالوا " والحد عن الله منفي على لسان السلف " (1)
وتأمل كيف كان موقف البيهقي رحمه الله من لفظ الحد الذي قاله المبارك فقد قال " إنما أراد عبد الله بالحد حد السمع وهو أن خبر الصادق ورد بأنه على العرش أستوى فهو على عرشه كما أخبر وقصد بذلك تكذيب الجهمية فيما زعموا أنه بكل مكان , وحكايته تدل مراده "
هكذا بدون تكفير ولا تضليل مع أن ابن المبارك لم يفصل مقصده من اللفظ في حين أن ابن تيمية فصل مراده من لفظ الحد فقال بأن " لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان : يراد به حقيقة الشيء في نفسه ويراد به الوجود العيني أو الوجود الذهني فأخبر الامام أحمد أن الله على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها وأصف وأتبع ذلك بقوله " لا تدركه الأبصار لا بحد ولا غاية " والقصد أن تفسير الحد بالوجود العيني – وهو ما يقع تحت إدراك البصر وإحاطته أو الوجود الذهني وهو ما يقع تحت إدراك الذهن والعقل وتحديده مشاهدة أو تصوراَ – كلاهما باطل منفي عن الله عز وجل وليس لله صفة اسمها الحد وإنما الحد تعبير عن تميز الله عن غيره بصفاته وأختصاصه بكماله وعلوه عرشه ومباينته لخلقه " ( بيان تلبيس الجهمية 2/163 ) وهذا معني الحد عند الأصوليين والفقهاء والمناطقة (2)
فهل يصر اعداء ابن تيمية على تكفيره لتصريحه بلفظ صرح هو بأن مراده به تميز صفات الله عن صفات المخلوقين وليس بمعني أدراك منتهى الله . وهل يقتدون بأدب البيهقي ؟
__________
(1) منار الهدي 41/44 .
(2) الحدود في ثلاث رسائل ص 9 تأليف الفاكهي وأخوان الصفا وابن سينا تحقيق عبد الطيف محمد العبد .(80/59)
ويسخر ابن تيمية ممن يتوهم أن الله صفة هي صفة الحد قائلا " أن هذا الكلام الذي ذكره أنما يتوجه لو قالوا : إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما وصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها : الحد وإنما ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو معروف في الحد في المددات فيقال : حد الانسان وحد كذا وهي من الصفات المميزة له " ( بيان تلبيس الجهمية 1/442 ) .
ثانياَ كان عليهم أن يبينوا موقف ابن تيمية من هذا اللفظ فقد شرحه في مواطن كثيرة من كتبه فقال بأن هذا لفظ لم يقل به السلف ولكن يطلق ويراد به معنيان :
الأول : بمعني الإحاطة بالله علماَ فلا شك أن الحد منفي عن الله تعالى .لأن الله تعالى غير مدرك بالإحاطة وعلى هذا يحمل قول من نفي الحد من السلف كسفيان الثوري وحماد بن زيد .
الثاني : بمعني أن الله تعالى متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم عال عليهم وعلى هذا يحمل قول من أثبت الحد لله تعالى (1) كابن المبارك .
" إن كان المراد من معني ( الحد ) أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال (( والأرض جميعاَ قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه )) وفي حديث ابن عباس " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن الا كخردلة في يد أحدكم "
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها فهو سبحانه كما قال أئمة أهل السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه " (2)
" فمن قال : إن الله متحيز : أراد بقوله ( متحيز ) على معني أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال عليها : فقد أصاب ومن قال ليس بمتحيز :
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 2/33 – 35 .
(2) الرسالة التدمرية 46 .(80/60)
إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب .
وإن أراد ليس ببائن عنها بل هو لا داخل فيها ولا خارج عنها فقد أخطأ قال " وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلقهما : فإما أن يكون دخل فيهما وهذا حلول باطل وإما أن يكون دخلا فيه وهو أبطل وأبطل وإما أن يكون الله سبحانه بائناَ عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه وهذا قول أهل التوحيد والسنة "
وبهذا يتبين لك أنهم يأتون بالمجمل من كلام الأئمة ولا يذكرون ما يفصل كلامهم ويبينه : حسيبهم الله
…* وبالجملة فهذه الاقوال كالحد والتحيز والجهة لا يفهمها عامة الناس وفيها إجمال يشتبه عليهم ، وإنما دأب أهل البدع الهيمنة على العوام بمصطلحات و ألفاظ غربية عليهم و إيهامه أنهم متعمقون في العلم ، ولتشويه منهج أهل السنة ، فيسلم العامى لهم قولهم ويقلدهم في باطلهم وفي معادة خصومهم ويقلدهم في تكفيرهم .
…ورحم الله الامام أحمد إذ قال عن المتكلمين (1) يتكلمون بالمتشابه من الكلام و يخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله نت فتن المضلين " .
القول بالجهة
كذلك زعموا أن ابن تيمية صرح بإثبات لفظ الجهة على الله. وصريح كلام ابن تيمية يكذب ما يزعمون. لأنه يكرر دائمًا أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المبتدعة التي لم يتكلم السلف والأئمة فيها نفيًا ولا إثباتًا.
__________
(1) الرد على الجهمية ص6 وهو ثابت له ( أنظر فتح الباري 13/493 ) .(80/61)
بل إننا نرى إثباتها من قِبَل الشيخ عبد القادر رحمه الله الذي يزعم الحبشي الانتساب إلى طريقته. قال الجيلاني: « وهو بجهة العلو، مستوى على العرش، محتو على الملك، وأن استواء الله هو (ذات) على العرش لا على معنى القعود والمماسة ولا على العلوِّ والرِّفعة كما قالت الأشعرية، بل يقال إنه في السماء على العرش كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [الآية 5 من سورة طه] [الغنية لطالبي طريق الحق 56]. فهل عندكم الجرأة على تكفير من تعتبرونه شيخ طريقتكم القادرية وقد صرّح بما تعتبرونه كفرًا؟!!
وقد مشى الغزالي [فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة 129 و 148] وابن عبد السلام [قواعد الأحكام 170 – 172 الحاوي للفتاوي 2/133] وابن حجر الهيتمي [الزواجر 2/351 و 358 و 378] على عدم تكفير القائل بالجهة. فإن رضيتم بذلك وإلا لزمكم تكفير الشيوخ: عبد القادر الجيلاني والعز بن عبد السلام والغزالي وابن حجر الهيتمي!
مفهوم الجهة عند ابن تيمية
يرى ابن تيمية أن لفظ الجهة لفظ مبتدع لم يتلفظ به السلف نفيًا ولا إثباتًا، وليس ثمة نص لا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة أن الله متحيز أو هو جسم أو جوهر إلى غير ذلك من الألفاظ المبتدعة.
والناظرون بها قد يريدون معنى صحيحًا، فإن أرادوا معنى صحيحًا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولاً منهم وإن أرادوا معنى فاسدًا كان ذلك مردودًا عليهم.
قال: « للناس في إطلاق الجهة ثلاث أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصّل ... وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو به ما هو معدوم.
ومن المعلوم أن لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقًا لله، والله تعالى لا يُحصَرُ ولا يحيط به شيء من المخلوقات، وإن أريد بالجهة أمر عدمي – وهو ما فوق العالم – فليس هناك إلا الله وحده » [منهاج السنة 1/216].(80/62)
وقد يراد بالجهة شيء موجود غير الله فيكون مخلوقًا كما لو أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات الجهة ولا نفيه.
- فإذا قال القائل: « هو في جهة » قيل له ما تريد بذلك؟ أتريد أن الله سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به؟ مثل أن يكون في جوف السماوات؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات! أما تريد بالجهة أمرًا عدميًا وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات، والله فوق العالم؟
- فإن أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورًا في المخلوقات فهذا باطل.
- وإن أردت الجهة العدمية، وأردتَ أن الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها فهذا حق ... وقد قال ابن عباس: « ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم » فما كان بهذا الحقر والصغار كيف يحيط به ويحصره؟
ومن قال: إن الله تعالى ليس في جهة قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يُعبَد ولا على عرش إله، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يُعرَج به إلى الله تعالى، والأيدي لا تُرفَع إلى الله تعالى في الدعاء ولا تتوجه القلوب إليه: فهذا فرعوني معطِّل، جاحد لرب العالمين.(80/63)
ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وأن وجود المخلوقات هو وجود الخالق [استغل المتصوفة هذا الاعتقاد الأشعري لا سيما قول الأشعري أن وجود كل شيء عين ذات ذلك الشيء لا زائدًا عليه. وبنوا عليه قولهم بوحدة الوجود وكان أبرزهم في ذلك ابن عربي وابن الفارض والقونوي وابن سبعين وقد ابتدأ عبد الغني النابلسي كتابه « إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود » عبارة الشعري ثم انطلق يوافق ابن عربي وابن الفارض في قولهم بوحدة الوجود جاعلاً إياهم أئمة الهدى وأنه لا قول إلا بوحدة الوجود وأن هذا القول باقٍ إلى يوم القيامة إن شاء الله، وجعل منكر وحدة الوجود جاهلاً محجوبًا عن الحق. (إيضاح المقصود من وحدة الوجود 306 – 310 للنابلسي). واستغلوا فكرة الجوهر والعرض عند الأشاعرة فجعلوا الجوهر هو الباطن، والعرض ظاهرًا وقالوا إن الله متجلٍ ظاهرًا في موجوداته لأن موجوداته هي صفاته]. انتهى كلامه [الفتاوى 3: 41 و 5: 626 – 298 و6: 38 و 17: 326 ومنهاج السنة 2: 252].
ولذلك قيل عن أهل التعطيل إنهم معطلة في العقائد، حلولية اتحادية في التصوف، فإن تعطيلهم يؤول إلى تضييع الرب [بسبب إنكارهم علوه سبحانه]، فإذا بحثوا عنه في التصوف وجدوه في كل مكان.
لفظ الحركة
أما لفظ الحركة فلم يثبت أن ابن تيمية اعتقده في الله، بل هذا من مفتريات الحبشي الذي زعم أن ابن تيمية ينسب الحركة إلى الله(1).
__________
(1) الدليل القويم 40 .(80/64)
جل ما قاله ابن تيمية أن "طوائف(1) من أهل السنة والحديث قالوا إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك كحرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي ومنهم من نفاها كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري وابن خزيمة" أضاف "ومن أهل الحديث والفقهاء من لم يتكلم بنفي ولا إثبات"(2).
ولم يذكر ابن تيمية ترجيحاً لطريقة أحد الفريقين، وإنما ذكر الخلاف في ذلك. وتبنى موقفاً حذراً من هذه الألفاظ المبتدعة، فهل يلزم من هذا أنه يقول بالحركة؟
ولنضرب مثالاً من كلام الحبشي: فقد سئل عن حكم شرب الخمر فقال "عند بعض الفقهاء لا يجوز التداوي بالخمر في حال من الأحوال. يجوز عند بعضهم إعطاء المريض جرعة من الخمر لإساغة اللقمة بالنسبة لمن أصيب بالغصة، يجوز أن يسيغ اللقمة بالخمر، وقال بعضهم يجوز التداوي بالخمر إن لم يوجد دواء غيره"(3). فبناءً على قاعدة الحبشي يمكن أن نحكم عليه بأنه رجح شرب الخمر والتداوي به.
ومسألة الحركة لكم فيها تلبيس ماكر، وهي لوثة آرسطية آلت بكم إلى نفي الصفات الفعلية لله تعالى فصار إثبات أفعاله إثباتاً للحركات، فلا يتكلم الله بمشيئته وقدرته ولا يستوي إلى السماء ولا ينزل في الثلث الأخير من الليل، ولا يجيء إذا شاء، وقد كفرتم ابن تيمية إرضاء لشيخكم وسلفكم آرسطو الذي يعتقد أن الله لا ينزل ولا يستوي ولا يجيء كما قال "بل لا بد من محرِّكٍ أزلي يُحَرِكُ ولا يَتَحرَّكُ هو. ولا ينفعل بغيره وإلا لما كان أولا"(4).
__________
(1) حرف الحبشي النص من (طوائف أهل السنة) إلى (أئمة أهل السنة) الدليل القويم 40.
(2) درء تعارض العقل والنقل 2/7-8 مجموع الفتاوى 5/ 578 .
(3) شريط رقم 7 عداد 400 .
(4) الطبيعة لأرسطو ترجمة إسحاق بن حنين 2: 733 .(80/65)
وحرفتم معنى قوله تعالى {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} ليتلاءم ومذهب شيخكم فزعمتم أنه قال ذلك حين رأى الشمس تتحرك، لأنه كان يعلم أن كل متحرك مخلوق. ولكن ألم يكن يعلم أن الشمس جسم والأجسام مخلوقة فيستدل على خلقيتها بجسميتها؟
ثم لماذا تتجاهلون أن الأفول معناه الغياب وأن الآية لا علاقة لها بالحركة لأن الماشي والمتحرك لا يقال له آفل؟
ولقد نقد العز بن عبد السلام هذا الاستدلال وذكر أنه غاية في الإشكال(1).
موقف ابن تيمية من لفظ الحركة
وغيره من الألفاظ المبتدعة
وموقف ابن تيمية من هذا اللفظ كموقفه من غيره من الألفاظ التي لم يتكلم بها السلف نفياً ولا إثباتاً فقال "إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات … والألفاظ المبتدعة ليس لها ضوابط، بل كل قوم يريدون بها معنىً غير المعنى الذي أراده أولئك كلفظ الجسم والجهة والحيز بخلاف ألفاظ الرسول … والألفاظ المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة، واللفظ المحدث يجب استفصال صاحبه"(2).
قال "فمن قال ينزل فيتحرك وينتقل من مكان إلى آخر، أو يفرغ منه ليشغل آخر؟ فهذا كله باطل قطعاً يجب أن ينزه الله عنه"(3).
وذكر أن "تلك العبارات من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، وفي إثباتها إثبات حق وباطل، فيُمنع من كلا الإطلاقين بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل …" ولهذا كان السلف لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل. بخلاف كلام الله ورسوله فإنه يجب قبوله وإن لم يفهم معناه.."(4).
__________
(1) فوائد في مشكل القرآن ص 119 .
(2) مجموع الفتاوى 5/ 432 .
(3) مجموع الفتاوى 5/ 458 – 459 و578 .
(4) درء تعارض العقل والنقل 1/75 .(80/66)
- قال "فالمعتزلة عندما ينزهون الباري عن الأعراض والحدود والأحياز والجهات والجسمية لا يقصدون تنزيه الباري عما يجب تنزيهه عنه … وإنما يُدخلون في مضامينها نفي ما أثبته الله لنفسه وأاثبته رسوله من صفات الكمال.
فإذا قالوا "إن الله منزه عن الأعراض لم يكن في ظاهر العبارة ما يُنكر لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً.
وإذا قالوا: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات: أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أن لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات. وهذا المعنى صحيح. ومقصودهم: أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء.
وإذا قالوا: إنه ليس بجسم: أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات. ولا مثل أبدان الخلق: وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يُرى ولا يتكلم بنفسه . . .".
قال "إن خطأ المتكلمين في تحديد مفاهيم تلك اللفاظ لا يرجع إلى مجرد التعبير عنها بمعان مخالفة لمعاني الكتاب والسنة، بل يرجع كذلك إلى تفسيرها تفسيراً مخالفاً للغة العرب التي خاطبهم بها القرآن. ويؤدي نفيهم للمعاني اللغوية الصحيحة التي يقرها القرآن إلى تنزيه الله عن معان صحيحة في حقه وهو باطل: لقد عبّروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخرى ليست في القرآن وربما جاءت في القرآن بمعنى آخر"(1).
تحريف المعاني من عمل اليهود
واعترضوا على قول ابن تيمية "إن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما وإنما وقع التحريف في معانيهما(2).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1/310 – 311 .
(2) المقالات السنية ص 15 .(80/67)
وهذا أسلوب المدلسين الذين يُظهرون للعوام هذه المسائل وكأنها مخالفة لأصل الإسلام. وقد كتم هذا المدلس عليهم أن هذا قول ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن وقال به وهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة. وهو مختار البخاري" كما حكاه الحافظ ابن حجر(1).
ورد على بدر الدين الزركشي.
وفي صحيح البخاري "قال ابن عباس "{يُحَرِّفُونَ}: يزيلون، وليس أحد يُزيل لفظ كتاب من كتب الله، ولكنهم يحرّفونه: يتأولونه عن غير تأويله" قال الحافظ في فتح الباري بأن تحريف أهل الكتاب لمعاني النصوص لا يُنكر بل موجود عندهم بكثرة" أضاف "قال الراغب: التحريف: الإمالة، وتحريف الكلم أن يجعله على حرف من الاحتمال بحيث يمكن حمله على وجهين فأكثر"(2).
سلف الحبشي في تحريف معاني النصوص
ويجدر التنبيه إلى أن الحبشي حريص على أن يكتم على الناس تلك الحقيقة وهي أن أهل الكتاب كانوا يحرّفون معاني النصوص. وهو ثابت عنهم باعتراف الحافظ ابن حجر الذي أفاد بأن أهل الكتاب لمعاني النصوص لا يُنكر بل موجود عندهم بكثرة.
والمؤولة أمثال الحبشي يتهربون من تبيين هذه الحقيقة حتى لا يقول الناس إن الحبشي يضاهئ أهل الكتاب في تحريفاته معاني النصوص والتي يسميها زوراً بـ (التأويلات) جاعلاً الاستواء بمعنى الاستيلاء والغضب بمعنى العقوبة والرضى بمعنى الثواب الخ . . . متذرعاً بذريعة التنزيه. وبالطبع لا بد للشر من تزيين وزينة التحريف دعوة التنزيه.
قال تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وقال {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}.
ثم أثبت ابن حجر أن هذا ما رجحه الإمام البخاري صاحب الصحيح. فقال "قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية وهو مختار البخاري"(3).
__________
(1) فتح الباري 13/523 .
(2) فتح الباري 13/524 .
(3) فتح الباري 13/523 .(80/68)
وأخذ الحافظ يسرد الأقوال التي قيلت في تفسير في معنى التحريف: حتى وصل إلى القول الثالث: وهو أنه وقع اليسير منها، ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه (الرد الصحيح لمن بدل دين المسيح).
ولقد رد الحافظ ابن حجر على الزركشي دعواه إبطال هذا القول فقال "وفي وصفه القول المذكور بالبطلان نظر، فقد نسب لوهب بن منبه وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونُسِب لابن عباس ترجمان القرآن، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتَّشاغل بِرَدّ أدلة المخالف التي حكيتها" انتهى.
اتهامه بالقول بفناء النار
هل قال ابن تيمية بفناء النار.
وأشاع خصوم ابن تيمية أنه كان يقول بفناء النار وأنها تنطفئ بأهلها.
أما خصومه فمنهم الحبشي الذي قال "وكان ابن تيمية نقل في كتابه منهاج السنة النبوية أنه لا خلاف بين المسلمين في ذلك إلا أن جهماً خالف فكفّره المسلمون. ثم قال هو [أي ابن تيمية] بخلاف ذلك في النار"(1).
وأنا ما تركت كتاباً للحبشي إلا وقد قرأته ومع ذلك لم يأت بنص واحد من كتب ابن تيمية يؤيد ما يزعم، وأتحداه أن يأتي بدليل واحد وإلا كان حكمي فيه أنه كذاب ومفترٍ. وإنما وجدت في كتاب الحبشي (فتح الرحمن) أن الشيخ عبد القادر الجيلاني يمكنه أن ينفخ في نار جهنم فيطفئها. فهذا عندي قول بفناء النار. وهو قول أشر من القول المنسوب لابن تيمية.
بل قد تجد من الأشاعرة كأبي منصور البغدادي من يجوز فناء النار في العقل مع قوله بدوامها حسبما جاء في الخبر(2).
أن تصيبوا قوماً بجهالة
- وأما أصحاب ابن تيمية ومحبّوه فمنهم الشيخ شعيب الرناؤوط محقق الطحاوية الذي نسب القول بفناء النار إلى ابن تيمية وابن القيم(3). وليس في كتب ابن تيمية ما يفيد ذلك بل قد نصت كتبه على دوام النار إلى الأبد.
القاري ينفي التهمة عن ابن تيمية
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 191 .
(2) أصول الدين 230 .
(3) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص 422 ط: المؤيد .(80/69)
وقد نفى العلامة القاري هذه التهمة عن ابن تيمية فقال في رسالته القيمة التي رد بها على ابن عربي "وأما قول المؤول إن ابن تيمية الحنبلي ذهب إلى أن الكفار في عاقبة المر يخرجون من النار فافتراء عليه"(1).
أقوال ابن تيمية في أبدية الجنة والنار
قال "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يُعدم ولا يَفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة. وهذا قولٌ باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع سلف الأمة وأئمتها"(2). "ولهذا اشتد إنكار السلف عليهم لقولهم بفناء الجنة والنار"(3).
قال "والجهم يقول بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار … وخالفهم جماهير المسلمين(4). وطريقة الأعراض عند أهل الكلام ألجأتهم إلى أن يلتزموا لوازم فاسدة أدت بالجهم بن صفوان وغيره إلى القول بفناء الجنة والنار(5).
قال "وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وإنهما لا تزالان باقيتينن لا يزال أهل الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يُعذَّبون: ليس لذلك آخر"(6). "وقد أخبر الله ببقاء الجنة والنار بقاء مطلقاً"(7).
فها هو يؤكد اتفاق أئمة السلف على أبدية النار وإنكارهم قول الجهمية بفنائها فكيف يوافق هؤلاء ويخالف السلف؟
__________
(1) الرد على القائلين بوحدة الوجود 86 .
(2) مجموع الفتاوى 18: 307 .
(3) درء تعارض العقل والنقل 8: 345 .
(4) الفتاوى 8: 380 و12: 45 و14: 348 منهاج السنة 1/146 و310 و351 .
(5) مجموع الفتاوى 3: 304 . درء تعارض العقل والنقل 1: 39 و305 و 3: 158 تحقيق د: محمد رشاد سالم. ط: جامعة الإمام بالرياض .
(6) درء التعارض 2: 358 .
(7) بيان تلبيس الجهمية 157 .(80/70)
فهاهو يعزو القول بفناء النار إلى الجهم بن صفوان رأس الجهمية وأبي الهذيل العلاف رأس المعتزلة. فكيف يأخذ بقولهم مع أنه صرح – بما رأيت – أن جمهور المسلمين مخالفون لهم؟
والعجيب أن ابن عبد الهادي ذكر عند سرد مؤلفات ابن تيمية أن "له كتاب قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار"(1).
هل قال ابن القيم بفناء النار؟
وقد قسَّم ابن القيم منازل الناس يوم القيامة إلى ثلاث دور: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودارٌ لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عُذِّبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة: ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبيث المحض(2).
واحتج ابن القيم على الجهمية بعقيدة أبي زرعة وأبي حاتم الرازي وسرد عقيدتيهما ومما احتج بقولهما فيه أن الجنة والنار مخلوقان لا يفنيان(3).
قال ابن القيم "وأنا في هذه المسالة على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ووصف ذلك أحسن صفة، ثم قال: ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء(4).
فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبي رضاه العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره القائمين بمحابِّه: وهي الجنة … وخلق داراً أخرى لطالب أسباب غضبه وسخطه … فهاتان الداران هما دارا القرار"(5).
موقف أهل التحريف من ابن القيم
__________
(1) العقود الدرية في مناقب ابن تيمية 67 دار الكتب العلمية .
(2) الوابل الصيب شرح الكلم الطيب 49 تحقيق الأنصاري .
(3) اجتماع الجيوش الإسلامية 233 تحقيق عواد المعتق ط: الرياض .
(4) شفاء العليل 264 ط: دار المعرفة .
(5) طريق الهجرتين 140 ط: دار الوطن للنشر والإعلام .(80/71)
وقد أبى لصوص النصوص إلا الدسّ واتباع ما تشابه من كلام ابن القيم مع تجاهل لمحكم أقواله وصريحها التي نصت عليها كتبه، فانظروا أدلتهم لتعرفوا حقيقتهم:
قالوا(1) "وكذب على الله حين قال في (حادي الأرواح 257) أن النار قد أخبر سبحانه وتعالى في ثلاث آيات عنها بما يدل على عدم أبديتها" انتهى.
وتجاهلوا أن ابن القيم كان ينقل أقوال الفريقين المختلفين في هذه المسألة، ثم ختم مقالة الفريقين بقوله "فهذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة".
قال "فإن قيل فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن؟ قيل: إلى قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وإلى هنا انتهت أقدام الخلائق. وما ذكرناه من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه" انتهى.
فمن أين زعمتم أن ابن القيم تبنى القول الصريح بفناء النار أيها المحرفون؟
ثم لجأوا إلى تحريف آخر فقالوا "وقال [الحافظ ابن حجر] وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره" قالوا: ويريد الحافظ ببعض المتأخرين: ابن القيم الجوزية، ولا يخفى ذلك على من طالع حادي الأرواح"(2).
يا لجرأة المحرفين كيف علموا أن مراد الحافظ بذلك ابن القيم بينما لم يصرح ابن القيم نفسه بتبني هذا القول في كتابه المشار إليه؟ وعلى من لا يخفى؟
هكذا فعل الذين في قلوبهم مرض في القرآن فاتبعوا ما تشابه منه وأعرضوا عن محكمه، وهكذا يفعلون مع نصوص العلماء: يتبعون ما تشابه ويتجاهلون ما صرحوا باعتقاده بكلمات واضحة.
__________
(1) مجلتهم منار "الهدى" عدد 13 ص 53 .
(2) مجلتهم منار "الهدى" . 31 / 53 .(80/72)
ثم زعموا أن ابن أبي العز قال في (شرح الطحاوية 427) "السابع: أن الله يُخرج منها من يشاء كما ورد في الحديث ثم يبقيها شيئاً فشيئاً ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهى إليه" وهم يهجمون بمثل هذا الدس على العامة والجهال. وأما طلبة العلم فيعلمون أن قوله (السابع) أي القول السابع من الأقوال المختلفة. حيث كان يسرد أقوالهم في هذه المسألة.
فانظر إلى أهل التحريف كيف يحرفون كلام المخلوقين بعد تحريفهم كلام الله ورسوله.
من القائلون بفناء النار
ولو فرضنا أن ابن تيمية وتلميذه قد صرّحا بذلك فلا يجوز أن يُعتَبر ذلك كفراً فإن فيه روايات منقولة عن السلف أبي هريرة وأبي سعيد وعمر وابن مسعود منها ما أورده السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ}:
- أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه "لو لبِث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه"(1).
- وقال الشعبي "يأمر النار أن تأكلهم". وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال "ما في القرآن أرجى لأهل النار من هذه الآية". وقال "جهنم أسرع الدارَين عمراناً وأسرعهما خراباً"(2).
وقال في قوله تعالى { إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ثم يجدد خلقهم"(3).
- وأخرج اسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال "سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد".
وعن ابن مسعود قال "ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً".
__________
(1) قال الألباني في شرح الطحاوية 484 "ضعيف فإن الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب".
(2) تفسير الطبري المجلد السابع 12/ 71 والدر المنثور للسيوطي 3/350 .
(3) تفسير القرطبي 10/100 .(80/73)
فهذه النصوص المحكية عن السلف كانت مورد الشبهة، وقد يأخذ بها من لا يتحقق من درجة ثبوت هذه الروايات أو ضعفها. وهذا بخلاف من بنى قوله أصلاً على قواعد أهل الكلام أدت به إلى التزام لوازم فائدة كالجهم بن صفوان.
فكيف وأن الثابت عن ابن تيمية وتلميذه تصريحهما المطلق بأبدية الجنة والنار وأنهما لا تفنيان أبداً! وهو ما أذهب إليه.
ولقد أنكر الشعراني صحة نسبة القول بفناء النار إلى محي الدين بن عربي، مع أن ذلك موجود في كتبه، فقال الشعراني في الأجوبة المرضية "ثم إنه بتقدير صحة نسبة ذلك إلى الشيخ محي الدين فالشيخ لم ينفرد بذلك، فقد قال جمع من الظاهرية وفرقة من الحنابلة والقدرية بفناء النار"(1). ومع ذلك فإن المتعصبين لم يُشيروا إلى ذلك وإنما سكتوا عنه وكتموا الحق بشأنه لأنه من الأولياء:
نعم؛ هو من الأولياء ولكن أولياء من؟
قال تعالى {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}. وقال {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ}.
قيام الحوادث بالرب هو قول الأشعري
أما عن استنكار الحبشي قول ابن تيمية "فإن قلتم لنا: فقد قلتم قيام الحوادث بالرب. قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل"(2):
فالحبشي يكتم الناس أن هذه من مسائل الأشعري نفسه خالفه فيها الماتريدية وأن الأشاعرة يوافقون ابن تيمية في ذلك.
الرازي يصرح بقيام الحوادث بالرب
ويكتم الحبشي أيضاً عن عامة أتباعه أن هذا ليس مذهب ابن تيمية وحده وإنما هو ما انتهى إليه نُظّار الأشاعرة حيث انتقدوا القول بأزلية الصفات مطلقاً بعد أن واجهتهم مشكلات بسبب هذه النظرية، فتفرقوا واضطربوا:
حتى صرح إمامهم في المذهب الأشعري وهو الرازي بأن أكثر العقلاء يقولون بقيام الحوادث بالرب وإن أنكروه باللسان:
أضاف الرازي:
__________
(1) نقلاً عن جلاء العينين للألوسي 425 .
(2) المقالات السنية 19 .(80/74)
فأبو علي وأبو هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا بإرادة حادثة لا في محل.
وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته تعالى علوماً متجددة بحسب تجدد المعلومات.
والفلاسفة يقولون بأن الإضافات وهي القبلية والبعدية موجودة في الأعيان. فيكون الله مع كل حادث. قال الرازي: وذلك الوصف الإضافي حدثٌ في ذاته.
والأشعرية يثبتون نسخ الحكم، ويثبتون للعلم والقدرة تعلقات حادثة(1) وانتهى إلى أن القول بقيام الصفات الفعلية (ذكر منها صفة الكلام) بمشيئة الله واختياره هو أصح الأقوال عقلاً ونقلاً" قال الحافظ ابن حجر "وهو المحفوظ عن السلف"(2).
وقال في المطالب العالية "هل يعقل أن يكون الله محلاً للحوادث؟ قالوا(3) هذا قول لم يقل به إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الأشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم". ثم أوضح بطلان عقيدة الأشاعرة في الكلام النفسي هو قول بعيد عن الصواب(4).
فإذا كان قيام الحوادث بصفات الرب الفعلية: لزم الحبشي تكفير ابن حجر والرازي والأشاعرة عموماً، فإنهم أكدوا قيام الحوادث في أفعاله سبحانه. وأنه قول لا مهرب منه.
أليس غريباً حينئذ أن يتهم ابن تيمية بأنه يقول بقيام الحوادث بالرب بينما يكتم عن عامة أتباعه أن هذا ما اتُّهم به الأشعري نفسه في موقفه من صفة التكوين وسائر صفات الأفعال. ولقد زعم أن الأشعرية والماتريدية تمثلان عقيدة أهل السنة والجماعة. وأنه لا حرج على من يختار أي من الطريقتين شاء. فإذا كان يلزم من القول بحدوث صفات الرب حدوث الرب نفسه فأخرِجوا الأشاعرة من بوتقة أهل السنة والجماعة. وهذا لا ريب فيه.
__________
(1) الأربعين في أصول الدين للرازي 118 .
(2) فتح الباري 13/441 .
(3) يعني أصحابه من الأشاعرة .
(4) الدليل القويم 76 .(80/75)
ولقد اعترف الحبشي بأن معظم الأشاعرة خالفوا الماتريدية قائلين: إن الصفات الفعلية ليست أزلية لأنها لا تتعلق بذات الله تعالى(1) وإنما تقوم بإرادة الله ومشيئته(2). ويلزمهم من ذلك أن يعترفوا بأن الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية خلاف في أصل العقيدة. وأن منه ما جعلهم يكفّر ويبدّع بعضهم بعضاً.
ولقد اعترف الحبشي بصحة ما ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح 13/439) بمعارضة الأشعري القول بأزلية كل الصفات لله تعالى مما جعل الماتريدية يُلزمونه بأنه يقول بحلول الحوادث بالله(3). وبقي هذا الخلاف قائماً بين الفريقين إلى اليوم:
فالأشاعرة يقولون بأن الصفات الفعلية لله ليست أزلية بخلاف الصفات الذاتية فإنها أزلية. وهذا باعتراف الحبشي نفسه(4).
التعلقات والإضافات هروب شبيه بالكسب
وقد فسروا أفعال الله بالتعلقات والإضافات وهي في الحقيقة ليست إلا الأفعال ولكنها مخالفة لها في اللفظ موافقة لها في المعنى كقولهم في الكسب الذي خالفوا في الجهم لفظاً ووافقوه معنى. ولهذا ألزم الرازي الأشاعرة بأن التعلقات والإضافات التي يقول بها المتكلمون هي الحدث بنفسه في الله(5).
أما عن التعلقات فيسألهم ابن تيمية أولاً عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على وجود إضافات وتعلقات لله وهو أمر غيبي لا قِبَلَ لهم بالعلم به إلا من عند الله؟ فهذا افتراء شبيه بافترائهم أن جبريل فهم ما في نفس الله من المعاني وصاغه بألفاظ من عنده.
ثم يناقشهم ابن تيمية فيقول "إما أن يكون التعلق أمراً وجودياً أو عدمياً؟
فإن كان عدمياً فلم يتجدد شيء والعدم لا شيء. فهذا قول غير معقول.
وإن كان وجودياً بطل قولهم من أصله فيلزمهم إثبات إرادة فعلية مستقبلة(6)..
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 31 .
(2) فتح الباري 13/ 441 و455 و 491 .
(3) الدليل القويم 76 .
(4) الدليل القويم 75 .
(5) الأربعين في أصول الدين 118 .
(6) درء تعارض العقل والنقل 8/283 .(80/76)
نفي قيام الحوادث بالرب
ذريعة اعتزالية قديمة موروثة
ولقد استخدم المعتزلة هذه الذريعة فقالوا: لا تحِلّ الحوادث بالله: لا الأعراض ولا الجواهر. وأرادوا بذلك نفي أن تقوم به صفة العلم والقدرة أو أن يقوم به الفعل كالخلق والاستواء والإحياء والإماتة. غير أن السلف ردوا عليهم.
- قال البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقوله {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} بأن حدَثه سبحانه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فإنكار قيام الحدث في أفعال الرب يؤدي إلى القول بأزلية المخلوقات، وإثبات ذلك على وجه لا يشبه حدث المخلوقين هو الموافق للشرع والعقل كما قال البخاري".
وأين هذه الأزلية من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحته "لما فرغ الله من الخلق كتب على عرشه رحمتي سبقت غضبي"؟!
تفصيل معنى الحوادث
ولا بد لنا أن نتفهم مراد ابن تيمية من عبارة (قيام الحوادث بالرب):
قال "فمن قال: الرب تعالى ليس محلاً للحوادث، نقول له: إن هذا لفظٌ مجمل لا يُقبل على إطلاقه، بل يُفسَّر ويُفصّل كالآتي:
فإن أريد بهذا النفي المجمل أن الله تعالى ليس محلاً للحوادث، أي ليس داخل ذاته المقدسة شيء من المخلوقات المحدثة فهذا نفيٌ صحيح.
وإن أريد بذلك النفي: نفي ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الصفات الاختيارية من أن لا يتكلم بما شاء إذا شاء ولا أنه يغضب ويرضى ولا أن يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته: فهذا نفيٌ باطل ومردود على قائله"(1).
وأهل الكلام المذموم يطلقون [لفظ] نفي الحوادث، فيسلّم السُّنّي له ذلك على ظن أنه ينفي عن الله ما لا يليق بجلاله.
فإذا سلّم له ذلك ألزمه [المتكلم] بنفي الصفات الإختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له.
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/ 273 .(80/77)
وإنما أُتِيَ السّنّيُّ من تسليمه لهذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه" أي لم يتمكن المتكلم من إلزامه بهذا النفي.
مسألة قدم العالم
وزعم الحبشي أن ابن تيمية كفر لقوله بقدم العالم بنوعه، ونقل عن التقي السبكي قوله في الدرة المضية أن ابن تيمية "جعل الحادث قديماً والقديم حادثاً" يعني قوله بقدم المخلوقات وقوله بحدوث الإرادة بالله. قال: ولم يجمع أحد سواه بين هاتين الضلالتين(1).
- قلت لو كان هذا صحيحاً فكيف يثني السبكي عليه الثناء البالغ ويصرح أن الله جمع له بين الورع والزهادة وبلوغه والاجتهاد والديانة ونصرة الحق، واتباعه مذهب السلف(2) رواه الحافظ ابن حجر.
وإذا كان السبكي يصف ابن تيمية بهذه الأوصاف العظيمة: كيف يجرؤ لرجل ككمال الحوت أن ينفي دعاء السبكي له بالرحمة(3) فإنه بالرغم من تعصب السبكي الإبن ضد ابن تيمية إلا أنه كان يدعو له بالرحمة والفوز بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ووسيلته(4).
القائلون بأزلية فعل الخالق يلزم أزلية المخلوق
بل إن من يدعون أن صفات الله كلها أزلية ولا يعترفون بأن أفعال الله كالتخليف والتصوير أفعال حادثة: يلزمهم القول بأزلية المخلوق، لأنه إذا كان فعل الله بلا أول لزم أن يكون المفعول المخلوق بلا أول.
الفخر الرازي يمنع من تكفير القائلين بقدم العالم
وتعجب إذا علمت أن الفخر الرازي – مقعد المذهب الأشعري – قرر في "شرح إشارات ابن سينا" (1/42-43) أنه لا كُفرَ لمن يقول بقدم العالم على طريقة الفلاسفة مع إثبات الخالق وأن العالم مخلوق لازم لذات الله، بل لم يجعلها من مسائل التوحيد ما دام الكل متفقاً على أن الله هو خالق كل شيء.
__________
(1) الدليل القويم 160 .
(2) الدرر الكامنة 1/159 الذيل على طبقات الحنابلة 2/293 .
(3) التوفيق الرباني 68 و76 والرسائل السبكية 60 .
(4) طبقات السبكي 10: 149 تحقيق الحلو والطناحي ط: الحلبي مصر .(80/78)
قال "فأما القائلون بأن واجب الوجوب واحد، فقد اختلفوا على قولين:
فمنهم من قال: إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً، ثم صار فيما لا يزال فاعلاً وهم الملِّيوّن بأسرهم. ومنهم من قال: إنه كان في الأزل فاعلاً، وهم الفلاسفة". ثم قال بعد سطور: إنه كان في الأزل فاعلاً وهو الفلاسفة.
قال "فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بالتوحيد".
اختبار الصدق
وكنا نود أن يكون الحبشي شديداً على القائلين الحقيقيين بقدم العالم، غير أننا رأيناه على عكس ذلك فإنه يتستر عليهم ويتأول ألفاظهم.
فمع أنه يذكر أن الأمة اتفقت على كفر القائلين بقدم العالم، إلا أنه لا يريد أن يعترف بأن أبرز القائلين بقدم العالم هم الصوفية، يتزعمهم في ذلك ابن عربي كما صرّح به:
العز بن عبد السلام (الذي كان معاصراً لابن عربي).
وأبو حيّان النّحوي.
والحافظ ابن حجر.
حيث صرحوا أن ابن عربي يقول بقدم العالم ولا يحرِّم فرجاً(1).
لكن الحبشي ينسب القول بقدم العالم (زوراً) إلى ابن تيمية ويتكتم على شهادة العز بن عبد السلام وأبي حيان في ابن عربي أنه كان مؤمناً بقدم العالم: فهل هذا إلا الظلم والتعصب الأعمى؟!
هذه كتب ابن تيمية: أين قال فيها بقِدَم العالم؟ قارنوها بكتب ابن عربي التي قال فيها الذهبي "إن لم تكن كفراً فلا يوجد في الدنيا كُفر"(2).
ما حكم القائلين بأزلية النور المحمدي؟
إن الحبشي يخفي حقيقة لا يعرفها من يتعصبون له، وهو أنه في الوقت الذي يتهجم فيه على ابن تيمية ويتهمه كذباً بأنه يقول بأزلية شيء مع الله، يخفي عليهم أن القول بوجود مخلوق أزلي مع الله هو قول المنحرفين الصوفية الذين يفخر بأنه على طريقتهم كالرفاعية والنقشبندية.
__________
(1) لسان الميزان 2/384 سير أعلام النبلاء 23/48 تفسير البحر المحيط 3/449 تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي 157 للبقاعي طبقات ابن الملقن (153) صفحة 469 .
(2) سير أعلام النبلاء 23/48 .(80/79)
الصيادي والرواس يصرحان بأزلية نور النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد ذكر الصيادي في قلادته الصلاة الرفاعية ونصها:
"اللهم صلّ على نورك الأسبق الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك: نقطة مركز الباء الدائرة الأولية الذي فتقت به رتق الوجود وخصصته بالمقام المحمود وأقسمت بحياته: فهو سرك القديم الساري وماء جوهر الجوهرية الجاري الذي أحييتَ به الموجودات من معدنٍ وحيوان ونبات(1).
ووصفه الصيادي بأنه - صلى الله عليه وسلم - نور من نور الله وسر من أسراره(2). وهذا السر قديم مع قدم الله.
وهذا ما صرح به المهدي الرواس في كتابه (بوارق الحقائق)(3) حيث جعل نور النبي - صلى الله عليه وسلم - أزلياً وأن عمامته فوق عرش الله، قال:
وهو نور أزليٌ طرزُه صار في وجه وجود الكون شامة
طُوِيَ العالم في جبّته وعلى العرش علت منه العمامة
وتسألهم: كيف اعتقدتم بوجود أزلي مع الله؟ أليس هذا كفراً؟ لماذا لا تحكمون بكفر زعيمين من كبار الطريقة الرفاعية: الصيادي والرواس؟
وهنا ستخرس ألسنتهم ولن يرضوا بتكفير الصيادي ولا الرواس، لأنهما رأس الطريقة الرفاعية، وسيحاولون التملص من الإحراج، وسيشعرون بالذلة بعد تعاظمهم، يتبجحون بتكفير ابن تيمية لقوله بزعمهم بأزلية المخلوقات، ألا فليجيبوا عن انحرافات الصيادي والرواس إن كانوا صادقين. فإن أبوا فاعلم أنهم متعصبون: يصدق فيهم قول أبي حنيفة "إني وجدت أهل الكلام قاسية قلوبهم، غليظة أفئدتهم، يبالون مخالفة الكتاب والسنة، وليس عندهم ورع ولا تقوى"(4)
__________
(1) قلادة الجواهر 249 وهذا الكتاب يعتمده الحبشي ويعظمه .
(2) قلادة الجواهر 263 .
(3) بوارق الحقائق ص333 وص15 من المجموعة النادرة .
(4) سير أعلام النبلاء 6/399 مفتاح دار السعادة 2: 136 .(80/80)
والصيادي يزعم أنه لولا محمد لما خلق الله السماوات والأرض. قال "فالكل لأجله كان وبه نظم، بمعنى لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك"(1) وقد كذّبه الله حين قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
والصوفية يزعمون أنهم يصيرون إلى حالة تجعلهم مع الله شيئاً واحداً، وكلامهم في "الفناء بالله" مشهور منثور في كتبهم. فكيف يصير القديم والحادث شيئاً واحداً؟!
عقيدة مصطفى نجا من وحدة الوجود
كما يعبر عنه عبد السلام بن بشيش "اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة"(2)، هذه العبارة المشؤومة قد استحسنها من تجعلونه قدوة لكم في الاعتقاد وهو الشيخ مصطفى نجا(3). قاله في كشف الأسرار الذي أثنى عليه الأحباش وزعموا أنه دليل على صحة عقيدته(4).
فيا من تزعم أن من مزايا الطريقة الرفاعية محاربة القائلين بوحدة الوجود لماذا تثني أنت وأتباعك على مصطفى نجا الذي استحسن هذا الكلام الكفري من ابن بشيش، فالتوحيد عنده أوحال، والوحدة عنده هو عين التوحيد!!
وإليك المزيد من عقيدة مصطفى نجا الشاذلي اليشرطي(5):
__________
(1) قلادة الجواهر 252 .
(2) النفحة العلية في أوراد الشاذلية 16 .
(3) كشف الأسرار لتنوير الأفكار ص9 طبع على نفقة أحمد اليشرطي شيخ الطريقة اليشرطية الشاذلية.
(4) مجلة منار الهدى 43/47 .
(5) اليشرطية طائفة صوفية فاسدة حكي عنها أمور مذمومة واعتقادات مشؤومة حتى نفتهم الحكومة العثمانية، حكى في (حلية البشر أنهم كانوا يفخرون بمخالفة الشريعة وأن فعل المنكرات يوصل إلى رب الأرباب، ويُذكر أنهم كانوا يرتكبون الفواحش، وكان كثيرون يشكونهم إلى مؤسس الطريقة علي بن أحمد اليشرطي فكان يقتصر على قوله: "عظوهم وعرّفوهم أن هذا محرم. وإذا وعظهم إنسان سخروا منه وعدّوه من أهل الجهالة" (انظر الأعلام للزركلي 4/261).(80/81)
وكان يؤمن بقدم نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن من نوره - صلى الله عليه وسلم - خلق الله الأشياء، وأن نور النبي - صلى الله عليه وسلم - أول صادرٍ عن الله(1).
وأنه لولا محمد ما خلق الله سماءً ولا أرضاً، ولم يخرج شيء من العدم إلى الوجود لولا سريان سره في الأشياء وإمداده لها: لم يصح بقاء موجود(2).
وزعم أن الله يتجلى لمن شاء من خلقه كما وقع لموسى حين تجلى الله له على النار المخلوقة(3).
طريقة أهل البدع في الحكم على الآخرين
وزعم أن ابن تيمية قال "لا مانع أن يكون نوع العالم غير مخلوق لله"(4) من غير أن يحيل إلى شيء من كتبه.
ولا وجود لمثل هذا في كلام ابن تيمية وإنما هذا ما يراه الحبشي مما يزعم أنه من كلامه، ولو سألته عن المصدر الذي أخذ منه هذه العبارة لقال لك أنا لم أنقل هذا نصاً وإنما هو لازم كلام ابن تيمية في قوله بالقدم النوعي.
ولقد نبه ابن تيمية من قبل على أن هذه طريقة من طرق أهل الكلام في الافتراء على خصومهم حيث يُلزمونهم بما لم يقولوه، ثم يحكونه للناس فيظنون أنه نص كلامهم، وإذا طولبوا بالدليل على ما زعموه من مصدر خصومهم قالوا لك: هذا لازم قول خصمنا. وهو تحريف واضح وليس بجديد، فقد حرفوا كلام الله: جعلوا الاستواء استيلاء، فما الذي يمنعهم من تحريف كلام غير الله؟! ولا يعتقدون أن لازم المذهب ليس بمذهب.
تبرئة ابن تيمية من القول بقدم العالم
__________
(1) كشف الأسرار ص128 .
(2) كشف الأسرار 74 – 75 وانظر 86 .
(3) الكشف الإلهي 80 .
(4) الدليل القويم 160 .(80/82)
قال الحبشي "فإن قلت أين قال ابن تيمية بأن دوام النوع أزليته. قلنا مراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى(1) فلم ينقل الحبشي شيئاً من كتب ابن تيمية وإنما قال "لا يخفى أن يكون هذا مراده" أي مقصوده. ولو كان لابن تيمية نص صريح لتمسك به الحبشي وأظهره على الملأ. لكنه لا يملك نصاً فلم يسمعه إلا أن يقول: ومراده بدوام النوع الأزلية كما لا يخفى". وهذا تلبيس ماكر لا يتفطن له العامة من الناس.
وهو لا يخبرهم أن ابن تيمية يرى أن الصفات الفعلية لله تعالى وإن كانت أزلية النوع إلا أنها حادثة الأفراد كالخلق والكلام.
لكن الظالمين قلبوها إلى "قدم العالم النوعي" وجعلوا ذلك موافقاً لقول ابن سينا والفارابي وابن رشد الحفيد(2)، بطريقة اعتباطية جائرة. وهذا كقولهم عن الحنابلة أنهم يعتقدون بأزلية وقدم ورق المصحف والحبر وجلد الغلاف. وقد جهلوا أن الله مطلع على هذا التلبيس الذي لا يزيد طالب الحق إلا نفوراً من مذهب الظلم.
وقد أفتى ابن تيمية بكفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وصرّح مراراً بأن الله لم يزل خالفاً فعّالاً وأن دوام خالقيته من لوازم وجوده، فهذا ليس قولاً بقِدَم شيءٍ من العالم(3).
وأكد أن القول بقدم العالم قول الدهريين وهو كفرٌ ظاهرٌ معلومٌ فساده بالعقل والشرع، إذ لو كان العالم قديماً لوجب أن يكون مع الله قديم آخر(4) بل هذا من أبطلِ الباطل وأن من قال بذلك فليس معه إلا الجهل" (منهاج السنة 1/101-104). فإن "كل ما سوى الله مخلوق حادث كائنٌ بعد أن لم يكن، وأن الله هو وحده القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدّمه" (درء التعارض 1/125).
__________
(1) الدليل القويم 41 .
(2) قاله في كتابه إظهار العقيدة السنية 41 .
(3) مجموع الفتاوى 16/95 .
(4) شرح حديث النزول 160 و170 ط المكتب الإسلامي .(80/83)
قال "ويمتنع أن يكون مفعوله (أي ما خلقه الله) مقارناً له أزلياً معه، لأن كونه مقارناً في الأزل يمنع كونه مفعولاً له، فإن كون الشيء مفعولاً مقارناً ممتنع عقلاً" (منهاج السنة 1/117). مما يؤكد أن كلام ابن تيمية عن دوام النوع لا يعني به شيئاً من دوام أحد غير الله.
وقال "وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ليس في المفعولات قديم ألبتّة، بل لا قديم إلا هو سبحانه، وهو الخالق لكل ما سواه، وكل ما سواه مخلوق" (المنهاج 8/272).
فها هو يصرح بوضوح أن القول بوجود قديم آخر مع الله تعالى من أبطل الباطل، فأوضحوا كلامكم وأجيبوا ببساطة ووضوح: هل يقول ابن تيمية بقِدَم شيء مع الله أم لا؟ إن سؤالاً مثل هذا على بساطته سوف يُحرجهم لأنهم لن يجدوا من كلام ابن تيمية ما يؤيد فريتهم.
تسلسل الحوادث لا إلى أول
يمنعون على الله التخليق
وأما مذهبكم الذي أخذتموه من الحبشي فإن العامة لم يقفوا بعد على حقيقته وهو أنكم تجعلون ممتنعاً على الله أن يخلق شيئاً قبل خلق الماء أو العرش. وهو الذي جعل ابن تيمية يخالفكم في ذلك أشد المخالفة، لأن مذهبكم ينتهي إلى نسبة العجز لله عز وجل، لا سيما وأنه محالٌ على الله برأيكم أن يخلق شيئاً قبل خلق السماوات والأرض، لأن الامتناع عندكم داخل في باب المحالات.
وهذا ما حدا بابن تيمية إلى مخالفتكم قائلاً بأنه:(80/84)
"إذا لم يزل الله حياً قادراً مريداً متكلماً – وذلك م لوازم ذاته – فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، وإنه: أنْ يوصف الله بالفعل أكملُ من أن لا يفعل شيئاً وأنه لا يلزم من هذا القول أن يكون شيء من مخلوقاته ملازم معه أزلاً لأنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له. فالكل مخلوق أول، والله لا أول له. وليس من العقل أن يكون الله خالقاً من غير خلق". وقال "إذا عُرض على العقل ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها، وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها: قضى العقل الصريح أن هذه الذات أكمل"(1).
وإثباتكم أن الله خالق لكنه لم يكن خالقاً قول مرجوح، ونسألكم: هل يمكن أن يخلق مذ كان خالقاً؟ فإن قلتم نعم فقد قلتم بإمكان حوادث لا أول لها، ولا فرق عند العقلاء بين إمكانها وبين حدوثها فعلاً. وإن قلتم: لا، وقعتم في سفسطات لا نهاية لها.
فأنتم لم تعرفوا إلا مذهبين: مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم ومذهبكم في الاستدلال على الخالق بحدوث العالم آل بكم إلى نفي صفات الله الفعلية. لأن الفعل عندكم حدوث، وظننتم أنه إذا بطل مذهب الفلاسفة صح مذهب الأشاعرة.
بينما هناك قول ثالث: وهو التفريق بين الخلق والمخلوق، فالخالق هو الله تعالى والخلق هو الصفة التي قامت به والمخلوق هو الموجد المنفصل عنه.
فيقال في صفة الخلق لله ما يقال في صفة الكلام. وهذا معنى دوام النوع عند ابن تيمية الذي احتج بقوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} على دوام خالقيته مع تصريحه الدائم بأنه ليس مع الله شيء قديم(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/242 درء التعارض 4/7 – 10 .
(2) مجموع الفتاوى 18/228 .(80/85)
ولكن ليس عندكم أي رغبة في الاعتراف بوجود الفرق بين نوع الصفة وبين عين الصفة، وذلك هرباً من القول بحلول الحوادث بذاته تعالى، وقد فعلتم الشيء نفسه في صفات الله الأخرى فألحدتم في الصفات الفعلية منها وعطلتموها وجعلتم الصفات كلها أزلية، وهو السبب الذي جعلكم تنكرون أن يدخل كلام الله تحت مشيئته وقدرته. وأن يدخل فعله تحت مشيئته وقدرته.
بينما يفرّق ابن تيمية بين النوع والعين ويقسّم الصفات إلى ذاتية أزلية وفعلية غير أزلية على النسق الذي فعله الأشعري والبيهقي والكرماني والحافظ ابن حجر من قبل.
وهذا ما حملكم على ظلم الرجل واتهامه بموافقة الفلاسفة مع أنه يكفّرهم لقولهم بقدم العالم. وشهدتم عليه شهادة زور تُسألون عنها أمام الله يوم يقوم الأشهاد!.
وفي صفة الإرادة يفرق ابن تيمية بين الإرادة للشيء وبين إرادة فعله كقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فكلمة (إذا) ظرفية تمحض الفعل الماضي للاستقبال. ففي الآية إثبات إرادة مستقبلة تتعلق بالمراد(1).
وهو لا شك أنه أراد هذا الشيء قبل كونه أزلاً، وهي الإرادة القديمة. وأما إرادة الشيء عند خلقه فهي إرادة متعاقبة لا تتعارض مع إرادة الله الأزلية.
ويقول "أنتم تسلمون قدم الإرادة والقدرة وحدوث المخلوقات بعد أن لم تكن، فما أوجب حدوث المخلوقات في وقت دون آخر؟
فإما أن يوجد سبب لحدوثها أو لا يوجد. ولا يمكن أن يقال: لا يوجد سبب.
وهذا السبب هو الفعل الحادث الذي يفر الأشاعرة المتأخرون منه هروباً من القول بقيام الحوادث بالله. وهو لازم لهم كما ألزمهم به الرازي.
__________
(1) رسالة الصفات الاختيارية لابن تيمية 2/13 ضمن جامع الرسائل .(80/86)
وفي صفة العلم يفرق التفريق نفسه فيرى أن الله يعلم بالشيء قبل وقوعه فلما خلقه تجدد له علم مع علمه المتقدم أنه سيكون. كقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقوله{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ولا يرد على ذلك قولهم أنه يلزم من ذلك التغير في ذات الله. فإن التغير من حجج الفلاسفة وشبهاتهم التي جعلتهم ينفون علم الله. وكتاب الله جاء بخلاف ما تخرصت به الفلاسفة وأتباعهم الذين جعلوا العلم والإرادة شيئاً واحداً حتى لا يقولوا بتجدد العلم والإرادة.
وصفة السمع والبصر لا تتعلقان بالمعدوم فإذا خلق الله الأشياء رآها، وإذا دعاه عبادُه سمع دعاءهم. فلله سمع وبصر ذاتيان وفعليان ففي الرؤية يقول تعالى {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} ولم يقل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} {قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ} إلا بعد أن قالوا ما قالوا.
وهذا ما انتهى إليه الرازي في شرح الإشارات حيث ذهب إلى أن قول أبي الحسين البصري بتغير العلم عند تغير المعلوم هو المذهب الصحيح(1).
إما حدوث الفعل وإما أزلية المفعول
__________
(1) شرح الإشارات 1/76 عن الزركان ص 309 .(80/87)
وأما قولكم بأزلية صفات الله الفعلية فإنه يؤدي إلى القول بأزلية المفعولات، لأننا إذا قلنا بأن الفعل كان أزلياً صار المفعول أزلياً مثله. وإن كان الفعل محدداً بوقت صار المفعول محدداً غير أزلي. فإن من قال إن الله خلق السماوات والأرض والبشر منذ الأزل فقد جعل وجود المخلوقات أزلياً. ولهذا كان قولكم هو المشعر بالتصريح بقدم العالم، وهو الذي دعا الرازي إلى مخالفتكم وإلى التصريح بأن جميع من تهربوا من القول بالحدوث في أفعال الله تعالى اضطروا إلى العودة إليه بصيغة أخرى.
ولهذا لم يكن يوافقكم ابن تيمية على زعمكم في:
1 ) التحديد الزمني لابتداء فعل الله التخليف. لأنه ما من وقت إلا كان الله فيه خالقاً. ولم يكن معطلاً عن الخلق.
2 ) ولم يوافقكم على زعمكم أن الله كان موصوفاً بأنه خالق لكن التخليق كان ممتنعاً عليه.
3 ) ومع ذلك لم يكن يرى ابن تيمية وجود شيء قديم مع الله عز وجل كما تزعمون عليه بلا تقوى ولا إنصاف، فإنه قال "وكل مخلوق فهو مُحدَث مسبوقٌ بالعدم وما ثم قديم أزلي إلا الله وحده، وإذا قيل لم يزل خالقاً فإنما يقتضي قِدَم نوع الخلق [أي التخليق ولهذا قال] ودوام خالقيته لا يقتضي قِدَم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل أن منها شيئاً أزلياً"(1). فأين قال ابن تيمية بقدم شيء من المخلوقات؟!
والذين يجعلون لفعل التخليق لله تعالى تحديداً ويمنعون عليه أن يكون خالقاً شيئاً قبل خلق السماوات والأرض فليس عندهم إلا رواية "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض" ويفهمون من ذلك أنه قبل السماوات والأرض لم يكن ثمة خلق. مع أن الرواية هذه تفيد بأن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض. مما يدل على أن هذه الرواية لا يلزم منها القول بأن الله لم يكن خالقاً شيئاً قبل خلق السماوات والأرض.
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/95 .(80/88)
- فقد جاء أهل اليمن يسألونه عن هذا العالم المشهود وليس عن جنس المخلوقات. فأخبرهم عن خلق السماوات والأرض حال كون عرشه على الماء ولم يخبرهم عن ابتداء خلق العرش الذي تؤكد الرواية أنه كان مخلوقاً خلق قبل السماوات والأرض.
- وأيضاً فقد قال "كان الله ولم يكن شيء قبله" وفي رواية "معه" وفي رواية "غيره" – والمجلس كان واحداً – فعُلِم أنه قال أحد هذه الألفاظ الثلاثة والآخران رُويا بالمعنى. ولهذا كان كثير من أهل الحديث يروونه بلفظ "القبل" كالحميدي والبغوي وابن الأثير.
ولفظ "القبل" ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث:
فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الله "قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة: وكان عرشه على الماء" (مسلم 6243) وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء" (مسلم 2713).
القائلون من أئمة الكلام بتسلسل الآثار(1).
قال الأسنوي في شرح منهاج الوصول (2/103) "وأجاب في التحصيل (للآرموي) بجوابين … الثاني "أن المحال من التسلسل إنما هو التسلسل في المؤثرات والعِلل، وأما التسلسل في الآثار فلا نسلّم أنه ممتنع.
قال الأصفهاني في (شرح المحصول) وفيه نظر لأنه يلزم منه تجويز حوادث لا أول لها، وهو باطل على رأينا" انتهى كلام الأسنوي ونقلُه.
__________
(1) هذا الفصل مستفاد من الكتاب القيم (دفع الشبه الغوية عن شيخ الإسلام ابن تيمية) ص38 لمؤلفه مراد شكري شكر الله سعيه.(80/89)
قال العلامة محمد بخيت المطيعي في الصفحة نفسها على (شرح الأسنوي) معلقاً على كلام الأرموي قال "كلام جيد، وأما قول الأصفهاني: (وفيه نظر…) فلا يلزم من كونه باطلاً على رأيه أنه باطل في الواقع ونفس الأمر، فإنه لغاية الآن لم يقم دليل على امتناع التسلسل في الآثار الموجودة في الخارج، وإن اشتهر أن التسلسل فيها محال، ولزوم حوادث لا أول لها يضر بالعقيدة إلا إذا قلنا: لا أول لها: بمعنى لا أول لوجودها: وهذا مما لم يقم به أحد، بل الكل متفق على أن ما سوى الله تعالى – لما كان أو يكون – حادث: أي موجود بعد العدم بقطع النظر عن أن تقف آحاده عند حدٍ من جانبي الماضي والمستقبل أو لا تقف عند حد من جانبيهما".
فالأرموي مجوّز، والأصفهاني مبطل بقوله (وفيه نظر) والإسنوي ناقل، وبخيت المطيعي شيخ الأزهر ناصر لقول الأرموي، وكذلك أثير الدين الأبهري(1) في كتابه المعروف بـ "تحرير الدلائل في تقرير المسائل" قائل بها، والشيخ محمد عبده والجلال الدوّاني قائل بذلك كما ستراه: ومع هذا فلا تفسيق ولا تضليل ولا تفكير على النحو الذي نراه من الحبشي وأضرابه.
وقد رجّح الدوّاني القول بحوادث لا أول لها في حدوث العالم فقال "أنت خبير مما سبق أنه يمكن صدور العالم مع حدوثه، وعلى هذا الوجه، فلا يلزم القِدَم الشخصي في شيء من أجزاء العالم، بل القدم الجنسي بأن يكون فرد من الأفراد لا يزال على سبيل التعاقب موجوداً"؟
__________
(1) أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري السمرقندي صاحب كتاب (هداية الحكمة) شيخ الأصفهاني شارح المحصول توفي 363هـ.(80/90)
وقال الشيخ محمد عبده في حاشيته على "شرح الدوّأني للعقائد العضديّة" (ص179) ما نصه "وقد استشهد الحكماء على قِدَم الممكنات بدليل نقلي، وهو ما ذمّ الله به اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وبيانه: أنه لو قيل بحدوث العالم فقد قيل بأن الحق في أزليته لم يزل معطلاً عن الفيض والجود أزمنة غير متناهية لا ابتداء لها ثم أخذ يعطي الوجود، ومعلوم أنه على فرض أنه لم يزل خلاقاً إلى الأبد فكل ما خلقه فهو متناه، ونسبة المتناهي إلى غير المتناهي كلا نسبة، وذلك جلي التصور، فنسبة إعطاء الحق للوجود إلى منعه عن كل موجود ليست بشيء، وإن هذا إلا غِلّ اليد، حيث أن الإعطاء ليس بشيء يُذكَر في جانب المنع، وهذا من الشناعة بمكان … والجواب أن ذلك – التخلص من الشناعة – لا يتوقف على القول بقدم شيء من أجزاء العالم، بل يكفي أن يقال: إن الله لم يزل خلاقاً، وإن كان كل جزء من أجزاء العالم حادثاً، فلا أول لعطائه، ولا مانع يقهره سبحانه، وهو الجواد الحق، ينفق كيف يشاء، ولا شيء من العالم قديم، بل كل حادث فهو مسبوق بالعدم، فلا دلالة في الآية على القدم" انتهى.
فتأمل قوله (فلا أول لعطائه) وقوله (كل جزء من أجزاء العالم حادث) وقوله (لم يزل خلاقاً).
قال الأستاذ مراد شكري "واعجب أخي أن أحداً من المحققين النّظار لم يخطر بباله أبداً أن قدم النوع هو شيء قديم مع الله، وأن النوع شيء محسوس له وجود.
واسأل هؤلاء: هل نوع الحوادث منفك عن الحوادث أم ملازم لها؟ أهو هي؟ إذ لا يمكن أن يكون شيئاً آخر كما يبدو؟
إن كان هو هي – وهو محال – فما الداعي لذكره؟ فهو حادث مثلها، وإن كان ملازماً لها فالمعلوم أن القديم: زائد الحديث يساوي = حادثاً.
والمركب من القديم والحادث هو حادث وهذا بيّنٌ عند من شدا شيئاً من علم الكلام.(80/91)
وأما إن قالوا: إن النوع شيء والحوادث شيء، فقل لهم: فسّروا لنا كلمة (نوع) وحدها هكذا مجرداً، والأفضل أن ترجعوا لـ "الآجرومية" فتدرسوا باب المضاف والمضاف إليه، وتعربوا جملة (نوع الحوادث) فهذا أليق بكم"(1).
ثم نقل عن ابن تيمية في (درء التعارض 9/153) ما نصه "فيقال لكم: أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقاً بغيره وأن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة، أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقاً؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيها، وأما الثالث فيقال: أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدم أم مسبوق بفاعله؟ بمعنى أنه لا بد له من محدِثٍ؟ الثاني [أي أنه مسبوق بفاعله] مسلّم، والأول محل نزاع".
قال الأستاذ مراد "فهذا تقرير وتسليم أن جنس الحوادث مسبوق بالفاعل وهو الله جل وعلا، [وهذا يؤكد أن] القول بحوادث لا أول لها، أو تسلسل الآثار لا يفهم عاقل هذه العبارة إلا أنها متعلقة بمشيئة الله التي هي أزلية، وهي مسبوقة بالفاعل رب العالمين، وهذا بدهي وإلا لما كانت حوادث جمع حادثة، وهي المخلوقة المسبوقة بالعدم بأفرادها".
قال "ويُسأل القائل (إن إثبات حوادث لا أول لها مشاركة لله في اسمه "الأول" فيقال له: ماذا تقول في هذه الحوادث التي لا أول لها الآن؟ هل هي موجودة أم معدومة؟
فإما أن يقول: موجودة أو معدومة. أو يفتح فمه ويقول: ها، هاه لا أدري.
قال شيخ الإسلام في (درء التعارض 3/51) "وأيضاً فالحوادث الماضية عُدِمَت بعد وجودها، فهي الآن معدومة كما أن الحوادث المستقبلية الآن معدومة، فلا هذا موجود ولا هذا موجود الآن، وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت، ذاك في الماضي، وهذا في المستقبل"(2).
اتهامه بالقول بقدم العرش
__________
(1) دفع الشبه الغوية 45 – 46 .
(2) دفع الشبه الغوية 49 .(80/92)
وهذه كذبة أخرى يفتريها الحبشي على ابن تيمية وينقلها عن الجلال الدواني كما في شرح العضدية "وقد رأيت في تأليفٍ لابن تيمية القول بالقدم الجنسي للعرش"(1).
ولعلك تلاحظ عبارة "تأليف" وما تتضمنه من الافتراء فلماذا لم يذكر اسم هذا التأليف.
وإذا كنت لا تعرف من هو الجلال الدواني فابحث عن كتاب "إيمان فرعون"(2) فإن الدواني كتبه دفاعاً عن فرعون ولإثبات أنه مات على الإيمان. فقد ردّ عليه الشيخ ملا علي القاري في كتاب "فرّ العون من مدّعي إيمان فرعون". ألم يجد الحبشي رجلاً يحتج به غير من يدافع عن فرعون ويحكم بإيمانه؟
قال الآلوسي المفسر "وحاشا ابن تيمية أن يثبت عنه هذا الكتاب بل نسبته إليه كنسبة كتاب "إيمان فرعون" إلى الجلال الدواني، فاحفظ ذلك" ثم تعقب الجلال الدواني قائلاً "وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالحديث".
وكذلك حكى الألوسي طعن الكوراني في حاشيته المسماة: "مجلى المعاني على شرح عقائد الدواني" في صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن تيمية قائلاً "لم أقف على هذا التصنيف لابن تيمية"(3).
وهكذا حال من يحتج الحبشي بتجريحهم لابن تيمية لا يخلون من التعصب والانحراف الصوفي كالدواني والسبكي والهيتمي والحصني.
إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش
وزعم الحبشي أن ابن تيمية قال "إن الله تعالى قاعد على الكرسي وترك موضعاً لمحمد ليجلسه عليه في الآخرة. وهذا الكتاب غير الرسالة العرشية"(4):
ولكن؛ أين قال ابن تيمية هذا؟ وفي أي كتاب. إننا لم نره يؤيد ذلك في كتاب من كتبه، بل إنه حكى أن من السلف من قال بذلك وأنكرها آخرون(5).
__________
(1) إظهار العقيدة السنية 60 .
(2) تحقيق ابن الخطيب ط المطبعة المصرية 1924 .
(3) عن جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي 340 و 332 – 333 .
(4) شريط 13 (وجه أ) 94 .
(5) رسالة الرد على البكري 329 المعروفة بكتاب الاستغاثة.(80/93)
وصدق فيما قاله، فإن من السلف من قال بذلك، ونقلت أسانيدُ كلامهم في هذه المسألة بأسانيد صحيحة منها:
ـ رواية مجاهد التي صححها الطبري في تفسير قوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} روى لها المحدِّثون كالخلال في السنَّة أسانيد كثيرة جداً. بلغ بعضها الصحة. قالوا إن الله يُقعِد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليُرِيَ الخلائقَ منزلتَه(1).
ولذلك قال الحافظ ابن حجر "قال ابن الجوزي: وقيل إن المقام المحمود أي إقعاده على العرش، وقيل على الكرسي وحكى كلا من القولين عن جماعة(2) ورواه الطبري عن جماعة من السلف ولم ينكر رواية مجاهد في إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش(3).
وقد رد الحافظ ابن عبد البر كلام مجاهد واعتبره مخالفاً للصواب ومهجوراً عند أهل السنة"(4). ومنهم من أيد قول مجاهد وبالغ في الانتصار له كأبي بكر المروزي الذي جمع فيه كتاباً وروى عن إبراهيم بن عرفة سمعت ابن عمير يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول "هذا قد تلقته العلماء بالقبول". وكذلك انتصر وأفتى بوجوب التسليم له جماعة من أهل العلم والحديث منهم أبو داود السجستاني صاحب السنن وإبراهيم الحربي ومحمد بن مصعب العابد شيخ بغداد وخلقٌ كثير، بحيث قال ابن الإمام أحمد عقيب رواية قول مجاهد "أنا منكِرٌ على كل من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء متهم، سمعته من جماعة وما رأيت محدّثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" بل انتصر له ابن جرير وقال "ليس في فِرَق الإسلام من يُنكِر هذا" وقال بأن ما قاله مجاهد غير مدفوع صحته لا من خبر ولا من نظر(5). وذكر بأنه لا يلزم منه لوازم باطلة.
__________
(1) رواه الخلال في السنة 218 وانظر العلو للذهبي 75 .
(2) فتح الباري 2 : 95 .
(3) تفسير الطبري المجلد الثامن الجزء 15 .
(4) التمهيد 7 / 157 .
(5) تفسير الطبري المجلد الثامن 8: 15/98-99 والعلو للذهبي 124 .(80/94)
فمسألة إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش على افتراض صحة نسبتها إلى ابن تيمية مسألة تكلم فيها طائفة من السلف كمجاهد وغيره.
فانظر مدى دقة ابن تيمية حول رواية الإقعاد "رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول(1).
وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توقيفاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول، وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود"(2).
ابن فورك يقر الإقعاد فهل تكفرونه؟
وحتى ابن فورك فإنه روى رواية مجاهد أن الله يقعد محمداً - صلى الله عليه وسلم - على العرش وجعل لها تأويلاً محتملاً – على عادته – وهو أن معنى (يقعده معه على العرش) أي بمعنى النصر والمعونة". فقد قال:
"فإن قيل: فما تقولون فيما روي عن مجاهد أنه قال في تأويل قوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قيل … يحتمل أن يقال إنه معه بمعنى النصر والمعونة" (مشكل الحديث وبيانه 339). ثم قال "ولم ينكر إقعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش تأويلنا لفظة معه على ما يليق به من معنى النصرة والمعونة" (291). انتهى كلامه. فها هو ابن فورك يثبت الرواية ويصرح باعتقادها ولكن مع تأويل سائغ لها.
ونقل الخفاجي في شرح الشفا عن الدارقطني في حديث: أن المقام المحمود للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن يُجلِسه معه تعالى على العرش ما نصه:
حديث النبوة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى مسنده
وجاء حديث بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نُنكره
أمرّوا الحديث على وجهه ... ولا تُدخلوا فيه ما يُفسِده
ولا تُنكروا أنه قائم ... ولا تُنكروا أنه يُقعده
__________
(1) ذكر أهل العلم أن الأسانيد إلى مجاهد مدارها على الليث بن أبي سلمة.
(2) درء تعارض العقل والنقل 5/ 237 – 238 .(80/95)