القبورية فرقة مبتدعة كسائر الفرق المبتدعة الضالة، يجمعها جميعاً تتبع المتشابه من القول والإعراض عن المحكم الصريح، فبرغم الأدلة القطعية على النهي عن البناء على القبور وتجصيصها واتخاذها مساجد والكتابة عليها وغير ذلك من الأدلة المحكمة، إلا أنهم تركوا ذلك كله واحتجوا بأمور لا يجوز الاحتجاج بها، إما لعدم ثبوتها أو لعدم دلالتها على المطلوب، وسأذكر هنا ما استدلوا به من وجود مبان على القبور في القرون المفضلة وهي:
أن الصحابة - رضي الله عنهم - بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم على ذلك، ولم يأمرهم بهدمه.
أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - ضرب خيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها.
أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ضرب الفسطاط على قبر الحكم بن أبي العاص.
أن محمد بن الحنفية ضرب فسطاطاً على قبر عبدالله بن العباس - رضي الله عنه -.
أن فاطمة بنت الحسين امرأة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ضربت على قبره القبة سنة ثم رُفعت.
أن عائشة رضي الله عنها أمرت بفسطاط فضرب على قبر أخيها عبدالرحمن حين مات بذي طوى.
أن خارجة بن زيد قال: (رأيتني ونحن شبان في زمان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وإن أشدَّنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مضعون حتى يجاوزه).
قلت:هذه سبعة آثار استدل بها القبوريون على وجود أصلٍ لما دَرَجوا عليه من البناء على القبور في عهد(76/138)
السلف الصالح - رضي الله عنهم - (1)،وسأرد - بحول الله- على ذلك مبيناً أنه لا أساس لما تمسكوا به إلا ما يفعله من قال الله فيهم: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا ّالله } (2).
المطلب الثالث: الرد على ما استدلوا به من الشبهات على وجود مبان على القبور في تلك القرون:
__________
(1) تجد هذه الشبهات في رسالة( الجواب المشكور ) ، وهي عبارة عن فتوى أجاب فيها المفتي عن أسئلة تتعلق بالقبور والبناء عليها ووقع عليها عدد من علماء الهند وأرسلت إلى الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود فقام هو بإحالتها إلى دار الإفتاء التي أجابت عليها بكتاب شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور انظر مقدمة شفاء الصدور (ص5-6) وقد طبع في دار العصمة بالرياض (1409هـ)تحقيق عبد السلام آل عبد الكريم 0 ورسالة (إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور ) لأحمد عبد الله الصديق الغماري الطبعة الثانية ، نشر مكتبة القاهرة بمصر .
(2) آل عمران ( 7 ) .(76/139)
الشبهة الأولى - قولهم بأن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم - فأقرهم على ذلك، وهم يريدون بذلك ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي بصير - رضي الله عنه -،حيث ذكر قصة مجيئه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية، وإرسال المشركين يطلبون إرجاعه إليهم وكيف سلَّمه إليهم،ثم قتل أبو بصير - رضي الله عنه - أحد الرسولين ثم خرج إلى سيف البحر ومكث هناك،ولحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وجماعة من المسلمين، وأنهم شكَّلوا عصابة لقطع الطريق على المشركين والاستيلاء على قوافلهم،حتى أرسل المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرجونه قبولهم لديه فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم كتاباً بذلك، فجاء الكتاب وأبو بصير - رضي الله عنه - في حال الموت،فمات وكتاب رسول - صلى الله عليه وسلم - على صدره فصلى عليه أبو جندل.
والقصة إلى هنا- في البخاري وغيره-مُسنَدة،غير أن فيما ساقه ابن عبد البر زيادة ((وبنى على قبره مسجداً)) (1)،وهذا موضع الشاهد الذي احتجَّ به القبوريون كما فعل الغماري في رسالته إحياء المقبور حيث قال: (الدليل الثامن: أن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياته - صلى الله عليه وسلم -)(2)ثم ساق القصة عن الاستيعاب وفيها تلك الزيادة.
__________
(1) الاستيعاب في أسماء الأصحاب ( 4/21-23) ، للحافظ ابن عبد البر ،بهامش الإصابة لابن حجر طبع ( دار الكتاب العربي)، بدون تاريخ .
(2) إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد على القبور ( 38 ) 0(76/140)
قلت: نعم ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستيعاب ولكنه ساق القصة من طريق عبد الرزاق عن معمر –قال الزهري في حديثه -: غير أن عبد الرزاق لم يذكر موضع الشاهد وإنما وقف عند قوله: (فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم، إلاّ أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) (1)، وإلى هنا ساق القصة ابن عبد البر ثم قال: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظٍ وأكمل سياقه)، ثم ذكر القصة وفيها موضع الشاهد (فقدم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً) (2).
فأنت ترى أن ابن عبد البر فرَّق بين رواية عبد الرزاق الموصولة الصحيحة وبين هذه الرواية التي نقلها عن موسى بن عقبة، وقد دمجها الغماري تدليساً على القارئ ليتوهم أن القصة كلها بذلك الطريق الصحيح المسند والواقع خلاف ذلك.
وبعد أن عرفنا أن قصة المسجد إنما هي من رواية موسى بن عقبة نعود لنقول: هناك اعتراض على الاستشهاد والاستدلال بالقصة من ناحيتين:
الناحية الأولى من جهة السند: فموسى بن عقبة رواها عن الزهري مرسلة، وقد رواها من طريق موسى بن عقبة البيهقي في دلائل النبوة من طريقين عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب مرسلة (3)، كما رواها ابن عساكر في تاريخه،ذكره الشيخ الألباني وقال: (رواية موسى بن عقبة في تاريخ ابن عساكر(8/334/1)رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلا ً أو معضلاً بلفظ: (وجعل عند قبره مسجدا) (4).
__________
(1) عبد الرزاق في مصنفه ( 5/ 337- 342 ) 0
(2) الاستيعاب ( 4/22-23 ) .
(3) دلائل النبوة ( 4/172-175 ) ، للإمام البيهقي ،تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي ، طبع دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى سنة ( 1405هـ – 1985 م )
(4) تحذير الساجد ص ( 118 )(76/141)
وبناء على ما تقدم فإن هذا المرسل لا يحتج به كما هو مقرر عند علماء الحديث، هذا لوكان سالماً من المعارضة،فكيف وهو مخالف لما في البخاري،حيث لم يذكر تلك الزيادة هو ولا أحد ممن خرَّج تلك القصة سوى موسى بن عقبة، ثم هو مخالف للأحاديث التي تبلغ مبلغ التواتر المعنوي في المنع من بناء المساجد على القبور ولعنِ فاعلِ ذلك،مع تأخّر تلك الأحاديث أو بعضها عن هذه الحادثة؛إذ كان لعن أولئك في مرض موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
الناحية الثانية من جهة المتن: في اللفظ الذي ذكره ابن عبد البر (وبنى على قبره مسجداً)،هذا اللفظ قد خالفه ثلاثة من الحفاظ، روَوه بلفظ: (وجعل عند قبره مسجداً)، وهم: البيهقي في دلائل النبوة،وابن عساكر في تاريخه وتقدم العزْو إليهما، والثالث الحافظ ابن حجر في الفتح حيث قال في شرح الحديث الذي ساقه البخاري في كتاب الشروط من صحيحه: (وفي رواية موسى بن عقبة عن الزهري فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجداً) (1)،
وظاهر أن (عند قبره) يختلف قطعاً عن (على قبره)، فبناء المسجد على القبر هو الذي فيه النزاع، والذي قد وردت الأحاديث بتحريمه ولعن فاعله، وأما البناء عند القبر فيختلف باختلاف قصد الباني وليس فيه نهي لذاته فلو فرضنا أن هذا اللفظ صحيح فإنه لا دليل فيه على مطلوب القبورية.
__________
(1) فتح الباري ( 5/351 )(76/142)
وهناك ناحية ثالثة وهي على افتراض أن السند صحيح وأن اللفظ هو كما أورده الغماري: (على قبره مسجداً)، فإن التعارض قائم لا شك ولا إمكان للجمع، والتاريخ معروف، فقصة أبي بصير قبل السنةِ الثامنة سنةِ الفتح،والأحاديث الناهية عن اتخاذ المساجد على القبور في آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -،بعضها قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أيام(1) وبعضها وهو محتضر(2) فهي ناسخة لتلك القصة وبهذا لا يبقى للقبورية أي استدلال بهذه القصة.
الشبهة الثانية من شبهات القوم:أن عمر بن الخطاب ضرب خيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها.
قلت: قصة ضرب عمر - رضي الله عنه - الخيمة على قبر زينب بنت جحش رضي الله عنها رواها ابن سعد من طريق محمد بن المنكدر،وعن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه، فلفظ محمد بن المنكدر عن عمر:(أنه مرَّ على حفارين يحفرون قبر زينب في يوم صائف فقال: (لو أني ضربت عليهم فسطاطاً، فكان أول فسطاط ضرب على قبر) (3)، ولفظ موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه (أمر بفسطاط فضرب على قبرها لشدة الحر يومئذ فكان أول فسطاط ضرب على قبر بالبقيع) (4)، وهناك لفظ ثالث عن عبدالله بن ربيعة قال: (رأيت عمر بن الخطاب صلى على قبر زينب بنت جحش سنة عشرين في يوم صائف ورأيت ثوباً مد على قبرها وعمر جالس على شفير القبر) (5).
__________
(1) هو حديث جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - تقدم تخريجه ص ( 19 )0
(2) هو حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما وكلا الحديثين تقدم تخريجهما ( 17 ) .
(3) ،2، 3والثلاثة الآثار رواها ابن سعد في الطبقات الكبرى ( 8/112-113) ، طبع دار صادر بيروت، وطريق موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث وهو التميمي رواه الحاكم في المستدرك ( 4/24 ) ، كتاب معرفة الصحابة (ذكر زينب بنت جحش ) .(76/143)
وهذه الألفاظ جميعها مبينة أن الفسطاط الذي ضرب أو الثوب الذي مد كما في الرواية الثالثة؛إنما مُدَّ لإظلال الحفارين ووقايتهم من حر الشمس في ذلك اليوم الصائف، فأي دليل فيه على بناء المساجد والمشاهد على القبور؟ !،هذا إن صح، ولم أكلِّف نفسي البحث في أسانيدها لأنها حتى لو صحت لم تدل على قصد المستدل،وهذا واضح فبطل الاستدلال بهذه القصة.
الشبهة الثالثة من شبهات القوم: قصة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين ضرب الفسطاط على قبر الحكم بن أبي العاص، ولفظها عند ابن سعد من طريق الواقدي سنده إلى ثعلبة بن أبي مالك قال: (رأيت يوم مات الحكم بن أبي العاص في خلافة عثمان بن عفان ضرب على قبره فسطاطاً في يوم صائف، فتكلم الناس فأكثروا في الفسطاط فقال عثمان: (ما أسرع الناس إلى الشر وأشبه بعضهم إلى بعض، أنشدكم الله من حضر نشدتي: هل علمتم عمر بن الخطاب ضرب على قبر زينب بنت جحش فسطاطاً؟ قالوا: نعم،قال: فهل سمعتم عائباً؟ قالوا: لا) (1)،قلت: الحديث في سنده الواقدي ومع ذلك فهو من حيث الدلالة كالذي قبله لادليل فيه على ما يريدون.
__________
(1) رواه ابن سعد في الطبقات ( 8/113 ) من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو متهم بالكذب .(76/144)
الشبهة الرابعة من شبهاتهم: أن محمداً بن الحنفية ضرب فسطاطاً على قبر عبدالله بن عباس - رضي الله عنه -،قلت: الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق هشيم عن عمران بن أبي عطاء قال:(شهدت وفاة ابن عباس فوليه ابن الحنفية فبنى عليه بناءً ثلاثة أيام) (1) وكذلك أخرجه الحاكم من طريق هشيم إلا أنه قال: (حدثنا أبو حمزة، ثنا عمران بن أبي عطاء، فجعلها اثنين أبا حمزة وعمران مع أن الصحيح أن أبا حمزة هو عمران نفسه فلا أدري أهي غلطة مطبعية أم أنه وهم من الحاكم -رحمه الله-،ولم يعلق الذهبي على ذلك،ولا محقق الكتاب في طبعته الجديدة (2)، وكذلك رواه الخطيب في "مُوضِح أوهام الجمع والتفريق" من طريقين: أحدهما عن سفيان عن عمران بن أبي عطاء،وأخرى عن هشيم عن أبي حمزة الأسدي يريد بذلك إثبات أن عمران بن أبي عطاء هو أبو حمزة الأسدي) (3)، وعمران الذي يدور عليه الأثر من رجال مسلم وقال عنه الحافظ في التقريب: (صدوق له أوهام) (4)، فالأثر ثابت رغم ذلك؛ لأنه يحكي مشاهدة ورؤية فلا يضر ما قيل عنه من أوهام، غير أن الأثر لا يفيد القوم شيئاً إذ أنه لا يخرج عما سبق من الآثار،إذ بقاء الفسطاط -الذي جاء مصرحاً به في رواية الجميع كان لمدة ثلاثة أيام فقط- دالّ أنه كان لغرض آخر غير ما تَرمِي إليه القبورية؛ فإما أن يكون بُنِي على الحفارين ثم ظلَّ كذلك وهذا الأقرب وإما لأمر آخر، ولكن أن يحتج به على بناء المشاهد والمساجد على القبور فهذا لا يقوله عاقل منصف.
__________
(1) ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجنائز (في الفسطاط يضرب على قبر ) ( 3/335-336 ) 0
(2) الحاكم في المستدرك(4/702 )، كتاب معرفة الصحابة ( ذكر وفاة عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - ).
(3) موضع أوهام الجمع والتفريق ( 2/332 ) ، للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي ،طبعة دار المعرفة بيروت الطبعة الأولى سنة ( 1407هـ - 1987م ).
(4) تقريب التهذيب( 751 )،للحافظ ابن حجر 0(76/145)
الشبهة الخامسة: قصة فاطمة بنت الحسين وضربها القبة على قبر زوجها الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قلت: هذا الأثر قد علَّقه البخاري في صحيحه،في كتاب الجنائز،في باب "ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور" قال: (ولما مات الحسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رُفعت فسمعوا صائحاً يقول: (ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا) (1)
وهذا الأثر قد حمَلَ نقدَه وتفنيدَه معَه؛ لأمور:
الأمر الأول - إيراد البخاري له في هذا الباب دال على استنكاره له، قال الحافظ -رحمه الله-: (ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر وقد يكون في جهة القبلة فتزداد الكراهة) (2).
والأمر الثاني ذكرُ الهاتف فإنه مُشْعِر بقبح ما صنعت تلك المرأة.
قال ابن المنير _كما نقل عنه الحافظ _: (إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلاً للنفس، وتخيلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية،فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة أومن مؤمني الجن، وإنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه) (3)، إذاً فعلى رأي ابن المنير إنما أورد البخاري ذلك للاستئناس به لما ذهب إليه من كراهة اتخاذ المساجد على القبور وليس لتأييد ذلك.
__________
(1) البخاري مع الفتح ( 3/200) .
(2) المصدر السابق ( 3 / 200 )
(3) المصدر السابق (3 / 200 ).(76/146)
قال القسطلاني -رحمه الله - في شرحه على البخاري: (ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة فيه فيسلتزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهية وإذا أنكر الصائح بناءً زائلاً وهو الخيمة فالبناء الثابت أجدر، ولكن لا يُؤخَذ من كلام الصائح حكم لأن مسالك الأحكام الكتاب والسنة والقياس والإجماع ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها واستنباطها من مظانها) (1). وبهذا يظهر أن الدليل هو لنا وليس للقبورية.
الشبهة السادسة من شبهات القوم: أن عائشة رضي الله عنها أدركت أخاها عبد الرحمن بعد موته -حين رفعوا أيديهم عن دفنه بذي طوى -فأمرت بفسطاط فضرب على قبره.
قلت: هذا الأثر علقه البخاري -رحمه الله تعالى- قال: (رأى ابن عمر - رضي الله عنه - فسطاطاً على قبر عبدالرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظلّه عمله) (2).
__________
(1) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ( 2 / 430 ) ، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني ، دار إحياء التراث بيروت بدون تاريخ .
(2) صحيح البخاري كتاب الجنائز باب ( الجريدة على القبر ) (2 / 457 ) .(76/147)
وقال الحافظ في شرحه: (وعبد الرحمن هو ابن أبي بكر الصديق بَيَّنَه ابن سعد في روايته له موصولاً من طريق أيوب بن عبدالله بن يسار قال: (مرَّ عبدالله بن عمر على قبر عبدالرحمن بن أبي بكر أخي عائشة وعليه فسطاط مضروب فقال: يا غلام انزعه فإنما يظله عمله، قال الغلام تضربني مولاتي. قال: كلا فنزعه)،ومن طريق ابن عون عن رجل قال: (قدمت عائشة ذا طوى حين رفعوا أيديهم عن عبدالرحمن بن أبي بكر فأمرت بفسطاط فضرب على قبره ووكلت به إنساناً وارتحلت فقدم ابن عمر...) فذكر نحوه، وقد تقدَّم توجيه إدخال هذا الأثر في هذه الترجمة)، قلت: يعني ما ذكره في الأثر السابق أثر فاطمة بنت الحسين وهو أن البخاري قاس الفسطاط على المسجد في الكراهة.
وهذا الأثر كذلك يجب أن يستدل به على محاربة الصحابة لتلك المظاهر لا على إثباتها وتأصيلها،فعائشة رضي الله عنها نصبت تلك الخيمة ولم يتبين لنا ما هو السبب في ذلك، ولا لأي غرض كان نصبها،ثم ذهبت فلما جاء ابن عمر- رضي الله عنه - استنكر ذلك وعبّر عن استنكاره بالأمر بنزع ذلك الفسطاط، رغم إخبار الغلام له بأن من أمر به هو عائشة رضي الله عنها،ورغم ما يكنّه الصحابة جميعاً لعائشة رضي الله عنها من التقدير والاحترام،إلا أن ذلك لم يمنع ابن عمر من تغيير ما رأى أنها أخطأت فيه.
ولم يذكر بعد ذلك لنا محدث ولامؤرخ أن عائشة اعترضت على ما فعله ابن عمر،وهذا دليل على أنها رجعت إلى ما رآه ابن عمر، خصوصاً وأن عائشة رضي الله عنها ليست ممن يسكت على ما يرى خلافه، ومن أجل ذلك كثرت استدراكاتها على الصحابة حتى جمعها الزركشي - رحمه الله - في كتاب مستقل سماه (الإجابة لما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة) ولم يذكر هو ولا غيره أن عائشة رضي الله عنها استدركت على ابن عمر ما فعل، فسقط هذا الدليل والحمد لله.(76/148)
الشبهة السابعة: أثر خارجة بن زيد -رحمه الله- أحد الفقهاء السبعة أنه قال: (رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان - رضي الله عنه - وإن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه).
قلت: الأثر علقه البخاري (1) بنفس اللفظ، وقد تعرض له العلامة عبدالرحمن المعلمي اليماني (2)
__________
(1) في الصحيح كتاب الجنائز ( الجريدة على القبر ) (2/465).
(2) هو العلامة المحدث المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، رحل في طلب العلم والمعاش ، فمكث مدة في الهند ثم استقر في مكة المكرمة أمينا لمكتبة الحرم المكي ، حقق عدداً كثيراً من كتب الحديث والرجال ، وألف في الرد على أهل البدع والباطل من أشهر كتبه " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل "وله كتاب بعنوان " البناء على القبور " لم يكمله، وفي الموجود منه ما يدل على تحقيق بالغ وعلم غزير كما أن له كتابا بعنوان " القائد إلى تصحيح العقائد " توفي رحمه الله بمكة سنة(1386هـ) انظر ترجمته بقلم عبد الله ابن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المعلمي في مقدمة التنكيل ص(9)طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء = = والدعوة والإرشاد بالرياض ( 1403 هـ -1983 م ) وهجر العلم (3/1266) طبع دار الفكر المعاصر بيروت ، ودار الفكر سورية الطبعة الأولى ( 1416هـ - 1996 م ) .(76/149)
- رحمه الله- في كتاب البناء على القبور وردّه من أحد عشر وجهاً، وأكتفي بوجهين اثنين فقط أراهما مزيلين للإشكال، قال رحمه الله: (ثانياً في تهذيب التهذيب في ترجمة خارجة: " قال ابن نمير وعمرو بن علي: مات سنة (99هـ) وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة "، فظاهر هذا أن الأكثر على أن موته كان سنة مائة والجمع أولى بأنه مات أواخر سنة (99هـ)، وفي تاريخ ابن عساكر أنه توفي وعمره سبعون سنة، وذكر لذلك قصة أن خارجة قال:" رأيت كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها هويت وهذا السنة لي سبعون سنة وقد أكملتها، قال فمات فيها ".
ونقل مثله ابن خلكان عن طبقات ابن سعد، فإذا أنقصنا سني عمره من سني الهجرة لموته بقي تسع وعشرون، فيكون مولده آخر سنة تسع وعشرين،وعثمان قتل سابع ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فيكون سن خارجة يوم قتل عثمان ست سنين تقريباً،فكيف يكون شاباً في زمن عثمان؟.(76/150)
وقد راجعت طبقات ابن سعد، "طبع أورُبَّا" فظهر أنه روى هذه القصة عن الواقدي) - قلت: والمعلمي -رحمه الله- يشير بذلك إلى ضعف القصة حيث ظهر تناقضها- ثم قال (ثالثاً: إذا سلم إسناده ولم نعتبر هذه علة قادحة فيه، فإنه ينبغي الجمع بأن يتأول الأثر بأن قوله:(شبّان) مجاز، أراد أننا غلمان أقوياء أصحاء كأننا شبان، ويؤيد هذا كلمة (غلمان) الثابتة في التاريخ وإن حذفت في التعليق، ويؤيده أيضاً أنه لو كانوا أبناء تسع سنين ونحوها لما ذهبوا يتواثبون على قبر رجل من أفاضل السابقين، ولاسيما وبجواره قبر ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ممنوع في الشرع اتفاقاً لأن من روى عنه إباحة الجلوس على القبر لا يبيح التوثب عليه. وقوله: (إن أشدنا وثبة... الخ).يدل أن أكثرهم يقصر فيقع على القبر والذي يجاوزه يقع على القبور المجاورة، وأبناء الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يبلغون التمييز إلاّ وهم عارفون آداب الدين ملتزمون لها مثل خارجة بن زيد، وعلى هذا فلا دلالة في الأثر لأن الغلام الذي عمرُه ست سنين –وإن كان قوياً – يشق عليه أن يثب أكثر من ذراعين ونصف على وجه الأرض وهذا هو عرض القبر عادة تقريباً.
ويشبه أن يكون قبر عثمان بن مظعون أعرض قليلاً من القبور المعتادة، ويكون خارجة أراد بذلك القول: الإخبار عن عرض القبر ليخبرهم أن السنة توسعة القبر) (1).
__________
(1) البناء على القبور ص ( 33-34 ) ، للعلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي ، تحقيق حاكم بن عبيسان المطيري ، الطبعة الأولى ( 1417هـ -1996 م ) ، دار أطلس الرياض ،وقد رد في هذا الكتاب وبأسلوب قوي وحجج رصينة ساطعة شبهة اتخاذ المسجد على أصحاب الكهف فليرجع إليها من أراد معرفة الحقيقة .(76/151)
وبهذا تنقطع حجة القبوريين في جميع ما استدلوا به من وجود مظاهر القبورية في عهد السلف الصالح وسأثبت - إن شاء الله - إضافة لما سبق خلاف ذلك: وهو إنكار السلف لكل ما هو من هذا القبيل والتنصيص على منع إقامة الفساطيط وما هو أعلى منها في المطلب الرابع.
المطلب الرابع:التصريح بتسوية الصحابة لما ارتفع من القبور وإزالة ما استجد في المقابر من فساطيط ونحوها:
تقدم في الباب التمهيدي في الأسلوب السابع: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور المشرفة،وذلك عن فضالة بن عبيد، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -،وكذلك تطبيقهما لذلك،فأمر فضالة بتسوية قبر (1) صاحبهم الذي مات برودس،كما بعث علي - رضي الله عنه - أبا الهياج الأسدي لذلك الغرض (2)،وكذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يأمر بتسوية القبور بما في ذلك قبر ابنته أم عمرو بنت عثمان (3)، ومن ذلك تعامل أبي موسى وأصحابه مع قبر دانيال وقد مر (4) وأما قضية الفساطيط فقد مرَّ معنا قصة عائشة في وضع فسطاط على قبر أخيها عبد الرحمن وكيف أزاله ابن عمر ولم تعترض على ذلك (5)، وكذلك ما فعلته فاطمة بنت الحسين ومانبه به على خطئها من الهاتفين، وكيف أدخل البخاري ذلك في باب كراهية اتخاذ المساجد على القبور (6).
__________
(1) انظر : ص ( 24 ) .
(2) انظر :ص ( 24 ).
(3) الباب التمهيدي ص ( 24 ).
(4) انظر : ص ( 37-38 )
(5) انظر : ص ( 87 )
(6) انظر : ص (87 ) .(76/152)
وقد أوصى بعض الصحابة والتابعين بالمنع من إقامة الفسطاط على قبورهم أو رفعها، فأوصى أبو هريرة - رضي الله عنه - (ألا يضربوا على قبره فسطاطاً) (1)، وأوصى بمثل ذلك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - (2)، وكذلك أوصى بمثل ذلك سعيد بن المسيب (3)، وقال محمد بن كعب القرظي (هذه الفساطيط التي على القبور
محدثة) (4)
__________
(1) رواه عبد الرزاق ( 3/ 418 ) كتاب الجنائز باب لا يتبع بالجمرة ، وابن أبي شيبة في كتاب الجنائز : في الفسطاط يضرب على القبر ( 2/335 ) ، وزاد الشيخ الألباني -رحمه الله -عزوه إلى الربعي في وصايا العلماء (2/141) ، وابن سعد ( 4/338 ) قال : وإسناده صحيح تحذير الساجد ص ( 143 ).
(2) ابن أبي شيبة في نفس الباب السابق (2/335 – 336 )، وعمر بن شبَّه في أخبار المدينة الطبعة التي علّق عليها الشيخ عبدالله الدويش (ص96 – 97 ) دار العليان بريدة الطبعة الأولى(1411هـ-1990م) ،وعزاه الشيخ الألباني إلى ابن عساكر ( 7 /96 ) وقال : إسناده ضعيف ، لكن له طرق أخرى عند ابن عساكر فهو بها صحيح . انظر : تحذير الساجد ص ( 143 ) . وقال الشيخ الدويّش معلقاً على سند ابن شبَّه : رجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن الرجال قال في التقريب : ( صدوق ربما أخطأ ) . قلت : ومن كان هذا حاله فحديثه حسن عند ابن حجر -رحمه الله - .
(3) رواه ابن سعد في الطبقات ( 5/142) .
(4) ابن أبي شيبة في مصنفه ( 3 /336 ) ، قال الشيخ الألباني في تحذير الساجد ص ( 143 ) : ورجاله ثقات غير ثعلبة وهو ابن الفرات ، قال أبو حاتم وأبو زرعة : ( لا أعرفه ) كما في " الجرح والتعديل " ( 2/464 - 465 ) طبع دار الفكر طبعة مصورة من طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الهند سنة (1371هـ-1952م) .(76/153)
، وقال عمر بن شرحبيل: (لا ترفعوا جدثي (1) فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك (2).
فهذه الآثار كافية لإثبات منهج الصحابة والتابعين في وضع القبور وتسويتها والمنع من عمل أي شيء يؤدي إلى تعظيمها والغلو في أصحابها.
المطلب الخامس:محاولات الشيعة المبكرة لإنشاء المشاهد وتصدي الخلفاء لذلك:
__________
(1) الجدث : القبر، انظر : القاموس المحيط ص ( 213 ) .
(2) رواه ابن سعد ( 6 / 108 ) وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد ( ص 134 ) .(76/154)
لقد نشأت الشيعة -يوم نشأت- غالية في حبها غالية في بغضها،وكانت الرافضة من أكثر فرق الشيعة غلواً،ولا عجب فإن مُنْشِئها ومؤسسها الأول كان يهودياً غالياً، يحمل أسوأ ما عند اليهود من عقائد، وينطوي على أبشع ما لديهم من حقد على الإسلام والمسلمين، ذلك هو أحد أهم رؤوس أهل الرفض عبدالله بن سبأ اليهودي (1)، فلا غرابة أن تحمل تلك الفرقة بذور القبورية والوثنية في
__________
(1) هو عبدالله بن سبأ الهمداني وقيل الحميري، اليماني النسب والدار، اليهودي الديانة، أسلم زمن عثمان وهاجر إلى الحجاز ثم إلى الشام ومصر، وهناك تحرك في تحريض الثوار على عثمان - رضي الله عنه - حتى قتلوه ،ثم عاد فاندس في أصحاب علي - رضي الله عنه - وغرس فيهم العقيدة الضالة عقيدة ألوهية علي- رضي الله عنه - ، فما كان من علي- رضي الله عنه - إلا أن زجرهم عن ذلك فلما لم ينزجروا أحرقهم بالنار0وهل أُحرق معهم ؟ ربما الأصح أنه هرب ولم يحرق، ثم كوَّن فرقة هي من أخبث فرق الشيعة وتسمى السبئية، أخرجها جمهور السنة والشيعة من فرق المسلمين، وقد أثبت وجود هذه الشخصية الخبيثة مؤرخو السنة والشيعة على السواء ، غير أن بعض المعاصرين من آيات الشيعة وجد أن ترقيع ذلك الثوب المهلهل لا يجدي ،فقرر عدم وجود شخص اسمه عبدالله بن سبأ ،واتهم سيف بن عمر الضبي الإخباري المشهور باختراع هذه الشخصية، غير أن باحثي أهل السنة فندوا تلك الدعوى ، ورد على ذلك المؤلف الشيعي عدد من باحثي أهل السنة في مواضع مختلفة ومناسبات مختلفة ، وأجمَعُ ذلك -حسب علمي- هي رسالة الشيخ سليمان بن حمد العودة التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض عام ( 1402 هـ ) بعنوان ( عبدالله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ) ، ونشرتها دار طيبة للنشر والتوزيع بالرياض ، فليرجِع إليها من أراد الوقوف على حقيقة هذا الرجل .(76/155)
طياتها منذ نشأتها الأولى، ففي الوقت الذي كانت الأمة -كل الأمة- تحارب القبورية وتطمس آثارها،كان هؤلاء الغلاة يحاولون إنشاء المشاهد والقباب على قبر الحسين - رضي الله عنه - في كربلاء، ولكن يقظة الخلفاء والأمراء وما يجري في عروق الأمة من مقاومة لتلك القبورية كان يقف حائلاً قوياً وسداً منيعاً دون تمكين الرافضة من تلك الغاية.
وبنظرة عابرة إلى تاريخ كربلاء يتبين ذلك، فقد زعم مؤرخو الرافضة أن أول بناء أقيم على قبر الحسين - رضي الله عنه -كان بعد دفنه مباشرة (1)،ولم أرَ في تواريخ أهل السنة ما يؤيد ذلك،وقد اختلفوا فيمن أقام تلك المباني فقيل: بنوأسد الذين تولَّوا دفنه، وقيل المختار بن أبي عبيد الثقفي،وكلا الاحتمالين لم يقيموا عليه دليلاً معتبراً،وعندي أنه إن كان ذلك ثابتاً فالمختار أحرى به؛ لأنه كان شيعياً متعصباً نذر نفسه للقضاء على قتلة الحسين مع ما عنده من انحرافات وكذب على الله حتى زعم أنه يُوحى إليه (2)
__________
(1) تاريخ كربلاء ( حائر الحسين - رضي الله عنه - )،للدكتور عبد الجواد الكليدار ، طبع مدبولي الصغير بالقاهرة بدون تاريخ ص ( 151 ) .
(2) هو كذاب ثقيف المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي ، أظهر التشيع أيام معاوية فنفي إلى الطائف ، فلما قام عبدالله بن الزبير وفد إليه فأرسله إلى العراق ، وهناك اتصل بالشيعة وزين لهم أمر إمامة محمد بن الحنفية بدون أمره ، وأظهر المخاريق وزعم أن جبريل بأتيه بالوحي ، وتتبع قتلة الحسين ثم قامت الحرب بينه وبين مصعب بن الزبير أمير العراق من قبل أخيه عبدالله وبعد جولات هزمه مصعب وقتله وقتل جمعاً من أصحابه، وفيه تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها للحجاج: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إن في ثقيف كذاباً ومبيراً ) أما الكذاب فرأيناه – تعني المختار – وأما المبير فما أخالك إلا إياه ) رواه مسلم .
وفيه يقول سراقة البارقي :
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً عليَّ جهادكم حتى الممات
أُرِي عينيَّ ما لم تَرَياه كلانا عالم بالترهات
ترجمه الذهبي في السير ( 3/538 ) وما بعدها ، وابن كثير في البداية والنهاية ( 8/289 ) وما بعدها .(76/156)
.
ولكن كيف تم له ذلك؟ وإن تم فكيف يُقرّ ويُترك في ظل دولة ابن الزبير، ثم في ظل دولة بني أمية؟، وهم كما يقول مؤرخ كربلاء: (أقاموا المخافر والمسالح (1) المدججة بالعتاد والسلاح والرجال على أطراف كربلاء لمطاردة الزوار ومعاقبتهم بأقسى العقوبات من القتل والصلب والتمثيل بهم)(2).
إن أولئك الزوار المزعومين - الذين وضعت دولة بني أمية العتاد والسلاح والرجال لمنعهم من الزيارة -إنما كانوا يزورون ذلك المكان المقدس المعلّم بالبناء المزعوم، فكيف يُعقل أن يترك البناء طيلة تلك الفترة دون أن يتعرضوا له،مع وجود ما قيل من المنع من الزيارة والمعاقبة لمن ظُفر به من الزوار.
وقد زعم مؤرخ كربلاء أن أول من تعرَّض لهدم ما على القبر من بناء هو أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين، ولم يرجع ذلك إلى مصدر معتمد،وإنما عزاه إلى منظومة بعنوان " مجالي اللطف " للشيخ محمد السماوي(3).
قلت: إن صح هذا فإنه قد يكون هناك مبانٍ يسيرة بُنيتْ خلسة في حال غفلة من الرقباء، فلما عرف بها المنصور بادر إلى هدمها..
ثم زعم مؤرخ كربلاء أنه في عهد هارون الرشيد وفي آخر أيامه بالذات:(هدَم الحائر وكَرَبَ موضَع (4)
__________
(1) المخافر : جمع مخفر وهو مكان الخفارة والحراسة ، والمسالح : جمع مسلحة وهم القوم ذوو السلاح . القاموس ص ( 287 ) ، والمعجم الوسيط ( 1/246 ) .
(2) تاريخ كربلاء ص ( 183-184 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 184 ) .
(4) الحائر : موضع قبر الحسين - رضي الله عنه - ، وكرَبَه : أثاره للزرع . انظر : القاموس ص ( 166 )(76/157)
القبر المطهر وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده ليمحو بعد ذلك كل أثر له) (1)، وهذا إن صح فهو شبيه بما فعله أبو جعفر المنصور، وقد أورد بعد ذلك قصة توحي بأنه كان للحائر نظام معين وله خدم وسدنة موظفون للقيام بواجب الخدمة وأوقاف هي تلك الأموال التي أجرتها أم موسى وهي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور وقد عزى تلك القصة إلى الطبري في تاريخه في حوادث عام (193هـ) (2).
وعلى كل حال فاحتمال أن يكون الشيعة - في الفترة ما بين عصر المنصور والرشيد - قد تمكنوا من عمل شيء ما من البدع وأحدثوا شيئاً ما من المعالم على قبر الحسين - غير بعيد، ولكن حينما فطن لها الرشيد فعل ما يجب عليه من إزالة لما أوجب الشرع إزالته، وأما كون القبر قد صار له نظام معين وإدارة وسدنة.... الخ فهذه مزاعم لادليل عليها، ولا تتماشى مع واقع ذلك العصر.
ثم ذكر أن القبر وما عليه من بناء وما حوله من دور قد هدمت في أيام الخليفة المتوكل أربع مرات خلال خمسة عشرة سنة،وأطال في ذلك جداً وكانت مراجعه في ذلك في الغالب كتب الشيعة وبعض كتب مؤرخي أهل السنة، والذي يظهر أن بناءً بشكل ما قد أقيم على القبر، وذلك بعد عهد الرشيد وفي أيام الخلفاء الذين تبنوا مذهب الشيعة وهم المأمون والمعتصم والواثق،إما برضى منهم أو بانصرافهم عن مراقبة تلك البقعة وما يدور فيها، لعدم الحساسية التي كانت لدى أسلافهم، من ذلك؛ فتمكن المتربصون من الرافضة مما يريدون، حتى إذا كانت خلافة المتوكل ورجع عن التشيع والاعتزال وأحاط به أهل السنة قام بما يجب عليه من طمس تلك المعالم المخالفة للشرع تنفيذاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عنه على بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
__________
(1) المصدر السابق ( ص186 )
(2) المصدر السابق ص ( 186 ) .(76/158)
هذا الذي يمكن أن يكون قد حصل وأما ما كثَّر به الدكتور عبد الجواد الكلام وسوَّد به الصفحات فهو مما لا تطمئن إليه النفس، إذ يبعد أن يحصل ذلك أربع مرات في خلال خمس عشرة سنة مع إصرار المتوكل على منع أي إحداث في ذلك الموضع، وقد ذكر بعد ذلك أن المنتصر بن المتوكل كان قد أعاد البناء على قبر الحسين ووضع عليه ميلاً عالياً يرشد الناس إليه، واعتمد في ذلك على مراجع شيعية فقط.
غير أن مؤرخي السنة قد ذكروا ميل المنتصر إلى آل أبي طالب ومحبته لهم وإرجاع بعض ما كان لهم من الأوقاف وغيرها (1)، ومن هنا فلا يستبعد أن يجيبهم إلى شيء من ذلك، غير أن كل ما يمكن أن يقال: أنه فعله، إنما هو وضع علامة على قبر الحسين - رضي الله عنه - فقط، ليعرف موضع القبر، والشيعة عندما يستميتون في إثبات ذلك إنما يريدون الاستدلال على عراقة ما هم عليه من القبورية المعاصرة وأن جذورها ممتدة إلى القرون المفضلة.
وبهذا تعرف أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة، ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية،ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الرافضة من ذلك فقد جُوبِهَ بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم.
__________
(1) تاريخ الخلفاء ( 356 ) لجلال الدين السيوطي ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، مطبعة دار السعادة مصر ، الطبعة الأولى ( 1371 هـ 1952م )(76/159)
ولا يقدح فيما قرره العلماء من خلو القرون المفضلة من مظاهر القبورية، وجود بعض قبور للخلفاء قد أبرزت وبنيَ عليها، إذ أن ذلك لم يدخل فيما قصدوه بالنفي،حيث إن الكلام هو في مشاهد من يعتقد فيهم الصلاح ويُقْصدون للتبرك،وذلك غير موجود في قبور الأمراء والسلاطين، على أن هذه القبور التي بُني عليها إنما كانت في القرن الثالث بعد الجولة التي ظهر فيها الرفض والتجهم أيام المأمون والمعتصم والواثق، وقد نص المؤرخون على أن أول خليفة أبرز قبره هو الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل العباسي المتوفى سنة (248هـ) بطلب من أمّه الرومية الأصل (1).
ثم بنيت عليه قبّة عرفت فيما بعد باسم القبّة الصليبية ودفن مع المنتصر فيها الخليفتان المعتز (ت 255هـ) والمهتدي (256 هـ)،وقد قرر المستشرق (هرستفيلد) أنها أول قبّة في الإسلام،وأقره على ذلك عدد من المؤرخين المعاصرين (2)،وهذا تأكيد ثان على ما سبق تقريره من أن القرون المفضلة مرت وليس فيها مشاهد ولا قباب على قبور الأئمة والأولياء ومن يُرى فيهم الصلاح.
بين يدي هذا الفصل
__________
(1) ذكر ذلك الطبري في حوادث سنة ( 248هـ ) . وعنه ابن كثير في البداية والنهاية نفس السنة ( 10/ 354 ) ونص كلام ابن كثير في ترجمة المنتصر ابن المتوكل: ( وهو أول خليفة من بني العباس أبرز قبره بإشارة من أمّه حبشية الرومية ) ،قلت: اسمها حبشية وأصلها رومية فهي نصرانية قبورية .
(2) مساجد مصر وأوليائها الصالحون ( 1/46 )للدكتورة سعادة ماهر محمد طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية مصر بدون تاريخ، وموسوعة العتبات المقدسة ( 12 / 229 )لجعفر الخليلي الطبعة الثانية (1407هـ-1987م) مؤسسة الأعلمي بيروت ، ومعالم الحضارة العربية الإسلامية ص ( 34 ) للدكتور قصي الحسين الطبعة الأولى (1414هـ-1993م) المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، والعمارة الإسلامية ص ( 43 ) للدكتور كامل حيدر دار الفكر اللبناني بيروت.(76/160)
إننا عندما نبحث عن القبورية في العالم لسنا مجرد مؤرخين، يطيب لهم أن يتعرفوا على أحداث ويصوروا مجتمعات،ويصفوا ما وصلوا إليه من أحوال العالم لمجرد السرد التاريخي،وإنما نبحث ذلك منطلقين من سنة كونية ثابتة أخبرنا عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن هذه الأمة ستأخذ مأخذ الأمم السابقة، وستسلك سبيلها في كل جوانب حياتها بما في ذلك الجوانب الاعتقادية والتعبدية والأخلاقية.
فإذا ثبت أن تلك الأمم عظَّمت القبور وآثار الصالحين وتدرجت في ذلك حتى عبدت أولئك الصالحين-في نظرها- فإن من هذه الأمة من سيفعل ذلك، وهذا ما أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يشاهد على أرض الواقع.
فأما ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيما رواه البخاري من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال ومَنْ الناس إلا أولئك)) (1).
وروى البخاري أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمَنْ؟)) (2).
وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - كاملاً0 والذي يهمنا إثباته هو مشابهة هذه الأمة للأمم قبلها في قبوريتهم،وتعظيمهم للأنبياء والصالحين،وانتشار عقائدهم الباطلة لدى كثير منهم، وهذا ما سوف نبيّنه في هذا الفصل إن شاء الله.
الفصل الأول
نشأة القبورية في العالم
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول
نشأة القبورية في العالم بأسره
وفيه مطلبان:
__________
(1) البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من كان قبلكم الفتح( 13/ 300 ) .
(2) المصدر السابق ( 13/ 300 ) .(76/161)
المطلب الأول: إثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك.
من المعلوم المتفق عليه أن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة التوحيد،فآدم عليه السلام هو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته، وجرى له في الجنة ما جرى، ولم يكن من ذلك شيء يخالف التوحيد أو يقدح فيه،ثم أهبطه إلى الأرض نبياً كريماً ورسولاً مرشداً إلى ذريته،و هو قول جمع من العلماء.
وعلى تعاليم رسالة آدم نشأ بنوه وعلى نهجه ساروا، حتى لقد صرح عكرمة - رضي الله عنه - بأنهم داموا على ذلك عشرة قرون، (1) وهذا الذي ذكرناه من نشأة البشرية على التوحيد هو ما قرره القرآن وشهدت به السنة المطهرة.
أما القرآن ففي قول الله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (2).
ففي الآية الكريمة أن الدين الذي أمر الله رسوله أن يقيم وجهه عليه هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ثم أكّد ذلك بقوله { ذلك الدين القيم } فالدين الحنيف والدين القيم هو التوحيد وهو الذي فطر الله الناس عليه.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره) (3).
__________
(1) تفسير الطبري ( 29 /62 ) .
(2) الروم ( (30 ) .
(3) تفسير ابن كثير ، طبعة دار الشعب ( 6 / 320 ) .(76/162)
وقد أكدت ذلك السنة وفصَّلته وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترون فيها من جدعاء؟(1)) (2) ثم يقول أبو هريرة: (واقرأوا إن شئتم { فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } (3).
قال ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث: (وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: { فطرت الله التي فطر الناس عليها } الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة - رضي الله عنه - وبحديث عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه:((وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))(4) الحديث وقد رواه غيره فزاد فيه ((حنفاء مسلمين)) ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى: { فطرت الله } لأنها إضافة مدح وقد أمر نبيه بلزومها فعلم أنها الإسلام) (5).
ونكتفي بهذه النصوص الواضحة الصريحة التي لاخلاف على معناها، لإثبات أن البشرية كانت على التوحيد قبل طروء الشرك عليها.
المطلب الثاني: إثبات أن أول شرك حصل في العالم كان بسبب الغلو في الصالحين:
__________
(1) أي مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة القاموس المحيط ص ( 914 ) 0
(2) البخاري كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين الفتح ( 3/245-246 ) ، ومسلم كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ( 4/2047 ) .0
(3) الروم (30 ) 0
(4) سيأتي تخريجه في الصفحة القادمة0
(5) فتح الباري ( 3/248 ) .(76/163)
كانت عداوة إبليس لآدم قديمة منذ أن أمره الله بالسجود له،فأبى فلعنه الله وطرده بسبب ذلك، ومنذ ذلك الحين أخذ على نفسه: أن يعمل على كل ما فيه الإساءة إليه وإلى جلب سخط الله عليه، وكان أول عمل عمله إغراؤه بالأكل من الشجرة،ذلك العمل الذي كان سبباً لإخراجه من الجنة وإهباطه إلى الأرض هو وإبليس معاً، ولم يكتفِ إبليس بعداوة آدم وحده بل ضمّ إلى ذلك عداوة ذريته وأعلنها صريحة بأنه لن يدخر جهداً لإغوائهم وصدّهم عن السبيل،والعمل على جعل مصيرهم مقترناً بمصيره هو إلى نار جهنم { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين، قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } (1)، { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلاّ عبادك منهم المخلصين، قال فالحق والحق أقول، لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } (2).
وقد حذر الله عباده المؤمنين وجميع بني آدم من تلك العداوة وخطورتها، وخطورة الهدف الذي يسعى إبليس لتحقيقه من خلال عداوته لهم، فقال سبحانه وتعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } (3) وقال: { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون } (4).
__________
(1) الأعراف (16-18 )0
(2) سورة ص (82-85)0
(3) فاطر ( 6 ) .
(4) يس ( 60-62 ) .(76/164)
ولكن لأمرٍ أراده الله نسي بنو آدم تلك العداوة، وجهلوا ذلك التحذير الذي حذرهم الله إياه ولم ينسَ هو ذلك، بل عمل على جلب الأنصار والجنود من الإنس والجن، فسلطهم على بني آدم حين غفلوا عما أوصاهم به الله، فأجلب عليهم هو وجنوده فاجتالوهم عن دينهم وأوقعوهم في الشرك، وهو ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كلّ مال نحلته (1) عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (2)عن دينهم،وحرمت عليهم ما أحللت لهم،وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً،وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) (3)
__________
(1) نحلته أعطيته النووي على مسلم ( 17/197 ) .
(2) اجتالتهم ( أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطن ) نفس المصدر ( 17/197 )
(3) مسلم مع الشرح ،كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار)( 17/197 )(76/165)
ولم يكن ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما من فجر التاريخ قبل أن يبعث نوح عليه السلام، بل إن مبعث نوح إنما كان لإرجاع الناس إلى الجادة بعد ذلك الانحراف الخطير، وكان الباب الذي دخل منه الشيطان إلى إغواء أولئك الناس:باب الغلو في الصالحين، فكانت أول أصنام عبدت على وجه الأرض هي صور وتماثيل لرجال صالحين أحبهم قومهم وغلَوا فيهم فصوّروهم، ثم تدرج بهم الحال حتى عبدوهم من دون الله تعالى! ولما جاءهم نوح ينعى عليهم ذلك المسلك الخاطىء، ويدعوهم إلى العودة إلى الصراط المستقيم أبوا وعاندوا وتواصوا بالصبر على تلك الآلهة والاستمرار على الإشراك بالله المتمثل في عبادتها من دون الله { وقالوا لاتذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولاسواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } (1).
وهذه كما هو واضح أسماء بشر كانوا صالحين محبوبين لدى قومهم،حملهم ذلك على الغلو فيهم وإنزالهم فوق منزلتهم، وتطور الأمر حتى عبدوهم،كما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية أنه قال: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسِخ العلم عبدت)(2)
__________
(1) نوح ( 23 ) .
(2) البخاري والفتح (2/667)0(76/166)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: (وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك) (1) وقد تواطأ المفسرون عند تفسير هذه الآية على ذكر هذا الأثر وأثاراً أخرى كلها تؤدي نفس المعنى. (2)
وقد صرح القرطبي - رحمه الله تعالى -:بأنه من أجل أن عبادة الأوثان ابتدأت بسبب الغلو في الصالحين حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك، قال: (قلت:وبهذا المعنى فسِّر ماجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة- تسمى مارية فيها تصاوير- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) (3).
__________
(1) الفتح ( 8/669 ) .
(2) انظر: تفسير الطبري ( 29/62 ) للإمام الطبري، معالم التنزيل ( 8/ 232-233 ) للإمام الحسين بن مسعود البغوي تحقيق وتخريج محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش طبع دار طيبة بالرياض الطبعة الرابعة ( 1417هـ-1997م ) ، زاد المسير ( 8/373 ) لأبي الفرج ابن الجوزي طبع المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الثالثة (1404هـ-1984م) والكشاف ( 4/414 ) للشيخ محمود بن عمر الزمخشري طبع دار الكتاب العربي ببيروت ( 1407هـ- 1987م ) ،والمحرر الوجيز ( 15/122 ) لأبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي تحقيق الرحالي الفاروق وآخرين ، الطبعة الأولى قطر سنة ( 1401هـ-1981م ) . وتفسير القرطبي ( 18/307-310 ) وتفسير القرآن العظيم ( 8/262 ) لابن كثير . الدر المنثور ( 8/293-295 ) لعبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي ( دار الفكر – بيروت ط الأولى سنه 1403هـ- 1983م ) . وفتح القدير ( 5/300 ) للشوكاني 0
(3) الجامع لأحكام القرآن ( 18/ 308 ) ، والحديث تقدم تخريجه(ص 18 ).(76/167)
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (وقال غير واحد من السلف: " كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح - عليه السلام -، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: عن عائشة - رضي الله عنها – ثم ذكر الحديث السابق في كلام القرطبي – ثم قال: " فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور "وهذا كان سبب عبادة اللات، فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: { أفرأيتم اللات والعزى } (1) قال:(كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره) (2)،وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (كان يلت السويق للحاج) (3) فقد رأيت أن سبب عبادة ودّ، ويغوث، ويعوق،ونسر، واللات، إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها، كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال شيخنا (4): وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر،أو فيما دونه من الشرك،فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبةٍ أو حجر، ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسَم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد
__________
(1) سورة النجم آية ( 19 ).
(2) سيأتي تخريج الأثرين لاحقاً .
(3) سيأتي تخريجه (ص 64 ) .
(4) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .(76/168)
المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وألا يقصد المصلي ما قصده المشركون سداً للذريعة)(1).
وبهذه الآيات المحكمة والأحاديث الصحيحة الصريحة، وما علق به عليها أهل العلم؛ تعلم أن القبورية هي أساس الوثنية،وأن الوثنية هي الوعاء الذي أحتوى على الشرك بالله عز وجل وجسَّدَه.
المبحث الثاني
القبورية عند اليهود والنصارى:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: القبورية عند اليهود:
لست بحاجة إلى الإطالة في إثبات قبورية اليهود، فقد أغنتننا الأحاديث المصرحة بذلك عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - والمخرجة في الصحيحين وغيرهما،ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (2) وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:في مرضه الذي مات فيه ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))(3).
فهذان الحديثان في الصحيحين - وسيأتي غيرهما في المطلب الثاني- قاطعان على قبورية اليهود، وأزيد أن اليهود ليسوا قبوريين فقط ولكنهم أيضاً ميالون إلى عبادة غير الله بشكل أوضح وأصرح، كما نقل ذلك عنهم القرآن وذلك في موضعين من قصة موسى - عليه السلام -.
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ( 1/184 ) لابن القيم .
(2) أخرجه البخاري ( 1/532 ) مع الفتح كتاب الصلاة باب " حدثنا أبو اليمان " ، ومسلم (5/12) مع النووي كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور0
(3) تقدم تخريجه (ص 17 )0(76/169)
الموضع الأول: بعد نجاتهم من ملاحقة فرعون وخروجهم من البحر وإهلاك الله لعدوهم وهي نعم عظيمة تستوجب شكر مسديها وإفراده بالعبادة وعدم الالتفات إلى غيره، لكن النفوس الدنيئة لا تكون نظرتها إلا إلى الأسفل دائماً،لذلك عندما مروا على القوم المشركين العاكفين على أصنامهم مالت نفوسهم إلى تقليدهم ومحاكاتهم في ذلك،قال تعالى: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين } (1)
وهذا في غاية الصراحة فهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً آخر كما أن أولئك لهم آلهة فهو طلب الشرك والاستعداد النفسي له.
الموضع الثاني: حينما ذهب موسى لميقات ربه وتركهم مع هارون فصنع لهم السامري العجل ودعاهم إلى عبادته، فبادروا إلى ذلك ولما يأبهوا لتحذير هارون من ذلك بل واجهوه بالتمرد وكادوا يقتلونه حينما وقف في طريقهم قال تعالى: { وما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربِّ لترضى. قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري. فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال ياقوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي. قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري. فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي. أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } (2).
__________
(1) 3 الأعراف ( 138-140 )0
(2) طه من ( 83 – 91 ) .(76/170)
وبهذا العرض اليسير تتضح قبورية اليهود وشركهم واتخاذهم الآلهة من دون الله.
المطلب الثاني: القبورية عند النصارى:
الأمة النصرانية أمة غالية فيمن تعظمه من الأنبياء والصالحين ولقد حملهم ذلك على تأليه المسيح وأمه وغيرهما من الأحبار والرهبان،وهذا صريحُ نصِّ القرآن،حيث يقول الله تعالى فيهم: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } (1).
وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم عليهم الحجة ببطلان ما هم عليه من عبادة غير الله فقال: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم } (2)، ثم أمره أن ينهاهم عن الغلو في الدين وتقليد سلفهم الغالين فيه؛ لأن الغلو هو سبب عبادتهم لغير الله فقال: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل } (3)، فمن غلوِّهم أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله،واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دونه وتلك العلة- التي هي الغلو -هي العلة المشتركة بين جميع المشركين.
ومن الغلو كذلك اتخاذهم قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمه ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، فأولئكِ شرار الخلق عند الله يوم القيامه)) (4)
__________
(1) التوبة ( 31 ) .
(2) المائدة ( 76 ) .
(3) المائدة ( 77 ) .
(4) تقدم تخريجه ( 18 ).(76/171)
وهذه الكنيسة التي رأتها أم حبيبة وأم سلمه هي قطعاً كنيسة نصارى فهذا إثبات قاطع لقبوريتهم وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاقتداء بهم في ذلك كما في حديث عائشة وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - قالا: (لما نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا) (1).
__________
(1) تقدم تخريجه ( 18 ) .(76/172)
وقد بيّن ابن كثير رحمه الله في تاريخه: أن تلك القبورية عند النصارى 0إنما حدثت فيهم بعد أن حرفوا دينهم، وقالوا بالتثليث، قال رحمه الله تعالى: (ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة؛حدثت فيهم الطامة العظمى، والبليّة الكبرى، واختلف البتاركة (1) الأربعة وجميع الاساقفة (2) والقساوسة (3) والشماسة (4) والرَهَابين (5) في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط، واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية، وهو المجمع الأول فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات فسموا "الملائكة"، ودحَضَ من عداهم وأبعدهم، وتفردتْ الفرقة التابعة لعبدالله بن أديوس الذي اثبت أن عيسى عبد من عباد الله،ورسول من رسله، فسكنوا البراري، والبوادي، وبنوا الصوامع (6)،والديارات (7)،
__________
(1) ويقال البطارقة جمع بطريق وهو رئيس رؤساء الأساقفة انظر : المعجم الوسيط ( 1/61 ) .
(2) جمع أسقف وهو رئيس من رؤساء النصارى فوق القسيس ودون المطران ، المصدر السابق ( 1/ 436 ) .
(3) جمع قس وهو رئيس من رؤساء النصارى بين الأسقف والشماس ، المصدر السابق ( 2/734 ) .
(4) جمع شماس من يقوم بالخدمة الكنيسة ومرتبته دون القسيس ، المصدر السابق ( 1/ 494 ) .
(5) جمع راهب المتعبد في صومعة من النصارى يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذها زاهداً فيها معتزلاً أهلها. ، المصدر السابق ( 1/ 376 ) .
(6) جمع صومعة و صومع وهو بيت العبادة عند النصارى ، المصدر السابق (1/ 523 ) .
(7) جمع دير وهو دار الرهبان ، المعجم الوسيط ( 1/ 307 ) .(76/173)
والقلايات (1)،وقنعوا بالعيش الزهيد، ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل، وبنت الملائكة (2) الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ماكان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي(3) (4).
ثم قال: رحمه الله تحت عنوان " بناء بيت لحم والقمامة (5) " (وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح وبنت أمه هيلانة القمامة يعني على قبر المصلوب وهم يسلّمون لليهود أنه المسيح).(6)
وبما مر من نصوص قرآنية ونبوية وتاريخية تتضح قبورية النصارى وغلوّهم في أنبيائهم وصالحيهم حتى عبدوهم من دون الله تعالى.
المبحث الثالث
قبورية اليونان
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: قبورية الأمة اليونانية:
__________
(1) القلايات جمع قلاية وهي الصومعة . المصدر السابق ( 2/757 )
(2) أي الفرقة التي سميت الملائكة .
(3) الجدي نجم قريب من القطب تعرف به القبلة ، المصدر السابق ( 1/ 112 ) .
(4) البداية والنهاية ( 2/101 ) .
(5) وهي التي يطلق عليها الناس اليوم كنيسة القيامة 0
(6) المصدر السابق ( 2/ 101 ) .(76/174)
الأمة اليونانية أمة عظيمة سادت وظهرت على مسرح التاريخ القديم قروناً من الزمن، وقد أنشأت حضارة متميزة وظهر فيها علوم ومعارف وفلسفة وصلت إلى الأمم الأخرى، وتناقلتها الأجيال إلى العصر الحاضر، وهذا لا مراء فيه، ولكن مع كل ذلك فقد كانت هذه الأمة أمة وثنية قبورية تُألِّه كل ما أعجبت به من مظاهر الكون، وعباقرة وأبطال البشر،بل وجميلات النساء!فهناك (آلهة السماء) و(آلهة الأرض) و(آلهة الخصب) و(الآلهة الحيوانية) و(آلهة ما تحت الأرض) إلى آخر القائمة، وقد ذكر المؤرخون كيف تنشأ تلك الآلهة وكيف تعبد (1) وكانت كذلك أمة قبورية تقدس قبور موتاها، فقد كان الموتى في العصور المبكرة من تاريخ اليونان يُعْتَبرون أرواحاً قادرة على أن تفعل للناس الخير والشر وتسترضى بالقرابين والصلاة (2). وكان اليونان في عصرهم الزاهر يرهبون هذه الأشباح الغامضة أكثر مما يحبونها، وكانوا يسترضونها بطقوس ومراسم يقصد بها إبعادها واتقاء شرها (3)، وكان الإله في أول الأمر من الأسلاف والأبطال الموتى، كما كان المعبد في الأصل قبراً، ولا تزال الكنيسة حتى الآن في معظم البلاد مكاناً تحفظ فيه آثار الموتى القديسين (4).
هذه هي أمة اليونان وتلك آلهتها كانت في بدايتها أمواتاً من ذوي التميز في جوانب مختلفة من الحياة،تدرج بهم الشيطان حتى صيروهم آلهة من دون الله، وقبور أولئك الموتى هي الأصل في المعابد التي تتربع فيها تلك الآلهة.
المطلب الثاني: قبورية فلاسفة اليونان:
__________
(1) انظر : الفكر الإغريقي تأليف محمد الخطيب ( دمشق ، الطبعة الأولى عام ( 1999م ) ، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ص ( 28 – 52 ) .
(2) المصدر السابق ص( 35-36 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 35-36 ) .
(4) المصدر السابق ص ( 36 ) 0(76/175)
في تلك الأمة وذلك الجو نشأ فلاسفة اليونان على الوثنية والقبورية، وبقي ذلك هو اعتقادهم وتفكيرهم ولم يغنِهم ما وصلوا إليه في مختلف العلوم- التي أصبحوا فيها أساتذة العالم- لم تغنهم تلك العلوم، ولم ترتفع بتفكيرهم في الجانب الإلهي من حياتهم،بل ظلوا يتخبطون في ظلمات الجهل ومسالك الضلال، ذلك أن هذا الجانب ليس بمقدور العقول تصوّره التصوّر الصحيح، والوصول إلى حقيقته، وإنما مصدره هو الوحي الذي ينزله الله على رسله،فيبلغونه للناس ويقودونهم به إلى معرفة ربهم وما يجب عليهم، وما يلتحق بذلك من أركان الإيمان ومقوماته، وحيث إن أولئك الفلاسفة مصدرهم في بحثهم عن الحقيقة هو العقل، والعقل قاصر عن إدراكها فقد تاهوا في أودية الضلال وما وصلوا إلا إلى نظريات متناقضة، وقضايا فجّة غير ناضجة، وبقي ما تربَّوا عليه من الوثنية والقبورية؛ هو الذي يوجه تفكيرهم ويستحوذ على أعمالهم وطقوسهم، وقد شهد المتلقفون لفلسفة اليونان من علماء المسلمين على قدواتهم من فلاسفة اليونان بالقبورية وأبانوا كيف يتصور أولئك الفلاسفة إمداد أرواح الموتى لمن دعاهم وتشفع بهم.
يقول الفخر الرازي في كتابه المطالب العالية: (إن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها، إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات، وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض) (1).
وبما أن القوم فلاسفة وليسوا مقلدين لما كان عليه الآباء والأجداد فقد خرَّجوا تعلقهم بالقبور تخريجاً علمياً مبنياً على نظريتهم العامة في الإلهيات، حيث يؤمنون بنظرية الفيض أي أن " العقل الفعال " الذي هو موازٍ للإله يفيض على من دونه من المخلوقات.
__________
(1) المطالب العالية ( 7-228 ) بواسطة جهود الحنفية في إبطال عقائد القبورية ( 1-416 ) للدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني ، دار الصميعي الرياض ، الطبعة الأولى ( 1416هـ - 1996 م ) .(76/176)
وبما أن أرواح الموتى القديسين هي كذلك آلهة صغيرة حسب العقيدة اليونانية العامة فإن تلك الأرواح تفيض على من زارها طالباً منها الشفاعة، وذلك بحسب يقين الزائر وفنائه في المزور واستعداد نفسه لتقبل ذلك الفيض، وهي بدورها تتلقى الفيض من الإله الأعظم، وقد مثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابدّ فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة (1).
المطلب الثالث: اِتَّباع قبورية المسلمين لفلاسفة اليونان في علة زيارة القبور:
__________
(1) انظر الاستغاثة في الرد على البكر ي (2/410-411 ) لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ، تحقيق عبد الله بن دجين السهيلي ، دار الوطن ، الطبعة الأولى ( 1417 هـ - 1997م )(76/177)
إن معظم ما يأتيه القبورية وما يعتقدونه تجاه القبور وأهلها وإنما هو اتباع للأمم السابقة، تصديقاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذات أنواط حيث طلب بعض أصحابه أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط فقال لهم: ((الله أكبر! إنها السنن،قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم ءالهه قال: إنكم قوم تجهلون } (1) لتركبن سنن من كان قبلكم)) (2)، وجاء من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن؟)) (3)، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع،قيل: يا رسول الله،كفارس والروم؟ قال: مَنْ الناس إلا أولئك)) (4).
ويظهر من سبب ورود الحديث الأول أن بعضاً من هذه الأمة ستتبع اليهود فيما انحرفوا فيه من التفاتهم إلى التعلق بالمخلوقين،وهذا هو أساس القبورية.
كما يظهر من الحديث الثالث أن اتباع الأمم السابقة لا يقتصر على اليهود والنصارى وإنما يتعداه إلى سائر فارس والروم،ومن الروم اليونان الذين نُقِلت فلسفتهم إلى الأمة الإسلامية فأفسدت عقائد قوم من المسلمين.
وممن تلقى عقائد الفلاسفة وألبسها رداء الإسلام ونشرها في الأمة المحمدية قبورية المسلمين من فلاسفة وباطنية شيعية وصوفية.
__________
(1) ا لأعراف ( 138 ) .
(2) الترمذي في الفتن باب ماجاء لتركبن سنن من كان قبلكم ( 4/475 ) . وأحمد ( 5/218 ) .
(3) تقدم تخريجه ص ( 47 )
(4) تقدم تخريجه ص ( 47 ).(76/178)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو يتكلم عن الوسائل المشروعة وغيرها: " الوجه الثاني أن يدعو له الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذه أيضاً مما يتوسل به إلى الله تعالى، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب، ولا مستحب، ولا الرسول دعا له، فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه، ولكن بعض الناس الذين دخلوا في دين الصابئة والمشركين،ظنوا شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة، وانعكس شعاعها على حائط أو غيره؛ حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة،قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم،وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه.
وقالوا أن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كابن سيناء وأبي حامد وغيرهم) (1).
__________
(1) الاستغاثة (2/411-412 ) .(76/179)
قلت: هذا فرع من فروع نظرية الفيض التي يعتقدها الفلاسفة،وطبيعي على هذا الاعتقاد أن يكون هناك توجه إلى النفوس الفاضلة لتكون واسطة بين المستشفع والخالق المعطي سبحانه، تلك الواسطة هي ” الشافع “ وقد قرر ذلك من أتباع الفلاسفة قوم كما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - منهم أبو حامد الغزالي وذلك في كتابه " المظنون به على غير أهله " والفخر الرازي في كتابه "المطالب العلية" ونقل عن الاثنين أحد قبورية حضرموت وهو عبد الرحمن بن محمد العيدروس في كتابه " بذل المجهود في خدمة ضريح نبي الله هود "وجعل ذلك هو علة زيارة القبور، وسيأتي نص كلام الغزالي منقولاً من كتابه، وكلام الرازي عن العيدروس في مطلب علة الزيارة عند القبورية (1)، وبهذا يتضح أن زيارات القبورية لم تكن هي الزيارات الشرعية التي علتها الاعتبار والاتعاض بحال الموتى ورقة القلب وتذكر الآخرة والدعاء للأموات والسلام، عليهم وإنما لاستمداد من الأموات على طريقة الفلاسفة.
وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر، وحتى لا يقول قائل إن ذلك من أتباع الفلاسفة في علة الزيارة إنما هو مذهب مهجور لدى قبورية اليوم لا وجود له عندهم 0
أقول له ولكل من يدافع عنهم:انظر إلى محمد علوي مالكي -باعث القبورية في مكة من جديد ووارث أحمد زيني دحلان ويوسف النبهاني- انظر إليه وهو يحكي أحوال الزائرين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (تختلف أحوال الزائرين في استفادتهم من زيارتهم واستمدادهم من الله بواسطة نبيهم المصطفى وحبيبهم المجتبى - صلى الله عليه وسلم - وبحسب استعدادهم في تلقي الفيوضات الإلهية والواردات الربانية بواسطة الحضرة المحمدية،) (2)0
__________
(1) 2انظر ص ( 324 )
(2) شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد (124)السيد محمد بن السيد علوي بن السيد عباس المالكي الحسني،ط الأولى(1411 هـ-1991م ).(76/180)
ويقول في موطن آخر: (اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد أول متلق لفيضك الأول. صلاة نشهدك بها من مرآته،ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته، قائمين لك وله بالأدب الوافر،مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن والظاهر) (1)0
وأما تشبههم باليهود والنصارى في البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها فظاهر ليس به خفاء.
المبحث الرابع
القبورية عند العرب قبل الإسلام وصلتها بالوثنية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: إثبات أن العرب كانوا على ملة إبراهيم - عليه السلام - الحنيفية السمحة:
كانت العرب وبالأخص عرب الحجاز على ملة أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ملة التوحيد الحنيفية السمحة، برآء من الشرك وأهله، كما حكى الله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - مثنياً عليه وعلى أتباعه بذلك: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } (2) وقال تعالى مبرِئاً إبراهيم والذين معه من الشرك،ومقدِّمَهم لنا قدوةً، وجاعلاً لنا الأسوة فيهم { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إناَّ برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } (3)..
وقد ذكّر الله العرب بهذا الإرث العظيم الذي ورثوه من أبيهم إبراهيم- عليه السلام - فقال: { ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير } (4)
__________
(1) المصدر السابق ( 117 ) .
(2) النحل ( 120 – 123 ) .
(3) الممتحنة ( 4 ) .
(4) الحج ( 78 ) .(76/181)
وقد بقي العرب على تلك الملة قروناً، حتى ظهر عمرو بن لحي الخزاعي فغيرها، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعرضت عليَّ النار فلما وجدت سفعتها تأخرت عنها، وأكثر من رأيت فيها النساء إنِ ائتمن أفشين،وإن سألن ألحفن، وإذا سئلن بخلن، وإذا أعطين لم يشكرن،ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قُصبه في النار وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي، فقال معبد: يا رسول أتخشى عليَّ من شَبَهِه فإنه والدي، فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام)) (1)،وهناك ألفاظ أخرى بنفس المعنى في الصحيحين وغيرهما (2).
وكان سبب انحرافهم ووقوعهم في الشرك هو الغلو في الصالحين كما سيأتي في قصة عبادتهم للَّات أو للأماكن المقدسة كما في قصة نقلهم حجارة الحرم والطواف بها حيثما حلّوا.
المطلب الثاني: القبورية هي أصل الوثنية عند العرب:
كما هو الشأن -بعد كل رسالة من الرسالات السابقة- تأتي بعدها فترة ينقص العلم ويثبت الجهل، ويجد الشيطان سبيلاً إلى نفوس الناس وعقولهم، فينحرف بهم عن الصراط المستقيم، وقد مرّ معنا أن دين إبراهيم ظل قائماً حتى ظهور عمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من غيّره وحرَف العرب عنه إلى عبادة الأصنام، وكان سبب وقوعهم في الوثنية هو الغلو في الصالحين منهم وتعظيم قبورهم حتى اتخذوها أصناماً،قال ابن عباس في قوله تعالى { اللات والعزى } (3): (كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج) (4).
والذي أمرهم بذلك هو عمرو بن لحي.
__________
(1) الحاكم في المستدرك ( 4/605 ) وقال :حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، طبع دار المعرفةبيروت بإشراف د. يوسف المرعشلي .
(2) انظر: السلسة الصحيحة للشيخ الألباني ( 4/ 242-244 ) .
(3) النجم (19)0
(4) البخاري كتاب التفسير باب ( أفرأيتم اللات والعزى ) ( 8/611 ) مع الفتح .(76/182)
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث -راداً على من زعم أن اللات هو عمرو بن لحي: (والصحيح أن اللات غير عمرو بن لحي، فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً، وتقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام، وهو يؤيد هذه الرواية) (1).
فهذا وجه من أوجه القبورية المؤدية إلى الوثنية عند العرب،وهناك وجه آخر وهو تعظيم آثار الصالحين ومنازلهم وبيوت عباداتهم تعظيماً زائداً على الحد المشروع.
قال ابن هشام في سيرته: قال: ابن إسحاق: (ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم -حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد- إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم،فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة،حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم،حتى خلف الخلوف ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات) (2)
فهذا السبب كما ترى كان ناتجاً عن تعظيم آثار إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فالحرم شرَّفه الله تعالى بهما حيث بَنَيَا فيه بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فكان تعظيم المكان ناتج عن تعظيم من اشتهر به وهو إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ذلك الغلو فيهما وفي البيت الذي ينسب إليهما كان سبباً في ضلال طوائف من العرب والزج بهم في الوثنية والشرك.
المطلب الثالث: انتشار الأصنام في جزيرة العرب:
__________
(1) الفتح ( 8/ 612 ) .
(2) سيرة ابن هشام ( 1/77 )طبع مؤسسة علوم القرآن بدون تاريخ تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبدالحفيظ شلبي(76/183)
بعد تلك البدايات البسيطة والبدائية أخذ إبليس يرقّي العرب في سلّم الوثنية حتى أصبحت ديناً تدين به، له شعائره (1) ومشاعره (2) وطقوسه (3) وعقائده وتنوعت العبادات من طواف وتمسح ودعاء واستشفاع واستقسام (4) بالأزلام بين يدي تلك الأصنام إلى نذر الأموال ونحر النعم وغير ذلك، كما انتشرت الأصنام في الجزيرة العربية انتشار النار في الهشيم بدءاً ببيت الله الذي أنشئ على التوحيد ولأجل التوحيد،حيث يقول الله تعالى عنه: { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } (5).
__________
(1) جمع شعيرة مناسك العبادة ومعالمها انظر القاموس المحيط ص ( 535 ) .
(2) جمع مشعر موطن العبادة . المصدر السابق ص ( 535 )
(3) جمع طقس وهو نظام الخدمة الدينية عند النصارى .انظر : المعجم الوسيط ( 2/ 561 ) .
(4) قال ابن جرير(6/49 ) : ( وأن تستقسموا بالأزلام " وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام وهو استفعلت من القسم ، قسم الرزق والحاجات وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك أجال القداح وهي الأزلام وكانت قداحاً مكتوباً على بعضها "نهاني ربي" وعلى بعضها "أمرني ربي" فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه أمرني ربي مضى لذلك لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك وإن خرج الذي عليه "نهاني ربي" كف عن المعنى لذلك وأمسك ،وأما الأزلام فإن واحدها زلم ويقال زلم وهي القداح التي وصفنا أمرها ) .
(5) الحج ( 26 ) .(76/184)
هذا البيت كان فيه أكبر تجمع للأصنام في جزيرة العرب حيث كان عدد الأصنام -التي كسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة في جوف الكعبة وحولها- ثلاثمائة وستين صنماً (1)،كما كان في جوف الكعبة أشهر أصنام قريش على الإطلاق (هبل) (2)،ولم تبق قبيلة من قبائل العرب إلا ولها صنمها الذي يعرف بها وتعرف به وتعبّد له أبناءها (3)،بل تجاوز الأمر إلى أن أصبح لكل بيت صنمه الخاص به،(4) وحتى المسافر لا يقيم أثناء سفره في بقعة إلا تخيّر من أحجارها ما يعجبه فينصبه إلهاً له.(5)
ولم يكتف الشيطان بذلك بل دلّهم على أصنام قوم نوح التي كانت مطمورة في رمال ساحل جدّة فاستخرجها مؤسس الوثنية في الجزيرة العربية عمرو بن لحي الخزاعي وفرقها على العرب فعظمت وعبدت فيهم (6).
وبذلك انطمست ملة إبراهيم وغاب التوحيد وحل الشرك محله،حتى صارت الدعوة إلى إخلاص العبادة لله تعالى من العجائب لديهم حينما صدع بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا -كما حكاه القرآن -: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد،ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق } (7).
المطلب الرابع: الحنفاء من العرب:
__________
(1) البخاري كتاب التفسير سورة الإسراء باب ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ( 8 / 400 ) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - .
(2) الأصنام لابن الكلبي ص ( 27 ) .
(3) انظر : الأصنام ص( 13 ) و( 16 ) و( 18 ) الدار القومية بالقاهرة نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة(1343هـ-1924م) .
(4) المصدر السابق ص ( 33 ) .
(5) االمصدر السابق ص ( 33 ) .
(6) أصله في البخاري كتاب التفسير سورة نوح باب " ود اً ولا سواعاً ولايغوث ويعوق " وانظر : ابن هشام ( 1/78-80 ).
(7) سورة ص ( 5- 7 ) .(76/185)
ذلك هو الجوّ المظلم الذي وصلت إليه الأمة العربية قبل البعثة وهو الغالب عليها، ولكن بقي بصيص ضئيل من النور الخافت الذي نجا من أطباق الظلمة، ولكنه لم يهدِ أصحابه صراطاً مستقيماً، ولم يسلك بهم سبيلاً قويماً (1)، وقد تمثّل ذلك في بقاء مجموعة صغيرة جداً متفرقة في أنحاء الجزيرة العربية، وربما كان بمكة منهم نصيب أوفر، أولئك هم من سُمّوا بالحنفاء نسبة إلى الحنيفية ملة إبراهيم، وتمثل تمسكهم بالحنيفية في رفضهم للوثنية من حيث عبادة الأوثان وتقريب القرابين لها،واعتقاد نفعها وضرّها وشفاعتها كما هو شأن الوثنيين، هداهم إلى ذلك فطرتهم التي مَنَّ الله عليهم ببقائها صافية نقية من كَدُورات الوثنية، غير أنهم لم يهتدوا إلى مراد الله تعالى وما يجب له من العبادة،حتى لقد نقل أهل السير عن زيد بن عمرو بن نقيل قوله: (اللهم إني لو أعلم أيّ الوجوه إليك أحب عبدتك به ولكني لا أعلمه) (2) ولذلك تفرقوا في البلاد يبحثون عن دين إبراهيم، فمنهم من دخل النصرانية كورقة بن نوفل، ومنهم من لم يدخل أيّ دين وبقي على ما هو عليه كزيد بن عمرو بن نفيل.
__________
(1) لأن الهداية التامة لا تكون إلا بالوحي لا غير .
(2) ابن هشام ( 1/225 ) عن ابن إسحاق قال حدثني : هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء ، وهذا حديث حسن لمكان ابن إسحاق وأما بقية أصحاب السند فمن أصح الأسانيد .(76/186)
وقد ذكرت أسماء بعض هؤلاء فمنهم: قس بن ساعدة الأيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وأبو قيس بن أبى أنس، وخالد بن سنان، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمى، وكعب بن لؤي بن غالب أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) وقد ذكر غيرهم أيضاً (2)، غير أن من هؤلاء الذين ذكروا من تنصر، وكل هؤلاء لم يدركوا الإسلام إلا ورقة بن نوفل حيث أدرك الفترة الأولى من الوحي ففرح واستبشر وتمنى أن يعيش ليرى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره ولكنه مات في فترة الوحي. (3)
الفصل الرابع
نشأة القبورية في اليمن
وفيه أربعة مباحث
المبحث الأول:
حال اليمن قبل نشوء القبورية
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: إسلام أهل اليمن:
من مناقب اليمنيين التي سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور مبادرتهم إلى اعتناق الإسلام بشكل لم يشابههم فيه أحد من قبائل وأقطار الجزيرة العربية الأخرى، وقد تعددت التأويلات لسبب تلك المسارعة لاعتناق الإسلام من قبل اليمنيين، وأقوى تأويل - والله أعلم - هو ما جعل الله في نفوسهم من الإيمان، وفي قلوبهم من الرقة ومحبة الخير، وما ادَّخره الله لهم بمحض فضله من إنعام وفضل.
__________
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ( دراسة وتحليل ) ص ( 72 ) للدكتور مهدي رزق الله أحمد الأستاذ المشارك بكلية التربية جامعة الملك سعود الطبعة الأولى ، ( 1412هـ - 1992م ) نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض .
(2) نفس المصدر ( 77 ) .
(3) انظر خبره في البخاري كتاب بدء الوحي ( 1/ 22 ) مع الفتح .(76/187)
ودليل ذلك الأحاديث المستفيضة في فضائل أهل اليمن (1)، كما كان لقرب اليمن من مكة مهبط الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وموضع بعثته علاقة بذلك، وإن كان هذا لم ينفع بعض القبائل التي كانت أقرب إلى مكة من اليمن، وبحسب طبيعة البشر في الاختلاط والتعايش والتفاعل كان وصول أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وتأثر أهلها به في وقت مبكر من حياة الدعوة الإسلامية، وقد كان الوافدون من اليمنيين إلى مكة لأغراض مختلفة هم الرواد الذين رجعوا إلى قومهم مبشرين بهذا الدين ودعاة إليه، بعد أن أسلموا وعرفوا شيئاً من الإسلام على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن أشهر أولئك:
ضماد بن ثعلبة الأزدي - رضي الله عنه - (2)
2) الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - (3).
عمرو بن أمية الدوسي - رضي الله عنه - (4).
__________
(1) منها حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال : ( أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن فقال : ( الإيمان يمان هاهنا ، ألا إن القسوة وغلو القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر ) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ، ومسلم في كتاب الإيمان ،باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه . وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية ) رواه البخاري في كتاب المغازي ، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن . ومسلم في كتاب الإيمان ، باب فضائل أهل اليمن ، وغيرها كثير .
(2) الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة ( 3/1751 ) تأليف الدكتور عبدالله الحميري ، طبع مكتبة الرشد الرياض ، الطبعة الأولى ( 1421 هـ – 2000 م )
(3) المصدر السابق ( 3/1752 )
(4) المصدر السابق ( 3/1753 )(76/188)
قيس بن نمط بن قيس بن مالك الهمداني - رضي الله عنه - (1).
عبد الله بن قيس بن أم غزال الأرحبي - رضي الله عنه - (2).
ذباب بن الحارث بن عمرو السعدي - رضي الله عنه -(3).
وكان في إسلام هؤلاء ورجوعهم أثر في انتشار الإسلام في قومهم، وتهيئتهم لقبوله.
وممن وفد عليه - صلى الله عليه وسلم - وتوطَّن المدينة مهاجراً أبو موسى الأشعري ورفقته الأشعريون (4) وأبو هريرة - رضي الله عنهم -(5) وغيرهم.
وفي عام الوفود بشَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقدوم وفود اليمن، وبالفعل توالت تلك الوفود وكانت من أفضل الوفود العربية، فسُرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا لها، وعادت مؤمنة صادقة، فنشرت الإيمان والإسلام في ربوع اليمن.
المطلب الثاني رسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن:
ولما ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يتمتع به اليمنيون من نفوس طيبة قابلة للإيمان والإسلام، وتأكد لديه صدق توجه اليمنيين نحو دين الله، وأن الإسلام قد أصبح منتشراً فيهم، أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يعمق مفاهيم الإسلام في نفوسهم، وينشر تعاليمه بينهم، ويضع لهم من يعلمهم ويرشدهم ويحكم بينهم بشرع الله ويسوسهم بنظامه الخالد، فأرسل رسله معلمين ودعاة وحكاما ً، فأحسن اليمنيون وفادتهم، وأكرموا نزلهم، وأخذوا عنهم دين الله، وعملوا به، وتحاكموا إليه.
وكان من أشهر من أرسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن معاذ بن جبل- رضي الله عنه -، اليمن الأعلى بما في ذلك الجند(6)،وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -وكان عاملاً على زبيد وعدن
وساحل اليمن كله (7).
__________
(1) المصدر السابق ( 3/1754 )
(2) المصدر السابق ( 3/1754 )
(3) المصدر السابق ( 3/1756 )
(4) المصدر السابق (3/1768-1771 ) .
(5) المصدر السابق (3/1763 ) .
(6) فتح الباري (8/61).
(7) الحديث والمحدثون ( 1/385-386 ) .(76/189)
ومهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ طريقه، وكشف له حقيقة الجهة التي وجهه إليها، وزوّده بأروع التوجيهات والوصايا فقال: ((إنَّك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذ عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوقَّ كرائم أموال الناس)) (1).
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - خص معاذاً بهذا دون أبي موسى؛ لأن أبا موسى من أهل البلد، ويعرف طبيعتها وطبيعة أهلها، ثم وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً وأبا موسى معاً فقال: ((بشِّرا،ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)) (2)، فخرجا مستلهمَين هذه الوصايا، ناصحين مخلصين لمن أُرسِلا إليهم، واتجه كل منهما إلى عمله،وكانا يتزاوران ويتعهد أحدهما الآخر.
فدخل في الإسلام على أيديهما من لم يكن قد أسلم من قبل، وتعلم العلم منهما من كان مسلماً مؤمناً، وعمَّ الإيمان والعلم أرض الفقه والإيمان.
__________
(1) البخاري (6/96 – 97) كتاب التوحيد باب ما جاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله،ومسلم ( 1/196- 197 ) مع شرح النووي باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(2) البخاري (3/1104 ) كتاب الجهاد باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه ، ومسلم ( 3/1359 ) كتاب الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير .(76/190)
كما أرسل رسلاً آخرين لأغراض مختلفة منهم: علي بن أبي طالب (1)، وخالد بن الوليد (2)، وجرير بن عبدالله البجلي (3)، وخالد بن سعيد بن العاص (4)، وطاهر بن أبي هالة (5)، ويعلى بن أمية (6)، وعمرو بن حزم (7)، وزياد بن لبيد البياضي (8)، وعكاشة بن ثور (9) - رضي الله عنهم - أجمعين، وكان لهم أعظم الأثر على اليمنيين، وقد لقوا منهم المحبة والوفاء والتعاون الذي يعزّ مثاله.
المطلب الثالث: مذاهب اليمنيين منذ فجر الإسلام حتى قيام الدولة الصليحية:
__________
(1) الحديث والمحدثون (3/1724) .
(2) المصدر السابق ( 3/ 1722) .
(3) ا المصدر السابق (3/1729).
(4) المصدر السابق( 3/1729 )
(5) المصدر السابق( 3/1729 )
(6) المصدر السابق ( 3/1735 )
(7) المصدر السابق ( 3/1733 )
(8) تاريخ حضرموت للحامد ( 1/135 )
(9) الحديث والمحدثون ( 3/1732 )(76/191)
وصل الإسلام إلى اليمن نقياً صافياً لم تشُبْه أي شائبة، فلم يدخل على يد مذهب فقهي أو فرقة عقائدية أو طريقة صوفية كما حصل في بعض البلاد الإسلامية، وإنما دخل على أيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سادات أهل السنة وقدوتهم الذين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى ما كانوا عليه عند الاختلاف (1)، وبقي منهجهم وسبيلهم محفوظاً بحفظ الله في هذا البلد المبارك إلى اليوم، وإن زاحمه غيره من المذاهب والمناهج في بعض الفترات، وإن حاولت السلطات المتنفذة في كثير من الأحيان طمسه وإحلال مذاهبها محله إلا أنها لم تفلح في ذلك.
التشيع:
ومن المذاهب التي وصلت إلى اليمن في وقت مبكر التشيع؛ وذلك أن أهل اليمن قد كان موقفهم مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - واضحاً ومعروفاً، فهم أقوى القبائل التي كانت معه وأكثرها عدداً (2)، ولاشك أن ذلك سوف يعكس نفسه على قبائلهم وأهاليهم الباقين في اليمن؛ ولذلك تحدثت مصادر التاريخ اليمنية عن تعسف بسر بن أرطأة (3) والي معاوية على اليمن،وشدته في معاملة بعض القبائل اليمنية، وبالخصوص قبيلة همدان التي كانت من أكثر القبائل مناصرة لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - حتى نسبوا إليه ذلك البيت الذائع:
__________
(1) وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه أبو داود ( 2/611 ) ،و الترمذي ( 5/44 ) ،وابن ماجه ( 1/15 ) وقال الترمذي :هذا حديث حسن صحيح ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي ( 2/241 ).
(2) 2 الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ص ( 17 ) .
(3) بسر بن أرطأة ( ت 86 ) ، انظر ترجمته : تاريخ بغداد ( 1/210 ) ، والسير ( 3/409 ) .(76/192)
فلو كنت بواباً على باب جنة …… لقلت لهمدان ادخلوا بسلام (1)
فالتشيع في اليمن لا يستطيع أحد إنكاره، ولكن أي فرق الشيعة كانت في اليمن في ذلك الوقت؟ يتضح مما مرّ في بحث نشأة الشيعة أن الفرق الشيعية لم تتميز عن بعضها إلا في وقت متأخر، ولذا فإنني أرجح أن التشيع الذي كان موجوداً في اليمن قبل وفود الزيدية والإسماعيلية إنما كان التشيع السالم من الغلو كما سبق وصفه.
نعم هناك إشارة إلى وجود شيعة اثني عشرية في اليمن في حوالي النصف الثاني من القرن الثالث، وذلك عندما ذكر المؤرخون علي بن الفضل الجدني، والذي أصبح زعيم القرامطة في اليمن، فقد ذكروا أنه كان شيعياً اثني عشرياً، وأنه حجّ ثم زار قبر الحسين بعد الحج، وهناك التقى بميمون القداح(2)، كما قيل: إن ابن الفضل أخذ ذلك المذهب في عدن من قوم من الاثني عشرية، لقيهم هناك (3).
قلت: إن صح هذا فالاحتمال بوجود فئة صغيرة في عدن وارد ولم تشتهر، أو يعطها المؤرخون اهتماماً، كما أن هناك احتمالاً آخرَ، وهو أن أولئك القوم كانوا من التجار الذين ينزلون عدن لفترة ثم يغادرونها، وماعدا ذلك فإنه لم يرد تفصيل عن أي فرقة شيعية واضحة في اليمن في تلك الفترة.
الدعوة الإسماعيلية:
أ- القرامطة:
__________
(1) الصليحيون في اليمن ص ( 18 ) .
(2) 1 كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ص ( 81 ) ، وقرة العيون في أخبار اليمن الميمون،لابن الديبع الشيباني تحقيق القاضي الأكوع الطبعة الثانية ( 1409 هـ ).
(3) انظر: لترجمة علي بن الفضل وتفصيل فتنته: كشف أسرار الباطنية ( 81-82و94- 114 ) ، وقرة العيون ص ( 131-151) ، وقد تحدث عن هذه الفتنة كل مؤرخي اليمن الذين أرّخوا لهذه الفترة .(76/193)
كان المذهب الإسماعيلي هو أول مذهب واضح متميز من مذاهب الشيعة وصل إلى اليمن، حيث وصل الداعيان: علي بن الفضل الجدني، والحسن بن فرج بن حوشب (1) إلى ميناء غلافقة سنة (268 هـ) مبعوثَين من قبل داعية الإسماعيلية ميمون القداح، غير أنهما لم يعلنا الدعوة إلاّ سنة (270هـ)، وكانت دعوتهما في غاية السرية والحيطة والحذر، ثم أعلن الثورة علي بن الفضل وكشف عن وجهه الحقيقي، وفعل ما هو مشهور في تاريخ اليمن مما ليس هنا محل تفصيله إذ لا يتعلق بموضوعنا، غير أن المهم أن علي بن الفضل قد سلك طريق القرامطة أصحاب البحرين، وكشف عما يعتقده وفعل ما أمْلته عليه نزواته وأحبه هواه، وبذلك كان أمَدُ دعوته قصيراً، وإن كان شرها مستطيراً، ولم يقم أحد بدعوته بعد موته والقضاء على دولته (2).
ب _ العبيديون (الفاطميون):
__________
(1) أبو القاسم الحسن بن حوشب،المشهور بمنصور اليمن توفي سنة(302هـ)انظر أخباره:افتتاح الدعوة ص (16–37 ) للقاضي النعمان بن محمد بن حيون المغربي دار الأضواء بيروت الطبعة الأولى (1416هـ -1996 م ) ، العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك ص ( 37 ) تأليف شمس الدين علي بن الحسين الخزرجي الأنصاري دار الفكر دمشق ط الثانية مصورة (1401هـ -1981م ).
(2) الصليحيون في اليمن ص ( 48) .(76/194)
أما الحسن بن حوشب المشهور بـ " بمنصور اليمن " فقد بقي محافظاً على تعليمات ميمون القداح، ملتزماً بالانتماء إليه وإلى ذريته التي ملكت المغرب العربي، وأنشأت هناك الدولة الإسماعيلية الباطنية، وكان على اتصال مستمر معهم (1)، إلا أن دولته لم تدم طويلاًً إذ قُضي عليها ككيان سياسي في حياة علي بن الفضل، واضطر منصور إلى التخفِّي والبعد عن المعترك السياسي حتى مات سنة (302 هـ) (2)، ثم عادت الدعوة الإسماعيلية إلى دور السِّتر والسرية، وقد رتب لها الدعاة الذين يقومون بها، ويبثون تعاليمها، ويحافظون على أتباعها، ويواصلون العلاقة مع أصلهم في المغرب ثم في مصر بطرقهم الذكية المعروفة وذلك من سنة (303-439هـ)، حتى عادوا إلى الظهور حين أمكنتهم الظروف، وتهيأت لهم الأسباب على يد علي بن محمد الصليحي كما سيأتي (3).
هذه هي الفترة الأولى للدعوة الإسماعيلية العلنية في اليمن، وهي لم يكن لها تأثير ظاهر في مسألة القبورية حيث لم تتمكن من التفرغ لذلك، ولم يكن لها من النفوذ والقبول ما يمكِّنها من ذلك، بل عاش قادتها محارَبين ودعاتها مضطهدين، فلم يستطيعوا عمل شيء مما يتعلق القبورية، كما أن هذه الفرقة لم يكن لها مذهب ظاهر وشائع بين الناس كأي مذهب من المذاهب الأخرى، إلا أنها كانت أخطر من تلك المذاهب من حيث تماسك أصحابها والحفاظ على كيانهم رغم المحاربة الشاملة لهم من كافة فئات الشعب والحكام على حد سواء، مما كان له الأثر البالغ في تمكنهم من إعلان دولتهم مرة أخرى في أيام الصليحي، ثم العودة مرة أخرى إلى الستر منذ زوال دولة الصليحي إلى يوم الناس هذا.
الزيدية:
__________
(1) الصليحيون ص ( 43 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 47 ).
(3) المصدر السابق ص (49- 58 ) .(76/195)
الفرقة الشيعية الثانية التي دخلت اليمن في هذه الفترة هي الزيدية، وقد سبق التعريف بها في المبحث الأول من الفصل الثالث (1)،وكان وصول الزيدية واستقرارها في اليمن سنة أربع وثمانين ومائتين
هجرية (2)، وذلك بوصول الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين إلى صعدة للمرة الثانية وإقامة دولته هناك، ثم العمل على نشرها ومواصلة أبنائه وأحفاده وبعض الأئمة من أهل البيت المعتنقين للمذهب الزيدي، حيث استقرت دولة الأئمة الزيدية من ذلك التاريخ إلى أن أطيح بآخر إمام من أئمتها محمد البدر سنة (1382هـ- 1962 م) وذلك بقيام الثورة وتأسيس الجمهورية العربية اليمنية.
__________
(1) انظر ص ( 101 ).
(2) سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عليه السلام - ، وقيام الدولة الزيدية في اليمن ص ( 58 ) د. حسن خضيري أحمد ، طبع مكتبة مدبولي بالقاهرة الطبعة الأولى ( 1996 م).(76/196)
وهذه الفرقة قد سخَّرت دولتها وسلطانها لدعم عقائدها ومذاهبها،كما أنها قد طوَّعت فِقهها وأصولها لمآربها السياسية (1)، ولكنها برغم قِدَم دخولها وامتداد فترة حكمها بما لم تبلغه أي دولة أو فرقة أخرى، ظلَّت منزوية في مواطن نفوذها السياسي يمتد وجودها بامتداد سلطانها ظاهراً ورسمياً، وأما في الباطن فإن الناس يكرهون ما تفرضه عليهم، ويهللون فرحاً عندما ينزاح عنهم كابوس حكمهم؛ ليعلنوا ما في نفوسهم من عقائد ومبادئ، ويزيلون ما فرض من شعارات خاصة بالزيدية، فرضتها السلطة (2).
__________
(1) انظر: الإمامة وخطرها على وحدة اليمن ( 16 – 23 )، للأستاذ . محمد محمود الزبيري -رحمه الله - طبع دار الكلمة صنعاء بدون تاريخ ، وتيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري ( 168-172 )، للدكتور علي محمد زيد ،طبع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية صنعاء ، الطبعة الأولى ( 1997م ).
(2) والأمثلة في ذلك كثيرة وفي نواحي متعددة وانظر : مؤلفات الإمام عبدالله حمزة ستجد منها ما يؤكد ما نقول ، وانظر: كذلك هجر العلم للأكوع (2/1075-1078 ) .(76/197)
يقول القاضي محمد بن علي الأكوع (1) -رحمه الله تعالى -: (وكان مذهب الهادي قابعاً في صعدة، ومنكمشاً عليها وعلى بلادها وبعض ظاهر همدان، ولم يغزُ سنام نجد اليمن وبلاد حجة ومغارب حمير إلا في القرن الحادي عشر الهجري، عندما تمت سيطرة القواسم على اليمن،وتغلبت الأسرة الزيدية على ناصية الأمور، وخلت البلاد من التيارات السياسية التي تجابهها، كما قحط اليمن من قادته ورؤسائه، وأصبحوا قانعين بالتبعية؛ إذ فقدوا كل مقوِّمات الطموح والشعور بأنهم سادة البلاد) (2).
قلت: وذلك في عهد الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم الذي وحَّد اليمن الطبيعي، وفرض المذهب الزيدي على كل من دخل تحت حكمه حتى في حضرموت التي تعد من أشد البلاد منافرة لمذهبه؛ وذلك لسيطرة العلويين الذين يتبعون المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية والمشرب الصوفي، والذين يتعصبون لذلك غاية التعصب، ولست بحاجة إلى مزيد بسط وتفصيل عن الزيدية؛ لما سبق من شرح لها في الفصل الثالث من هذا الباب.
__________
(1) أشهر مؤرخي اليمن في العصر الحاضر ،ألّف وحقق الكثير من كتب التاريخ وغيرها من نفائس علوم اليمنيين، كان من جملة الثوار الذي زَجّ بهم الإمام في سجن قاهرة حجة ،وبعد الثورة تقلب في عدد من الوظائف الوزارية وغيرها ، وقد عرفته و استفدت منه و أجازني إجازة أعتز بها ،حثَّ فيها على التمسك بالسنة قولاً وعملاً ،والاعتماد على الدليل ونبذ التقليد مما يبين استقامة منهجه رحمه الله رحمة واسعة وقد توفي عام( 1419 هـ ) انظر: ترجمته: في موسوعة ( هجر العلم ) لأخيه القاضي إسماعيل ( 2/870-83 )و كتاب " القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي" مؤرخ اليمن الذي صدر بعد وفاته مباشرة وطبع في مؤسسة الثورة للطباعة والنشر عام (2000).
(2) اليمن الخضراء مهد الحضارة ص ( 106 ) للقاضي محمد بن علي الأكوع ، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة الطبعة الأولى ( 1391 هـ 1971 م )(76/198)
وأما قبورية الزيدية فالحق أن زيدية اليمن لم تكن لديهم قبورية ظاهرة في هذه الفترة، ولذلك فسوف أرجئ الحديث عن قبور يتهم إلى المطلب التالي إن شاء الله.
الخوارج:
سبق تعريف الخوارج وهم فرق كثيرة، والفرقة التي اشتهرت في اليمن من فرق الخوارج هي فرقة الإباضية أصحاب عبدالله بن إباض (1)،وهم أخف فرق الخوارج انحرافاً وأقربها إلى السنة (2).
ومعلوم أن نشأة الخوارج كانت على أثر حادثة التحكيم، وأن علياً - رضي الله عنه - قاتلهم في النهروان عام (37) أو (38 هـ)،وقتل معظمهم،ولكن الفئة الباقية انتشرت في البلاد بشكل خفي، ثم أصبح كل من حل بأرض يدعو أبناءها إلى رأيه، ولذلك كثرت الخوارج مرة أخرى، وأصبحت قوة لا يستهان بها، وشكلت مصدر قلق كبير للدولة الأموية إلى نهايتها، ومطلع الدولة العباسية. فهل وصل إلى اليمن أحدٌ منهم في بداية أمرهم؟ وهل انتشرت الدعوة الخارجية بين اليمنيين بشكل أو بآخر قبل العقد الثالث من القرن الثاني؟.
هذا مالا يمكن الجزم به، ولكن هناك إشارات إلى شيء من ذلك، منه ما حكاه الخزرجي من أن الخوارج هاجموا صنعاء فحاول وهب بن منبه قتالهم بأهل صنعاء، فلم يستطع، فصالحهم أهل صنعاء على مائة ألف دينار، فأخذوها، ورجعوا، واستعان أهل صنعاء لسدادها بأهل المخاليف، فأعانوهم (3).
__________
(1) هو عبدالله بن إباض المقاعسي التميمي ، عاصر معاوية بن أبي سفيان وعاش إلى خلافة عبدالملك بن مروان ، وهو رأس الفرقة الإباضية من الخوارج . انظر : الملل والنحل ( 1/98 ) ، و الأعلام ( 4/61-62 )
(2) انظر: لتفاصيل أقوالهم :الملل والنحل للشهرستاني ( 1/98-99 ) ، والفرق بين الفِرق ص ) 103 –109 ) .
(3) العسجد المسبوك ص ( 22 ) .(76/199)
ومنها أن عبدالله بن يحيى الكندي (1) زعيم الخوارج الأول عندما أقام دولته في حضرموت، كاتب إخوانه الإباضية في صنعاء، فانضموا إليه (2)، هاتان الإشارتان توحيان بوجود ما للخوارج قبل إعلان دولتهم في شبام حضرموت سنة (128هـ)، وأما البداية الحقيقية المتفق عليها فهي في هذه السنة.
__________
(1) عبدالله بن يحيى بن عمر الكندي الحضرمي ، الملقب بطالب الحق ، مؤسس الدولة الإباضية في حضرموت ، توفي سنة ( 130 هـ ) انظر ترجمته : في تاريخ حضرموت للحامد ص ( 262 ) ، وصفحات من التاريخ الحضرمي لسعيد عوض باوزير ، طبع مكتبة الثقافة عدن بدون تاريخ .
(2) تاريخ حضرموت للحامد ص ( 207 )(76/200)
وملخص قصة الخوارج في اليمن أن عبدالله بن يحيى الكندي - وكان رجلاً من أعيان حضرموت - حج سنة (127 هـ)، وفي مكة التقى ببعض دعاة الخوارج الذين كانوا يحضرون المواسم لبث دعوتهم، فكلموه في الأمر، وذكروا له مظالم بني أمية وانحرافهم، وأن الواجب هو الخروج عليهم وإزالة دولتهم وإقامة دولة الحق التي تحكم بالعدل وتعيد الأمور إلى نصابها إلى آخر ما ذكر، فقال له عبدالله بن يحيى: (إنني رجل مطاع في قومي، ولو دعوتهم إلى ذلك أجابوني إليه). فعاهده أبو حمزة على ذلك، فعاد عبدالله بن يحيى ومعه أبو حمزة الأزدي إلى حضرموت، وكتب إلى إخوانه أباضية البصرة يشاورهم في الخروج على الخليفة الأموي،فكتبوا إليه: (إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ولست تدري متى يأتي عليك أجلك...)، فأعلن عبدالله نفسه أميراً وبايعه أبو حمزة وتبعه الناس في حضرموت من سائر القبائل، وقبَضَ على والي بني أمية، وحبسه ثم أطلق سراحه، وما إن استقرت له الأمور في حضرموت حتى اتجه صوب مكة، فقدم ومعه زهاء تسعمائة وقيل ألف ومائة من أصحابه يوم عرفة إلى صعيد عرفة، والناس بها يوم الوقوف فما شعروا إلا بخيل الخوارج وعليها الرجال معممين رافعين ألويتهم، فما كان من أمير مكة إلا أن سلّم لهم الأمر دون قتال، وفي يوم النحر دخلوا مكة كذلك، وبذلك صفت لهم مكة دون أي مقاومة، ولكن أخبارهم انتشرت، واستعد لهم أهل المدينة، وبعد استقرار الوضع في مكة خلَّفوا عليها والياً من قبلهم، ثم توجهوا إلى المدينة، وكان أهل المدينة قد جهزوا جيشاً لمقاومتهم، وكان أكثر الجيش من عامة الناس وليسوا من الجنود المدربين أو ذوي الخبرة بالحرب، والتقى الجيشان في منطقة قديد، وهُزِم جيش المدينة هزيمة منكرة وقتل منه ألفان ومئتان وثلاثون رجلاً (1)
__________
(1) تاريخ حضرموت ص( 209 ) ، وصفحات من التاريخ الحضرمي ص ( 50 ) .(76/201)
وعلى إثر ذلك دخل جيش الخوارج المدينة، واحتلوها ورتبوا الأمر فيها، وطارت الأخبار إلى دمشق، فجهز الخليفة جيشاً كبيراً وحشد فيه مقاتلين أقوياء مدربين، فسار الجيش الأموي صوب المدينة، وتقدم جيش الخوارج باتجاه الشام، فالتقى الجيشان في وادي القرى، فانهزم جيش الخوارج وقتل قائده أبو حمزة، ثم واصل الجيش الأموي طريقه إلى المدينة ثم إلى مكة،ولم يقم له واليها، ثم إلى صنعاء وقد خرج عبدالله بن يحيى ومن معه لملاقاة الجيش الأموي في الطريق، وفعلاً التقيا، وهُزم الجيش الخارجي، وقُتل عبدالله بن يحيى، وهكذا واصل الجيش الأموي الطريق إلى عاصمة دولة الخوارج (شبام)، والتقى بأميرها ومن معه وهزم الخوارج، وقتل واليهم وفتك قائد الجيش بالحضارم فتكاً ذريعاً، وقتل الرجال والنساء وفعل الأفاعيل، وبهذا انتهى كيان دولة الخوارج ولم يبق لهم نفوذ، غير أن فكرهم وعقائدهم ظلت موجودة ويدين بها كثير من أبناء حضرموت حتى نهاية القرن السادس تقريباً، ونشأ لهم كيان غير محدد المعالم أواخر القرن الخامس، قضى عليه الصليحي عندما مد نفوذه إلى حضرموت، ولم يكن للخوارج أي دور في انتشار القبورية في اليمن حسب علمي (1).
التصوُّف:
__________
(1) انظر: لأخبار الخوارج وقيام دولتهم وانتهائها كلاً من: تاريخ حضرموت ( 1/206 – 213 ) لصالح بن علي الحامد ، و صفحات من التاريخ الحضرمي ص ( 47-55 ) ، و تاريخ حضرموت السياسي ( 1/64/72 ) لصلاح عبد القادر البكري، طبع دار الآفاق العربية بالقاهرة ، الطبعة الأولى ( 1421 هـ - 2001 م ) ، و أدوار التاريخ الحضرمي ص ( 127-140 ) ، وانظر خبر دولتهم الأخيرة في : صفحات من التاريخ الحضرمي ص ( 66-79 ) .(76/202)
حتى لا تختلط علينا المفاهيم، يجب أن نفرِّق بين الزهد الذي دعا إليه الإسلام، وحث عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحمده أئمة المسلمين، ولم يذمه أحد ممن يعتد بقوله، وبين التصوف المُحدَث المجلوب من خارج حدود الإسلام، والمضبوط بضوابطه المعروفة، والمحدّد بحدوده الواضحة، والمبني على فلسفة خاصة، فهذا لون والزهد الذي جاءت به شريعة الإسلام لون آخر، وإن الخلط بين الأمرين قد أوقع لبساً كبيراً على عوام الناس، واستغلَّه دعاة التصوف وتزينوا به، بل اتخذوه درعاً واقياً من سهام الطاعنين عليهم وعلى فلسفته الضالة وبدعهم المحدثة الخارجة عما جاء به الإسلام، فإذا تكلَّم متكلم عن مخازي التصوف ومثالبه، عارضه المتصوفة بإبراز الشخصيات النظيفة الطاهرة على أنها أئمته ومؤسسوه،فيذكرون أباذر - رضي الله عنه - وأبا الدرداء - رضي الله عنه -، ومن التابعين أويس القرني، والحسن البصري ومن شابههما، ثم يذكرون مالك بن دينار، والفضيل بن عياض،ومن أهل اليمن: عمرو بن ميمون الأودي، وطاووس بن كيسان اليماني، ووهب بن منبه، ونحوهم، وهؤلاء لا علاقة لهم ألبتة بما أحدث بعد من تصوف مبتدَع فلسفي محتوٍ على إلحاد أصحاب الحلول والاتحاد، ومكائد المتاجرين بالولاية والكرامات.
فإذا بينا هذه الحقيقة، وعرفنا الفرق الواسع بين الزهد بمفهومه الصحيح، وبين التصوف المنحرف، استطعنا أن نجزم بلا أي تردد أن هذه الفترة التي نتحدث عنها لم يكن فيها باليمن شيء مما يصح أن يطلق عليه تصوف بالمعنى الصحيح الدقيق، وبالتالي فليس للتصوف في هذه الفترة أي دور في نشر القبورية.
المذاهب الفقهية:(76/203)
(كان المذهب السائد في اليمن إلى انتهاء القرن الثالث الهجري هو العمل بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولم يتقيد أهل اليمن حينئذ بكلام واحد من الأعلام، واعتمدوا في دراسة الفقه النبوي على مثل مسند الإمام الحافظ عبدالرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة (210هـ)، وعلى مسند أبي قرة موسى بن طارق الجندي، ومسند عبدالملك بن عبدالرحمن الذماري، ومسند الحافظ محمد ابن يحيى بن أبي عمر العدني، ثم غزت المذاهب العقائدية والفقهية) (1).
ويؤكد ذلك الإمام المؤرخ ابن سمرة الجعدي (2) في "طبقات فقهاء اليمن " حيث يقول: (وكان الغالب في اليمن مذهب مالك وأبي حنيفة، ولم يكن علم السنة مأخوذاً في هذا المخلاف إلا من جامع معمر بن راشد البصري، وهو مصنف في صنعاء، وجامع سفيان بن عيينة، وجامع أبي قرة موسى ابن طارق اللحجي الجندي، ومن المرويات عن مالك في الموطأ وغيره مثل كتاب أبي مصعب، أو عما يُروى عن طاووس وابنه وقدماء فقهاء اليمن الذين ذكرت أطرافاً من فضلهم وشيوخاً من جلهم) (3).
__________
(1) اليمن الخضراء ص ( 106 ) .
(2) عمر بن علي بن سمرة الجعدي ، رائد مؤرخي علماء الشافعية باليمن ، صاحب طبقات فقهاء اليمن الذي خصصه لعلماء الشافعية ، ثم صار من بعده من المؤرخين يبنون على ما أسس ويفرعون على ما أصل ، لم تذكر سنة وفاته . انظر : ترجمته لنفسه في مطلع الطبقات ص ( 13 ) وما بعدها .
(3) طبقات فقهاء اليمن ص ( 34 ) تأليف عمر بن علي بن سمرة الجعدي تحقيق فؤاد سيد نشر دار القلم بيروت بدون تاريخ.(76/204)
ومن هذين النصين يتبين أن الأصل في أهل اليمن اتباع الكتاب والسنة على مذهب المحدثين، وبعد انتشار المذاهب الإسلامية وصلت تلك المذاهب المالكية والحنفية والشافعية، وأما المذهب الحنبلي في الفروع فلم يسجّل له وجود في اليمن تلك الفترة، وكان المذهب المالكي هو أول تلك المذاهب انتشاراً ثم الحنفي ثم الشافعي، وليس للمذهب المالكي وجود في اليمن الآن، وبقي المذهب الحنفي في زبيد بشكل محدود، بينما انتشر المذهب الشافعي في عموم اليمن بما في ذلك صنعاء وذمار وما والاهما حتى القرن الحادي عشر، حينما فرض المذهب الهادوي الذي يتبناه الأئمة الزيدية على تلك النواحي، وانقسمت اليمن بعد ذلك انقساماً ظاهراً، حيث ساد المذهب الشافعي اليمن الأسفل وتهامة وما والاها من البلاد الجبلية، والجند وماحو لها بما في ذلك معظم مخا ليف، إب والحجرية كاملة، والبيضاء وما يلتحق بها، ومأرب والجوف، هذا فيما كان يعرف باليمن الشمالي، وأما ما كان يعرف باليمن الجنوبي فكله شافعي ولاوجود للمذهب الهادوي فيه، وماعدا ذلك فالسائد فيه المذهب الهادوي، وهو يمتد من صعدة شمالاً إلى يريم وما جاورها جنوباً مقتصراً على المنطقة الجبلية إلى مشارف تهامة غرباً.(76/205)
هذه صورة مختصرة للمذاهب الفقهية التي سادت اليمن، ولكن يجب ألا نغفل حقيقة مهمة، هي أن اتباع الكتاب والسنة والتجرد لهما، ونبذ التعصب المذهبي بل نبذ التمذهب بشكل تام بقي مستمراً في اليمن، ولم يلغه وجود المذاهب الفقهية وانتشارها، بل ظل حياً حاضراً وإن ضعف في بعض الأحيان وخفَتَ صوته إلا أنه مازال موجوداً خصوصاً في المناطق الزيدية، وقد اشتهر جماعة من المجتهدين النابذين للتقليد الذين كان لهم الأثر الطيب على العلم والعلماء، وكانوا نبراساً مضيئاً في حوالك الظلم التي لبَّدت سماء الأمة الإسلامية قروناً عديدة، وأصبحوا أساتذة الاجتهاد، والتجديد، وحرية الرأي، ورمز الاقتداء بالسلف الصالح ليس في اليمن فقط ولكن في العالم كله، حيث تتداول كتبهم بل وتصبح من المقررات الأساسية في أشهر الجامعات الشرعية والمعاهد الدينية في العالم الإسلامي، من أشهر أولئك:(76/206)
1) محمد بن إبراهيم الوزير (1).
2) صالح بن مهدي المقبلي (2).
__________
(1) هو إمام أهل السنة في زمانه ، بل مجدد الإسلام في اليمن في القرن الثامن محمد بن إبراهيم الوزير مولده سنة ( 775 هـ ) وقد نشأ على طريقة قومه الزيدية المعتزلة ، ثم رغب عنها وتحول إلى الطريقة السلفية ،فبرع في علوم الكتاب والسنة ، واستكمل أدوات الاجتهاد ، واضطهد لذلك ، فصبر ، وصابر ، وألف ، وناظر ، ولو لم يكن له إلا كتابه العظيم العواصم و القواصم لكفى ، كيف وله مؤلفات فائقة كثيرة سواه ، وهو رأس المدرسة السلفية التي مازالت - والحمد لله - قائمة إلى اليوم ، لا يكاد مؤرخ من مؤرخي اليمن إلا وهو يشيد بفضله ، وقد ترجم له من يصعب حصرهم ، وأثنى عليه حتى من يخالفه من الزيدية وغيرهم ، وألفت رسالة علمية بعنوان " ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية وجهوده في الدفاع عن السنة النبوية " ، قدمت لجامعة أم القرى بمكة للشيخ علي بن علي جابر الحربي توزيع عالم الكتب ط الأولى (1417). وانظر ترجمته كذلك : البدر الطالع (1/81-93) ، وهجر العلم للقاضي إسماعيل الأكوع (3/1367-1376) ، والبحث الضافي الذي بعنوان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم و القواصم في مقدمة العواصم والقواصم (1/7-100) ، طبع مؤسسة الرسالة بيروت (1418هـ-1992م ) للقاضي إسماعيل الأكوع .
(2) صالح بن مهدي بن علي المقبلي ، أحد أعلام علماء اليمن والمجتهدين فيه ، تجرد عن التقليد والتزم الأخذ بالكتاب والسنة ، وله مواقف عظيمة مع مقلدي وقته ، اشتد عليه بسببها الأذى فهاجر إلى مكة ،وهناك ألف بعض مؤلفاته ومنها العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشائخ ، وذيله الأرواح النوافح توفي سنة ( 1108هـ ) . انظر : البدر الطالع ( 1/288 ) ، ومقدمة العلم الشامخ للقاضي عبدالرحمن الإرياني (ص أ – د ) طبع مكتبة دار البيان دمشق بدون تاريخ.(76/207)
3) الحسن بن أحمد الجلال (1).
4) محمد بن إسماعيل الصنعاني.
5) محمد بن علي الشوكاني.
وغيرهم الكثير، وإن كانوا أقل شهرة منهم؛تضمنهم " البدر الطالع " لشيخ الإسلام الشوكاني، "ونشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف "،وغيرهما من كتب التواريخ والتراجم، وما تزال هذه المدرسة قائمة إلى اليوم، وعميدها وأشهر علمائها في هذا العصر القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني -حفظه الله - وهو في اليمن أشهر من نار على علم.
هذا وأما الاجتهاد الفقهي في المناطق الشافعية فقليل إن لم يكن معدوماً، ولعلّ السبب في كثرة المجتهدين في الجهات الزيدية طبيعة المذهب الهادوي الذي أبقى باب الاجتهاد مفتوحاً، بل حرَّم التقليد في بعض المواضع من أصله، بعكس أتباع المذاهب الأخرى الذين أغلقوا باب الاجتهاد من بعد القرن الرابع، وصاحوا بكل من ادعاه بأنه جاهل متعالم، أو مارق منحرف.
هذا وقد أطلتُ في هذا الموضع لأنني رأيت جمع كل ما يتعلق بالمذاهب الفقهية فيه ولن أعود إلى شيء من ذلك فيما بعد لعدم اقتضاء الموضوع له.
الفرق العقائدية غير ما تقدم:
__________
(1) الحسن بن أحمد الجلال من الأئمة المجتهدين في اليمن ، كبير القدر كثير الإنتاج العلمي ، أثنى عليه الشوكاني -رحمه الله – ثناءً كثيراً وهو في الفقه من الأئمة ، وإن كان لم يتخلص مما كان عليه مجتمعه في الجوانب الأخرى من منهجه ، توفي سنة ( 1084 هـ ) . انظر :البدر الطالع 0( 1/191 ) ، وهجر العلم ( 1/342 ) .(76/208)
لقد ذكرنا فيما تقدم فرق الشيعة الإسماعيلية والزيدية وفرقة الخوارج الإباضية، وإكمالاً للبحث ينبغي أن نلمَّ ببقية الفرق التي طرأت على اليمن وعلى أهله الذين مازالوا متمسكين بمنهج السلف الصالح في عقيدتهم إلى اليوم، نعم إن منهج السلف الصالح منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هو الأصل في اليمن، والمناهج الأخرى إنما هي طارئة عليه، وكان هذا المنهج هو منهج الأمة بكاملها حينما كانت الأمة هي الصحابة الكرام وتابعوهم بإحسان، ثم بدأت الفرق الضالة تخرج عن هذا السبيل، وتفارق ذلك المنهج؛ فخرجت الخوارج ثم الروافض ثم القدرية في عهد الصحابة أنفسهم، ثم توالت تلك الفرق في الانحراف ومفارقة المنهج القويم والصراط المستقيم، وقد تفرقت تلك الفرق نفسها إلى فرق فرعية كثيرة جداً، وظهرت فرق جديدة ذات أثر في الساحة الإسلامية؛ منها الجهمية ثم المعتزلة ثم الكلّابية والماتريدية والأشاعرة،وهذه الثلاث الفرق الأخيرة في الواقع قد تبيّن لها ضلال الفرق السابقة عليها وخصوصاً الجهمية والمعتزلة اللتين تشتركان في الانتساب إلى علم الكلام.(76/209)
وقد حاول أئمة تلك الفرق الثلاث العودة إلى النبع الصافي والمنهل العذب، ولكن آثار علم الكلام لم تمكن الإمامين ابن كلاب (1)، والماتريدي (2) من ذلك، فتخلصا من كثير من بدع وعقائد الجهمية والمعتزلة، وبقي لديهما بعضها وأخذا ببعض أصول السلف أهل السنة، وقصّرا في بعضها، والله تعالى يتولاهما، وهو أعلم بما في نفوسهما سبحانه، أما نحن فندعوه سبحانه أن يغفر لهما وللمخلصين من أتباعهما، وأن يتجاوز عمَّا أخطآ فيه، ما دام الحامل لهما عليه حب التنزيه والخشية من التشبيه، ولكن حبنا لهما ورغبتنا الصادقة في أن يتجاوز الله عنهما لا يجعلنا نصحح مذهبهما ونسكت عن خطئهما.
وأما أبو الحسن الأشعري -رحمه الله - فله ثلاثة أطوار:
الطور الأول: الاعتزال المحض على طريقة أبي علي الجبّائي الذي كان متزوجاً بأمه وكافلاً له.
الطور الثاني: تقرير ما كان عليه ابن كُلّاب وأصحابه.
__________
(1) هو عبدالله بن سعيد بن كُلّاب القطان البصري رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه وإمام الطائفة المعروفة بالكلابية ، توفي سنة ( 245 ) . انظر : السير (11/174 ) ، وطبقات الشافعية ( 2/245 ) ، ولسان الميزان (3/360)لابن حجر طبع دار الفكر بيروت ط الأولى (1407هـ - 1987م ) .
(2) 2 هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود السمرقندي ، يلقب بإمام الهدى وإمام المتكلمين ، توفي سنة ( 333 هـ ) ، وهو مؤسس المدرسة المشهورة بالماتريدية نسبة إليه ، وله عند أتباعه منزلة عظيمة . انظر : مقدمة كتاب الماتريدية ص ( 93 – 99 ) للشيخ أحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي ، طبع دار العاصمة بالرياض ، والأعلام ( 7/19 ).(76/210)
الطور الثالث: رجوعه الكامل إلى ما كان عليه السلف الصالح وذلك في كتبه: " الإبانة عن أصول الديانة "، " ومقالات الإسلاميين "، " ورسالتي إلى أهل الثغر "، وهناك من يخالف في ترتيب الطوْرَين الأخيرين، أو يجعلهما طوراً واحداً (1).
لكن عامة من ينتسبون إليه إنما ينتسبون إلى ما كان عليه في الطور الوسط، فهم في حقيقتهم كُلّابية أو قريباً منها، وليسوا على السنة المحضة التي كان عليها السلف الصالح، والتي عرفت فيما بعد خصوصاً بعد محنة القول بخلق القرآن عرفت (بمذهب أحمد بن حنبل) أو (بالحنابلة)، ولم يكن الإمام أحمد -رحمه الله- متفرداً بها، بل هي عقيدة سائر أئمة أهل السنة وأصحاب الحديث، وعلى رأسهم الإمامان مالك والشافعي وكذلك الإمام أبو حنيفة، إلا ما يذكر عنه في مسألة الإيمان، هذا وإن كثيراً من علماء الحديث وأئمة الفقه والمفسرين وغيرهم هم في الأصل من أهل السنة وأتباع السلف الصالح، ولكنهم قد تأثروا ببعض أقوال الأشاعرة أو الماتريدية خصوصاً في تأويل بعض الصفات، وهذا لا يجعلهم أشاعرة ولا ماتريدية، لأنهم من أهل الحديث والآخذين به والمقدمين له على كل الأصول، بخلاف الأشاعرة المتكلمين وكذلك الماتريدية المتكلمين فإنهم يقدِّمون العقل، ويتحاكمون إلى قواعد المنطق وعلم الكلام مقدمين ذلك على الكتاب والسنة، وهذا فارق كبير بينهم وبين المتمسكين بالآثار، والمقدمين للأخبار، والتابعين للسلف الأخيار، الذين وقعوا في تقليد أولئك في بعض المسائل(2).
__________
(1) 3 انظر لتحقيق تلك الأقوال والترجيح فيها : كتاب موقف ابن تيميه من الأشاعرة ، للدكتور عبدالرحمن بن صالح ابن المحمود ، طبع مكتبة الرشد بالرياض ، الطبعة الأولى ( 1415هـ-1995هـ )
(2) انظر : منهج الأشاعرة في العقيدة ص (15 -17)، للدكتورسفر بن عبد الرحمن الحوالي ،طبع مكتبة العلم بالقاهرة ( 1415هـ-1995م ).(76/211)
بعد هذه المقدمة المهمة في نظري أعود فأقول: إنه لم يثبت بشكل جلي وجود للماتريدية أو الأشعرية في اليمن في هذه الفترة.
وأما المعتزلة فالصحيح أن الذي أتى بها إلى اليمن هو الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين سنة (285هـ)، فالزيدية في العقيدة معتزلة، وإن خالفوا المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، فجعلوا مكانها الإمامة، ويقول بعض الباحثين: إن اعتزال زيدية اليمن في بداية أمرهم كان على طريقتهم الخاصة بهم، وليس هو الاعتزال المعروف المنسوب إلى واصل بن عطاء وأتباعه.(76/212)
وقد ظلت الزيدية على ذلك إلى أن ظهرت المطرفيَّة (1)، وانتشرت، وفشت بين الناس، وأصبحت تشكل قوة علمية وبشرية يحسب لها ألف حساب، وخصوصاً أنهم قد خالفوا السائد من عقائد الاعتزال وعقائد الزيدية في أمور أهمها: مسألة الإمامة وأنهم لا يحصرونها في أبناء علي - رضي الله عنه -، وإنما من جمع صفاتها من المسلمين، فهو أهل لها، وكذلك التفضيل بمجرد النسب لا يقرونه، فتدخلت الغيرة على العقيدة مع الغيرة على الميزة التي اكتسبها بعض الناس في مسألتي الإمامة والنسب، وعند ذلك رغب القائمون على المذهب الزيدي وعقيدته الموروثة في التصدي لهذه الفرقة، وهزيمتها فكرياً عن طريق المناظرة،ولما كان رجال المطرفية أكثر علماً وأنضج فكراً؛ وشعر الطرف الثاني بذلك؛ رغب في تسليح فريقه برجال على نفس المستوى، بل أقوى ليحملوا فكره، ويدافعوا عن أصوله ومبادئه بالطريقة التي يريدها هو، وعندما علم الإمام المتوكل أحمد بن سليمان أن أحد علماء المعتزلة وصل إلى مكة لأداء الحج عام (540 هـ) سارع باستدعائه إلى اليمن، فأجاب إلى ذلك، ووافى الإمام في محل إقامته حينها هجرة محنكة من خولان صعدة في مطلع عام (541هـ)، ومعه كتب الاعتزال، وبقي في اليمن سنتين ونصف لنشر الاعتزال على طريقة معتزلة البصرة، وهي تخالف الاعتزال الذي كان في اليمن من قبل والذي كان أقرب إلى معتزلة بغداد، وقد التقى في هذه الفترة القاضي جعفر بن عبد السلام الأبناوي بالبيهقي (2)
__________
(1) المُطَرِّفِيَّة :هي فرقة من فرق الزيدية منسوبة إلى مطرف بن شهاب من أعلام أواخر المائة الرابعة وأوائل المائة الخامسة ، وكانوا على جانب عظيم من الإقبال على العلم والاشتغال به والإخلاص في الطاعة والعبادة ، حصل بينهم وبين الإمام عبدالله بن حمزة شقاق فقضى عليهم قضاء مبرماً .انظر : الزيدية للأكوع ص ( 76 – 77 ) وتيارات معتزلة اليمن ص ( 187 ، 192 ) .
(2) هو زيد بن علي بن الحسن البيهقي المعتزلي ، حج سنة ( 540 هـ ) فاستدعاه الإمام أحمد بن سليمان إلى اليمن فوصل صعدة سنة ( 541 هـ ) ومكث يدرس كيب الاعتزال في مسجد الهادي بصعدة سنتين ونصف ثم رحل إلى بلاده فمات في تهامة . انظر : تيارات معتزلة اليمن ص ( 132 – 134 ) .(76/213)
، وأخذ عنه علوم الاعتزال وأسلوب المحاجة والمناظرة استعداداً لمناظرة المطرفية، ثم لما عزم البيهقي على العودة إلى العراق عزم معه جعفر بن عبد السلام ليتزود من المنبع الأصلي للاعتزال،غير أن البيهقي مات في تهامة في طريق العودة، فلم يثنِ ذلك عزيمة ابن عبد السلام، بل واصل المسير إلى العراق وفارس، وأخذ في كل بلد حلّه عن علماء المعتزلة فيه (1)، ثم عاد يحمل كتب المعتزلة معه، وبهذا تكامل وجود المعتزلة في اليمن، بل إن من الباحثين من يرى أن المعتزلة لم تدخل اليمن إلا من ذلك التاريخ.
ولكن الحق أن الذي دخل في ذلك التاريخ هو فكر وعقيدة معتزلة البصرة التي تخالف الاعتزال الذي ظل قائماً في المجتمع منذ دخل الهادي إلى أن ظهر جعفر بن عبدالسلام في أيام المتوكل على الله أحمد ابن سليمان المتوفى سنة (566 هـ) (2).
المطلب الرابع:استمرار منهج السلف الصالح رغم مزاحمة المناهج المختلفة له:
لقد تكفل الله بحفظ دينه وكتابه الكريم، فقال جلّ من قائل: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (3)، ومقتضى حفظه أن يبقى ظاهراً قائماً، وأن تقوم به طائفة تمثله بحق، وتعمل به بصدق، وتدعو إليه بإخلاص، على وفق ما نزل الكتاب وما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفق ما فهمه الصحابة الكرام من الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان أو انحراف، وقد أكد هذا المعنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) (4).
__________
(1) ملخص من تيارات معتزلة اليمن ص ( 132-135 ) .
(2) انظر الصلة بين الزيدية والمعتزلة ص ( 71 ) ، للدكتور أحمد عبدالله عارف ، طبع المكتبة اليمنية صنعاء ودار أزال بيروت ، الطبعة الأولى ( 1407هـ –1987 م ).
(3) سورة الحجر آية ( 9 ) .
(4) تقدم تخريجه ص ( 73 )(76/214)
وإذا كان هذا الوعد يشمل جميع بلاد الله التي يظللها الإسلام، فإنَّ يمن الإيمان والحكمة من أحق البلاد بتحقيق هذا الوعد، وبالفعل فإن تاريخ اليمن لمليء بالأدلة على هذه الدعوى، فلم يخلُ جانب من جوانب منهج أهل السنة والجماعة ممن يقوم به،ويدافع عنه طوال التاريخ اليمني، أو على سبيل الاحتياط في معظم مراحل التاريخ.
وإذا كان قد مرَّ بنا أن غالب القرون الثلاثة كان الظاهر فيه مذهب أهل السنة والجماعة في اليمن، فإن الفترات اللاحقة لم تشهد غياباً كاملاً لهذا المذهب، وإنما قد يضعف، ويضايق، ويضطهد دعاته في بعض الأحيان، ثم لا يلبث أن يظهر، وما إن تُرفع الحجب، وتزال العقبات من أمامه حتى يهرع الناسُ إليه، يتسابقون عليه، ويسيرون تحت لوائه، وذلك أنه الوحيد المنسجم مع الفطرة والذي تميل إليه الأنفس والقلوب التي لم تعمَ بظلمات البدع، ولم يعكر عليها غبار الشبهات، ومن الأدلة الناصعة على أن منهج السلف الصالح هو المنهج المنسجم مع الفطرة السليمة أن جميع المذاهب الوافدة على اليمن لم تظهر، وتنتشر بين الناس إلا في ظل دول قوية وسلطات قاهرة، ماعدا منهج أهل السنة والجماعة فإنه يقوم بنفسه، وينتشر بما جعل الله فيه من عوامل البقاء والخلود والانتشار، وسيظهر ذلك مما سنورده في المباحث القادمة عند الكلام على تلك المناهج.
وإذا علمنا أن الأصل الذي كان عليه أهل اليمن هو مذهب أهل السنة والجماعة وأن المذاهب الأخرى إنما طرأت عليه، فإن المعروف المقرر هو بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت خلافه، ولم يثبت أن مذهباً من تلك المذاهب الوافدة قد طبق اليمن قاطبة، ولم يدّعِ أحد من أهل تلك المذاهب ذلك، وهذا وحده يكفي دليلاً على استمرار مذهب السلف الصالح وعدم انقطاعه إلى يومنا هذا.(76/215)
وهذا ما نلمحه جلياً في كلام المؤرخين، والشهادة الأولى لمؤرخ زيدي هو يحيى بن الحسين ابن القاسم في طبقات الزيدية حيث يقول: (قلت: وكان اليمن في هذا التاريخ – وهو سنة أربعمائة إلى خمسمائة - فيه اختلاف شديد في المذاهب، واضطراب وفتن وشبه يوردها كل فريق، فكان فيه الزيدية فريقين: مخترعة ومطرفية، وفي اليمن الأسفل حنبلية وشافعية، ولما كان رأس خمسمائة فما بعدها غلب على اليمن الأسفل مذهب الأشعري لما خرج من الشام مع بني أيوب، فإنهم أخرجوا معهم " المقالة القدسية " أول إحياء علوم الدين في عقيدة الأشعري فمال إليه أكثر الشافعية في ذلك الوقت؛ لأن الأشعري في ثلاثمائة سنة وكانت وفاته أربع وعشرين وثلاثمائة... ثم اختلفت الشافعية باليمن فمنهم من قال بمقالة أحمد بن حنبل بأن المتشابهات تمر من غير تأويل مع اعتقاد أن الله ليس كمثله شيء، واحتجوا بقراءة الوقف على قوله: { وما يعلم تأويله إلا الله } (1)، ومنهم من تأول ذلك كما يقول الأشعري، وجرت بينهم مناظرات في ذلك الزمن لاسيما العمراني الشافعي صاحب " البيان " على مذهب الشافعي فإنه بنى على أصول أحمد) انتهى محل الغرض منه (2)، وقد عقَّب القاضي الأكوع على هذا الكلام بقوله: (ورغم هذه التيارات المتعاكسة المتضاربة فقد ظل اليمن صامداً أمامهم لم تتزعزع عقائده أو يهدم بنيانه المتراص إلا بعد فترة متراخية، ثم ذكر نحواً مما ذكره في كتابه اليمن الخضراء ونقلناه سابقاً (3)،ثم قال: (هذا هو العمل السائد في العقائد والمقامات في عموم اليمن ماعدا حضرموت فالغالب عليها مذهب الخوارج.
__________
(1) آل عمران(7) .
(2) طبقات الزيدية مخطوطة ، بواسطة مقدمة السلوك في طبقات العلماء والملوك ص ( 34 ) للقاضي بهاء الدين الجندي ، الطبعة الثانية (1416هـ -1995م ) مكتبة الإرشاد صنعاء ، والمقدمة للقاضي الأكوع.
(3) انظر : ص ( 183 )(76/216)
ولما تغلغلت هذه المذاهب في النفوس بطبيعة التفاعل والامتزاج انبثق عنها في القرن الرابع الهجري مذاهب متشعبة فمن حنفية إلى مالكية إلى شافعية إلى هادوية في صعدة، والمذهب السائد هو مذهب السلف الذين لا ينتمون إلى أي إمام من أئمة المذاهب) (1).
ويقول شيخ الإسلام الشوكاني -رحمه الله تعالى-: (ولا ريب أن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية مالا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية، وما يلحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة خير الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأساً، ولا يشوبون دينهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة انشغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة مع عدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيَّد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد،فإن هذه خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادراً) (2)..
__________
(1) المصدر السابق (1/ 33 ) .
(2) البدر الطالع ( 2/83 ) .(76/217)
وفي القرن الرابع نرى من يحمل منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم، ويرد على من خالفهم، فهذا الحسين بن عبدالله المراغي له كتاب يردّ به على المعتزلة باسم " الحروف السبعة في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الضلال والبدعة " وقد عاش آخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع حيث توفي سن (324هـ) (1)، وهو وافد على اليمن وليس من أهلها، ولكنه استقر بها، وصار له أتباع أخذوا عنه ذلك المذهب الذي كان في الأصل موجوداً قبل وروده (2).
وفي القرن الخامس يمر بنا الفقيه عبدالله بن يزيد اللَعفي، قال الجندي: (له تصانيف على معتقد السلف)، وكان يعيش في القرن الخامس ووفاته (بعد خمسمائة بيسير) (3).
وفي القرن الخامس أيضاً كانت مدرسة الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي (4)، وهي مدرسة عظيمة جليلة، يدرس فيها فنون مختلفة، ومن أعظمها علوم العقيدة على مذهب السلف الصالح والفقه على مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-، وكان أصحابه فوق ثلاثمائة متفقه في غالب الأيام، حتى لقد خشي منه ومن أتباعه وأتباع شيخه أبي بكر بن جعفر المحابي أمير الجند من قبل الصليحي، فعمل الحيلة للإيقاع بين الشيخين وأتباعهما؛ مما اضطر الشيخ زيد للرحيل إلى مكة تجنباً للفتنة (5).
__________
(1) طبقات فقهاء اليمن ص ( 83 ) .
(2) انظر: السلوك ( 1/232 ) .
(3) المصدر السابق (1 /251 ) .
(4) زيد بن عبدالله اليفاعي ، من فقهاء الجند السائرين على منهج السلف الصالح في الأسماء والصفات ، صاحب مدرسة متميزة في الفقه وله أتباع وتلاميذ كثيرون توفي ( 514هـ)،طبقات فقهاء اليمن ص ( 119) ، هجر العلم ( 4/2377 ) .
(5) انظر: طبقات الفقهاء ص ( 120 ) ، والسلوك (1/263 ) .(76/218)
وعاصره وكان على نفس المنهج الإمام زيد بن الحسن الفايشي (1)، غير أن الأول كان بالجند والثاني بالجعامي من أعمال إب، وتوفي سنة (528هـ) وقيل (527هـ) (2) -رحمه الله- وفي مدرستيهما كان يدرس علم التوحيد على مذهب السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وعنهما وعن غيرهما من العلماء أخذ الإمام يحيى بن أبي الخير (3) ذلك المذهب (4)، والإمام ابن أبي الخير هو رأس أهل السنة في اليمن في القرن السادس، فقد تبناه ودافع عنه وكافح وألّف وناظر وخرّج الطلاب عليه،وقد عني بالرد على المعتزلة حين وفودهم إلى اليمن يمثلهم القاضي جعفر بن عبد السلام المعتزلي فألّف كتابه " الانتصار في الرد على القدرية الأشرار "، ثم ظهرت الأشاعرة فأضاف - رحمه الله - إلى ما ذكره في الانتصار من مسائل القدرية مذهب الأشعرية والرد عليهم، قال ابن سَمُرة: (فأجحف فيه على الأشعرية وقطع حلوقهم وأفحمهم خصوصاً بذلك من يقول { : ما أنزل الله على بشر من شيء } (5).
__________
(1) هو زيد بن الحسن الفايشي ، من فقهاء الشافعية المنتمين لمذهب السلف الصالح في الأسماء والصفات ، كبير القدر عظيم الأثر في منطقة الجعامي بإب توفي سنة ( 528 هـ ) انظر ترجمته : طبقات فقهاء اليمن ص ( 155 )،وهجر العلم ( 1/389 ).
(2) انظر: السلوك ( 1/285 – 287 ) وهجر العلم ( 1/391 – 392 ) .
(3) هو يحيى بن أبي الخير العمراني ، إمام شهير من أئمة علماء اليمن ، إمام في الفقه وهو صاحب كتاب " البيان" الشهيرالذي اعتنى بطبعه قاسم محمد النوري وطبع الطبعة الأولى بدار المنهاج بيروت سنة (1421هـ -2000م ) ، وإمام في السنة على منهج السلف الصالح ، رأس علماء الحنابلة في اليمن وصاحب كتاب" الإنتصار في الرد على القدرية الأشرار " الذي حققه سعود بن عبد العزيز الخلف وطبع بدار أضواء السلف بالرياض الطبعة الأولى سنة (1419هـ -1999م ) .
(4) انظر: طبقات الفقهاء ص ( 175 – 177 ) .
(5) الأنعام(91).(76/219)
ففرح الفقهاء بكتابه " الانتصار " وانتسخوه ودانوا به واعتقدوه) (1).
وقال ابن سمرة قبل ذلك: (وكان الإمام يحيى قد سمع في مدرستي الشيخين الإمامين زيد بن حسن الفايشي وزيد اليفاعي " كتاب التبصرة " في علم الكلام وأصول الدين تصنيف أبي الفتوح (2) على مذهب السلف الصالح، وهما ينقلانه جميعاً عن الشيخ أبي نصر البندنيجي مصنف " المعتمد " في الخلاف، فإنهما صحباه جميعاً في مكة، وعن الإمام يحيى أخذ مشايخنا " التبصرة " في أصول الدين ورويناها عنهم وكان -رحمه الله - يُسمعها في مدرسته، ويعلمها من طلبها، فناظر الشريف العثماني وهو أشعري، ونصر مذهب الحنابلة أهل السنة) (3).
__________
(1) طبقات الفقهاء ص ( 181 ) وقد أخرج كتاب الانتصار وطبع بعد أن حقق وقدم رسالة جامعية للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) انظر ترجمته : طبقات الفقهاء ص ( 91 ) والسلوك ( 1/230 )
(3) طبقات الفقهاء ص ( 177 ) .(76/220)
وقد ملأ أطراف اليمن أصحاب وتلاميذ الإمام يحيى بن أبي الخير، ونشروا ما أخذوا عنه في كل مكان حلّوا فيه، ومن أشهر من خلفه في ذلك الطريق الفقيه مسعود بن علي بن مسعود العنسي (1)،وقد كان شديد الغيرة على ذلك المذهب، حتى أنه عندما أظهر طاهر بن يحيى بن أبي الخير القول بمذهب الأشاعرة بعد موت أبيه، غضب لذلك، وقام فيه قياماً حسناً، وألّف في الرد عليه، قال الجندي وهو يتكلم على انحراف طاهر ونقض توبته التي أعلنها في حياة أبيه أثناء ترجمته لسيف السنة البر يهي: (ولذلك أجمع الفقهاء على هجره والإنكار عليه مشافهةً ومراسلة ومكاتبةً، وكان من أعظمهم في ذلك القاضي مسعود، ولهذا في الرد عليه كتاب كبير وأخباره يطول ذكرها) (2)، وبهذا تعرف غيرة هذا الفقيه على مذهب أهل السنة، وليس وحده ولكن أجمع جميع الفقهاء الحضارين في ذلك الوقت على ما أبدى على طاهر بن يحيى بن أبي الخير من الإنكار والهجر، ثم تسلمت الراية مدرسة أخرى هي مدرسة الإمام سيف السنة أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبدالله البر يهي السكسكي.
__________
(1) مسعود بن علي العنسي أحد كبار أصحاب الإمام يحيى بن أبي الخير والسائرين على منهاجه منهاج أهل السنة ، وله في ذلك مواقف مشهورة ومؤلفات في الرد على من خالف مذهب السلف الصالح في الأسماء والصفات ، توفي سنة ( 604 هـ ) .انظر ترجمته : طبقات فقهاء اليمن ص ( 216 ) ، وهجر العلم ( 2/731 ) .
(2) السلوك ( 1/322 ) .(76/221)
قال الجندي: (وله كتب عدة في الأصول، يرد بها على المعتزلة والأشعرية، وكان كبير القدر، شهير الذكر، صاحب كرامات عديدة، وكتب مفيدة) (1)، وقد حذا طلابه حذوه في الرد على الأشاعرة وغيرهم (2)، وبأصحاب الإمام البر يهي نقطع أن مذهب أهل السنة كان ظاهراً قوياً إلى ما بعد منتصف القرن السابع، أي إلى بعد دخول الأيوبيين إلى اليمن بنحو مائة سنة حيث كان دخولهم سنة (569هـ) (3).
وبعد منتصف القرن السابع بدأت تقل المعلومات عن وجود قائمين بمذهب السلف، ولكن مذهب السلف الصالح ما كاد ينحسر عن المناطق الشافعية حتى لمع نجمه زاهراً مضيئاً في المناطق الزيدية على يد مفخرة اليمن الإمام العظيم محمد بن إبراهيم الوزير الذي عاش في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، فقد جدد هذا الإمام العظيم مذهب السلف الصالح في تلك المناطق، وأشاد أركانه، وأوضح معالمه؛ مما جعل كتبه مرجعاً لأهل السنة وعلماء السلفية في مختلف بلاد العالم الإسلامي، رغم ما لاقى في سبيل ذلك من محن وأذى، قابلها بالصبر والاحتساب وسعة الصدر والإصرار على التمسك بالحق الذي آمن به.
__________
(1) انظر ترجمته : طبقات فقهاء اليمن ص (190 ) والسلوك ( 1/318 ).
(2) انظر:ترجمة صاحبه وتلميذه محمد بن مضمون بن عمر بن أبي عمران في هجر العلم ( 3/2134 )،وقد توفي سنة ( 663 )
(3) انظر: قرة العيون ص ( 265 ) .(76/222)
وقد كتب الله له النجاح في دعوته، وأثمرت جهوده بإنشاء مدرسة علمية سلفية، راسخة القواعد طيبة الثمار، مازال سبيلها معموراً إلى الآن، وقد سقنا الحديث عنها في هذا المبحث، والغرض هو تقرير أن منهج السلف الصالح في العقيدة مازال موجوداً حاضراً فاعلاً في اليمن منذ أن دخلها على يد معاذ وأبي موسى - رضي الله عنهما - إلى اليوم، وذلك تصديقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك))(1)0
المبحث الثاني
الإسماعيلية ودورها في نشر القبورية في ال
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: طوائف الإسماعيلية التي دخلت اليمن:
سبق في المبحث الأول أن الإسماعيلية التي دخلت اليمن فصيلان: أما الفصيل الأول فهم القرامطة، ويمثلهم علي بن الفضل الجدني، وقد انتهى هذا الفصيل بانتها ء دولة علي بن الفضل وابنه الفأفاء سنة (304هـ) كما سبق على يد آل يعفر الحواليين السُنيين.
وأما الفصيل الثاني فهو المنتمي إلى العبيديين أصحاب الدولة الفاطمية بمصر، وكان يمثل هذا الفصيل منصور اليمن.
__________
(1) تقدم تخريجه ص ( 73 ) .(76/223)
وحينما قضى أهل السنة على الدولة الإسماعيلية ككيان سياسي، وانتهى بذلك أثر علي بن الفضل، لم ينتهِ أثر ابن حوشب أو منصور اليمن، بل إنه عهِدَ بالدعوة من بعده إلى من يقوم بها كما سيأتي في المطلب الثالث، ولكن الذي يهمنا هنا أن الإسماعيلية في مصر في آخر عهد الدولة العبيدية انقسمت إلى قسمين: مستعلية، ونزارية، تبعاً للإمام الذي تبعته كل فرقة منها، وذلك أنه بعد موت الخليفة " المستنصر " اختلف على من يخلفه في الإمامة، فبايع قوم ابنه الأكبر "نزار " وهم النزارية، وبايع قوم آخرون ابنه الأصغر " أحمد " وسموه " المستعلي " وهم المستعلية، والذي يهمنا أن الذين في اليمن من الإسماعيلية ومنهم الصليحيون هم من فرقة " المستعلية " (1).
ثم انقسمت المستعلية باليمن إلى قسمين هما: " الداودية " أتباع الداعي " داهود قطب شاه " والسليمانية أتباع " سليمان بن حسن "، فالداودية هم البُهرة، والذين ولاؤهم للزعامة الإسماعيلية بالهند، وهم الظاهرون والذين ينصبُّ الكلام عنهم كلما ذكرت الحركة الإسماعيلية المعاصرة، وهم أشد تطرفاً وأكثر قبورية، وأما السليمانية فهم الذين يطلق عليهم المكارمة وولاؤهم لزعيمهم المتواجد بنجران، وهم أقل عدداً وأثراً من البهرة (2).
المطلب الثاني: لمحة عن الدولة الصليحية مؤسسة القبورية في اليمن:
__________
(1) الإسماعيلية لإحسان الهي ظهير ص ( 735-736 ) .
(2) الفرقة الباطنية الإسماعيلية ( رؤية من الداخل ) قراءة جديدة وحقائق معاصرة وهذا الكتاب مصفوف بالكمبيوتر ولم يطبع بعد ،وفيه حقائق عظيمة جديرة بالاطلاع و الاعتبار بما فيها قبل أن تفوت الفرصة ويقع الفأس في الرأس ، ومؤلفه يبدو أنه انتحل اسماً مستعاراً هو ( علوي طه الجبل ) ويحق له ذلك ؛ لما يخشى عليه من شر وكيد تلك الطائفة ، وكان من المفيد أن يعجل بنشره بين الناس .(76/224)
بعد موت ابن حوشب أو منصور اليمن، ظل التواصل جارياً بين خليفته في اليمن عبد الله ابن عباس الشاوري وبين المهدي " المزعوم " القائم بالمغرب، وكان قد وصل تكليف رسمي من المهدي للشاوري بالقيام بأمر الدعوة، وفعلاً قام بها، ولكن الحسن بن منصور اليمن لم يسلِّم له، وأحب أن يكون هو قائماً مقام أبيه، وتربص بالشاوري حتى أمكنته الفرصة فوثب عليه فقتله، ثم أعلن نفسه قائماً مقام أبيه، وتتبع من كان مع الشاوري فقضى عليهم.
ثم أعلن تخليه عن مذهب أبيه ورجوعه إلى مذهب أهل السنة، وكان قد قضى على معظم الرجال البارزين من أعوان أبيه، ولم يبق إلا من أمكنه الاستتار، وكان من هؤلاء: يوسف بن موسى ابن أبي الطفيل فقام بأمر الدعوة، ثم قام بعده جعفر بن أحمد بن عباس ثم عبدالله بن محمد بن بشر ثم محمد بن أحمد الشاوري ثم هارون بن محمد بن رحيم ثم يوسف بن أحمد بن الأشج ثم سليمان ابن عبدالله بن عامر الزواحي، وكان هذا الرجل عظيم الجاه كثير المال، فكلما همَّ به أحد من الناس رد عليه قائلاً: (أنا رجل مسلم، أقول: لاإله إلا الله محمد رسول الله، فكيف يحل لكم دمي ومالي؟ فيمسكون عنه)،وهو الذي سلم الأمر إلى الصليحي.(1).
وكان أبو الصليحي محمد بن علي الصليحي قاضياً سنياً فاضلاً ذا مكانة في قومه، وكان الشاوري يزور هذا القاضي الفاضل، فلحظ ابنه وما عليه من مخايل النجابة والذكاء والشجاعة وغيرها من مؤهلات القيام بالدعوة بل بالإمارة، فكان يجالسه، ويفضي إليه بالدعوة، ويرغبه فيها حتى أقنعه.
__________
(1) الصليحيون ص ( 49- 58 )(76/225)
ولم يتعجل الشاب علي بن محمد الصليحي الأمر، ولكنه بدأ يمهد لنفسه بخطوات وئيدة ثابتة، فأخذ يحج بالناس عن طريق السراة والطائف لمدة خمسة عشر عاماً حتى شاع ذكره، وظهرت شخصيته، وعرف مكانه، وكان قد تردد على ألسنة الناس أن ذلك الشاب سوف يملك اليمن، فكان يسمعه من كثير من الناس ولكن يجيب باستبعاد ذلك، وإن كان في قرارة نفسه يتوْقُ إليه ويزيد تصميماً على بلوغه،وعندما حضرت الوفاة سليمان الزواحي أوصى بكتبه وأمواله، وكانت كثيرة لعلي ابن محمد الصليحي، فانكب على تلك الكتب، فقرأها، وفهمها، وصار من العلماء بما فيها، وبعد أن بث دعوته، واستجاب له أعداد كبيرة من الناس، أعلن ثورته وتبعيته للخليفة الفاطمي " المستنصر بالله "، وذلك من جبل مسار سنة (439هـ) (1).
وهكذا تأسست الدولة الصليحية، ومازال الصليحي يتوسع حتى ملك اليمن كله، ولم يكتف بذلك، بل أدخل الحجاز ضمن دولته، وملك مكة وما والاها باسم الفاطميين، وبعد مكاتبات مع خليفته في مصر ولّى العهد لابنه محمد، ولكنه ما لبث أن مات مبكراً في حياة أبيه، فأُخبر الخليفة بذلك وطلب أن يقوم بولاية العهد ابنه الآخر المكرم أحمد، فوافق الخليفة على ذلك (2).
وفي سنة (459هـ) عزم على الحج، وأخذ معه من الأموال والنفائس مالا يقدّر بثمن، كما حمل معه جميع الملوك والأمراء الذين أجلاهم عن الملك، وحبسهم لديه؛ خوفاً من تمردهم، أخذهم جميعاً معه إلى الحج، وعددهم خمسون ملكاً، وترك ابنه ولي العهد بصنعاء، وسار من طريق تهامة في مرافقين آخرين، وكان في موكبه ألفا فارس، غير أن أولئك الفرسان لم يكونوا مرافقين له، وإنما كان قد قدّمهم أمامه، وسار هو في مجموعة صغيرة من آل الصليحي وبعض المقربين (3).
__________
(1) المفيد من أخبار صنعاء وزبيد ص ( 95- 100) تأليف عمارة بن علي اليمني ،طبع دار السعادة بالقاهرة ،الطبعة الثانية ( 1396هـ - 1976م ) .
(2) الصليحيون ص ( 95- 98 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 99 ) .(76/226)
وكان من جملة الموتورين منه آل نجاح حكام زبيد الذين أزالهم عنها، وسلبهم دولتهم؛ فكانوا يتربصون به الدوائر، فلما علموا بسفره رصدوه، ثم تجهزوا في جهاز غير طائل، ولكنّ توفيق الله صحبهم، ونصره تنزل عليهم ففاجأوه بمنطقة يقال لها "المهجم" من تهامة، فأعملوا في معسكره سلاحهم البسيط، فقتلوه، وقتلوا أخاه، وغنموا جميع ما في المخيم من أموال ومجوهرات ونفائس وسلاح وخيل وغير ذلك، ثم احتزوا رأسه ورأس أخيه، وحملوهما مع النساء اللاتي أسروهن، ومنهن أسماء بنت شهاب زوجة الملك علي بن محمد الصليحي وأم أولاده، وقد نصبوا رأس الصليحي وأخيه على رمحين، ووضعوهما أمام أسماء على الراحلة، ثم بعد ذلك نصبوهما أمام الطاق الذي تسكنه بحيث كلما نظرت من الطاقة رأتهما أمامها، وتم لسعيد الأحول النجاحي وإخوانه الاستيلاء على زبيد وإقامة الدولة النجاحية السنية هناك، وكان قتله يوم السبت الحادي عشر من ذي القعدة سنة (459هـ)(1) ودام الأمر لبني نجاح سنة واحدة، وقيل أقل من ذلك (2).
__________
(1) المفيد من أخبار صنعاء وزبيد ص ( 126-127 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 128 ) ، وانظر : التعليق رقم ( 1 ) على نفس الصفحة(76/227)
في أثناء ذلك كانت أم الملك المكرم قد هرَّبت إليه رسالة،تحثه فيها على العمل على فك أسارها، وبالغت في ذلك حتى قالت في الرسالة: (أنها حبلى من العبد سعيد الأحول)، ولم يكن شيء من ذلك، وإنما قصدها حثه على الإسراع حيث قالت: إن تأخرت عن إطلاقي تمت الفضيحة حين ألد بولد لذلك العبد، واستغلَّ المكرم تلك الرسالة أحسن استغلال، فكان يقرأها على الناس في المساجد والمجامع، ويثير بها نخوتهم، فألّب الناس، وجهز لاستعادة زبيد، وفك أسر أمه، وسار في عشرة آلاف شخص حتى داهموا زبيد، واقتحموها، وهزموا بني نجاح ومن معهم، ويمم المكرم تحت الطاق الذي فيه أمه، فأطلقها، وأنزل الرأسين المنصوبين أمام ذلك الطاق، فغسلهما، ودفنهما في زبيد، وبنى عليهما مشهداً، هو ثاني مشهد يثبته التاريخ في اليمن (1)، وعند عودته مرّ بالمكان الذي قتل فيه أبوه وعمه، فأخذ جثتيهما معه إلى صنعاء (2)،وبنى عليهما مشهداً في صنعاء، ثم حاول استعادة ملك أبيه، فأفلح في البعض، وأخفق في البعض الآخر.
وكان قد أصابه الريح حين كشف عن وجهه أمام أمه(3) في زبيد، وبقي مريضاً بذلك، ولكنه بقي ماسكاً بزمام الملك حتى ماتت أمه أسماء سنة (479 هـ)، بعد ذلك فوّض الأمر إلى الملكة السيدة بنت أحمد الصليحية، وهي التي يسميها العامة وأشباههم " الملكة أروى "، ثم انتقلا إلى ذي جبلة من مخلاف جعفر، وهو الذي يسمى اليوم " إب ".
__________
(1) المصدر السابق ص (134) .
(2) االصليحيون ص (134) . وانظر: الأضرحة في اليمن من القرن الرابع الهجري " العاشر الميلادي "وحتى نهاية القرن العاشر العاشر الهجري "السادس عشر الميلادي " "دراسة أثرية معمارية "ص (39) ، وهي رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراة في الآثار الإسلامية من قسم الآثار كلية الآداب جامعة صنعاء د.علي سعيد سيف ، كتاب مصفوف بالكمبيوتر (1419 هـ -1998 م ) .
(3) المفيد ص (133)(76/228)
وفي عام (484 هـ) مات المكرم، فأسند أمر الدعوة إلى الأمير أبي حمير سبأ بن أحمد بن المظفر الصليحي، وبقي الملك بيد السيدة بنت أحمد حتى ماتت سنة (532 هـ)، ودفنت في جامع جبلة يسار القبلة،وقيل أن قبرها كان في موضع خاص قد استثنته من الوقف حين أوقفت أرض المسجد على العموم،فهو يعتبر ضمن المسجد.
وبعد موت الملكة بدأ التحلل في الدولة الصليحية وبدأت النواحي تستقل، فبعد استقلال النجاحيين بتهامة وعاصمتها زبيد في حياة الملكة استقل بعد موتها الزريعيون بعدن والجند وما بينهما والياميون بصنعاء ومخا ليفها ومعظم اليمن الأعلى، وهكذا تساقطت مدنهم وحصونهم حتى كانت نهايتهم سنة (532هـ).
سياسة الدولة الصليحية في تبني ونشر الإسماعيلية:(76/229)
مرَّ بنا أن الدعاة الإسماعيليين توارثوا الدعوة بعد منصور اليمن على نفس المنهج، وكان آخرهم سليمان الزواحي، الذي سلَّم الراية لعلي بن محمد الصليحي، ودرّس علي بن محمد الصليحي الإرث الإسماعيلي، وفهمه حتى صار من دعاته، ولكنه بعد أن أقام دولته انشغل بالسياسة عن الدعوة، وهكذا خلفاؤه: ابنه المكرم وسبأ بن أحمد لم يعرف عنهما الانشغال بالدعوة بأنفسهما، ولكن هناك دعاة عاصروهما، قاموا بما يجب نحوها، ومع ذلك لم يظهر من الصليحيين إجبار لأهل السنة أو الزيدية الذين دخلوا تحت حكمهم على اتباع مذهبهم، والذي يبدو أن الشعار الظاهر هو ترك أهل كل مذهب يعملون بمذهبهم في خاصة أنفسهم، ولكن ولاتهم ودعاتهم كانوا يعملون في الخفاء؛ للإيقاع بخصومهم الذين يعلمون بغضهم لهم وتكفيرهم إياهم، ويعملون المكائد لتفريقهم وإشغال بعضهم ببعض، ومن الأمثلة الناصعة على ذلك ما ذكره الجندي في ترجمة الفقيه زيد بن عبدالله اليفاعي بعد أن ذكر فضل الشيخ وسعة علمه وكثرة طلابه حتى لقد أصبح طلابه أكثر عدداً من طلاب شيخه أبي بكر ابن جعفر بن عبدالرحيم المحابي، وقد كانا يدرّسان في مسجد الجند جنباً إلى جنب، ولم يكن بينهما شيء من المنافسة، قال: (ولم يزل ذلك من شأنهم حتى تمت الحيلة من المفضل في التفريق بينهم، وذلك أنه مات ميت من أهل الجند، فخرج الإمام زيد والإمام أبو بكر بن جعفر في أصحابهما، يقبرون وعليهم الثياب البيض لبس الحواريين، والمفضل يومئذ بقصر الجند، فحانت منه نظرة إلى المقبرة، فرأى فيها جمعاً عظيماً مبيضين، فسأل عن ذلك فقيل: قبر ميت غالب من حضره من الفقهاء، فعرَض بذهنه ما فعله ابن المصوع مع أخيه حيث قتله،وقال: " هؤلاء يكفروننا ولا نأمن خروجهم علينا مع القلة، فكيف مع الكثرة؟ ثم قال لحاضري مجلسه: انظروا كيف تفرقون بينهم، وتدخلون البغضاء عليهم بالوجه اللطيف "، فجعلوا يولّون القضاء بعض أصحاب الإمام زيد أياماً، ويعزلونه، ويولون(76/230)
مكانه من أصحاب الإمام أبي بكر بن جعفر، ثم يولون إمامة الجامع كذلك، ثم النظر في أمر المسجد كذلك، حتى ظهر السباب بين الحزبَين، وكادَ يكون بين الإمامين، فعلم الإمام زيد ذلك فارتحل مهاجراً إلى مكة) (1)، فالكيد والدس ثابت عليهم، ولعلّ الجو لم يساعدهم بشكل كبير وواضح على دعوة عامة الناس إلى مذهبهم، أما الدعوة السرية والفردية فهي قائمة لاشك، وقد كسبوا لهم أتباعاً مازالوا يسيرون على منهجهم إلى اليوم.
ما ينسب إلى الصليحيين من إباحة المحرمات وحط الواجبات:
__________
(1) السلوك ( 1/263 ) ، ملاحظة : على العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله الاعتبار بهذه الحادثة و الانتباه لمكائد الخصوم الذين يعملون على تفريق الكلمة وتشتيت صف أهل العلم والدعوة إلى الله .(76/231)
ذكر الحمادي اليماني -رحمه الله- أنه كان يسمع ما يقوله الناس عن هذه الفئة " الصليحية الباطنية "، وأنه كلما سأل أحداً ممن أشاع تلك الأخبار: أتشهد بذلك؟ قال: لا، إنما سمعت الناس يقولون ذلك فقلته، قال: (فرأيت أن أدخل في مذهبه؛ لأتيقن صدق ما قيل من كذبه؛ ولأطلع على سرائره وكتبه) (1)، ثم بدأ بذكر كيفية الدعوة إلى أن ذكر كيف يحطون عنه الصلاة ثم الصوم، وكيف يحلون له الخمر، وهم في كل ذلك يستدلون بالآيات بعد أن يحرفونها عن مواضعها، ثم بعد اجتياز تلك المراحل، يترقون به إلى ذلك الفعل الشنيع الذي أشيع عنهم، فقال: (فإذا صح عندك حاله، فاذهب به إلى زوجتك، فاجمع بينه وبينها، فيقول: سمعاً وطاعة لله ولمولانا، فيمضي به إلى بيته، ويبيت مع زوجته حتى إذا كان الصباح قرع عليهما الباب، وقال: " قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس، فيشكر ذلك المخدوع له فيقول: " ليس هذا من فضلي. هذا فضل مولانا "، فإذا خرج من عنده تسمع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى منهم أحد إلا بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعي الملعون، ثم يقول: " لابد لك أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك "، فيدفع اثني عشر ديناراً، ويصل به ويقول: يا مولانا إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم وهذا قربانه حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس وحميت الرؤوس، وطابت النفوس أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفئت السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه يده، ثم أمر المقتدي زوجته أن تفعل كفعل الداعي الملعون وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له، فيقول له: " ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكره ولا تكفره على ما أطلق من وثاقكم، ووضع عنكم أوزاركم، وحط عنكم آصاركم، ووضع عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم جهالكم: { وما يلقاها إلاّ الذين صبروا
__________
(1) كشف أسرار الباطنية ( 63 ) .(76/232)
وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم } ") (1).
قال محمد بن مالك -رحمه الله تعالى-: (هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله تعالى لهم بالمرصاد، والله تعالى عليَّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد عليّ بجميع ما ذكرته عالم به، ومن تكلم عليهم بباطل فعليه لعنة الله تعالى ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، وأخزى الله من كذب عليهم، وأعد له جهنم، وساءت مصيراً، ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته) (2)
هذا ما ذكره الحمادي عن علم وخبرة، فهل يسلّم له ذلك ويتابع عليه؟
__________
(1) فصلت الآية(35) .
(2) كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة ص ( 63-70 )(76/233)
أقول: أما الحمادي فلم تُروَ له ترجمة مفصلة في أي كتاب من كتب تواريخ اليمن التي يتداولها الناس، حتى إن القاضي محمد بن علي الأكوع عند تحقيق كتابه ذلك لم يعثر له على ذكر إلا في طبقات فقهاء اليمن للجعدي، حيث قال: (وفي رسالة محمد بن مالك الحمادي)، وكذلك في كتاب السلوك للجندي، قال في سياق كلامه عن علي بن الفضل: (على ما ذكره الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك ابن أبي القبائل أحد فقهاء اليمن وعلماء السنة، وكان ممن دخل في مذهبهما " منصور و"ابن الفضل " أيام الصليحي وتحقق أصل مذهبهما، فلما تحقق فساد ذلك، رجع عنه، وعمل رسالة مشهورة يخبر بأصل مذهبهم، ويبيْن عوارهم ويحذر من الاغترار بهم) (1)، ولذلك فإن الجزم بصدق ما يقول لا يليق بالباحث المنصف، غير أن بعض ما ذكره قد توبع عليه ممن لا يظن أنه نقل عنه، فترتيب الدعوة عند الفاطمية الإسماعيلية بمصر تشبه إلى حد بعيد ما ذكره الحمادي، وقد ذكر ذلك المقريزي، وهو غير متهم عليهم؛ لأن نقله عنهم وحكايته لتاريخهم لا يفهم منه إلا احترامهم واعتبارهم من خيار الخلفاء، كما أن له كتاباً خاصاً بتاريخهم أسماه " اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" (2)، وهو من بين العلماء القلائل الذين أثبتوا انتساب الفاطميين إلى علي - رضي الله عنه -، فأرى أن شهادته عليهم مقبولة قطعاً.
__________
(1) مقدمة كشف أسرار الباطنية ص ( 45-46 ) .
(2) طبع في القاهرة سنة (1387هـ ) .(76/234)
وقد وصف المقريزي في خططه ترتيب الدعوة، وقد جعلها تسع مراتب، وفي المرتبة التاسعة قال: (هي النتيجة التي يحاول الداعي بتقرير جميع ما تقدم رسوخها في نفس من يدعوه، فإذا تيقن أن المدعو تأهل لكشف السر والإفصاح عن الرموز أحاله على ما تقرر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة، والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه، وقال: ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر، وأن الوحي إنما هو صفاء النفس؛ فيجد النبي في فهمه ما يلقى إليه، ويتنزل عليه؛ فيبرزه إلى الناس، ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء، بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها، ويكفيه معرفته؛ فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وماعدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة، لمعرفة الأعراض والأسباب، ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة، وأن الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه، وظهوره الآن إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتبهم، وهذا حاصل علم الداعي، ولهم في ذلك مصنفات كثيرة منها، اختصرت ما تقدم ذكره) (1).
__________
(1) الخطط المقريزية ( 2 /133 ) .(76/235)
وفيما أورده المقريزي شاهد لمراتب الدعوة، وإن كان الحمادي قصر بها عن عدد تلك المراتب، كما فيها شاهد على إسقاط الواجبات والتكاليف، كما ذكر الباحثان إحسان إلهي ظهير في " الإسماعيلية " والدكتور سليمان عبدالله السلومي في " أصول الإسماعيلية " أن للإسماعيلية كتباً في تأويل أركان الإسلام وعباداته من أشهرها كتاب " دعائم الإسلام " و" تأويل دعائم الإسلام " للقاضي النعمان بن حيون المغربي،، ونقلا عنهما وعن غيرهما من التأويل لتلك الأركان والعبادات ما يلغيها فعلاً، وأن بعض من وصل إلى درجة المعرفة لديهم معفوون عنها (1).
كما اعترف بأصل ذلك أحد باحثيهم المعاصرين وهو الدكتور مصطفى غالب في "تاريخ الإسماعيلية"، حيث قال: (وما ظهر من أمور الدين من العبادة العملية وما جاء في القرآن هي معانٍ يعرفها العامة، ولكن لكل فريضة من فرائض الدين تأويلاً باطناً لا يعلمه إلا الأئمة وكبار حججهم ودعاتهم وحدودهم) (2).
وتبقى قضية إباحة الفاحشة سواءً إحلال النساء بالانفراد أو في المشهد الأعظم- كما عبر عنه الحمادي - فهذا الجزء من التهمة لم أجد له من كتبهم ما يشهد له، وإن كان مبدأ التأويل ونسخ الشريعة يسعه ويتضمنه، ولكنهم أنفسهم ينكرون ذلك غاية الإنكار، كما صرَّح بذلك الغزالي في رده عليهم (3)، ولذا فأنا عاجز عن نفيه أو إثباته على سبيل القطع، ولا أحب أن أقذف أحداً بما لم يثبت لديّ بيقين، خصوصاً في مثل هذه التهم القبيحة التي تنكرها الفطر السليمة، والشيم الأصيلة، فضلاً عن الدين القويم.
المطلب الثالث: دور الدولة الصليحية في نشر القبورية في اليمن:
__________
(1) الإسماعيلية تاريخ وعقائد من ص ( 499 – 522 )، وأصول الإسماعيلية ( 2/ 649-662 ) .
(2) تاريخ الإسماعيلية ص ( 42 ) .
(3) فضائح الباطنية ص (30) لأبي حامد الغزالي طبع دار البشير عمان ط الأولى (1413هـ -1993م ).(76/236)
لم يثبت في تاريخ اليمن وجود قبر معظّم عليه مشهد أو مسجد قبل العقد الثاني من القرن الخامس إلا ما ذكر مما يسمى مسجد الشهيدين بصنعاء الذي قيل أنه على قبَري قثم وعبدالرحمن ابني عبيدالله بن العباس - رضي الله عنهم -، والذَين قتلهما بسر بن أرطأة والي معاوية - رضي الله عنه - على اليمن الذي أرسله أثناء الفتنة بينه وبين علي - رضي الله عنه -، فقد قيل: إنه بُنى على قبريهما مسجد، وهذا الذي قيل ذكره المتأخرون من مؤرخي اليمن مثل الجندي حيث قال: (وقبر الطفلين مشهور بصنعاء في مسجد يعرف بمسجد الشهيدين) (1)والخزرجي حيث قال: (فدفن الولدان حيث قتلا وبني عليهما مسجد هو معروف (2)، وقال مثله ابن الديبع (3)، وقال العرشي: فقبرا بصنعاء بالشهيدين، وبهما سمي (4)، فهذه المراجع كلها كما ترى تثبت وجود المسجد على القبر، ولكن متى بني ذلك المسجد؟ ومن الذي بناه؟.
__________
(1) السلوك ( 1/173 )
(2) العسجد المسبوك فيمن ولي اليمن من الملوك – مخطوط مصور صورته وزارة الإعلام والثقافة ضمن مشروع الكتاب 6/1 (70 ) الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد ص ( 39 ) تحقيق الدكتور يوسف شلحد ، طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني سنة ( 1983م ).وفي قرة العيون مصدر سابق ( 70 ) .
(3) عبدالرحمن بن علي الشيباني المعروف بابن الديبع عالم محدث مؤرخ ، من علماء زبيد ، و إليه ينسب المولد المشهور بمولد " الديبعي " ، لديه تناقض كبير ، فبينما هو من أهل الحديث والفقه إذ به يأتي في ذلك المولد بالطامات ، وهذا شأن من سلم لأهل التصوف ، فإنه لا يكاد ينفعه ما لديه من العلم ، وخير مثال على ما أقول هذا الرجل والشرجي الزبيدي صاحب التجريد الصريح في الحديث وطبقات الخواص المليء بالدجل والخرافة . توفي ( 944 هـ ) . انظر ترجمته : النور السافر ص ( 191 ) ، والبدر الطالع ( 1/335 ) .
(4) بلوغ المرام ص .( 9 )(76/237)
عبارتهم بلفظ المبني للمجهول وهي لا تفيد تحديد من بنى أو متى بُني، كما أن العرشي يثبت أن القبر بذلك المسجد، وهو أيضاً لم يحدد تاريخ بناء المسجد، فالذي نفهم من هذه العبارات أنه في أيام أولئك المؤرخين يوجد مسجد، يقال: إنه على قبر ذينك الطفلين، لم يحدد أحد منهم ولا من غيرهم متى بني، ومما يؤكد أنه لم يكن موجوداً في الزمن الأول أن المؤرخ إسحاق بن يحيى بن جرير الطبري الصنعاني المتوفى سنة (450هـ)ذكر الحادثة وقتل الطفلين في باب المصرع، ولم يذكر بناء المسجد عليهما (1)، وكذلك الرازي المتوفى سنة (560هـ) ذكر المصرع، وصرح بقوله: (الموضع الذي يباع فيه السليط وموضع الحدادين إذا أردت أن تنزل سوق العراقيين موضع مسجد ابن زيد، وكانت مقبرة غمدان حيث يحدد الحدادون اليوم بصنعاء، والله سبحانه وتعالى أعلم) (2)، فلو كان هناك مسجد أو مشهد على القبرين لذكرَه، وبهذا نعلم أن المسجد أو المشهد المشار إليه إنما بني بعد ذلك على عادة القبورية الذين يتتبعون المناسبات، وعلى أثرها يبنون على البقعة التي يتوهمون أنها موضع القبر، فتصبح بذلك مزاراً، ولهذا فإن الدكتور "علي سعيد سيف" في رسالته الأضرحة في اليمن لم يثبت هذا المسجد ضمن الأضرحة التي تناولها بالدراسة، وإنما ذكرها في التمهيد فقط، وقال: (ولكن يستشف من بعض الروايات) (3).
__________
(1) تاريخ صنعاء للطبري المذكور ص ( 25 ) تحقيق عبدالله الحبشي ، وطبع مكتبة السنحاني بصنعاء بدون تاريخ.
(2) تاريخ مدينة صنعاء للرازي ص ( 85 ) تحقيق حسين عبدالله العمري ، طبع مكتبة الفكر المعاصر ببيروت ، ودار الفكر دمشق ، الطبعة الثالثة ( 1409هـ -1989 هـ ).
(3) الأضرحة في اليمن ص ( 28 ) .(76/238)
وقد اجتهدت في توضيح هذه المسألة حتى لا يقال أن هناك مشهداً من أيام الصحابة؛ فيتخذ حجة للقبوريين، ومثل ذلك يقال في المسجد المبني على قبر الشريف العراقي، وهو الطبيب العراقي الذي كان يعمل في اليمن في صنعاء، فلما سمع بما يفعله علي بن الفضل بالإسلام والمسلمين نذر على نفسه أن يقتله، فذهب إلى عاصمة ابن الفضل "المذيخرة" وعمل فيها وأظهر براعة في الطب فطلبه علي بن الفضل ليكون طبيباً له ثم احتاج ابن الفضل إلى الفصد ففصده بمبضع مسموم فمات ابن الفضل وهرب الطبيب إلى موضع يسمى " قينان " بوادي السحول فقتل هناك،قال الجندي: (وقبره هنالك، وهو مسجد جامع له منارة يزار ويتبرك، به دخلته في المحرم أول سنة ست وتسعين وستمائة) (1).
وقد علق على ذلك القاضي الأكوع فقال: (والقبر لايزال موجوداً وهذه القصة ظاهرة عليها الصنعة والوضع ومحتاجة إلى مناقشة) (2).
__________
(1) السلوك ( 1/212 )
(2) المصدر السابق الموضع نفسه.(76/239)
أما ابن الديبع فقال: (فأُدرك في السحول عند المسجد المعروف بقينان، فأرادوا إمساكه، فامتنع وقاتلهم حتى قتل، وقبره هناك رحمه الله) (1).وهذا - كما ترى - ليس فيه ذكر المسجد الذي على القبر وعلى كل حال فليس في النقلين ولا في غيرهما ذكر لتاريخ بناء المسجد الذي على القبر ولا من بناه، فليس فيه أي حجة على وجود مسجد على القبر قبل التاريخ الذي ذكرته سابقاً، وهو العقد الثاني من القرن الخامس؛ لأن هذا المسجد لو صح أنه بني عند مقتل ذلك الرجل لكان في القرن الرابع، حيث أنه قتل بعد مقتل علي بن الفضل بأيام، ولكن ذلك لم يصح، وبهذا يثبت أن المشاهد الثابت بناؤها هي التي أسستها الدولة الصليحية الإسماعيلية، غير أنه - ومن باب الأمانة ومعرفة الحقيقة - قد ثبت أن هناك مشهداً واحداً، سبق الدولة الصليحية بسنوات، وهو لا يمت للقبورية بصلة؛ لأنه من مشاهد السلاطين لا من مشاهد الأولياء والصالحين، ذلك المشهد هو مشهد آخر أمير من أمراء بني زياد وعمته، إذ إن وزير ذلك الأمير الطفل - ويسمى نفيساً - كان قد قتل الطفل وعمته بتهمة أن المرأة كانت تكاتب خصمه ومنافسه " نجاحاً "، وكان وقتها فاراً من زبيد بسبب تسلط" نفيس "، فقتلها، وقتل الطفل، ثم بنى عليهما جداراً، فلما علم نجاح بذلك اتخذه ذريعة للانقضاض على خصمه، وجمع الجموع، ثم هجم بهم على زبيد في عدة وقائع، آخرها سنة (412هـ) حيث قتل نفيس، فلما دخل نجاح زبيد سأل مولاه " مرجان ":(ما فعل مواليك وموالينا؟ قال: في ذلك الجدار، فأخرجهما نجاح، وصلى عليهما، وبنى لهما مشهداً، وأعاد مرجاناً في موضعهما، فبنى عليه حياً وعلى جثة نفيس) (2).
__________
(1) فرة العيون ص ( 150 ) .
(2) المفيد ص ( 85-86 ) .(76/240)
وقد ذكر مثل ذلك ابن الديبع في الفضل المزيد (1)، وقريباً منه الخزرجي في العسجد المسبوك (2)، وهذا أول مشهد بني على قبر في اليمن حسبما اطلعت عليه في كتب التاريخ اليمني، وليس هو مما يخشى منه؛ لأنه ليس له فضل من جهة دينية، وإن كان هو من الأمور المحرمة، ومن نتائج الجهل وتوسيد الأمور إلى غير أهلها، مع أن النجاحيين من السُنة، وليسوا من الشيعة رواد القبورية في العالم، ولكنّ السببَ - والله أعلم - هو النزعة السلطانية والكسب السياسي بإظهار وتعظيم ذلك الوزير لأسياده ووفائه لهم بعد أن أصبح هو الوريث لدولتهم، وما أظن أن هذا سوف يحصل لولا أن ظاهرة تقديس القبور وتعظيمها قد فشت في البلاد الإسلامية المجاورة من جهة الدولة الفاطمية الإسماعيلية.
مشاهد آل الصليحي:
الدولة الصليحية إسماعيلية العقيدة، فاطمية الولاء، متأثرة كل التأثر بأسيادها العبيديين في مصر، وقد مر بنا دور العبيديين في نشر القبورية، فلا غرابة أن يكون الصليحيون على منوالهم، وأن يسيروا على طريقهم، ولامانع أن نجزم بأنهم مؤسسو القبورية في اليمن.
مشهد الرأسين:
مر بنا أن بني نجاح عندما قتلوا على بن محمد الصليحي وأخاه أخذوا رأسيهما، فنصبوهما بزبيد أمام طاق زوجة الصليحي " أسماء بنت شهاب "، وعندما هاجم الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي زبيد لاستنقاذ أمه من الأسر، واسترجاع ملك أبيه، أنزل الرأسين، ودفنهما في زبيد، وبنى عليهما مشهداً. قال عمارة: (وأنا أدركت مشهد الرأسين) (3)، وكان ذلك سنة (460 هـ).
مشهد الصليحي بصنعاء:
__________
(1) الفضل المزيد ص ( 55 ) .
(2) المسجد المسبوك ص ( 104 ) .
(3) المفيد ص ( 134 ) .(76/241)
وعند عودة الملك المكرم إلى صنعاء نبش قبري أبيه وعمه، ثم حمل جثتيهما في تابوتين، ودفنهما في صنعاء وأمر ببناء مشهد جامع لهما (1)، وهو بذلك أخذ بسُنّة المعز الفاطمي الذي أحضر معه رفات آبائه عندما انتقل من المغرب إلى مصر، وبنى عليهما التربة الشهيرة التي تسمى " تربة الزعفران " وقد سبق الحديث عنها.
قبر السيدة بنت أحمد في جامع ذي جبلة:
__________
(1) الصليحيون ص ( 134 ) وفي الهامش يقول: ( نقل صاحب العيون " 7/116 " ومشهد الصليحي اليوم قد عفى المتغلبون الظالمون آثاره ،وهدموا مناره ، فإن عنايتهم في ذلك كثيرة ، وفي هدم القبور أفعال نكيرة ، وذلك شيء يتحاماه الكفار والمسلمون ويأنفون عنه وهؤلاء يقدمون ) ، قلت : وهذه هي حجج القبورية في كل زمان ومكان ، يتباكون على هدم المشاهد وتسوية القبور المشرفة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسويتها . انظر للمزيد عن مشهد الصليحي بصنعاء : الأضرحة في اليمن ( 39 ) .(76/242)
قال الهمداني: (وفي غرة شهر شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة توفيت الملكة الحرة عن اثنتين وتسعين سنة من العمر، ودفنت في جامع ذي جبلة أيسر القبلة في منزل متصل بالجامع، وكانت هي التي تولت عمارة هذا الجامع، وهيأت موضع قبرها فيه. وذكر إدريس: " أن بعض ملوك اليمن أراد أن يخرج جثتها من قبرها حين ظن بعض الفقهاء كونها في الجامع، ففتحوا عن قبرها حتى انتهوا إلى تابوت، فوجدوا فيه قفصاً مقفلاً، ففتحوه، فأصابوا فيه كتباً وأحكاماً، تشهد أنها استثنت فيه ذلك المنزل الذي دفنت فيه عن المسجد لقبرها فيه، ووجدوا بذلك علامات القضاة وشهادة الشهود الثابتة عند الحكام، فردوا قبرها على ما كان عليه، وردوا تربته وحجارته إليه "، ويقول إدريس:" وقبرها إلى اليوم،يزوره جميع فرق الإسلام، ويعترف بفضلها الخاص والعام، ويأتي إلى قبرها من أصيب بظلم، أو حاجة، أو علة في بدنه،أو بليَّة، فيتشفعون بها إلى الله تعالى في كشف ما انتابهم بفضلها ") (1).
وفيها وفي قبرها يقول القاضي حسين بن أبي عمران بن الفضل اليامي:
وقفت على قبر الوحيدة وقفة وقد زِين منها مسجدٌ وستورُ
فقبلته واستفتُ رَيَّاً ترابه وعاود قلبي رنة وزفير
و سالت دموع العين مني كأنها بشطِّ مجاري المقلتين سطور
ولله منها روحُ قُدْس تميزت فصارت بأعلى الدائرات تطير(2)
مشهد العباس:
__________
(1) الصليحيون ص ( 207-208 ) وانظر : الأضرحة ص ( 240 ) وما بعدها .
(2) الصليحيون ص (208)،وهذا القاضي هو من الإسماعيلية فلا غرابة أن يقبل قبر الملكة ، و أن يستف ترابه فهذه ديانتهم .(76/243)
هذا المشهد كما يقول - الدكتور علي سعيد سيف - يقع في منطقة أسناف خولان إلى الشرق من مدينة صنعاء على يمين الطريق المار بين صنعاء وخولان الطيال، ويبعد عن صنعاء بحوالي (20)كم، ويحتل المسجد الضريح ربوة مرتفعة تقع جنوب قرية أسناف، وتتبع إدارياً مديرية خولان التابعة لمحافظة صنعاء، (1)، وذكر الدكتور أن العباس صاحب الضريح غير معروف، ولكن بناء الضريح كان بتاريخ (شهر ذي الحجة سنة تسع عشرة وخمسمائة) (2)، وهذا التاريخ يأتي أثناء حكم الملكة السيدة بنت أحمد الصليحية غير أن الدكتور يرجح أن يكون باني الضريح واسمه "موسى بن محمد القطبي " (3) كان من السلاطين السُنيين الذين عاشوا في تلك الفترة، وربما يكون أميراً أو شيخ قبيلة، أطلق عليه لقب سلطان، ولست أوافق الدكتور على ذلك الاستنباط، فما دام العصر عصر الصليحيين، وهم في عصر قوتهم فلن يكون هناك مجال لسلاطين سنّيين، فلم لا يكون ذلك الرجل والٍ من ولاة الصليحيين؟ خصوصاً والدكتور يقول فيما بعد: (ومن المحتمل أن معمار هذا الضريح قد نهَج نهْج معمار الدولة الصليحية في جامع جبلة والذي يتشابه في كثير من الأوجه مع عمائر الدولة الفاطمية بمصر؛ لما كانت بينهما علاقات) (4)، أليس نسبة هذا الضريح إلى الصليحيين أحق من أن ينسب إلى أهل السنة؟ بلى، والدلائل قائمة، فهم الحاكمون، وهم الذين ابتدأوا بإنشاء المشاهد في اليمن، وطريقة بناء الضريح كطريقتهم، وعليه فالمرجح أن هذا الضريح من عمل الصليحين والله أعلم.
المطلب الرابع: استمرار قبورية الإسماعيلية:
__________
(1) الأضرحة ص ( 49) .
(2) المصدر السابق نفس الموضع .
(3) المصدر السابق ص ( 49 – 58 ) .
(4) المصدر السابق ص ( 51 ) .(76/244)
بانتهاء الدولة الصليحية انتهى دور الظهور الثاني للإسماعيلية في اليمن، ودخلوا دور السِّتر الثاني، ولكن دهاتهم ودعاتهم قد أحسوا بذلك قبيل انتهاء الدولة وبالتحديد في أيام الملكة السيدة بنت أحمد، ولذلك فقد كلف (القاضي لمك بن مالك الجمادي عند عودته إلى اليمن من قبل الإمام الخليفة المستنصر وباب أبوابه المؤيد بتنفيذ سياسة معينة بالنسبة إلى إقامة الدعوة ونقل آدابها وعلومها إلى اليمن، وأنه لُقِّب بلقب داعي القلم في عهد الملك المكرم أحمد الصليحي، ولقب داعي البلاغ في عهد الملكة الحرة، وقد اختار هذا الداعي نخبة من التلامذة الأفذاذ البعيدين عن الملك أمثال ابنه يحيى بن لمك والذؤيب ابن موسى الوادعي وإبراهيم بن الحسين الحامدي، وسلم إليهم كل ما كان أخذه من علوم الدعوة أيام إقامته بمصر) (1)، وبهذا كوّنوا الأساس المتين لصرح دعوتهم الذي يعول عليه في بقائها واستمرارها حتى إن ذهبت الدولة، بقيت الدعوة محافظة على كيانها، بل ازدهر علمها في تلك الفترة أكثر فأكثر.
__________
(1) الصليحيون ص( 268 ) .(76/245)
يقول الهمداني: (نرى أن دعوة اليمن مضت من يوم وفاة السيدة الحرة الملكة الصليحية إلى انتهاء الدولة الأيوبية في اليمن في مرحلة تمتاز بنشاط علمي، وجمع شتات التراث الفكري، وتسجيلها في كتب ومؤلفات وحفظ ما تركه المؤلفون الدعاة في عهد الخلفاء الفاطميين، وقد بدأت هذه الحركة العلمية في حياة الملك المكرم والملكة الحرة بعد عودة قاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الحمادي من الديار المصرية إلى مقر الدولة الصليحية، وقد سبق أن ذكرنا أن داعي الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي قرر في أواخر عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي خطوط برنامج الدعوة العلمي، وكلف القاضي لمك تنفيذ هذا البرنامج، ونقل القاضي كتب الدعوة وما احتوته من العلوم إلى اليمن.ثم قررت السيدة الملكة الحرة بعد وصول القاضي إلى اليمن فصل الدعوة عن شؤون الملك، وعينت الملكة يحيى بن لمك والداعي الذؤيب بن موسى الوادعي للإشراف على تنفيذ هذا المشروع العلمي البعيد عن التيارات السياسية، فابتدأت الدعوة تعمل لهذا الغرض في عهد الداعي الذؤيب بن موسى الوادعي، ومأذونه السلطان الخطاب بن الحسن الحجوري، ثم أظهر الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، ومأذونه الشيخ علي بن الحسين بن جعفر بن الوليد القرشي، والشيخ محمد بن طاهر الحارثي نشاطاً بليغاً في هذا الصدد، وبلغ الداعي حاتم بن إبراهيم الحامدي، والداعي علي بن محمد بن الوليد من إنتاجهما الأدبي مبلغاً لا يستهان به. وأثبت الداعي علي بن حنظلة خلاصة بعض علوم الدعوة في رسالته وأرجوزته. وقد واصل علماء اليمن هذا النشاط العلمي في القرون التالية إلى عهد الداعي إدريس عماد الدين الأنف القرشي المتوفى سنة اثنتين وسبعين وثمان مائة، بل إلى أيامنا هذه. ومن هذا العرض السريع نأخذ فكرةعما يوجد من الثروة الأدبية والعلمية في خزائن كتب الدعوة اليمنية) (1). وكانت هذه الجهود في أكثر الأحيان محاطة بالسرية التامة؛
__________
(1) المصدر السابق ص (298) .(76/246)
وذلك لمحاربة اليمنيين لها سواء في ذلك أئمة الزيدية أو سلاطين الشافعية، ولكن كل ذلك لم يفتَّ في أعضادهم، أو يوهن عزائمهم، فاستمروا، وعندما جاءت التعددية الحزبية وحرية الرأي التي تجاوزت الحدود لإعطاء الحرية لأصحاب العقائد الضالة والمبادئ الهدامة والدعوات المشبوهة، عندما جاء هذا العهد، استغلت الإسماعيلية الفرصة، وبدأت تزاول نشاطها بجرأة عجيبة وجهود جبارة وتركيز ينذر بالخطر على البلاد اليمنية، وتداعوا إلى اليمن من كل حدب وصوب، وصار اليمن من أماكن حج البهرة الإسماعيلية، بحيث يحج إلى اليمن حسب تعبيرهم عشرات الآلاف كل عام، والعمل الظاهر الذي يمارسونه هو تتبع الأضرحة والقبور المنسوبة إلى أئمتهم ودعاتهم، وإليك قائمة بأهم المشاهد والقبور والمزارات التي يقصدونها:
قبر الداعي إبراهيم بن حاتم الحامدي الهمداني الحاشدي اليامي في قرية "الحطيب" عزلة شرقي حراز – قضاء حراز - ويعتبر أهم مزار للإسماعيلية الداودية البهرة، ومتوسط من يزوره سنوياً من غير باطنية اليمن خمسة عشر ألف نسمة، خاصة من الهند وباكستان، والداعي المذكور مؤلف كتاب " كنز الولد ".
قبر الملكة السيدة بنت أحمد الصليحي في الجامع الكبير بمدينة جبلة محافظة إب.
قبر إدريس عماد الدين صاحب كتاب "زهر المعاني " المقبور تحت قمة جبل شبام حراز (2920 متر فوق سطح البحر)، وتجري الآن محاولة حثيثة من قبل الإسماعيلية لإقامة مسجد على قبره؛ رغم عدم وجود سكان في هذا الجبل الإستراتيجي، والذي يعد من أهم المواقع العسكرية في المنطقة متحكم في طريق صنعاء الحديدة، ويطل على كل قضاء حراز.
قبر في جبل الصميع في عزلة هوزان قضاء حراز محافظة صنعاء،لم يُعرف اسم صاحبه
قبر الداعي لمك بن مالك في حصن زبارة قسم الملاحي عزلة لهاب قضاء حراز محافظة صنعاء.(76/247)
قبرا الحسين والحسن ابني إدريس عماد الدين في قمة جبل مسار، من عزلة مسار،قضاء حراز، ونشك في أصل وجود هذين القبرين المندثرين بعد أن كُشف عنهما بزعم الباطنية، وهذا الجبل المركز الأول لانطلاق الدولة الصليحية في اليمن، وهو موقع هام واستراتيجي مرتفع عن سطح البحر (2760) متراً،ولازال أهله صامدين أمام هذه الطائفة رغم كثرة الإغراءات والضغوط.
قبر الملا محمد في مدينة زبيد من بلاد تهامة محافظة الحديدة.
قبرٌ في غيل بني حامد عزلة بني مونس، قضاء همدان محافظة صنعاء.
قبرٌ في حصن طيبة المطل على وادي ظهر من قضاء همدان محافظة صنعاء.
10) قبر أويس القرني من قرية الحمى من ضواحي زبيد.
وهناك مساجد يخصونها بالزيارة وليس هناك سبب ظاهر لزيارتها:
1) الجامع لكبير بصنعاء (1).
2) مسجد معاذ بن جبل بالجند.
3) مسجد في حرف سفيان.
4) حصن ذمرمر من بلاد حضور، وهذا الحصن قد كان يوماً مقراً لآل حاتم الياميين، وقد قيل:إنهم كانوا إسماعيلية باطنية، وممن ذكر من أهلها "محمد بن أحمد اليامي"، ووصف بأنه عالم الإسماعيلية وشاعرها (2).
المبحث الثالث
السلاطين ودورهم في نشر القبورية في اليمن
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: السلاطين هم وراء مظاهر القبورية في اليمن قبل الصوفية:
__________
(1) قال زبارة في نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء ط الثانية (1405هـ-1985م ) (3/312):( قال صاحب مطلع الأقمار , ونقلت من خطه أن القبر الذي غربي الصومعة الشرقية بجامع صنعاء هو قبر الحسن بن عبدالله بن الحسن بن جعفر بن محمد بن عبدالله بن العباس بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبى طالب انتهى ) . قلت : فلعلهم يزورون هذا القبر المزعوم .
(2) انظر هجر العلم (2/796-797)(76/248)
لعل أعظم نزعة لدى السلاطين دفعت بهم إلى إنشاء المشاهد ومظاهر العظمة على القبور: هي أبهة الملك،ومحبة استمرار ناموس الملك بعد الوفاة كما كان حال الحياة،كما صرح به المقريزي وهو يتحدث عن تربة أسرة آل قلاوون بالقاهرة (1)،مع بواعث أخرى تقدم الحديث عنها في الفصل الثالث،(2).
ومن أجل الباعث الأول المشار إليه أصبح السلاطين وراء معظم مظاهر القبورية في اليمن، فأول مشهد عرف وثبت وجوده في اليمن على الإطلاق هو مشهد الزياديَيْن، الذي بناه مولاهما نجاح على جثتيهما عندما أنزلهما عن الجدار، وقد تقدم (3)،كما أن السلطان أسعد بن وائل من أوائل من دفُنوا في المساجد في الديار الشافعية إن لم يكن أولهم (4).
وأول قبة بنيت في حضرموت على الإطلاق هي قبة السلطان مسعود بن يماني المتوفىَّ سنة (هـ648) (5)، وهذه المشاهد كلها قبل رسوخ التصوف في اليمن، وحتى أول مشاهد الدولة الصليحية التي سبق الكلام عنها والتي هي أول المشاهد المنظمة والمتوالية- والتي بقي أثرها إلى اليوم- هي كذلك في بدايتها كان لدافع عظمة السلطان دخل كبير فيها، ثم جاءت الدولة الأيوبية وكان معظم سلاطينها يدفنون إما في قباب خاصة، كما دفن المعز إسماعيل بن طغتكين في قبة خاصة به في زبيد تعرف بقبة الخليفة (6)، أو في مدارس أو نحوها، ولإعطاء صورة لما علية سلاطين اليمن من اهتمام بالمشاهد والقباب لأهداف مختلفة أضرب مثالين، أحدهما لإئمة الزيدية، والآخر لسلاطين الدولة الرسولية، وذلك في المطلبين التاليين.
المطلب الثاني: أئمة الزيدية ودورهم في نشر القبورية في اليمن:
__________
(1) الخطط المقريزية ( 3/480 ).
(2) انظر ص (163) .
(3) انظر المفيد في أخبار صنعاء وزبيد ص ( 86 ) .
(4) السلوك ( 2/485 )
(5) الفرائد في قيد الأوابد للعلامة المؤرخ عبد الله بن حسن بلفقية ، مخطوط بمكتبة الأحقاف بتريم ، لديَّ صورة منه .
(6) العسجد المسبوك ص ( 74 ) .(76/249)
رغم أن الغلو لدى الزيدية الأولى لم يكن خارجاً عن الحدّ، ورغم أن اتجاهها هو اتجاه المعتزلة المعتمدين على العقل النافين للخوارق والكرامات كما هو معلوم، إلا أننا نجد أئمة الزيدية في اليمن - وبعد قرون من إنشاء دولتهم وتتابع العشرات من أئمتهم- نجدهم ينحرفون انحرافاً شديداً في هذه المسألة، والذي يظهر - والله اعلم- أن باعث الأئمة لذلك كان باعثاً سياسياً أكثر منه باعثاً عقديا،ً ولكن وجود المشاهد والقباب ووجود سدنةٍ يتأكلون منها ويبنون بها مجداً وجاهاً على أنقاض عقائد الأمة حوّلها إلى مزارات مقدسة يعتقد فيها العوام وأشباههم مالا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى، ومن أجل السياسة أيضاً يتغاضى الأئمة عن ذلك ويتركون العامة يغرقون في بحر الخرافة والشرك وهم ينظرون.
وأئمة الزيدية يبنون المشاهد للسياسة ويهدمونها للسياسة كذلك؛ فالدليل على أنهم يبنونها للسياسة ما بدر من الإمام عبدالله بن حمزة وذلك أنه عاش في آخر القرن السادس وبداية القرن السابع (1)، وهو أول من سن لأئمة الزيدية سنة البناء على المشاهد حيث لم يُسجَّل لأحد من الأئمة قبل عصره شئ من ذلك.
__________
(1) تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن تأليف العلامة عبد الواسع بن يحيى الواسعي ،طبع مكتبة اليمن الكبرى صنعاء الطبعة الثانية سنة (1990م) ص ( 197).(76/250)
والذي يظهر لي- والله أعلم- أنه إنما فعل ذلك مضاهاة لمعاصريه من الأيوبيين الذين عُرِف عنهم أنهم يبنون على قبور سلاطينهم البنايات الضخمة في مصر والشام (1) وفي اليمن كذلك (2)،فلعله أراد أن يُظْهِر بذلك شيئاً من أبهة الملك للأئمة وهم أموات كما هي لهم وهم أحياء، وقد لاحظ ذلك الأستاذ محمد محمود الزييري في كتيِّبه"الإمامة وخطرها على وحدة اليمن" حيث قال: (بهذه النفسية يمارس الإمام أعباء منصبه،وتكاد هذه الأعباء تنحصر في استصفاء ثروة الشعب باسم الزكاة وقمع الانتفاضات الشعبية باسم الجهاد وقتال البغاة، ثم بناء مسجد باسم الأمام تضاف إلى جواره غالباً قبة الضريح لهذا الإمام تمدّ نفوذه الروحي حتى وهو في القبر) (3).
وهذا الذي نسبه الزبيري إلى الإئمة يجب أن يحدَّد بأئمة القرن السابع فَمَنْ بعدهم، وأن أولئك الأئمة قد عمَّروا على معظم قبور الأئمة السابقين مشاهد وقباباً.
وقد خَطَا هذا الإمام بالقبورية في الديار الزيدية خطوات كبيرة جداً، إذ لم يكتف بأن يبني لنفسه مشهداً في حياته أو يوصِي أن يبُنى له ذلك بعد وفاته، وإنما سن ذلك عملياً في حياته بأمر إمامي وتهديد شديد اللهجة لأهل قرية "لصف " حيث قتِل عندهم أخوه إبراهيم بن حمزة وهو يقاتل الأيوبيين، فلما حصل ذلك كتب لهم الأمام عبدالله بن حمزة هذه الرسالة يهدِّدهم فيها إذا لم يبنوا عليه مشهداً أنه سينقل جثمانه عنهم،وهذا نص الرسالة:
__________
(1) سبق الحديث عن مساهمة الأيوبيين في نشر القبورية في الفصل الثالث .
(2) انظر تراجم سلاطينهم في اليمن في الفضل المزيد من تاريخ زبيد وغيره من تواريخ اليمن، وفيها يذكرون كيف يُقْبر سلاطين الأيوبيين.
(3) الإمامة وخطرها على وحدة اليمن ص (13-14) للأستاذ محمد محمود الزبيري طبع دار الكلمة صنعاء بدون تاريخ .(76/251)
(بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور بالله أمير المؤمنين إلى كافة الساكنين بلصف من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنا نحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، ونسأله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى0
أما بعد: فقد بلغنا جفوتكم للشهيد الذي توفي بين أظهركم، وحطَّ رحله بين أفنيتكم، وجاد بنفسه دون بلادكم،واستقبل بوجهه العدوّ صبراً واحتساباً حين زاغت الأبصار فشلاً، وبلغت القلوب الحناجر وجلاً، وظن قوم بالله الظنونا جزعاً، وابتلي المؤمنون بالهزيمة امتحاناً، وزلزلوا بالحادثة اختباراً، فرخص عنده من الموت ما غلا عند غيره، وغلا عنده من الفرار ما رخص عند سواه, وعلم القصد فتم العزم، ومضى على البصيرة على مناهج السلف الصالح مستقبلاً لكثرة العدو وعزمه، ومستصغراً لعظيمة نجده، فبلغنا أنكم هاجرون لقبره، قالون لمصرعه، قد صغّرتم منه ما عظّم الله سبحانه جهلاً، وجهلتم ما علم الصالحون حيرة وشكاً، كأنكم لم تسمعوا أقوال محمد صلى الله عليه وآله فينا – أهل البيت خاصة – ((أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة بعد حمزة وجعفر رجلٌ منا أهل البيت خرج بسيفه فقاتل إماماً ظالماً فقُتِل))، فهلا – رحمكم الله – استشفيتم بتراب مصرعه من الأدواء، وسألتم بتربة مضجعه رفع الأسواء، واستمطرتم ببركة قبره من رحمة ربكم طوالع الأنواء, وعظَّمتم حاله كما يُعَظَّم حال الشهداء، وأوجبتم من حقه ما ضّيع الأعداء، وعمَّرتم على قبره مشهداً، وجعلتموه للاستغفار مثابة ومقصداً، ونذرتم له النذر تقرباً، وزرتموه تودداً إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وإلينا تحبُّباً، فقد رُوِّينا عن أبينا صلى الله عليه في حديث فيه بعض الطول أنه نظر إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما يلعبان بين يديه فبكى فهابه أهل المنزل أن يسألوه، فوثب عليه الحسين عليه السلام فقال: ما يبكيك ياأبتي؟ فقال: إني سررت بكما اليوم سروراً لم أسرّ به قبله مثله، فجاءني(76/252)
جبريل فأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، قال: يا أبتي فمن يزورنا على تباين قبورنا؟ قال: ((قوم من أمتي يريدون بذلك برّي وصلتي إذا كان يوم القيامة أتيت حتى آخذ بأعضادهم فأنجيهم من أهوالها وشدائدها)).
ألا فاعلموا بعد الذي بلغنا عنكم أنا قد قَلَيْنا له جواركم، ورغبنا به عن داركم، وعزمنا بعد الخيرة لله سبحانه وتعالى على نقله من أوطانكم إلى من يعرف حقه، ويتيقن فضله وسبقه، فلو رعيتم له حرمه القرابة وفضل وراثة النبوة)تأمل(! لعلمتم حرمة ذلك الدم الزكي، وكثر عليه منكم الباكون، والبواكي، فإن كان ذلك من غرضكم فإنا نفعله إن شاء الله تعالى، وإن لم يكن من إرادتكم فلسنا بتاركيه بتوفيق الله سبحانه،والسلام) (1).
والرسالة لم تقتصر على بناء المشهد عليه بل تعدت إلى طلب الاستشفاء بتراب مصرعه، والسؤال بتربته، والاستمطار بقبره، فهل كان الإمام فعلاً- وهو من هو في العلم والعقل والدهاء - هل كان يعتقد ذلك؟! أظنه لم يكن كذلك وإنما كما قلت سابقاً يريد إسباغ الهيبة وإضفاء المكانة على مشهد وقبر أخيه، ولذلك فإنه حينما لم يتم الإصغاء إليه فأنه نقل جثمانه إلى قرية الزاهر بالجوف حيث قُبِر هناك (2).
__________
(1) هجر العلم (1/223-225)
(2) المصدر السابق (1/224).(76/253)
والإمام الثاني الذي كرر نفس الأسلوب هو الإمام يحيى بن محمد حميد الدين الذي أمر في رسالة أخرى قبيلة أرحب ببناء تابوت وقبة على قبر الإمام أحمد بن هاشم الويسي المتوفي سنة (1269هـ)والمدفون في "دار أعلا" من أرحب للتبرك به،وهدَّدهم إن لم يفعلوا ذلك بأنه سينقل رفاته إلى مكان آخر، فما كان من أهل أرحب إلا أن بنوا له قبة ووضعوا على قبره تابوتاً (1)، والذي جعلني أدَّعي أن الباعث على ذلك هو السياسة أن الإمام يحيى كذلك كان عالماً وعاقلاً ولم يكن من السذاجة بحيث يعتقد أن ذلك مما يحبه الله ويرضاه،ثم إنه في نفس الوقت أو بعده بقليل كان ابنه وولي عهده الإمام أحمد بن يحيى يهدم قبور أولياء الصوفية في الديار الشافعية كما سيأتي بعد قليل.
__________
(1) المصدر السابق (1/255).(76/254)
تلك هي الحوادث والتصرفات التي تدل على أن أئمة الزيدية يبنون المشاهد لأجل السياسة وإن كان قد ترتب على ذلك خلل كبير في عقيدة الكثير من العوام وأشباههم، كما صور ذلك الإمام الشوكاني رحمه الله حين ذكر ما يجري عند مشهد الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين (1)، وبعد أن ألِفَ علماءُ تلك البلاد هذه المشاهد -وكان القائمون وراءها أئمة مجتهدين - ركنوا إلى ذلك الواقع، وأحسنوا الظن بمن سن تلك السنة وتابعوهم عليها، ليس بالفعل فقط ولكن بالإفتاء أيضاً، وهذه نقلة خطيرة جداً، وتحول كبير في هذا المسار عند الزيدية، والذي أفتى بذلك هو الإمام الجليل يحيى بن حمزة الذي أثنى عليه الإمام الشوكاني رحمه الله في البدر الطالع ثناءً عاطراً (2)، رغم رده عليه في هذه الفتوى، والفتوى المقصودة هي مانقلها عنه الإمام المهدي في البحر الزخار حيث قال: (مسألة (ي) ولابأس بالقباب والمشاهد على الفضلاء لاستعمال المسلمين ولم ينكر) (3).
ثم تبع الإمام المهدي على ذلك الإمام يحيى فقال في الأزهار وهو يتكلم عما يندب في القبر ومنه رفعه قدر شبر (وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل)(4)
ومن المعلوم أن الإمام الشوكاني قد ردّ على هذه الفتوى بكتابه المشهور "شرح الصدور في تحريم رفع القبور ".
هذا ما يتعلق ببناء المشاهد والقباب وأما هدم تلك المشاهد وكونه للسياسة كذلك فهو أظهر، وإليك هاتين الواقعتين:
__________
(1) 4 انظر : الدر النضيد ص(48)0
(2) البدر الطالع (2/ 332-332 )
(3) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار تأليف الإمام أحمد بن يحيى المرتضى (2/132)، طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء تصوير عام (1409هـ-1988م) عن الطبعة الأولى (1366هـ-1947م)(2/132)0
(4) الأزهار في فقه الأئمة الأطهار(1/361) للإمام المهدي صاحب البحر الزخار مع شرحه السيل الجرار تحقيق محمد إبراهيم زايد طبع دار الكتب العلمية ببيروت الطبعة الأولى الكاملة (1405هـ-1985م) .(76/255)
أما الواقعة الأولى فهي ما حدث من هدم للقبور المشرفة والمشاهد المقامة عليها أيام الإمام المتوكل على الله المعاصر للشوكاني،حيث إنه أجاب أئمة الدعوة النجدية إلى هدم بعض المشاهد في صنعاء وما حولها،وكتب بذلك إلى سائر الجهات، ذكر ذلك الإمام الشوكاني في "البدر الطالع" وصاحب كتاب "حوليات يمانية " وسيأتي نص كلامهما في الباب الثالث إن شاء الله (1)، وقد جزْمتٌ بأن الأمر كان سياسة لا تديناً؛ لأن ذلك الإمام بينما كان يرضخ للنجديين ويداهنهم كما عبر بذلك صاحب الحوليات كان في نفس الوقت يكاتب الأتراك والمصريين للقدوم إلى الجزيرة والقضاء على الدولة النجدية (2).
والواقعة الثانية التي تدل على أن من أئمة الزيدية من يهدم القبور لأجل السياسة هي حادثة هدم بعض القبور في الديار الشافعية من اليمن، والتي قام بها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين حيث أزال القبة التي على قبر الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل عام (1348هـ)، حينما كان والياً للعهد بعد أن تغلب على معارضة قبيلة الزرانيق – التي كانت تعرف من قبل بالمعازبة- لامتداد نفوذ الإمام يحيى إلى بلادها ودخولها تحت حكمه، كما أزال الإمام أحمد كذلك التابوت من على قبر أحمد بن علوان في يفرس من ناحية جبل حبشى عام(1362هـ) (3)،قد يقول قائل لم لا تحمل هذا العمل على المحمل الحسن وتجريه على أفضل تقدير وتجعله من باب إزالة المنكر؟
__________
(1) الباب الثالث(ص 547 ).
(2) انظر ذكريات الشوكاني ص (113- إلى آخر الكتاب ) تحقيق د.صالح رمضان محمود طبع دار العودة (1983م) وحوليات يمانية ص (22-23) تحقيق عبدالله محمد الحبشي لم يسم المؤلف طبع دار الحكمة اليمانية صنعاء ط الأولى (1411هـ-1991م )
(3) هجر العلم (1/222-223).(76/256)
فأقول: إن الذي يمنع من حمله على ذلك هو عدم إقدام الإمام أحمد عندما كان ولياً للعهد، أو بعد أن أصبح إماماً على إزالة شئ من مشاهد البلاد الزيدية، فلو كان الأمر لوجه الله لما فعله في ناحية وتركه في ناحية أخرى، قد يكون بعض مشاهدها أشد من تلك التي هدمها،كما قال القاضي إسماعيل الأكوع حفظه الله (1)، ومما يؤكد صلة المشاهد الزيدية بالسياسة أن معظم المشاهد المعظمة في الديار الزيدية هي للأئمة وحواشيهم، وقلّ أن تجد مشهداً لرجل فقير أوضعيف، وإليك قائمة بأهم المشاهد الزيدية وستكون إن شاء الله على حسب التسلسل الزمني لإنشائها:
1) مشهد الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة من منطقة ظفار ذيبين.
2) مشهد الأمير عماد الدين يحي بن حمزة (أخو عبدالله بن حمزة) بمدينة كحلان.
3) مشهد الإمام أحمد بن الحسين المعروف بأبي طير في مدينة ذيبين.
4) مشهد الإمام يحيى بن حمزة (وليس أخا عبدالله بن حمزة بل هو من ذرية الحسين وليس من ذرية الحسن (2)ومشهده بمدينة ذمار.
5) مشهد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بصعدة(3)ومعه عدد من أبنائه وأحفاده ومشهد الإمام المهدي باني تلك المشاهد.
6) مشهد الإمام صلاح الدين بصنعاء.
7) مشهد الإمام المهدي لدين الله أحمد بن المرتضى حصن الظفير حجة.
8) مشهد الإمام المهدي صلاح بن علي بن محمد بن أبي القاسم بصعدة.
9) مشهد الإمام الناصر محمد بن يوسف بن صلاح بن المرتضى بمدينة ثلا.
10) مشهد الإمام شرف الدين يحيى بن شمس الدين أحمد بن يحيى المرتضى بظفير حجة.
__________
(1) نفس المصدر نفس الموضع.
(2) انظر البدر الطابع ( 2/332-333 ).
(3) وهو مؤسس الدولة الزيدية باليمن توفي سنة (298هـ) ولكن المشهد لم يعمر إلا مابين سنة (733) و(750هـ) وهي فترة حكم الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد الذي كان أول من بنى مشاهد مقبرة صعدة على قبور الإمام الهادي وبنيه ، انظر : الأضرحة ص (161)(76/257)
11) مشهد مدرسة الإمام شرف الدين بثلا، وفيه عدد من أبنائه وبناته وذويه.
12) مشهد الأمير صلاح الدين بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين بمدينة ثلا.
هذه بعض المشاهد وقد تركت الكثير سواها وهي كلها موجودة مشاهدة للعيان، وقد كتب عنها كتابة تاريخية أثرية الدكتور علي سعيد سيف في رسالته المقدمة للدكتوراه من جامعة صنعاء باسم "الأضرحة في اليمن من القرن الرابع إلى القرن العاشر"، فيمكن لمن أراد معرفتها بدقة أن يرجع إلى هناك.
مع العلم أن أكثر هذه المشاهد تضم إلى جوار من هي باسمه عدداً من أبنائه وأحفاده وزوجاته، وهذا يثبت أن أئمة الزيدية قد ساهموا في نشر مظاهر القبورية في جهاتهم كسائر حكام اليمن.
المطلب الثالث: الدولة الرسولية ودورها في نشر القبورية في اليمن:
لمحة عن الدولة الرسولية:
الدولة الرسولية منسوبة إلى مؤسسها " نور الدين عمر بن علي بن رسول" (ت 647هـ)، وقد قامت على أنقاض الدولة الأيوبية،حيث كان عمر بن علي من قواد هذه الدولة أيام آخر ملوكها الملك المسعود، وحين عزم الملك المسعود على السفر إلى مكة حيث مات بها، استبد بالأمر ودعا إلى نفسه وخطب له بذلك، ثم توالى أبناؤه وأحفاده في الملك والسلطنة، وامتدت دولتهم من حضرموت إلى مكة بل في بعض الأحيان من ظفار إلى مكة، وعاشوا في صراع مع أئمة الزيديه حيناً يأخذون صنعاء وذمار وحجة، وحيناً يصل أئمة الزيدية إلى زبيد أو إلى تعز أو إب وهكذا، وامتدَّ حكمهم من سنة (625هـ) إلى سنة (958هـ) وهي مدة طويلة زادت على ثلاثة قرون وقد تميزت هذه الدولة بالقوة والعظمة والإنجازات الضخمة في شتى الميادين.(76/258)
ففي العمران فعلت ما لم تفعله دولة أخرى في اليمن،وكان أكثر ملوكها مشاركين في العلم والأدب فبنوا المدارس وجلبوا العلماء والمدرسين ووقفوا الأوقاف العظيمة عليها،كما جمعوا نفائس الكتب بل ألفوا الكثير منها في فنون مختلفة، وفي عصرهم ازدهر التصوف وشجع بعضهم أتباع ابن عربي أصحاب وحدة الوجود.
وبالجملة فقد كانت هذه الدولة مفخرة من مفاخر اليمن في جوانب كثيرة، كما كانت فاتحة شر كبير في جوانب أخرى، ومن أهمها فتح الباب أمام التصوف المنحرف الفلسفي تصوف أصحاب وحدة الوجود الذي ما تزال آثاره ظاهرة إلى هذا التاريخ وإن أفل نجمه وذهبت دولته، كما أنهم رسخوا القبورية في اليمن من خلال قبور سلاطينهم وتبنيهم لبناء بعض المشاهد على قبور بعض من يعتقدون فيه الصلاح، هذه هي الدولة الرسولية.
وإليك لمحة عن بعض قبور الدولة الرسولية:
قبور الدولة الرسولية:
1) الملك نور الدين عمر بن علي بن رسول المتوفى(647هـ) (1) دفن في المدرسة الأتابكية في ذي هزيم في مدينة تعز بعد أن نقلوه إليها من الجند (2).
2) الملك الأشرف عمر بن المظفر المتوفى (696هـ) (3) ودفن في المدرسة الأشرفية بمدينة تعز (4).
3) الناصر بن الأشرف المتوفى (725 هـ) (5) ودفن في المدرسة الأشرفية مدرسة والده (6).
4) الملك المجاهد المتوفى (764هـ) (7) ودفن في مدرسته المجاهدية بتعز (8).
__________
(1) ا نظر ترجمته في العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية(1/51) تأليف علي بن الحسن الخزرجي تحقيق محمد بن علي الأكوع طبع مركز الدراسات والبحوث اليمني الطبعة الثانية (1403هـ-1983م) وقرة العيون ص(299) .
(2) 2العقود اللؤلؤية (1/82 ).
(3) انظر ترجمته في: العقود اللؤلؤية (1/239) وقرة العيون ص(337).
(4) المفضل المزيد ص ( 94 )
(5) انظر ترجمته في: العقود اللؤلؤية (2/13) وقرة العيون ص (349) .
(6) الفضل المزيد ص (96 ).(76/259)
5) الملك الأفضل بن المجاهد المتوفى (778هـ) (1) وحمل من زبيد إلى تعز ودفن في مدرسته الأفضلية (2).
6) الملك الأشرف بن الأفضل المتوفى (783 هـ) (3) ودفن بمدرسته الأشرفية بتعز (4).
7) الملك الناصر بن الأشرف المتوفى (878هـ) (5) ودفن في مدرسة والده الأشرفية (6).
8) الملك المنصور بن الناصر بن الأشرف المتوفى (830 هـ) (7) ودفن بمدرسة جده الأشرفية،وقد كان موته بمدينة زبيد فُحمل إلى تعز (8).
9) الملك الظاهر يحيى بن إسماعيل المتوفى (842 هـ)(9)ودفن في مدرسته الظاهرية (10) بمدينة تعز.
10) الملك الأشرف إسماعيل بن الظاهر يحيى المتوفى (845 هـ)(11)ودفن عند والده بالمدرسة الظاهرية بمدينة تعز(12).
هؤلاء الملوك الذين وقفت على التصريح بدفنهم في المدارس التي بنوها، ولا يبعد أن يكون غيرهم من الأمراء ومن الملوك الذين ولّوا ولايات قصيرة أو خرجوا على الملوك الرسميين أن يكونوا كذلك قد دفنوا في مدارس أو مشاهد، بل لا يبعد أن تكون نساؤهم كذلك وقد وقفت على تصريح بواحدة منهن.
__________
(1) انظر ترجمته في : العقود اللؤلؤية(2/111) وقرة العيون ص (368). .
(2) الفضل المزيد ص(102).
(3) انظر ترجمته في العقود اللؤلؤية (2/141) وقرة العيون ص(376).
(4) الفضل المزيد ص (104).
(5) المصدر السابق ص(104) .
(6) المصدر السابق ص (108).
(7) المصدر السابق ص (108).
(8) المصدر السابق ص (109).
(9) الفضل المزيد ص(109)0
(10) 2 المصدر السابق ص(113)0
(11) المصدر السابق ص (113-114)0
(12) المصدر السابق ص (115)0(76/260)
11) قال ابن الديبع: وفي السنة المذكورة (836هـ) توفيت أم السلطان الحرة الطاهرة، أم الملوك جهة الطواشي، جمال الدين فرحان بمدينة زبيد في الثاني عشر من صفر، ودفنت قريباً من تربة الشيخ طلحة بن عيسى الهتار، وأمر ولدها السلطان الملك الظاهر بإنشاء مدرسة عظيمة على ضريحها ورتب فيها إماماً وخطيباً وأيتاماً ومعلماً لهم وعشرين قارئاً يقرؤون القرآن عند ضريحها عقب كل صلاة، ورتب لهم ما يقوم بكفايتهم. (1)
12) كما أشار الجندي إلى أن هناك تربية خاصة بخواص وأقارب بني رسول حيث قال في ترجمة محمد بن القاضي عمر الهزاز: (وكان المظفر يجله ويعتقد صلاحه وربما زاره سراً إلى منزله - إلى أن قال- وحين بلغت وفاته الملك المظفر كتب إلى أولاده سألهم أن يدفنوه في التربة التي هي قبلي جامع عدينه، ففعلوا ذلك إذ خواص بني رسول من القرابة والسراري مقبورون فيها) (2).
وهذه التربة ربما كانت على غرار ترب الفاطميين والمماليك التي سبق ذكرها.
مساهمة سلاطين الدولة الرسولية في بناء المشاهد على قبور من يعتقدون فيهم الصلاح:
بنى سلاطين الدولة الرسولية المشاهد والقباب على قبور من يعتقدون صلاحهم، ولكن للأسف لم نجد النص الصريح على شئ من ذلك إلا على قبر الشيخ أحمد بن علوان، ومشهد أحمد بن علوان يوجد بمنطقة يفرُس محافظة تعز، وهو معاصر للملكَيْن عمر بن علي بن رسول وابنه المظفر، ويعد من أكابر أقطاب الصوفية في اليمن، عُمّر مشهده وأول من عمّره الملك المظفر ذكر ذلك صاحب الأضرحة، ولم يحدد التاريخ الذي جرى فيه البناء،كما أن المشهد والمسجد المجاور له قد شهد توسعة وترميماً كثيراً في فترات مختلفة، أهمها على يد السلطان عامر بن عبدالوهاب الطاهري كما هو مكتوب هناك(3)،وآخرها على يد بعض ولاة الأتراك.
المبحث الرابع
نشأة الصوفية ودورها في نشر القبورية في اليمن
__________
(1) المصدر السابق ص (111).
(2) السلوك ( 2/ 117 ) .
(3) الأضرحة ص ( 123 ) وما بعدها .(76/261)
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نشأة الصوفية في اليمن:
سبق تعريف الصوفية والتفريق بين الزهد الذي دعا إليه الإسلام وبين التصوف المنحرف، والإيضاح بأن كلامنا إنما هو منصب على التصوف الفلسفي المنحرف، سواء شَعَرَ المتصوفة القائمون به بأصل ذلك التصوف وعرفوا مصادره أم أخذوه تقليداً وثقة بمن قبلهم، فالانحراف هو الانحراف إن أتى على يد خبيث ماكر أو على يد صالح مغفل، وأما الأشخاص أنفسهم وما هي مقاصدهم ونواياهم فذاك شيء مرده إلى الله تبارك وتعالى وليس إلينا، إذا عرفنا هذا التذكير حق لنا أن نشرع في رصد مبدأ هذا التصوف المنحرف ونشأته.
روّاد التصوف في اليمن:
لعل حضرموت كانت هي الرائدة في جلب واستيراد التصوف، فقد ذكر مؤرخو حضرموت أن أول من عرف بالتصوف فيها هو " عبدالله بن أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله " حيث ذكر الشاطري في " أدوار التاريخ الحضرمي " أن من شيوخه أبا طالب المكي، فقد تلقى عنه علم التصوف، وقرأ عليه كتابه "قوت القلوب " ذلك الكتاب الشهير في فن التصوف.وذلك لما حج سنة (377 هـ) (1) غير أن هذا الرجل لم يكن له أثر يذكر في نشر التصوف في حضرموت، كما سيأتي عند حديثنا عن الفقيه المقدم، وهذا كما نرى من رجال القرن الرابع.
وفي القرن الخامس:يطالعنا اسم الصوفي "سود بن الكميت" المتوفى (436 هـ) حيث ترجمه الشرجي في "طبقات الخواص "،وذكر قصة تحوله إلى التصوف، وأنه كان له أصحاب ومريدون، وأنه كان يجلس معهم في المسجد ويأكل وينام معهم فيه (2)،وهو أشهر من عرف بالتصوف أو من أشهرهم في هذا القرن،مع وجود آخرين أشار إليهم السيد عبدالله الحبشي ولم يبين أسماءهم وذكر أنهم من المناطق المحاذية لتهامة ومن مدينة تعز(3).
__________
(1) أدوار التاريخ الحضرمي ص( 162- 163 ) .
(2) طبقات الخواص ص( 150-151 ) .
(3) الصوفية والفقهاء في اليمن ص( 12 ) تأليف عبدالله بن محمد الحبشي توزيع مكتبة الجيل الجديد صنعاء (1396-1976).(76/262)
وفي القرن السادس: اشتهر الصوفي أحمد بن أبي الخير الصياد المتوفى سنة (579 هـ) وقد كان رجلاً عادياً من عوام مدينة زبيد، وعلى أثر رؤيا رآها تحول إلى التصوف، وصحب الشيخ إبراهيم الفشلي الآتي ذكره في القرن السابع، قال الشرجي بعد ذكر الرؤيا:(ومنذ ذلك الوقت أخذ يترقى في درجات التصوف) (1).
قلت: ثم اشتهر أمره، وتجمع حوله المريدون وسجلت له الكرامات،ونقلت عنه أقوال ذات قيمة عند أهل التصوف (2). والملاحظ أنه في هذا القرن بدأت تتكون جماعات التصوف ويلتفّ المريدون حول شيوخهم لا لطلب العلم ولكن لأخذ الفيوضات والبركات وسلوك ذلك الطريق المبتدع، وليس هذا خاصاً بالصياد وحده بل قبله كان لشيخه إبراهيم الفشلي، الذي سيأتي الحديث عنه في القرن السابع.
القرن السابع: هذا القرن هو في الحقيقة قرن التصوف ففيه نبتت وترعرعت البذور التي بذرت في القرون الماضية وشهد تحولات كبيرة منها:
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 64-69 ) .
(2) المصدر السابق .(76/263)
1)دخول مدرسة ابن عربي - مدرسة وحدة الوجود - إلى اليمن وكان ذلك على يد رجل غامض مشبوه يقال له "المقدسي"، لا يعرف اسمه الحقيقي ولا شيء من ترجمته (1)؛ وذلك لشدة حنق الفقهاء وأهل العلم عليه وهجره، بل ومحاولة قتله في قصة طويلة عجيبة تدخّل على إثرها السلطان وزجر الفقهاء وتوعدهم أشد الوعيد إن هم تعرضوا له ولأصحابه (2)، ولكن هذا الرجل لم يمت إلا وقد غرس تلك النبتة الخبيثة في اليمن، وقد قرر العلامة الأهدل أنه أول من قدم بكتب ابن عربي إلى اليمن. (3)
كما ظهر هذا القول كذلك في هذا القرن لدى أبي الغيث بن جميل الملقب شمس الشموس المتوفى سنة (651هـ) وألَّف في ذلك كتاباً (4)، ولدى معاصره أحمد بن علوان وله في ذلك عدة كتب منها:" البحر المشكل الغريب " و" الفتوح المصونة والأسرار المخزونة " و" التوحيد الأعظم (5)".
__________
(1) قال القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه المدارس الإسلامية في اليمن طبع مؤسسة الرسالة بيروت مكتبة الجيل الجديد صنعاء ط الثانية (1406هـ-1986م ) ص( 83- 84 ): ( لم نعرف اسم المقدسي كاملاً ولا تاريخ قدومه إلى اليمن ولا تاريخ ولادته ووفاته ومكانهما فيما بين أيدينا من المراجع ، ولعل ذلك الإهمال كان مقصوداً من المؤرخين نكاية به وتجاهلاً لعلمه ومعرفته لعلم المنطق ) ،قلت: ليس علمه علم منطق ولكنه الفلسفة الإلحادية .
(2) السلوك ( 2/111- 113 ) .
(3) كشف الغطاء عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين وذكر الأئمة الأشعريين ومن خالفهم من المبتدعة وبيان حال ابن عربي وأتباعه المارقين ص(217) للعلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل طبع تونس .( 1964م ) .
(4) أنكر العلامة الأهدل أن يكون هذا الكتاب للشيخ أبي الغيث وذلك لأنه أمي ، ولكن السيد عبدالله الحبشي رد عليه في ذلك وأثبت أن الكتاب تأليف ابن جميل. انظر : الصوفية والفقهاء ( ص71 – 72 ) .
(5) الصوفية والفقهاء ص( 72 ).(76/264)
وقد ذكر مترجمو الرجلين أن لهما مكاتبة تشهد بمدى ما وصلا إليه من التبجح والدعوى التي عرف بها أهل تلك النحلة، قال الشرحبي في ترجمة أبي الغيث:(وكتب إليه الشيخ أحمد المذكور " ابن علوان " مرة من بلده كتاباً يقول فيه: أما بعد. فإني أخبرك أني:
جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا حتى انتهيت مراتب الإبداع
لا باسم ليلى أستعين على السرى كلا ولا لبُنى تقل شراعي
فأجابه الشيخ أبو الغيث بكتاب يقول فيه: من الفقير إلى الله تعالى أبي الغيث بن جميل غَذِيِّ نعمة الله تعالى في محل الحضرة، أما بعد فإني أخبرك أني:
تجلَّى ليَ الاسم القديم باسمه فاشتُقَّتِ الأسماء من أسمائي
وحبانيَ الملك المهيمن وارتضى فالأرض أرضي والسماء سمائي. (1)
قال الحبشي:(وبهذين الرجلين – أبي الغيث وابن علوان – قامت مدرسة الفلسفة الصوفية في اليمن، إلا أن قربهما المباشر من عصر ابن عربي لم يجعلهما يستفيدان من كتاباته الخاصة، وإنما كان ذلك من خلال المشرب الذوقي الذي عُرِفتْ به تعاليم هذه المدرسة، وهم ينهلون جميعاً من الاتجاه الذي سار عليه أسلافهم من دعواهم في الحب والقرب وغيره من إشارات الصوفية)(2).
في هذا القرن دخلت الطرق الصوفية من الخارج، ونشأت الطرق الصوفية المحلية،وإليك لمحة عن أهم الطرق الصوفية التي عرفتها اليمن في هذا القرن في المطلب التالي.
المطلب الثاني: أهم الطرق الصوفية التي عرفتها اليمن:
الطرق الوافدة:
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 409 _ 410 ) .
(2) الصوفية والفقهاء ص (73)(76/265)
1) الطريقة القادرية: وهي أول وأشهر الطرق الصوفية في اليمن، وقد أعاد الحبشي أول لقاء لليمنيين بهذه الطريقة وشيخها إلى سنة (561 هـ)، وهي سنة وفاة الشيخ الجيلاني - رحمه الله - حيث لقيه اثنان من اليمنيين في موسم الحج، وهما الشيخ " علي بن عبدالرحمن الحداد " والشيخ "عبدالله الأسدي "، أما الأول فالتقى به صدفة عند الكعبة، وأما الثاني فقد سافر خصيصاً للقاء الشيخ عبدالقادر عندما علم بأنه ناوٍٍ على الحج تلك السنة، فالتقى به في عرفات. ولم يوضّح ما هو دور الرجلين في نشر الطريقة القادرية في اليمن؟ولكن من بين من ذكر أنهم أخذوا الطريقة القادرية من صوفية اليمن "أحمد بن أبي الجعد "ووفاته ببضع وسبعين وسبعمائة (1)،(وأبو بكر بن محمد بن أبي حربه) وفاته (794هـ) (2) وبهذا نقطع أن هذه الطريقة دخلت اليمن في القرن السابع وربما قبله بقليل.
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 72 – 74 ) .
(2) الطبقات الخواص ص ( 380 – 381 ) .(76/266)
2) الطريقة المَدْيَنِيَّة:المنسوبة إلى الصوفي المغربي الشهير "شعيب أبي مدين التلمساني"، وهذا الصوفي قد صدّر طريقته إلى اليمن عن طريق مكة عبر تلميذه عبدالرحمن المقعد، ولكن المقعد مات في الطريق فوكل إيصالها إلى رجلٍ آخر هو "عبدالله الصالح المغربي" الذي وصل إلى تريم،وإلى من سماه أبو مدين ووصفه الفقيه المقدم- محمد بن علي باعلوي- المتوفى سنة (653 هـ)، فدخل خلسة إليه وهو في حلقة شيخه الفقيه "علي بن محمد بامروان "فغمزه وأخذه من بين يدي شيخه فأبلغه الرسالة وحكّمه وألبسه لباس الصوفية، فعاد إلى شيخه وهو كذلك فغضب عليه شيخه وزجره وظل مقاطعاً له حتى مات "رحمه الله "، ثم ذهب إلى قيدون فلقي الشيخ "سعيد بن عيسى العمودي" المتوفى سنة (671 هـ) فحكّمه كذلك وأدخله في عداد الصوفية،ولقي في دوعن كذلك " باعمر " صاحب عُورَة وألحقه بالجماعة، ثم توجه إلى ميفعة ولقي الشيخ عبدالله باحمران فحكّمه كذلك وألحقه بهم، واستقر في ميفعة حتى مات، وعند موته قسم تركته بين تلاميذه وأشار إليهم بأن هناك علامة على من يكون شيخهم وهو أن يقع من نصيبه السبحة فوقعت من نصيب الفقيه المقدم، وبذلك أصبح شيخ صوفية حضرموت وشيخ الطريقة المدينية بها، وعند وفاته نصّب زوجته أم المساكين في منصب شيخ الصوفية بحضرموت (1)
__________
(1) انظر : قصة إرسال أبي مدين إلى حضرموت في( الجوهر الشفاف في ذكر فضائل ومناقب وكرامات السادة الأشراف) تأليف عبد الرحمن الخطيب الأنصاري وهو مخطوط ، ولدي نسخة مصورة منه ( 1/81- 82 ) في الحكاية السابعة والعشرين وفي المشرع الروي ( 2/ 4-5 ) ،وحتى لا يظن أحدٌ أنني بالغت في تعبيري أو طعنت في ( عبد الله الصالح المغربي – ومرسله أبي مدين – أو في الفقيه المقدم ) ، أسوق قصتهم بحروفها من الجوهر الشفاف لعبدالرحمن الخطيب حيث قال : ( الحكاية السابعة والعشرون: روى المشايخ - رضي الله عنهم - أنه قيل لشيخ شيوخنا الشيخ الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنهم - :إنه لا يفك قفل قلبك إلا الشيخ عبدالرحمن المقعد ،وكان الشيخ عبدالرحمن المقعد - رضي الله عنهم - إذ ذاك بمكة -حرسها الله تعالى- فسار الفقيه شيخ شيوخنا = = قاصداً نحوه ، فلما بلغ أثناء الطريق أخبر بوفاته فرجع إلى بلده ،وكان الشيخ عبدالرحمن المذكور - رضي الله عنه - من كبار تلامذة الشيخ الكبير خاص الخواص أبي مدين - رضي الله عنهم - ، وكان شيخه أبو مدين - رضي الله عنهم - قد أمره بالسفر إلى حضرموت ، وقال له: إن لنا فيها أصحاب سر إليهم وخذ عليهم عقد الحكم ولبس الخرقة أو كما قال ، و قال له : ولكنك لاتصل إليهم بل تموت في أثناء الطريق ونرسل إليهم من يأخذ عليهم ذاك ، فسار الشيخ عبدالرحمن طالباً حضرموت ، فلما بلغ في أثناء الطريق حضرته الوفاة فأحضر تلميذه الشيخ الكبير العارف بالله تعالى عبدالله الصالح المغربي - و كان من أولاد ملوك المغرب فآثر سلوك هذه الطريقة ففتح له وكان من كبار تلامذته ولهما الكرامات الخارقة والإشارات المفيدة الفائقة - وأمره بالمسير إلى حضرموت وقال له ما قال له الشيخ أبو مدين - رضي الله عنهم - ، وفي رواية أنه قال له أيضاً : اذهب إلى حضرموت تجد فيها الفقيه محمد بن علي أبو علوي عند الفقيه علي بن أحمد أبي مروان يستقي يعني يأخذ منه العلم ، طارح سلاحه فوق رجليه ، فاغمزْه من عند الفقيه وحكّمْه، واذهبْ إلى قيدون تجدْ فيها الشيخ سعيد بن عيسى فحكّمْه ، قال الشيخ عبدالله : فلما وصلت إلى تريم وجدت الفقيه محمد بن علي كما قال الشيخ عبدالرحمن فغمزته وحكّمته - و ما شاور أبا مروان - فلما رجع إليه وفي رأسه الخرقة اغتاظ عليه وقال له : رجوناك إماماً مثل ابن فورك فتركت صحبتنا ورجعت إلى زي الصوفية أو كما قال ، فقال له الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنه - : : = الفقر خير 0وهجره أبو مروان إلى أن توفي وستأتي حكايتهما في ذلك إن شاء الله تعالى ، فسار الشيخ عبدالله فلما وصل إلى حضرموت اجتمع بشيخ شيوخنا الفقيه محمد بن علي - رضي الله عنهم - وقال له الشيخ عبدالله : أي لؤلؤة عجماء لو ثقبت ، فقال الشيخ محمد ، وما الثقب قال :التحكيم ، فانخلع الشيخ محمد عما هو عليه من زي الفقهاء وترك صحبتهم ،وتحكم للشيخ عبدالله ولبس منه الخرقة ، وأقبل على الله تعالى في السر والعلانية ورغب في صحبة الصوفية ، قالوا ودعا لذريته عند ذلك بثلاث دعوات ( الأولى ) بذل النفوس ولا يعودون إلى العمومية أي لا يزالون على زي الفقراء ( الثانية ) أن لا يسلط الله تعالى عليهم ظالماً يؤذيهم ( الثالثة ) أن لا يموت أحد منهم إلا وهو مستور في دنياه - أي لا تكون به حاجة تضر بدينه - قالوا : فقبلهن الله تعالى ، فما يموت أحد منهم إلا وهو بتلك الصفة ، ولم يسلط الله تعالى عليهم بعد ذلك ظالماً أبداً ببركة دعوة الشيخ لهم - رضي الله عنه - ) . الجوهر الشفاف (1/81-83 ).
وكذلك قال الشلي في المشرع : ( فلما رآه شيخه علي بامروان تغير عما كان قال له: أذهبْتَ نورك وقد رجونا أن تكون كابن فورك واخترتَ طريق التصوف والفقر وقد كنت على المقدار والقدر ، فقال الأستاذ : الفقر فخري وبه أفتخر ، وبه على النفس والشيطان أنتصر ، ولا أتباعد عنكم إعراضاً ، ولا تبدلت بكم معتاضاً 0 وهجره الفقيه وظن أن يفيد فيه الهجر ، ورأى أنه أعظم من الزجر ، واستمر مهاجراً له إلى أن مات0 ) المشرع الروي ( 1 /2- 5 ) ، وفي هجر الإمام بامروان للفقيه المقدم دليل على أن أهل حضرموت كانوا على منهج الكتاب والسنة ، وأنهم لم يعرفوا ذلك الانحراف الصوفي إلى أن قدم ذلك المغربي بالتصوف وأخذه عنه الفقيه المقدم ، ولكن منذ ذلك التاريخ استفحل الشر وانحرف الأكثر بتأثير ذلك الفقيه وأتباعه من أبنائه وفقرائه واللائذين بهم ممن ينسبون إلى الفقه والعلم ، بعد أن ضعف الفقه وقل العلم ، ومازال التصوف يفشو والعلم ينقص حتى أظلم الكون ، وعم الانحراف ، وظهرت الدعاوى والرسوم ، وزالت الحقائق ، وأصبح من النادر وجود فقيه متضلع مدرك للأدلة ومذاهب العلماء قادر على الترجيح والاختيار ، أما علم التفسير والحديث فلم يبق لهما أثر ، وسيأتي في الباب الثاني مزيد بيان لهذه القضية .(76/267)
.
3) الطريقة الرفاعية: المنسوبة إلى أحمد بن علي الرفاعي المتوفى (578هـ)، وقد دخلت اليمن على يد عمر بن عبدالرحمن بن حسان القدسي المتوفى سنة (688هـ) وكان الشيخ قد أدرك أحد أحفاد الشيخ أحمد الرفاعي وهو نجم الدين الأخضر،فأخذ عنه الخرقة الرفاعية، وتربى بين يديه تربية صوفية، فلما استكمل الشيخ تعليمه أمره أن يدخل اليمن وينشر الخرقة الرفاعية هنالك، وفي اليمن اجتمع القدسي ببعض من صوفيتها أمثال الشيخ عمر بن سعيد الهمداني وغيره، ويقول الشرجي: أنه (تنقل بعد ذلك إلى عدة أماكن في اليمن وابتنى عدة ربط بعد أن شهر الخرقة الرفاعية، وانتشرت عنه انتشاراً كلياً لاسيما في مخلاف جعفر) (1).
4) الطريقة الشاذلية: نسبة إلى الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله الشاذلي المتوفى سنة (656هـ)، وقد انتقلتْ هذه الطريقة إلى اليمن على يد الشيخ علي بن عمر بن دعسين الشاذلي الذي كان من أوائل المؤسسين في اليمن (2).
5) الطريقة السهروردية: نسبة إلى الشيخ عمر بن محمد السهروردي المتوفى سنة (631هـ) ذكرها العيدروس في الجزء اللطيف وذكر أن من أتباعها في اليمن إسماعيل الجبرتي والعلوي (3).
الطرق المحلية: أهم الطرق المحلية التي نشأت في هذا القرن:
1) الطريقة العلوية: المنسوبة إلى الفقيه محمد بن علي باعلوي المشهور بالفقيه المقدم الذي سبق ذكره آنفاً في الطريقة المدينية.
2) الطريقة الأهدلية: نسبة إلى الشيخ علي بن عمر الأهدل المتوفى سنة نيف وستمائة، وهو أخذها في الأصل عن رجل من أصحاب الشيخ عبدالقادر الجيلاني يسمى الأحوري وقد (كثر أصحابه وأتباعه وتخرج به جماعة ممن شهر، وذكر منهم الشيخ أبو الغيث بن جميل وأحمد بن أبي الجعد) (4).
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 245 ) والصوفية والفقهاء ص ( 36 ) 0
(2) انظر الصوفية والفقهاء ص ( 35 )
(3) انظر الجزء اللطيف ص ( 23 ) ضمن المجموعة العيدروسية .
(4) طبقات الخواص ص( 195 – 198 ) .(76/268)
3) الطريقة العلوانية: نسبة إلى الشيخ أحمد بن علوان صاحب يَفْرس (1).
السماع الصوفي:
وفي هذا القرن " السابع " فشى وانتشر السماع الصوفي، وهو إنشاد الأشعار في المساجد ومواطن العبادة بقصد التقرب إلى الله تعالى، واعتبار ذلك من ضمن الوسائل التي تقرب إليه وتزكِّي النفس وتسمو بالروح، سواء حصل معها عزف بالمعازف المعروفة كالدفّ والشبَّابة ونحوها أو لم يحصل، وفي كثير من الأحيان يصحب ذلك رقص وتمايل وطرب زائد، وربما وصل إلى السكر والإغماء وفقدان الشعور، وكل ذلك تُعطى له المسوّغات، ويُؤصل له بما يظهره وكأنه من أعظم القرب وأفضل الشعائر في العرف الصوفي، وكان من روّاده في هذا القرن، الشيخ أبو الغيث بن جميل، والشيخ أحمد ابن علوان،والشيخ محمد بن أبي بكر العواجي، والشيخ محمد بن عيسى الزيلعي (2)، والشيخ سفيان الأبيني وغيرهم (3) وسيأتي مزيد من الحديث عن السماع في الباب الثاني إن شاء الله.
الشطح الصوفي:
تعريف الشطح:
عرَّفه المناوي بقوله: (كلام يعبِّر عنه اللسان مقرون بالدعوى، ولا يرتضيه أهل الطريق من قائله وإن كان محقاً) (4)، وفي قوله لا يرتضيه أهل الطريق نظر؛ لأن الواقع أن أعظم من يعتبرهم الصوفية أهل الطريقة أو أهل الحقيقة هم أهل الشطح بل المبالغون فيه، بل في كثير من الأحيان نجد أعظمهم شطحاً أرفعهم رتبة، ثم كيف لا يرتضونه وهم ينقلونه عن أولئك الشاطحين باعتباره من جواهر كلامهم ودرر ألفاظهم وخوارق كراماتهم، بل ربما أثبتوا به بعض ما يقررون من القضايا 0
لاشكَّ أنهم يرتضونه وإنما يتظاهرون أمام الآخرين بعدم ارتضائه أو بتأويله.
__________
(1) مقدمة كتاب الفتوح للشيخ أحمد بن علوان تحقيق عبد العزيز سلطان طاهر المنصوب طبع دار الفكر المعاصر ط الأولى (1416هـ - 1995م ) بيروت لبنان .
(2) الصوفية والفقهاء ص (32) .
(3) طبقات الخواص ص( 147 ) .
(4) التوقيف على مهمات التعاريف ص ( 429 _ 430 )(76/269)
وكذلك قوله (وإن كان محقاً) الغالب في الدعاوى والشطح ألا يكون محقاً، ومن تتبع تلك الشطحات عرف ذلك، والحق في هذه القضية أن أقصى ما يمكن فعله هو التماس العذر للشاطح بأنه قال ذلك في حال سُكْر وغيبوبة، ومن كان هذا شأنه فإنه جدير أن يدرج في طبقات المجانين لا في طبقات الأولياء.
وقد نُقِل شطح كثير عن صوفية هذا القرن كان كالمدخل لأصحاب الدعاوى والباحثين عن الشهرة والمنزلة عند عوام الناس، يتوسعون فيه ما شاء لهم هواهم واستخفافهم بحدود الشرع وعظمة الحق وعقول الخلق.
ومن الصوفية الذين سجّلوا السبق في الشطح من أهل هذا القرن أحمد بن علوان، وأبو الغيث بن جميل في قصتهما الشهيرة ومفاخرتهما التي ساقها معظم من ترجمَ لهما وقد سبق ذكرها.(1) والفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي وهو من أعظمهم في ذلك (2). والشيخ أحمد بن أبي الجعد الأبيني.(3)
انتشار التصوف في عموم اليمن:
__________
(1) انظر (ص 222 ).
(2) انظر بعضاً من شطحه في : الجوهر الشفاف ( 1/ 35 ) وما بعدها والغرر ص ( 147 ) والمشرع (2/9 ) .
(3) مرآة الجنان (4/ 349 – 350 ) .(76/270)
وفي هذا القرن انتشر التصوف في عموم مناطق اليمن، وظهر في كل منطقة قطب من أقطابهم الذين لا يزال تأثيرهم وتعلق الناس بهم قائماً إلى اليوم، وأكثر المناطق قبولاً للتصوف في هذه الفترة تهامة، فقد ظهر في شمالها صاحبا عواجه محمد بن حسين البجلي (621 هـ) (1)، ومحمد بن أبي بكر الحكمي (617هـ) (2) وفي المراوعة ظهر علي بن عمر الأهدل (نيف وستمائة) (3) وفي بيت عطاء أبو الغيث بن جميل (651 هـ) (4)، وفي بيت الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل (696) (5)، وفي التريبة قرب زبيد عيسى بن إقبال الهتار (606هـ) (6)، فهؤلاء ستة من كبار الصوفية كلهم من تهامة، وفي محافظة تعز أحمد بن علوان (655 هـ) (7)، وفي لحج سفيان بن عبدالله الأبيني (وفاته القرن السابع) (8)، وفي أبين أحمد بن أبي الجعد الأبيني (690 هـ) (9)، وفي عدن جوهر بن عبدالله الصوفي سنة (616هـ) (10)، وفي محافظة شبوة محمد بن عبدالله بامعبد كان حياً سنة (680هـ) (11)، وفي حضرموت –دوعن- سعيد بن عيسى العمودي (671) (12)
__________
(1) انظر ترجمته في طبقات الخواص ص ( 267 ) .
(2) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 264 ) .
(3) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 195 ) .
(4) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 406 ) .
(5) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 75 ) ، ومرآة الجنان ( 4/395 ) .
(6) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 249 ) ، و ومرآة الجنان ( 4/458 )
(7) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (69 ) ، ومرآة الجنان ( 4/357 )
(8) انظر ترجمته في المصدر السابق ص (146 ) ، ومرآة الجنان ( 4/348 ) .
(9) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 72 ) ، ومرآة الجنان ( 4/371 ) .
(10) انظر ترجمته في المصدر السابق ص ( 120 ) ومرآة الجنان ( 4/347 ) .
(11) إدام القوت أو معجم بلدان حضرموت للسيد عبدا لرحمن بن عبيد الله السقاف منشور في مجلة العرب العدد (15) .
(12) القول المختار فيما لآل العمودي من الأخبار جمعَه عبدالله أحمد الناخبي مخطوط مصور لديَّ .(76/271)
وفي تريم الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي (653هـ) (1)، ورغم عدم الاستقصاء فإنك ترى أن معظم ديار الشافعية في اليمن قد عمَّها التصوف في هذا القرن.
أثر الدولة الرسوليَّة في ترسيخ التصوف وتقويته في اليمن:
في هذا القرن كانت الدولة الرسولية في أوج قوتها وعنفوان شبابها، وكان سلاطينها يدينون بالولاء التام للصوفية؛لأن الصوفية قد اتخذوا عندهم أيادي جليلة، من أهمها بشاراتهم بالملك واستمراره في أعقابهم،فجدهم عمر بن علي بن رسول بشَّرَه جماعة من الصوفية بالملك وقوَّوا عزمه عليه (2). وكذلك بشَّرَ إبراهيمُ الفشلي الملكَ المظفر باستمرار الملك في ذريته حينما نازعه إخوانه على ذلك (3). وبهذا حصل الاعتقاد التام في الصوفية لدى ملوك وأمراء بل وساء قصور بني رسول، وبذلك مكَّنَتْ الدولة الرسولية للصوفية تمكيناً تاما ً، فما من اعتراض من الفقهاء على الصوفية إلاَّ ويقمعه ملوك بني رسول، وما من انحراف يحدثه الصوفية إلا ويتأوّلونه لهم، وانظر على سبيل المثال قصة النزاع بين الفقهاء وبين أصحاب وحدة الوجود،والتي شرحَها وبيَّنَ مراحلها وأحداثها الأستاذ عبدالله الحبشي في كتابه " الصوفية والفقهاء في اليمن " (4).
هكذا تكامل نشر الصوفية ورسخت جذورها بل وبسقتْ وتمتْ فروعهاوآتتْ ثمارها في هذا القرن، وواصلت التطور والتوسع في القرون اللاحقة (5).
قبورية الصوفية:
__________
(1) الغرر ص ( 145 ) وما بعدها والمشرع ( 2/2 ) وما بعدها .
(2) انظر العقود اللؤلؤية ( 1/ 52 ) .
(3) الصوفية والفقهاء ص ( 47 ) .
(4) المصدر السابق من ص ( 85 ) إلى آخر الكتاب .
(5) انظر الفصل الرابع عشر من كتاب " التصوف في تهامة " ص ( 117 ) وما بعدها تأليف محمد بن أحمد العقيلي ، الطبعة الثانية بدون تاريخ ولا دار طبع .(76/272)
سبق الحديث عن نشأة المشاهد وبناء المساجد على القبور في اليمن، وأنها كانت على يد الدولة الصليحية الباطنية، وعلى أيدي السلاطين وبالأخص الأيوبيين والرسوليين ومن جاء بعدهم ومن عاصرهم من أئمة الزيدية، ولم يسجل في ذلك الوقت مشاهد خاصة بالصوفية، ومما يؤكد أنه لم يكن للصوفية مشاهد وقبور شهيرة - يقصدها الناس للتبرك بها وعَمَلِ ما يعمله الصوفية المتأخرون عند قبور أوليائهم - خلوُّ طبقاتِ فقهاء اليمن للجعدي من ذلك تقريباً، وقد كان فراغه منه في آخر القرن السادس في عام (586هـ) (1)، بينما نجد البهاء الجندي قد شحن كتابه السلوك بذلك، وأكثَرَ من ذكر القبور التي تزار ويتبرك بها (2)، وإن لم يذكر أن عليها مشاهد إلا نادراً (3)، حتى أن القاضي الأكوع في مقدمته للسلوك تبرَّم من ذلك، وأنكرَه وسجَّل كلمة قيمة وملاحظة طيبة عليه.
بداية الزيارات الحولية:
__________
(1) مقدمة الكتاب ص ( ل ) .
(2) انظر الجزء الأول الصفحات ( 356 ) و ( 392 و 393 ) و ( 423 ) و ( 455 ) و ( 462 ) ، والجزء الثاني ( 60 و 61 ) و ( 62 ) , ( 65 ) و ( 82 ) و ( 117 ) , ( 182 ) و ( 183 ) و ( 188 ) و ( 230 ) و ( 234 ) و ( 242 ) و ( 261 ) و ( 447 ) و ( 457 ) و ( 458 ) .
(3) انظر : أمثلة ممن أقيم عليه مشهد أو فيه تابوت أو بني على قبره مسجد أو دفن في مسجد في الجزء الثاني ص (263 ) و ( 426 ) و ( 485 ) .(76/273)
وفي تراجم رجال هذا القرن تُطالِعُك الزيارات الحولية وغير الحولية للقبور وبعض الأماكن الأخرى، ففي ترجمة محمد بن ظفر الشميري قال الجندي: (وبلغتُ تربته قاصداً زيارته،وأقمت عندها أياماً، وهو بمسجد وإلى جنبه امرأته، وببركته مازالت قريته محترمة ما قصدها أحد بسوء إلا خذله الله، ولم أجد بتلك الناحية مزاراً أكثر من تربته قصداً للزيارة وقضاء الحوائج التي تطلب من الله، وكثرة النذور لها، وفي ليلة الرغائب من رجب يجتمع عندها خلق ناشر) (1).
كما يطالعك في هذا القرن بدايةُ اتخاذ اجتماعٍ موسميٍّ لزيارة قبر نبي الله هود على يد الشيخ عبد الله باعباد المعروف بـ" القديم " وذلك بعد جذاذ النخل وتعبئة التمر، وليس على الأشهر القمرية (2)0
وذكر اليافعي قصة زيارة الشيخ أحمد بن أبي الجعد وأصحابه والشيخ سعيد بن عيسى العمودي وأصحابه لقبر نبي الله هود - عليه السلام - وما جرى بينهما مما سيأتي في الباب الثاني (3)، كما ذكر زيارة الكثيب الأبيض بأبين، ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين، وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب (4)، وفيه ذكر مؤرخو حضرموت أن الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي كان يزور قبر نبي الله هود - عليه السلام - (5).
وهكذا في هذا القرن تكاملت فصول الصوفية وظهر معظم مقوماتها وعرف أبرز رجالها ثم فشت وترسخت أكثر وأكثر حتى يومنا هذا.
الباب الثاني
آثار القبورية
ويشتمل على مدخل وأربعة فصول
المدخل
وفيه بيان نشأة العقائد الضالة عن الغلو في الصالحين
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
__________
(1) السلوك (2/263) و الرغائب : هي الصلاة المبتدعة التي تُصلى في ليلة أول خميس من شهر رجب ، وقوله" خلق ناشر " أي كثير.
(2) انظر : تاريخ حضرموت (1/69) 0
(3) انظر ص ( 237 ).
(4) مرآة الجنان ( 4/ 352-354 ) .
(5) انظر : الفرائد في قيد الأوابد للعلامة عبد الله بن حسن بلفقيه ص ( 25 ) .(76/274)
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون.
المبحث الثاني: عقيدة الرجعة وإمكان الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة.
المبحث الثالث: الاعتقاد بحياة الخضر واللقاء به.
سبق في الباب التمهيدي تعريف القبورية وأنها(طائفة غلت في أصحاب القبور واعتقدت فيهم عقائد ضالة، حملتها على تعظيم قبورهم وآثارهم،والتقرب إليهم بأنواع من العبادات حتى صيّرتهم أنداداً لله تعالى).
فهذه الطائفة أهم سماتها الغلو وهو مجاوزة الحد في هؤلاء الناس الذين زَعَمَتْهُم أولياء لله تعالى،مما نتج عنه عقائد ضالة، بعض هذه العقائد شرك وبعضها دون ذلك،وبناءً على تلك العقائد نشأ تعظيم القبور والآثار المنسوبة إلى أولئك الأولياء، وبهذا التعظيم غرست بذور من بذور القبورية في نفوس هؤلاء القبورية ومقلديهم من العوام، مثل المحبة والخوف المتجاوزَيْن حدود الطبيعة الذَين أوجبا التذلل والانكسار أمام هؤلاء الأولياء أحياءً وأمواتاً، وحملا على التقرب إليهم بما لا يُتقرب به إلا إلى الله سبحانه من النذر والذبح والطلب منهم ما لا يجوز طلبه إلاّ من الله تعالى وهو الدعاء، وبناءً على كل ذلك نشأت في الأمة أمراض فتاكة مثل السحر والكهانة والدجل والخرافة والتمايز الطبقي وتجهيل الأمة.
من هذا المنطلق سيكون تناولي لآثار القبورية، وهناك آثار كثيرة لن أتكلم عنها لضعف أو خفاء ارتباطها بالقبورية التي حددتُ معالمها في هذا التعريف، والتي قد يكون لها بواعث أخرى غير الغلو في أصحاب القبور،ومن أمثلة ذلك عقيدة وحدة الوجود وإضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الصوفية والسماع الصوفي، فهذه الثلاثة النماذج وغيرها قد يتطلع القارئ لبحثها ودراستها ولكنني لن أخوض فيها لخروجها عما رسمته وحددته لنفسي، ولضيق المساحة المحددة لهذا البحث.
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون(76/275)
وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: تعريف القطب:
قال الجرجاني في تعريف القطب: (وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم, وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق،وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها).(1)
هذا هو القطب، وهو مأخوذ عن الإسماعيلية كما سبق عن ابن خلدون(2)، والإسماعيلية أخذته عن الفلاسفة، وما النفس الناطقة إلا إحدى مراتب الألوهية عند الفلاسفة.
المطلب الثاني: اعتماد ما تقرر من تعريف القطب عند قبورية اليمن:
__________
(1) التعريفات ص ( 177 – 178 ) .
(2) هو المؤرخ المشهور وواضع علم الاجتماع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الاشبيلي توفي سنة ( 808هـ ) اشتهر بالتاريخ الذي سماه العبر وديوان المبتدئ والخبر ومقدمته التي تعد من أصول علم الاجتماع ، ترجم نفسه في آخر التاريخ وترجمه الكثير من الباحثين ، انظر ترجمته في أخر كتاب التاريخ ( 7/365 ) وما بعده ، والضوء اللامع للسخاوي ( 4/145 ) ، الأعلام للزركلي ( 3/330 ) ،انظر : مقدمة التاريخ طبعه دار إحياء التراث العربي .(76/276)
ما اشتمل عليه تعريف القطب السابق هو ما اعتقده صوفية اليمن ودانوا به، يقول اليافعي(1) بعد أن ذكر حديث الأبدال الموضوع: ((وله واحد قلبه على قلب إسرافيل)) قال: (والواحد المذكور في هذا الحديث هو القطب، وهو الغوث ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم)(2).
وقال الحداد: (والقطب الغوث هو: إمام الأولياء أهل الدائرة والتصريف، وهم المعدودون في الأخبار والآثار الواردة فيهم). (3)
وتلك الصفات التي يتحلى بها القطب قد أسبغها قبورية اليمن على أوليائهم، وبهذا وصف الشيخ علي الأهدل صاحبي عواجة البجلي والحكمي فقال أثناء حكاية ساقها الشرجي عن اليافعي في بعض مصنفاته: (يا أبا الغيث هذان في مقام التولية والعزل، يوليان ويعزلان ويميتان ويحييان بإذن الله تعالى وسوف أرثهما وترثني أنت) (4).
وبذلك وصف محمد بن أحمد باجرفيل الدوعني أبابكر العيدروس حينما استفسره محمد بن عمر بحرق عن تصرفات مالية تصرفها العيدروس على غير الوجه الشرعي فقال: (أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها، وأشهد أنه أفضل أهل الأرض ظاهراً وباطناً) (5).
__________
(1) عبد الله بن أسعد اليافعي توفي سنة ( 786هـ ) أحد أقطاب صوفية اليمن فقيه مؤرخ صاحب كتاب روض الرياحين في ذكر حكايات الأولياء والصالحين ومرآة الجنان في التاريخ،انظر : طبقات الخواص ص ( 162 ) ، البدر الطالع ( 1/378 ) .
(2) روض الرياحين في حكايات الصالحين ص ( 16 ) تأليف عبد لله بن أسعد اليافعي ، وبذيله عمدة التحقيق في بشائر الصديق للشيخ إبراهيم العبيدي المالكي ، نسخة مصورة بدون تاريخ .
(3) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص (148)لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى(1414 هـ -1993 م ).
(4) طبقات الخواص ص ( 266 ) .
(5) مواهب القدوس في مناقب العيدروس ضمن المجموعة العيدروسية ص ( 14 ) .(76/277)
ووُصف بها الشيخ عبدالرحمن السقاف، قال عبدالرحمن الخطيب: (الحكاية السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة وهي السادسة والتسعون من مناقب السقاف - رضي الله عنه - عن عبدالرحيم بن علي الخطيب -رحمه الله تعالى - قال:كنت يوماً في مجلس شيخنا الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - فتكلم الشيخ في الشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني (1) ثم قال في أثناء مدحه:أتى فقهاء اليمن إلى الشيخ أبي الغيث وقالوا له: يا أبا الغيث ما عرفنا إيش مذهبك أخبرنا إيش مذهبك أنت شافعي أم مالكي أم حنبلي أم حنفي؟ فقال لهم: (لا أنا شافعي ولا مالكي ولا حنبلي ولا حنفي، فقالوا له: (فإيش أنت فقال:جنداري من جنادرة السلطان،ثم سكت الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - ساعة ثم همز نفسه ومد يديه في الهواء وقال بأعلى صوته: أنا جنداري من جنادرة السلطان، قال عبدالرحيم ثم بعد ذلك بأيام قلت للشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه -: وما جنداري السلطان، فقال: ما هذا معناه، هو الذي يدخل على السلطان من غير إذن ولا عليه حجاب، ويأمر وينهى ولا أحد يعارضه فيما يريد، وإذا دخل بلداً أو مكاناً لم يبق لأحد معه من أهل تلك الديار والمكان أمر لا أمير ولا وزير ولاغيرهما، بل الأمر أمر الجنداري والحكم حكمه ما شاء فعل ولا معقب لأمره ولا مرد له...)(2).
قلت:وقبل هذه الحكاية حكايات أخرى ساقها صاحب الجوهر فيها تأكيد وشواهد على ما تضمنته هذه الحكاية من اعتقاد القطبية للسقاف التي تجعله في مقام التصرف التام والتولية والعزل.
__________
(1) توفي سنة (651هـ ) انظر هِجَر العلم ( 1/219 ) ، السلوك ( 1/184 ) .
(2) الجوهر الشفاف (1/81-82) .(76/278)
وإليك نص حكاية منها، وهي الحكاية الخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف(1) قال: (كنت نائماً أظنه قال في مسجد مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال:فلم أشعر إلا برجل من الصالحين قد وكزني برجله فرفعت رأسي فقال: ما أجرأك تنام هنا وبطن أبيك ملانة كرعان (2) [ كم واحد قال سلبه ثم ولى عني ولم أعرفه فسأل الشيخ عمر - رضي الله عنه - عن معنى قول الرجل بطن أبيك ملانة كرعان ](3) فقال أخذ الخلق كلهم في بطنه يولي من يشاء ويعزل من يشاء رضي الله تعالى عنه)(4).
وقال أحمد بن حسن العطاس في أثناء حكاية (فقال: إني صاحب الوقت وأتصرف في أهله وأنت فلان ابن فلان، وإن كنت تريد أن تنظر إلى بلدكم تريم فأدخل رأسك في كمي فبهت من ذلك ولم أفعل، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الباشا بأن يقوم؟ وكان جالساً في الحرم فبمجرد قوله ذلك قام الباشا وأتباعه وذهبوا خارجين من الحرم، فلما قاربوا الخروج منه قال لي: أتريد أن أتصرف فيه بأن يرجع فيطوف؟ فبمجرد ذلك رجع هو وأتباعه وطافوا، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الشريف عبدالمطلب بأن يرجع الخمسة الديواني فتسلك في السوق وتمشي؟ فبمجرد قوله ذلك نادى المنادي بأعلى صوته يقول لكم الشريف عبدالمطلب لايمتنع أحد من الخمسة الديواني).(5)
__________
(1) نقيب العلويين في زمانه وأحد أشهر أقطاب حضرموت توفي سنة( 833هـ ) انظر الغرر ص ( 192 ) ، المشرع ( 2/241 ) .
(2) هي قوائم الدابة انظر القاموس مادة كرع ص( 980 ) .
(3) ما بين القوسين من الحاشية معلم عليه أنه ساقط من الأصل .
(4) الجوهر الشفاف ( 2/80 ) .
(5) تذكير الناس ص( 216 )(76/279)
فانظر إلى هذا الذي إن صدق النقل عنه فهو ساحر كيف يدعي هذه الرتبة من مراتب الأولياء عند الصوفية وأنه يتصرف حتى في قلوب الناس ومقاصدهم ويحملهم على فعل ما يشاء دون اختيار منهم، وكيف يقص هذا العالم القدوة من علماء صوفية حضرموت لأتباعه ومريديه هذه القصة مسلماً بها مريداً منهم أن يصدقوها ويعتقدوها، أليس هذا هو التطبيق العملي لعقيدة القوم في القطب الذي مر تعريفه؟
المطلب الثالث: التصرف في الكون أهم وظائف القطب:
اتضح من تعريف القطب بأنه هو المفوَّض من قبل الله تعالى في التصرف في الكون،وربما أطلقوا على مرتبة القطبية (الخلافة العظمى)(1)، والمعنى: أن يكون القطب خليفة الله تعالى في تصريف الكون.
ولمعرفة ما يشمله ذلك التفويض لدى القوم نذكر بعض النصوص من كتبهم تبين سعة ذلك التفويض وشموليته من حيث الزمان والمكان ومن حيث الدنيا والآخرة.
__________
(1) أنظر مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية ( 2/ 619 ).(76/280)
نقل السيد علي بن محمد الحبشي(1) -أحد أقطاب حضرموت- على سبيل الإقرار والاستحسان عن عبدالعزيز الدباغ قوله: (إن تصرفي يصل حتى إلى الجنان، وإن الحور ما يفعلن شيئاً إلا بأمر مني)، وكان يقول لمريده:(إن كنت تعتقد أن الْبِسَّ في جميع أقطار الأرض يأكل الفأر بغير إذن مني فما أحسنت الأدب معي)، ثم يعقب الحبشي على ذلك فيقول: (انظر إلى هذا الفناء العظيم وأين اليوم هذا الاعتقاد) (2).
فانظر إلى هذه الدعوى التي شملت التصرف في الدنيا والآخرة وجميع أقطار الأرض وجميع العوالم من عالم الحور العين إلى عالم الْبِسَّ والفأر.
__________
(1) علي بن محمد الحبشي العلوي الحضرمي صاحب سيؤن ومنشئ رباط العلم بها المسمى باسمه "رباط الحبشي " من أشهر علماء زمانه ومربي جيله تتلمذ عليه الكثير من الطلاب الذين نبغوا وأصبحوا من العلماء والأدباء غير أنه مع علمه قد نقل عنه من الخرافات والهذيان مالا مزيد عليه وذلك ما حواه كتاب كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية كتبه من إملائه تلميذه محسن بن عبد الله السقاف وهو أيضاً صاحب زيارة الحول المشهورة بحضرموت توفي رحمة الله سنة ( 1312هـ ) انظر تاريخ الشعراء الحضرميين ( 4/128 ) تأليف المؤرخ عبدالله بن محمد السقاف الناشر مكتبة المعارف الطبعة الثالثة سنة (1418هـ) الطائف ، ولوامع النور( 1/197 ) .
(2) كنوز السعادة الأبدية ص ( 179 ) الذي قام بطبعه علي بن عيسى الحداد .(76/281)
وإليك صورة أخرى للتصرف الشامل في الحياة وبعد الموت، قال الشلي: (وقال بعض العارفين: الفقيه المقدم تصرف على المشايخ الذين تصرفوا بعد موتهم كتصرفهم في حياتهم وهم القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ معروف الكرخي والشيخ عقيل المنبجي وحيوة بن قيس) ثم استشهد على ذلك بهذه الأبيات لمحمد بن علي خرد باعلوي(1) صاحب الغُرر:
تصرّف شيخ في الوجود معظّم ٌ على السادة الأشياخ أهل المعارف
على السيد الشيخ الفتى عبد قادر ومعروفٍ الكرخي منجٍ لتالف
وقيسٌ عقيل المنبجي وشيخنا لتصريفه لا يصرفون الصارف
وتصريفهم في كل شيء محقق سوى في جمال الدين عين لواقف (2)
وتأكيداً لذلك تجدهم في الحضرات وبعض الموالد ينشدون إلى اليوم:
ربي اسألك باسرار الفقيه المقدم والذي قد حوى التصريف من قبل آدم
ويقول صاحب شرح العينية: (وكان سيدنا الفقيه من الممكنين في التصريف بعد موتهم، قال المشايخ العارفون: ما صلينا على جنازة إلا والفقيه محمد بن علي بعد موته يصلي معنا عليها)(3)،فانظر الشمول الزماني لهذا التصريف من الأزل إلى الأبد! بل زاد في الأنموذج اللطيف أن قال بعد ما ذكر صلاته على الأموات بعد موته: (فلا شك أنه ممن صلى على نفسه بنفسه)(4)
__________
(1) صاحب غرر البهاء الضوي توفي سنة ( 760هـ ) انظر ترجمته في الغرر ص ( 3-11 ) ، وتاريخ الشعراء الحضرميين ( 1/142 ) .
(2) المشرع الروي ( 2 / 6 - 7 ) ، وقال بعد أبيات ( قوله : وقيس صوابه حيوة ).
(3) شرح العينية ص ( 161 ) نظم عبدالله بن علوي الحداد تأليف العلامة أحمد بن زين الحبشي باعلوي طبع مطبعة كرجاي المحدودة سنغافورة ، الطبعة الأولى ( 1407هـ - 1987 م ).
(4) الأنموذج اللطيف في مناقب الغوث للأستاذ الأعظم الفقيه محمد بن علوي باعلوي دفين تربة تريم ص ( 213 ) مع البرقة المشيقة للسيد علي بن أبي بكر السكران طبع في مصر سنة (1347هـ) .(76/282)
وفي مناقب عبدالرحمن السقاف يقول محمد بن علي خرد: (ومنها ما روي عن السيد عبدالرحمن بن علوي بن محمد بن الشيخ المذكور، قال كنت في عدن، وقد أصابني في عيني وجع، ولقيت الفقيه العالم القاضي محمد بن سعيد كبن، وأريته إياها وكان عارفاً بعلم الطب، وقيل،إنه كان يعرف اثني عشر علماً سوى العلوم المتداولة بين الناس معرفتها، ما يسأله أحد عن شيء منها، وقلت له يافقيه: أعطني لها دواء، فلما نظرها قال: (هذا مرض تسميه الأطباء الماء الأخضر وليس عندنا دواء حتى يكمل عماؤها، وإن أردت لها دواءاً قبل ذلك دللناك عليه فقلت: ما هو؟ فقال: اقصد جدك الشيخ عبدالرحمن، وقل له: يسلم عليك محمد بن سعيد كبن، وقل له: في عيني وجع أريدك تزيله بإذن الله فإنه يزول، فقلت له: تحولني على ميت؟ فنهض من مقعده وارتعش، ثم قال: والله،ثم والله ثم والله، إني أعتقد في الشيخ المذكور أنه يتصرف في مماته، كتصرفه في حياته،وأنه انتقل إلى الآخرة ولم تنتقل دولته، وفي رواية عن الفقيه الولي الصالح الشيخ سهل بن عبدالله باقشير،ما أخبرني عنه السيد شيخ بن عبدالله بن الشيخ عبدالرحمن، قال: لما رأى الفقيه عين عبدالرحمن رآها عمياء لكتيبة حصلت فيها هذا من أمر القدرة ما يزيل أمر القدرة إلا أهل القدرة، وجدك من أهل القدرة فأحاله عليه،فقال عبدالرحمن: ثم بعد مدة رأيت الشيخ في المنام على سرير فقلت له: إن الفقيه ابن كبن قال لي إنك تتصرف بعد وفاتك كتصرفك في حياتك، فأخذ بإذني وقال لي: (أنا ابن محمد بن علي، ما تصدق إلا إن قال: لك ابن كبن؟ أنا كذلك وأزْيَد وأزْيَد، - رضي الله عنه - ونفع به)(1)، فهذا لا يقتصر على التصرف في الكون في حياته وبعد مماته بل هو كذلك وأزيد وأزيد) ولا أدري ما هو الأزيد من ذلك؟!.
__________
(1) الغرر ص ( 398 ).(76/283)
وهناك مثال عملي للتصرف في الكون مع تأويل له من أحد كبار أقطاب صوفية اليمن: (من عجائب الآيات وغرائب الكرامات ما وقع بين الشيخين العارفين السيفين القاطعين أعني أبا عيسى واسمه سعيد وأحمد ابن أبي الجعد المذكورَين، وذلك أنه ورد الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيخ سعيد في وقت جاءوا إلى زيارة القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بدا للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت ويزور في وقت آخر، فرجع هو وأصحابه إلى موضعهم واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد:بلى قد توجه عليك الحق فقم وأنصف، فقام الشيخ سعيد وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومَنْ أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي الله تعالى عنهما.
وهذه لعمري أحوال تَكِلُ في جَبِّ بعضها السيوف القاطعة، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي، فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر والله أعلم.) (1).
ومنهم من يدَّعي ذلك لنفسه كما قال الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات:
(أنا أعزل أنا اللي ولي أنا شيخها قاضيها)(2).
__________
(1) مرآة الجنان لليافعي ( 4/ 352-354 ) .
(2) من قصيدة شهيرة للشيخ المذكور ما زالت متداولة إلى اليوم ينشدها الصوفية في موالدهم وحضراتهم وضمن مولد الديبعي ص ( 93 - 95 ).(76/284)
وقال أحمد بن حسن العطاس قال: (فزعت مرة من أحد الناس فلما جئت إلى الحبيب أبي بكر بن عبدالله قال لي: لا تخف من حي ولا من ميت عاد المفاتيح إلا كلها بيدي)،وقال أيضاً: (قال الحبيب أبوبكر بن عبدالله انسدحت مرة في بندر الشحر في مسجد الحبيب أحمد بن أبي بكر بن سالم بعد صلاة الصبح فأتوا بشيء كالبيضة وفيه شيء ونكتوه عند رأسي فإذا هو مختلف الألوان الأبيض والأسود والممتزج فقلت: لعله عالم الذر قال: نعم، فقلت لعله لما ولوكم عليه؟ قال: نعم)(1)، وهذا واضح أن الرجل يدّعي أنه بيده مفاتيح الكون ولا أحد يقدر على عمل شيء بغير إذنه هذا في الحكاية الأولى، وأما الحكاية الثانية ففيها أنه ولي على عالم الذر أي الخلق الذين لم يخرجوا إلى الحياة بعد.
وقضية القطبية واعتقادها عند أهل اليمن مبثوثة في كتبهم فلا يكاد أحد من كبارهم لا يوصف بها،حتى لقد قال عبدالرحمن بن محمد السقاف باعلوي (2): (في تربة تريم ثمانون قطباً كلهم أشراف - رضي الله عنهم -) (3) فهؤلاء فقط في تربة تريم، فكم في باقي ترب اليمن، والسقاف توفي عام (819 هـ) فكم جاء بعده من الأقطاب، وهذا كله في اليمن إلى ذلك التاريخ فكيف ببقية بلاد الله منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا، لاشك أن عدد الأقطاب لا يمكن أن يأتي عليه الحصر رغم أنهم يقولون إن القطب واحد فقط ولا يولي غيره حتى يموت.
وعلى كل حال فإننا سنلمس الأثر الكبير لعقيدة القطبية بالمفهوم الصوفي فيما يأتي من المطالب حيث تتوالد العقائد الضالة بعضها من بعض.
__________
(1) الحكايتان في مجموع كلام الحبيب أحمد بن حسن العطاس رواية محمد بن عوض بافضل ص ( 25 ) وهو مخطوط مصور عند بعض الأصدقاء .
(2) جد آل السقاف انظر ترجمته في المشرع الروي ص (2/ 141 )
(3) 3 الغرر ص ( 96 )(76/285)
وكما شارك صوفية اليمن بقية الصوفية في عقيدة القطبية شاركوهم كذلك في اعتقادهم بدولة الأولياء وديوان شورا هم، يقول أحمد بن حسن العطاس: (وعقد أي الديوان مرة في قبة الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس ورأيت الحبيب أبا بكر ارتفع من قبره وفرشوا له فوق القبر حقه، وكان رئيس المجلس الحبيب أبوبكر، ورأيت بالجانب البحري من القبة، رجلاً فسألته: من هو؟ فقال: نقيب الأولياء بالقدس، والذي ظهر لي أن النوبة بقيت مع الحبيب أبي بكر مدة بعد موته، قال سيدي: والرجال الذين هم رجال ما يطلبون مقام القطبية، ولا غيرها ويفرون منها، ومثالها مثال مَنْ قال لك: (هذه البلدة ونفقة أهلها، وخرج معاشهم ودوابهم، وأعطاك ما يحتاجون إليه ماذا ترى لنفسك؟).
وقال أيضاً: (وفي ليلة وفاة الحبيب أبي بكر عبدالله العطاس، اجتمع الأولياء أهل الظاهر والباطن، وجلست أنا بالقرب منهم، وكان ذلك في جامع حريضة، فكان رئيس المجلس الشيخ عبدالقادر الجيلاني فدعاني الشيخ عبدالقادر فقلت له: أنا ما فيَّ طاقة لشيء إن معكم شيء لي اطرحوه في القرآن، فطلع أحد من الأولياء لم أعرفه إلا من بعد، ولما انقضت نوبته اجتمعوا بأعلى شبام، بالقرب من العقّاد، وجعل الأمر بين اثنين، واحد على المعالي وواحد على المسافل)(1).
المطلب الرابع: فروع عقيدة التصرف في الكون:
الفرع الأول: درجة الكونية:
والمراد بها أن الولي قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، وهذا مما اختَصَّ الله به، ولم يقم دليل على أن الله تعالى منحه أحداً من خلقه، ولم يدّعه أحد من رسل الله فضلاً عن غيرهم من البشر، ولكن الصوفية حينما ادّعوا لأنفسهم خلافة الله في تصريف الكون ساغ لهم ذلك الادعاء الكاذب المبني على الادعاء الكاذب الأول.
__________
(1) نظر الحكايتين في : تذكير الناس ص ( 206 - 207 ) .(76/286)
ومن أدلة ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع قال:(وحُكي أن الشيخ عبدالله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال:(ظهر لي ثلاث أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون فقال الشيخ عبدالله: نرجو فيك أكثر من هذا) (1).
وأعجب من ذلك ما ذكره صاحب الجوهر في ترجمة الشيخ إبراهيم بن يحيى بن أحمد بن محمد بافضل: (وقال في بعض مصنفاته وردت إليَّ رقعة من الفقيه ابن العربي - رضي الله عنه - فإذا فيها ورد علينا فقير وقال لنا: الفقير يحيي ويميت بإذن الله تعالى، والفقير يقول للشيء كن فيكون بإذن الله تعالى والفقير لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فأشكل علينا مافيها(2) فقال الشيخ إبراهيم بن يحيى - رضي الله عنه - شعراً:
إذا لم أفتكم بصريح علم فلا من بعدها تستفتيوني
بما في محكم القرآن أفتي وإلا بعد هذا كذبوني
ثم أجاب عن الكل بجواب فايق عجيب وأتى على كل مسألة بدليل من القرآن) (3). وحسبك بهذا إقرار لهذه العقائد الخبيثة وأخذ بها.
الفرع الثاني: الإحياء والإماتة:
__________
(1) المشرع ( 2/ 211 ) وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب النور السافر عنه ص ( 281 ) : ( يقول للشيء كن فيكون بإذن الله ) ، وانظر الغرر ص ( 372).
(2) هذه الكلمة غير مفهومة في الأصل وأظنها فيها .
(3) الجوهر الشفاف ( 1 / 146 - 147 ) .(76/287)
مما تضمنه توحيد الربوبية من الصفات التي لاشريك له سبحانه فيها الإحياء والإماتة، وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الصفتين في آيات كثيرة جداً، أقتصر على ثلاث منها، ففي آل عمران يقول تعالى: { والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير } (1)، وفي التوبة يقول تعالى: { إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير } (2)، وفي يونس يقول الله تعالى: { هو يحيي ويميت وإليه ترجعون } (3)، ولما كانت هاتان الصفتان من أكبر البراهين على ربوبية الله تعالى احتج بهما إبراهيم على خصمه فقال وهو يحاج ذلك الطاغية: { ربي الذي يحيي ويميت } فعاند الطاغية وكابر فقال: { أنا أحيي وأميت } قال المفسرون: فلما رأى إبراهيم سفهه وسخافة دعواه عدل إلى دليل آخر أكثر ظهوراً ولا يستطيع أن يغالط فيه سفهاء الأحلام ممن حوله فقال: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } (4)،وقد عد المفسرون هذا الطاغية مدّعياً للربوبية بذلك وجعلوه مثل فرعون الذي صرح بذلك حين قال: { أنا ربكم الأعلى } (5) وقال: { ما علمت لكم من إله غيري } (6).
وهذا كله يدل بجلاء على أن من ادعى هاتين الصفتين فقد ادعى الربوبية، ومع ذلك فإن الصوفية القبورية يدعون ذلك لبعض أوليائهم،أو يدعيها بعضهم فيقرونه عليها، وإذا أردنا أن نعتذر لهم نقول: إنهم لم يدّعوا ذات الربوبية ولكنهم ادعوا الخلافة العظمى عن الحق سبحانه، ومن جملة وظيفة الخليفة التي فوضها إليه الرب سبحانه هذه الصفة وغيرها من الصفات التي يزعمونها لأوليائهم، وأما ادعاؤهم ذلك فثابت لاشك فيه، ومن الأدلة على ذلك ما مر من ادعاء علوي بن الفقيه المقدم لذلك فيما حكاه الشلي كما في الفرع الأول.
الفرع الثالث: علم الغيب:
__________
(1) آل عمران ( 156 ) .
(2) التوبة ( 116 ) .
(3) يونس ( 56 ).
(4) البقرة ( 258 ).
(5) النازعات ( 24 ).
(6) القصص ( 38 ).(76/288)
من مسلَّمات العقيدة الإسلامية اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وأنه لا يشاركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } (1)، وأنه سبحانه عنده وحده مفاتيح الغيب كما قال تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } (2)، وقد بينها سبحانه وحصر علمها عنده، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرأحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)).(3)
بهذه النصوص وغيرها قطع علماء المسلمين أن علم الغيب مما اختص الله به، وأن من ادعاه فقد كذب(4) وأنه طاغوت (5).
ومع ذلك فقد ادعاه الصوفية القبورية لبعض أوليائهم أو ادعاه بعضهم وأقروه عليه وعدّوه من كراماته ومناقبه.
ومن الأدلة على ذلك ما مر في الفرعين الأول والثاني مما ادعاه علي بن الفقيه المقدم وذكر في مناقبه أنه: (يحيي ويميت ويقول للشيء كن فيكون ويعلم ما سيكون).
ومن ذلك ما جاء في ترجمة أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف أنه يقول:(أعرف من الفرش إلى العرش)(6)، وفي ترجمة أخيه حسن بن عبدالرحمن السقاف: (كان يقول: أنا أعرف السعيد والشقي وأعرف الصالحين بالشيم) (7)، وفي ترجمة أخيهما الثالث شيخ: (وقال والده عبدالرحمن السقاف:ولدي شيخ كعشرة شيوخ، وما سميته شيخاً إلا أني رأيته في اللوح المحفوظ شيخاً) (8).
__________
(1) الجن ( 27 ) .
(2) الأنعام ( 59 ).
(3) 6 رواه البخاري من حديث ابن عمر كتاب التفسير باب قوله ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ( 4/ 1733 )
(4) انظر :فتح القدير للشوكاني ( 2/ 123 ).
(5) 2 انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 3/282).
(6) 3 المشرع ( 2/33 ) .
(7) 4 المصدر السابق ( 2/ 89)
(8) المصدر السابق ( 2/ 116 ) .(76/289)
وسأقتصر على هذه النماذج مع أن هناك دعاوى كثيرة من هذا القبيل.
الفرع الرابع: إعطاء الولد:
هذه الخصلة (إعطاء الولد) هي كذلك من خصائص الله تعالى كما قال - عز وجل -: { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير } (1).
ولو قيل: إن صالحاً من الصالحين الأحياء دعا ربه لأحد من الناس بالولد فرزق بتلك الدعوة ولداً ماكان عليه من نكير، ولكن أن ينسب إلى الولي ذاته إعطاء الولد حياً كان أو ميتاً فذلك الذي فيه ادعاء ما هو من خصائص الربوبية، والقبورية يدعون ذلك لأنفسهم أو لأوليائهم أحياءً وأمواتاً، والدليل عليه ما جاء في تذكير الناس قال جامعه: (وأهدى بعض السادة شيئاً لسيدي - رضي الله عنه - فدعا له بأن يرزقه الله ولداً وقال له: حولناك على الحبيب أحمد بن علي الهدار، وهذا الحبيب كان من أهل الأحوال العظيمة، وكان إذا جاءه أحد وسأله الدعاء بالذرية يقول له:بايأتيك ولد، أو اثنان أو أكثر فاعترض عليه أحد بقلبه فكاشفه الحبيب أحمد وقال له:يا فلان إن الذين قسمتهم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم سبعة آلاف ولد، وأنت يأتيك نصف ولد، فأتاه نصف ولد على رِجل واحدة ويد واحدة وناصفة وجه، نسأل الله العافية.) (2)
__________
(1) الشورى الآية ( 49–50 ) .
(2) تذكير الناس ص( 321 ) .(76/290)
ويظهر من هذه الحكاية بشكل جلي أن الرجل لم يدعُ الله،وإنما يقول على جهة الوعد (بايأتيك ولد) وهذا باللهجة الحضرمية معناه سوف يأتيك ولد، فليس فيه أي معنى من معاني الدعاء، ويؤكد ذلك إنكار العامي وغضب الحبيب من ذلك الإنكار، ثم تصريحه بأنه قسّم، وقسّم من أين؟ قسَّم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم، فأبوبكر بن سالم عنده القدرة والإمكانية الواسعة جداً المشبهة بالبحر، وهذا ولده أخذ يقسَّم من ملك جده، أليس هذا صريح في أنهم يدَّعون القدرة الكاملة على ذلك وأنه من جملة ما يملكونه.
وبناءً على ترسخ هذه العقيدة لديهم نجدهم يطلبون ذلك فعلاً من أوليائهم، قال صاحب تذكير الناس:(قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال: -والحاضرون يسمعون - شف نحنا نبغي ولداً لفاطمة عبوده بنت عبدالله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش) (1).
وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقراً لها، و"حامد المحضار " من كبارهم أيضاً وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة وأقره من حضر من الأكابر، إذاً هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.
__________
(1) المصدر السابق ص ( 322 - 323 ) .(76/291)
ويقول آخر من كبارهم وُصف بأنه:" العالم الجليل نسخة السلف وقدوة الخلف " في رحلته الموسومة بـ " النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية وتلبية الصوت من الحجاز وحضرموت " في نفس الموضوع: (ولما وقفنا على قبر الشيخ عمر بن علي القرشي ويروى أن من طرح عند قبره حجرة يرزق ولداً،وقيل: لنا أن الحبيب علي بن محمد الحبشي زاره وبصحبته الحبيب عمر بن عيدروس العيدروس فأخذ الحبيب عمر ملا ثوبه حصى ليطرحه عند القبر، فقال له الحبيب علي: كثّرت جم، فقال: أريد نسمات تذكر الله أو قال تعبد الله، فأخذت أنا حصاتين وطرحتهما عند القبر على هذه النية) (1)، فإذا كان هذا فعل علمائهم فماذا يا ترى يصنع عوامهم وجهالهم؟.
الفرع الخامس: إنزال المرض ورفعه:
__________
(1) النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية ، وتليه رحلته تلبية الصوت من الحجاز وحضرموت ص ( 175 –176)، تأليف العالم نسخة السلف وقدوة الخلف الحبيب عمر بن أحمد بن سميط ، طبع على نفقة أحد المحبين من المحسنين ( 1397 هـ ) .(76/292)
القول في هذا الفرع كالقول في بقية الفروع فالمرض لا يصيب به إلا رب العالمين، قال تعالى حاكياً عن إبراهيم أنه قال لقومه وهو يدعوهم ويبين لهم حقيقة دعوته وعقيدته: { وإذا مرضت فهو يشفين } (1)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة)) (2)،وقد صرح العلماء بأنه ليس المقصود نفي العدوى من أصلها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يورد ممرض على مصح)) (3)، لأنه واضح أن في ذلك اعتبار العدوى ولكنه نفى على المعنى الذي كانت الجاهلية تفهمه وهو أن الأمراض تعدي بذاتها فتنسب إلى الأمراض، فحسم - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الباطل بهذا اللفظ العام ليكون أبلغ وأشمل (4)، فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنه يضع المرض على من شاء وأنه يرفعه عمن يشاء، إن ذلك لاشك ادَّعاء لخاصة من خصوصيات الربوبية وتعليق للخلق بغير الحق وهذا أيضاً مضاد ومناقض لما تدعيه الصوفية من تجريد قلوب الناس من سوى الله تعالى.
__________
(1) الشعراء آية ( 80 ) .
(2) البخاري في صحيحه (5/2158) ، كتاب الطب باب الجذام، ومسلم في صحيحه (4/1743) ، كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(3) مسلم في صحيحه (4/743) في الكتاب والباب السابقين ، كلاهما من حديث أبي هريرة .
(4) انظر: (10/160-162) من الفتح .(76/293)
وإليك الدليل على زعمهم وضع الأمراض على أناس ورفعها عن آخرين، فقد ذكر الشرجي في ترجمة إسماعيل الجبرتي قال: (ومن ذلك ما يروى عن رجل من أهل مكة يقال له الفقيه عبدالرحيم الأميوطي أنه قال: (كنت لا أعتقد الشيخ إسماعيل، وكنت أحط منه، فبينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، وإذا بي أرى الشيخ قد دخل عليّ في جماعة، فسمعته وهو يقول لآخر: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه عليَّ ثم قال: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه علي، ثم مازال يقول هات الوجع الفلاني ويضعه عليّ، حتى وضع عليّ قدْرَ عشرين وجعاً حتى كدت أموت، وخرج، قال: (فبقيت تلك الأوجاع عليّ باقي ليلتي ويومي ذلك إلى العصر، فأرسلت إليه واستعطفت خاطره، فجاء إليَّ فرفع ذلك كله عني، وقمت كأن لم يكن بي شيء فتبت إلى الله تعالى، وحسّنت عقيدتي في الشيخ نفع الله به).(1)
إذاً فالذي لا يعتقد فيهم ذلك فهو مهدد بالمرض من قبلهم، فهذا عمر المحضار يروي عنه صاحب المشرع (... وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له: أما تخشى أن ينالك بهذا شيء فقال: إني لم أدعُ على أحد،ولكني إذا غضبت على أحد وقع في باطني نارٌ لا تنطفئُ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض أو يتوب).(2)
الفرع السادس: إنزال المطر:
__________
(1) طبقات الخواص ص( 103 ) .
(2) المشرع ( 2/ 242- 243 ) .(76/294)
الآيات في تفرد الله تعالى بإنزال المطر كثيرة جداً، منها قوله تعالى: { أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } (1)، فلو كان أحد من الخلق قادراً على ذلك فهل سيكون هذا التحدي صحيحاً؟ والجواب: لا قطعاً فعلم أنه لا ينزل المطر إلا الله، بل حتى علم الوقت الذي ينزل فيه المطر ومكان نزوله قبل نزوله لا يعلمه إلا الله: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } (2)، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز أن ننسب إنزال المطر إلى عبد من عباد الله، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حسم الأمر بشكل أوضح، وأبعد المؤمنين عن توهم ذلك أو التلفظ بلفظ يؤدي إلى ذلك الفهم الخاطئ، ففي صحيح البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: ((صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب،وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب)).(3)
__________
(1) الواقعة الآية ( 68-69 ) .
(2) لقمان الآية ( 34 ).
(3) البخاري في صحيحه (1/290) كتاب صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم ، ومسلم (2/59-60) مع النووي كتاب الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء .(76/295)
ومن الأدلة على أن القوم يعتقدون في أوليائهم إنزال المطر ما جاء في ترجمة أحمد بن عمر الزيلعي من طبقات الخواص حيث قال: (وكان للفقيه أيضاً ولد يقال له علي،كان من الصالحين، وكان لا يُلازم في المطر إلا ويحصل سريعاً حتى عرف بذلك، وكان يقال له صاحب الماء) (1)، وقد كان ذكر في ترجمة الجد حكايات تدل على أنه ينزل الغيث منها: (أنه وصل من اللحية إلى قرية المحمول وقد أجدبوا مدة طويلة، فعند أن وصل إليهم جاءت إليه بهيمة وجعلت تخور بين يديه، فدخل المسجد ودعا الله تعالى ثم قال: (يا ميكائيل كل، فاجتمع السحاب للفور من كل ناحية ومطروا مطراً عظيماً بإذن الله تعالى) (2).
ومنها قول صاحب الطبقات:(وكان أهل الوادي خُلَب بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وآخره باء موحدة يصحبونه ويعتقدونه، فجاء إليهم مرة وهم مجدبون فجعلوا يلازمونه في السيل فقال لفقيرٍ له: (اذهب إلى رأس الوادي وقل له: يقول لك الفقيه سل الآن، ففعل الفقير ذلك، فسال الوادي من ساعته وسقوا سقياً هنيئاً بفضل الله تعالى) (3)، فلاحِظْ أمره لميكائيل في الحكاية الأولى وأمره للوادي في الحكاية الثانية، هل يدل على أن الأمر مجرد دعاء؟ كلا لا يدل إلا على أنه هو المالك لذلك والمتصرف فيه.
وفي تذكير الناس: (قال سيدي: ووقع بحريضة في بعض السنين قحط شديد، فسار الحبيب علي بن جعفر العطاس إلى النقعة، وهي قرية بقرب حريضة وقال لأهل البلد: سنجيئكم بسيل من عند الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله، فلما وصل إليها زار قبر الشيخ جنيد والشيخ علي بن سالم ورجع فسال وادي حريضة تلك الليلة). (4)
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 77 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 75 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 75 ) .
(4) تذكير الناس ص ( 187 ) .(76/296)
وأوضح من هذا ما ذكره، أيضاً في تذكير الناس قال: (قال سيدي وبلغنا أن الشيخ عبدالله بن أحمد بلعفيف كان من أولياء الله المستجابة دعوتهم، ويقال له بياع السيول، وصل إلى تريم في بعض زياراته، فاجتمع ببعض السادة آل العيدروس فقال له أنت: بلعفيف بياع السيول، فقال له الشيخ:نعم حاجة خدمة، فقال له الحبيب: نعم مرادنا سيل، فقال الشيخ لا بأس، بكم تشتري؟ فقال له الحبيب بالذي تريده، فقال الشيخ: نبيع لك سيل بكبش سمين، وخمس قهاول(1) برُ، فقال الحبيب:لا بأس تم الكلام، فقال الشيخ تبغي السيل لأي أرض؟ قال الحبيب: للشرج الفلاني حقي، فقال الشيخ: هات الكبش والبر وأخرج رُعّاضك لشرجك، فأتى الحبيب بالبر والكبش وخرج الرُّعَّاض(2) وشرب الشرج بإذن الله وبركة أولياء الله) (3).
قلت:وحكى لي جدي - رحمه الله - أن في قرية مجاورة لنا رجلاً يقال له " فلان باسليمان " وكان حراثاً عارفاً بقوانين الحراثة ومتى يكون السيل أفضل للأرض، فكان ربما جاء السيل في غير الوقت الذي يراه مناسباً فلا يسقي أرضه فعوتب في ذلك لأنه ربما إذا لم يسق لم يأت سيل آخر، فيقول:(ما بيني وبين السيل إلا صاع طحين) يعني أنه يتزود صاعاً من الطحين ويزور الشيخ سعيد بن عيسى فيأتي السيل، فهل يشك أحد في اعتقاد هذا العامي وأمثاله أن الشيخ سعيد بن عيسى يملك إعطاء السيل؟!.
الفرع السابع: إجابة الداعي وإغاثة المستغيث:
__________
(1) القهاول مقدار من الكيل يساوي ثلاثة أصواع تقريباً .
(2) الرَّعَّاض جمع راعض وهو الذي يعدِّل السيل في الحقول .
(3) المصدر السابق ص ( 188 ) .(76/297)
إن هذا الفرع في الحقيقة هو النتيجة الحتمية لتلك العقائد بل الثمرة المرة الخبيثة لها، فإن المريد الصوفي أو العامي من عوام المسلمين حينما يتكرر على سمعه أن فلاناً من الأولياء هو القطب الغوث الذي أعطي الخلافة العظمى في هذا الكون والتولية والعزل فيه، واعتباره الواسطة بين الله وبين عباده فلا يصل خير إلى العباد إلا بواسطته، وأنه قد فوِّض إليه تصريف الكون، وأن تصريفه نافذ على كل شيء من العرش إلى الفرش وحتى البِسْ لا يأكل الفأر في جميع أقطار الأرض إلا بإذنه، وأنه يعطي ويمنع ويشفي ويمرض بل يميت ويحيي ويُنزل الغيث ويهب الولد، إلى آخر ما ينسب إليهم من القدرات، ماذا سيتصور ذلك المسكين، هذا الولي؟ لاشك أنه سيتصور أنه هو السميع المجيب وأنه على كل شيء قدير، وبموجب هذا التصور سيهرع إليه كلما نزلت به نازلة أو أصابته حاجة، فإنه لا رجاء في حصول أي مطلوب أو دفع أي مرهوب إلا بالالتجاء إليه، وهذا هو الذي يحصل في كثير من الأحيان والأحوال ولدى أكثر الناس من القرون التي سيطر فيها فكر القبورية على الناس.
وهم لم يكتفوا بما مضى من دفع الناس إلى ذلك الاعتقاد والتصور الخاطئ، بل صرح الكثير من أوليائهم بأنهم يسمعون من ناداهم ويجيبونه ويغيثون من استغاث بهم وينقذونه مما هو فيه، ويروون مئات القصص التي تحكي كيف نزل الضر بفلان فاستغاث بالقطب فأغاثه، بصور وأساليب متنوعة كلها تتآزر على شيء واحد هو تعميق الاعتقاد في ذلك الشخص بأنه يفعل ويفعل، وأن على الجميع الالتفات إليه والاعتماد عليه وإنزال حوائجهم به.(76/298)
وهذا هو الشرك بالله تعالى، ولكنني لن أخوض في الرد عليه في هذا الموضع، وإنما سوف أنقل بعض النماذج عنهم في ذلك لإثبات أنهم يعتقدون في أهل الولاية منهم أحياءً وأمواتاً أنهم يجيبون الداعي ويغيثون المستغيث، وليس الأمر كما يقوله من يروج تلك العقائد ويدافع عن الموروث الذي كان عليه الآباء والأجداد من أن ذلك مجرد توسل بهم إلى الله وإن كان بلفظ الدعاء والاستغاثة.
وإليك النصوص الصريحة والوقائع الواضحة الشاهدة على ما نقول:
أول ما نورد في ذلك تقرير عميد القوم وحجتهم وإمامهم في العلم والتصوف من يسمونه (قطب الدعوة والإرشاد عبدالله بن علوي الحداد) وهذا التقرير في قصيدة من أشهر قصائده لدى القوم وهي العينية حيث يقول فيها في صفة الولي:
من كل طود في العلوم وفي الحجا متبحر متفنن متوسع
داع إلى الله العظيم بفعله ومقاله والحال غير مضيع
ذي عفة وفتوة وأمانة وصيانة للسر أحسن من يعي
وزهادة وعبادة وشهادة منه الغيوب بمنظر وبمسمع
جمع الرياضة والكشوف ولم يزل يرقى إلى أن يستجيب إذا دعي (1)
إذاً فهي حقيقة مسلّمة عند القوم أن الولي ما يزال يترقى حتى يصير ممن يستجيب إذا دعي (2)، فعند القوم أن الولي " يُدعى" وليس فقط يتوسّل به و" يجيب إذا دُعي " وليس الله - عز وجل - يجيب من دعاه متوسلاً به.
وبناءً على تلك الحقيقة المعروفة لديهم منذ عرف التصوف المنحرف في اليمن والتي عبر عنها الحداد في عينيته، تجد الدعوى متواصلة لأوليائهم بإغاثة من استغاث بهم.
__________
(1) شرح العينية ص ( ب ) من المقدمة .
(2) انظر : شرح هذا البيت في العينية ص(17-18) .(76/299)
ومن ذلك ما ذكره شارح العينية المذكورة في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم حيث قال: (وكان - رضي الله عنه - سريع الغوث لمن استغاث به، قال السيد الجليل العلامة المحدث الإمام محمد بن علي علوي خرد باعلوي في كتابه " الغُرر " أخبرني الشيخ عبدالرحمن بن علي أن العارفين قالوا: (ثلاثة من آل باعلوي لا تزال خيل حميتهم وإجابتهم مسرجة ملجمة من دعا بهم أُجيب وهم علوي المذكور وابنه علي والشيخ عمر المحضار، وقال صاحب كتاب الغرر المذكور في ذلك شعراً:
إذا خفت أمراً أو توقّعت شدة فنوِّه بهم كي يدركوك ويحضروا
فنوِّه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يجل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعُسرٍ وضيقٍ أو بصدرك يكبر (1)
ولا يقتصر الأمر على أناس ينسبون إلى الولي أنه يغيث من يستغيث به، ولكن الولي يدّعي ذلك لنفسه ويفخر به، فهذا عمر المحضار يقول في قصيدة مازالوا إلى اليوم ينشدونها في حضرة السقاف.
إني سريعُ الغوث في كل الشدائد فاهتف
باسمي تجدني أسرِعُ
قل يا شهاب الدين إن يعروك خطب يا فطن
فأنا لخطبك أدفعُ
وقال شارح العينية في ترجمة عبدالرحمن السقاف: (وكان يرد على من غلط في مسجده وهو بالعجز (2) ويسمعه الغالط، وكان يقلب التراب دراهم بإذن الله تعالى، وكان يظهر لمن استغاث به جهاراً في الأماكن البعيدة بحراً وبراً) (3).
وفي كتاب " تاج الأعراس " في مناقب الحبيب القطب صالح بن عبدالله العطاس، قال المؤلف: (ومما أكرم الله به صاحب المناقب، وخصه به من سنيات المراتب، وكان ينفرد به دون أقرانه من أهل المظاهر والمناصب، أنه يحضر عند من ناداه وتوسل به إلى الله بصدق نية وصفاء طوية) (4).
__________
(1) شرح العينية ص(174 ) وانظر أيضاً : المشرع الروي ( 2/212 ).
(2) العَجُز : بفتح العين وضم الجيم قرية شرق تريم تبعد منها مسافة .
(3) شرح العينية ص (188 ).
(4) تاج الأعراس ص (1/ 94) .(76/300)
وتقول الشيخة سلطانة الزبيدية كما في ترجمة السقاف من المشرع: (ما رأيت أحداً أسرع إجابة عند الاستغاثة من السيد محمد بن السقاف، وكانت تقول:إذا حدث أمر واستغثت بالأولياء فأول من يغيثني هو) (1).
وقال صاحب " تاج الأعراس " في ترجمة صالح بن عبدالله العطاس: (وممن أثنى على صاحب المناقب واعترف له بمقام الغوثية شيخ مشايخ تلك العصور، وعالمها وإمامها المشهور، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام السيد أحمد بن زيني دحلان قال: (إنه حصل عليَّ حال بمكة وكربتُ لذلك كرباً شديداً فاستغثت بالحبيب صالح بن عبدالله العطاس صاحب عمد وهو إذ ذاك بحضرموت ودعوته بثلاثة أصوات، فإذا هو حاضر عندي في الحرم المكي، راكباً على جواد أخضر اللون ومعه أربعون جندياً كلهم مسلحون، فحين رأيته ذهب عني ذلك الكرب وانشرحت انشراحاً كاملاً ببركته) (2).
وقال كذلك في ترجمة هادون بن هود العطاس: (ومن كرامات الحبيب هادون أيضاً ما أخبرتني به والدتي الشريفة العفيفة شيخة بنت الجد علي بن حسين بن هود العطاس الآتي ذكرها في ترجمة والدي من الباب السادس عن والدتها الشريفة العفيفة زينة بنت الحبيب هادون المذكور قالت: لما كان والدي يجدد عمارة بعض المساكن بالمشهد وعنده جملة من العمال أصبحنا ذات يوم وليس عندنا في الدار ما يفطر به الصائم من أنواع الطعام، فلما رجع والدي من المسجد الإشراق كعادته أخبرناه بالحال فقال: لا بأس، ولكنكم أوقدوا ناراً في المطبخ كعادتكم ليستشعر العمال بأن غداهم يطبخ كالعادة،ثم خرج والدي إلى عند العمال وألقى بيتاً من الشعر الحميني ارتجالاً على الذين ينقلون المدر منهم وأمرهم أن يرتجزوا به، وكان قد استنجد فيه بجده الحبيب علي بن حسن العطاس صاحب المشهد وهو قوله:
__________
(1) المشرع الروي ص ( 1 / 184 ) .
(2) تاج الأعراس ( 1/ 104 ) .(76/301)
مع هادون يا بو حسن والخير واصل وهز الرمح لا تعمد (1) القبة وغافل
قالت: فلم نلبث إلا يسيراً وإذا نحن بقافلة أي عير مرسلة لمقام المشهد من أهل حجر بن دغار وفيها الذرة والتمر والدهن وغير ذلك، وبمعية العير أناسٌ من تلك الجهة أيضاً قاصدين زيارة الحبيب علي بن حسن ومعهم ثلاثة أكباش سمان للمقام، فذبحنا وقدحنا وكان ذلك اليوم من أسعد أيام العمال عليهم انتهى.
قلت(2): وقول الحبيب هادون لجده علي (وهز الرمح) لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت ويموتون في الحال بإذن الله القائل: ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) لاسيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛ لأن الحبيب علي قد جعله عُرضه بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة بين المحاربين من قبائل تلك الجهة وأخذ عليهم العهد في ذلك ليأتي كل منهم وهو مطمئن البال إلى المشهد لحضور قصة مولد نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماع شمائله الشريفة وما يضاف إلى ذلك من المواعظ الدينية، فكان مما أكرم الله به الحبيب علي وعظم به شهر المولد النبوي أن من اعتدى فيه بالقتل ونقض العهد يعجل الله له العقوبة بإهلاك عدد من أولاده وقبيلته بمقدار الأيام الماضية من ذلك الشهر، فمن قتل فيه في اليوم الخامس مثلاً يهلك الله خمسة من رجاله في أسرع وقت، ومن قتل فيه في اليوم السابع يهلك الله منهم سبعة وهكذا حتى صار ذلك عند قبائل الجهة من المجربات التي لا خلاف فيها) (3).
__________
(1) هذه الكلمة باللهجة الحضرمية معناها ( لا تبقى ) أي لا تبقى في القبة غافلاً عنا .
(2) الكلام ما زال لصاحب تاج الأعراس .
(3) تاج الأعراس ( 1/ 207-209 ) .(76/302)
وأعتذر للإطالة بنقل الحكاية كاملة وذلك لما فيها من دلالات كثيرة يجدها المتأمل وليعرف كيف يسخِّر القبوريون الناس لمصالحهم ويبنون على حطام عقائدهم مجدهم الموهوم.
وأسألُ صاحب التاج وكل من ينشر هذه الحكايات ويغرس بها تقديس هؤلاء الناس في نفوس عوام المسلمين أين كان الحبيب علي وحربته يوم هجم الجيش النجدي على المشهد فأخربه وهدّم قببه وكسّر توابيته؟.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره صاحب مقدمة ديوان العيدروس قال: (وأخبرني السيد الفقيه محمد الظمطاوي المكي وقد رويتها عن المريد الصادق نعمان بن محمد المهري أنه قال: (كنا في سفينة سائرين إلى الهند فحصل في السفينة خرق عظيم فأيقن أهل السفينة بالهلاك فضجُّوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى وهتفوا بالمشايخ، فقال نعمان: فهتفت بشيخي أبي بكر بن عبدالله العيدروس، فأخذتني ِسنة فرأيت شيخي وهو داخل السفينة وبيده منديل أبيض متيمماً نحو الخرق، فانتبهت فرحاً مسروراً وناديت بأعلى صوتي يا أهل السفينة أبشروا فقد جاء الفرج، فقالوا لي: ماذا رأيت، فقلت لهم: رأيت شيخي - رضي الله عنه - دخل السفينة الساعة وبيده منديل فسد به الخرق فافتقدوه فوجدوا الخرق مسدوداً بمنديل أبيض). (1)
__________
(1) مقدمة ديوان العيدروس المسمى (محجة السالك وحجة الناسك) ص ( 242 ) , تأليف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن باوزير ضمن المجموعة العيدروسية.(76/303)
وفي نفس الكتاب في آخره قال: (وأخبرني الأمير مرجان بن عبدالله عبد السلطان عامر بن عبدالوهاب قال: كنا في محطة صنعاء الأولى فحصل علينا ما حصل، وأنا إذ ذاك في جماعة، فحمل علينا العدو ففر أصحابي ووقع في فرسي جملة أكوان(1) فسقط بي، فزار بي العدو من كل جانب وأنا أهتف بالصالحين، ثم ذكرت الشيخ الأجل أبابكر بن عبدالله العيدروس فهتفتُ به فإذا هوقايم فو الله العظيم لقد رأيته نهاراً وعاينته جهاراً أخذ بنا صيتي وناصية فرسي وشلني من بينهم حتى أوصلني إلى المحطة السعيدة فعند ذلك مات الفرس ونجوت ببركات الشيخ نفع الله به وأعاد علينا من بركاته) (2).
فهذه النماذج إن شاء الله كافية لإثبات أن القوم يعتقدون في أوليائهم أنهم يسمعون استغاثاتهم، وأنهم يغيثونهم عند ذلك، فحيناً يحضرون بأنفسهم،وحيناً يحصل المطلوب بدون حضورهم، وعليه فإن دعاءهم لأوليائهم ليس مجرد توسل إذ التوسل إنما هو دعاء لله تعالى مع ذكر المتوسَّل به وسؤال الله سبحانه أن يحقق المطلوب بجاه أو ببركة ذلك المتوسَّل به، ولذلك فإن الذين يعرفون حقيقة التوسل ويقتصرون عليها لا يجيزون دعاء المتوسل بهم ويصرحون بأنهم لا يدعون ولا يجيزون دعاء غير الله، وإنما يذكرونهم في ضمن دعائهم لله للتبرك بذكرهم وليكونوا سبباً في عطاء الله.
الفصل الثاني
موقف علماء اليمن من القبورية
وبيان جهودهم المشكورة في مواجهتها
وفيه تمهيد وأربعة مباحث
التمهيد: في حفظ الله لهذا الدين بواسطة العلماء رغم المكائد والمؤامرات:
__________
(1) أي جراح .
(2) المصدر السابق ص( 247 ) .(76/304)
لقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا الدين وبقائه واستمراره إلى أن يرث الأرض ومن عليها، لا يقضي عليه عدو من الكافرين، ولايطمس معالمه مبتدع من المبتدعين، حتى تغيب السنة كلها، وتحل البدعة محلها، قال تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (1)،وقد فصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائل ذلك الحفظ، فوعد بوجود طائفة من العلماء العاملين والأخيار المجاهدين القائمين على حفظ هذا الدين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (2).
ولايمنع وجود هذه الطائفة القائمة على الحق؛ من تسرب بعض البدع، واندثار بعض السنن، وانحراف بعض المفاهيم على مرور الأيام؛ لذلك فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بعد كل فترة، يقيض الله لهذه الأمة من يجدد لها دينها، فقال: ((إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) (3).
__________
(1) الحجر (9) .
(2) تقدم تخريجه ص ( ) .
(3) رواه أبو داود (2/512 ) كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة ، والحاكم ( 4/542-543 ) كتاب الفتن والملاحم ..وانظر : تصحيح شيخنا الألباني - رحمه الله - للحديث في سلسلته الصحيحة ( 11/150-151) .(76/305)
والحمد لله فقد صدق الله ورسوله، وحُفظ الدين، وجُددت معالمه، رغم هدم الهادمين وكيد الكائدين وبدع المبتدعين، ولقد حظي اليمن بما سبق له من عناية الله سبحانه ولطفه بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر من ذلك، وصار مجددوه وأعلام علمائه ودعاته مجددين للأمة كلها، وليسوا مجددين لليمن وحده، فرزقهم الله القبول التام والثقة المطلقة عند سائر الطوائف وفي سائر البلاد الإسلامية، فكتبهم هي من أهم مقررات جامعات العالم الإسلامي المرموقة ومراكزه العلمية، وقد أقبل الباحثون على دراسة شخصيات المجددين اليمنيين ومناهجهم في العقيدة والدعوة والعلوم المختلفة من تفسير وحديث وعقائد وغير ذلك.
وبرغم ما سلف في الفصل الأول من أساليب مختلفة، سلكها القبورية؛ لمواجهة علماء أهل السنة، وما قاموا به من جهد جهيد وكيد شديد لمواجهة هؤلاء العلماء؛ إلا أن تلك الجهود والأساليب الماكرة الكثيرة،كلها لم تفلح في صد العلماء عن معارضتهم وكشف ضلالهم وبيان حالهم، وإن كانت مناطق اليمن تختلف في قوة وضعف تلك المواجهة، فعلماء البلاد الزيدية بحكم قوتهم وكثرتهم وعدم تمكن النفوذ الروحي في بلادهم، ولسعة أفق المذهب الزيدي والفقه الهادوي وحثه على الاجتهاد؛ كانت جهودهم أكبر ومواجهتهم وسلطان علمهم على القبورية أقهر، وقدشاركوا في مقاومة كل أنواع القبورية من إسماعيلية وأصحاب وحدة الوجود وعموم القبورية مقدسي القبور.(76/306)
وكان لعلماء زبيد موقف مشرف في صد أهل وحدة الوجود ومقاومتهم حتى اندثر مذهبهم أو كاد، وأما بقية المناطق كالجند وما حولها وعدن وحضرموت، فقد كانت مواقفهم أضعف وأقل، وذلك أنه وبعد دخول التصوف ورسوخه في هذه المناطق في القرن السابع وما بعده، احتوى المتصوفة الساحة العلمية، وهيمنوا عليها هيمنة شبه تامة، فالعلم حُصر في قبائل وأسر محددة هي الأسر العلوية التي أصبح كل علمائها من المتصوفة على تفاوت في غلوهم واعتدالهم فيه، إلا ما ندر، والنادر لاحكم له، ثم الأسر التي تُوالي هذه القبيلة موالاة تامة، وترى أنها تابعة لها " منطوية فيها " حسب تعبيرهم، وفي المقابل فقد أعطى العلويون لهذه الأسر إمتيازات كبيرة مقابل التزامهم بطريقهم، وعملهم على الترويج لأفكارهم وتلميع شخصياتهم؛ ولذلك فقد أصبح العالم الذي يستطيع أن يبصر بغير منظارهم، ويصل إلى ما عند غيرهم، أصبح في حرج عظيم حيث يرى الحق، ولايستطيع الإفصاح عنه والعمل به، فتجده يرضخ لما عليه القوم، وإن كان في قرارة نفسه منكراً له؛ إلا من أراد الله لهم الخير وهيأهم لإقامة الحجة وسلوك المحجة، وتحمل التبعة وهم، أقل من القليل، متناثرون عبر القرون الطويلة والبلاد الشاسعة، ولم يستطع أحد أن يظهر بذلك المظهر حسب علمي إلا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بعد انتشار الدعوة السلفية في اليمن بواسطة تلاميذ الإمامين ابن الأمير والشوكاني، وكذلك ظهور وانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووصولها إلى تلك المناطق، واتصال بعض علماء هذه البلاد بعلمائها في الحجاز ونجد، واطلاعهم على كتبهم ورسائلهم، فقد هزت تلك الدعوة الجزيرة العربية كلها، وحركت ذلك الركود الذي خيم عليها قروناً طويلة، ووصل أثرها إلى كل أرجائها، بل وكل أرجاء العالم الإسلامي،كما أسهمت حركة الإرشاد في إندونيسيا بجهود كبيرة في إيقاظ علماء وطلبة العلم في حضرموت وما جاورها، وأزالت كثيراً من الحجب التي كانت تغطي(76/307)
الحقيقة، وحطمت كثيراً من القيود التي كان الناس يرسفون فيها، وأسقطت تلك الهيبة التي صنعها القبوريون لأنفسهم وأوليائهم، وسيّروا بها الناس كما أرادوا.
هذا هو موجز موقف العلماء من القبورية، وإليك تفاصيله في المباحث الآتية.
المبحث الأول
موقف العلماء اليمنيين من القبورية الإسماعيلية
وجهودهم المشكورة في مواجهتها
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: موقف العلماء اليمنيين من الإسماعيلية:
لم يجمع علماء اليمن ومثقفوه وحكامه على ذم شيء من البدع الطارئة كإجماعهم على كفر ومروق الطائفة الإسماعيلية الباطنية؛ مما حملهم على التصريح بكفرها ونشر قبائحها، ومحاربتها بشتى الوسائل من القتال إلى الردود العلمية، ومما يوضح ذلك عبارات المؤرخين وثورات الفقهاء ومقاومة الأئمة والملوك لها حتى أزالوها، وقضوا على دولتها وكيانها، وإن كان مقتهم والتصريح بالتفكير في حق علي بن الفضل وصاحبه منصور اليمن أشهر وأظهر من مقت الصليحي، وماذاك إلا لأن الصليحي كان أدهى من سابقيه ومستفيداً من أخطائهما، فتجنب إظهار الكثير مما أظهر الأولان من العقائد والأفعال الممقوتة، وكان بالرعية أرأف وألطف، وبذلك كسب شيئاً من التعاطف لشخصيته لا لنحلته، وكذلك الملكة الحرة والمعروفة عند العامة بـ " الملكة أروى " كانت ذات شخصية عظيمة وحنكة سياسية كبيرة، ثم كونها امرأة ظهرت بتلك القوة وذلك الدهاء في ذلك العصر، كل ذلك خفف من حدة المقت نحو الصلحييين كشخصيات.
أما مبادؤهم وعقائدهم فكانت موضع اتفاق من سائر اليمنيين كلهم بمقتها وبذمها، حتى لقد نحتوا من اسم هذه الطائفة عبارة مختصرة فقالوا " السمعلة "، وجعلوها شعاراً للذم، والطعن فيمن تطلق عليه.(76/308)
وهذه بعض عبارات المؤرخين يصفون دخول هذه النحلة إلى اليمن على يد علي بن الفضل وصاحبه، ومن أوائل المؤرخين الذين أبدوا الموقف اليمني من هذه الطائفة العلامة ابن سمرة صاحب طبقات فقهاء اليمن، فقد قال: ("فصل" ثم لحق باليمن كله في آخر المائة الثالثة وأكثر المائة الرابعة فتنتان عظيمتان:
فتنة القرامطة: وقد عمت العراق والشام والحجاز، وإن اختلف تأثيرها في البلدان فَمَلَكَ المخلاف اليمني علي بن الفضل - لعنه الله - وأظهر فيه ما هو منسوب إليه ومشهور عنه على منبر جامع الجند بقوله:
خذي الدف ياهذه والعبي وغني هزاريكِ ثم اطربي
فذكر القصيدة، ثم قال: (والشعر طويل، وكله تحليل محرمات الشرع والاستهانة به، فقتل أهل اليمن قتلاً ذريعاً قبل هذا، وملك الحصون والأموال العظيمة) (1).
وبعد أن ساق الجندي تاريخ ابن الفضل ومنصور اليمن قال: (قال ابن جرير (2): وكان عنوان كتاب ابن الفضل إلى أسعد: من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده أسعد ابن أبي يعفر، وكفى بهذا الكلام دليلاً على كفره، فنسأل الله العصمة) (3).
__________
(1) طبقات فقهاء اليمن ص( 75-76 )
(2) 2 ابن جرير هو : إسحاق بن يحيى بن جرير الطبري الصنعاني ، توفي سنة ( 450 هـ ) صاحب تاريخ صنعاء ، وقد قال الأكوع في تعليقه على السلوك ( 1/210 ) : أنه لم يعثر على هذه الرسالة فيما لديه من تاريخ ابن جرير ، وأنا كذلك لم أعثر عليها في النسخة المطبوعة غير أن ابن جرير كان لا يذكر ابن الفضل إلا وقال ( لعنه الله ) .
(3) 3 السلوك ( 1/210 ) .(76/309)
وقال الخزرجي في العسجد المسبوك بعد أن ذكر طرفاً من أخبار منصور وعلى بن الفضل: (فلما صار علي بن الفضل في صنعاء أظهر مذهبه الخبيث ودينه المشؤوم، وارتكب محظورات الشرع، وادعى النبوة، وكان المؤذن يؤذن في مجلسه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، وأباح لأصحابه شرب الخمر ونكاح البنات وسائر المحرمات) (1)، وقد نقل ابن الديبع كلام الخزرجي بنصه دون أن يعزوه إليه، وهو إقرارله (2).
وقال الأكوع في تعليقه على قرة العيون: (القرامطة فرقة من الباطنية، واحدها قِرْمِطي بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم بعدها طاء مهملة وياء النسبة، والقرمطة تقارب الشيء بعضه من بعض، يقال "خط مقرمط " إذا كان متقارب الحروف و" ومشي مقرمط " أي متقارب الخطو، سمي به أبو سعيد الأشعب؛ لأنه كان قصيراً دميماً مجتمع الخلق أسمر كريهاً؛ فلذلك سمي قرمطياً. فنسبت إليه القرامطة لأتباعه، قال الإمام نشوان(3): والقرمطة عند أهل اليمن عبارة عن الزندقة، وصاحبها عندهم قرمطي، وجمعه قرامط، وقرامطة.
__________
(1) 4 العسجد ص( 39 ) .
(2) 5 قرة العيون ص ( 142 ) .
(3) 6 نشوان بن سعيد الحميري ، توفي سنة ( 573 هـ ) .انظر :الأعلام ( 8/20 ) ، ومقدمة الحور العين لنشوان الحميري ص( 16- 25 ) تحقيق كمال مصطفى طبع دار آزال بيروت ، والمكتبة اليمنية صنعاء الطبعة الثانية( 1985م ) والسلوك ( 1/92 9 ) .(76/310)
قلت: وهي منظمة سرية خطيرة، تكونت من جماعة فارسية من المجوس، اندست بين المسلمين متظاهرين بالدين والورع، وهدفها تقويض دعائم الإسلام وإعادة السيادة الفارسية، ثم اتخذت التشيع لها شعاراً لما أعجزتها الحيل. وكان منشؤها بفارس ولها خلايا بكل مكان، ثم امتدت جذورها إلى العراق وكْرَ التشيع، وأصبح مركزاً هاماً لبث دعوتهم في ظل البكاء والعويل على ما نال أهل البيت من التشريد والتنكيل، وألفوا قلوباً حانية على هذا المبدأ الذي استهوى بريقه ضعفة النفوس والسذج من الناس، واعتنقه البعض عن طيب خاطر وسماحة نفس بدون مناقشات للغايات والأهداف، والبعض اعتنقه طمعاً في الوصول إلى المناصب والجاه والمال، واستفحل أمر هذه العصابة، وعمَّ خطرها، وتطاير شررها، وقُوضت ممالك، وكانت فتنة صماء، جرّت على الإسلام والمسلمين ويلات وحروب لا ينادي وليدها، ونال منها اليمن شرارة انطفأت بعد حين) (1).
ويقول نشوان بن سعيد، وهو من علماء ومؤرخي الزيدية: (وسار علي بن الفضل الخنفري إلى أرض يافع، فاشتدت وطأته باليمن، واستولى على أكثر مخاليفه، وأعلن بالكفر، وأحل جميع المحرمات، وخرب المساجد، وكان يدّعي أنه نبي)، ثم ذكر بعض تلك الأبيات، ثم قال: (وابن الفضل أول من سنَّ القرمطة في اليمن، والقرمطة عند أهل اليمن عبارة عن الزندقة، وصاحبها عندهم قرمطي، فجمعه قرامطة) (2).
__________
(1) قرة العيون تعليقاً ص( 122-123 ) .
(2) الحور العين ص ( 253-254) .(76/311)
أما القاضي حسين بن أحمد العرشي، وهو كذلك من علماء ومؤرخي الزيدية، فقد أطال في بيان حالهم وكشف عوارهم والتحذير منهم، فقال: (اعلم أن الباطنية - أخزاهم الله تعالى- أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها؛ لأنهم يبطنون الكفر، ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة، وإظهار الكفر، وهم ملاحدة بالإجماع،ويسمون " بالإسماعيلية "؛ لأنهم ينسبون أئمتهم المستورين فيما يزعمون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، و"بالعبيدية "؛ لدعائهم إلى عبدالله بن ميمون القداح الذي نسبته الباطنية إلى مايزعمون من الأئمة المستورين.
والعبيديون من أولاد عبيدالله، وِلاة مصر ذلك الزمن، والآن يسمون "شيعة"؛ لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول، حين عرفوا أنه لا يستقيم لهم إمالة الحق، والدخول إلى دهليز الكفر، إلا بإظهار المحبة والتشيع، ولهم قضايا شنيعة وأعمال فظيعة، كالإباحية وغيرها، وقد تابعهم على ذلك من ذهب عنه النور الإيماني، واستولى على قلبه الهوى الشيطاني، وهم مع ذلك ينكرون القرآن والنبوة والجنة والنار، ولولا أن حياتهم معلومة عندهم، مرتبة بينهم لأنكروها.
وعلى الجملة فدينهم النجوم، وظواهرهم التخوم، ولايكاد يظهر مذهبهم لأتباعهم إلا لمن رسخ دينهم في قلبه، وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم، وأعلنوا كفرهم، فإن غُلبوا ولم تساعدهم الأيام، كمنوا كما تكمن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة، وأن ينهشوا عباد الله، وقد أفصح السيد " الدافعاني " عن أطراف من أحوالهم في رسالته بعد اختلاطه بهم، وتردده عليهم، ولا ينبغي لذي معرفة وقوة، أن يعرف منهم أحداً يقتدرعليه، فيتركه وشأنه، فإنهم - أهلكهم الله تعالى-شياطين الأرض) (1).
__________
(1) بلوغ المرام ص( 21-22 ) .(76/312)
وكلامه عام يشمل ابن الفضل ومنصور اليمن والصليحيين، بل إنه قد بين في مقدمة كتابه هذا أن من جملة ما حمله على تأليفه أنه سمع راوياً يروي عن أناس، وذُكر عندهم بنو الصليحي، وما فعلوه من جوامع وصدقات، فترحموا عليهم جهلاً بأنهم دعاة الباطنية وأصحاب الطائفة العبيدية، فقلت: الآن اتخذ الجهل من الناس مأخذه، وفتح لهم فاه، وأطبق نواجذه، فقلت قصيدة مستغربة وكلمة منظومة معربة، سميتها مسك الختام) (1).
هذا هو موقف علماء ومؤرخي اليمن من الإسماعليلية، وهو مع ما فيه من المقت لهم وتكفيرهم لا يرقى إلى المستوى المطلوب الذي يجب أن يصل إليه الرد والبيان لحالهم وسوء معتقدهم وخطورة مكائدهم ودسائسهم، وربما كان للأولين العذر في ذلك كونهم قد حاربوهم حرباً عسكرية وسياسية حتى أزالوا دولهم، وطهروا اليمن من وجودهم.
__________
(1) المصدر السابق ص(4) .(76/313)
ولكن يجب ألا يخفى على علماء اليمن وحكامه أن مجرد زوال دولة الباطنية لا يكفي، فدولتهم قد زالت قديماً بزوال ابن الفضل ومنصور اليمن وأتباعه، ولكن نارها مازالت تدب تحت الرماد حتى مرت بها ريح الصليحي، فأشعلتها أقوى من ذي قبل، وملك جميع اليمن كما هو معلوم، ثم زالت دولته، وبقي فكره وعقائده ودعوته، وبقي دعاته يخلف بعضهم بعضاً، ويوصي بحفظ الدعوة والحفاظ عليها في دور الستر كما يقولون حتى يحين دور الظهور الجديد، وبقيت كتبهم متوفرة، وهي أعظم ما يقوم عليه منهج الإسماعيلية في العالم كله، هذه الكتب محفوظة كما يؤكِّد ذلك الدكتور حسين الهمداني في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وبعض المكتبات الخاصة وبعض المتاحف ودور الكتب العالمية، وقد بدأت موجة إحياء لهذه الكتب ونشر وتحقيق في أكثر من بلد؛ وذلك للتحول الجديد في العالم وطغيان الحرية الفكرية والعقائدية، فبعد أن كان الباطنية يتخفون غاية التخفي بعقائدهم، ويخفون كتبهم عن أهل نحلتهم حتى يصلوا إلى مستوى معين من الفهم والقناعة بما لديهم، أصبحوا اليوم يتباهون بما هم عليه، وينشرون تلك الكتب على الملأ، ويتظاهر بعض الباحثين بانتسابه إليهم، ويؤرخ لهم مادحاً شارحاً لبعض قضاياهم التي كانت في غاية السرية.
إذاً هذا الفكر الضال والمعسول في نفس الوقت الذي ينبني على الفلسفة والخطاب العقلي والعاطفي في آنٍ واحد، جدير بالاهتمام والحذر واتخاذ التدابير الواقية من بعثه وافتتان الناس به في المستقبل.(76/314)
واسمع إلى الدكتور حسين الهمداني، وهو أحد الباحثين الباطنية الإسماعيلية المحدثين، وهو يمني حيث يقول في كتابه "الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن " تحت عنوان " الثروة العلمية الفاطمية في اليمن": (ترى أن دعوة اليمن مضت من يوم وفاة السيدة الحرة الملكة الصليحية إلى انتهاء الدولة الأيوبية في اليمن في مرحلة تمتاز بنشاط علمي وجمع شتات التراث الفكري وتسجيلها في كتب ومؤلفات وحفظ ما تركه المؤلفون الدعاة في عهد الخلفاء الفاطميين، وقد بدأت هذه الحركة العلمية في حياة الملك المكرم والملكة الحرة بعد عودة قاضي قضاة اليمن لمك بن مالك الحمادي من الديار المصرية إلى مقر الدولة الصليحية، وقد سبق أن ذكرنا أن داعي الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي، قرر في أواخر عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي خطوط برنامج الدعوة العلمي، وكلف القاضي لمك تنفيذ هذا البرنامج، ونقل القاضي كتب الدعوة وما احتوته من علوم إلى اليمن، ثم قررت السيدة الملكة الحرة بعد وصول القاضي إلى اليمن فصل الدعوة من شؤون الملك. وعينت الملكة يحيى بن لمك والداعي الذؤيب بن موسى الوادعي للاشراف على تنفيذ هذا المشروع العلمي البعيد عن التيارات السياسية. فابتدأت الدعوة تعمل لهذا الغرض في عهد الداعي الذؤيب بن موسى الوادعي، ومأذونه السلطان الخطاب بن الحسن الحجوري، ثم أظهر الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي ومأذونه الشيخ علي بن الحسين بن جعفر بن الوليد القرشي،والشيخ محمد بن طاهر الحارثي نشاطاً بليغاً في هذا الصدد، وبلغ الداعي حاتم بن إبراهيم الحامدي، والوادعي علي بن محمد بن الوليد من إنتاجهما الأدبي مبلغاً لايستهان به. وأثبت الداعي علي ابن حنظلة خلاصة بعض علوم الدعوة في رسالته وأرجوزته. وقد واصل علماء اليمن هذا النشاط العلمي في القرون التالية إلى عهد الداعي إدريس عماد الدين الأنف القرشي، المتوفى سنة اثنتين وسبعين وثمان مائه، بل إلى أيامنا هذه، ومن(76/315)
هذا العرض السريع نأخذ فكرة عما يوجد من الثروة الأدبية والعلمية في خزائن كتب الدعوة اليمنية) (1).
كما أن الأستاذ عبدالله الحبشي ذكر في كتابه مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن ذكر ستة عشر داعياً ومؤلفاً من دعاة الإسماعيلية اليمنيين الذين خلفوا ثروة علمية وعقائدية ضخمة، كلها يقصد بها تعميق وترسيخ الفكر والعقيدة الإسماعيلية لدى اليمنيين (2).
ذلك المخزون الفكري وإن كان ضالاً غير مستساغ لدى العقلاء، فإنه قد يستساغ لدى الجهلاء، ولدى المفتونين بالغرائب، ولدى المندسين الذين دأبوا على بث الفتن والشقاق من خلال العقائد الضالة والأفكار الهدامة. هذا بالإضافة إلى الاهتمام الكبير والمتزايد باليمن من قبل هذه الطائفة هذه الأيام، وما يعتمل داخل تجمعات هذه الطائفة في مناطق تواجدها وعلاقاتها المريبة مع جهات أجنبية، ربما عملت على زعزعت أمن اليمن واستقراره.
__________
(1) الصليحيون ص( 297-298 )
(2) مصادر الفكر العربي والإسلامي في اليمن تأليف عبد الله محمد الحبشي الصفحات (95) و (100) و (102) و (106) و (111) و (112) و (11) و (121) و (123) و (125) و (126) طبع مركز الدراسات اليمنية صنعاء .(76/316)
وكذلك الظاهرة التي برزت في السنوات الأخيرة ما يسمى لدى تلك الطائفة في الخارج " الحج إلى اليمن "؛ وذلك لتتبع قبور دعاتهم في مناطق مختلفة في اليمن، سبقت الإشارة إلى بعض منها، ومما يدل أن وراء الأكمة ما وراءها، أنهم لم يقتصروا على زيارة تلك القبور والانصراف عنها، ولكنهم يشترون ماحولها من أرض ودور ومدارس وأي شيء، حتى يتحول الضريح وماحوله إلى ملك خاص بهم، يقيمون فيه المساكن في الظاهر، ولاندري ما وراء المساكن، وقد شاهدت قبراً لهم معظماً في زبيد، وقد ملكوا سكناً واسعاً بجواره، فإذا جاءوا للزيارة نزلوا فيه،وانطلقوا منه إلى بقية المزارات، كما رأيت قبراً آخر في قرية الحمى من نواحي زبيد، يسمونه قبر " حضرة خواجه أويس القرني عاشق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هكذا مكتوب عليه، وقد دخلته وهو ضمن مباني مدرسة صغيرة قديمة، فاشتروا حسب إفادة بعض أهالي المنطقة مساحة من الأرض، وبنوا عليها مدرسة جديدة على أن تكون المدرسة القديمة والقبر لهم، ورأيت قبراً عالياً مغطى بثوب موشى، لعله من الحرير مطرز بآيات من القرآن وبعض العبارات الأخرى، وهو في غاية من النظافة، ومفروش بفراش من السجاد والبخور يفوح منه مما يلقي له مهابة في نفس الزائر.
فهذه الأماكن، مايدرينا أنها تتحول إلى مقار للفتنة والمؤامرة في يوم من الأيام! وهل كانت بدايات اليهود المهاجرين إلى فلسطين إلا بهذه المثابة؟ أوَما نخشى أن يأتي يوم يقال فيه لابد من وطن قومي لهذه الطائفة؟
ولايسعني في نهاية هذا المطلب إلا أن أسجِّل تحذيري للعلماء وللحكام ولكل غيور على أمن اليمن وسلامته واستقراره:
أرى خلل الرماد وميضَ نارٍ ويوشك أن يكونَ لها ضرامٌ
لئن لم يطفها عقلاءُ قوم يكون ضرامها جثثٌ وهامُ
المطلب الثاني: أبرز الأعلام الذين واجهوا الإسماعيلية من علماء اليمن:(76/317)
سبقت الإشارة إلى ضعف المواجهة العلمية لهذه الطائفة، ولكن مع ذلك فإن علماء اليمن لم تخلُ الساحة تماماً من الردود وبيان فساد عقائد ومناهج هذه الطائفة، ومن المؤمل أن يقوم العلماء المعاصرون بسد ذلك النقص.
العلم الأول
محمد بن مالك بن أبي القبائل(1) الحمادي
هذا الإمام هو أشهر من رد على الإسماعيلية من اليمنيين، بل إن رسالته أصبحت مرجعاً لكل من يكتب عنهم، وهو الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك بن أبي القبائل الحمادي المعافري، والذي لم يُعثر له على ترجمة، كما أكد ذلك القاضي محمد بن علي الأكوع في مقدمة كتابه (2) غير أن الجندي قد أفاد ما يأتي في ترجمة علي بن الفضل: (على ما ذكره الفقيه أبو عبدالله محمد بن مالك بن أبي الفضائل أحد فقهاء اليمن وعلماء السنة، وكان ممن دخل في مذهبهما - منصور وابن الفضل - أيام الصليحي، وتحقق أصل مذهبهما، فلما تحقق فساده رجع عنه، وعمل رسالة مشهورة، يخبر بأصل مذهبهم،ويبِيْن عوارهم ويحذر من الاغترار بهم) (3)، وقد استنبط القاضي الأكوع أن وفاة الحمادي كانت في أيام علي بن محمد الصليحي ما بين عامَي (439هـ -459 هـ) حيث لم يدرك مقتل الصليحي سنة (459 هـ).
__________
(1) ابن أبي القبائل هذا الذي ذكره الأكوع في تحقيقه لكتابه كشف أسرار الباطنية ، وذكره فؤاد سيد في تحقيقه لكتاب طبقات فقهاء اليمن لابن سمرة الجعدي ص( 78 ) ، ومنهم من ذكره بابن أبي الفضائل والله تعالى أعلم .
(2) كشف أسرار الباطنية ص(45 ) .
(3) السلوك (1/201 ) .(76/318)
وكتاب الحمادي من أهم الكتب الكاشفة عن حقيقة الإسماعيلية في اليمن،بل هو أهمها؛ وذلك لما انطوى عليه من مشاهدة واحتكاك وخبرة من الداخل، قال - رحمه الله - في فاتحة كتابه: (قال محمد ابن مالك - رحمة الله تعالى عليه -: اعلموا أيها الناس المسلمون، عصمكم الله بالإسلام، وجنبنا وإياكم طرق الآثام، وأرشدكم، ووفقكم لمرضاته، وسددكم، إني كنت أسمع ما يقال عن هذا الرجل الصليحي كما يسمعون، ومايتكلم به عليه من سيء الإذاعة وقبح الشناعة، فإذا قال القائل: هو يفعل، ويصنع، قلت: أنت تشهد عليه غداً، فيقول: ما شهدت، ولا عاينت، بل أقول كما يقول الناس. فكنت أتعجب من هذا أولاً، ولا أكاد أصدق،ولا أكذب ما قد أجمع عليه الناس، ونطقت به الألسن، فتارة أقول هذا ما لا يفعله أحد من العرب والعجم، ولا سمع به فيما تقدم في سالف الأمم، إنما هذه عداوة له من الناس للمآل الذي بلغه من غير أصل ولا أساس، وكنت كثيراً ما أسمعه يقول:حكم الله لنا علىمن يظلمنا، ويرمينا بما ليس فينا.
فرأيت أن أدخل في مذهبه؛ لأتيقن صدق ما قيل فيه من كذبه؛ ولأطلع على سرائره وكتبه،فلما تصفحت جميع ما فيها، وعرفت معانيها، رأيت أن أبرهن على ذلك؛ ليعلم المسلمون عمدة مقالته، وأكشف لهم عن كفره وضلالته؛ نصيحة لله وللمسلمين؛ وتحذيراً ممن يحاول بغض هذا الدين، والله موهن كيد الكافرين.(76/319)
فأول ما أشهد به وأشرحه، وأبينه للمسلمين وأوضحه، أن له نوّاباً يسميهم الدعاة المأذونين، وآخرين يلقبهم بالمكلبين تشبيهاً بكلاب الصيد؛ لأنهم ينصبون للناس الحبائل، ويكيدونهم بالغوائل، وينقبضون عن كل عاقل، ويلبِّسون على كل جاهل، بكلمة حق يراد بها باطل. يحضّونهم على شرائع الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام كالذي ينثر الحب للطير؛ ليقع في شراكه، فيقيم أكثر من سنة يمعنون به وينظرون صبره، ويتصفحون أمره، ويخدعونه بروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - محرفة، وأقوال مزخرفة،ويتلون عليه القرآن على غير وجهه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد لما يأمرونه، قالوا حينئذٍ: اكشف عن السرائر، ولاترض لنفسك، ولاتقنع بما قد قنع به العوام من الظواهر، وتدبر القرآن ورموزه، واعرف مثله وممثوله، واعرف معاني الصلاة والطهارة، وماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرموز والإشارة، دون التصريح في ذلك والعبارة،فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة، لممثولات محجوبة، فاعرف الصلاة وما فيها، وقف على باطنها ومعانيها، فإن العمل بغير علم لاينتفع به صاحبه، فيقول: عمَّ أسأل، فيقول: قال الله تعالى: { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } (1)، فالزكاة مفروضة في كل عام مرة، وكذلك الصلاة من صلاها مرة في السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار، وأيضاً فالصلاة والزكاة لها باطن؛ لأن الصلاة صلاتان، والزكاة زكاتان، والصوم صومان، والحج حجان، وما خلق الله - سبحانه - من ظاهر إلا وله باطن، يدل على ذلك: { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } (2) { قل إنما حرم ربي الفواحش ماظهر منها وما بطن } (3)، ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن، فالظاهر ما تساوى به الناس وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به، فلا يعرفه
__________
(1) البقرة (43 ) .
(2) الأنعام ( 120 ) .
(3) الأعراف ( 33 ) .(76/320)
إلا القليل، من ذلك قوله: { وما آمن معه إلا قليل } (1)، وقوله: { وقليلٌ ماهم } (2)،وقوله: { وقليلٌ من عبادي الشكور } (3)، فالأقل من الأكثر الذين لاعقول لهم) (4).
وقد بدأ كتابه بذكر الدعاة المأذونين، وكيفية قيامهم بتلك الدعوة،وكيف يؤوِّلون، ويعلمون الناس أن لكل شيء ظاهراً وباطناً، فالصلاة لها باطن والزكاة لها باطن...الخ، ثم ذكر تدرجهم بالمدعو حتى يصل إلى الدرجة التي يبيح له الإمام المبيت مع زوجة الداعي، ثم مع زوجات الواصلين إلى تلك الرتب العالية عندهم (5)؛ ثم ذكر المشهد الأعظم وما فيه من إباحية، ثم يختم الفصل بقوله: (قال محمد بن مالك - رحمه الله تعالى -: هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله - تعالى - لهم بالمرصاد،والله - تعالى - عليَّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد عليَّ بجميع ما ذكرته عالم به، ومن تكلم عليهم بباطل فعليه لعنة الله واللاعنين والملائكة والناس أجمعين، وأخزى الله من كذب عليهم، وأعد له جهنم وساءت مصيراً، ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه، فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته.
فأديت هذه النصيحة للمسلمين حسب ما أوجب علي من حفظ هذه الشهادة، فإن الله - سبحانه -أمر بحفظ الشهادة ومراعاتها وأدائها إلى من لم يسمعها، قال الله - سبحانه وتعالى -: { سُتكتب شهادتهم ويسئلون } (6)،والله أسأله أن يتوفانا مسلمين، ولاينزع عنا الإسلام بعد أن أتانا بمنه ورحمته) (7).
__________
(1) هود ( 40 ).
(2) سورة ص ( 24 ) .
(3) سبأ ( 13 ) .
(4) كشف اسرار الباطنية وأسرار القرامطة ص( 63 – 65 ) .
(5) . المصدر السابق ص( 69 ).
(6) الزخرف ( 19 ) .
(7) المصدر السابق ص( 70 ) .(76/321)
ثم قال تحت عنوان " المقالة في أصل الدعوة الملعونة ": (وقد رأيت أيها الناس، وفقنا الله وإياكم للصواب، وجنبنا وإياكم طرق الكفر والارتياب، أن أذكر أخبار هذه الدعوة الملعونة؛ لئلا يميل إلى مذهبهم مائل، ولا يصبو إلى مقالتهم لبيب عاقل، ويكون في هذا القدر من الكلام في هذا الكتاب إنذار لمن نظره، وإعذار لمن، وقف عليه واعتبره) (1)، ثم ابتدأ في تاريخ تلك الدعوة وأخبارها إلى آخر الكتاب.
والكتاب يعد من أهم وأقدم المراجع المؤرخة للباطنية والكاشفة عن حقائقهم خصوصاً باطنية اليمن؛ ولذا فلا يحصى من نقل عنه قديماً وحديثاً، وقد طبع عدة طبعات من آخرها وأفضلها طبعة " مركز الدراسات والبحوث اليمني " بتحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع سنة (1415 هـ).
ولقد حاول البعض التشكيك في بعض ما احتوى عليه الكتاب، إما باعتبار ذلك غير معقول، أو بدافع قومي أو وطني، ولكن الشهادة التي صدّره بها القاضي الأكوع عن المقريزي تشهد للحمادي بصدقما ذكره، وكذلك يشهد له كثير من النقول عن كتب الإسماعيلية أنفسهم التي أوردها الباحث الكبير إحسان إلهي ظهير في كتابه الفذ " الإسماعيلية تاريخ وعقائد " ومن أراد التأكد فليرجع إليه في الباب السادس " الإسماعيلية والتأويل الباطني " (2) و" الإسماعيلية ونسخ شريعة محمد صلوات الله عليه"(3)، إلا موضوع " المشهد الأعظم " أي جمع الرجال مع النساء، وكذلك المبيت مع زوجة الداعي وزوجات من يليه فلم أجد إلى الآن ما يشهد له فلا أستطيع الجزم بإثباته كما لا أستطيع نفيه.
العلم الثاني
الإمام يحيى بن حمزة
__________
(1) المصدر السابق ص(70 – 71 )
(2) الإسماعيلية تاريخ وعقائد ص( 473 – 538 )
(3) المصدر السابق ص( 546 – 592 )(76/322)
وهو الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي- رضي الله عنه -، وهو خلاف أكثر أئمة اليمن الذين يرجعون إلى الحسن بن علي - رضي الله عنه -، ولد بصنعاء سنة (669 هـ) (واشتغل بالمعارف العلمية وهو صبي، فأخذ من جميع أنواعها على أكابر علماء الديار اليمنية، وتبحر في جميع العلوم، وفاق أقرانه، وصنف التصانيف الحافلة في جميع الفنون) (1)، (وهو من أكابر أئمة الزيدية بالديار اليمنية، وله ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان وسلامة صدر وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذب عن أعراض الصحابة المصونة - رضي الله عنهم -، وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله) (2)، وله في ذلك " الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب أصحاب سيد المرسلين " (3).
وكتبه كثيرة جداً، أوصلها بعضهم إلى مئة مجلد، ومنها رسالتاه اللتان رد فيهما على الباطنية، وهما " الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام " و" مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار " وقد طبعتا، ولكني لم أحصل على أي منهما.
وهذا الإمام لم يقتصر على الرد على الإسماعيلية بقلمه ولسانه، بل حاربهم بسيفة وسنانه، كما ذكر ذلك صاحب أعلام المؤلفين الزيدية (4)، ولست أدري شيئاً عن مضمون الكتابين غير أن الظن أنهما مفيدان ومحققان، فقد وُصِفَ هذا الإمام بالتحقيق والنبوغ.
__________
(1) البدر الطالع (2/331 )
(2) المصدر السابق ( 2/332 )
(3) المصدر السابق ( 2/332 ) .
(4) أعلام المؤلفين الزيدية ص( 1124 ).(76/323)
وهو مع مكانته العلمية وشهرته بين علماء اليمن، قد صدرت عنه بعض الفتاوى التي يظهر بجلاء مخالفتها للأدلة، من أشهرها تجويزه بناء المشاهد والقباب على قبور الخلفاء وذوي الفضل، وهذه الفتوى هي التي رد عليها الشوكاني برسالته "شرح الصدور بتحريم رفع القبور"، وقد ذكر بعض تلك المسائل القاضي إسماعيل الأكوع في ترجمته في كتابه هجر العلم (1).
وقد توفي - رحمه الله - في موضع اعتزاله بعد أن تخلى عن الإمامة بقصر هران بذمار سنة (749 هـ) (2).
المطلب الثالث: المؤلفات اليمنية في الرد على الباطنية الإسماعيلية:
لقد عثرت- أثناء بحثي عن هذه الطائفة وتاريخها وموقف العلماء منها-على عدد من الردود عليها من علماء اليمن،ولاأزعم أن هذه الأسماء التي سأذكرها في هذا المطلب هي كل ما كتبه اليمنيون في ذلك، ولكن هذا ما وقفت عليه.
1 – 3) ماسبق ذكرها؛وهي رسالة الحمادي "كشف أسرار الباطنية"،و"الإقحام لأفئدة الباطنية الطغام" و"مشكاة الأنوار الهادمة لقواعد الباطنية الأشرار" وكلتاهما للإمام يحي بن حمزة.
4) "الحسام البتار في الرد على القرامطة الكفار"؛ للشيخ حُميد بن محمد المحلي الهمداني المعروف بحميد الشهيد، وكان من كبار الهادوية في عصره، قتل سنة (652) (3).
5) "الرسالة القاطعة في الرد على الباطنية" (جزآن)؛ للشيخ محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش، توفي سنة (719) (4).
6) "العضب المسلول في الرد على الباطني المخذول" لأبي العطايا عبدالله بن يحيى بن المهدي، توفي سنة (873) (5).
__________
(1) هجر العلم (1/502 ) .
(2) انظر ترجمته في البدر الطالع (2/331 – 333 ) ، وهجر العلم ص( 501 – 506 ) ، وأعلام المؤلفين الزيدية ص( 1124 – 1131).
(3) هجر العلم للأكوع (2/882) ، ومصادر الفكر للحبشي ص( 107 ) .
(4) هجر العلم (3/1306) ، ومصادر الفكر ص(112 ) .
(5) مصادر الفكر ص( 122 ) .(76/324)
هذه هي الكتب المفردة،وهناك من تعرض لهم أثناء بحوث أخرى وضمن كتب غير مخصصة للرد عليهم منها:
أ) ماكتبه الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، المتوفى سنة (840هـ)؛ في كتابه" إيثار الحق على الخلق" في عدة مواضع.
ب) محمد بن الحسن الديلمي المتوفى سنة (711 هـ)، في كتابه "قواعد عقائد آل محمد"، وغير ذلك من كتب العقائد والتاريخ.
وعندما بدأت موجات الحجاج الإسماعيلية تتوافد على اليمن،وظهر نشاطهم ونشاط إخوانهم من اليمنيين،تحرك بعض العلماء والدعاة من المعاصرين؛ لمواجهة ذلك خطابة ومحاضرة وربما تأليفاً، والواجب أن تأخذ هذه الفرقة حظها من العناية والاهتمام على مستوى الخطر الذي تشكله، والله الموفق.
المبحث الثاني
المواجهة العلمية لعلماء الجهات اليمنية المختلفة لعموم القبورية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: جهود علماء اليمن الأعلى "صنعاء ومايليها ":
لقد كان لعلماء هذه الجهة النصيب الأوفر والحظ الأكبر من الجهود العلمية والعملية في مواجهة القبورية،وقد تقدم بعض جهودهم في مواجهة الباطنية الشيعية،وفي هذا المبحث سألقي الضوء على جهودهم في مواجهة عموم القبورية،ولم تكن تلك الجهود العظيمة لأن بلادهم كانت أكثر قبورية من غيرها،ولكن كان هناك عاملان أساسيان لذلك:
الأول: هو الاجتهاد والتجديد الذي تميز به علماء هذه الجهة،فاتسعت آفاقهم، وزالت الموانع من طريقهم؛ سواء موانع النظر العلمي، أو موانع الجهر بكلمة الحق التي حالت دون علماء جهات أخرى أن يقولوها.
الثاني: أنه لايوجد من يتبنى القبورية، ويدافع عنها بقوة من علماء تلك الديار، وإنما الذي يروج تلك القبورية هم الحكام دون اعتقاد؛ بل لدوافع إظهار العظمة لديهم، فلم يكن لهم حماس الصوفية المعتقدة في الأولياء والحكام الخاضعين لسلطان الصوفية.(76/325)
ولذا فسوف تطالعنا أسماء عديدة، لها إسهاماتها في هذه الجهود من جوانب مختلفة،ولكنني سأكتفي بدراسة أكثر تلك الأسماء تأثيراً،وهما الإمامان شيخا الإسلام "محمد بن إسماعيل الأمير" و"محمد بن علي الشوكاني"، مع استعراض بعض آثارهما في هذا المجال، وأما بقية الأسماء فسأذكرها مجردة،مع تاريخ الوفاة وبعض مصادر الترجمة، واسم الأثر الذي تركه ذلك العالم في مواجهة القبورية وموضوعه.
العلم الأول
من أعلام مواجهة القبورية في اليمن الأعلى
الإمام محمد بن إسماعيل الأمير
هو علامة اليمن ومجدد علم الحديث بها،البدر المنير محمد بن إسماعيل بن صلاح، الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ولد بكحلان ليلة الجمعة منتصف جمادى الأول سنة (1099هـ) (1)، ثم ارتحل مع والده إلى صنعاء،وهناك أكب على طلب العلم على أشهر وأفضل علمائها، (ورحل إلى مكة،وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران،وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن) (2)، وقد عدد الشوكاني تلك المحن التي وقعت عليه (3).
وقد تفرد في عصره من بين علماء اليمن بأمور، هي من أعظم خصال المجددين، وأزكى ثمار اجتهاد المجتهدين، أولها الدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك ووسائله،وهذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذه الترجمة، وكان ذلك قبل أن يسمع بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله- فلما سمع بها وبما يقوم به ابن عبدالوهاب في ذلك السبيل، فرح فرحاً شديداً،وتقوّى بذلك، ووجد المساعد على دعوته التي كان يظن أنه وحده عليها، فراسله بقصيدته الشهيرة المعروفة بالقصيدة النجدية، والتي مطلعها:
__________
(1) هجر العلم (4/1854) .
(2) البدر الطالع ( 2/133 ) .
(3) المصدر السابق (2/ 113-136 ) .(76/326)
سلامٌ على نجد ومن حل في نجد وإن كان تسليمي على البعد لايجدي
وقال مبدياً سروره بما يدعو إليه ذلك الإمام:
لقد سرني ما جاءني من طريقة وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وقد ضمّن هذه القصيدة أهم ملامح دعوته إلى التوحيد والاجتهاد ومحاربة البدع، وأثنى على الإمام ابن عبدالوهاب بذلك.
ولكن هناك أموراً ساعدت على شيء من التردد تجاه الشيخ ابن عبدالوهاب؛ وهي أنه لم يبادر بالجواب على الصنعاني، وترتب على هذا السبب أسباب أخرى، من أهمها أن القصيدة انتشرت، وسار بها الركبان، وبلغت الحجاز والشام والعراق وغيرها من البلدان التي لابن عبدالوهاب فيها أعداء، فسارعوا بالكتابة لابن الأمير، يلومونه على مدحه لابن عبدالوهاب، ويختلقون المطاعن والمثالب، ويهوِّلون الأمر بحيث يصورونه له أنه بسبب هذه القصيدة، ارتفع شأن هذا الرجل، واغتر به أناس مع ما عنده من أخطاء، ويحمِّلون ابن الأمير مسؤولية من اغتر بقصيدته، ولكن ذلك كله لم يؤثر فيه،كما صرح بذلك في مقدمة قصيدة الرجوع غير أنه بعد فترة، ورد إليه رجل من أهل نجد، يزعم أنه من طلاب محمد ابن عبدالوهاب، وذكر لابن الأمير بعض الأمور عن صاحبه، لم ترق له، ولم يُعِر ذلك اهتماما ً، ثم ورد رجل آخر، يظهر عليه سمت وسيما صلاحٍ ونباهة في طلب العلم حسبما يصفه ابن الأمير؛ فأكد ما قاله الوافد الأول وأحضر حسب زعمه بعض رسائل ابن عبد الوهاب التي فيها تبرير تكفير سائر الأمة، والوجهة في قتل مخالفيه، وأخذ أموالهم، فلما تجمع ذلك كله وجد ابن الأمير نفسه مضطراً لمسح ما فعلته القصيدة الأولى، من دعاية لابن عبدالوهاب، فنظم قصيدته التي مطلعها:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
وأبان فيها ما بلغه عن ابن عبدالوهاب، مما لا يرتضيه وأهمه تكفير الأمة قاطبة، والتَّجاري على الدماء والأموال، وأقول:(76/327)
أما القضية الأولى فهي قطعاً غير صحيحة، وجميع مؤلفات الإمام ومؤلفات أبنائه وأحفاده وأعلام الدعوة النجدية موجودة متداولة، وليس فيها شيء من ذلك، أعني التكفير العام المطلق للأمة، وإنما فيها التحذير من الشرك والحكم العام دون التعيين لمن وقع في الشرك بأنه مشرك، مالم يكن معذوراً، وتاب عن ذلك، فدعوى تكفير الأمة قاطبة مما افتراه عليه أعداؤه؛ لتشويه سمعته.
وأما القضية الثانية وهي التجاري على دماء المسلمين وأموالهم فهي مبنية على حكم من يحاربهم، فمن اعتقد هو وأتباعه أنه مرتد معاند، لم يقبل النصح، ولم ينصع للدعوة، استحل قتاله، وغنم أمواله، وذلك بعد البلاغ والإعذار، كما تنص عليه كتبه وكتب أتباعه، وأما وصول الأمر إلى حد الاغتيال دون إنذار ودون دعوة، فما علمت أن الشيخ وأتباعه العلماء، يجيزون ذلك بهذه الصورة المذكورة، وأما أن يحصل من بعض الجنود وقُوَّادِهم شيء من التجاوز في القتل أو في نهب الأموال أو ما أشبه ذلك، فهذا ممكن، وليس العيب فيه على الشيخ، ولا على دعوته.
وعلى كل حال فتأخُّر جواب الشيخ ابن عبدالوهاب علىالشيخ ابن الأمير؛ فتح المجال للطرف الثالث وهم الناقمون على الشيخين جميعاً، فسعوا للإيقاع بينهما، وخصوصاً أنهم لمسوا قضية حساسة لدى ابن الأمير، وهي قضية قتل الناس وأخذ أموالهم باسم الدين والشرع والجهاد في سبيل الله، التي كان قد سنّها بعض أئمة اليمن، وضاق بها علماء اليمن ذرعاً، ومن أشدهم ابن الأمير،فكم له في ذلك من مكاتبات وقصائد تعد ثورة على تلك الأوضاع، فخشي أن يذم أئمة اليمن، ويمقتهم لذلك الظلم،وفي نفس الوقت يمدح إمام نجد الذي يجاري أئمة اليمن في ذلك البغي والظلم.
هذه في نظري هي الأسباب الحاملة على نظم القصيدة الأخيرة؛ ولذلك ومن أجل أن يقطع الطريق على من يصطاد في الماء العكر، فقد أكد تمسكه بما جاء في القصيدة النجدية من العقيدة والمنهج، وإنما كان الرجوع عن تلك القضايا المحددة فقال:(76/328)
نعم واعلموا أني أرى كل بدعة ضلالاً على ما قلت في ذلك العقد
ولاتحسبوا أني رجعت عن الذي تضمنه نظمي القديم إلى نجد
بلى كل ما فيه هو الحق إنما تجاريك في سفك الدما ليس من قصدي
وتكفير أهل الأرض لست أقوله كما قلته لا عن دليل به تهدي) (1)
والقصيدة ثابتة عن الإمام ابن الأمير، وليست مقولة على لسانه، والسبب فيها ماذكر، وليس هو تراجعاً عن ذلك المنهج، وقد أشار الشوكاني في "الدر النضيد" إلى شرح هذه القصيدة لابن الأمير(2)، فمن أنكرها من علماء نجد وغيرهم كان إنكاره لها عن عدم اطلاع على ما ذكر من أسباب وملابسات، وماذاك إلا غيرة على الإمام ابن الأمير من أن ينسب إليه مايخالف ماعرف عنه من الدعوة إلى التوحيد والاتباع ومحاربة الشرك والابتداع.
وأما الأمر الثاني فالدعوة إلى الاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى والتعصب المقيت، وهذا الأمر تطفح به كتبه التي خصص منها رسالة لهذا الغرض بعنوان: " إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد "، كما تعرض لهذا الأمر في الكثير من كتبه الكبيرة والصغيره، وأعلنه في العديد من قصائده، ومنها هذه القصيدة النجدية التي تكلمنا عنها آنفاً حيث قال:
وأقبح من كل ابتداع سمعته وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها يُعض بأنيابِ الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويُعزى إليه كل ما لا يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال النبي محمد وهل غيره بالله في الشرعي من يهدي
لئن عده الجهال ذنباً فحبذا به حبذا يوم انفرادي في لحدي (3)
وتجد هذا الاتجاه في ديوانه في عدة مواضع بارزاً، وقد جر عليه هذا ضروباً من المحن، كما مر.
__________
(1) الديوان وانظر مقدمةهذه القصيدة ص ( 171-173 ) .
(2) الدر النضيدص ( 102 ).
(3) الديوان ص( 167 )(76/329)
والأمر الثالث مقارعته للأئمة وتشديده النكير عليهم في المظالم التي يرتكبونها بحق الأمة في دمائها وأموالها، وهو فاشٍ في كتبه ورسائله وقصائده، ومن أشهر تلك القصائد وأذيعها وأبعدها ذكراً القصيدة التي مطلعها:
(سماعاً عباد الله أهل البصائر لقولٍ له يفنى منام النواظر) (1)
وقد شجب فيها ظلم الأئمة وميل بعض القضاة عن مقتضى العدل، وسكوت العلماء عن قول كلمة الحق، وبالجملة فقد وهب نفسه وراحته ووقته وعلمه لإعلاء كلمة الحق ورفع راية التوحيد وقمع البدع والمنكرات، ومن طريف ما قام به في الحفاظ على التوحيد ومحاربة الشرك ما ذكره "زبارة" في " نشر العرف" تحت عنوان " صنم المخا وفتنة الخطبة بصنعاء " قال: (وأرشد المهدي العباس إلى إزالة أصنام كانت ببندر المخا لطائفة البانيان،وألف البدر رسالة في ذلك نفيسه، فبادر المهدي إلى الأمر بإزالتها وهدم بيوتها، وقبض جميع أموالها، وقد كان لها مال واسع يقدر بنحو خمسين ألف ريال، فأخذ وأوصل أحد الأصنام إلى حضرة الإمام والبدر لديه، فأمر البدر بكسره، وكان في صورة أنثى، فديس بالنعال) (2).
وقد التف حوله نخبة كبيرة من طلاب العلم من طبقات متفاوتة من المجتمع، قال عنها الشوكاني: (وقد كان أكثر أتباع صاحب الترجمة من الخاصة والعامة، وعملوا باجتهاده وتظاهروا بذلك، وقرأوا عليه كتب الحديث وفيهم جماعة من الأجناد، بل كان الإمام المهدي يعجبه التظهر بذلك، وكذلك وزيره الكبير الفقيه أحمد بن علي النهمي وأميره الكبير الماس المهدي، ومازال ناشراً لذلك في الخاصة والعامة غير مبال بما يتوعده به المخالفون له، ووقعت في أثناء ذلك فتن كبار، وقاه الله شرها) (3).
__________
(1) الديوان ص( 244-247 ) .
(2) نشر العرف ( 3/41)
(3) البدر الطالع (2/137 ) .(76/330)
وبواسطة طلابه والمقتدين به من العلماء والدعاة، وصلت إلينا الدعوة السلفية اليمنية، والحمد لله،كما خلّف ثروة ضخمة من الكتب التي تُشد إليها الرحال في التحقيق والتجديد ودقة الفقه والاستنباط، من أوسعها انتشاراً " سبل السلام " و"تطهير الاعتقاد " والعدة حاشية شرح العمدة " لابن دقيق العيد، ومؤلفاته كثيرة جداً، قال القاضي الأكوع: (وله رسائل كثيرة، يضيق المقام بذكرها) (1).ومعظمها في تلك الاتجاهات التي أشرنا إليها، وسيأتي التعريف بما يخص القبورية من مؤلفاته التي اطلعنا عليها أو بعضها، ولقد اهتم العلماء والمؤرخون وطلاب الدراسات العليا بدراسة جوانب مختلفة من حياته وفكره، فمنهم الإمام الشوكاني في " البدر الطالع "، والقاضي الحيمي في كتابه"طيب السمر"، والجرموزي في كتابه " سلافة العصر "، والقاضي أحمد قاطن في كتابه" الدمية والتحفة "، وعبدالله بن عيسى في كتابه "الحدائق"، وعبدالله الحبشي في كتابه "مصادر الفكر الإسلامي في اليمن "(2).
__________
(1) هجر العلم ( 4/1857 )
(2) مقدمة الديوان ص ( 47 ) بقلم حفيده الأستاذ عبدالرحمن علي الأمير ..(76/331)
وقد ترجمه ترجمة واسعة " زبارة "في " نشر العرف "، والقاضي الأكوع في " هجر العلم "، كما كُتبت عنه عدد من المؤلفات الخاصة والرسائل العلمية منها: كتاب " الصنعاني وكتابه توضيح الأفكار " للدكتور" أحمد محمد العليمي "، وكَتب علي عبدالجبار ياسين السروري كتاباً بعنوان: " ابن الأمير الصنعاني حياته وفقهه "، نال بها درجة الماجستير، وكتب الباحث قاسم صالح ناجي الريمي رسالة بعنوان " الفكر التربوي عند ابن الأمير الصنعاني "، نال بها درجة الماجستير، وكتب عنه العلامة عبدالرحمن طيب بعكر كتاباً بعنوان " مصلح اليمن محمد بن إسماعيل الأمير دراسة حياته وآثاره" وكتب الأساتذة قاسم غالب أحمد، وحسين أحمد السياغي، ومحمد بن علي الأكوع، وعبدالله ابن عبدالوهاب الشماحي، ومحمود إبراهيم زائد كتاب " ابن الأمير وعصره " (1).
هذا هو الإمام محمد بن إسماعيل الأمير أحد أبرز مجددي اليمن ومن أوائل من فتح باب مواجهة القبورية في اليمن الأعلى.
جهود ابن الأمير في مواجهة القبورية:
لقد احتلت مواجهة القبورية حيزاً واسعاً من حياة ابن الأمير وجهده وجهاده، ولن أستطيع الإحاطة بكل ما كتب في هذا الجانب، فبعضه مازال مخطوطاً، وبعضه ضمن مؤلفات كبيرة متناثر في ثناياها، والقصد هو إلقاء الضوء على منهج الرجل في مواجهة القبورية، وسيظهر ذلك - إن شاء الله - من خلال استعراض ما يقع عليه الاختيار من كتبه.
الأثر الأول من آثار ابن الأمير المفردة في مواجهة القبورية
" تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد "
__________
(1) هجر العلم ( 4/1855 ) .(76/332)
هذه الرسالة هي أشهر كتبه المفردة في هذا الموضوع، وقد تداولها الناس، وطبعت عدة طبعات في بلدان عديدة، قال في مقدمتها بعد الحمد والثناء والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وبعد فهذا " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد "،وجب عليّ تأليفه، وتعين عليّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يعرِف السنة والكتاب، ولا يهاب البعث والحساب، فواجب عليّ أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره) (1).
وقد احتوى الكتاب على خمسة أصول وعدد من الفصول، كلها تدور حول إخلاص العبادة لله تعالى، وبيان ما وصل الناس إليه من جاهلية باعتقادهم في أصحاب القبور، ونقد كثير من الأوضاع المبتدعة المتعلقة بذلك.
__________
(1) تطهير الاعتقاد ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد ص ( 27 – 28 ) .(76/333)
وللشيخ كتب أخرى مفردة في هذا الموضوع، منها كتاب بعنوان " الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف "، ألفه حينما اطلع على جواب لأحد القبوريين، أجاب به علىسؤال ورد إليه، فجاء في ذلك الجواب: (إن للأولياء ما يريدون، وأنهم ممن يقول لأي شيء أرادوه كن فيكون، وأنهم من القبور لقضاء الحوائج يخرجون) (1)، إلى آخر ما ذكره المجيب من نواقض الاعتقاد الصحيح قال: (فتعين إيقاظ أهل الغفلة والمنام، من القاصرين والعوام، ببيان حقيقة الولي وماورد في صفته من الآثار، وبيانه من الكتاب والسنة والأخبار، ثم بيان رد ما أورده المجيب من الهذيان، وأنه جعل الأولياء من جملة الأصنام والأوثان، ووصفهم بأنهم كالإله تقّدسَ وتعالى، وأنهم يقولون للشيء كن فكان، فرأيته يتعين إبانة الصواب، وبيان حقيقة ما افتراه من الأوتاد والأنجاب والأقطاب، وما خالف فيه بهذه البدعة من أدلة السنة والكتاب) (2).
ثم تتبع ذلك المجيب، بأن يورد مقطعاً من كلامه، ثم يتعقبه بالرد وبيان الحق في تلك المسألة، وقد طُبع الكتاب عام (1417هـ) بتحقيق مجموعة من الطلاب في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية تحت إشراف الشيخ "حسن علي حسين العواجي " المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في نفس الجامعة.
__________
(1) الإنصاف للصنعاني ص ( 2 ) .
(2) المصدر السابق ص (3) .(76/334)
كما أن له كتاباً يتعلق بالقبورية، ولا يظهر علاقته بهم إلا بعد النظر الفاحص فيما يمارسون، ذلكم الكتاب هو المسمى " رسالة شريفة فيما يتعلق بـ (الأعداد للحروف، والأوفاق، وكم بقي من عمر الدنيا،وذكر المهدي المنتظر "، والذي يخص موضوعنا منها هو ما يتعلق بالحروف والأوفاق، وقد تكلم في المسألة الأولى عن حروف " أبجد، هّوز "، وأبان أنها ليست في دلالتها على الأعداد من وضع اللغة العربية، ثم انتهى إلى القول بأن جعلها دلالة على الأعداد أمر اصطلاحي، لا حجر فيه، ولا ضير على متعاطيه، ونهي ابن عباس عنه وأنه من السحر، يدل على أنه عرف أنه اصطلاح لليهود، يستعملونه في الأسحار، وهذا يأتي بحقيقته في المسألة الثانية (1).
وفي المسألة الثانية قرر أن علم الأوفاق علم مبتدع وحادث، لايعرف له دليل من كتاب ولا سنة ولا فعل صحابي ولاغيره، وبعد أن فنّده، وحكم بعدم وجود أصل شرعي له، نقل تعريف داود الأنطاكي له، ثم قال: (قلت:وهذا شأن الأسحار والابتداع، لاشأن الطريقة النبوية والاتباع، ومعلوم أنها طريقة سحرية، إذ المطلوب بها أمور دنيوية محضة، من جاهٍ عند العباد، وجلب رزق من أيديهم، وإلقاء المهابة في قلوبهم وغير ذلك) (2).
وإنما قلت: إن هذه الرسالة هي من ضمن مواجهة القبورية؛ لأنه سبق في الباب الثاني أن كثيراً من أولياء القبورية ذكروا أنهم يتعاطون علم الحروف والأوفاق، ويتصرفون بها، ويعدون ما ينتج عن ذلك كرامات لأولئك الأولياء، وهو في الحقيقة من السحر، فناسب جعل هذه الرسالة من جملة الردود عليهم، وقد حقق هذه الرسالة الأخ: مجاهد بن حسن بن فارع الوصابي المطحني، وراجعها شيخنا الشيخ مقبل الوادعي - رحمه الله - وطُبعت من قِبَل دار القدس بصنعاء عام (1412هـ - 1992م).
__________
(1) رسالة شريفة للإمام الصنعاني ص (18 ) .
(2) المصدر السابق ص (22 ) .(76/335)
كما إن هناك رسالة صغيرة هي عبارة عن إجابة على سؤال عن حكم الذبح على القبور بعنوان "مسألة في الذبائح على القبور وغيرها " حققها أخونا " الشيخ عقيل بن محمد المقطري "، وراجعها محدث اليمن العلامة " مقبل بن هادي الوادعي " (1)- رحمه الله -، وهي رسالة صغيره جداً، أبان فيها حرمة تلك الذبائح، وفصل فيها، وقد عد الذبح ـ على باب الدار وعلى جدرانها، وكذلك ما سمي عند العامة بـ "الهجر " ونحوه ـ من الذبائح المحرمة، ولكن الذابح لايكون بذلك مرتداً، وأما الذابح للقبور فإنه يكون مشركاً، وذبيحته ذبيحة مشرك:(... فإن الذابح لابن علوان مثلًا، لايكون إلا عن اعتقاد أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، ويشفي المرض ويذهب عن الأبدان العليلة الأدواء، وهذا بعينه الذي كان عليه عباد الأوثان وأتباع الشيطان، فإنهم كانوا ينحرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويدعونها، ويخافونها، ويرجونها، ويطوفون بها، وينادونها بمثل " على الله وعليك "، كما يفعله الآن عباد القبور والقباب والمشاهد التي يجب هدمها) (2).
__________
(1) كتبت هذه السطور بعد وفاة الشيخ بأربعة أيام ، حيث وافاه الأجل المحتوم آخر يوم السبت أول يوم من شهر جمادى الأولى عام 1422هـ تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته وأخلف على المسلمين خيراً ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
(2) مسألة في الذبائح على القبور وغيرها ص ( 44 ) ، طبع مكتبة دار القدس صنعاء ودار ابن حزم بيروت ، الطبعة الأولى ( 1413هـ - 1992م) .(76/336)
كما يعد من هذا الباب شرحه على رجوعه عن القصيدة النجدية المسمى " إرشاد ذوي الألباب إلى حقيقة أقوال ابن عبدالوهاب " أو " النشر الندي بحقيقة أقوال ابن عبد الوهاب النجدي "، ذلك أن الرجل لم يرجع كما سبق عن أصل ما كان في قصيدته الأصلية " النجدية "، وإنما رجع عن مدح محمد ابن عبدالوهاب وبيان ما بلغه عنه مما لايرتضيه، وهذا كله لايغير من منهج تلك القصيدة، وبالتالي فالشرح يؤكد ما كان في تلك القصيدة من مواجهة للقبورية، ويوضحه، ويقيم الأدلة عليه، كيف لا وهو قد صرح فيها بأن القبوريين قد أصبحوا مشابهين لعباد " ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ".
ولعل الله أن يهيىء نشر ذلك الشرح؛ ليتضح صحة هذا الكلام؛ وليخسأ من يتشدق أمام العوام وأشباه العوام، بأن الصنعاني رجع عما جاء في قصيدته النجدية مطلقاً، وأنه عاب على ابن عبدالوهاب دعوته إلى التوحيد من أصلها، ومحاربته للشرك والقبورية من أساسها. هذه بعض جهود الإمام الصنعاني - رحمه الله - في مواجهة القبورية.
العلم الثاني
من أعلام مواجهة القبورية في اليمن الأعلى
الإمام شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني(76/337)
هو الإمام شيخ الإسلام أحد مشاهير أعلام اليمن ومجددي الدين فيه، وأحد رواد النهضة الحديثة والصحوة المباركة ورموز السلفيين في العصور المتأخرة، محمد بن علي بن محمد الشوكاني ثم الصنعاني، ترجم لنفسه، وسلسل نسبه إلى آدم - عليه السلام - (1)، ولد - رحمه الله - في "هجرة شوكان" وسط نهار يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1173هـ)، ونشأ بصنعاء في كنف والده الذي يعد من كبار علماء صنعاء في وقته، وقد أقبل على طلب العلم بشكل منقطع النظير، أعانه على ذلك الحال الميسور لأسرته، إذ وفَّر له التفرغ للطلب، وعدم الانشغال عنه بطلب المعاش، كما كان من أسباب نبوغه وترقيه في الطلب، وسرعة البلوغ إلى المطلب والأرب، النفس الأبية،والهمة العلية، وتشجيع الأب، ودفعٌ به إلى الارتقاء وجود مجموعة من أكابر العلماء، من طلاب الإمام ابن الأمير والمتأثرين به، وهكذا واصل مشوار التعليم، ثم صار يعيد الدروس لزملائه وأقرانه، ثم اشتهر بين أساتذته وأشياخه قبل بلوغ العشرين من عمره (2)،وما إن بلغ العشرين حتى أصبح مفتياً ترد إليه الفتاوى من جهات مختلفة من اليمن، وكان يفتي بدون أجر، وذلك أمر مستغرب في زمنه وفي وطنه.
__________
(1) البدر الطالع ( 1/478-480 ) .
(2) انظر ترجمته لنفسه : في البدر الطالع (1/ 214-225 ) .(76/338)
ولقد امتحنه الله تعالى بامتحان عظيم، وهو تولي القضاء، بل قضاء الأقضية أو بالتعبير العصري " رئاسة القضاء "، فنجح في الامتحان ونجى من الافتتان، وأجمع مترجموه على نزاهته، وحسن سيرته فيه،بل لم يعد رئيساً للقضاة فحسب،وإنما من أقرب المقربين إلى أئمة عصره الذين عايش حكمهم، وهم:الإمام المنصور علي بن المهدي العباس (1189 - 1224 هـ)،وابنه الإمام المتوكل على الله أحمد (1224- 1231 هـ)، وحفيده الإمام المهدي عبدالله (1231- 1251 هـ)، ولقد كان لقربه منهم أثر كبير في كثير من الإصلاحات، ومنها حمله على الاستجابة لطلب الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود من الإمام المهدي هدم المشاهد والقباب المقامة على القبور في صنعاء ونواحيها، فصوّب الإمام الشوكاني ومن معه من العلماء ذلك، وحثوا الإمام عليه، فوقع الهدم لتلك المشاهد، كما سيأتي في مطلب الجهود العملية لمواجهة القبورية.
كما أثر عليه في غير ذلك من جوانب الإصلاح، وهذا جانب مهم من جوانب شخصية الشوكاني، وهو جانب الإصلاح السياسي والاجتماعي، والذي مارسه عملياً ومن موقع القرار بخلاف الإمام ابن الأمير، الذي كان يمارسه من خارج نطاق السلطة.
والجانب الثاني كما بدأه سلفه من علماء اليمن، من تمزيق قيود التقليد الأعمى والعصبية المقيتة، فقد قام في ذلك الجانب بجهود جبارة نظرياً من خلال دعوته إلى ذلك وتأليفه فيه وتأصيله في عدد كبير من كتبه ورسائله، حتى أنّا سنجد أنه جعل مدخله إلى نقد فتوى الإمام يحيى بن حمزة في رسالته "شرح الصدور بتحريم رفع القبور "، جعل مدخله إلى ذلك التأكيد على الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما (1)، وقد أخذ ذلك حيزاً كبيراً من تلك الرسالة، وهكذا شأنه في كثير من رسائله، إضافة إلى كتابه الخاص في ذلك، المسمى " القول المفيد في أدلة الاجتهادوالتقليد ".
__________
(1) انظر : مقدمة شرح الصدور من مجموعة رسائل في علم التوحيد ص ( 65-69 ) .(76/339)
وأما الجانب العملي فهو ما يراه كل مطالع لمصنفاته الفقهية والحديثية، وحواشيه وشروحه، فكلها ينطلق فيها من هذا المنطلق، ولا يبالي بمن خالف، أو وافق فيما يذهب إليه.
والجانب الثالث هو دعوته إلى الاتباع ونهيه عن الابتداع، وجهاده في سبيل إخلاص كلمة التوحيد، وحربه لعقائد الشرك والتنديد، وسيأتي في آخر هذا المطلب دراسة بعض آثاره في ذلك.
غير أني أود قبل الخروج من هذا الجانب أن أرد على قوم ظفروا بقصيدة للإمام الشوكاني في ديوانه، فهموا منها أنه يعادي الإمام محمد بن عبدالوهاب، ويرد عليه وعلى علماء نجد وأمرائها، فطاروا بذلك فرحاً، وانتسخوها، وصاروا يوزعونها على أتباعهم، والواقع أن القارىء لايجد فيها ما يفرح به أولئك، غير أنهم قد اتخذوا سياسة التأثير النفسي على الأتباع، فإنهم عندما يوزعونها هم، وربما جعلوا لها مقدمة تبين أن هذه القصيدة رد فيها الشوكاني على الوهابية، ونقض ما يدعون إليه من محاربة الأولياء والمعتقدين فيهم... الخ، فإن التابع المسكين سيتأثر بتلك المقدمة المكتوبة أو الشفوية، ويعتبر أن القصيدة من هذا الباب دون تأمل لما فيها، مما هو في الحقيقة رد عليهم وتأكيد على منهج الشوكاني الذي كرس له حياته، ولم يحد في هذه القصيدة عنه، إذ عرف عنه تجويز التوسل بالصالحين، وقرره في أكثر من كتاب من كتبه، مع اعتباره دعاء غير الله شرك أكبر، وقد رد على ابن الأمير حين قال إنه من الشرك العملي،وذلك في الدر النضيد (1)، وكل ما في الأمر أن الإمام الشوكاني حذر من التسرع في تكفير الأمة بما دون الشرك من البدع،كالبناء على القبور،وجعل التوابيت عليها، أو التوسل الذي يراه هو مباحاً، أما مَن دعاهم من دون الله، واعتقد فيهم مالا يجوز اعتقاده إلا في الله، فقد اعتبره من الشرك المخرج من الملة، قال - رحمه الله في تلك القصيدة:
ومن يأتي إلى عبد حقيٍر ... فيزعم أنه الرب الودودُ
__________
(1) انظر الدر النضيد ص( 102- 116 ) .(76/340)
فهذا الكفر ليس به خفاءٌ ... ولا ردلذاك ولا جحودُ
ولست بمنكر هدماً لقبرٍ ... إذا لعبت بجانبه القرودُ
وقالوا: إن ربَّ القبر يقضي ... لنا حاجاً فتأتيه الوفود
كذبتم ذاك ربُّ العرش حتقاً ... تعالى أن تكون له ندودُ
ومن يقصد إلى قبر لأمرٍ ... توسل فهو الكنودُ (1) بغير
وهذا الكلام واضح في مراد الإمام - رحمه الله-، ومنسجم مع منهجه، ولئن كان فيه شيء من التعميم والإطلاق فيجب إرجاعه إلى كلامه البين الواضح، وأما قوله قبل هذه الأبيات:
فإن قلتم قد اعتقدوا قبوراً فليس لذا بأرضينا وجودُ
فيجب أن يقارن بينه وبين ما في سائر كتبه،ومنه ماجاء في "الدر النضيد"،حيث قال: (وإذا علمت هذا، فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية، أمرٌ غير ما ذكرناه من التوسل المجرد، والتشفع بمن له الشفاعة، وذلك ماصار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء، من أنهم يقدرون على مالا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله -، ويفعلون مالا يفعله إلا الله - عز وجل -، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء، وهذا إذالم يكن شركاً فلا ندري ماهو الشرك؟!، وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر.) (2).
__________
(1) الديوان ص ( 163 ) ، قال المعلق على كلمة (كنود ) : الكنود الكفور . قلت : وكذلك هو في القاموس ص ( 403 ).
(2) الدر النضيد ص ( 28 ) .(76/341)
فإن قيل: هذا عام، ولايدل على أن هذا موجود في اليمن، قلت: يؤكد دلالته على ذلك ماجاء في نفس الكتاب بعد أن أسرد الأدلة على تحريم أنواع من الشرك ووسائله، حيث قال وهو يؤكد ما ينتج عن تعظيم القبور وتفخيمها من عقائد باطلة: (وروى لنا أن بعض أهل جهات القبلة، وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب " ذي بين " -رحمه الله -، فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفح من جوانبها وعلى القبر الستور الفائقة، فقال عند وصوله إلىالباب: أمسيت بالخير، يا أرحم الراحمين) (1).
إذاً كيف نؤول قوله: (فليس لذا بأرضينا وجودُ)، قلت: يُؤوَّل - والله أعلم - أن هذه القصيدة هي في إطار المراسلات الرسمية بين إمام اليمن، ومعه الشوكاني، وبين أئمة نجد، الذين كانت العلاقات بينها يسودها الود حيناً والنفور حينا، وخوف إمام اليمن من زحف الجيوش النجدية على بلاده حيناً، فجاءت هذه لقصيدة، لتهدئة الأوضاع وإقناع النجديين بأنه ليس في اليمن مايستوجب محاربتهم له وزحفهم عليه، فجاز مثل هذا التعبير المخالف للواقع لأجل دفع فتنة الاقتتال بين الطرفين والله أعلم.
وبعد معرفة هذه الجوانب المهمة أقول: إن الإمام الشوكاني خلّف لليمن ثروتين عظيمتين:
__________
(1) الدر النضيدص ( 48 ).(76/342)
أما الأولى: فهم طلابه وأصحابه الذين ساروا عل نهجه، وتعلموا منه المنهج السلفي النقي، وحملوه إلى أن وصلنا اليوم كما وضعه،وهم كُثر، وقد أورد منهم الأستاذ عبدالغني قاسم عدد اثنين وتسعين رجلاً (1)، منهم من هو عالم، ومنهم من أصبح إماماً مجتهداً، أو قاضياً عادلا،ً أو والياً كبيراً، وهؤلاء الطلاب هم أساس المدرسة السلفية القائمة في اليمن اليوم،والتي يعد رأسها اليوم القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني عضو مجلس الإفتاء حالياً.
والثروة الثانية: هي كتبه ومصنفاته، التي اتفق على الثناء عليها في الجملة الموافق والمخالف، وصارت مراجعاً للكثير من المؤسسات العلمية في شتى بقاع العالم الإسلامي، وتنافس لاقتنائها العلماء وطلاب العلم في كل مكان، وهي كثيرة جداً، حصر الباحث عبد الغني قاسم منها (278) مائتين وثمانية وسبعين مؤلفاً، وأفاد أن المجال مازال مفتوحاً؛ لاكتشاف غيرها في مظانٍ حددها،هي: (المكتبات المنزلية للأسر اليمنية التي توارثت ملكية مخطوطات علماء اليمن، أو في مكتبات كل من الهند "حيث يوجد تلاميذه" وتركيا " إسطنبول "، وإيطاليا وبريطانيا، وسائر متاحف ومكتبات أوروبا الغربية والشرقية، حيث تسربت إلى خارج اليمن.
مترجمو الشوكاني:
__________
(1) الشوكاني حياته وفكره ص( 238-266 )للدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي ،طبع مؤسسة الرسالة، بيروت ، ومكتبة الجيل الجديد صنعاء، ط الأولى1408هـ -1988م ، وقد قال عقب أن سردهم : ( وقد اكتفى الباحث بهذا القدر من تلاميذ الشوكاني، وعددهم اثنان وتسعون تلميذاً " وإلا فهم مئات بل ألوف " ،وتلاميذ الشوكاني أكثر من أن يحصوا ).(76/343)
كما لايحصى عدد تلاميذه بالدقة، ولاتعرف مؤلفاته بالتحديد من كثرتها، كذلك لايحصى عدد من ترجم للشوكاني، وأشاد بعلمه، وأظهر جوانب من شخصيته، وحتى لا أطيل على القارئ، فلن أشغل نفسي بمن أفرده بالترجمة من الأقدمين، ولا من ترجم له في كتب التراجم والتواريخ العامة؛ وإنما أذكر بعض الباحثين الذين درسوا نواحي من حياة الشوكاني وعلمه وفكره، وقدموا في ذلك رسائل علمية؛ للحصول على درجات علمية من قبيل الدكتوراه والماجستير.
فمنهم دون التزام بترتيب معين:
1) د. محمد بن حسن الغماري، له رسالة دكتوراه بعنوان: " الإمام الشوكاني مفسراً ".
2) د. عبدالغني قاسم الشرجبي، له رسالة دكتوراه بعنوان: " الإمام الشوكاني حياته وفكره ".
3) د. عبدالله نومسوك، له رسالة بعنوان: " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة ".
4) د. صالح بن عبدالله الظبياني،له رسالة دكتوراه بعنوان: " اختيارات الإمام الشوكاني الفقهية من خلال كتابيه نيل الأوطار والسيل الجرار ".
5) د. زياد علي " من ليبيا " له رسالة دكتوراه بعنوان:" الفكر السياسي والقانوني عند محمد ابن علي الشوكاني ".
6) د. عادل ياؤوز" من تركيا "، له رسالة دكتوراه بعنوان: " الإمام الشوكاني محدثاً ".
7) د. سمير حسين، له رسالة دكتوراه بعنوان: " الشوكاني ومنهجه في الفقه الإسلامي من خلال كتابه السيل الجرار ".
8) صالح محمد صغير مقبل،له رسالة ماجستير بعنوان: "محمد بن علي الشوكاني وجهوده التربوية"
9) خالد بن إبراهيم بن عبدالله الديبان،له رسالة ماجستير بعنوان: "قضايا العقيدة عند الإمام الشوكاني ".
10) عبدالله فارع عبده العزعزي، له رسالة ماجستير بعنوان: " الشوكاني مؤرخاً،دراسة في منهجه التاريخي في كتابه (البدر الطالع لمحاسن ما بعد القرن السابع) ".
11) سالم بن محمد باكوبن،له رسالة دكتوراه تحت الإعداد بعنوان: "الإمام الشوكاني وجهوده في الدعوة ".(76/344)
12) برنارد هيكل اللبناني،له رسالة باللغة الإنجليزية بعنوان: "الشوكاني والوحدة الفقهية في اليمن".
قال القاضي إسماعيل الأكوع:(وتوجد رسائل دكتوراه وماجستير أخرىلم أذكرها؛لأنهالم تنشر بعد)(1).
وهناك مئات المقالات الصحفية والأبحاث العلمية المتفرقة في الصحف والدوريات وغيرها، كل ذلك يدل على عظمة هذا الرجل واهتمام العلماء به. وقد توفي رحمه الله سنة (1250 هـ).
جهودالشوكاني في مواجهة القبورية:
وأما عن جهوده في مواجهة القبورية فهي كثيرة مشكورة،وقد ترك عدة آثار في ذلك:
__________
(1) أئمة العلم المجتهدون في اليمن ، للقاضي إسماعيل بن علي الأكوع، مصفوف بالكمبيوتر ( تحت الطبع ) .(76/345)
الأثر الأول " شرح الصدور في تحريم رفع القبور " وهو رد على الإمام يحيى بن حمزة الذي قال كما نقل عنه صاحب البحر الزخار: (لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك لاستعمال المسلمين، ولم ينكر) (1)، فرد عليه، ومهد لذلك بالتذكير بالعودة إلى الكتاب والسنة والالتزام بما جاء فيهما، وماجناه التقليد على أهله وعلى الناس من كوارث، ثم جعل هذه المسألة كالمثال على تلك القاعدة، وقد نوَّه الشيخ العلامة محمد حامد الفقِّي بالشوكاني وكتابه في مقدمته لشرح الصدور فقال: (وله "الشوكاني " من الرسائل في مفردات المسائل كثير جداً، فمنها رسالته هذه " شرح الصدور بتحريم رفع القبور " وهي رسالة تنادي بأنه من الشجاعة وقوة اليقين، بحيث وقف هذا الموقف الفذ في وجه جموع أهل اليمن وغيرهم، يرد على الإمام يحيى خطأه – وناهيك بمنزلة الإمام يحيى من نفوس الزيديين – هذا الرد المفحم، وينادي عليه في صراحة المؤمن الذي لايخشى في الله لومة لائم: أخطأت في تجويز رفع القباب والمشاهد على قبور الصالحين والملوك، ويالها من شجاعة لله وفي الله! ولو أن العلماء كانوا بهذه الشجاعة في قولة الحق، وكانوا بالصدق والإخلاص في النصيحة كذلك، لكان شأن المسلمين اليوم غير ماهم عليه من الذلة والهوان.
والله يجزي الإمام الشوكاني وإخوانه الصادقين خير الجزاء، ويوفقنا لمثل ما وفقهم، ويحشرنا يوم القيامة مع إمامنا وإمامهم وإمام المهتدين عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -)(2).
وقد اعتنى العلماء بهذه الرسالة وطبعت طبعات عديدة.
__________
(1) شرح الصدور من مجموعة رسائل في التوحيد ص ( 70 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 63-64 ) .(76/346)
الأثر الثاني كتاب " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد "، وهو أيضاً جواب على سؤال ورد إليه عن ذلك الموضوع، وقد صدّر الجواب بتوضيح بعض المصطلحات التي يؤدي الخلط فيها إلى الغلط، وهي: الاستغاثة، والاستعانة، والتشفع، والتوسل، وقد شرح معانيها، وأبان الفروق بينها، وقد رجح جواز التوسل بالصالحين على اعتبار أن ذلك توسل بأعمالهم الفاضلة، واحتج لذلك، ورد على من منع منه، ومسألة التوسل من المسائل التي جرى فيها الخلاف قديماً وحديثاً، والصحيح والله أعلم أنها من البدع المحدثة التي لم يثبت لها دليل عنه - صلى الله عليه وسلم -،ولا عن أصحابه بالمعنى الذي يريده مجوزو ذلك التوسل، هذا في أصل المسألة، وأما ماهو حاصل اليوم عند جماهير المسلمين من عوام وأشباههم وصوفية وغيرهم من المنحرفين، فإن التوسل يستعمل، ويراد به الاستغاثة المجمع على المنع منها واعتبارها شركاً فلينتبه لذلك.
ثم أنه بعد مافرغ من تقرير موضوع التوسل، قرر بقوة وحزم أن دعاء غير الله شرك، وأنه تعبير عما تنطوي عليه نفوس من يدعون غير الله من الاعتقاد فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله تعالى، وقد سبق نص كلامه كاملاً قبل قليل (1)، وقد نوّع الكلام، واستطرد استطرادات حسنة، وبيَّن كثيراً مما يقع فيه الناس من نواقض التوحيد، ومما هو وسائل إلى ذلك، ونبه على حرمة الحلف بغير الله والطيرة، وفرّق بين الشرك والكفر الأصغر والأكبر إلى غير ذلك من الفوائد الجليلة.
الأثر الثالث " رسالة في وجوب توحيد الله عزوجل " وهي مأخوذة من كتابه الكبير المسمى " العذب المنير في جواب عالم بلاد عسير "، وقد كان السؤال متعلقاً بالتوحيد، وكون الدعاء عبادة، وهل يعذر الجاهل في ذلك... إلخ.
__________
(1) انظر: الصفحة السابقة من رسالتنا رقم ( )(76/347)
فأجاب شيخ الإسلام جواباً شافياً مقنعاً مليئاً بالأدلة من الكتاب والسنة مستشهداً بأقوال أهل العلم، وبين منزلة الدعاء من الدين، وحكم صرفه لغير الله، وحقيقة شرك المشركين الأولين، وهو اتخاذهم لأصنامهم شفعاء عند الله، وأن من هذه الأمة من يتخذ أصحاب القبور شفعاء، وهو بذلك مساوٍ لمشركي الجاهلية، ومنهم من يدعوهم من دون الله، وهؤلاء أغلظ شركاً من مشركي الجاهلية، ثم تعرّض لتقسيم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، وإلى خفاء الشرك وكثير من أنواعه على كثير من المسلمين حتى وقع فيه بعض من ينسب إلى الأدب والعلم، ثم بيّن خطورة اتخاذ المشاهد والقباب على القبور المبالغ في تعظيمها وتزيينها، ثم بين الحكمة من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متخذي القبور مساجد.
ثم أنكر إدخال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وما بني عليه بعد ذلك، وكيف كان اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة القبور المشرفة بحيث بعث أميراً من أهله هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ لطمس التماثيل، وتسوية القبور.
هذا مجمل ما احتوت عليه الرسالة، وهي قيِّمة في بابها، فرحمه الله وغفر له وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهذه الرسالة قد قام بتحقيقها ونشرها د. محمد بن ربيع بن هادي المدخلي الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد طبعت للمرة الثانية عام (1419هـ).(76/348)
تلك ثلاثة نماذج من جهود شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله -، الخاصة في مواجهة القبورية، وهناك جهود أخرى كثيرة موزعة أثناء تراثه العظيم الذي خلّفه؛ ليستضيء به العلماء، ويتربى عليه الطلاب، ويرجع إليه المختلفون في كثير من القضايا، فهو لم يغفل مواجهة القبورية في تفسيره ولا أغفلها في شروحه للأحاديث وكتب الفقه، وما سهى عنها في فتاواه وردروده على الأسئلة عند أدنى مناسبة، فقد عاش هذه القضية بكل حواسه، وتفاعل معها بكل عواطفه، لذلك قال د. إبراهيم هلال، وهو يتكلم عن دعوة شيخ الإسلام الشوكاني إلى إخلاص شهادة لاإله إلا الله: (وقد أخذت هذه الدعوة منه حيزاً كبيراً، بحيث صار فيها في اليمن إماماً كابن عبدالوهاب في الحجاز من قبل، وابن تيمية في مصر والشام، ولاقى من جرائها الكثير من المتعصبين ومن المقلدين ورُمي بالنصب من أجلها، ومن أجل دعوته إلى الاجتهاد والرجوع بالتشريع، إلى طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين) (1).
المؤلفات المفردة في مواجهة القبورية لعلماء اليمن الأعلى سوى ما تقدم:
ولعلماء اليمن الأعلى الآخرين جهود مشكورة مباركة في هذا المجال، وقد ألف الكثير منهم في الرد على القبورية رسائل مفردة، فمنهم:
1) محمد بن محمد السماوي، المتوفى سنة (1410هـ)، مترجم في هِجَر العلم (3/1407)، له رسالة بعنوان: " التوصل إلى تحريم التوسل " (2)، في الرد على القائلين بجواز التوسل.
__________
(1) قطر الولي على حديث الولي ص ( 37 ) تحقيق وتقديم إبراهيم هلال طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
(2) هجر العلم (3/1407 ) .(76/349)
2) يحيى بن محمد شاكر، المتوفى سنة (1370هـ)، مترجم في هجر العلم (4/2088)، له رسالة بعنوان: " دفع المشكك في وقوع شطر هذه الأمة في الشرك " (1)، في الرد على من يقول بامتناع وقوع أحد من هذه الأمة في الشرك، كما له رسالة أخرى بعنوان:" السيف القاطع لأماني أهل الشرك والمطامع " (2)، وجهها إلى الإمام يحيى حميد الدين، انتقد فيها عدداً من المنكرات، ومن أهمها المشاهد التي على القبور، وأوصاه فيها بهدمها وإزالتها وكذلك إزالة البدع والمنكرات والرجوع إلى الكتاب والسنة، وإفساح المجال للعلماء من أهل السنة؛ لتعليمها والعمل بها.
هؤلاء بعض من اطلعت على تآليفهم في هذا الباب، ولاشك أنه يوجد سواهم، وعدم اطلاعي لا يعني عدم وجود شيء من ذلك.
المطلب الثاني:جهود علماء اليمن الأسفل (من إب إلى عدن) في مواجهة القبورية:
العلم الأول
القاضي العلامة عقيل بن يحيى الإرياني
القاضي العلامة النابغة عقيل بن يحيى بن محمد بن عبدالله الإرياني، وصفه القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بقوله: (عالم أديب كاتب شاعر له مشاركة قوية في الفقه وعلوم العربية، سلك مسلك أهل السنة في اتباع أدلة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونعى على المقلدين والمعتقدين بالأولياء جمودهم، وندد بمن يعتقد فيهم الخير، وأنهم يشفعون لمن يلتمس الخير عندهم، أو عن طريقهم، فاتهمه بعض الغلاة بأنه ينزع إلى عقيدة الوهابية فقال:
إن أنا نزّهت إلهي عن الأ نْداد قالوا أنت وهابي
لكن لي بالمصطفى أسوة فقومه سمَّوه بالصابي (3)
__________
(1) السابق ( 4/2093 ) .
(2) السابق ( 4/2093 ) .
(3) هجر العلم ( 1 / 87 ) .(76/350)
وقد ترجم له ابن أخيه الأديب مطهر بن علي الإرياني ترجمة مطولة في التقديم لرسالته موضوع البحث، عندما نشرها أخوه القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد، وذكر ذكاءه ونبوغه، وعدد العلوم التي أتقنها رغم عمره القصير والمجالات التي شارك فيها، وأبرز السمات التي كان متميزاً بها: (إخلاص التوحيد كله لله، وتشدده في ذلك إلى حد عدم السكوت حيث سكت الآخرون عن بعض ممارسات العامة واعتقاداتهم الباطلة بالأولياء وزيارة أضرحتهم والتقرب إليهم والهتاف بأسمائهم عائذين بهم عند حدوث أي حادثة كزلة قدم طفل أو وقوع دابة من أنعامهم أو نحو ذلك مما نظر إليه على أنه إشراك صريح لله في وحدانيته، وبحكم تمسكه الشديد بمبدأ " إخلاص التوحيد كله لله "، لم ينظر إلى هذه المسألة على أنها شبهة إشراك أو جهالات مضلة مما يقع في الكثير من العامة، بل نظر إليها على أنها الشرك بعينه كما نرى في كتابه هذا) (1).
ولم يعمّر طويلاً، بل اخترمته المنية في ريعان شبابه - رحمه الله تعالى -، فقد كان مولده سنة(1324هـ)، ووفاته سنة (1346هـ)، فكان عمره أقل من اثنين وعشرين عاماً رحمه الله رحمة واسعة) (2)،وأثره الوحيد هو كتاب " السيف الباتر لأعناق عباد المقابر "، وقد اشتمل الكتاب على ثلاثة أبواب:
__________
(1) مجموعة رسائل في علم التوحيد ص(127 )
(2) المصدر السابق ( 124) .(76/351)
الباب الأول: في أمور يجب التنبيه عليها، واشتمل على ستة تنبيهات: التنبيه الأول على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، ثم أورد تسع خصال وقع فيها التشبه بالمشركين في هذه الأمة، التنبيه الثاني في أن من مكائد الغلاة التشنيع على أهل الحق، التنبيه الثالث في أن من مكائد الغلاة إفهامهم العوام بأن ما يحصل عند قبور الصالحين من محبتهم، ومن أنكر ذلك فهو من مبغضيهم، التنبيه الرابع في أن كثيراً من يظهر عقيدة الغلاة، وينتصر لهم، ويصوب أقوالهم المخالفة لما جاءت به الرسل هم زنادقة، لايعترفون أن للعالم إلهاً ولا صانعاً... الخ، التنبيه الخامس أن من مكائد الغلاة التي كادوا بها العوام قولهم لهم: إن مَن خالف ما نحن عليه من عبادة القبور، نزلت به المصائب، التنبيه السادس في أن الغلاة يدّعون رؤيتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عياناً بجسده يقظة.(76/352)
وأما الباب الثاني: فهو في الاستغاثة وما يتعلق بها، بيّن حال القبوريين في هذا الموضوع، ثم استشهد على أن ذلك شركاً بالآيات الكريمة، وقارنهم بمشركي العرب، وبيّن أن المشركين السابقين لم يعتقدوا أن أصنامهم تخلق أو ترزق، وإنما اتخذوها شفعاء عند الله كشأن هؤلاء المعتقدين للقبور وأصحابها، ثم أورد بعض الآيات الآمرة بالالتجاء إلى الله - سبحانه وتعالى -، وقد تكلم على البسملة والفاتحة، وبيّن ما فيها من الوجوه الدالة على وجوب توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، ثم عزز بذكر آيات أخرى، مما يبين ذلك المقصود، ثم نقل نقلاً طويلاً من إغاثة اللهفان لابن القيم - رحمه الله -، ثم نقلاً عن العلامة "محمد رشيد رضا " من تفسيره " تفسير المنار"، ثم عقد فصلاً للتفريق بين الاستغاثة والتوسل، ثم تحدث عن التوسل، وقرر أنه إن كان التوسل عقيدة في المتوسَّل به فهو من النوع الأول، وإن لم يكن له فيه عقيدة وإنما أراد ذكره عند دعاء الله - عز وجل -، متبركاً بذلك الاسم فقط، فقد اعتبر هذا القسم " بدعة من أعظم البدع وأشنعها "، ثم عقد فصلاً آخر، أكد ما مر الكلام فيه في شأن الدعاء والذبح ونحوه. وبعده فصلٌ آخر يتضمن ما قاله الخصم من إثبات للأقطاب وبطلان ذلك بالدليل الواضح، وبعد ماعرّف القطب على مصطلح الصوفية قال: (أما إثبات الأقطاب هذه الصفة فمروقٌ من الدين وعدول عن سبيل الموحدين وخروج عن الصراط المستقيم) (1)، ثم أورد الأدلة على بطلان قول الصوفية، ثم عقد فصلاً، قال في فاتحته: (ويلحق بذلك من شنيع مقالات أهل القبور في هذا الوقت قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لايخلو منه زمان أو مكان) (2)،ثم أبطل ذلك، ثم كر على "عباد القبور " حسب تعبيره واعتقادهم الفضل والولاية بمن قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعدد أولئك الأقطاب في
__________
(1) السيف الباتر لأعناق عباد المقابر ضمن مجموعة رسائل في علم التوحيد ( 219 ).
(2) السيف الباتر ص( 231 ) .(76/353)
زعمهم من أمثال ابن عربي وابن الفارض وعبد الكريم الجيلي، ثم أورد أمثلة من كلامهم، ورد العلماء عليه وبيان حكم هؤلاء عندهم.
وأما الباب الثالث: فقد عقده " في حكم زيارة القبور والسفر إليها "، ذكر الأحاديث الناهية عن شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة، وما أخذه العلماء منها من منع السفر إلى مشاهد الصالحين، ثم عقد فصلاً نقل تحته كلاماً لابن القيم - رحمه الله - من "إغاثة اللهفان" يوضح فيه مكائد الشيطان التي كاد بها الناس حتى عبدوا القبور.
وأما الخاتمة فقد خصصها لشبه الخصم، والرد عليها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية،وجعل في آخره قصيدة تزيد على أربعين بيتاً في نفس الموضوع، لابأس من إيرادها هنا:
قل الحق واصدع بالذي فيه تؤمر
وبالعرف فأمر والتزم نهي منكر
ولله فاخلص بالعبادة وحده
سميعٌ عليم شاهد غير غائب
سماعاً عبادالله مني نصيحة
نصحتكم أبغي الفلاح لكم غداً
ألا نزهوا أوطانكم ونفوسكم
فهذي قبور الأوليا بينكم لها
وها هي كالأصنام بين ظهوركم
جعلتم برب العالمين مشاركاً
أتدعون ميْتاً زاعمين بأنه
ومن بعد قلتم إنهم شفعاؤكم
و أقسم بالرحمن جل بأنه
كما قلتمُ قالوا فسيقت إليهم
دعاؤكم مخ العبادة فاعلموا
وكم منكم يدعو"ابن علوان " قائلاً
أيا حابس الحنشان والفيل بل ويا
دعوتك أرجو أن تلبي دعوتي
فأنت الذي في كل وقت تجيبنا
فهذا هو الشرك الصريح الذي له ... ولا تخشَ غير الله والله أكبرُ
لتنج غداً من حر نار تسعر
فليس سواه للأنام يدبر
لطيف خبير رازق متكبر
هي الحق فاصغوا وانصتوا وتدبروا
وحق الذي يولي النصيحة يُشكر
عن الشرك والأوثان كي تتطهروا
يحُج ويستسقى لديها وينحر
إليها لدى وقع الشدائد يجأر
فيا ويح مَن مِن بعدِ الايمان يكفر
يجيب الذي يدعو ويُغني ويفقر
إلى الله فهو الخالق المتجبر
نظير مقال الجاهلية فاحذروا
خيول متينات الأعنة ضمّر
كما قال طه الصفوة المتخير
دعوتك مضطراً فجاهك أكبر
مقيِّد كل الجان أنت المسخِّر(76/354)
وأيقنت أن النجح لا يتعسر
إذا ما إجابات الإله تؤخر
تكاد السماوات العلى تتفطر(1)
العَلَم الثاني
من أهل هذه المنطقة
العلاّمة الكبير الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبَّادي - رحمه الله-
العلامة الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبّادي - رحمه الله -،ولد بقرية من قرى إب، نشأ بها ثم سافر أسفاراً عديدة وطويلة، وصل خلالها إلى كابول، وأخذ بها عن الحافظ محمد تقي الدين الأفغاني في القرآن الكريم وفقه الشافعية وغيرهما من العلوم، ثم ارتحل إلى الهند، وطلب بها العلم ثمانية عشر شهراً تقريباً، ثم سافر إلى عمان، وتزوج من "صور"، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، وحج من هناك مرتين، ثم رجع إلى بلاده ومنها إلى لحج، ثم عدن حيث استقر في الشيخ عثمان إماماً لمسجده الذي عُرف باسمه ويسمى كذلك مسجد "زكُّوا " (2).
وقد عرف في عدن بدعوته إلى الكتاب والسنة وتجريد التوحيد لله تعالى والمتابعة للرسول- صلى الله عليه وسلم - وكانت بينه وبين علماء عدن من الصوفية القبورية مصادمات وخصام بسبب ذلك، ولعله من أوئل الدعاة المعاصرين السلفيين في الشطر الجنوبي من اليمن سابقاً.
غير أني لم أجد له ترجمة ماعدا النبذة اليسيرة التي قدّم بها العلامة البيحاني لمنظومته: "هداية المريد" (3) ولئن تجاهله المترجمون فلن يتجاهله رب العالمين - سبحانه -، أسأل الله أن يكتبه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.
أثره في مواجهة القبورية:
__________
(1) المصدر السابق ص(275-276).
(2) انظر : مقدمة هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد لتلميذه العلامة محمد بن سالم البيحاني ص( 3 - 5 ).
(3) المصدر السابق .(76/355)
الأثر الوحيد المكتوب للعبّادي هو منظومته "هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد"، وهي منظومة متوسطة كلها في العقيدة والدعوة إلى التوحيد والاتباع، والتحذير من الشرك والابتداع، والرد على المخرفين والدجاجلة، كما وصفهم الشيخ البيحاني (1) - رحمه الله - في التعليق عليها.
وقد افتتحها بمقدمة أبان فيها منهجه وغرضه منها، فهي في اعتقاد السلف ونصيحة لإخوانه في الله، يحذرهم فيها من البدع والمحدثات (2)، ثم عرّف العلم، وحث عليه لا سيما علم التوحيد، فهو المقدم على كل العلوم، ثم معرفة حقيقة الإيمان بما يجب الإيمان به، ثم معرفة الفروع، وحذر من الجهل بالتوحيد ثم الجهل عموماً (3)، ثم ابتدأ في شرح العقيدة عموماً، وبدأ بتوحيد الأسماء والصفات، ثم انتقل إلى شروط التوحيد، ثم حذر من الاعتقادات الباطلة، وركز على قول من قال: "لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه "، وحذره من هذا القول، وبيّن أن الأصنام إنما عبدت بهذا الاعتقاد، ثم استمر في شرح مراده حتى وصل إلى نقطة مهمة في مسيره، هي التحذير من الشرك، وبين قبحه وسوء عقابه في الدنيا والآخرة، وعدد هنا بعض المكفرات، ثم وقف مع بعض ما يفعله القبورية عند القبور من أنواع العبادات كالاستغاثة وحلق الرأس، والطواف والاعتكاف عند القبور (4)، ثم حذر من تكفير المسلم بغير بينة (5).
__________
(1) هداية المريد ص(5) .
(2) المصدر السابق ص(6-7 )
(3) المصدر السابق ص(7-8 ) .
(4) المصدر السابق ص( 23-25 )..
(5) المصدر السابق ص( 23-25 ) .(76/356)
ثم انتقل إلى الدعوة إلى السنة والتحذير من البدعة، وأطال في هذا الفصل، وتعرض لرد بعض الشبهات التي يوردها المبتدعة؛لإثبات بدعهم، مثل جمع الناس على صلاة التراويح في زمن عمر والأذان الثالث للجمعة في زمن عثمان، وأبان أن ذلك قد أقره الصحابة؛ وبذلك يصير سنة بإجماعهم، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلاها جماعة في حياته فلا حجة للمبتدعة (1)، ثم تعرض للحقيقة والشريعة، وأبان أن الحقيقة هي ماجاء بها الكتاب والسنة، لا ماجاء بها الصوفية المبتدعة، ثم انثنى عليهم في السماع الصوفي المبتدع والأوراد والأذكار البدعية، وفنّد ذلك، وسخِر منهم في رقصهم ووجْدهم؛ لأنهم إنما يفعلون ذلك عندما يذكر التشبيب والتغزل وتشبيه المرأة بغصن البان، ثم يزعمون أن ذلك من محبة الله، ثم أرشد إلى الذكر المشروع الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (2)، ثم نهى عن الغلو المذموم (3)، وبعده حذر من التكييف والتشبيه في صفات الله تعالى، ثم تعرض لحكم البناء على القبور، وحذر من ذلك، وبين زيارة القبور الشرعية، وحث عليها والزيارة البدعية، وحذر منها، وما يترتب عليها من الغلو في أرباب القبور وما يحدث في تلك الزيارات من مفاسد عقدية وأخلاقية، وخلص إلى مشايخ الطرق وما يكيدون به الناس من الحيل والمكايد، لأجل ابتزازهم وأخذ ما في أيديهم والضحك على عقولهم (4)، وانتهى بيان التصوف المحمود، ويعني به الزهد والورع وتخليص القلب من أمراضه، والذي يكون مبنياً على العلم النافع جالباً للعمل الصالح، وعدّد الأعمال الصالحات والآداب الحسنة التي يتحلى بها سالك هذا السبيل، وما ينبغي له من مداومة ذكر الله تعالى على الصفة الشرعية لا البدعية.(5)
__________
(1) المصدر السابق ص(26-31 ) .
(2) هداية المريد ص( 32-36) .
(3) المصدر السابق ص(40-44 ) .
(4) المصدر السابق ص(47-56 ) .
(5) المصدر السابق ص( 56 ) إلى آخر المنظومة .(76/357)
هذه هي منظومة العلامة العبّادي، وقد علق عليها العلامة البيحاني - رحمه الله - تعليقات مهمة نافعة، وقد طبعت مرتين، الطبعة الأولى لم أطلع على تاريخها، ثم طبعت مرة أخرى عام (1389هـ) مع نفس التعليقات التي وضعت على الطبعة الأولى.
العَلم الثالث
من أعلام هذه المنطقة
الإمام العلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي المشهور "بالبيحاني "
هو الداعية السني الكبير محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني، مؤسس المعهد الإسلامي بعدن، ولد - رحمه الله – " ببيحان " سنة (1326هـ)، وعند بلوغه الرابعة عشر من عمره أرسله والده إلى تريم بحضرموت؛ ليتعلم هناك في رباطها المشهور الذي يقوم عليه السيد عبدالله بن عمر الشاطري، فمكث أربع سنوات، ثم عاد الى بيحان،فمكث فيها سنتين، ثم توجه إلى عدن سنة (1346 هـ)، فلازم الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبّادي، وتزوج ابنته، ثم رحل إلى مصر، للالتحاق بالأزهر، فدرس في بعض معاهده، ثم في كلية الشريعة فيه، غير أنه ما لبث إلا سنة دراسية واحدة، اضطر بعدها إلى العودة إلى عدن حيث استقر في مدينة كريتر، وأسس فيها مسجد العسقلاني، الذي عُرف بالشيخ، وعرف الشيخ به، ومكث هناك يدعو إلى الله، ويقيم الدروس العلمية والوعظية، وينشر السنة المطهرة ويحارب البدع والخرافات والشركيات، كما كان على وعي سياسي جيد، فكان ينبه قومه إلى خطورة الاستعمار والانسياق وراء ثقافته ومبادئه الكافرة، ويدعو للتخلص منه.
ومن أبرز مآثره المعهد الإسلامي الذي أسسه هناك على نفقة جمع من المحسنين، والذي أُمم في أيام الإشتراكيين، وأصبح مقراً لوزارة الداخلية، كما أنه كان نشيطاً في التأليف، فألّف أكثر من اثنين وعشرين كتاباً من أشهرها كتاب "إصلاح المجتمع "الذي لقي قبولاً واسعاً، وانتشر في أقطار المسلمين عموماً، وتعددت طبعاته.(76/358)
وقد أصبح الشيخ علماً بارزاً لا في محيط اليمن وحدها، ولكن على مستوى العالم العربي والإسلامي، وكانت شهرة الشيخ بدعوته للكتاب والسنة ومحاربة الجهل والشرك والبدعة والخرافة، يشهد بذلك مترجموه، وتنطق به كتبه، فقد تعرض في إصلاح المجتمع في أكثر من مناسبة إلى ماكان شائعاً من البدع والشركيات، ودعا إلى التخلص منها، وقد سبق نقل شيء من كتابه إصلاح المجتمع في الباب التمهيدي.
كما ظهر توجهه ذلك ناصعاً جلياً في تعليقاته على منظومة شيخه أحمد العبّادي، الموسومة " هداية المريد إلى سبيل الحق والتوحيد " فقد نقد الشركيات، ونعى على أربابها، وطالب بإزالتها، بل صرح أنه قام بمحاولة لدى حكومة عدن؛ لإزالة مايحدث من الشرور في الزيارات مثل " زيارة العيدروس والهاشمي" وغيرها، وكادت أن تنجح تلك المساعي، لولا اعتراض بعض الجهال وسدنة القبور (1).
كما بين البدع العملية مثل السماع الصوفي وبدع الأذكار، وفنّد الكرامات الزائفة التي يروجها الصوفية، ويلبسون بها على العوام قال: (يزعم بعض أهل حضرموت أن دابة الفقيه المقدم كانت تعرفُ طرق السماء، وأن زوجته سئلت عن حالها،فقالت: (لسنا بخير بعد الفقيه، وقد كانت أخبار السماء في حياته تأتينا صباح ومساء)، وفي " المشرع الروي " من هذه الخرافات مالا يحصى كثرة، فليته لم يبرز إلى حيز الوجود، أو ليتها أكلته دابة الأرض التي أكلت عصا سليمان بن داود، والويل لمن كذّب بشيء من هذه الكرامات المكذوبة، فإنه يعد في نظر القوم كافراً ملحداً زنديقاً، وكان التصديق بها أعظم شأناً من التصديق بالمعجزات، فنسأل الله حماية الإسلام وصيانته من هذه الخزعبلات والخرافات. (2).
__________
(1) هداية المريد إلى سبيل الحق و التوحيد بتعليق الشيخ البيحاني ص( 50 ) .
(2) التعليق على هدية المريد ص( 35 ) .(76/359)
وقد لاقى في سبيل دعوته تلك كثيراً من المحن والمصاعب، فصبر، وصابر، وكانت دعوته مفتاحاً من مفاتيح الصحوة المباركة في جنوب اليمن آنذاك، وبعد الاستقلال ومجيء الاشتراكيين إلى عدن لاقى من الإهمال والتهميش، بل من المضايقة والتهديد مالا يطاق، ففر إلى الشطر الشمالي كما كان يسمى ذلك الوقت، فاستقر في مدينة تعز معززاً مكرماً من الدولة والشعب، واحتضنه محبوه فيها، وأغدقوا عليه، وأجلوه، وأكرموه بما لا مزيد عليه، وفي عام (1392هـ) حج حجته الأخيرة، ثم عاد إلى تعز وبعد عودته بيوم واحد انتقل إلى جوار ربه، رحمه الله رحمة واسعة، وكانت وفاته في (10/12/ 1972 م) في تعز (1).
الأثر الخاص بمواجهته القبورية من آثار البيحاني - رحمه الله -.:
أما الأثر الخاص بمواجهة القبورية من آثار البيحاني- رحمه الله – فهو "الصارم القرآني في الرد على درر المعاني "،ودرر المعاني اسمه الكامل " درر المعاني في الرد على العبّادي وتلميذه البيحاني " وهو رد على منظومة العلامة العبادي المسماة هداية المريد، والتي عرفت بها سابقاً، وكان العلامة البيحاني قد علق عليها تعليقات مهمة وقوية، فانزعج القبورية للمنظومة والتعليقات عليها انزعاجاً كبيراً، فردوا بذلك الكتاب، فقام الشيخ البيحاني - رحمه الله - بالرد عليهم بكتابه الصارم القرآني.
__________
(1) انظر ترجمته في أنباء الزمان فيمن رحل من علماء بيحان ص( 81 – 92 ) خلال قرنين من الزمان تأليف عبدالله عبدالقادر العليمي باوزير الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م . .(76/360)
والكتاب ما يزال مخطوطاً عند أحد أقارب الشيخ لم يطبع بعد، ولم استطع الاطلاع عليه غير أنني بعد محاولات حصلت على صورة لفهرس الكتاب وأربع صفحات منه فقط، وبالنظر إلى الفهرس يمكن أن نتعرف على صورة مجملة للكتاب، فقد صدّر الكتاب بقصيدة للقاضي الإرياني، ولم يبين أي القضاة من بني الإرياني هو، ولكن ظني أنه القاضي عقيل بن يحيى، والقصيدة هي التي ختم بها " السيف الباتر لأعناق عباد المقابر " والتي مطلعها:
قل الحق واصدع بالذي فيه تؤمر ولا تخش غير الله والله أكبر
ومن أبياتها القوية في مهاجمة القبورية قوله:
لحا الله عبَّاد القبور فإنهم لقد بدلوا دين الإله وغيروا (1).
ثم بعد الخطبة تكلم عن مصادر الكتاب، ثم تعرض للكلام عن الكتاب المردود عليه " درر المعاني " وذكر، أنه مدح الصحابة والسلف الصالح؛ متوصلاً بذلك إلى ذم شيخ الإسلام ابن تيمية، والتهكم به وبمن يتابعه، ثم إن الخصم تعرض لهداية المريد، وهاجمها فعلق الشيخ على ذلك، ثم ذكر أن الخصم كذب عليهم، لعله يريد نفسه وشيخه العبّادي، ثم ذكر عقائدهم في الله وصفاته وملائكته ورسله وأولياء الله وصفتهم وخوارق العادات، وبين بعد ذلك من هو الولي، ثم تعرض لتاريخ الدعوة وإلى من ينتسب مذهب الوهابية، وفي أي عصر ظهر، وكيف كان ظهوره، ثم ألمح لخيانة الخصم في النقل، بعد ذلك عرَّف بشيخ الإسلام ابن تيمية، وثناء الناس عليه، وما قيل فيه من الرثاء.
__________
(1) مجموعة رسائل في علم التوحيدص( 275 - 276 ) .(76/361)
ثم جاء عنوان " نقد وتحليل"، ولعله موضوع رسالة الخصم، ثم تعرض لكتاب "كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب " وهو لمؤلف شيعي من العراق اسمه " محسن الأمين العاملي "(1)، وتعرض كذلك لكلام ابن حجر " وهو المكي الهيتمي " في ابن تيمية ورد عليه، وذكر أن الخصم استعان في رده بشواهد الحق " للنبهاني "، وأنه تشبث بالصواعق الإلهية لسليمان بن عبدالوهاب أخي الشيخ، كما عرج على الشطي أحد خصوم الدعوة الوهابية، ويظهر أن الشيخ رد على الجميع، ثم ذكر اتفاق الشيخين ابن الأمير ومحمدبن عبدالوهاب في العقيدة، ثم عاد بعد ذلك؛ ليذكر كلام الناظم "العبّادي" والمعلق "البيحاني" في عموم المسلمين، وبعد ذلك تكلم عن الحلف والذبح لغير الله، ثم نصوص زعماء الوهابية في عموم المسلمين، واستعرض بعد ذلك نصوص الكتاب والسنة الناهية عن دعاء المخلوق، وبعده عنوان " كلام المغالين في أصحاب القبور " ثم جهل الخصم بما يقول وكذبه على الصحابة والتابعين وجرأته في ذلك، ثم بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبعد ذلك كله تعرض لتهمة الخصم له ولشيخه بكراهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم تكلم على طلب الشفاعة وأدلة الخصم عليها، خلص بعده إلى الكلام عن التوسل ما يجوز منه وما لايجوز، وأبطل أدلة الخصم، ثم نقل كلام الشيخ محمد عبدُه المصري في التوسل ودعاء الصالحين، ثم أوضح كلام الناظم والمعلق في الاستغاثة واحتجاج الخصم بالمجاز العقلي والأحاديث الضعيفة والرد عليه في ذلك، وتوالت العناوين: (" استدلاله بالقرآن " وكلام العلماء " الشرك بالله والاستعانة بغيره " الحياة البرزخية " غلط الخصم ومغالطته " رفع القبور والبناء عليها " نصوص العلماء وأقوالهم " هدم المساجد والقباب المبنية على القبور، دفاع
__________
(1) انظر : دعاوى المناوئين ص( 56) لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب . تأليف : عبدالله محمد بن عبداللطيف ، طبع دار الوطن، الرياض الطبعة الأولى ( 1412 هـ )(76/362)
الخصم عن التماثيل " إنكاره على ابن القيم "شرقه بحديث أبي الهياج " " دفاعه عن رفع القبور " " شد الرحال لزيارة القبور " كلام الناظم والمعلق في النذر " واحتجاج الخصم بما لا يفهم " الكلام على إهداء ثواب القراءة للميت ").
هذه عناوين الكتاب ومنه يعرف مضمونه، فهو في الرد على القبورية فيما يعتقدون في القبور من العقائد الضالة، وفيما يأتون عندها من الأعمال القبيحة، وما يوجهونه من تهم وافتراءات لخصومهم دعاة التوحيد، ودفاع عن أولئك الدعاة ورد عن أعراضهم وتبرئة لمناهجهم من الانحراف الذي رماها به القبورية، هذا هو ما ظهر لي من ملامح الصارم القرآني للشيخ البيحاني عليه رحمة الله.
وفي نفس السياق تأتي رسالته الصغيرة " زوبعة في قارورة " فجهود البيحاني في مواجهة القبورية ومواقفه منهم هي اللائقة بالعالم السني المتابع لمنهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
ولعل في رسالة الدكتور أحمد هجوان عن" الإمام البيحاني" ما يكشف مزيداً من هذه المواقف ولكني للأسف لم أطلع عليها.
المطلب الثالث: جهود علماء تهامة في مواجهة القبورية:(76/363)
لقد تميز علماء وفقهاء تهامة بموقفهم الصلب والقوي من أصحاب وحدة الوجود، وأما موقفهم من القبورية العامة التي أبرز سماتها تعظيم القبور وأصحابها، فلم يكن بذلك الموقف القوي والواضح، وإن كنا لم نلمس من علمائهم الذين لم يتأثروا بالصوفية ذلك الانسياق وراء القبورية،كالذين تأثروا بالصوفية من أمثال المحدث "أحمد بن أحمد بن عبداللطيف الشرجي الزبيدي صاحب التجريد الصريح " (1) فإن الشرجي له كتاب " طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص " ملأه بالخرافات، ونقل فيه من الطامات ما يلحقه بركب الشعراني المشهور بنقل الطامات والهلوسة الصوفية، والشلي الحضرمي صاحب المشرع الروي الذي ملأه بالخرافات والدجل، بحيث يعجب القارىء كيف بلغت الجرأة به إلى هذا الحد، والاستخفاف بعقل القاريء إلى هذه الدرجة، فالشرجي لا يكاد يقل عنهما في كتابه "طبقات الخواص ".
__________
(1) الشرجي المذكورهو أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي ، ولد سنة (812هـ) بزبيد، ومات بها سنة ( 893هـ ) ، وهو من أشهر محدثي زبيد وله "التجريد الصريح مختصر صحيح البخاري " وغيره من الكتب ، كما له في المقابل "طبقات الخواص" الذي تحدثت عنه في الأصل ، وهذا من التناقض العجيب ،كما ذكر له كتاب آخر بعنوان "الفوائد في الصلات والعوائد" قال الحبشي في مقدمته للطبقات : (وهو مجموع من الأحاديث والأدعية المأثورة ، إلا أنه شابَهُ بكثير من الطلاسم والأوفاق المدسوسة ، قال : وقد طبع بالقاهرة سنة (1344هـ) ، وأعادت طبعه عدة مرات مكتبة الحلبي بالقاهرة ) الطبقات ص(6)،هذا هو الشرجي رحمه الله ، لم ينفعه علم الحديث حين تأثر بأفكار وعقائد الصوفية .(76/364)
أقول: إن علماء تهامة الذين حاربوا أصحاب وحدة الوجود مع حسن ظنهم بالكثير من القبورية إلا أنهم لما يوافقوهم على الكثير من شطحهم وخرافاتهم، وكثيراً ما يجد القاريء لكتبهم - مثل كتب العلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل - نقدهم في بعض أمورهم وتصرفاتهم، ولكن لم تظهر المواجهة إلا بعد انتشار الدعوة السلفية التي قادها "الإمام ابن الأمير والإمام الشوكاني، رحمهما الله" ووصول دعاة وجنود الدعوة النجدية إلى تهامة في القرن الثالث عشر، فمنذ تلك الفترة، ظهر من يحارب القبورية بقوة وجرأة وعلم وبصيرة، ومع ذلك فموقفهم من القبورية إذا قورن بموقفهم من أصحاب وحدة الوجود عد ضئيلاً،وإذا قورن عدد من تصدى للقبورية بمن تصدى لأصحاب وحدة الوجود كان قليلًا، وأنا أكتفي بعلَم واحد من أعلام تهامة هو:.
العلاّمة حسين بن مهدي النُّعمي التهامي ثم الصنعاني(76/365)
قال عنه السيد محمد بن محمد زبارة في " نشر العرف ": (السيد العلامة النبيل التقي الفهامة الحسين بن مهدي النعمي التهامي ثم " الصنعاني " (1)، ولد كما يظهر بمدينة " صبيا " من أرض تهامة،ثم وفد إلى صنعاء للأخذ عن علمائها في حياة الإمام الصنعاني - رحمه الله - وصار من جملة أصحابه، حتى لقد اتهم هو والإمام الصنعاني بمخالفة مذهب الهادي والتظاهر بذلك (2)، وقد ذُكر عنه العمل بالسنة وإحياء ما اندثر منها (3)،ورغم ذلك فقد استمر العلامة النعمي في دعوته وتعليمه للسنن ومحاربة البدع مجللاً محترما ً(4)،حتى أن إمام العصر "المهدي " قد أذن له في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المخالف من خاصة المهدي، وقرأ "الإمام" على المترجم له أياماً في "شرح العمدة لابن دقيق العيد " (5)، وتوفي - رحمه الله - سنة (1187هـ)، هذا هو العلامة النعمي لم يحفل به المترجمون، ولكن كتابه العظيم الذي سنعرض له، يشهد بعظمته وسعة علمه، ويصور لنا منهجه الذي هو منهج السلف الصالح، منهج التجديد الذي عرفناه من ابن الأمير والشوكاني رحمهما الله.
أثره في مواجهة القبورية:
أثره المطبوع المتداول في مواجهة القبورية هو كتاب" معارج الألباب في مناهج الحق والصواب" هذا هو الاسم المختصر للكتاب، وقد وُجد على طرة النسخة الخطية مايلي:
__________
(1) مقدمة معارج الألباب في منهج الحق والصواب للنعمي ص(17) ، تحقيق محمد حامد الفقي تخريج علي حسن عبد الحميد ، طبع مكتبة المعارف الرياض ، الطبعة الرابعة 1407هـ - 1987م .و كل ما في ترجمتي له مأخوذة عنه حيث لم أعثرله على ترجمة في موضع آخر والجزء الأول من نشر العرف ليس متوفراً هذه الأيام .
(2) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص( 18 ) .
(3) المصدر السابق ص(18).
(4) المصدر السابق ص(18).
(5) المصدر السابق ص( 18 ) .(76/366)
(معارج الألباب، في مناهج الحق والصواب لإيقاظ من أجاب بحسن بناء المشاهد والقباب، ونسي ما تضمنته من المفاسد وهي، عجب من الخطوب عجاب، وأحال أخذ الحكم من دليله في هذه الأعصار فَسدَّ باب الحكمة وفصل الخطاب، وعطّل الانتفاع في هذه الأزمان بعلوم السنة والكتاب، إلى غير ذلك مما يأتيك بيانه وتحقيقه - إن شاء الله - بأحسن تحرير وجواب) (1).
هذا ماكتب على طرة الكتاب وهو معرِّف به، مبين عن وجهته، مشير إلى السبب الدافع إلى تأليفه، وهو الرد على من أجاب باستحسان تلك المشاهد والقباب على قبور الأولياء، وقد نص على هذا السبب في مقدمته الكافية فقال: (وبعد، فلما كان في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وسبعين ومائة وألف من الهجرة النبوية، وقفت على صورة سؤال، وغير ماجواب في شأن ما يسر الله هدمه، وافتقاده من المشاهد والقباب، وإزالة ما أزيل منها بالتدمير والخراب؛ لما تفاحشت خطوب مفاسدها في هذا الزمان، وضاهت رسوم الجاهلية الجهلاء النافية للتوحيد والإيمان، مع كون وضع القباب أمراً صادم المأثور الصحيح من النهي الصريح، فهو بمجرده ممنوع شرعاً، كما قد شرحت ماجاء فيه ضمن رسالة مستقلة وجيزة، أسفرت عن وجهة الصبيح واسمها: " مدارج العبور علىمفاسد القبور ".
وكان قبل هذا التاريخ بمدة يسيرة، ألقى إليّ بعض أعيان الزمن بمدينة صنعاء اليمن - حاطها الله وسائر بلاد الإسلام من طوارق المحن والفتن - كتاباً ورد عليه من مكة المشرفة، ذكر فيه ما حاصله:
__________
(1) معرج الألباب ص (14 ) .(76/367)
أنه وصل إلى هنالك سؤال في هذه المسألة، وأنه أجاب فيه مفتو الأربعة المذاهب، بما يتضمن التشنيع على من دل على هدم القباب والمشاهد، وأشار بتخريب تلك المعاقل والمعاهد (1). وبعد أن أبان خواء ذلك الجواب، وعدم استناده إلى سنة ولا كتاب، وإنما (أجابوا: بأنه صرح به في المنهاج وشرحه،وهو الذي فهمه ابن عبد الحق من عبارة الروضة بالجواز) (2). كر على المجيبين، وندد بأصلهم الذي عليه يعتمدون، وإليه يرجعون، وهو التقليد المحض والمنع من إعمال النظر في الأدلة، وقد شنع عليهم، وأطال النفس في ذلك، شأنه شأن مشايخه وزملائه من المدرسة السلفية في اليمن، وقد استغرق ذلك باقي المقدمة.
أما الباب الأول: فجعله في أبحاث متفرقة تتعلق بتلك الأجوبة، منها الرد عليهم في أخبار استدلوا بها، وقد أخلّوا بشروط الاستدلال إما دراية أو رواية، فالدراية كونهم لم يستدلوا بها على وجهها كاستدلالهم بحديث ((من آذى لي ولياً)) على حرمة المشاهد والقبور.
__________
(1) معارج الألباب ص( 26 – 27 ) .
(2) المصدر السابق ص( 29 ) .(76/368)
وقد حاكمهم أولاً إلى أصلهم و(على جواز أخذ الحكم من دليله وإمكان الاجتهاد في هذه الأعصار) فكيف يجيزون لأنفسهم خلاف ما أصلوه، ثم ناقشهم في الجزم بكون هذا المدفون ولياً، وأبان جانباً مما ينسب إلى من يوصفون بالولاية من الشطح والتخريف، وكيف يكون هدم هذه القباب إيذاءاً لأولياء الله وهو امتثال لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ثم رد عليهم حديث: ((مارآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)) وأن ذلك لايثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، وأخذ يبدي ويعيد في موضوع الاجتهاد والتقليد إلى نهاية الفصل(2)، وهكذا في الفصل الذي يليه، رد على من قال منهم: (ولا يدعي الاجتهاد في زماننا هذا إلا من جهل شروط الاجتهاد وعريَ عن أصول الفقه)، واستمر في رده إلى نهاية الباب الأول (3).
أما الباب الثاني: فجعله (في ذكر جملة شافية من الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، الشاهدة بأن وضع القباب والبناء على القبور من أصله وتشريفها والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها مساجد وما يتصل بذلك: أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه)، وبعد أن نقل من ذلك جملة كثيرة علّق على بعضها، ونقل نقلاً طويلاً عن ابن القيم من " إغاثة اللهفان "، ثم علّق على بعض كلام ابن القيم وانتهى الباب) (4).
أما الباب الثالث: فجعله للرد المباشر على تلك الأجوبة حيث يذكر جملة من الجواب،ثم يرد عليه، وقد استغرق هذا الباب بقية الكتاب، ولم يقتصر على تفنيد شبههم المتعلقة بالمشاهد والقباب، وإنما تطرق إلى ضلالات المتصوفة، وأنواع الشرك التي تُرتكب عند المشاهد والقبور، وما يجب على المسلمين والعلماء تجاه ذلك، وهو نقاش قوي ومنهج سوي مفيد لطالب العلم في رد شبه القبورية.
__________
(1) معارج الألباب ص( 39 – 49 ) .
(2) المصدرالسابق ص( 45 – 101 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 101 – 118 ) .
(4) المصدر السابق ص( 120 – 156 ).(76/369)
فرحم الله العلامة النعمي، وغفرله، وجزاه خير الجزاء على ما قدم، وله أثر ثانٍ أخص في الموضوع بعنوان " مدارج العبور على مفاسد القبور " ذكره في مقدمة المعارج (27)، ولا أعلم عن وجوده شيئاً، وأما مضمونه فهو في النهي عن البناء على القبور، وما يلحق بذلك حسب إشارة المؤلف..
المؤلفات المفردة في مواجهة القبورية لعلماء تهامة:
ولغير من تقدم مؤلفات ورسائل مفردة تعنى بمواجهة القبورية في بعض الجوانب،و إليك جدولاً بأسماء هؤلاء العلماء وأسماء مؤلفاتهم:
1) محمد بن أحمد الأهدل المتوفى سنة (1271هـ)، وله رسالة بعنوان " تحذير الإخوان المسلمين من تصديق الكهان والعرافين " ووجه كونها في مواجهة القبوريين أن بعض القبوريين هم الذين يقومون بالكهانة والعرافة باعتبار ذلك من الكرامات، المرجع هجر العلم (4/ 2015).
2) حسن بن خالد الحازمي: المتوفى سنة (1234 هـ) أو (1235 هـ)، له رسالة بعنوان " قوت القلوب بمنفعة توحيد علام الغيوب" واضح من العنوان أنها في الدعوة إلى التوحيد وقطعاً في التحذير مما يضاده من عقائد وأعمال القبورية، المرجع هجر العلم (3/1224).
3) الحسين بن عبدالرحمن الأهدل المتوفى سنة (855 هـ) له رسالة بعنوان " القول النضر على الدعاوي الفارغة بحياة الخضر) يرد بهاعلى عقيدة مشهورة من عقائد القبورية وهي القول بحياة الخضر وزعم الالتقاء به والأخذ عنه. المرجع هجر العلم (1/ 46).
4)قادري بن أحمد الأهدل مازال حياً - حفظه الله -له منظومة بعنوان" بهجة القلوب بتوحيد علام الغيوب " وهي مطبوعة مع هداية المريد للعبّادي، وقد تناول فيها الكثير من انحرافات القبورية، وأبان ضلالها وكشف عوارها.
المطلب الرابع: جهود علماء حضرموت في مواجهة القبورية:(76/370)
لم تترسخ القبورية في أي ناحية من نواحي اليمن كما ترسخت في حضرموت، حيث سيطر القبورية فيها على كل شيء، سيطروا على الحكام، ووجّهوا السلاطين وسعوا لجلب الاستعمار، وكان لهم عنده مكانة مرموقة، وأمسكوا بزمام القيادة العلمية والروحية في البلد بقبضة حديدية، لم تترك لسواهم وسوى الدائرين في فلكهم متنفساً؛ لذلك لا نرى تلك المعارضة للفكر الصوفي في حضرموت مثل ما عورض في زبيد وصنعاء أو غيرهما من أنحاء اليمن، وحتى كتابة التاريخ فقد احتكروها بين قادة التصوف وأنصارهم، فجاء تاريخ حضرموت كما يشاؤون لا كما هو في الحقيقة، لذلك لا غرابة أن يقل أو ينعدم المواجهون للقبورية فيها، ومن ظهر فإنما ظهر بعد أن حصلت للقبورية الهزات العنيفة بفعل الدعوة السلفية في صنعاء وفي نجد؛ حيث وصلت الجيوش النجدية إلى قلب وادي حضرموت، والتقى دعاتها بالناس، فتأثر بهم رجال من شتى الطبقات حتى من السادة العلويين (1)، ثم دعوة الإرشاد باندونيسيا،
ومن هؤلاء الذين برزوا:
العَلَم الأول
الشيخ علي بن أحمد باصبرين
وهو العلامة الفقيه المحدث الأديب الداعية علي بن أحمد باصبرين - رحمه الله - لم يُعرف تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بالتحديد؛ ولكن العلامة الشيخ علي سالم بكيّر يرجح أنه (عاش في النصف الأخير من القرن الثالث عشر الهجري وأوائل القرن الرابع عشر)(2)، وكان هذا الإمام متميزاً بالشجاعة متظاهراً بحمل السلاح يقول عنه علوي بن طاهر الحداد: (كان شجاعاً ذا عزم لايزال متمنطقاً بمسدس أو مسدسين)(3).
__________
(1) انظر إدام القوت ص( 225-226 ) .
(2) رجال وكتب للشيخ علي سالم بكيّر باغيثان طبع دار حضرموت للدراسات والنشر ص(109 ) .
(3) الشامل (1/ 135 ) وانظر إدام القوت ص( 110 ) .(76/371)
وكان ذا غيرة شديدة حملته على إنكار الكثير من المنكرات والعمل على تغيير بعضها باليد، يقول الحداد: (وأحسب أن له يداً في الثورة التي وقعت بجده على قناصل الدول وهي واقعة مشهورة، وقد تمكن من الفرار فسلم، وهو الذي أثار العوام على الأبنية التي جعلت على الجمرات الثلاث بمنى فهجموا عليها وأخربوها)(1).
كما كان مبرزاً في العلم متفوقاً فيه، وصفه أحد العلويين بقوله: (وهو إمام في كل العلوم)(2)، وكان عاملاً بعلمه داعياً إلى ماهو مقتنع به، لم يجمد على ما كان عليه أهل مصره وعصره؛ بل دعا إلى التوحيد وحذر من الشرك وزيف الخرافات وحارب المنكرات؛ ومن أجل ذلك حاربه علماء حضرموت ونازعوه وحذروا منه، يقول ابن عبيدالله: (وجرت بينه وبين علماء تريم منازعات في عدة مسائل، منها التوسل والاستغاثة ومنها ثبوت النسب بمشجّرات العلويين المحررة، وكان الشيخ يبالغ في إنكار ذلك وألِّفت رسائل من الطرفين (3)، ونقل مستنكراً ما قاله أحمد بن حسن العطاس عن هذا الإمام فقال: (وفي مجموع كلام العلامة السيد أحمد بن حسن العطاس أن بعض العلماء المصريين قال له::" نعرف من الحضارم حدة الطبع، وأنت بعيد عنها " قال له:" من عرفت من الحضارم؟ " قال له:" عرفت الشيخ علي باصبرين، وجلست معه في الحرمين سنين، فرأيت من حدته ما لا مزيد عليه "، فقال السيد أحمد:" ذاك رجل من أهل البادية، وتلقى شيئاً من العلم، وقد حجر سلفنا وأشياخنا على المتعلقين بهم الأخذ عنه؛ لأنه ليس بأهل للإلقاء ولا للتلقي، ولا يخفى عليكم ما في طباع البادية من الغلظة والجفاء "، انتهى.وفي هذا غض من مقام الشيخ علي لايليق بالإنصاف، وقد علمت أن السيد عمر بن حسن الحداد قرأ عليه وهو من مراجيح العلويين)(4).
__________
(1) الشامل ( 1 / 135 ) .
(2) إدام القوت ( 110 ) .
(3) إدام القوت (111 )
(4) إدام القوت ص(110-111 ) .(76/372)
ويبرز اتجاهه التجديدي من خلال بعض مؤلفاته ومنها:" إرشاد صالحي العبيد لتحقيق إخلاص كلمة التوحيد " ذكرها في المسألة التاسعة من " المهمات الدينية " المتعلقة بالنهي عن قول العوام (ياولي الله جئنا إليك وحططنا الذنب بين يديك) بعد أن علق عليها قال: (ومن أراد توضيح ما في المقام فعليه برسالتي المسماة " رشاد صالحي العبيد لتحقيق إخلاص كلمة التوحيد " (1).
وهذه الرسالة لم نعثر عليها، ولكنا عثرنا على المهمات وسوف يأتي الحديث عنها حين نتكلم عن أثر هذا العالم في مواجهة القبورية،وله مؤلفات أخرى منها خمسةكتب في الفقه الشافعي،وكتاب عن أنساب السادة العلويين سماه " حدائق البواسق المثمرة في بيان صواب أحكام الشجرة " فرغ من تأليفه سنة (1298 هـ) قاله ابن عبيد الله (2)، ورسالة في الرد على بعض من اعترض عليه في رسالة الشجرة المذكورة. (3) إضافة إلى تلك الكتب هناك كتاب مخطوط في مكتبة الحرم المكي بعنوان "إتحاف الناقد البصيربخصوص صحيح الجامع الصغير" ذكره شيخنا الألباني في مقدمة كتابه صحيح الجامع الصغير وقال: إنه اطلع عليه في مكتبة الحرم المكي، وقد نقد المؤلف حيث أنه يتابع السيوطي على تصحيحه دون تحقيق من قبله (4).
هذه نبذة عن الشيخ علي باصبرين رحمه الله وهو مترجم في " الشامل في تاريخ حضرموت "، و" إدام القوت أو معجم بلدان حضرموت "، " وتاج الأعراس " وكلها تراجم موجزة.
أثر هذا العلم في مواجهة القبورية
__________
(1) المهمات الدينية ص(6) .
(2) إدام القوت ص( 111-112 ) وانظر لمزيد الفائدة تعليق ابن عبيدالله بذكر مادار بين الشيخ علي وبعض السادة حول الرسالة المذكورة وفيه كلمة للمحضار لفظها ( وبعض الناس قوله وبوله سواء ) وهي تدل على مبلغ العنجهيةلدى هؤلاء الناس .
(3) ذكرها ابن عبيد الله في نفس الموضع السابق .
(4) صحيح الجامع الصغير طبع المكتب الإسلامي( 1/ 14- 15 ) الطبعة الثانية ( 1406هـ - 1986 م ).(76/373)
كان الأولى أن أدرس رسالة " إتحاف صالحي العبيد " التي أشرت إليها سابقاً ولكنها مفقودة؛ لذا لجأت إلى الرسالة الأخرى وهي: " المهمات الدينية في بعض المرتكب من المناهي الربانية ".
وهي رسالة صغيرة حصر فيها المؤلف مجموعة من المناهي التي قد ارتكبها الناس، ولم يتقيد بباب من أبواب العلم، وإنما نوعها بحسب أهمية تلك المناهي المرتكبة، فاشتملت الرسالة على خمس وسبعين مسألة، قال في مقدمتها: (ولقد جمعت في هذه العجالة خمساً وسبعين مهمة من مهمات الدين مما عم الابتلاء بالتلبس بها، وقد أرسلت منها نسخاً عديدة لكل كبير بلد أو قرية،كل هذا خروجاً من عهدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ الجهد في بذل النصيحة لهذه الأمة المباركة، لعل وعسى أن ينتفع بها مؤمن صالح، ويرتدع بها وينيب غاوٍ بجهالته طالح)(1).
وقد مضى في تلك المهمات إلى أن قال:(التاسعة) مما يحرم ما يقال عند إقبال الزائرين إلى المزور:
(ياوليّ الله جئنا إليك وحططنا الذنب بين يديك)
__________
(1) المهمات ص( 3 ) .(76/374)
وقد علق على ذلك وبين مافيه من الغلو، وأنه لايغفر الذنوب إلا الله، ثم أحال على رسالته السابق ذكرها، ومضى إلى المهمة (الثامنة عشر) وفيها تعرض لما عند بعض جهات حضرموت أنهم: (إذا ميزوا زكاة أموالهم بنحو حَجْر والرِّيَد(1) يقولون: (هذا لله وللشيخ سعيد أو حق الله وحق الشيخ سعيد مثلاً)(2)، ثم تكلم عن ذلك من الناحية الاعتقادية والناحية الفقهية، وقد حكم أن هذا القول خلاف الصواب، وأنه مبني على اعتقاد أنهم (إذا فعلوا ذلك يأمنون عاهات أموالهم وإلا فيصابون بعاهة في أنفسهم وأموالهم، أو من الله إذا أغضبوا الشيخ بمخالفة عادتهم من إعطائهم مالا يستحقه، مع نسبة الآثار إلى مايتوهم الجاهل أنه منه، وذلك خلاف الصواب والحق أن موجد الآثار وأسبابها هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد القائل سبحانه: { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولاخلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا } )(3)، والحق أنه لم يشبع المسألة وربما كان ذلك لأجل الاختصار، وفي المهمة (العشرون) تحدث عن النذر وأنه (لايصح إلا إن كان لمن يملك – ومنه المسجد- طاعة لله وقربة بها يتقرب إليه تعالى لا لميت وبهيمة ما لم يرد غيرهما المعتبر، ولا معصية أو مكروهاً أو مباحاً لآدمي أو جني أو معظم ما غير الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لرجاء مالم يقضهِ الله له لو لم يشفع له هذا المعظم، أو دفع ما قد قضاه الله وأبرمه عليه في سابق علمه، فهذا محرم بل كفر في حق العالم والجاهل الذي أخبره بمقتضى ما يتضمن ذلك من هو من أهل الإخبار والتعليم (4).
والشيخ قد أبان جانباً مهماً من الحق في هذه المسألة؛ وهو تحريم النذر للأموات، وأنه متى صاحبه ذلك الاعتقاد صار كفراً في حق العالم والجاهل الذي قد أخبره به من هو أهل للإخبار، ولكن هنا أمران:
__________
(1) هما جهتان معروفتان من جهات حضرموت .
(2) المهمات ص ( 8 )
(3) الكهف ( 51 ) .
(4) المهمات ص( 9 ) .(76/375)
الأمر الأول: تصحيح النذر عند إرادة المعتَبَر ممن له علاقة بالقبر فإن هذا موهم جداً ومغرٍ للعوام بالنذر لتلك المشاهد والقباب ومن فيها، وتَرتُب الاعتقاد إن لم يكن موجوداً حال النذر والغالب أنه لاينذر لها ولم يقصد من عندها من الزوار وغيرهم إلا مع وجود الاعتقاد فيهم، ولذلك فقد انتقد هذا المسلك الشيخ أبو بكر الخطيب في فتاواه معللاً بأن (الغالب أنهم يقصدون تعظيم ذات الولي أو قبره أو مشهده وذلك باطل والله أعلم بالصواب)(1)، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما نذر الرجل أن يذبح إبلاً ببوانه سأله: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال:لا قال: فأوف بنذرك)) (2)، وهذا يدل على أن النذر لو كان لمكان فيه وثن أو عيد لما أجازه؛ لئلا يظن ظان أن ذلك لتعظيم تلك البقعة، وهكذا هنا فإن قصد تعظيم ذلك المشهد والقبر هو الغالب، فكان الواجب سد هذه الذريعة وعدم تصحيح النذر من أصله.
الأمر الآخر: جعل النذر شركاً -إن وجد الاعتقاد والتعظيم- هذا فيه قصور، إذ النذر عبادة لله تعالى وليس كما يفهمه بعض الفقهاء مجرد هبة أو عطية، ولذلك فجعله لهذا المشهد أو القبر هو في حد ذاته قربة وعبادة، وصرف ذلك لغير الله شرك، ولولم يوجد التعظيم؛ لأن الحامل عليه هو الخوف أو الرجاء كما ذكره الشيخ آنفاً، بخلاف ما لو نذر لحي فإنه في عرف الفقهاء بمعنى العطية أو الهبة، وعلى ذلك درج الناس فيما يتعاطونه بينهم فيقول قائلهم نذرت لابني أو أخي أو فلان بكذا أي وهبته، فما كان من هذا القبيل فلا يمنع إلا أن قارنه التعظيم والتقرب والله أعلم.
__________
(1) الفتاوى النافعة ص( 249 )
(2) تقدم تخريجه في الباب التمهيدي ص( 29 ) .(76/376)
أما المهمة (الحادية والعشرون) ففيها يقرر المؤلف أنه لايتقرب ولايعظم بالصلاة والنسك " الذبح " إلا لله تعالى، ولاينسب الإحياء والإماته إلا لله تعالى، وهذه أمور معلومة لا إشكال فيها وإن كان من الناحية العملية بعض القبورية أو جلّهم يخالفون في الذبح فيجيزونه لغير الله،ويتأولون ما يفعل من ذلك عند العوام، والذي لاعلة له إلا "تعظيم من ذبح له" يتأولون ذلك بتأويلات باطلة،وكذا الإحياء والإماتة، هذا أصل من الناحية النظرية متفق عليه، أما من الناحية العملية فالصوفية ينسبون لأوليائهم الإحياء والإماتة -كما جاء في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع وغيره - وقد تقدم إثبات اعتقادهم لذلك في الباب الثاني، وذلك غاية الإلحاد والعياذ بالله، ثم يرتب على ما تقدم تحريم العقيرة (1)، لكونها يهل بها لغير الله ولغير ذلك من المحظورات التي تترتب على ذلك، ويأتينا هنا بفائدة جديدة جليلة وهي أن الزامل(2) الذي يكون غالباً مصاحباً لزيارات الأولياء هو: (لتعظيم المقبور له بمنزلة تلبية وفد الله تعالى بالحج والعمرة وهذا من أعظم المنكرات وأعظم منها سكوت أهل العلم عنهم فيما لو فرض سكوتهم فضلاً عن رضى عاقل بذلك) (3)، وهذه النكتة لم أعرف من نبه عليها غيره ولكن لا استبعد صحة ما قرر في ذلك إذ أنّ هذا هو الشأن في معظم الزيارات إن لم يكن فيها جميعاً وهذا أولاً، وثانياً: أنها فعلاً تعتبر تعظيماً للولي وذلك برفع الرايات التي هي شعاره واشتمالها غالباً على أبيات شعرية في مدحه أو دعائه والاستغاثة به. وثالثاً: أن خليفة ذلك
__________
(1) قال في القاموس و ( العقيرة ما عقر من صيد أو غيره ) ص( 569 ) وفي العرف هي جمل أو ثور يسوقه الزوار عند زيارتهم للولي : إما إرضاءاً له لما قد يظنون أنه ساخط عليهم أو تقرباً لطلب حاجة منه .
(2) الزامل في العرف هو نوع من الرجز يؤتى به عند المناسبات كالأفراح ونحوها وكذا في الزيارات .
(3) المهمات ص( 9-10 ) .(76/377)
الولي المسمى عندنا " منصب مقامه " يعطى في هذه الزيارات من التعظيم والتفخيم وإظهار مقامه وقدره شيئاً عظيماً كما نبه عليه " الصبان " في كتابه زيارات وعادات " زيارة نبي الله هود " (1)، فرحم الله الشيخ باصبرين.
والمهمة (الثانية والعشرون) يقرر فيها أن الحلف بغير الله تعالى وصفاته وأسمائه شرك، ثم قسم الشرك إلى جلي وخفي،وأن الجلي هو المخرج من الملة والخفي لايخرج من الملة،ثم تعرض لصيغ من الحلف وتكلم عنها، ثم فرق بين ماكان المقصود به تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو يخاف منه كخوفه، أو يرجى منه نفع لم يقضه الله،أو يدفع عنه ضر قد كتبه الله فهو الحرام الكفر اتفاقاً،أما إذا سلمت العقيدة من ذلك فلا كفر جلي وفي الخفي خلاف والورع تركه مطلقاً) (2) وهذا تفصيل جيد،,أجود منه لو صرح بتحريم النوع الثاني وإن لم يكن شركاً.
والمهمة (الستون): قال لايجوز لأحد حكاية ماصورته منكر، وإن صدر عن بعض الأكابر محمول على أنه مؤول عنده بتأويل غير متبادر للعامة؛أو أنه صدر حال غيبة عن تعقل مقوله بوجه من الوجوه أو أنه من قول غيرٍ كجني كما قال بعضهم:
أنا عرشها والكرسي أنا للسما بانيها
ولولا الحيا من جدي نار الجحيم أطفيها (3)
والنهي عن ذلك في محله، وأما التأويل لذلك فبعيد وقد تقدم إيضاح ذلك (4)
__________
(1) زيارات وعادات " زيارة نبي الله هود "ص ( 40- 41 ) تأليف عبد القادر محمد الصبان ، طبع المعهد الإمريكي للدراسات اليمنية .
(2) المهمات ص(10 ) .
(3) المهمات ص( 16 ) .
(4) ?المهمات ص( 16 )(76/378)
المهمة (الحادية والستون): قال فيها (من المحرمات قول بعض المعتقدة جواباً لقول المعتقد ادعُ الله لي بالجنة " أنت في الغدفة أو ضماني ") (1)، وهذا القول يتكرر كثيراً من بعض أقطاب القوم في مناسبات مختلفة وهو محرم كما ذكر الشيخ إن كان مجرد جرأة عن غير اعتقاد،أما من اعتقد أنه يملك ذلك فهذا طاغوت لأنه زعم لنفسه حقاً من خالص حق الله تعالى.
هذه هي المهمات التي تعرض فيها الشيخ للقبورية ونقد بعض عقائدهم وأعمالهم، وأما بقية المهام فإنها منكرات يقع فيها الكثير من الناس وهي معاصي لاعلاقة لها بالقبورية.
والشيخ -رحمه الله تعالى- قد تحرر من غل التقليد لمعلميه والتأثر بمجتمعه إلى حد كبير،وحسبه ذلك مادام مجتهداً باحثاً عن الحق جاداً في العمل به والدعوة إليه،وقد بقي لديه بعض آثار مدرسة حضرموت لم يستطع التخلص منها وهي قليلة في جانب ما حقق من إصابة للحق،فرحمه الله وغفر له.
العَلَم الثاني
من أعلام المواجهين للقبورية في حضرموت
الشيخ محمد بن علي بافضل رحمه الله تعالى
للأسف لم أعثر لهذا الشيخ على ترجمة مكتوبة،ويقال أن هناك ترجمة كتبها هو لنفسه بعنوان "حياتي" غير أنني لم أتحصل عليها،وهي عند بعض أولاده كما أخبرني بعض أقاربه، فلذلك أكتب ملامح عامة عنه فأنا أعرفه،وقد جالسته وحضرت درساً من دروسه في مدينة " القَطْنْ " بلده الذي ولد وعاش فيه معظم حياته.
كانتدراسته الأولى في رباط تريم على يد شيخه الشهير عبدالله بن عمر الشاطري، ثم هاجر إلى الصومال ومكث هناك ردحاً من الزمن، ولعله هناك التقى ببعض المصريين من أنصار السنة وبذلك تحول إلى الاطلاع على كتب الإمامين ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله وأئمة الدعوة السلفية في مختلف العصور حتى صار بذلك من أعلام الدعوة السلفية.
__________
(1) المهمات ص ( 16 ) .(76/379)
يقول فضيلة الشيخ " السيد السيد رجب " المدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في تقديمه لكتابه " دعوة الخلف إلى طريقه السلف " وهو يتكلم عن أعلام الدعوة الذين أشعلوا المشاعل لينيروا الطريق وليوضحوا السبيل ليسترشد الحائر ويهتدي السائر: (ومن هؤلاء العالم الفاضل، والشيخ الوقور، والمربي الأمين، والقدوة الطيبة والمجاهد المكافح الذي صابر وثابر وأفنى شبابه وصحته في سبيل الدعوة وإبلاغ الحجة وأداء الأمانة وإيقاظ الغافلين،والأخذ بيد العاملين،والذي نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ذلكم هو الشيخ " محمد علي بافضل "، بارك الله فيه وأطال عمره ونفع به وجزاه بكل خير، فقد جاهد وناضل في سبيل عقيدته، في كل مكان حل به وأقام فيه، ومن يذهب إلى الصومال يجد مسجداً فخماً سمي باسمه، أقامه وشيد أركانه، وكان إمامه وخطيبه ومدرس العلم والمعرفة لرواده وأحبابه وإخوانه ومعارفه، فهذا درس التفسير، وذاك درس الحديث، وهذا درس الفقه، بل كان يدرس النحو والصرف وهكذا.(76/380)
وكلٌّ حسب منهج دراسي منظم، ومستويات علمية متباينة، فربّى رجالاً فاهمين عالمين عاملين، جمعوا بين طلب الدنيا والدين، والشباب والشيوخ من حوله ملتفون، كان لهم العالم والمرشد والأخ والصديق والأب والرفيق، يلتفون حوله ويستجيبون لنصحه، ويعملون بتويجهاته ويستشيرونه في أخص أمورهم، وإن أنس لا أنسى ليلة وداعه وهو مغادر الصومال بعد إقامته فيه مدة طويلة إلى موطنه العزيز والجموع محتشدة في ذلك المسجد بمقديشو والرجل يفيض على الجميع من علمه وتجاربه ونصائحه وكانت كلماته مشوبة بأنفاس كبد محترق تلفح الآذان، والناس في حزن عميق وألم للفراق شديد، ثم يحمِّلني تبعة القيام بالمسجد ويعهد إلي بتحمل الأمانة ولكن أنّى لي ولأمثالي أن نملأ هذا الفراغ ونقوم بذلك العمل الكبير والمجهود العظيم فجزاه الله خير الجزاء) (1) هذه لمحة عن حياة الشيخ وجهده في المهجر.
وأما في الوطن فأنا أسجل ما بلغني عنه وما شاهدته منه مباشرة:
__________
(1) دعوة الخلف إلى طريقة السلف التقديم ص( ج – د ).(76/381)
فلقد سمعت بالشيخ وجهوده ودعوته إلى الكتاب والسنة في آخر حياته رحمه الله،حوالي عام اثنين أو ثلاثه وتسعين وثلاثمائه وألف هجرية،حيث وصف بالدعوة إلى التوحيد والسنة ومحاربة البدع والشركيات وبيان خرافات الصوفية وتزييفها، وماكان قائماً به من نشر العلم والإفتاء في مدينته القطن، ثم شاء الله بعد مدة أن أزور القطن وأصلي المغرب والعشاء في مسجدها الجامع، حيث يدرس الشيخ وقد كنت ذاهلاً عن الشيخ ودعوته التي وصفت لي من قبل، فلما كان بين العشائين فإذا بالشيخ يتصدر الحلقة العلمية ليدرس طلابه من كتاب فقه السنة " للسيد سابق " وفي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أذكر ما هو الكتاب الذي كان يدرس فيه وقتها،فجلست في الدرس وسمعت كلاماً قيماً غريباً على ما هو معروف في الأوساط العلمية الحضرمية آنذاك، وبعد انتهائه من الدرس أردت أن أتأكد مما سمعت، فسألته عن بعض الأمور المتعلقة بالبدع والشركيات المنتشرة في البلاد، فأجاب جواباً صريحاً واضحاً بما يشفي غليل محب السنة والتوحيد، فاطمأننت إليه واقتربت منه وتعرفت عليه وعرفته على نفسي، فقال لي: (لقد أجبتك على تلك الأسئلة بما سمعت لأنني هنا في القطن ولوكنت من شبام وحدرا لسبطونا على تلك الأجوبة) هكذا بهذه اللهجة الدارجة ومعناها: أنه لما أجابني بما أجابني لأنه في بلد القطن الذي قد استجاب أهله للدعوة السنية وآمنوا بها، ولو أنه كان في مكان آخر من بلد شبام أو ما كان شمالاً عنها لضرب على تلك الإجابة لما عليه أهل تلك الديار من التعصب والخرافة، وعندها عرفت أنه ذلك العالم السلفي الذي حُدَّثْتُ عنه من قبل، ثم دعاني إلى منزله فاعتذرت فواعدني من اليوم الثاني حيث أخذني إلى مسجد جديد كان يقوم على عمارته وفي أثناء تجولنا في المسجد كان يشكو إلي سوء الأوضاع في البلاد ومحاربة النظام الشيوعي للدين وأهله وما يلاقيه هو من رقابة ومتابعة شديدة، ثم إنه رحمه الله سافر إلى المملكة(76/382)
العربية السعودية، حيث وافاه الأجل في مدينة جده حوالي عام (1404هـ)، وقد ترك أثراً طيباً في بلده وكان له طلاب ومحبون فيها وفي غيرها، كلهم سائر على نهجه ومقتبس من طريقته - رحمه الله رحمةواسعة -.
الأثر الذي خلّفه "دعوة الخلف إلى طريقة السلف":
وواضح من عنوانه أنه دعوة إلى العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم في جميع الأمور من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات وسائر شؤون الحياة،ولقد لخص موضوع الكتاب المؤرخ الشهير سعيد عوض باوزير في المقدمة التي قدم بها للكتاب فقال: (آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً) هذا هو موضوع الكتاب الذي جمعه المؤلف من أوثق المصادر.
دعوة إلى التوحيد الخالص دون إشراك، وإيمان برسالة خاتم الأنبياء دون انحراف،وتمسك بتعاليم مستقاة من أصولها الصحيحة دون ابتداع،في ميدان الاعتقاد يدعو الكتاب إلى إصلاح كل ما أفسدت البدع والأباطيل من جوهر العقيدة،وفي ميدان السلوك والعبادة يدعو إلى رفض كل زيادة ليست في كتاب الله الكريم ولا في سنة رسوله المطهرة (1).
وبعد كلام عام عن أزمة المسلمين وأن لاحلَّ لها إلا بالرجوع الحق إلى الإسلام قال المقدم: (ربما تثير بعض النقاط التي عالجها الكتاب حساسيات بعض الناس، أو تصطدم بوجهات نظر خاصة بهم،ولكنني واثق بأن المؤلف لم يكتب ما كتب عن هوى أو غرض وإنما كان يصدر عن عقيدة امتزجت بروحه وقلبه، يدافع بها عن دين الله الحق،طالما تحدث بها لسانه، قبل أن يتناولها قلمه، فالمؤلف من خطباء الحضارم الموهوبين وأساتذتهم المستنيرين، تعرفه المنابر والحفلات،كما تعرفه فصول الدراسة،وقاعات المحاضرات(2). والكتاب قد جعله المؤلف على طريقة السؤال والجواب:
__________
(1) دعوة الخلف ،المقدمة ص(5-6)
(2) دعوة الخلف المقدمة ص( 5 – 6 ) .(76/383)
وقد شمل توحيد الربوبية والألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وما يضاد ذلك من الإلحاد والشرك، وقد ركز على توحيد الربوبية بعض الشيء لوجود التشكيك فيه في تلك الفترة، فترة انتشار الإلحاد في العالم كله،وعندنا في حضرموت بسبب النظام الشيوعي الذي كان جاثماً على صدر البلاد وأهلها،ثم تكلم على السنة ومايتعلق بها ومايضادها من البدع،كما عرج على الفكر الصوفي الحضرمي ونقد بعض خرافاته، وأبان بعض ما يحتوي عليه من الشعوذةوالدجل، وخصص بعض البدع التي تتفرد بها حضرموت مثل" صلاة الخمسة فروض" التي تؤدى آخر جمعة من رمضان، حيث يصلون الفرائض الخمسة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء في آن واحد وذلك بنية قضاء ما فات أثناء السنة الماضية
وأول من أحدثها في حضرموت " الشيخ أبو بكر بن سالم العلوي صاحب عينات "، ولذلك فإن أكثرمن يتعصب لها هم المنسوبون إليه، ولاتزال مستمرة بشكل رسمي وبطقوس واعتقادات، خاصة في بلده عينات إلى اليوم،كما تعرّض لبعض الأمور التي دعا الواقع إلى طرقها؛كمسألة المرأة في الإسلام،وتعدد الزوجات،وموضوع الإسلام والرق،هذا مجمل ما اشتمل عليه ذلك الكتاب فهو مهم جداً ومفيد للغاية فرحم الله مؤلفه وأجزل له الثواب.
العَلَم الثالث
العلامة القاضي عبدالله بن عوض بكير
وهو العلامة الكبير والقاضي الشهير، داعية السنة في وقت تَغَلُّب البدع،ورافع راية التوحيد في مجتمع تجوس خلاله أنواع من الشرك،ويتصدر فيه دعاة الخرافة الشيخ عبدالله عوض بكير.(76/384)
ولد رحمه الله في مدينة " غيل باوزير " سنة (1314هـ) (1)،قرأ القرآن في أحد كتاتيب قرية " القارة" من ضواحي الغيل،وبعد مرحلة من العمل والكدّ، التحق بركاب الشيخ عمرمبارك بادبَّاه في قرية "الصداع"، وأقام لطلب العلم لديه نحواً من خمسة عشر عاماً، قرأ خلالها عدداً من الفنون حتى تقدم على أقرانه وأصبح شيخه يوكل إليه بعض المهام؛من تعليم طلاب وإمامة مسجد وردٍ على فتاوى) (2).
__________
(1) القضاء في حضرموت في ثلث قرن لابن المترجم العلامة عبدالرحمن عبدالله بكير النسخة الخطية ص( 14 ) .
(2) المصدر السابق ص( 26 – 28 ) .(76/385)
ثم انتقل إلى رباط الغيل فترة،ثم ارتحل إلى بلاد الصومال " جيبوتي " و"مقديشو" مرتين لتحصيل العلم ولقمة العيش معاً، وهناك التقى ببعض علماء الأزهر (1)، ثم عاد واستقر إماماً لمسجد النور بالقارة،وقد حصل من العلم حظاً كبيراً مكَّنَه من أن يكون مرجعاً لمجتمعه الصغير، عليه يعرضون أسئلتهم وإليه يرجعون في حل مشاكلهم،ويراجعونه فيما يقع لهم من قضايا، ومنها ما قد يصدر لهم أو عليهم من أحكام قضائية وفتاوى شرعية، فكان يعلق عليها بما يراه الحق،وبذلك انتشر خبره وسار ذكره حتى وصل (مجالس العلماء ودخل مكاتب الحكام واستمع إلى آرائه الوزراء والسلاطين،فتوجهت إليه الأنظار ترقبه وتراقبه)(2)، (وبالإضافة إلى قوة عارضته الفقهية في المناظرات الشفوية والكتابية، مما أكسبه سمعة علمية طيبة،وحنكة في معالجة القضايا الفقهية،وإبراز خفاياها ودقائقها.. بالإضافة إلى ذلك كان صريحاً في الحق لايماري ولايداري،نزيهاً لا تمتد عينه إلى متع غيره،محارباً للبدع أياً كان القائم بها، لاتأخذه في الله لومة لائم، فقد كتب الرسائل وألقى الخطب، وكاتب من يتوسم فيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،مشنعاًعلى كثير من البدع التي تعمل باسم الدين، وأظهر وأبان وجه الحق في كثير مما يُتخذ تحت شعار الدين،بينما هو في حقيقته باطل وجاهلي فألَّف من بين ماألَّف:
مثالب المزار: وهي رسالة في منكرات زيارات القبور. وأن زيارة القبور مشروعة كما شرعها الدين الإسلامي، وبغير ذلك تعتبر منكراً يجب إنكاره وتجب إزالته وتغييره.
2) تطهير الفؤاد من سيّء الاعتقاد: وهي رسالة توضح كثيراً من المعتقدات الفاسدة الشائعة في الجهة سواء كانت مما يتعلق بالموتى أو بالأحياء أو بالجمادات أحياناً، ومايفعل باسم كبراء الجن، كما يقول أرباب تلك المعتقدات.
__________
(1) القضاء في حضرموت ص( 28 - 29 ) .
(2) المصدر السابق ص( 31 – 32 ) .(76/386)
3) الدفوف في المساجد: وتلك رسالة أوضح فيها حكم ضرب الدفوف في بيوت الله التي يجب أن تُنَزَّه عن مثل هذه المعازف والملاهي، ولقد ترسم فيها طريقة السلف الذين سبقوه وعنهم نقل مانقل)(1).كان هذا من الشيخ رحمه الله في عهد اشتدت فيه الخصومات بين الإرشاديين والعلويين في مهجرهم في أندونيسيا وسنغافورة،وألقت تلك الصراعات بظلالها على الوطن،وأصبح مَن يصنف أنه مِن الإرشاديين أو يتهم بذلك منبوذاً،بل مُعرّضاً لأنواع من الأذى، ولذلك فقد اتهم بالإرشادية كما اتهم بالوهابية،وإن لم يكن كما يقول ابنه الشيخ عبدالرحمن ملتزماً لواحدة من الطائفتين، بل قد يؤديه اجتهاده إلى موافقته إحداهما في أمور ومخالفتها في أمور أخرى،ولكن الإرهاب الفكري الكبير الذي كان يمارس لايرضى بأنصاف الحلول ولا يعرف للاجتهاد معنى،"وإنما كُن معنا أوأنت ضدنا"، ولكن الشيخ - رحمه الله - ما بالى بذلك بل صمد في وجه كل تلك الزوابع،ولكن لما شاع عن الشيخ من سعة في العلم وبصيرة في الرأي ونزاهة في المعاملة وعدل في الخصومة وقوة في الموقف،كل ذلك أرغم معاصريه على احترامه،وحَمَل المسؤولين على أن يخطبوا وده، وأن يطالبوه بتحمل مسؤولية القضاء الشرعي،والقرب من السلطان للاستفادة منه في الرأي والمشورة، وقد نفر من ذاك بادىء الأمر،ولكنه رضخ له بعد إلحاح وبعد تأمل في المصالح والمفاسد،ودخل سلك القضاء وتدرج فيه بعد أن عُرف عدله ونزاهته وقوة إدراكه ونفوذ بصره حتى أصبح رئيس القضاء،وعضو مجلس الدولة، ولقد قام من خلال منصبه ذلك بإصلاحات قضائية وإدارية جبارة، سبق بها عصره وتفردت بها حضرموت عن سائر البلدان المجاورة، كما أصلح القضاء وطوره وحافظ على تحكيم الشريعة، فإن له بصمة أخرى عظيمة هي رئاسة لجنة الشؤون الدينية والتي كان من مهامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومراقبة الآداب الإسلامية،والدعوةإليها، والتنفير من كل مفسدة
__________
(1) المصدر السابق ص( 32 – 33 ) .(76/387)
خلقية،والدعوة إلى السنة ومحاربة البدع في الدين) (1)، (فحاربت من البدع ما حاربت ونجحت ولاحقت من المفاسد الخلقية ما لاحقت وأصلحت) (2)،ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثقيل على أصحاب الشهوات، ومحاربة البدع شديد على أرباب الهوى والشبهات،وإلغاء بعض ما في البدع والزيارات البدعية مضر بالسدنة ومن يجنون من ورائها أنواع الثمرات، وحرك إبليس جنده؛ فحوربت هذه اللجنة من قبل أشخاص لهم في البدع والمحافظة عليها قَدَمُ راسخ،أَوْلَهُم في طقوس هذه البدع مصالح مادية ومصالح روحية، بل إن لهم في البدع مصالح رهيبة، وهي في نفس الوقت تمثل المخدِّر العام للشعب كي ينصرف عنهم ولايلاحقهم في بدعهم وأهوائهم، وبالمحافظة عليها وباستمرارها سيكون الشعب متلهيا بها منصرفاً إليها،غير متطلع لمستقبل، ولا عابىء بحاضر، كيف لا وهي تملأ أكثر أيام العام، ولاتنتهي مناسبة بدعة حتى تبدأ مناسبة جديدة لأخرى، ويتبع هذه البدع من المفاسد والمناكر والمحرمات مايندي له جبين الدين ويتصبب له عرقاً وجه الأخلاق... بل وتتبعها مفاسد اجتماعية تصل إلى حد التفريق بين الزوج وزوجه، والابن وأبيه.
وما أكثر البدع اليوم وما أكثر مروِّجيها والمغشوشين بها، وأشدها شؤماً وأكثرها لؤماً؛ هو بدعة مايسمى بالزيارات لما يؤتى فيها من المنكرات، والصد عن دين الله بعبادات أعمق جاهلية؛ لأنها
باسم.(3) تقام وباسم الدين تتحدث. والزيارات بدعة في الدين، وبدعة في حضرموت،وبحسبك أن تعلم أنها لاتستند لسند في العادات والتقاليد حضرمي أصيل.
__________
(1) القضاء في حضرموت ص( 183 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 183 ) .
(3) كذا في الأصل.(76/388)
وقدكان للجنة الشؤون الدينية في عهد السلطان صالح مع هذه البدعة بصورة خاصة،مواقف خاصة،مما جعل السلطان عليه - رحمة الله - اقتناعاً منه بمضارها، يوقفها ويأمر بإلغاء طقوسها ومراسمها أياً كانت، ولكن القوم - هداهم الله - وغفر لهم ولنا، أعلنوا عدم تمسكهم بدينهم إذا كان يقف في طريق ما ألفوه، وأنت عليم بما يترتب على هذا من حكم شرعي) (1).
وقد أخبرني أحد معاصري الشيخ رحمه الله، أنه منع الحضرة التي كانت تقام عند القبر الذي تحت مسجد عمر ويسمى قبر"علوية" أيام وجوده في القضاء،وأقفل المكان وعزم على تأجيره مستودعات أو نحو ذلك،ولكنه لم يتمكن من تأجيره، وإنما بقي مقفلاً مدة طويلة،ولكن بعد وفاته أعيد فتحه وأعيدت الحضرة التي تعمل له، وهاهو اليوم وصمة عار على جبين المكلا وأهل المكلا، وبقعة سوداء يطالعها كل من يزور هذه المدينة من الغرباء، فيحكم على أهلها الطيبين محبي السنة أنهم من المخرفين والخاضعين لسلطان الدجل والشعوذة ولامنكر، بل المنكرون كثير ولكن من يستجيب لهم؟؟
كما أنه كان قد أبطل الحضرة التي كانت تقام في مسجد الروضة بالمكلا،وقد أعادها القبوريون هذه الأيام،وكما كان الشيخ رحمه الله عالماً وقاضياً ومصلحاً؛كان كذلك شاعراً وأديباً مرهف الحس قوي العارضة،وبعد عمر طويل قضاه في التعلم والتعليم والإصلاح،انتقل إلى رحمة ربه في يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الثانية عام ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعين للهجرة؛ رحمه الله رحمة واسعة، وقد ترجمه الأستاذ سعيد عوض باوزير في الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي(2).
آثاره في محاربة القبورية:
كما سبق فإن للشيخ ثلاثة آثار في مواجهة القبورية وسيكون الكلام هنا عن اثنين منها، وأما الثالث فسأذكره مع قائمة المؤلفات المفردة لأهل حضرموت.
__________
(1) القضاء في حضرموت ص( 183 – 184 ) .
(2) الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي ص( 181-183 ) تأليف سعيد عوض باوزير 1381هـ -1961م.(76/389)
الأثر الأول: هو"رفع الخمار عن مثالب المزار"وهو عبارة عن رسالة صغيرة أجاب فيها فضيلته على سؤال من محب كما يقول؛بعد أن تردد في الإجابة عليه لما في زمانه من الانتكاس ثم عزم فأجاب وأجاد وبين أن المزار المعروف في الجهة، أي جهة حضرموت، محرم لأنه يشتمل على جملة من المفاسد العقدية والاخلاقية، وقد أورد جانباً من الأحاديث الناهية عن الابتداع وطبقها على هذه الزيارات، ثم ذكر أنواعاً من المفاسد الأخلاقية مثل الاختلاط بين الرجال والنساء والذي قد تصل نتائجه إلى الزنا وقد يحصل اللواط كذلك، مع ما فيها من الملاهي التي هي مقصد أكثر الزوار وليس مقصدهم الاعتبار وتذكر الموت، وقد شن حملة على من يحضرها من المتزيين بزي العلم مع سكوتهم على تلك المناكر وقال: (إنهم أشرار لا أخيار)، وأجاب على شبهة يطرحها البعض وهي: أن هناك خيراً في هذه الزيارات، مثل الموالد التي تقام فيها والمواعظ، فأبان أن الموالد هنا لا تكون مشروعة أصلاً، ولو فرض أنها سائغة لكان الواجب تنزيهها عن هذه الأماكن التي يظهر فيها الفساد عياناً، وعلى افتراض أن في ذلك شيئاً من الخير؛ فإنه قليل لايساوي ما فيها من الشر.
ثم ذكر داهية من دواهي المخرفين التي لقنوها العوام وهي: اعتقاد بعضهم (أن من حضر سبع مرات عند قبرٍ؛ على مثل تلك الحال فكأنما حج البيت الحرام) قال: (وهذا عين المحادة لله بل ربما كان كفر)(1).
وقد كانت عاطفة الشيخ وغيرته بادية واضحة، وحرقته على ما يفعل قومه قوية بارزة، فها هو يصل به الانفعال إلى أن يقول: (وبعض الجهلة يوقِف على مثل هذه الجرائم وقائف، ويجعلها باسم المقام، ولاشك أن مثل هذا المقام، مقام أئمة النار فيحرم الوقف عليه، وتحرم الصدقة، لكون ذلك إعانة على المعصية، ولاتجوز الإعانة على مثل ذلك، فمن أعان فيه بشيء فهو من جملة العاصين الممقوتين)(2).
__________
(1) رفع الخمار ص(25- 26 ) .
(2) المصدر السابق في نفس الموضع .(76/390)
والرسالة لم تتعرض لبعض الأشياء المهمة الحاصلة في تلك الزيارات، ومنها الاعتقادات الباطلة والأعمال الشركية، وليس ذلك لأن الشيخ لايرى ذلك من المخالفات ففي الأثر الثاني سيظهر قوله فيها ولكن الذي يظهر أن الرسالة مبتورة أوضائع منها بعض الأوراق، ويشهد لذلك قول ابنه الشيخ "عبدالرحمن بكير "في خاتمة الرسالة: (انتهى ما وجدناه بخط الوالد وبقلمه، عليه رحمة الله، وربما كان للموضوع بقية فلنحتفظ بالموجود ولنبحث عن المفقود، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه)(1).
أما الأثر الثاني: للشيخ بكير فهو " تطهير الفؤاد من سيء الإعتقاد "، وهي رسالة صغيرة لازالت مخطوطة،اطلعت عليها بخط ابن المؤلف الشيخ عبد الرحمن عبد الله بكير،نسخها من خط والده، وفرغ من نسخها يوم (24) من شهر شعبان عام (1391هـ)، وقد كان الشيخ عبد الله رحمه الله كتبها عام (1343هـ)، وتقع في حوالي (40) صفحة،بدأها بعد المقدمة بتعريف الإيمان ثم التأكيد على الإيمان بالقضاء والقدر، ثم عنون (وجوب الاعتماد على الله وحده) وأورد تحت هذا العنوان الآيات والأحاديث الدالة على ذلك،ثم ثنّى بـ(لايجوز سؤال غير الله ولا دعاؤه) وأورد كذلك ما في الباب من الآيات والأحاديث واستمر على هذا المنوال يبرز العنوان المناسب ثم يسوق تحته من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ويعلق على ذلك بما يناسبه، ومما يؤكد حرقته وغيرته على التوحيد والاتباع كثرة شكواه من المتزيين بزي أهل العلم الذين يرون المنكر فلا ينكرونه، بل يشارك بعضهم فيه، والبعض الآخر يُري العامة طريق الابتداع ويحثهم عليه.
__________
(1) المصدرالسابق ص( 32 ) .(76/391)
وكان من عناوين هذه الرسالة غير ما ذكر: (من يتوكل على الله فهو حسبه)(1)، و(الاستعانة لا تكون إلا بالله)(2)، و(دعاء غير الله شرك)(3)، و(ألفاظ شركية تلفظها العامة)(4)، و(اعتقادات شركية تعتقدها العامة)(5)، و(يجب التحذير من كل ما يجر إلى الشرك)(6)، و(وجوب تصحيح الاعتقاد وتصفية الباطن)(7)، واستمر متعرضاً للعلماء المفتونين، ثم انتقل إلى البدع وركز على بدعة الحضرات التي تقام في المساجد وغيرها،وما يصاحبها من دعوات شركية مع السماع الصوفي واستخدام الدفوف في المساجد، كما أخذ يكرر العناوين الدالة على كفر وشرك من يدعو غير الله وأن ذلك من الكفر الصريح، كما فرق بين التوسل والدعاء، وذكر أن التوسل مشروع عند أهل السنة والجماعة كما جاء في الأحاديث الصحيحة لكن ينبغي الدخول من بابه)(8)، وبين دعاء غير الله الذي عبر عنه بأنه إحداث دين لم يكن، ثم عاد ليقرر أن المبتدعين جهلة غير مؤتمنين على الشريعة (9)، وبعده تعرض لبداية عبادة الأصنام وأنها كانت بسبب الغلو في الصالحين، ثم عنون (البدع في الدين ابتداءً وسيلة من وسائل الشرك انتهاءاً)(10)، وهكذا يمضي مع البدع ليقول: (نهي الإسلام عن البدع حسم لوسائل الشرك)(11)، و(جميع بدع القبور منافية للدين)(12)، ثم ذكر أن الفعل المفضي إلى المفسدة ممنوع،ثم يأتي للقوم من الباب الذي لايستطيعون سده فيقول: (مع الشيخ ابن حجر في بدع القبور)(13)، ومن المعلوم أن ابن حجر المكي هو عمدتهم في الفقه، وبعد ذلك يعنون: الصلاة عند
__________
(1) تطهير الفؤاد من سيء الاعتقاد مخطوط ص( 4 ).
(2) المصدر السابق ص( 6 ) .
(3) المصدر السابق ص( 7 ).
(4) المصدر السابق ص( 8 ) .
(5) المصدر السابق ص( 8 ) .
(6) المصدر السابق ص( 9 ).
(7) المصدر السابق ص( 9 ).
(8) المصدر السابق ص( 16 ).
(9) المصدر السابق ص( 18 ) .
(10) المصدر السابق ص( 21 ) .
(11) المصدر السابق ص( 22 ) .
(12) تطهير الفؤاد ص( 23 ) .
(13) تطهير الفؤاد ص( 25 ) .(76/392)
القبور والوقف والنذر عليها أو لها)(1)، ويواصل تحت هذا العنوان النقل عن ابن حجر، ثم يحذر من الحلف بغير الله وأنه من الشرك أو الكفر به، ثم يتعرض لفعل الموالد عند القبور لإنه إذا منعت الصلاة عندها مع أن المصلي لا يقصد إلا الله وحده وإنما يخشى من أن يجره التبرك بذلك القبر إلى الشرك، فإن الموالد أولى من ذلك لإنها إنما أقيمت للتبرك بصاحب القبر وتعظيمه(2)، ثم يختم بنقد الزيارات القبورية وقد سبق تفصيل رأيه في ذلك عند الكلام على " رفع الخمار عن مثالب المزار "،ويطيل حتى ينهي الرسالة بذلك.
بقي شيءٌ لفت نظري وهو نقده على من نسب كثيراً من البدع القبورية للسيد علي بن محمد الحبشي،واعتباره غير راض عن ذلك لما عرف عنه من العلم والورع والتمسك بما كان عليه سلفه من علماء آل باعلوي بحضرموت،وهذا إحسان ظن من الشيخ بالسيد علي المذكور،ربما لأنه لم يطلع على كتاب "كنوز السعادة الأبدية " والذي جمعه أحد طلاب علي الحبشي من كلامه،والذي يحوي من الخرافات ما لامزيد عليه،وكذلك نقل بعض صور القبورية والعقائد الضالة على وجه الاستحسان،بل في معرض التعليم للناس والحث على تلك البدع والأعمال والعقائد.
ظني والله أعلم أن الشيخ عبد الله لو اطلع على هذا الكلام لغيّر رأيه، ولم يدافع هذا الدفاع الكبير عن علي حبشي والله أعلم.
المؤلفات المفردة في الرد على القبورية لعلماء حضرموت:
1) العلامة الشيخ محمد بن عمر العماري وله رسالتان في مواجهة القبورية إحداهما " فتوى حول الاستغاثة بغير الله " مطبوعة وهي رسالة قصيرة، والثانية رسالة بعنوان " دق بالمسمار على الضاربين بالطار أو نصيحة وإنذار " وموضوعها الاعتراض على السماع الصوفي أو مايسمى عندنا في حضرموت " الحضرات " في المساجد والمشاهد.
__________
(1) المصدر السابق ص( 29 ).
(2) المصدر السابق ص( 32 )(76/393)
2) العلامة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بكير عضو هيئة الافتاء الشرعية، من المعاصرين حفظه الله وله رسالة بعنوان: " شن الحروب على مقبرة الشيخ يعقوب" وهي رسالة كان الباعث عليها الهجمة الوقحة التي شنها رجال ومسؤولو الجبهة القومية أيام حكمها على مقابر المسلمين ودكها للبناء عليها وتمرير الطرق فيها دون مبرر، وقد تعرض فيها للزيارات الشرعية والبدعية.
العلامة الشيخ الفقيه أبوبكر أحمد بن عبدالله الخطيب الأنصاري التريمي الحضرمي الشافعي المتوفى سنة (1356هـ)،له رسالة صغيرة اسمها: "نصيحة الإخوان عن إتيان السحرة والكهنة وأهل الجان " توجد ضمن مجموع فتاواه المسمى " الفتاوى النافعة في مسائل الأحوال الواقعة " جمع سالم بن حفيظ ابن عبدالله بن حسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم، من (301 – 321) من ذلك المجموع.
الفصل الثاني
تعظيم القبور
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول
اعتقادهم تعظيم قبور مخصوصة
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: اعتقادهم تعظيم وبركة مقابر مخصوصة:
منذ أن بدأ المتصوفة تعلقهم بالقبور وقالوا قولتهم المشهورة: (قبر معروف الكرخي الترياق المجرب) وهم يتوسعون في الانحراف، ويتيهون في الضلال، ويضيفون الجديد من الدجل والخرافة، ينسبون بهما الفضائل والفواضل إلى قبور أوليائهم، فحيناً تعم البركة مقابر بأكملها، وحيناً تخص قبوراً معينة، وهناك مقابر قد عممَّ قبورية اليمن البركات عليها وأعطوها القداسة والتعظيم.(76/394)
فمن تلك المقابر مقبرة المِسْدَارة بقرية المخادر محافظة إب، قال الجندي في ترجمة علي بن أبي بكر التباعي: (وقبره بمقبرة المخادر وتعرف بالمسدارة بخفض الميم بعد ألف ولام وسكون السين المهملة وفتح الدال المهملة ثم ألف ثم راء مفتوحة ثم هاء، وهي من المقابر المشهورة بالبركة، إذ رأى بعض الصالحين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طرفها يزور، وجماعة يسألونه الشفاعة فقال هذا خاتمي ذمام على أهل المسدارة من النار ولما كان مستفيضاً لم يكد أحد من أهل القرية ونواحيها يحب أن يقبر إلا فيها تعلقاً بهذا الأثر) (1)، فانظر إلى هذه الرؤيا كيف أثرت في الناس فصدقوها وعملوا بمقتضاها، حتى إن أهل تلك النواحي لا يقبرون إلا فيها.
ومنها مقبرة الكثيب الأبيض بأبين، قال اليافعي: (وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب... ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين) (2).
وقد ذكره كذلك الجندي بشيء من البسط فقال: (وقد تطلع النفوس إلى خبر الكثيب: أما الشأن فيه فهو موضع في أبين عدن وهو أحد المواضع المباركة في اليمن على ما ذكر الثقة فيما رواه الرازي مقدم الذكر أن في اليمن أربعة مواضع مباركة بالاتفاق منها الكثيب الأبيض عند وادي يرامس أرض أبين، ومنها الجند، ومنها زبيد، ومنها نجران،ولم يزل الناس ينتابون الكثيب لاسيما في رجب ويجتمعون فيه ليلة سبع وعشرين من الشهر ويزعمون أنها سنة العلماء المتقدمين (3)، سُئل بعض فقهاء تلك الناحية من المتأخرين هل يذكر شيئاً من فضله؟ فقال: لا أعلم إلا أني رأيت وسمعت الإجماع منعقد على قصده وزيارته وما يكون مجاناً عن باطل). (4)
__________
(1) السلوك ( 2/183 ) ، وطبقات الخواص ص( 212 ) .
(2) مرآة الجنان ( 4/ 354 ) .
(3) في الأصل. المتقدمون وهو خطأ .
(4) السلوك ( 2/ 615 ) .(76/395)
ومنها مقابر تريم الثلاث: زنبل، والفريط، وأكدر والتي يجمعها اسم شامل هو " بشار " للثلاث التُربَ، وهذه المقابر قد بلغ فيها الغلو مبلغاً لم تبلغه أي مقبرة أخرى في اليمن، واسمع إلى فضلها من مؤرخ القوم وناشر مناقبهم وفضائلهم بغثها وسمينها وعُجرها وبُجرها المؤرخ الشلي في مشرعه: (وأما مقابر مدينة تريم فأعظمها وأحقها بالتقديم مقبرة " زَنْبَل " بفتح الزاي وسكون النون وفتح الموحدة آخرها لام، وهي مقبرة السادة الأشراف وفيها من العلماء العاملين والأولياء والصالحين ما لا يحصى، وكان الشيخ عبدالرحمن السقاف يقول:" فيها من أكبر الأولياء أكثر من عشرة آلا ف وفيها ثمانون قطباً من الأشراف"، ونحو ذلك حكى عن الشيخ الولي سعد بن علي، ويقال أن فيها عصبة من الصحابة - رضي الله عنهم - أرسلهم الصديق الأكبر - رضي الله عنه - لقتال أهل الردة مع زياد بن عبيد (1) الأنصاري فمات كثيرون منهم بتريم ولم نعرف قبورهم، لكن حكى عن الشيخ عبدالرحمن السقاف أنه قال: إن قبورهم شرقى قبر الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم بنحو رمية حجر، وذلك بقرب مشهد العارف بالله أبي بكر باشميلة - رضي الله عنه - ونفعنا بهم، (وبالجملة) فهي بقعة تأرجت بطيب تربها وأشرقت أرضها بنور ربها.
(الثانية) مقبرة الفريط تصغير فرط وهو كما في القاموس: الجبل الصغير أو رأس الاكمة والعلم المستقيم يهتدي به جمعه أفرط وأفراط سميت باسم الجبل الذي بقربها وهى مقبرة آل بافضل والخطباء وغيرهم من مشايخ تلك الجهة، وفيها أيضاً من العلماء والفضلاء والأولياء ما لا يحصى وحكى عن الشيخ عبدالرحمن السقاف أن فيها أكثر من عشرة آلاف ولى وقد شاهد كثير من أهل الكشف أن الرحمة أول ما تنزل من السماء على هذه المقبرة ثم تعم سائر الجهات.
__________
(1) كذا في الأصل والمعروف زياد بن لبيد .(76/396)
وحكى عن عبدالرحمن السقاف وحكاه السيد الجليل عبد (1) بن أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ الأعظم عن بعض مشايخه بمكة أنهما قالا: إن تحت الفريط الأحمر روضة من رياض الجنة، وحكى عن غير واحد من الأولياء أنه شاهد نوراً ساطعاً على قبور الخطباء لاحقا بعنان السماء، وعن الشيخ حسن الورع بن علي أنه قال: من نظر منارة الجامع والفريط حتى سفر (2) عليه لم يكتب عليه ذنب، وكان بعض الأولياء العارفين يقول:من وقع ظل الفريط عليه لم تمسه النار؛ ولأجل هذا يحرص أهل البلدان على أن تكون مقابرهم حذاء الفريط المذكور حيث يقع ظله عليها.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل.(76/397)
(الثالثة) مقبرة أَكْدَر بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح المهملة فراء، وتسمى هذه المقابر الثلاث "بشَّار" بفتح الموحدة وتشديد المعجمة آخره راء وهو اسم الواقف،لها وهذه المجنات مشهورة بالبركات في كل واحدة منها جم غفير من الأولياء العارفين ظاهرين ومستورين، من آل بصرى وجديد وعلوي، ومن آل بافضل، والخطباء، وآل باحرمي، وآل بامحسون، وآل بامروان،وآل باعيسى، وآل باعبيد، وغيرهم، إلا أن كثيرا منهم لا يعرف عين قبره بل ولا جهته؛ لأن المتقدمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور وإنما استحسنه المتأخرون لأمور منها: أن يعرف الميت هل بُلي أو لا؟ لأن المشهور عندهم أن الميت لا يبلى إلا بعد أربعين سنة أو نحوها، ومنها أن يعرف صاحب القبر ليزار، ويتبرك به، ويدفن عنده أقاربه، ونحو ذلك من المقاصد الحسنة، وكان الشيخ محمد بن أفلح يقول: مِنْ مسجد عبد الله بن يماني إلى آخر زنبل كلها قبور، ومن ثم يقع لكثير من المشايخ أنه يخلع نعليه إذا جاوز المسجد المذكور، وقد كان كثير من أهل الكشف يشاهدون البركات الظاهرة والأنوار الباهرة في هذه الجنان، وشاهد غير واحد منهم أنهم على غاية من النعيم والنور الجسيم، ورأى جماعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورهم، وكذا الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وحكي أن الشيخ أبا سعيد قرأ سورة هود فلما بلغ قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد } (1)، جعل يردد الآية ويتفكر،ثم قال يأهل القبور ليت شعري من الشقي منكم ومن السعيد؟ فأجابه الإمام العارف بالله تعالى أحمد بن محمد بافضل من قبره بقوله: أمض يا سعيد في قراءتك ليس فينا شقي، وقيل إن الذي أجابه هو الشيخ مسعود بن يحيى باحرمي ولعل الواقعة تعددت.
__________
(1) هود ( 105 ) .(76/398)
وحكى عن الشيخ الزاهد الورع السيد حسن بن علي،وكان من أهل الكشف أنه قال: سأل رجل من أهل الفريط رجلاً من أهل زنبل عن أهل مقبرته فقال: خيلنا تحمل رجلنا، وسأله عن أهل مقبرته فقال: زنادقتنا(1) حشو جنتنا.
وللشيخ الإمام علي بن أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف:
وكم بدور بذاك الحي قد برزت تمد زوارها من فيضها الزخر
وكم عز بيته الأسرار قد غمرت بفضل هطالها الزوار كالمطر
وذات دن دنت ترمي يحس بها زوارها في سواد الليل والسحر
وذات أكدر للأكدار مجلية تشفى بمرهمها الزوار عن ضرر
وارجع إلى ذكر وتوحيد ومعرفة خصوا بها صفوة صُفُّوا عن الكدر
وامنحوا من عظيم الفضل كم منح وكم عطايا وكم جود وكم غمر
وكم حقائق توحيد لها وهبوا وكم جواهر أنوار وكم درر
وكم مواقيت أسرار ومعرفة وكم تماكين تصريف وكم قدر
شيوخنا في بحار من حقائقها قد مكنوا الكل بالأسرار والسير
حظوا وخصوا بجاه لا يحد له وسع ولافضلهم يحصى بمستطر
رسوخ أقدامهم يحكي رواسيها أسود نهام تحمي الجار عن ضرر
بحور علم شموس في دياجرها تهدي الضوائل والسلاك في السفر
أئمة الدين آل المصطفى فلهم مكارم عدها يربو على الزهر
وراث طه على التحقيق أن لهم محاسن أدهشت الباب ذي الفكر
أولو الصفا والوفا أجناد خالقهم أولو العبودة حقاً صفوة البشر
هم عمدة الكون أحبار العلوم بهم باهى المهيمن للأملاك في الخبر
فلا مزيد على مدح الإله لهم وذكره فضلهم في الآي والسور
فالقحط عنا مع البلوى يزال بهم أيضاً وفي الجدب نسقي وابل المطر
وهم بدور لنا في كل مظلمة وهم لنا عمدة في اليسر والعسر
قوم إلى الله طاروا عن هياكلهم حق دنوا من رياض القدس والقدر
أهل التقى والنقى طابت مغارسهم فأينعت بثمار القصد والظفر
فحسِّن الظن واعتمد يا أخي بهم كي في معاد تفز بالأمن والوطر
__________
(1) زنادقتنا هنا ليس على أصلها المعروف عند العلماء ولكن المقصود الظرفاء والمهرّجون .(76/399)
واقصد رضى الله في الدنيا بحرمتهم لعل تحظى بحور الخلد والظفر
وقال الشيخ أبو بكر بن عبدالله العيدروس:
في جنان بشَّار خيامهم قد طنبت والأخدار
وكم بها من أقمار(1) تلألأت أنوارهم بالأقطار
وقال: ولم يزل عني الكد ر إلا إذا زرت آل أكدر
وأهل الفريط المشتهر وقبر الشيخ المنور
العيدروس بحر الدرر ليث الضراغيم الغضنفر(2)
فانظر إلى هذه الخصائص والفضائل وما جعل فيها من كرامات ينالها الزوار ويحصل عليها الراغبون، أفلا يحمل ذلك ضعاف العقول على التعلق بهذه المقابر ومَنْ فيها واعتقاد النفع والضر فيهم؟.
وغير مقابر تريم هناك مقابر أخرى في حضرموت مباركة مجربة - هكذا يزعمون -، يقول الشلي: (والمقابر المشهورة في حضرموت أربع: مقبرة تريم، ومقبرة شبام، ومقبرة الهجرين، ومقبرة الغيل الأسفل) (3).
المطلب الثاني: اعتقاد بركة قبور معينة بركة عامة:
لن أستطيع ولن يستطيع أي باحث حصر وإحصاء القبور التي أطُلِْق عليها المدح والثناء، ونسبت إليها البركات، وما يضئ منها من الأنوار، وما يفوح منها من الروائح العطرية والمسكية، وما يتحقق لزائرها من الأنس والارتباط، ثم نجاح الحاجات وتفريج الكربات، إن إحصاء ذلك أمر غير متيسر قطعاً ولكنني سأكتفي بذكر بعض ذلك ومن أماكن متفرقة من اليمن.
__________
(1) في الأصل "قمار".
(2) المشرع ( 1/146 – 148).
(3) المشرع(1/148).(76/400)
وأول تلك الأماكن "زبيد" فقد ذُكر عن كثير ممن قُبِرَ بها من الصالحين الثناء على قبره ونسبة الكثير من الفضائل إليه، وأكثر ما ذكر من ذلك عن قبور بمقبرة "باب سهام "، ومقدمو تلك المقبرة سبعة نفر، قال الشرجي في ترجمة إبراهيم الفشلي: (وقُبره بمقبرة باب سهام،من مدينة زبيد من القبور المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، وهو أشهر السبعة الذين يعتقد أهل زبيد أن من زارهم سبعة أيام متوالية قضيت حاجته، وهم هذا الفقيه إبراهيم والشيخ أحمد الصياد، والفقيه عمر بن رشيد، والشيخ مرزوق بن حسن، والشيخ علي بن أفلح، والشيخ علي المرتضى، وفي السابع اختلاف، فمن الناس من يجعله أحد بني عقامه ومنهم من يجعله الشيخ أحمد المعترض،ومنهم من يقول غير ذلك، والله أعلم) (1).
وقد نظم هؤلاء السبعة بعضهم فقال:
بباب سهام سبعة من مشايخ لقاصدهم ذخر وكنز لمقلل
فيونس إبراهيم مرزوق جبرتي(2) وأفلح صياد كذا ابن الرضى علي
زيارتهم نجح لكل حوائج وفي الخلد سكنى للذى زار مقبل (3)
ولأن هذه مفخرة عند القوم لمدينة زبيد قد تسمو بها على غيرها من المدن لم يرتضِ أهل تريم ذلك، بل عارضوهم بذكر ما في مقابر تريم من فضائل وفضلاء، قال الشلي بعد أن نقل تلك الأبيات: (فعارضه الإمام مبدي العلوم الغريبة والأخبار العجيبة الشيخ على بن أبي بكر فقال:
تريم بها منهم ألوف عديدة بساحة بشار شموس الورى قبل
زيارة كل منهم صح أنها لما شئت من جلب ودفع تحصل
وإن قيل ترياق ببغداد جربا ففي ربع بشار شفا كل معضل
ويا حبذا ذاك الفريط وظله فكم قد حوى من كامل السر منهل
فكم معدن كم مورد كم معظم وكم حبر تحقيق وشيخ مدلل
وبلبل قلبي نفح مسك بزنبل بها من كنوز السر كم من مجلل
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 45 ) .
(2) كذا في الأصل ولست أدري من يعني .
(3) المشرع (1/148)وقد اختلفت بعض الأسماء ولا أراه يضر إذ المقصود إثبات العقائد الضالة في ذلك وليس تعيين الأسماء .(76/401)
وكم جهبذ فيها بنوا كدر بها بهم ينزل الله الغيوث لممحل
فلا تحتقرها رب أشعث خامل سما سره فضلا على كل معضل) (1)
وإليك بعض القبور المفردة التي ذكرت لها بعض البركات والأسرار وتعلق بها الناس واعتقدوا فيها العقائد الضالة:
ومن مدنية زبيد أيضاً: قال الشرجي: (ومن ذلك رجل بمقبرة باب النخل يقال له المُلَبّك، بضم الميم وفتح اللام وتشديد الباء الموحدة وآخره كاف، ما كان يعرف ولا سمعنا به إلا في هذا الزمان، ذكر رجل من عوام أهل زبيد أنه نبهه عليه إنسان وهو في المنام وقال له: إن صاحب هذا القبر من الأولياء وإن من لازمه في حاجة قضيت، وشاع هذا في أهل البلد، حتى صار لهم فيه معتقد عظيم، يزورونه ويتبركون به، لاسيما العوام والنساء فإنهم يخرجون في ذلك عن الحد) (2).
وكذلك يقول الشرجي في ترجمة عثمان بن أبي القاسم بن أحمد بن إقبال: (وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به)، ثم ترجم لولد له وقال في آخر ترجمته: (ودفن عند والده وقبره يزار، ويتبرك به، على تربتهم أنس ظاهر وبركة) (3)، وفي ترجمةإسماعيل بن إبراهيم الجبرتي قال: (ودفن بمقبرة باب سهام من مدينة زبيد، وله هنالك مشهد عظيم لم يكن في تلك المقبرة أعظم منه، عليه أثر النور والبركة ظاهر). (4)
نماذج من القبور المعظّمة في محافظة تعز:
__________
(1) المشرع ص( 1/ 148 ) .
(2) الطبقات ص ( 418 ).
(3) المصدر السابق ص ( 195 ) .
(4) المصدر السابق ص ( 106 ) .(76/402)
قال الشرجي في ترجمة أحمد بن علوان: (ودفن في قريته قرية "يَفْرُس " بفتح الياء المثناة من تحت وسكون الفاء وضم الراء وآخره سين مهملة، وهي على نحو مرحلة من مدينة تعز، وقبره بها ظاهر معروف مقصود للزيارة والتبرك من الأماكن البعيدة لا سيما في آخر جمعة من شهر رجب، فإن أهل تلك النواحي يقصدونه من كل موضع،أهل تعز وغيرهم، ويخرجون بالنساء والأولاد، وقرية الشيخ المذكور محترمة، ومن استجار بها لا يقدر أحد أن يناله بمكروه) (1).
وفي ترجمة الفقيه الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي قال الشرجي: (وقبره بالمقبرة القريبة من مدينة الجند مشهور مقصود للزيارة والتبرك، قال الجندي: " لم أرَ في اليمن تربة تتجدد معرفتها ويكثر زوارها كتربة الفقيه زيد، ولا تكاد تخلو تربته من زائر، وقلما قصدها ذو حاجة إلا قضيت حاجته، قال: ولقد أخبرني جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب بأخبار يطول شرحها في ذلك نفع الله به وبسلفه آمين ") (2).
قلت: هل يقصد الجندي أن ذلك متواتر بالمعنى الاصطلاحي إن كان كذلك فممن أخذ هذا الجمع؟ إنه في الغالب عن جماعة من تجار الخرافة والكرامات.
وفي ترجمة أبي عبدالله محمد بن ظفر الشميري قال الجندي: (وقد بلغتُ تربته قاصداً للزيارة، فأقمت عنده أياماً وإلى جنبه قبر امرأته المذكورة، قال: وببركته لم تزل تربته محترمة ما قصدها أحد بسوء إلا خذله الله تعالى، ولم أجد بتلك الناحية مزاراً أكثر من تربته قصداً للزيارة وقضاء الحوائج التي تطلب من الله تعالى وكثرة النذور وغير ذلك، وفي ليلة الرغائب من شهر رجب يجتمع عندها خلق ناشر قال: وتراب تربةِ الفقيه يشم منه ريح المسك نفع الله به) (3).
__________
(1) المصدر السابق ص ( 71 ) .
(2) الطبقات ص (138 ).
(3) السلوك (2/263 ) وانظر : طبقات الخواص ( 302 ) .(76/403)
قلت: أما رائحة المسك التي تكررت ولا تزال في ترب كثير من المقدسين فإنها لعبة من لعب السدنة، يصبون الروائح العطرية على التراب ليوهموا الزوار بأن ذلك من ريح التربة والقبر المقدس.
نماذج من قبور إب:
منها قبر الشيخ علي بن عمر قال الجندي في ترجمته: (وتربته من الترب المشهورة في البركة واستجابة الدعاء، ومن عجيب بركتها ما أخبرني بعض الثقات من أهل العناية والبحث عن أحوال هذا الرجل وأمثاله أنه كان على قبره شجرة سدر يتبرك بها الناس،ويأخذ أصحاب الحموات من أوراقها يطلون بها رؤوسهم فيبرأون، واستفاض ذلك في جهات كثيرة حتى كان يؤتى لذلك من الأماكن البعيدة، ويُعْتمد في الأمراض الشديدة، ومن عادات أهل إب في غالب الأعياد أن يحصل بينهم وبين أهل باديتهم حروب كثيرة كما هو متحقق فلا يألو من ظفر منهم بصاحبه غير مفكر بالأذية بقتل أو غيره، فحصل في بعض الأعياد حرب انتصر بها أهل البادية فانهزم أهل إب إلى البيوت، ووصل أهل القرية إلى قريتهم ولم يطيقوا دخولها فقال بعض شياطينهم اذهبوا بنا إلى هذه الشجرة التي يعبدونها، ولنعقرها عليهم فلا ينتفعوا بها فنهاهم العقلاء، وأسرع إلى ذلك الجهلاء، فضربوا العلبة بفأس حتى أوقعوها الأرض، وألقى الله بقلوب أهل المدينة القوة والأنفة فخرجوا مسرعين نحوهم فهزموهم هزيمة شنيعة وقتلوا منهم جمعاً أولهم عاقر الشجرة، وحين وقع هبّروه بالسيوف تهبيراً عظيماً، وتعرف هذه التربة بتربة من سمع النداء بالصلاة عليه في الحرم ولم ير المنادي) (1).
ومنها قبر محمد بن عبدالله الهمداني بناحية السحول، قال في ترجمته الشرجي: (وقبره في الرباط المذكور مقصود للزيارة واستنجاح الحوائج) (2).
__________
(1) السلوك ( 1/356-357 ) .
(2) الطبقات ص ( 319 ) .(76/404)
ومنها قبر يحيى بن أبي الخير الإمام المشهور قال الشرجي في ترجمته: (وكانت وفاه الشيخ يحيى بقرية ذي السفال كما قدمنا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وقبره هنالك من القبور المشهورة في اليمن المقصودة للزيارة والتبرك واستنجاح الحوائج، وله عند أهل الجبال كافة مكانة عظيمة، ولهم فيه معتقد حسن،ويروون له كرامات كثيرة، ويتوجهون به في مهماتهم ويستغيثون به في ضروراتهم،وهو كذلك وفوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) (1).
من قبور لحج وأبين:
منها قبر الحسن علي بن الحسن الأصابي قال الشرجي في ترجمته: (تُوفي سنة سبع وخمسين وستمائة بقرية المحْفَد بفتح الميم والفاء وسكون الحاء المهملة بينهما وآخره دال مهملة، وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به، ويوجد منه رائحة المسك خصوصاً ليلة الجمعة، ذكر ذلك الجندي رحمه الله).(2)
ومنها قبر عبدالله بن علي بن حسن بن الشيخ علي، قال الشلي: (ولقي ربه سنة سبع وثلاثين وألف في قرية الوهط الشهيرة، وقبره بها كالشمس وقت الظهيرة مقصود بالزيارات وقضاء الحاجات ونيل المطلوبات ومن استجار به نجا من جميع المخاوف والردى، وعمل الباشا محمد باشا على قبره قبة عظيمة) (3).
من قبور عدن:
منها قبر أبي عبدالله محمد بن عبدالله بن أبي الباطل الصريفي، قال الشرجي في ترجمته: (...حتى توفي بها - عدن – وتربته هنالك من الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ولأهل عدن فيه معتقد عظيم، وله عندهم محل جسيم، وهو فوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) (4).
ومنها قبر الشيخ عبدالله بن أحمد العراقي، قال الشرجي في ترجمته: (ولأهل عدن فيه معتقد حسن، وله هنالك تربة معظمة) (5).
__________
(1) المصدر السابق ص ( 365 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 213 ) .
(3) المشرع ( 2/193 ) .
(4) الطبقات ص ( 283 ) .
(5) المصدر السابق ص ( 419 ) .(76/405)
ومنها قبر الشيخ جوهر بن عبدال له، قال الشرجي في ترجمته: (وتربته هنالك من أكبر الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ومن تعدى إلى ذلك عوقب عقوبة معجلة، وقد جرب ذلك غير مرة، ولم أتحقق تاريخ وفاته - رحمه الله تعالى - ونفع به آمين) (1).
من قبور شبوه:
قبر الشيخ محمد بن عمر الحباني(وهو يقع على مكان مرتفع في المقبرة الحبانية القديمةفوق طين الجديدة وبجانبية بعض أولاده وأحفاده وقبورهم منورة ومقصودة بالزيارة) (2).
قبر الشيخ أبي بكر بن إسماعيل بن محمد بن عمر الحباني (وهو في مجري السيل في شعب الشقب، ويمر الماء من حواليه دون أن يأخذ منه شيئاً، وقد كان أهل البلاد أيام الاستسقاء يتوسلون به إلى الله، ولا يأتي الليل إلا ويأتيهم الغيث بأذن الله، وقد حضرنا هذا مراراً ونحن صغار) (3).
قبر الفقيه علي بن محمد بن عمر الحباني صاحب الحوطه، قال المحضار: (ودفن بجوار المسجد وقد كانت علية قبة وانهد مت) (4)، وقال قبل ذلك (أخبرني الثقة من أهل الحوطة أن السيد الصوفي محسن ابن عبد الله بن عبد القادر المحضار صاحب مرخة جاء إلى الحوطة وكان يزروها دائماً، وليلة دخل إليها بعد العشاء فقدم المسجد بعد أن خرج المصلون، وكان جائعاً ودق على التابوت إلى أن خرج إليه قرص حار ولحمه فأكل نصف القرص واللحمة، ومع الفجر جاء أحد المشايخ الكرام.. وقال للسيد محسن أعطني من عشاء الشيبة فأعطاه النصف الباقي) (5).
من قبور حضرموت:
__________
(1) المصدر السابق ص ( 121 ) .
(2) ما جاد به الزمان من أخبار مدينة حبان تأليف السيد محمد بن عبد الله بن محمد الحوت المحضار بدون تاريخ ولا سنةطبع .
(3) المصدر السابق ص ( 25 – 26 )
(4) المصدر السابق ص( 35 )
(5) المصدر السابق ص( 34 ) .(76/406)
ومنها قبر عبدالله بن شيخ العيدروس، قال الشلي في ترجمته: (وعمل عليه قبة حسنة الباطن والظاهر والنور في أرجائها لائح وباهر) (1)، ومنها قبر الشيخ أبي بكر بن سالم، قال الشلي في ترجمته: (وتربته بها مشهورة كالشمس وسط النهار، تقصده الزوار من جميع الأقطار، بأنواع الأنذار، ومن استجار بقبره المأنوس أمسى وهو محروس، لا يقدر أحد أن يناله ببؤس، وبني عليه قبة عالية البناء عظيمة القدر حساً ومعنى) (2)، ومنها في مدينة الشحر قبر شيخ بن إسماعيل بن إبراهيم السقاف، قال الشلي: (ومشهده في الشحر مشهور وبالأنوار مغمور وبالزيارة معمور) (3)، ومنها قبر الفقيه المقدم، قال الشلي في ترجمته: (وقبر الأستاذ بمقبرة زنبل المشهورة،وبالزيارة والقراءة معمورة، وقبره بها كالبدر ليلة الكمال، وكالشمس وقت الزوال، مقصود بالزيارة من كل البلاد، ويهرع إليه عند النوائب من كل ناد، ويسعى الناس كل يوم لزيارته سعياً حثيثاً، ويستسقى به قديماً وحديثاً، وكان حفيده الشيخ الإمام عبدالله باعلوي كثير الزيارة له وينشد عنده:
يا دار إن غزالاً فيك هيمني لله درك ما تحويه يا دار
لو كنت أشكو إليها حسن ساكنها إذن رأيت بناء الدار ينهار
وكان يقول إذا رآه " كل الصيد في جوف الفراء "وكان الشيخ محمد بن أبي بكر باعباد يزوره كثيراً وإذا رأى القبر الشريف قبله، فقيل له:كيف تقبله وأنت تنهى عن تقبيل القبور فقال ما صبرت عنه) (4).
قبور من نواحٍ مختلفة:
__________
(1) المشرع ( 2/ 177 ) .
(2) المصدر السابق ( 2/29 ).
(3) المصدر السابق ( 2 / 115 ) .
(4) المصدر السابق (2/10-11).(76/407)
فمن كمران قبر الفقيه محمد بن الحسن بن عبدربه، قال الشرجي في ترجمته: (حتى توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة، ودفن إلى جنب مسجده في الجزيرة المذكورة،وتربته هنالك من الترب المشهورة، مشهورة الفضل، وآثار الفقيه وبركته ظاهرة على ذلك الموضع المبارك، وهو مأوى لعباد الله الصالحين المختفين والظاهرين، وقد تقدم في ترجمه الشيخ أحمد الصياد ما يدل على ذلك نفع الله بهم أجمعين) (1).
ومن قبور بلاد الزيدية قبر الإمام المهدي أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم المعروف بأبي طير، قال الأكوع في ترجمته: (وقبره معروف يزار ويتبرك به،وقد اندفع عوام الناس يعتقدون فيه اعتقادات باطلة حتى أخرجوه من آدميته،كما ذكر الإمام الشوكاني في رسالته " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" ص(12) جاء فيها ما يلي:
(وروي لنا أن بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين رحمه الله فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفح في جوانبها، وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى الباب: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين ") (2).
ومنها قبر الإمام يحيى بن حمزة بذمار، قال الإمام الشوكاني في ترجمته: (ومات في سنة 705 خمس وسبعمائة بمدينة ذمار ودفن بها وقبره الآن مشهور مزور، ومما شاع على الألسن أنه إذا دخل رجل يزوره ومعه شيء من الحديد لم تعمل فيه النار بعد ذلك، وقد جربت ذلك فلم يصح، وكذلك اشتهر أنه إذا دخل شيء من الحيات قبته مات من حينه) (3)، ونقل المعلق على الكتاب هذه الأبيات التي كتبت على قبته وهي:
نور النبوة والهدى المتهلهل أرسى كلاكله ولم يتحول
في قبة نصبت على خير الورى وأشرف في الفخار وأفضل
وعلى الإمامة والزعامة والندا والجود والمجد الأثيل الأكمل
وعلى السماحة والرجاحة والنهى وعلى المليك الأوحد المتطول
__________
(1) الطبقات ص ( 278 ) .
(2) هجر العلم ( 2/743 ) .
(3) البدر الطالع ( 2/333) .(76/408)
والعالم المتوحد المترهب المتعبد المتنفل المتبتل
يحيى بن حمزة نور آل محمد لب اللباب من النبي المرسل
كشاف كل عظيمة وملاذ كل ملمة ورجاء كل مؤمل
يا زائراً ترجو النجاة من الردى عن قبره وضريحه لا تعدل
لذ بالضريح وقف به متضرعاً واطلب رضاك من المهيمن واسئل
تحيى بكل فضيلة ووسيلة وتنال خيراً من علو المنزل
شرفت ذمار بقبر يحيى مثلما شرفت مدينة يثرب بالمرسل
فليهنأ أهل ذمار حسن جواره فيما مضى وكذاك في المستقبل (1)
المطلب الثالث: اعتقادهم استجابة الدعاء عند بعض القبور:
تقدم اعتقاد القوم في مقابر معلومة اعتقاداً شاملاً لها كما تقدم اعتقادهم في بعض القبور، وإسباغ الفضائل عليها بدون تخصيص نوع معين من الكرامات التي تدرك لديها، وفي هذا المطلب أذكر إن شاء الله بعض القبور التي قيل أن الدعاء عندها مستجاب،وما دام أن الأمر مخصوص باستجابة الدعاء فإنني سأقتصر على ذكر القبر واسم صاحبه مع المرجع فقط طلباً للاختصار إلا ما رأيت في غير إيراد نص كلام المترجم فائدة فإنني سأذكره.
فمن تلك القبور:
- قبر أبي الخير الشماحي بزبيد ذكره الشرجي (2).
قبر علي بن الحسن الأصابي بأبين (المحفد) ذكره الشرجي (3).
- وقبر محمد بن علي مولى الدويلة بتريم ذكره الشلي (4).
وقبر أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ ذكره الشلي (5).
وقبر عبدالله با علوي ذكره الشلي (6).
وقبر عبد الله بن محمد بن علي صاحب الشبيكة بمكة ذكره الشلي (7).
وقبر عقيل بن عمر أبي المواهب بالرباط قرب ظفار ذكره الشلي (8).
وقبر محمد بن عبدالرحمن السقاف ذكره الشلي في كيفية زيارة مقابر تريم. (9).
__________
(1) المصدر السابق ( 2/333 ).
(2) الطبقات ص ( 84 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 213 ) .
(4) المشرع ( 1/202 ).
(5) المصدر السابق ( 2/47-48 ) .
(6) المصدر السابق (2 / 73 ).
(7) المصدر السابق ( 2/201 ).
(8) المصدر السابق ( 2/205 )
(9) المصدر السابق ( 1/149 ) .(76/409)
المطلب الرابع: اعتقادهم قضاء الحوائج لدى بعض القبور:
ومن تلك الاعتقادات الباطلة التي يعتقدها القبورية في قبور أوليائهم أن صاحب الحاجة إذا لزم تلك القبور قضيت حاجته، وكأنها هي الواهبة لها أو الواسطة فيها، وكلا الأمرين مبني على ولاية أصحاب تلك القبور وما أعطوا من التصرف في الكون والتوسط بين الله وبين خلقه في إعطاء ما ينفع الناس.
فمن تلك القبور قبر محمد بن عبدالله بن يحيى الهمداني،قال الشرجي في ترجمته: (وقبره بالرباط المذكور مقصود للزيارة واستنجاح الحوائج) (1)، ومنها قبر مرزوق بن حسن الصريفي، قال الشرجي: (قلما قصده ذو حاجة إلا وقضيت) (2)، ومنها قبر الإمام زيد بن عبدالله اليفاعي، قال الشرجي: (ولا تكاد تخلو تربته من زائر، وقلما قصدها ذو حاجة إلا قضيت) (3)،ومنها قبر صاحبي عواجة محمد بن أبي بكر الحكمي ومحمد بن حسين البجلي، قال الشرجي في ترجمة البجلي: (وقبره بقرية عواجة إلى جنب قبرصاحبه الشيخ محمد الحكمي، تستنجح بهما الحوائج ويستنزل بهما القطر) (4)، ومنها قبر محمد العيدروس بن عبدالله بن شيخ بالهند، قال الشلي في ترجمته: (ومن زاره بحسن نية وسلامة طوية أعطي سؤاله ونال مأموله ونواله) (5)، ومنها قبر أبي الحسن على بن قاسم العيلف بن هيش بن عمر بن نافع الحكمي،قال الشرجي: (يروى أنه من قرأ عند قبره سورة ياسين إحدى وأربعين مرة لم يقطع بين ذلك بكلام قضيت حاجته كائنة ما كانت، وقد جربتُ ذلك وصح والحمد لله على ذلك) (6)، ومنها قبر أبي الحسن علي بن عبد الملك بن أفلح، قال الشرجي في ترجمته: (وقبره بمقبرة باب سهام من القبور المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك واستنجاح الحوائج والمطالب) (7)، ومنها قبر أبي بكر بن عيسى بن عثمان
__________
(1) الطبقات ص (319) .
(2) المصدر السابق ص ( 339 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 138 ).
(4) المصدر السابق ص( 269).
(5) المشرع ( 1/186 ).
(6) الطبقات ص ( 208 ) .
(7) المصدر السابق ص ( 209) .(76/410)
الأشعري، قال الشرجي في ترجمته: (وقبره هنالك مشهور يزار ويتبرك به، ويروى أن من قرأ عند قبره سورة ياسين (إحدى وأربعين) مرة قضيت حاجته كائنة ما كانت وقد جرب ذلك وصح)(1)، ومنها قبر القاضي أحمد بن محمد باعيسى، قال الشلي وهو يتحدث عن كيفية زيارة مقابر تريم: (كالقاضي أحمد بن محمد بن محمد باعيسى حكي عنه أنه قال: من زارني بنية صادقة وطلب حاجة ضمنت له قضاءها أو كما قال - رضي الله عنه -) (2).
المطلب الخامس: اعتقادهم أن بعض القبور أمان للخائفين:
من القضايا المسلَّمة عند القوم أن بعض من ينسبون إلى الصلاح تظل مقابرهم محترمة مبجلة يأمن فيها الملتجئ إليها سواء كان محقاً في التجائه أو مبطلاً، وسواء كان طالبه والباحث عنه محقاً أو مبطلاً، مادام الاثنان مؤمنين بقداسة تلك البقعة، معتقدين لولاية صاحبها وكراماته التي فيها تأمين اللاجئين إليه، ولكن عندما يأتي من لا يؤمن بقداسة ذلك المحل خصوصاً الطالبين ولا يعتقدون ما يعتقده عامة الأمة فيه فإنه لا يحصل شيء من ذلك، فابن علوان وأبو الغيث بن جميل والعيدروس وعلي بن حسن العطاس وغيرهم كثير قيل في تراجمهم أن تربتهم مأوى اللاجئين وأمان الخائفين من التجأ إليها أمن ومن تعدّى عليها عوجل بالعقوبة، ويحكون حكايات كثيرة فمنها وقائع وقعت لمن تعدى على حرمة تلك الترب حتى قالوا إن علي بن حسن العطاس يحمي الناس من شهر ربيع الأول ولو قبل الوصول إلى مشهده، وذلك بأن يقتل من أقارب المعتدي بعدد الأيام التي مضت من الشهر، فإن مضى يومان وحصل الاعتداء قتل اثنان وإن كان في الرابع منه قتل أربعة وهكذا (3).
إذن فالأمر محقق عند القوم بينما نجد أن هناك اعتداءات (بحسب تعبيرهم) سافرة وقعت لا على الملتجئين إليهم بل عليهم أنفسهم فلم يدفعوا عن أنفسهم ولم يحصل على الجاني أي شيء فما السر؟.
__________
(1) المصدر السابق ص ( 378 ) .
(2) المشرع ( 1/149 ) .
(3) انظر: تاج الأعراس ( 1/209 ).(76/411)
السر والله أعلم عدة أمور:
الأمر الأول: الحالة النفسية لأولئك المتعلقين فهم عندهم الاستعداد النفسي لقبول أي شيء من قبل هذه القبور، وهذا يضعف المقاومة ويهيئ السبيل لوقوع تلك الأحوال التي يعدونها عقوبات لمنتهك حرمة ذلك المقام، وهذا أمر شائع ومعروف،فالمجتمع الذي يكثر الحديث عن الجن ويسرد القصص الكثيرة يصيبه من أذى الجن مالا يصيب المجتمع المُعِْرض عن ذلك الذي لا يلتفت إليه، وكذلك قل في العين والطيرة ونحو ذلك ولعل القرآن أشار إلى ذلك في قول الله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } (1)، فحينما وجد الجن ذلك الضعف من الإنس نحوهم زادوا من أذيتهم.
والأمر الثاني: وجود خدم لبعض الأضرحة من الجن هم كما صرحوا هم بذلك وسيأتي بيان هذا في موضع آخر إن شاء الله.
والأمر الثالث: حيل السدنة ومكرهم ودهاؤهم الذي يجعلهم يفعلون أفعالاً بطرق خفية وملتوية يتوهم من لا يعرف حقيقة الحال أن تلك الأفعال صادرة عن الولي بينما هي من أفعال السدنة.
والأمر الرابع: وجود فئات من القبائل ترى أنها ملتزمة لذلك الولي وذريته وأن حمايته وحماية ذريته واللائذين به من واجباتهم، فهم يقومون بالانتقام ممن أخفر ذمة ذلك الولي أو أحد ذريته أو محبيه اللائذين به، فيقومون بذلك طبيعياً ثم يشاع أنه عقوبة من الولي، بينما نجد أن الذين لا يفكرون في تلك العقوبات والتصرفات المنسوبة إلى الولي لا يضرهم شيء، فالجيش النجدي الموحَّد المتوكل على الله حين هاجم حضرموت ضرب تلك القبب وأزال توابيتها وسواها كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يحصل عليهم شيء، ولم ينتقم منهم أولئك الأولياء بشيء بل عادوا إلى بلادهم سالمين وإن حصل عليهم هزيمة في معركة ما فشأن الحروب فر وكر ونصر وهزيمة والعاقبة للمتقين.
__________
(1) الجن (6) .(76/412)
وكذلك ما فعله الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بقبري ابن علوان وابن العجيل وغيرهما لم يصبه من أثره شيء، وأوضح من ذلك وأقرب ما فعله الشباب المحتسب بعد حرب الانفصال (ربيع الأول 1415هـ) من تسوية القبور المعظمة في عدن ومنها قبر العيدروس لم ينتج عنه شيء عليهم، وهذا كله دليل على بطلان تلك المزاعم وعلى صحة التفسير الذي تقدم والله أعلم.
ومن تلك القبور، قبر عيسى بن إقبال الهتار، قال عنه الشرجي: (ودفن بقرية التريبة بضم التاء المثناة من فوق تصغير تربة، قرية من قرى الوادي زبيد وقبره هنالك مشهور يقصد للزيارة والتبرك من الأماكن البعيدة، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يتعرض له بمكروه، ومن تعدَّى ذلك عوجل بالعقوبة والقرية كلها محترمة ببركته) (1)، ومنها قبر أبي الغيث بن جميل، قال الشرجي: (ودفن بقريته بيت عطاء المشهورة، وتربته هنالك من الترب المشهورة المعظمة قلَّ أن يوجد لها نظير في اليمن، لا تكاد تنقطع من الزوار من كل ناحية، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه من أهل الدولة والعرب وغيرهم) (2)، ومنها قبر أحمد بن عجيل، قال الشرجي في ترجمته: (ومن استجار به سلم من جميع المخاوف بل مَنْ وصل إلى قريته لم يقدر أحد أن يتعرض له بمكروه، وليس للملوك وغيرهم على أهل قريته تصرف ولا ولاية كما في سائر القرى كل ذلك ببركته) (3)، ومنها قبر أحمد بن علوان،قال الشرجي في ترجمته:(وقرية الشيخ المذكور محترمة،ومن استجار بها لايقدر أحد أن يناله بمكروه)(4)، ومنها قبر سفيان بن عبدالله الأبيني، قال الشرجي في ترجمته: (وتربته هنالك من الترب المشهورة المقصودة للزيارة والتبرك، ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه أبداً، ومن تعدَّى شيئاً من ذلك عوقب أشد العقوبة من غير إمهال، وقد جرب ذلك غير مرة) (5)
__________
(1) الطبقات ص( 251 ).
(2) المصدر السابق ص ( 410 ).
(3) المصدر السابق ص ( 63 ) .
(4) المصدر السابق ص( 71 ).
(5) المصدر السابق ص( 149 ) .(76/413)
، ومن تلك القبور في عدن قبر محمد بن عبدالله الصريفي، قال الشرجي في ترجمته:(ومن استجار به لا يقدر أحد أن يناله بمكروه، ولأهل عدن فيه معتقد عظيم وله عندهم محل جسيم وهو فوق ذلك رحمه الله تعالى ونفع به) (1)، ومنها في حضرموت قبة عبدالله بن شيخ العيدروس، قال الشلي في ترجمة سقاف العيدروس: (ودفن بقبة جده عبدالله بن شيخ، وقبره مشهور عند الناس، ومن استجار به أمن من كل بأس) (2)، ومنها كذلك قبر الشيخ أبي بكر بن سالم صاحب عينات، قال الشلي في ترجمته: (ومن استجار بقبره المأنوس أمسى وهو محروس لا يقدر أحد أن يناله ببؤس)(3)، ومنها قبر علي بن حسن العطاس، بالمشهد بحضرموت، قال صاحب " تاج الأعراس " ضمن حكاية ساقها: (قلت: وقول الحبيب هادون لجده الحبيب علي "وهز الرمح " لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة، وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت ويموتون في الحال بإذن الله القائل: "من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب "،لا سيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛لأن الحبيب علي قد جعله عُرضة بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة...الخ) (4)، فهذه عدد من الأمثلة على ذلك الاعتقاد من مواطن مختلفة من اليمن.
المطلب السادس: اعتقادهم بعض القبور متخصصة في قضاء حاجات معينة:
للناس عند زياراتهم لبعض القبور حاجات كثيرة يستغيثون بها من أجل الحصول على الولد والاستسقاء والاستشفاء وسيأتي ذلك تفصيلاً في السطور التالية:.
الحصول على الولد:
__________
(1) المصدر السابق ص ( 283 ) .
(2) المشرع ( 2/139-140 ).
(3) المصدر السابق ( 2/29 ) .
(4) تاج الأعراس ( 1/208-209) .(76/414)
سبق في فروع الاعتقاد بتصرف الأولياء في الكون أن من الناس من يعتقد بأن فلاناً يعطي الولد، وذكرنا هناك أمثلة لذلك وبعض القبور التي يعتقد ذلك في أصحابها، ومن تلك القبور قبر الشيخ القرشي في مقبرة الفريط بتريم حتى أنهم يسمونه صاحب الذرية، وليس الأمر مجرد دعاء عند قبره ذلك ولكن فقط وضع " حصاة " عند القبر (1).
الاستسقاء:
كذلك مرَّ في فروع عقيدة التصرف في الكون أنهم يعتقدون في بعض الأولياء، أنهم ينزلون الغيث وذكرنا أمثلة على ذلك.
ومن القبور التي ذكرناها هناك قبر الشيخ جنيد باوزير صاحب النقعة، وذكرنا قصة علي بن جعفر العطاس وقوله لأهل حريضة: با نجيكم بسيل من عند الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله (2)، كما ذكرت قصة باسليمان واعتماده على الشيخ سعيد بن عيسى العمودي في إنزال الغيث (3)، وذكر الجندي في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أكدر قال: (أخبرني الثقة من أهل تلك الناحية أنهما يزاران ومتى عطش أهل حضرموت واشتد بهم الجهد وصلوا قبرهما واستسقوا بهما فما يلبثون أن يسقوا) (4).
الاستشفاء:
سبق أيضاً في فروع عقيدة التصرف بعض الأمثلة في الاستشفاء، نضيف هنا أمثلة أخرى منها ما ذكره صاحب تذكير الناس: (قال سيدي: ولما خرج الحبيب أحمد بن محمد المحضار من دوعن، لزيارة تريم وعينات، ووادي ابن راشد، بات ليلة بذي أصبح عند السادة آل البحر، فاشتدت الحمى بابنه محمد، حتى غاب عن إحساسه، فأشفق عليه والده منها، فخرج ليلاً إلى ضريح الحبيب حسن ابن صالح، وكان شيخ فتحه، ووقف تجاهه، وقال: وعزة المعبود، إن لم تذهب الحمى من ولدي محمد لأصبح في خشامر، عند بن علي جابر، فلما كان آخر الليل، عرق ابنه محمد وخرجت منه الحمى، وطلب الأكل، وأصبح:كأنما(5) نشط من عقال، وسرحوا من يومهم) (6).
__________
(1) انظر : ص ( 239-241 ).
(2) انظر : ص ( 243 ).
(3) انظر : ص ( 244 ).
(4) السلوك ( 1/462 ) .
(5) في الأصل (كما نما).
(6) تذكير الناس ص ( 220 ) .(76/415)
ومنها ما قاله عبدالقادر العيدروس: (... وذلك أن بعض الأصحاب من أهل حضرموت أهدى لي طيباً فقلت: هلا أهديت لي من تراب قبر سيدي الشيخ سعد بن علي - رضي الله عنه -؟ فإنَّ ذلك عندي من أشرف الهدايا، وأفخر أنواع الطيب، ثم أنشدت في هذا المعنى:
سألت العرفا عن طب دائي فقالوا تراب ذلك الجناب الأقدس
على الخبير سقطت فاغنم داؤك وربي إنه درياق أنْفَسُ
داوني يا سعد وأدرك قبل تِلافي وحقك أنني لك عبد أكيسُ
فأرسل إليَّ من العام القابل قليلاً من تراب ذلك الضريح الشريف في قارورة زجاج ولله الحمد...) (1).
وقد جاء في ترجمة عمر المحضار: (مات - رضي الله عنه - وهو ساجد في صلاة الظهر، يوم الاثنين ثاني عشرة في شهر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وقبره بتريم يزار ويتبرك به، ترياق مجرب يعرف استجابة الدعاء وكذلك مسجده) (2).
المبحث الثاني
ظاهرة البناء على القبور وإسراجها وإلباسها
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القبور المعظمة الثابتة لأصحابها:
أقصد بهذا المطلب إعطاء صورة تقريبية للحالة التي وصل إليها القوم من نشر لمظاهر القبورية على الرغم من النهي الصحيح الصريح عن البناء على القبور واتخاذها مساجد وإسراجها والكتابة عليها ورفعها وإنارتها...الخ، وقد مرّ ذلك كله في الباب التمهيدي.
__________
(1) النور السافر ص( 427 ) .
(2) شرح العينية ص(195 ) ، والغرر ص ( 198 ) .(76/416)
ومع ذلك النهي وتقريره في كتب علماء الإسلام ومنهم علماء الشافعية والهادوية الذين صرحوا إما بالتحريم أو بالكراهة، بل إن ابن حجر المكي -وهو عمدة علماء اليمن الشافعية في الفقه- عدَّ ذلك كله من كبائر الذنوب،ولو أنني فصّلت في هذا المطلب وتتبعت جميع القبور المعظّمة لطال جداً بل لاستغرق مجلداً كاملاً، ولكن الأمر لا يحتاج إلى حشد الكثير من الأدلة لظهور ذلك للعيان واستطاعة كل إنسان أن يرى تلك المشاهد والقباب والقبور المجصصة والشواهد الكبيرة ذات الكتابات الواضحة الحاملة لمناقب ومزايا أصحابها في كل مكان، فما من مدينة أو قرية في اليمن إلا ولها نصيب من ذلك يقل أو يكثر وكلما كانت المدينة أعرق في التصوف والتشيع كان حظها أكبر كزبيد وعدن وتريم والشحر وصعدة وغيرها من المدن والقرى على امتداد الساحة اليمنية.
وحتى يسهل الوقوف على ذلك سوف أستعرض ذلك محافظةً محافظة وليس من شرطي الاستقصاء والإحاطة وإنما إعطاء فكرة فقط كيفما تيسر.
محافظتي الحديدة وزبيد:
وأبدأ من حيث بدأت القبورية وانتشرت وفاقت غيرها وسبقت سواها سبقاً زمنياً وسبقاً من حيث الكثرة والكثافة من " تهامة "،وسأذكر الأسماء فقط دون أي إعتبار للترتيب لا من حيث الزمن ولا من حيث المكان ولا حتى من حيث ترتيب الأسماء على حسب الحروف:
- (أحمد بن موسى بن عجيل / بيت الفقيه) - (إبراهيم بن علي الفشلي/ زبيد)
- (أحمد بن محمد الرديني / قرية عازب الحلى) -(أحمد بن عمر الزيلعي / اللحية) - (إسماعيل بن محمد الحضرمي / الضَّحِى) -(أحمد بن أبي بكر الرداد / زبيد)
- (بكر بن محمد بن حسن بن مرزوق / زبيد) - (إسماعيل بن إبراهيم الجبرتي / زبيد)
- (سليمان بن أبي القاسم الهاجري / المهجم) - (سعد بن محمد العرضي/بيت حسين)
- (طلحة بن عيسى الهتار / التريبة) - (علي بن عبدالله الطواشي / حلى)(76/417)
- (علي بن محمد المعروف بابن الغريب / قرية السلامة) - (علي بن المرتضى الحضرمي / زبيد) - (علي بن الحسين بن رطاس / زبيد) - (عمر بن محمد بن رشيد / زبيد) - (محمد بن أبي بكر الحكمي / عواجة) - (محمد بن حسين البجلي / عواجة) - (محمد بن عمر بن حُشَيبر / بيت الفقيه) (محمد بن يعقوب أبو حربة / وادي مدرر) - (أحمد بن أبي بكر بن يحيى المساوى /حرض) - (علي بن أبي بكر الأجحف / الحرجة) - (عثمان بن أبي القاسم بن أحمد بن إقبال / القرتب) - (مسعود بن عبدالله الحبشي / رمع)
- (أحمد بن عبدالله بن أحمد الصريدح / المدالهه) - (أحمد بن أبي الخير الشماحي / زبيد)
- (عثمان بن هاشم الحجري / بيت حسين) - (محمد بن عمر النهاري / سهام)
- (أبو القاسم بن عثمان بن أبي القاسم / القرتب) - (علي بن قاسم العليف الحكمي/ زبيد)
- (علي بن عبدالملك بن أفلح / زبيد) - (علي بن نوح بن علي الأبوي / زبيد)
- (علي بن أبي بكر بن شداد / زبيد) - (عيسى بن إقبال الهتار / التريبة)
- (عيسى بن حجاج العامري / بيت حسين) - (عيسى بن مطير الحكمي/ بيت حسين)
- (محمد بن عبدالله الحقيص / زبيد) - (محمد بن إبراهيم بن دحمان / زبيد)
- (محمد بن عمر بن محمد بن شوعان / زبيد) - (محمد بن أبي بكر الزوقرى / زبيد)
- (محمد بن أبي بكر بن شييح / العامرية) - (محمد بن أحمد الزجاجي / زبيد)
- (مفتاح بن عبدالله الأسدي / بيت مفتاح) - (مهدي بن محمد المنسكي / المهجم) - (يوسف بن علي الأشكل / وادي سردد) - (محمدبن أبي بكرالأشكل/وادي سردد)
- (أبو بكر بن عيسى بن عثمان الأشعري / زبيد) - (يوسف بن عمر المعتب/ حد القحرية)
- (أبو بكر محمد بن حسان المضري / التحيتا) - (أحمد الجندح / المثينة)
-(أبو القاسم بن محمد السهامي/ زبيد) …… - (عبلة ورزم / زبيد)
- (رجل يقال له ابن سيرين / زبيد) - (الشيخ البكاء / زبيد)
- (أبوبكر السلاسلي / القرتب) - (الملبك /زبيد)(76/418)
- (محمد بن يوسف الضجاعي / وادي رمح) - (الصديق بربش/زبيد)
- (محمد بن عبدالله المؤذن / قرية الغصن من وادي مور) - (محمد بن مهنا القرشي / وادي مور)
- (محمد بن إسماعيل المكدش / قرية الأنفة وادي سهام) - (محمد بن مهنا الشريف / قرية البرزة)
- (محمد بن أبي مليكه / وادي سردد) - (مرزوق بن حسن الصريفي / زبيد)
- (أبوبكر بن محمد بن علي الجندح / حيس) - (أبوبكر بن محمد الحداد / زبيد)
- (الفيروزآبادي صاحب القاموس / زبيد) - (أبو الغيث بن جميل / بيت عطاء)
- (قراء ياسين العشرة / زبيد) - (الشيخ يونس / زبيد)
- (الحجب / التريبة) - (عمر بن أبي القاسم الخزان / القطيع)
- (الشيخ صديق / الحديدة) - (علي بن عمر الأهدل / المراوعة)
- (الساكت / القطيع) - (المقدم / القطيع)
- (حباك الماء/ التريبة) - (أحمر العين / المنيرة)
- (الشيخ أدهل / الزيدية) - (حامي الحمى / القناوس)
- (سود بن الكميث / الفاشق) - (طاهر أبو الغيث / حرض)
محافظة تعز:
- (أبو العباس أحمد بن محمد الصبعي / سهفنه) - (محمد بن عبدالله بن الخطيب / موزع)
- (عبدالملك بن محمد بن أبي ميسرة اليافعي / الجوه) - (السروي / منطقة جبا)
- (أحمد بن محمد الشكيل / المخلاف) - (أحمد بن محمد الجماعي / سهفنه)
- (عبدالرحمن بن عقيل بن محمد صاحب المخا / المخا) -
- (الواسطي / الجند) - (محمد بن ظفر الشميرى/ الجند)
- (أبو السرور بن إبراهيم / الدملوة) - (الشيخ سلمان / حبيل سلمان تعز)
- (عفيف الدين سليمان بن عمر / تعز) - (أحمد بن علوان / يفرس)
- (زيد بن عبدالله اليفاعي / الجند) - (علي بن أحمد الرميمة / صبر تعز)
- (علي بن عمر الشاذلي / المخا) - (عمر بن عبدالرحمن / صاحب الحراء)
- (أحمد بن محمد الضبعي / سهفنه) - (محمد بن عبدالله الخطيب / موزع)(76/419)
- (أبوبكرمحمد بن ناصر الحميري/ الذنينتين قرب الجند) - (الحساني / جبل حيشي) - (عبدالله بن محمد العباس الحجاجي الشاكري / الجند) - (ابن ردمان / الصراهم) - (علي بن يوسف صاحب المجرية/ جبل شمير).
محافظة إب:
- (الحسين بن محمد بن الحسين السحولي / السحول) - (عمر بن عبدالرحمن بن حسان / الذهوب)
- (أبو موسى عمران الصوفي / جبلة) - (يحيى بن أبي الخير العمراني / ذي السفال)
- (علي بن أبي بكر التباعي / المخادر) - (عمر بن سعيد الهمداني / ذي عقب)
محافظة لحج والضالع:
- (عبدالله بن علي بن حسن بن الشيخ / الوهط لحج) - (سفيان بن عبدالله / سفيان لحج)
- (عبدالله بن حسن الجوهري / المحلة لحج) - (عمر بن علي/ الوهط)
- (حسن البحر / الحمراء لحج) - (طهرور / قرية طهرور)
- (بهية بنت موسى / عيديد لحج) - (موسى بن حسين / الجفاية لحج)
- (مزاحم / لحج) - (سعيد بن عيسى / مقيبرة لحج)
- (علي بن زين/ الشرج) - (عبدالله بن حسن الجوهري / المحلة)
محافظات عدن وأبين وشبوة:
- (ريحان بن عبدالله العدني / عدن) -(علي بن حسن الأصابي / المحفد أبين)
- (عبدالله بن محمد بن عبدويه / كمران) - (أحمد بن علي الحرازي / عدن)
- (أحمد بن محمد بامعبد / رضوم شبوة) - (محمد بامعبد / عين بامعبد / شبوة)
- (جوهر بن عبدالله الصوفي / عدن) - (علي بن أحمد بن قيدار القريضي / عدن)
- (أبو بكر بن عبدالله العيدروس / عدن) - (أبان بن عثمان بن عفان / عدن) (1)
- (العثماني / الشيخ عثمان عدن) - (الهاشمي / الشيخ عثمان عدن)
محافظة حضرموت:
__________
(1) قال بامخرمه في تاريخ ثغر عدن : ( وأظنه أبان بن عثمان بن عفان ) ص(33) طبع دار الجيل بيروت – ودار عمار الأردن، تحقيق علي بن حسن عبد الحميد .(76/420)
هي أكبر المحافظات تلوثاً بالقبورية بعد تهامة،بل ربما زادت على تهامة خصوصاً هذه الأيام فإن حركة إحياء القبورية فيها قائمة على قدم وساق في شتى مناحيها من حيث إشادة وترميم المشاهد وإحياء الزيارات والشعائر القبورية، ونشر كتب الخرافة والدجل،وتأليف الرسائل لتأصيل تلك الخرافات أوالرد على المعترضين عليها.
- (عبدالرحمن بن محمد يعرف بـ " سقاف العيدروس " / تريم) - (أبو بكر أكدر / تريم)
- (عبدالله بن عبدالرحمن الشهير بالنحوي/ روغه) - (عبدالله بن أبي بكر العيدروس / تريم)
- (عبدالله بن شيخ بن عبدالله العيدروس / تريم) - (عبدالرحمن السقاف / تريم)
- (أبو بكر بن سالم صاحب عينات / عينات) (1) - (محمد بن علي الفقيه المقدم / تريم)
- (أحمد بن حسين بن عبدالله العيدروس / تريم) - (أحمد بن محمد الشهير بالحبشي / الحسيسة)
- (أحمد بن الأستاذ الأعظم / العجز) - (حسين بن عبدالله العيدروس / تريم)
- (محمد بن حسن المعلم أسد الله جمل الليل / تريم) (سالم بن بصرى / تريم)
- (أحمد بن عبدالرحمن المشهور بـ(شهاب الدين/تريم) - (محمد بن علوي بن أحمد بن الأستاذ / تريم)
- (عبدالله باعلوي / تريم) - (حسن بن علي بن محمد مولى الدويلة/ تريم)
- (علوي بن الأستاذ الفقيه المقدم / تريم) - (عبدالله بن الأستاذ الفقيه / تريم)
- (علي بن محمد صاحب مرباط / تريم) - (محمد بن عبدالله باعلوي / تريم)
- (علي بن عبدالله باعلوي / تريم) - (محمد بن علي عيديد / تريم)
- (علي بن علوي خالع قسم / تريم) - (الشيخ عمر المحضار / تريم)
- (علي بن أبي بكر السكران / تريم) - (حسن الورع / تريم)
- (سالم بن فضل / تريم) - (فضل بن محمد بافضل / تريم)
- (أحمد بايحيى واسع وعمه / تريم) - (إبراهيم بن يحيى بافضل / تريم)
__________
(1) هذه البلدة تحتوي على عدد كبير من الأضرحة أشهرها سبعة ولها قداسة ومكانة عظيمة عند قبورية حضرموت ) .(76/421)
- (أبو بكر بن الحاج / تريم) - (علي بن أحمد بامروان / تريم)
- (علي بن عمر القرشي / تريم) - (أحمد بن محمد بافضل / تريم)
- (علي بن محمد الخطيب / تريم) - (عبدالرحمن بن يحيى الخطيب / تريم)
- (أحمد بن علي الخطيب / تريم) - (أحمد بن محمد بن أبي الحب / تريم)
- (سعيد بن علي بامدحج / المشهور بالسويني / تريم) - (يحيى بن سالم بافضل/ تريم)
- (محمد الغريب / تريم) - (القطب عبدالله بن علوي الحداد / تريم)
- (محمد بن علي خرد / تريم) - (محمد بن علي مولى الدويلة/تريم)
- (أبوبكر بن عبد الله الشهير بالإمام / تريم) - (أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الأستاذ/تريم)
- (عباد بن بشر الصحابي رضي الله عنه / القرية) - (أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله / الحسيسة)
- (سلطانه بنت علي الزبيدية / حوطة سلطانه قرب سيئون)
- (علي بن محمد الحبشي / سيئون) …… - (عمر بامخرمة / سيئون)
- (عيدروس بن عمر الحبشي / الغرفة) - (أحمد بن زين الحبشي / حوطة أحمد بن زين)
- (الحسن بن صالح البحر / ذي أصبح)… - (أحمد بن عبد الله القديم باعباد / الغرفة)
جرب هيصم مقبرة شبام تحتوي على عشرات القبور المعظمة والقباب والمشاهد.
- (الهدار / القطن)
- (وفي بلد النقعه بالقرب من حورة قبر الشيخ جنيد باوزير)…- (وقبر الشيخ علي بن سالم باوزير)
وأما حريضة ففيها عدد كبير جداً من القباب والمشاهد على قبور آل العطاس منها:
قبر السيد عمر بن عبد الرحمن العطاس …، وقبر طالب بن حسين العطاس، وقبر أبي بكر بن عبد الله العطاس، وقبر أحمد بن حسن العطاس وغيرهم.
وفي وادي عمد أكثر من عشرين قبراً معظماً أشهرها: صالح بن عبد الله العطاس، وصالح بن عبد الله الحامد، وقبر عمر بن حسين العطاس بنفحون.
ثم بقية قرى الوادي لا تكاد قرية واحدة تكون خالية من قبة أو مشهد أو قبر مجصص يزار في السابق، ولدي قائمة بأكثر تلك القبور آثرت عدم كتابتها للاختصار.(76/422)
وهناك مناطق لم تذكر وقبور كثيرة تركتها كذلك حيث القصد التمثيل وليس الحصر.
الباب الثاني
آثار القبورية
ويشتمل على مدخل وأربعة فصول
المدخل
وفيه بيان نشأة العقائد الضالة عن الغلو في الصالحين
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون.
المبحث الثاني: عقيدة الرجعة وإمكان الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة.
المبحث الثالث: الاعتقاد بحياة الخضر واللقاء به.
سبق في الباب التمهيدي تعريف القبورية وأنها(طائفة غلت في أصحاب القبور واعتقدت فيهم عقائد ضالة، حملتها على تعظيم قبورهم وآثارهم،والتقرب إليهم بأنواع من العبادات حتى صيّرتهم أنداداً لله تعالى).
فهذه الطائفة أهم سماتها الغلو وهو مجاوزة الحد في هؤلاء الناس الذين زَعَمَتْهُم أولياء لله تعالى،مما نتج عنه عقائد ضالة، بعض هذه العقائد شرك وبعضها دون ذلك،وبناءً على تلك العقائد نشأ تعظيم القبور والآثار المنسوبة إلى أولئك الأولياء، وبهذا التعظيم غرست بذور من بذور القبورية في نفوس هؤلاء القبورية ومقلديهم من العوام، مثل المحبة والخوف المتجاوزَيْن حدود الطبيعة الذَين أوجبا التذلل والانكسار أمام هؤلاء الأولياء أحياءً وأمواتاً، وحملا على التقرب إليهم بما لا يُتقرب به إلا إلى الله سبحانه من النذر والذبح والطلب منهم ما لا يجوز طلبه إلاّ من الله تعالى وهو الدعاء، وبناءً على كل ذلك نشأت في الأمة أمراض فتاكة مثل السحر والكهانة والدجل والخرافة والتمايز الطبقي وتجهيل الأمة.(76/423)
من هذا المنطلق سيكون تناولي لآثار القبورية، وهناك آثار كثيرة لن أتكلم عنها لضعف أو خفاء ارتباطها بالقبورية التي حددتُ معالمها في هذا التعريف، والتي قد يكون لها بواعث أخرى غير الغلو في أصحاب القبور،ومن أمثلة ذلك عقيدة وحدة الوجود وإضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الصوفية والسماع الصوفي، فهذه الثلاثة النماذج وغيرها قد يتطلع القارئ لبحثها ودراستها ولكنني لن أخوض فيها لخروجها عما رسمته وحددته لنفسي، ولضيق المساحة المحددة لهذا البحث.
الفصل الأول
عقائد القبورية الضالة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عقيدة القطبية والتصرف في الكون
وفيه أربعة مطالب
المطلب الأول: تعريف القطب:
قال الجرجاني في تعريف القطب: (وقد يسمى غوثاً باعتبار التجاء الملهوف إليه وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم, وزنه يتبع علمه، وعلمه يتبع علم الحق،وعلم الحق يتبع الماهيات الغير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها).(1)
__________
(1) التعريفات ص ( 177 – 178 ) .(76/424)
هذا هو القطب، وهو مأخوذ عن الإسماعيلية كما سبق عن ابن خلدون(1)، والإسماعيلية أخذته عن الفلاسفة، وما النفس الناطقة إلا إحدى مراتب الألوهية عند الفلاسفة.
المطلب الثاني: اعتماد ما تقرر من تعريف القطب عند قبورية اليمن:
ما اشتمل عليه تعريف القطب السابق هو ما اعتقده صوفية اليمن ودانوا به، يقول اليافعي(2) بعد أن ذكر حديث الأبدال الموضوع: ((وله واحد قلبه على قلب إسرافيل)) قال: (والواحد المذكور في هذا الحديث هو القطب، وهو الغوث ومكانته من الأولياء كالنقطة من الدائرة التي هي مركزها به يقع صلاح العالم)(3).
وقال الحداد: (والقطب الغوث هو: إمام الأولياء أهل الدائرة والتصريف، وهم المعدودون في الأخبار والآثار الواردة فيهم). (4)
__________
(1) هو المؤرخ المشهور وواضع علم الاجتماع عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الاشبيلي توفي سنة ( 808هـ ) اشتهر بالتاريخ الذي سماه العبر وديوان المبتدئ والخبر ومقدمته التي تعد من أصول علم الاجتماع ، ترجم نفسه في آخر التاريخ وترجمه الكثير من الباحثين ، انظر ترجمته في أخر كتاب التاريخ ( 7/365 ) وما بعده ، والضوء اللامع للسخاوي ( 4/145 ) ، الأعلام للزركلي ( 3/330 ) ،انظر : مقدمة التاريخ طبعه دار إحياء التراث العربي .
(2) عبد الله بن أسعد اليافعي توفي سنة ( 786هـ ) أحد أقطاب صوفية اليمن فقيه مؤرخ صاحب كتاب روض الرياحين في ذكر حكايات الأولياء والصالحين ومرآة الجنان في التاريخ،انظر : طبقات الخواص ص ( 162 ) ، البدر الطالع ( 1/378 ) .
(3) روض الرياحين في حكايات الصالحين ص ( 16 ) تأليف عبد لله بن أسعد اليافعي ، وبذيله عمدة التحقيق في بشائر الصديق للشيخ إبراهيم العبيدي المالكي ، نسخة مصورة بدون تاريخ .
(4) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص (148)لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى(1414 هـ -1993 م ).(76/425)
وتلك الصفات التي يتحلى بها القطب قد أسبغها قبورية اليمن على أوليائهم، وبهذا وصف الشيخ علي الأهدل صاحبي عواجة البجلي والحكمي فقال أثناء حكاية ساقها الشرجي عن اليافعي في بعض مصنفاته: (يا أبا الغيث هذان في مقام التولية والعزل، يوليان ويعزلان ويميتان ويحييان بإذن الله تعالى وسوف أرثهما وترثني أنت) (1).
وبذلك وصف محمد بن أحمد باجرفيل الدوعني أبابكر العيدروس حينما استفسره محمد بن عمر بحرق عن تصرفات مالية تصرفها العيدروس على غير الوجه الشرعي فقال: (أنا أشهد أنه أمير المؤمنين المالك للتولية والعزل والحل والعقد والتصرفات كلها، وأشهد أنه أفضل أهل الأرض ظاهراً وباطناً) (2).
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 266 ) .
(2) مواهب القدوس في مناقب العيدروس ضمن المجموعة العيدروسية ص ( 14 ) .(76/426)
ووُصف بها الشيخ عبدالرحمن السقاف، قال عبدالرحمن الخطيب: (الحكاية السابعة والثلاثون بعد الثلاثمائة وهي السادسة والتسعون من مناقب السقاف - رضي الله عنه - عن عبدالرحيم بن علي الخطيب -رحمه الله تعالى - قال:كنت يوماً في مجلس شيخنا الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - فتكلم الشيخ في الشيخ أبي الغيث بن جميل اليمني (1) ثم قال في أثناء مدحه:أتى فقهاء اليمن إلى الشيخ أبي الغيث وقالوا له: يا أبا الغيث ما عرفنا إيش مذهبك أخبرنا إيش مذهبك أنت شافعي أم مالكي أم حنبلي أم حنفي؟ فقال لهم: (لا أنا شافعي ولا مالكي ولا حنبلي ولا حنفي، فقالوا له: (فإيش أنت فقال:جنداري من جنادرة السلطان،ثم سكت الشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه - ساعة ثم همز نفسه ومد يديه في الهواء وقال بأعلى صوته: أنا جنداري من جنادرة السلطان، قال عبدالرحيم ثم بعد ذلك بأيام قلت للشيخ عبدالرحمن - رضي الله تعالى عنه -: وما جنداري السلطان، فقال: ما هذا معناه، هو الذي يدخل على السلطان من غير إذن ولا عليه حجاب، ويأمر وينهى ولا أحد يعارضه فيما يريد، وإذا دخل بلداً أو مكاناً لم يبق لأحد معه من أهل تلك الديار والمكان أمر لا أمير ولا وزير ولاغيرهما، بل الأمر أمر الجنداري والحكم حكمه ما شاء فعل ولا معقب لأمره ولا مرد له...)(2).
قلت:وقبل هذه الحكاية حكايات أخرى ساقها صاحب الجوهر فيها تأكيد وشواهد على ما تضمنته هذه الحكاية من اعتقاد القطبية للسقاف التي تجعله في مقام التصرف التام والتولية والعزل.
__________
(1) توفي سنة (651هـ ) انظر هِجَر العلم ( 1/219 ) ، السلوك ( 1/184 ) .
(2) الجوهر الشفاف (1/81-82) .(76/427)
وإليك نص حكاية منها، وهي الحكاية الخامسة والثلاثون بعد الثلاثمائة عن عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف(1) قال: (كنت نائماً أظنه قال في مسجد مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال:فلم أشعر إلا برجل من الصالحين قد وكزني برجله فرفعت رأسي فقال: ما أجرأك تنام هنا وبطن أبيك ملانة كرعان (2) [ كم واحد قال سلبه ثم ولى عني ولم أعرفه فسأل الشيخ عمر - رضي الله عنه - عن معنى قول الرجل بطن أبيك ملانة كرعان ](3) فقال أخذ الخلق كلهم في بطنه يولي من يشاء ويعزل من يشاء رضي الله تعالى عنه)(4).
وقال أحمد بن حسن العطاس في أثناء حكاية (فقال: إني صاحب الوقت وأتصرف في أهله وأنت فلان ابن فلان، وإن كنت تريد أن تنظر إلى بلدكم تريم فأدخل رأسك في كمي فبهت من ذلك ولم أفعل، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الباشا بأن يقوم؟ وكان جالساً في الحرم فبمجرد قوله ذلك قام الباشا وأتباعه وذهبوا خارجين من الحرم، فلما قاربوا الخروج منه قال لي: أتريد أن أتصرف فيه بأن يرجع فيطوف؟ فبمجرد ذلك رجع هو وأتباعه وطافوا، ثم قال لي: أتريد أن أتصرف في قلب الشريف عبدالمطلب بأن يرجع الخمسة الديواني فتسلك في السوق وتمشي؟ فبمجرد قوله ذلك نادى المنادي بأعلى صوته يقول لكم الشريف عبدالمطلب لايمتنع أحد من الخمسة الديواني).(5)
__________
(1) نقيب العلويين في زمانه وأحد أشهر أقطاب حضرموت توفي سنة( 833هـ ) انظر الغرر ص ( 192 ) ، المشرع ( 2/241 ) .
(2) هي قوائم الدابة انظر القاموس مادة كرع ص( 980 ) .
(3) ما بين القوسين من الحاشية معلم عليه أنه ساقط من الأصل .
(4) الجوهر الشفاف ( 2/80 ) .
(5) تذكير الناس ص( 216 )(76/428)
فانظر إلى هذا الذي إن صدق النقل عنه فهو ساحر كيف يدعي هذه الرتبة من مراتب الأولياء عند الصوفية وأنه يتصرف حتى في قلوب الناس ومقاصدهم ويحملهم على فعل ما يشاء دون اختيار منهم، وكيف يقص هذا العالم القدوة من علماء صوفية حضرموت لأتباعه ومريديه هذه القصة مسلماً بها مريداً منهم أن يصدقوها ويعتقدوها، أليس هذا هو التطبيق العملي لعقيدة القوم في القطب الذي مر تعريفه؟
المطلب الثالث: التصرف في الكون أهم وظائف القطب:
اتضح من تعريف القطب بأنه هو المفوَّض من قبل الله تعالى في التصرف في الكون،وربما أطلقوا على مرتبة القطبية (الخلافة العظمى)(1)، والمعنى: أن يكون القطب خليفة الله تعالى في تصريف الكون.
ولمعرفة ما يشمله ذلك التفويض لدى القوم نذكر بعض النصوص من كتبهم تبين سعة ذلك التفويض وشموليته من حيث الزمان والمكان ومن حيث الدنيا والآخرة.
__________
(1) أنظر مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية ( 2/ 619 ).(76/429)
نقل السيد علي بن محمد الحبشي(1) -أحد أقطاب حضرموت- على سبيل الإقرار والاستحسان عن عبدالعزيز الدباغ قوله: (إن تصرفي يصل حتى إلى الجنان، وإن الحور ما يفعلن شيئاً إلا بأمر مني)، وكان يقول لمريده:(إن كنت تعتقد أن الْبِسَّ في جميع أقطار الأرض يأكل الفأر بغير إذن مني فما أحسنت الأدب معي)، ثم يعقب الحبشي على ذلك فيقول: (انظر إلى هذا الفناء العظيم وأين اليوم هذا الاعتقاد) (2).
فانظر إلى هذه الدعوى التي شملت التصرف في الدنيا والآخرة وجميع أقطار الأرض وجميع العوالم من عالم الحور العين إلى عالم الْبِسَّ والفأر.
__________
(1) علي بن محمد الحبشي العلوي الحضرمي صاحب سيؤن ومنشئ رباط العلم بها المسمى باسمه "رباط الحبشي " من أشهر علماء زمانه ومربي جيله تتلمذ عليه الكثير من الطلاب الذين نبغوا وأصبحوا من العلماء والأدباء غير أنه مع علمه قد نقل عنه من الخرافات والهذيان مالا مزيد عليه وذلك ما حواه كتاب كنوز السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية كتبه من إملائه تلميذه محسن بن عبد الله السقاف وهو أيضاً صاحب زيارة الحول المشهورة بحضرموت توفي رحمة الله سنة ( 1312هـ ) انظر تاريخ الشعراء الحضرميين ( 4/128 ) تأليف المؤرخ عبدالله بن محمد السقاف الناشر مكتبة المعارف الطبعة الثالثة سنة (1418هـ) الطائف ، ولوامع النور( 1/197 ) .
(2) كنوز السعادة الأبدية ص ( 179 ) الذي قام بطبعه علي بن عيسى الحداد .(76/430)
وإليك صورة أخرى للتصرف الشامل في الحياة وبعد الموت، قال الشلي: (وقال بعض العارفين: الفقيه المقدم تصرف على المشايخ الذين تصرفوا بعد موتهم كتصرفهم في حياتهم وهم القطب الرباني الشيخ عبدالقادر الجيلاني والشيخ معروف الكرخي والشيخ عقيل المنبجي وحيوة بن قيس) ثم استشهد على ذلك بهذه الأبيات لمحمد بن علي خرد باعلوي(1) صاحب الغُرر:
تصرّف شيخ في الوجود معظّم ٌ على السادة الأشياخ أهل المعارف
على السيد الشيخ الفتى عبد قادر ومعروفٍ الكرخي منجٍ لتالف
وقيسٌ عقيل المنبجي وشيخنا لتصريفه لا يصرفون الصارف
وتصريفهم في كل شيء محقق سوى في جمال الدين عين لواقف (2)
وتأكيداً لذلك تجدهم في الحضرات وبعض الموالد ينشدون إلى اليوم:
ربي اسألك باسرار الفقيه المقدم والذي قد حوى التصريف من قبل آدم
ويقول صاحب شرح العينية: (وكان سيدنا الفقيه من الممكنين في التصريف بعد موتهم، قال المشايخ العارفون: ما صلينا على جنازة إلا والفقيه محمد بن علي بعد موته يصلي معنا عليها)(3)،فانظر الشمول الزماني لهذا التصريف من الأزل إلى الأبد! بل زاد في الأنموذج اللطيف أن قال بعد ما ذكر صلاته على الأموات بعد موته: (فلا شك أنه ممن صلى على نفسه بنفسه)(4)
__________
(1) صاحب غرر البهاء الضوي توفي سنة ( 760هـ ) انظر ترجمته في الغرر ص ( 3-11 ) ، وتاريخ الشعراء الحضرميين ( 1/142 ) .
(2) المشرع الروي ( 2 / 6 - 7 ) ، وقال بعد أبيات ( قوله : وقيس صوابه حيوة ).
(3) شرح العينية ص ( 161 ) نظم عبدالله بن علوي الحداد تأليف العلامة أحمد بن زين الحبشي باعلوي طبع مطبعة كرجاي المحدودة سنغافورة ، الطبعة الأولى ( 1407هـ - 1987 م ).
(4) الأنموذج اللطيف في مناقب الغوث للأستاذ الأعظم الفقيه محمد بن علوي باعلوي دفين تربة تريم ص ( 213 ) مع البرقة المشيقة للسيد علي بن أبي بكر السكران طبع في مصر سنة (1347هـ) .(76/431)
وفي مناقب عبدالرحمن السقاف يقول محمد بن علي خرد: (ومنها ما روي عن السيد عبدالرحمن بن علوي بن محمد بن الشيخ المذكور، قال كنت في عدن، وقد أصابني في عيني وجع، ولقيت الفقيه العالم القاضي محمد بن سعيد كبن، وأريته إياها وكان عارفاً بعلم الطب، وقيل،إنه كان يعرف اثني عشر علماً سوى العلوم المتداولة بين الناس معرفتها، ما يسأله أحد عن شيء منها، وقلت له يافقيه: أعطني لها دواء، فلما نظرها قال: (هذا مرض تسميه الأطباء الماء الأخضر وليس عندنا دواء حتى يكمل عماؤها، وإن أردت لها دواءاً قبل ذلك دللناك عليه فقلت: ما هو؟ فقال: اقصد جدك الشيخ عبدالرحمن، وقل له: يسلم عليك محمد بن سعيد كبن، وقل له: في عيني وجع أريدك تزيله بإذن الله فإنه يزول، فقلت له: تحولني على ميت؟ فنهض من مقعده وارتعش، ثم قال: والله،ثم والله ثم والله، إني أعتقد في الشيخ المذكور أنه يتصرف في مماته، كتصرفه في حياته،وأنه انتقل إلى الآخرة ولم تنتقل دولته، وفي رواية عن الفقيه الولي الصالح الشيخ سهل بن عبدالله باقشير،ما أخبرني عنه السيد شيخ بن عبدالله بن الشيخ عبدالرحمن، قال: لما رأى الفقيه عين عبدالرحمن رآها عمياء لكتيبة حصلت فيها هذا من أمر القدرة ما يزيل أمر القدرة إلا أهل القدرة، وجدك من أهل القدرة فأحاله عليه،فقال عبدالرحمن: ثم بعد مدة رأيت الشيخ في المنام على سرير فقلت له: إن الفقيه ابن كبن قال لي إنك تتصرف بعد وفاتك كتصرفك في حياتك، فأخذ بإذني وقال لي: (أنا ابن محمد بن علي، ما تصدق إلا إن قال: لك ابن كبن؟ أنا كذلك وأزْيَد وأزْيَد، - رضي الله عنه - ونفع به)(1)، فهذا لا يقتصر على التصرف في الكون في حياته وبعد مماته بل هو كذلك وأزيد وأزيد) ولا أدري ما هو الأزيد من ذلك؟!.
__________
(1) الغرر ص ( 398 ).(76/432)
وهناك مثال عملي للتصرف في الكون مع تأويل له من أحد كبار أقطاب صوفية اليمن: (من عجائب الآيات وغرائب الكرامات ما وقع بين الشيخين العارفين السيفين القاطعين أعني أبا عيسى واسمه سعيد وأحمد ابن أبي الجعد المذكورَين، وذلك أنه ورد الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيخ سعيد في وقت جاءوا إلى زيارة القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بدا للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت ويزور في وقت آخر، فرجع هو وأصحابه إلى موضعهم واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد:بلى قد توجه عليك الحق فقم وأنصف، فقام الشيخ سعيد وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومَنْ أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي الله تعالى عنهما.
وهذه لعمري أحوال تَكِلُ في جَبِّ بعضها السيوف القاطعة، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي، فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر والله أعلم.) (1).
ومنهم من يدَّعي ذلك لنفسه كما قال الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات:
(أنا أعزل أنا اللي ولي أنا شيخها قاضيها)(2).
__________
(1) مرآة الجنان لليافعي ( 4/ 352-354 ) .
(2) من قصيدة شهيرة للشيخ المذكور ما زالت متداولة إلى اليوم ينشدها الصوفية في موالدهم وحضراتهم وضمن مولد الديبعي ص ( 93 - 95 ).(76/433)
وقال أحمد بن حسن العطاس قال: (فزعت مرة من أحد الناس فلما جئت إلى الحبيب أبي بكر بن عبدالله قال لي: لا تخف من حي ولا من ميت عاد المفاتيح إلا كلها بيدي)،وقال أيضاً: (قال الحبيب أبوبكر بن عبدالله انسدحت مرة في بندر الشحر في مسجد الحبيب أحمد بن أبي بكر بن سالم بعد صلاة الصبح فأتوا بشيء كالبيضة وفيه شيء ونكتوه عند رأسي فإذا هو مختلف الألوان الأبيض والأسود والممتزج فقلت: لعله عالم الذر قال: نعم، فقلت لعله لما ولوكم عليه؟ قال: نعم)(1)، وهذا واضح أن الرجل يدّعي أنه بيده مفاتيح الكون ولا أحد يقدر على عمل شيء بغير إذنه هذا في الحكاية الأولى، وأما الحكاية الثانية ففيها أنه ولي على عالم الذر أي الخلق الذين لم يخرجوا إلى الحياة بعد.
وقضية القطبية واعتقادها عند أهل اليمن مبثوثة في كتبهم فلا يكاد أحد من كبارهم لا يوصف بها،حتى لقد قال عبدالرحمن بن محمد السقاف باعلوي (2): (في تربة تريم ثمانون قطباً كلهم أشراف - رضي الله عنهم -) (3) فهؤلاء فقط في تربة تريم، فكم في باقي ترب اليمن، والسقاف توفي عام (819 هـ) فكم جاء بعده من الأقطاب، وهذا كله في اليمن إلى ذلك التاريخ فكيف ببقية بلاد الله منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا، لاشك أن عدد الأقطاب لا يمكن أن يأتي عليه الحصر رغم أنهم يقولون إن القطب واحد فقط ولا يولي غيره حتى يموت.
وعلى كل حال فإننا سنلمس الأثر الكبير لعقيدة القطبية بالمفهوم الصوفي فيما يأتي من المطالب حيث تتوالد العقائد الضالة بعضها من بعض.
__________
(1) الحكايتان في مجموع كلام الحبيب أحمد بن حسن العطاس رواية محمد بن عوض بافضل ص ( 25 ) وهو مخطوط مصور عند بعض الأصدقاء .
(2) جد آل السقاف انظر ترجمته في المشرع الروي ص (2/ 141 )
(3) 3 الغرر ص ( 96 )(76/434)
وكما شارك صوفية اليمن بقية الصوفية في عقيدة القطبية شاركوهم كذلك في اعتقادهم بدولة الأولياء وديوان شورا هم، يقول أحمد بن حسن العطاس: (وعقد أي الديوان مرة في قبة الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس ورأيت الحبيب أبا بكر ارتفع من قبره وفرشوا له فوق القبر حقه، وكان رئيس المجلس الحبيب أبوبكر، ورأيت بالجانب البحري من القبة، رجلاً فسألته: من هو؟ فقال: نقيب الأولياء بالقدس، والذي ظهر لي أن النوبة بقيت مع الحبيب أبي بكر مدة بعد موته، قال سيدي: والرجال الذين هم رجال ما يطلبون مقام القطبية، ولا غيرها ويفرون منها، ومثالها مثال مَنْ قال لك: (هذه البلدة ونفقة أهلها، وخرج معاشهم ودوابهم، وأعطاك ما يحتاجون إليه ماذا ترى لنفسك؟).
وقال أيضاً: (وفي ليلة وفاة الحبيب أبي بكر عبدالله العطاس، اجتمع الأولياء أهل الظاهر والباطن، وجلست أنا بالقرب منهم، وكان ذلك في جامع حريضة، فكان رئيس المجلس الشيخ عبدالقادر الجيلاني فدعاني الشيخ عبدالقادر فقلت له: أنا ما فيَّ طاقة لشيء إن معكم شيء لي اطرحوه في القرآن، فطلع أحد من الأولياء لم أعرفه إلا من بعد، ولما انقضت نوبته اجتمعوا بأعلى شبام، بالقرب من العقّاد، وجعل الأمر بين اثنين، واحد على المعالي وواحد على المسافل)(1).
المطلب الرابع: فروع عقيدة التصرف في الكون:
الفرع الأول: درجة الكونية:
والمراد بها أن الولي قادر على أن يقول للشيء كن فيكون، وهذا مما اختَصَّ الله به، ولم يقم دليل على أن الله تعالى منحه أحداً من خلقه، ولم يدّعه أحد من رسل الله فضلاً عن غيرهم من البشر، ولكن الصوفية حينما ادّعوا لأنفسهم خلافة الله في تصريف الكون ساغ لهم ذلك الادعاء الكاذب المبني على الادعاء الكاذب الأول.
__________
(1) نظر الحكايتين في : تذكير الناس ص ( 206 - 207 ) .(76/435)
ومن أدلة ادعائهم ذلك لأنفسهم وإقرارهم من ادعاه ما ورد في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم من المشرع قال:(وحُكي أن الشيخ عبدالله باعباد سأل صاحب الترجمة عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال:(ظهر لي ثلاث أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون فقال الشيخ عبدالله: نرجو فيك أكثر من هذا) (1).
وأعجب من ذلك ما ذكره صاحب الجوهر في ترجمة الشيخ إبراهيم بن يحيى بن أحمد بن محمد بافضل: (وقال في بعض مصنفاته وردت إليَّ رقعة من الفقيه ابن العربي - رضي الله عنه - فإذا فيها ورد علينا فقير وقال لنا: الفقير يحيي ويميت بإذن الله تعالى، والفقير يقول للشيء كن فيكون بإذن الله تعالى والفقير لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. فأشكل علينا مافيها(2) فقال الشيخ إبراهيم بن يحيى - رضي الله عنه - شعراً:
إذا لم أفتكم بصريح علم فلا من بعدها تستفتيوني
بما في محكم القرآن أفتي وإلا بعد هذا كذبوني
ثم أجاب عن الكل بجواب فايق عجيب وأتى على كل مسألة بدليل من القرآن) (3). وحسبك بهذا إقرار لهذه العقائد الخبيثة وأخذ بها.
الفرع الثاني: الإحياء والإماتة:
__________
(1) المشرع ( 2/ 211 ) وقد اعتمد القوم هذه المنقبة له حتى قال صاحب النور السافر عنه ص ( 281 ) : ( يقول للشيء كن فيكون بإذن الله ) ، وانظر الغرر ص ( 372).
(2) هذه الكلمة غير مفهومة في الأصل وأظنها فيها .
(3) الجوهر الشفاف ( 1 / 146 - 147 ) .(76/436)
مما تضمنه توحيد الربوبية من الصفات التي لاشريك له سبحانه فيها الإحياء والإماتة، وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الصفتين في آيات كثيرة جداً، أقتصر على ثلاث منها، ففي آل عمران يقول تعالى: { والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير } (1)، وفي التوبة يقول تعالى: { إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير } (2)، وفي يونس يقول الله تعالى: { هو يحيي ويميت وإليه ترجعون } (3)، ولما كانت هاتان الصفتان من أكبر البراهين على ربوبية الله تعالى احتج بهما إبراهيم على خصمه فقال وهو يحاج ذلك الطاغية: { ربي الذي يحيي ويميت } فعاند الطاغية وكابر فقال: { أنا أحيي وأميت } قال المفسرون: فلما رأى إبراهيم سفهه وسخافة دعواه عدل إلى دليل آخر أكثر ظهوراً ولا يستطيع أن يغالط فيه سفهاء الأحلام ممن حوله فقال: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } (4)،وقد عد المفسرون هذا الطاغية مدّعياً للربوبية بذلك وجعلوه مثل فرعون الذي صرح بذلك حين قال: { أنا ربكم الأعلى } (5) وقال: { ما علمت لكم من إله غيري } (6).
وهذا كله يدل بجلاء على أن من ادعى هاتين الصفتين فقد ادعى الربوبية، ومع ذلك فإن الصوفية القبورية يدعون ذلك لبعض أوليائهم،أو يدعيها بعضهم فيقرونه عليها، وإذا أردنا أن نعتذر لهم نقول: إنهم لم يدّعوا ذات الربوبية ولكنهم ادعوا الخلافة العظمى عن الحق سبحانه، ومن جملة وظيفة الخليفة التي فوضها إليه الرب سبحانه هذه الصفة وغيرها من الصفات التي يزعمونها لأوليائهم، وأما ادعاؤهم ذلك فثابت لاشك فيه، ومن الأدلة على ذلك ما مر من ادعاء علوي بن الفقيه المقدم لذلك فيما حكاه الشلي كما في الفرع الأول.
الفرع الثالث: علم الغيب:
__________
(1) آل عمران ( 156 ) .
(2) التوبة ( 116 ) .
(3) يونس ( 56 ).
(4) البقرة ( 258 ).
(5) النازعات ( 24 ).
(6) القصص ( 38 ).(76/437)
من مسلَّمات العقيدة الإسلامية اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وأنه لا يشاركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } (1)، وأنه سبحانه عنده وحده مفاتيح الغيب كما قال تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } (2)، وقد بينها سبحانه وحصر علمها عنده، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرأحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)).(3)
بهذه النصوص وغيرها قطع علماء المسلمين أن علم الغيب مما اختص الله به، وأن من ادعاه فقد كذب(4) وأنه طاغوت (5).
ومع ذلك فقد ادعاه الصوفية القبورية لبعض أوليائهم أو ادعاه بعضهم وأقروه عليه وعدّوه من كراماته ومناقبه.
ومن الأدلة على ذلك ما مر في الفرعين الأول والثاني مما ادعاه علي بن الفقيه المقدم وذكر في مناقبه أنه: (يحيي ويميت ويقول للشيء كن فيكون ويعلم ما سيكون).
ومن ذلك ما جاء في ترجمة أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف أنه يقول:(أعرف من الفرش إلى العرش)(6)، وفي ترجمة أخيه حسن بن عبدالرحمن السقاف: (كان يقول: أنا أعرف السعيد والشقي وأعرف الصالحين بالشيم) (7)، وفي ترجمة أخيهما الثالث شيخ: (وقال والده عبدالرحمن السقاف:ولدي شيخ كعشرة شيوخ، وما سميته شيخاً إلا أني رأيته في اللوح المحفوظ شيخاً) (8).
__________
(1) الجن ( 27 ) .
(2) الأنعام ( 59 ).
(3) 6 رواه البخاري من حديث ابن عمر كتاب التفسير باب قوله ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ( 4/ 1733 )
(4) انظر :فتح القدير للشوكاني ( 2/ 123 ).
(5) 2 انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 3/282).
(6) 3 المشرع ( 2/33 ) .
(7) 4 المصدر السابق ( 2/ 89)
(8) المصدر السابق ( 2/ 116 ) .(76/438)
وسأقتصر على هذه النماذج مع أن هناك دعاوى كثيرة من هذا القبيل.
الفرع الرابع: إعطاء الولد:
هذه الخصلة (إعطاء الولد) هي كذلك من خصائص الله تعالى كما قال - عز وجل -: { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير } (1).
ولو قيل: إن صالحاً من الصالحين الأحياء دعا ربه لأحد من الناس بالولد فرزق بتلك الدعوة ولداً ماكان عليه من نكير، ولكن أن ينسب إلى الولي ذاته إعطاء الولد حياً كان أو ميتاً فذلك الذي فيه ادعاء ما هو من خصائص الربوبية، والقبورية يدعون ذلك لأنفسهم أو لأوليائهم أحياءً وأمواتاً، والدليل عليه ما جاء في تذكير الناس قال جامعه: (وأهدى بعض السادة شيئاً لسيدي - رضي الله عنه - فدعا له بأن يرزقه الله ولداً وقال له: حولناك على الحبيب أحمد بن علي الهدار، وهذا الحبيب كان من أهل الأحوال العظيمة، وكان إذا جاءه أحد وسأله الدعاء بالذرية يقول له:بايأتيك ولد، أو اثنان أو أكثر فاعترض عليه أحد بقلبه فكاشفه الحبيب أحمد وقال له:يا فلان إن الذين قسمتهم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم سبعة آلاف ولد، وأنت يأتيك نصف ولد، فأتاه نصف ولد على رِجل واحدة ويد واحدة وناصفة وجه، نسأل الله العافية.) (2)
__________
(1) الشورى الآية ( 49–50 ) .
(2) تذكير الناس ص( 321 ) .(76/439)
ويظهر من هذه الحكاية بشكل جلي أن الرجل لم يدعُ الله،وإنما يقول على جهة الوعد (بايأتيك ولد) وهذا باللهجة الحضرمية معناه سوف يأتيك ولد، فليس فيه أي معنى من معاني الدعاء، ويؤكد ذلك إنكار العامي وغضب الحبيب من ذلك الإنكار، ثم تصريحه بأنه قسّم، وقسّم من أين؟ قسَّم من بحر الشيخ أبي بكر بن سالم، فأبوبكر بن سالم عنده القدرة والإمكانية الواسعة جداً المشبهة بالبحر، وهذا ولده أخذ يقسَّم من ملك جده، أليس هذا صريح في أنهم يدَّعون القدرة الكاملة على ذلك وأنه من جملة ما يملكونه.
وبناءً على ترسخ هذه العقيدة لديهم نجدهم يطلبون ذلك فعلاً من أوليائهم، قال صاحب تذكير الناس:(قال سيدي: وزرنا مرة تربة الفريط بتريم نحن والأخ حامد بن أحمد المحضار، ولما كنا عند الشيخ القرشي صاحب الذرية أخذ الأخ حامد حصاة كبيرة ووضعها عند قبر الشيخ وقال: -والحاضرون يسمعون - شف نحنا نبغي ولداً لفاطمة عبوده بنت عبدالله بن عمر القعيطي، وكانت مسنة في ذلك الوقت ومستبعدٌ أن تحمل فقدّر الله أنها حملت بولد وعاش) (1).
وصاحب هذه الحكاية من كبار أقطاب القوم وعلمائهم ومع ذلك يروي هذه الحكاية مقراً لها، و"حامد المحضار " من كبارهم أيضاً وقد رفع صوته يطلب ذلك أمام العامة وأقره من حضر من الأكابر، إذاً هي قضية مسلّمة يربّون عليها أتباعهم.
__________
(1) المصدر السابق ص ( 322 - 323 ) .(76/440)
ويقول آخر من كبارهم وُصف بأنه:" العالم الجليل نسخة السلف وقدوة الخلف " في رحلته الموسومة بـ " النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية وتلبية الصوت من الحجاز وحضرموت " في نفس الموضوع: (ولما وقفنا على قبر الشيخ عمر بن علي القرشي ويروى أن من طرح عند قبره حجرة يرزق ولداً،وقيل: لنا أن الحبيب علي بن محمد الحبشي زاره وبصحبته الحبيب عمر بن عيدروس العيدروس فأخذ الحبيب عمر ملا ثوبه حصى ليطرحه عند القبر، فقال له الحبيب علي: كثّرت جم، فقال: أريد نسمات تذكر الله أو قال تعبد الله، فأخذت أنا حصاتين وطرحتهما عند القبر على هذه النية) (1)، فإذا كان هذا فعل علمائهم فماذا يا ترى يصنع عوامهم وجهالهم؟.
الفرع الخامس: إنزال المرض ورفعه:
__________
(1) النفحة الشذية إلى الديار الحضرمية ، وتليه رحلته تلبية الصوت من الحجاز وحضرموت ص ( 175 –176)، تأليف العالم نسخة السلف وقدوة الخلف الحبيب عمر بن أحمد بن سميط ، طبع على نفقة أحد المحبين من المحسنين ( 1397 هـ ) .(76/441)
القول في هذا الفرع كالقول في بقية الفروع فالمرض لا يصيب به إلا رب العالمين، قال تعالى حاكياً عن إبراهيم أنه قال لقومه وهو يدعوهم ويبين لهم حقيقة دعوته وعقيدته: { وإذا مرضت فهو يشفين } (1)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة)) (2)،وقد صرح العلماء بأنه ليس المقصود نفي العدوى من أصلها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يورد ممرض على مصح)) (3)، لأنه واضح أن في ذلك اعتبار العدوى ولكنه نفى على المعنى الذي كانت الجاهلية تفهمه وهو أن الأمراض تعدي بذاتها فتنسب إلى الأمراض، فحسم - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الباطل بهذا اللفظ العام ليكون أبلغ وأشمل (4)، فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنه يضع المرض على من شاء وأنه يرفعه عمن يشاء، إن ذلك لاشك ادَّعاء لخاصة من خصوصيات الربوبية وتعليق للخلق بغير الحق وهذا أيضاً مضاد ومناقض لما تدعيه الصوفية من تجريد قلوب الناس من سوى الله تعالى.
__________
(1) الشعراء آية ( 80 ) .
(2) البخاري في صحيحه (5/2158) ، كتاب الطب باب الجذام، ومسلم في صحيحه (4/1743) ، كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.
(3) مسلم في صحيحه (4/743) في الكتاب والباب السابقين ، كلاهما من حديث أبي هريرة .
(4) انظر: (10/160-162) من الفتح .(76/442)
وإليك الدليل على زعمهم وضع الأمراض على أناس ورفعها عن آخرين، فقد ذكر الشرجي في ترجمة إسماعيل الجبرتي قال: (ومن ذلك ما يروى عن رجل من أهل مكة يقال له الفقيه عبدالرحيم الأميوطي أنه قال: (كنت لا أعتقد الشيخ إسماعيل، وكنت أحط منه، فبينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، وإذا بي أرى الشيخ قد دخل عليّ في جماعة، فسمعته وهو يقول لآخر: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه عليَّ ثم قال: هات الوجع الفلاني فجاء به فوضعه علي، ثم مازال يقول هات الوجع الفلاني ويضعه عليّ، حتى وضع عليّ قدْرَ عشرين وجعاً حتى كدت أموت، وخرج، قال: (فبقيت تلك الأوجاع عليّ باقي ليلتي ويومي ذلك إلى العصر، فأرسلت إليه واستعطفت خاطره، فجاء إليَّ فرفع ذلك كله عني، وقمت كأن لم يكن بي شيء فتبت إلى الله تعالى، وحسّنت عقيدتي في الشيخ نفع الله به).(1)
إذاً فالذي لا يعتقد فيهم ذلك فهو مهدد بالمرض من قبلهم، فهذا عمر المحضار يروي عنه صاحب المشرع (... وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له: أما تخشى أن ينالك بهذا شيء فقال: إني لم أدعُ على أحد،ولكني إذا غضبت على أحد وقع في باطني نارٌ لا تنطفئُ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض أو يتوب).(2)
الفرع السادس: إنزال المطر:
__________
(1) طبقات الخواص ص( 103 ) .
(2) المشرع ( 2/ 242- 243 ) .(76/443)
الآيات في تفرد الله تعالى بإنزال المطر كثيرة جداً، منها قوله تعالى: { أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } (1)، فلو كان أحد من الخلق قادراً على ذلك فهل سيكون هذا التحدي صحيحاً؟ والجواب: لا قطعاً فعلم أنه لا ينزل المطر إلا الله، بل حتى علم الوقت الذي ينزل فيه المطر ومكان نزوله قبل نزوله لا يعلمه إلا الله: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } (2)، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز أن ننسب إنزال المطر إلى عبد من عباد الله، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حسم الأمر بشكل أوضح، وأبعد المؤمنين عن توهم ذلك أو التلفظ بلفظ يؤدي إلى ذلك الفهم الخاطئ، ففي صحيح البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: ((صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب،وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب)).(3)
__________
(1) الواقعة الآية ( 68-69 ) .
(2) لقمان الآية ( 34 ).
(3) البخاري في صحيحه (1/290) كتاب صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم ، ومسلم (2/59-60) مع النووي كتاب الإيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء .(76/444)
ومن الأدلة على أن القوم يعتقدون في أوليائهم إنزال المطر ما جاء في ترجمة أحمد بن عمر الزيلعي من طبقات الخواص حيث قال: (وكان للفقيه أيضاً ولد يقال له علي،كان من الصالحين، وكان لا يُلازم في المطر إلا ويحصل سريعاً حتى عرف بذلك، وكان يقال له صاحب الماء) (1)، وقد كان ذكر في ترجمة الجد حكايات تدل على أنه ينزل الغيث منها: (أنه وصل من اللحية إلى قرية المحمول وقد أجدبوا مدة طويلة، فعند أن وصل إليهم جاءت إليه بهيمة وجعلت تخور بين يديه، فدخل المسجد ودعا الله تعالى ثم قال: (يا ميكائيل كل، فاجتمع السحاب للفور من كل ناحية ومطروا مطراً عظيماً بإذن الله تعالى) (2).
ومنها قول صاحب الطبقات:(وكان أهل الوادي خُلَب بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وآخره باء موحدة يصحبونه ويعتقدونه، فجاء إليهم مرة وهم مجدبون فجعلوا يلازمونه في السيل فقال لفقيرٍ له: (اذهب إلى رأس الوادي وقل له: يقول لك الفقيه سل الآن، ففعل الفقير ذلك، فسال الوادي من ساعته وسقوا سقياً هنيئاً بفضل الله تعالى) (3)، فلاحِظْ أمره لميكائيل في الحكاية الأولى وأمره للوادي في الحكاية الثانية، هل يدل على أن الأمر مجرد دعاء؟ كلا لا يدل إلا على أنه هو المالك لذلك والمتصرف فيه.
وفي تذكير الناس: (قال سيدي: ووقع بحريضة في بعض السنين قحط شديد، فسار الحبيب علي بن جعفر العطاس إلى النقعة، وهي قرية بقرب حريضة وقال لأهل البلد: سنجيئكم بسيل من عند الشيخ جنيد باوزير إن شاء الله، فلما وصل إليها زار قبر الشيخ جنيد والشيخ علي بن سالم ورجع فسال وادي حريضة تلك الليلة). (4)
__________
(1) طبقات الخواص ص ( 77 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 75 ) .
(3) المصدر السابق ص ( 75 ) .
(4) تذكير الناس ص ( 187 ) .(76/445)
وأوضح من هذا ما ذكره، أيضاً في تذكير الناس قال: (قال سيدي وبلغنا أن الشيخ عبدالله بن أحمد بلعفيف كان من أولياء الله المستجابة دعوتهم، ويقال له بياع السيول، وصل إلى تريم في بعض زياراته، فاجتمع ببعض السادة آل العيدروس فقال له أنت: بلعفيف بياع السيول، فقال له الشيخ:نعم حاجة خدمة، فقال له الحبيب: نعم مرادنا سيل، فقال الشيخ لا بأس، بكم تشتري؟ فقال له الحبيب بالذي تريده، فقال الشيخ: نبيع لك سيل بكبش سمين، وخمس قهاول(1) برُ، فقال الحبيب:لا بأس تم الكلام، فقال الشيخ تبغي السيل لأي أرض؟ قال الحبيب: للشرج الفلاني حقي، فقال الشيخ: هات الكبش والبر وأخرج رُعّاضك لشرجك، فأتى الحبيب بالبر والكبش وخرج الرُّعَّاض(2) وشرب الشرج بإذن الله وبركة أولياء الله) (3).
قلت:وحكى لي جدي - رحمه الله - أن في قرية مجاورة لنا رجلاً يقال له " فلان باسليمان " وكان حراثاً عارفاً بقوانين الحراثة ومتى يكون السيل أفضل للأرض، فكان ربما جاء السيل في غير الوقت الذي يراه مناسباً فلا يسقي أرضه فعوتب في ذلك لأنه ربما إذا لم يسق لم يأت سيل آخر، فيقول:(ما بيني وبين السيل إلا صاع طحين) يعني أنه يتزود صاعاً من الطحين ويزور الشيخ سعيد بن عيسى فيأتي السيل، فهل يشك أحد في اعتقاد هذا العامي وأمثاله أن الشيخ سعيد بن عيسى يملك إعطاء السيل؟!.
الفرع السابع: إجابة الداعي وإغاثة المستغيث:
__________
(1) القهاول مقدار من الكيل يساوي ثلاثة أصواع تقريباً .
(2) الرَّعَّاض جمع راعض وهو الذي يعدِّل السيل في الحقول .
(3) المصدر السابق ص ( 188 ) .(76/446)
إن هذا الفرع في الحقيقة هو النتيجة الحتمية لتلك العقائد بل الثمرة المرة الخبيثة لها، فإن المريد الصوفي أو العامي من عوام المسلمين حينما يتكرر على سمعه أن فلاناً من الأولياء هو القطب الغوث الذي أعطي الخلافة العظمى في هذا الكون والتولية والعزل فيه، واعتباره الواسطة بين الله وبين عباده فلا يصل خير إلى العباد إلا بواسطته، وأنه قد فوِّض إليه تصريف الكون، وأن تصريفه نافذ على كل شيء من العرش إلى الفرش وحتى البِسْ لا يأكل الفأر في جميع أقطار الأرض إلا بإذنه، وأنه يعطي ويمنع ويشفي ويمرض بل يميت ويحيي ويُنزل الغيث ويهب الولد، إلى آخر ما ينسب إليهم من القدرات، ماذا سيتصور ذلك المسكين، هذا الولي؟ لاشك أنه سيتصور أنه هو السميع المجيب وأنه على كل شيء قدير، وبموجب هذا التصور سيهرع إليه كلما نزلت به نازلة أو أصابته حاجة، فإنه لا رجاء في حصول أي مطلوب أو دفع أي مرهوب إلا بالالتجاء إليه، وهذا هو الذي يحصل في كثير من الأحيان والأحوال ولدى أكثر الناس من القرون التي سيطر فيها فكر القبورية على الناس.
وهم لم يكتفوا بما مضى من دفع الناس إلى ذلك الاعتقاد والتصور الخاطئ، بل صرح الكثير من أوليائهم بأنهم يسمعون من ناداهم ويجيبونه ويغيثون من استغاث بهم وينقذونه مما هو فيه، ويروون مئات القصص التي تحكي كيف نزل الضر بفلان فاستغاث بالقطب فأغاثه، بصور وأساليب متنوعة كلها تتآزر على شيء واحد هو تعميق الاعتقاد في ذلك الشخص بأنه يفعل ويفعل، وأن على الجميع الالتفات إليه والاعتماد عليه وإنزال حوائجهم به.(76/447)
وهذا هو الشرك بالله تعالى، ولكنني لن أخوض في الرد عليه في هذا الموضع، وإنما سوف أنقل بعض النماذج عنهم في ذلك لإثبات أنهم يعتقدون في أهل الولاية منهم أحياءً وأمواتاً أنهم يجيبون الداعي ويغيثون المستغيث، وليس الأمر كما يقوله من يروج تلك العقائد ويدافع عن الموروث الذي كان عليه الآباء والأجداد من أن ذلك مجرد توسل بهم إلى الله وإن كان بلفظ الدعاء والاستغاثة.
وإليك النصوص الصريحة والوقائع الواضحة الشاهدة على ما نقول:
أول ما نورد في ذلك تقرير عميد القوم وحجتهم وإمامهم في العلم والتصوف من يسمونه (قطب الدعوة والإرشاد عبدالله بن علوي الحداد) وهذا التقرير في قصيدة من أشهر قصائده لدى القوم وهي العينية حيث يقول فيها في صفة الولي:
من كل طود في العلوم وفي الحجا متبحر متفنن متوسع
داع إلى الله العظيم بفعله ومقاله والحال غير مضيع
ذي عفة وفتوة وأمانة وصيانة للسر أحسن من يعي
وزهادة وعبادة وشهادة منه الغيوب بمنظر وبمسمع
جمع الرياضة والكشوف ولم يزل يرقى إلى أن يستجيب إذا دعي (1)
إذاً فهي حقيقة مسلّمة عند القوم أن الولي ما يزال يترقى حتى يصير ممن يستجيب إذا دعي (2)، فعند القوم أن الولي " يُدعى" وليس فقط يتوسّل به و" يجيب إذا دُعي " وليس الله - عز وجل - يجيب من دعاه متوسلاً به.
وبناءً على تلك الحقيقة المعروفة لديهم منذ عرف التصوف المنحرف في اليمن والتي عبر عنها الحداد في عينيته، تجد الدعوى متواصلة لأوليائهم بإغاثة من استغاث بهم.
__________
(1) شرح العينية ص ( ب ) من المقدمة .
(2) انظر : شرح هذا البيت في العينية ص(17-18) .(76/448)
ومن ذلك ما ذكره شارح العينية المذكورة في ترجمة علوي بن الفقيه المقدم حيث قال: (وكان - رضي الله عنه - سريع الغوث لمن استغاث به، قال السيد الجليل العلامة المحدث الإمام محمد بن علي علوي خرد باعلوي في كتابه " الغُرر " أخبرني الشيخ عبدالرحمن بن علي أن العارفين قالوا: (ثلاثة من آل باعلوي لا تزال خيل حميتهم وإجابتهم مسرجة ملجمة من دعا بهم أُجيب وهم علوي المذكور وابنه علي والشيخ عمر المحضار، وقال صاحب كتاب الغرر المذكور في ذلك شعراً:
إذا خفت أمراً أو توقّعت شدة فنوِّه بهم كي يدركوك ويحضروا
فنوِّه بعلوي الفتى وابنه علي كذا عمر فيما يجل ويعسر
فغارتهم تنجيك من كل شدة وعُسرٍ وضيقٍ أو بصدرك يكبر (1)
ولا يقتصر الأمر على أناس ينسبون إلى الولي أنه يغيث من يستغيث به، ولكن الولي يدّعي ذلك لنفسه ويفخر به، فهذا عمر المحضار يقول في قصيدة مازالوا إلى اليوم ينشدونها في حضرة السقاف.
إني سريعُ الغوث في كل الشدائد فاهتف
باسمي تجدني أسرِعُ
قل يا شهاب الدين إن يعروك خطب يا فطن
فأنا لخطبك أدفعُ
وقال شارح العينية في ترجمة عبدالرحمن السقاف: (وكان يرد على من غلط في مسجده وهو بالعجز (2) ويسمعه الغالط، وكان يقلب التراب دراهم بإذن الله تعالى، وكان يظهر لمن استغاث به جهاراً في الأماكن البعيدة بحراً وبراً) (3).
وفي كتاب " تاج الأعراس " في مناقب الحبيب القطب صالح بن عبدالله العطاس، قال المؤلف: (ومما أكرم الله به صاحب المناقب، وخصه به من سنيات المراتب، وكان ينفرد به دون أقرانه من أهل المظاهر والمناصب، أنه يحضر عند من ناداه وتوسل به إلى الله بصدق نية وصفاء طوية) (4).
__________
(1) شرح العينية ص(174 ) وانظر أيضاً : المشرع الروي ( 2/212 ).
(2) العَجُز : بفتح العين وضم الجيم قرية شرق تريم تبعد منها مسافة .
(3) شرح العينية ص (188 ).
(4) تاج الأعراس ص (1/ 94) .(76/449)
وتقول الشيخة سلطانة الزبيدية كما في ترجمة السقاف من المشرع: (ما رأيت أحداً أسرع إجابة عند الاستغاثة من السيد محمد بن السقاف، وكانت تقول:إذا حدث أمر واستغثت بالأولياء فأول من يغيثني هو) (1).
وقال صاحب " تاج الأعراس " في ترجمة صالح بن عبدالله العطاس: (وممن أثنى على صاحب المناقب واعترف له بمقام الغوثية شيخ مشايخ تلك العصور، وعالمها وإمامها المشهور، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام السيد أحمد بن زيني دحلان قال: (إنه حصل عليَّ حال بمكة وكربتُ لذلك كرباً شديداً فاستغثت بالحبيب صالح بن عبدالله العطاس صاحب عمد وهو إذ ذاك بحضرموت ودعوته بثلاثة أصوات، فإذا هو حاضر عندي في الحرم المكي، راكباً على جواد أخضر اللون ومعه أربعون جندياً كلهم مسلحون، فحين رأيته ذهب عني ذلك الكرب وانشرحت انشراحاً كاملاً ببركته) (2).
وقال كذلك في ترجمة هادون بن هود العطاس: (ومن كرامات الحبيب هادون أيضاً ما أخبرتني به والدتي الشريفة العفيفة شيخة بنت الجد علي بن حسين بن هود العطاس الآتي ذكرها في ترجمة والدي من الباب السادس عن والدتها الشريفة العفيفة زينة بنت الحبيب هادون المذكور قالت: لما كان والدي يجدد عمارة بعض المساكن بالمشهد وعنده جملة من العمال أصبحنا ذات يوم وليس عندنا في الدار ما يفطر به الصائم من أنواع الطعام، فلما رجع والدي من المسجد الإشراق كعادته أخبرناه بالحال فقال: لا بأس، ولكنكم أوقدوا ناراً في المطبخ كعادتكم ليستشعر العمال بأن غداهم يطبخ كالعادة،ثم خرج والدي إلى عند العمال وألقى بيتاً من الشعر الحميني ارتجالاً على الذين ينقلون المدر منهم وأمرهم أن يرتجزوا به، وكان قد استنجد فيه بجده الحبيب علي بن حسن العطاس صاحب المشهد وهو قوله:
__________
(1) المشرع الروي ص ( 1 / 184 ) .
(2) تاج الأعراس ( 1/ 104 ) .(76/450)
مع هادون يا بو حسن والخير واصل وهز الرمح لا تعمد (1) القبة وغافل
قالت: فلم نلبث إلا يسيراً وإذا نحن بقافلة أي عير مرسلة لمقام المشهد من أهل حجر بن دغار وفيها الذرة والتمر والدهن وغير ذلك، وبمعية العير أناسٌ من تلك الجهة أيضاً قاصدين زيارة الحبيب علي بن حسن ومعهم ثلاثة أكباش سمان للمقام، فذبحنا وقدحنا وكان ذلك اليوم من أسعد أيام العمال عليهم انتهى.
قلت(2): وقول الحبيب هادون لجده علي (وهز الرمح) لما اشتهر من أن الحبيب علي كان يلقب بأبي حربة وسبب تلقيبه بذلك أنها تواترت الأخبار من المعادين للحبيب علي في حياته وأهل الجرأة على مقام المشهد بعد وفاته أنهم يرونه في مناماتهم يطعنهم بحربته فيخبرون قراباتهم بذلك موقنين بالموت ويموتون في الحال بإذن الله القائل: ((من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) لاسيما الذين يعتدون على غيرهم في شهر المشهد أي ربيع الأول؛ لأن الحبيب علي قد جعله عُرضه بضم العين أي أماناً مؤبداً في كل سنة بين المحاربين من قبائل تلك الجهة وأخذ عليهم العهد في ذلك ليأتي كل منهم وهو مطمئن البال إلى المشهد لحضور قصة مولد نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماع شمائله الشريفة وما يضاف إلى ذلك من المواعظ الدينية، فكان مما أكرم الله به الحبيب علي وعظم به شهر المولد النبوي أن من اعتدى فيه بالقتل ونقض العهد يعجل الله له العقوبة بإهلاك عدد من أولاده وقبيلته بمقدار الأيام الماضية من ذلك الشهر، فمن قتل فيه في اليوم الخامس مثلاً يهلك الله خمسة من رجاله في أسرع وقت، ومن قتل فيه في اليوم السابع يهلك الله منهم سبعة وهكذا حتى صار ذلك عند قبائل الجهة من المجربات التي لا خلاف فيها) (3).
__________
(1) هذه الكلمة باللهجة الحضرمية معناها ( لا تبقى ) أي لا تبقى في القبة غافلاً عنا .
(2) الكلام ما زال لصاحب تاج الأعراس .
(3) تاج الأعراس ( 1/ 207-209 ) .(76/451)
وأعتذر للإطالة بنقل الحكاية كاملة وذلك لما فيها من دلالات كثيرة يجدها المتأمل وليعرف كيف يسخِّر القبوريون الناس لمصالحهم ويبنون على حطام عقائدهم مجدهم الموهوم.
وأسألُ صاحب التاج وكل من ينشر هذه الحكايات ويغرس بها تقديس هؤلاء الناس في نفوس عوام المسلمين أين كان الحبيب علي وحربته يوم هجم الجيش النجدي على المشهد فأخربه وهدّم قببه وكسّر توابيته؟.
ومن ذلك أيضاً ما ذكره صاحب مقدمة ديوان العيدروس قال: (وأخبرني السيد الفقيه محمد الظمطاوي المكي وقد رويتها عن المريد الصادق نعمان بن محمد المهري أنه قال: (كنا في سفينة سائرين إلى الهند فحصل في السفينة خرق عظيم فأيقن أهل السفينة بالهلاك فضجُّوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى وهتفوا بالمشايخ، فقال نعمان: فهتفت بشيخي أبي بكر بن عبدالله العيدروس، فأخذتني ِسنة فرأيت شيخي وهو داخل السفينة وبيده منديل أبيض متيمماً نحو الخرق، فانتبهت فرحاً مسروراً وناديت بأعلى صوتي يا أهل السفينة أبشروا فقد جاء الفرج، فقالوا لي: ماذا رأيت، فقلت لهم: رأيت شيخي - رضي الله عنه - دخل السفينة الساعة وبيده منديل فسد به الخرق فافتقدوه فوجدوا الخرق مسدوداً بمنديل أبيض). (1)
__________
(1) مقدمة ديوان العيدروس المسمى (محجة السالك وحجة الناسك) ص ( 242 ) , تأليف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن باوزير ضمن المجموعة العيدروسية.(76/452)
وفي نفس الكتاب في آخره قال: (وأخبرني الأمير مرجان بن عبدالله عبد السلطان عامر بن عبدالوهاب قال: كنا في محطة صنعاء الأولى فحصل علينا ما حصل، وأنا إذ ذاك في جماعة، فحمل علينا العدو ففر أصحابي ووقع في فرسي جملة أكوان(1) فسقط بي، فزار بي العدو من كل جانب وأنا أهتف بالصالحين، ثم ذكرت الشيخ الأجل أبابكر بن عبدالله العيدروس فهتفتُ به فإذا هوقايم فو الله العظيم لقد رأيته نهاراً وعاينته جهاراً أخذ بنا صيتي وناصية فرسي وشلني من بينهم حتى أوصلني إلى المحطة السعيدة فعند ذلك مات الفرس ونجوت ببركات الشيخ نفع الله به وأعاد علينا من بركاته) (2).
فهذه النماذج إن شاء الله كافية لإثبات أن القوم يعتقدون في أوليائهم أنهم يسمعون استغاثاتهم، وأنهم يغيثونهم عند ذلك، فحيناً يحضرون بأنفسهم،وحيناً يحصل المطلوب بدون حضورهم، وعليه فإن دعاءهم لأوليائهم ليس مجرد توسل إذ التوسل إنما هو دعاء لله تعالى مع ذكر المتوسَّل به وسؤال الله سبحانه أن يحقق المطلوب بجاه أو ببركة ذلك المتوسَّل به، ولذلك فإن الذين يعرفون حقيقة التوسل ويقتصرون عليها لا يجيزون دعاء المتوسل بهم ويصرحون بأنهم لا يدعون ولا يجيزون دعاء غير الله، وإنما يذكرونهم في ضمن دعائهم لله للتبرك بذكرهم وليكونوا سبباً في عطاء الله.
الفصل الأول
أساليب القبورية في محاربة مخالفيها
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول:
أسلوب الاحتواء والاختراق
وفيه مطلبان:
المطلب الأول:محاولة احتواء المخالف:
__________
(1) أي جراح .
(2) المصدر السابق ص( 247 ) .(76/453)
إن رواد القبورية في الأمة الإسلامية وهم الباطنية الشيعة، ومن جاء بعدهم من الصوفية، إنما هم تلاميذهم وأتباعهم والناقلون لعقائدهم وأساليب دعوتهم وطرق تثبيت دولتهم، مع شيء من التطوير الذي يتناسب مع وضعهم بين أهل السنة،ولا يخفى على من قرأ التاريخ براعة الباطنية في احتواء المخالف، والتأثير عليه بالطرق والأساليب الملتوية الكثيرة، وسنرى في هذا المطلب صورة منها، وهكذا تلاميذهم الصوفية استخدموا تلك الطرق والأساليب مع مخالفيهم هنا في اليمن، وإليك بعض الأدلة على ذلك:(76/454)
سبق عند الحديث عن الإسماعيلية بيان طرقهم في الدعوة، وكيفية الوصول إلى إقناع المدعو، والترقي به درجة درجة حتى يصل إلى القناعة التامة بما هم عليه، وهناك صورة واضحة في طريقة الاحتواء وتحويل الخصم إلى أن يصبح من أقوى المناصرين لهم، وهي احتواء علي بن محمد الصليحي الذي كان أبوه قاضياً من علماء أهل السنة خصوم الإسماعيلية، وكيف استطاع داعية الإسماعيلية احتواء ابنه علي حتى كان هو الذي أسس دولة الإسماعيلية الفاطمية في اليمن، قال الخزرجي: (أجمع علماء التاريخ ورواة الأخبار من أهل اليمن أن القاضي محمد بن علي الصليحي والد الأمير علي بن محمد الصليحي كان فقيهاً عالماً سنيّ المذهب، وكان قاضياً في بلده حسن السيرة مرضي الطريقة، وكان أهله وجماعته يطيعونه ولا يخرجون عن أمره، وكان الداعي عامر بن عبدالله الزواحي يلوذ به، ويركب إليه كثيراً؛ لرياسته وسؤدده وصلاحه وعلمه، فرأى يوماً ولده علياً فلاحت له فيه مخايل النجابة، وكان يومئذ دون البلوغ، وكان الداعي عامر بن عبدالله الزواحي كلما وصل إلى القاضي يتحدث مع ولده علي المذكور، ويخلو به، ويطلعه على ما عنده حتى استماله، وغرس في قلبه ولبِّه ما غرس من علومه وأدبه ومحبة مذهبه، وقيل: كانت عند الداعي عامر بن عبدالله الزواحي حلية الصليحي في كتاب " الصور "، وهي من الذخائر القديمة، فأوقفه منه على مستقبل حاله وشرف مآله، وأطلعه على ما أطلعه عليه سراً من أبيه القاضي محمد وأهله جميعاً، ثم مات الداعي عامر بن عبدالله الزواحي، فأوصى له بجميع كتبه، وأعطاه مالاً جزيلاً قد كان جمعه من أهل مذهبه، وقد كان رسخ في ذهن الصليحي ما رسخ، فعكف على الدرس، وكان ذكياً فلم يبلغ الحلم حتى تضلع في معارفه التي بلغ بها، وبالجد السعيد تدرك غاية الأمل البعيد، فكان فقيهاً في مذهب الإمامية، متبصراً في علم التأويل، ثم صار يحج بالناس دليلًا على طريق السراة، ولم يزل كذلك نحواً من خمس عشرة سنة،(76/455)
وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، فكره ذلك، ونكره على من يقوله مع كونه قد شاع على ألسنة الخاصة والعامة، فلما كان في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ثار في رأس مسار وهو أعلى جبل في تلك الناحية) (1).
تلك صورة من صور الاحتواء الإسماعيلي للمخالفين، وفي تاريخ الصوفية الكثير من تلك الصور، من ذلك قصة الصوفي عبدالرحمن بن عمر باهرمز مع الفقيه عمر بن عبدالله بامخرمة، فقد كان الصوفي باهرمز له طريقة قبيحة في تصوفه، وهو أنه عندما يرد عليه الحال - كما يقولون - يجمع النساء الحسان متزينات بأحسن الزينة فيغنين ويرقصن حتى يذهب ما به، وهذا أمر منكر لا إشكال فيه، وقد سمع عمر بامخرمة بذلك فأنكره، وعزم على الذهاب إليه للإنكار عليه، فرحل أول مرة، ثم رجع من الطريق، ثم عزم وصمم حتى دخل عليه فلما رآه الشيخ كاشفه بنيته وعزمه وقال له: (عاد وقتك ما جاء)، فرجع إلى بلاده، ثم عاد الثالثة، وعند دخوله عليه أمر بعض النساء الحسان اللاتي يرقصن عنده أن تعتنقه، قال العيدروس: (فما هو إلا أن فعل به ذلك خر مغشياً عليه، فلما أفاق تلمذ للشيخ، وحكمه في ذلك الوقت، وفتح الله عليه ببركة الشيخ، وصار من كبار العارفين المربين، وقيل: إن الفقيه لما طلب التحكيم من الشيخ قال: له: صلِّ ركعتين إلى المشرق، فامتثل، فلما أحرم رأى الكعبة تجاه وجهه) (2).
المطلب الثاني: محاولة اختراق صفوف المخالفين وبث الفتنة في أوساطهم:
__________
(1) العسجد المسبوك ص (56) ، وانظر : قرة العيون ص (173-174).
(2) النور السافر ص( 59 ).(76/456)
إن البدع في الغالب تكون مخالفة للفطرة، مناقضة لأدلة الشرع وأصوله، يرفضها العقل السليم الذي لم يتلوث بأمراض الشبهات؛ ولهذا لم يبق أمام دعاة البدع إلا الكيد والمكر وأساليب اللف والدوران لمقاومة الخصوم والتغلب عليهم، وقبورية اليمن من أولئك المبتدعة، لم يدعوا أسلوباً من أساليبهم إلا اتبعوه، ومن ذلك أسلوب الدس والمكيدة وبث الفتنة في صفوف المخالفين، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:0
المثال الأول: ما فعله والي الدولة الصليحية على الجند من بث الفتنة بين فقهائها حتى يسلم هو وأهل نحلته من انصرافهم لمقاومتهم والعمل على إزالة دولتهم، قال الجندي في ترجمة الفقيه الإمام زيد ابن عبدالله اليفاعي: (وكانت مدرسة الفقيه عن يمين المنبر، وربما اتكأ وقت التدريس على المنبر، وكان أصحابه فوق ثلاثمائة متفقه، في غالب الأيام يقوم بإعالتهم قوتاً وكسوة، وكانوا يملئون ما بين الباب والمنبر كثرة، وكان الفقيه أبو بكر شيخه يقرئُ في الزاوية التي تحت جدار بئر زمزم (1)، وكان أصحابه في غالب الأحوال نحو خمسين طالباً، هكذا ذكر بعض معلقي أخبارهم، ولم يزل ذلك من شأنهم حتى تمت الحيلة من المفضل (2) في التفريق بينهم، وذلك أنه مات ميت من أهل الجند، فخرج الإمام زيد والإمام أبو بكر بن جعفر في أصحابهما يقبرون، وعليهم الثياب البيض لبس الحواريين، والمفضل يومئذ بقصر الجند فحانت منه نظرة إلى المقبرة، فرأى فيها جمعاً عظيماً مبيضين، فسأل عن ذلك، فقيل: قُبرانُ ميتٍ، غالب من حضره من الفقهاء، فعرض بذهنه ما فعله ابن المصوع (3) مع أخيه حيث قتله، وقال: هؤلاء يكفروننا ولا نأمن خروجهم علينا مع القلة، فكيف مع الكثرة؟ ثم قال لحاضري مجلسه: انظروا كيف
__________
(1) بئر في مسجد الجند يسمى بذلك .
(2) المفضل والي الصليحين على الجند .
(3) ابن المصوع أحد فقهاء أهل السنة ثار في جماعة على أخي المفضل أحد أمراء الصليحين فقتلوه واستولوا مدة على قصره ثم أمسك بهم .(76/457)
تفرقون بينهم، وتدخلون البغضاء عليهم بالوجه اللطيف، فجعلوا يولّون القضاء بعض أصحاب الإمام زيد أياماً، ويعزلونه، ويولّون مكانه من أصحاب الإمام أبي بكر بن جعفر، ثم يولّون إمامة الجامع كذلك، ثم النظر في أمر المسجد كذلك حتى ظهر السباب بين الحزبين، وكاد يكون بين الإمامين، فعلم الإمام زيد ذلك، فارتحل مهاجراً إلى مكة) (1).
فانظر كيف لجأ هذا الباطني الإسماعيلي إلى الدس بين هؤلاء الفقهاء الطيبين! وكيف استطاع بخبثه وطيبتهم أن يفرقهم، وأن يملأ صدورهم حقداً على بعضهم البعض حتى قضى على دعوتهم!.
المثال الثاني: ما ذكره الأستاذ صلاح البكري في " تاريخ الإرشاد بإندونيسيا " من عمل القبورية أصحاب الرابطة العلوية لزرع الفتنة بين أصحاب الإرشاد- لولا أن سلم الله - وقُضيَ على الفتنة قبل استفحالها.
__________
(1) السلوك ( 1/263 ) .(76/458)
قال الأستاذ البكري تحت عنوان " أول مؤامرة ضد جمعية الإرشاد ": (من الأحداث الخطيرة التي قام بها دعاة العنصرية، تلك المؤامرة ضد حياة جمعية الإرشاد الإسلامية، فقد اتصل بعض آل باعلوي وأنصارهم برئيس الجمعية الشيخ سالم بالوعل، وسيطروا على عواطفه بأوهام فارغة، وهيمنوا على أفكاره حتى صار كالآلة الصماء في أيديهم، ولا غرابة، فهو أمي ساذج أو كما يقول الحضارم: "على تَوّه"، واقترحوا عليه إبدال اسم " جمعية الإرشاد " بالجمعية الكثيرية؛ ليدخل في الإدارة أعضاء من قبيلته آل كثير؛ ليفوزوا بالأكثرية عند اجتماع الإدارة، وأزمع الشيخ بالوعل على ذلك، ثم أعلن لجميع الإرشاديين في العاصمة وفي خارجها ليجتمعوا في جاكرتا (بتافيا)، وأقبل الإرشاديون أفراداً وجماعات من العاصمة ومن خارجها، فشك البوليس الهولندي في هذا التجمع الذي لم يسبق له مثيل، فاتصلوا بنقيب العرب الشيخ عمر منقوش، يستفسرون منه الأمر حتى اطمأنوا، ولما رأى الشيخ بالوعل قدوم الإرشاديين أعلن تأجيل الاجتماع إلى أجل غير مسمى. ولكن وفود الإرشاد قررت إقامة الاجتماع كما نُشر في الصحف، وفعلاً اجتمعوا في دار الجمعية وأحضروا كاتب عدل ومحامياً، وتقرر في هذا الاجتماع فصل الرئيس الشيخ سالم بالوعل من الإدارة ومن الإرشاد، وتكونت إدارة جديدة للإرشاد من كبار الشخصيات وهم:
الشيخ غالب بن سعيد بن تبيع رئيساً
الشيخ محمد عبيد عبود كاتباً
الشيخ عبدالله بن عبدالقادر بن هرهرة أميناً للصندوق
الشيخ سالم عمر بالفاس مستشاراً
كان ذلك عام 1920م.
بذلك سلمت جمعية الإرشاد من المكيدة التي دبرها المرجفون والرجعيون ودعاة العنصرية ومن على شاكلتهم من الأغبياء والمخدوعين.(76/459)
أما الشيخ بالوعل فقد اعتبر فصله من إدارة الإرشاد ومن عضويتها إهانة شنيعة؛ لذلك رفع دعوى ضد جمعية الإرشاد هي والأعضاء الجدد الذين أدخلهم في العضوية قبيل حضور الوفود، وذهب بهم إلى دار الجمعية فوجدها تحت حراسة البوليس، فعاد إلى منزله بزملائه الأعضاء، وهناك قرروا إبطال قرار الفصل وحل جمعية الإرشاد، ثم رفع دعوى ضد الإدارة الجديدة بأنها غير شرعية، ولكن أراد الله لجمعية الإرشاد أن تزدهر ويتألق نجمها في إندونيسيا، ثم أُسدل الستار على الدعوتين إلى الأبد) (1).
المبحث الثاني
الإرهاب الفكري من أقوى أسلحة القبورية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تربية المجتمع على التسليم المطلق لأوليائهم وأقطابهم:
وهذه سمة أخرى من سمات الباطنية أن يربوا المجتمع بشكل عام على التسليم لهم وعدم معارضتهم، وأن المعارضة سبيل إلى الحرمان، وما أفلح من اعترض، والفوز والقبول في التسليم للقادة والأئمة والأولياء؛ وذلك أن علومهم الباطنة المزعومة لا يمكن إقامة الحجة عليها، فلا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل يمكن أن يدل عليها، فما بقي إلا أن يسلّم السامع، وأن يلغي عقله حتى لا يحرم، وكذلك تصرفاتهم المخالفة للشرع والعقل لا يمكن تبريرها إلا بذلك، ولو ذهبتُ أبحث عن الأمثلة، وأحصرها لضاقت عنها مساحة هذا المطلب، ولكن أضرب أمثلة قليلة تدل على أمثالها وأشكالها:
__________
(1) تاريخ الإرشاد في إندونيسيا ص( 22- 23 ) تأليف صلاح عبد القادر البكري ، الإدارة المركزية لجمعية الإرشاد الإسلامي، جاكرتا - إندونوسيا ط الأولى ( 1992 م ) .(76/460)
المثال الأول: في كتاب " السعادة الأبدية في الأنفاس العلية الحبشية "التي ألقاها صاحبها (علي الحبشي) في مجالسه التي كان يعقدها؛ لتعليم الناس وإرشادهم؛ ولتدريس وتربية طلابه، وتلقاها وجمعها أحد طلابه وهو (محسن بن عبدالله بن الحبيب الإمام محسن بن علوي السقاف)، وردت هذه الحكاية، قال: (وأورد الشيخ عبد العزيز الدباغ كلاماً في حسن الظن وكونه نافعاً، وإن لم يكن المعتقَد فيه متصفاً بذلك، فقال: كان رجل تاجراً وله مال كثير، فاشتاقت نفسه إلى ما مع الرجال أهل الكمال، وعزم أن يتجرد إلى الله، وينقطع إليه، وكان في البلد رجل مشهورٌ بالصلاح وتربية المريدين، وهو في الباطن على خلاف ذلك، فكان إذا رجع إلى خلوته يأتون إليه ناس من أصحابه على طريقته، فيلهون ويسكرون، فباع الرجل التاجر جميع ما معه وصيره نقداً، ثم سار إليه ومعه ذلك المال؛ ليتحكم له ويوصله إلى الله، فصادف وقت خلوته، فلما دق الباب أشرفت جارية، فقالت: من بالباب؟ فقال: عبدالعال، وكان واحد من أصحابه أهل الملاهي اسمه عبدالعال، فلما أخبرت الشيخ باسمه ظن أنه صاحبه، فقال لها: افتحي له الباب، فطلع الرجل، فوجد الجواري والشراب وآلات اللهو عنده، فما التفت إلى شيء قط بل جثا بين يدي الشيخ، فخجل لما رآه غير صاحبه، وهو يظهر الصلاح، فقال له: يا سيدي، أنا رجل أريد الطريق إلى الله، وأريد أن تسلّكني، وتدلني على الله، وهذا ما معي من المال، فلما وضعه بين يديه تقاصرا لخجل، فقال: إن الوظائف جميعها مشغولة إلا عمل في حديقة لنا بعيدة، خذ المكتل والمسحاة، وسر إليها، واشتغل فيها إلى أن يفتح الله عليك، فامتثل أمره، ولم يغير حسن ظنه فيه ما شاهده عنده، وحين وصل إلى الحديقة، ابتدأ في العمل، ومات أحد الأبدال في تلك الليلة، فاجتمعوا هم والقطب، فقالوا: من يصلح بدله؟ فقالوا: فلان، يعنون ذلك الرجل الذي في الحديقة؛ بسبب حسن ظنه، فدعوا منه، وقالوا له: خذ هيل بلا كيل، واتصل(76/461)
بربه، فاطلع على حالة شيخه، فقال:أنا قد أدركت مطلوبي، وهو يصطلح هو وربه) (1).
هذه هي التربية التي يربون بها أتباعهم، وينشئون عليها أجيالهم، فهل سيكون لدى خريج هذه المدارس أي غيرة أو نخوة تدفعه لإنكار منكراتهم، والاعتراض على أي شيء يقدمون عليه من أقوال أو أفعال مهما بلغت في القبح والسوء؟! وليس هذا هو المثال الوحيد، ولكن الأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
المثال الثاني:ما ذكره الشلي، وهو يتحدث عن كرامات الأولياء ووجوب التسليم لهم فيها، وإن ظهر منهم أي مخالفة، فإنهم لاشك أن لهم في الباطن ما يسوِّغ ذلك، قال: (وأنا أورد قصة، فيها أبلغ زجر وآكد ردع من الإنكار على أولياء الله تعالى وأتمّ حث على اعتقادهم والتأدب معهم وحسن الظن بهم ما أمكن، وهي ما حكاه إمام الشافعية في زمنه " أبو سعيد عبدالله بن أبي عصرون " قال: دخلت بغداد في طلب العلم، فرافقت ابن السقاء بالنظامية، وكنا نزور الصالحين، وكان ببغداد رجل يقال له الغوث يظهر إذا شاء، فقصدنا زيارته، ومعنا الشيخ عبدالقادر الجيلاني، وهو يومئذ شاب، فقال ابن السقاء: لأسأله مسالة لا يدري جوابها، وقلت: لأسأله مسألة، وأنظر ما يقول، وقال الشيخ عبدالقادر: معاذ الله أن أسأله شيئاً وأنا بين يديه أنتظر بركته، فدخلنا عليه، فلم نره إلا بعد ساعة، فنظر إلى ابن السقاء مغضَباً، وقال: ويحك يا ابن السقاء تسألني مسألة لا أدري جوابها، وهي كذا وجوابها كذا، إني لأرى نار الكفر تتلهب فيك، ثم نظر إليّ وقال: يا عبدالله تسألني؛ لتنظر ما أقول فيها وهي كذا وجوابها كذا، لتخران (2) عليك الدنيا إلى شحمة أذنيك بإساءة أدبك، ثم نظر إلى الشيخ عبدالقادر، وأدناه منه، وأكرمه، وقال له: يا عبد القادر، لقد أرضيت الله ورسوله بأدبك كأني أراك ببغداد، وقد صعدت الكرسي متكلماً على الملأ، وقلت: قدمي هذه على رقبة كل ولي، وكأني أرى الأولياء في
__________
(1) كنوز السعادة ص( 374 – 375 ) .
(2) كذا في الأصل.(76/462)
وقتك، وقد حنوا رقابهم؛ إجلالاً لك، ثم غاب عنا، فلم نره بعد. قال: فأما الشيخ عبدالقادر فقد ظهرت أمارات قربه من الله، وأجمع عليه الخاص والعام، وقال: قدمي هذه على رقبة كل ولي، فأجابه في تلك الساعة أولياء الدنيا، قال جماعة: وأولياء الجن، وطأطأوا رؤوسهم وخضعوا إلا رجلاً بأصبهان فسُلِب حاله، وممن طأطأ رأسه أبو النجيب السهروردي، وأحمد الرفاعي، وأبو مدين، والشيخ عبدالرحيم القناوي، قال ابن أبي عصرون: وأما ابن السقاء فإنه اشتغل بالعلوم حتى فاق أهل زمانه، واشتهر بقطع من يناظره في جميع العلوم، وكان ذا لسان فصيح، وسمت مليح، فأدناه الخليفة، وبعثه رسولاً إلى ملك الروم، فأعجب به، وجمع له القسيسين، وناظرهم، فأفحمهم،وعظُم عند الملك، فأراد فتنته فتراءت له بنت الملك، فافتتن بها، فسأله أن يزوجها له،فقال: لا إلا أن تتنصر، فتنصر والعياذ بالله، وتزوجها، ثم مرض، فألقوه بالسوق يسأل القوت، فمر عليه من يعرفه، فقال له: ما هذا؟ فقال: فتنة حلّت بي بسببها ما ترى، فقال: هل تحفظ القرآن؟ قال: لا إلا قوله تعالى: { رُبَما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين } (1)، ثم جاز عليه وهو في النزع، فقلبه إلى القبلة، فاستدار عنها، فعاد فاستدار عنها، فخرجت روحه لغير القبلة، وكان يذكر كلام الغوث، ويعلم أنه أصيب بسببه. قال ابن أبي عصرون: وأما أنا فجئت إلى دمشق، فأحضرني السلطان نور الدين الشهيد، وأكرهني على ولاية الأوقاف، فوليتها، وأقبَلت علي الدنيا إقبالاً كثيراً، فقد صدق الغوث فينا كلنا انتهى.
فهذه الحكاية التي كادت تتواتر في المعنى بكثرة ناقليها وعدالتهم فيها أبلغ زجر عن الإنكار على أولياء الله تعالى خوفاً أن يقع المنكر فيما وقع فيه ابن السقاء نعوذ بالله من ذلك) (2).
__________
(1) سورة الحجر ( 2 ) .
(2) المشرع ( 1/167 ) .(76/463)
قلت: هذه من خرافات القوم ولا يرهبنا وصفه لها بأنها كادت أن تتواتر، فأين أسانيده بذلك؟ ثم لو فرض تواترها، فلا تعدو أن تكون من أخبار الكهنة الذين يخبرون ببعض المغيبات،ويصدقون في بعضها؛ لأن الولي الحق ليس من شأنه أن يظهر متى شاء، ويختفي عن الأبصار متى شاء، وليس من شأنه أن يبشّر عبدالقادر بذلك العلو والاستكبار الذي يجعله يتحدى الأولياء ويقول: (قدمي على رقبة كل ولي)، ولكن الرجل قد بلغ بعض ما يريد من إقناع قرّائه بالتسليم للأولياء وعدم الاعتراض عليهم؛ لما يترتب على التسليم من الفوز والفلاح، وعلى الاعتراض من الطرد والحرمان.
المثال الثالث: ما نقله الشرجي عن أبي بكر بن أحمد بن دعسين في ترجمته أنه: (كان يقول: أقل درجات الإيمان أن تسلم للأولياء أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فإن لم تعرف معناها،ولا اهتديت إليه، فاحمل جميع أمورهم على أحسن الأشياء وأعدلها، وما صح عنهم فسمع وطاعة وحب وكرامة) (1).
قلت: هذه أقل درجات الإيمان فما أعلاها يا ترى؟.
المثال الرابع: ما ذكره صاحب تذكير الناس، قال: (وقال سيدي أحمد: وقد أمدّ الله الوقت للشيخ عمر أبا مخرمة من بعد العصر إلى المغرب ثلاثين ألف سنة، فاستشكل بعضهم هذا، فقال له سيدي: أما في بالك حديث يوم القيامة طوله خمسون ألف سنة، وأنه يكون على المؤمن كأخف صلاة صلاها في الدنيا وهذا منه، فقيل له: وكيف صارت تلك المدة ليالي أو أياماً أو غير ذلك، فقال: هذا علم تصديق وإيمان، ما هو علم ها توه أشوفه) (2). فقوله: (هذا علم تصديق وإيمان ما هو علم هاتوه أشوفه)، واضح جداً أنه ليس من علم الدليل والحجة التي يصح أن يطالب بها السامع، وإنما هو علم تصديق وإيمان لا اعتراض وانتقاد، وقوله: (هاتوه أشوفه) يعني أرني إياه حتى أنظر إليه.
المثال الخامس: من قواعدهم المسلّمة وكلماتهم الدارجة المنتشرة، قول عبدالله بن علوي الحداد:
__________
(1) الطبقات ص(390 ) .
(2) تذكير الناس ص( 125 ).(76/464)
وسلِّم لأهل الله في كل مُشْكِلٍ لديك،لديهم واضحٌ بالأدلةِ (1)
وقول الآخر:
وإذا لم تر الهلال فسلِّم لأناسٍ رأوه بالأبصار
هذه خمسة أمثلة تدل كلها على ما عنونا له في هذا المطلب، وهو تربية الأمة على الرضوخ والاستسلام وإلغاء العقول وتجاوز القواعد والأصول الشرعية؛ لأجل أن يمشي ما يريده القوم، ويسلم لهم ما يأتون من أقوال وأفعال دون حاجة إلى أدلة شرعية أو عقلية، وقد اقتصرتُ على هذه الأمثلة الخمسة مع وجود الكثير من الأمثلة في تراث صوفية اليمن، أما صوفية البلاد الأخرى فلا أخال قواعدها في هذا الموضوع خافية على المتابع لتواريخهم.
المطلب الثاني: استخدام الخرافة (2) والشعوذة (3) والاستعانة بالجن لإرهاب المخالف:
__________
(1) ?الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم لعبدالله بن علوي الحداد ص(41 )،طبع مطبعة المدني بالقاهرة سنة (1388هـ - 1968 م)
(2) تقدم تعريف الخرافة في الباب الثاني ص ( 364 )
(3) الشعوذة : خفة في اليد وأخذ كالسحر ، يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين ، وهو مُشعْوِذ ، ومشعوَذ . انظر:القاموس المحيط ص(427 ) .(76/465)
لقد سعى الصوفية والباطنية لترسيخ وتعميق القدرات الخارقة للأئمة والأولياء، حتى لقد بالغوا في ذلك، فوصفوهم بعلم الغيب وتصريف الكون والقدرة على إظهار الخوارق التي لم يُظهر مثلها الأنبياء، وأنهم قادرون على أن يتجزءوا بأجسادهم، وأن يكون الواحد منهم في عدة أماكن في آن واحد، وكل ذلك قد مر، حتى أصبح حكم الناس على صلاح الشخص هو إظهاره تلك الخوارق مع ادعاء الولاية، وعندما ترسَّخ ذلك في أذهان المجتمع، وتربى عليه، بادروا بافتراء الأكاذيب ورواية الخرافات عمن يريدون أن يسبغوا عليهم صفة الولاية حتى يقنعوا الناس بولايتهم، كما بادر طلاب الجاه والمناصب في الرياضات الموصلة إلى خرق العادات، وتعلموا أنواعاً من علوم السحر، حتى أتقنوا ذلك، وعملوا به، وعقدوا الصلح مع الجن؛ ليقوموا لهم بأعمال خارقة يطلعونهم على مغيبات واقعة، ثم جعلوا ذلك كله سلاحاً يشهرونه في وجه كل من يخالفهم، وينكر عليهم، وهذه عدة أمثلة توضح ذلك وتثبته:
المثال الأول: ما ذكره الشلي في ترجمة محمد بن علي مولى الدويلة، قال: (وتواجد يوماً بحضرة عمه الشيخ الإمام عبدالله بن علوي حتى غُشي عليه، ثم أقيمت الصلاة، فصلى معهم، فلما فرغوا، قال العارف بالله علي بن سلم لعمه عبدالله: صلى ابن أخيك بلا وضوء؛ لأنه زال عقله، فأخبره عمه بقول الفقيه علي بن سلم فقال: وعزة الحق إني توضأت، وشربت من الكوثر، ونفض لحيته، فتقاطر منها الماء، ثم قال:يا فقيه، نزل علينا شيء لو نزل على الجبال لدكت، ثم أنشأ يقول:
الحب حبي والحبيب حبيبي والسبق سبقي قبل كل مجيب
نوديت فأجبت المنادي مسرعاً وغطست في بحر الهوى وغدي بي
لي تسعة وثلاثة مع تسعة والعقد لي وحدي وعلا نصيبي
ما تعلموا أني المقدم في الملا ليلة سرى باليثربي سرى بي)(1).
__________
(1) المشرع (1/200-201 ) .(76/466)
فانظر إلى هذه الدعوى العريضة والتي برهانها أنه نفض لحيته، فتقاطر الماء منها، ولو كان ذلك الماء من ماء الكوثر، هل سيذهب هكذا هدراً ولا يعرف له ميزة عن غيره من المياه، ولا تظهر له رائحة، ولا يبقى في موضعه؟ إلى آخر ما يمكن أن يظهر من الدلائل، ثم أعجبُ لهذا الفقيه وسرعة تصديقه وتسليمه واقتناعه بما حكى هذا الرجل عن نفسه!.
المثال الثاني: ذكر الشلي في ترجمة الشيخ عمر المحضار أنه قال: (قال لابن أخيه الشيخ عبدالله العيدروس: أن رجلاً يغضب لغضبه جبار السماوات، وأشار إلى نفسه) (1)، ثم استدل الشلي على إثبات ذلك بقوله: (وكان إذا غضب على أحد أصابه الجذام وغيره من الأسقام بعد ثلاثة أيام، فقيل له: أما تخشى أن ينالك بهذا شيء؟ فقال: إني لم أدعُ على أحد، ولكني إذا غضبت على أحد، وقع في باطني نار لا تنطفئ إلا بعد ما يصيبه ذلك المرض، أو يتوب) (2). هذه الحكاية الله أعلم بصحتها ولكن على فرض صحتها، فإنها رادع قوي لكل من يفكر أن يخالف هذا الشيخ، وربما كان ذلك من السحر إذ الصحيح أن الساحر قد يصيب المسحور بعوار واختلال في عقله أو في بدنه، والقصة بغضِّ النظر عن صحتها أو عدم صحتها فالغرض منها حاصل حين تُروى، ويتداولها الناس، فإنه يترتب عليها هيبة عظيمة من التعرض لإغضاب من يدّعي الولاية.
__________
(1) المصدر السابق (2/242).
(2) المصدر السابق ( 2/242-243 ) .(76/467)
المثال الثالث: ما قدمناه في الباب الثاني في مطلب التصرف في الكون (1) عن " مرآة الجنان " (2) في قصة أحمد ابن أبي الجعد وسعيد بن عيسى العمودي، حيث ذكر أنه عندما أقام ابن أبي الجعد الشيخ سعيد؛ للإنصاف من نفسه، قال: (من أقامنا أقعدناه فقال الشيخ أحمد: ومن أقعدنا ابتليناه، فأصاب كل واحد منهما ما قال لصاحبه، وصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلىً في جسمه حتى لقي الله تعالى)، وهذه الحكاية تصب في نفس الغرض، وهو إرهاب الناس من التعرض للأولياء ومخالفتهم.
المثال الرابع: ما ذكره صاحب " تذكير الناس " عن أحمد بن حسن العطاس أنه ذكر حكاية طويلة منها أن عبدالرحمن بن مصطفى العيدروس دخل مصر، قال: (وحصلت بينه وبين أهل مصر مناظرة في الإمامة، وقال لهم: أنا أحق بها منكم؛ لِمَا اجتمعَ فيَّ من الشرف والعلم والتبرع، فقالوا له: لا نسلم لك إلا بدليل، فتوجه بحاله إلى القناديل التي في المسجد فابتلعها، فقالوا له: هذه ولاية، ومسلّمون لك فيها) (3).
والحكاية ظاهرة الدلالة على أن برهان الولاية هو هذه الخوارق التي لا يبعد أن تكون من السحر.
المثال الخامس: ما حكاه الشلي في ترجمة محمد بن علي مولى الدويلة، قال: (وأكثر أعماله قلبيات، وكان يخفي أعماله عن أصحابه حتى عن أهله، وربما اعترض عليه بعض من اتصف بالعلم وليس من أهله، حتى إن بعضهم قام يصلي، والسيد عنده نائم، فقال في نفسه: أنا ساجد وقائم وهذا مضطجع نائم، ويدّعون أنه قدوة للعالم. فلما سجد عجز عن رفع رأسه، فتاب عما وقع له في نفسه، فأمر صاحب الترجمة بعض من عنده بأن يرفع رأسه من السجود، ولما فرغ اعتذر إليه، وعاهده على أن لا يعود) (4).
__________
(1) انظر : ص ( 235 ) .
(2) وانظر أيضاً : طبقات الخواص ص(73 ) .
(3) تذكير الناس ص( 129-130 ) . و انظر: تاج الأعراس ( 1/ 342-343 ) .
(4) المشرع ( 1/200) .(76/468)
فانظر إلى ما لقي هذا العالم من العقوبة والتأديب لقاء اعتراضه على هذا الولي، ثم كيف سلَّم له ولايته، وتاب من الاعتراض عليه.
المثالان السادس والسابع: ما تقدم (1) نقله عن " تاج الأعراس " في مطلب استخدام الجن حيث نقلنا هناك حكاية سالم العطاس الذي كان له جني، اسمه " مزنقب "، وكيف سلطه على تلك القبيلة التي أبت أن تستقبل الركب العطاسي حسب تعبير المؤلف: (فصرخ بهم مزنقب صرخات، روّع بها نساء القبيلة وأطفالها؛ مما اضطر رجال القبيلة إلى الرضوخ لآل العطاس واسترضائهم والاعتذار إليهم وضيافتهم).
وحكايته مع شريف مكة وكيف فجّر"مزنقب" الماء في مجلس الشريف مما اضطره للتسليم له كذلك.
المبحث الثالث
استخدام القوة في محاربة الخصم
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: اللجوء إلى السلطان:
اللجوء إلى السلطان شأن المبتدعة والباطنية في كل زمان ومكان؛ لفقدهم الدليل المقنع، فيلجَئون إليه، يداهنونه، ويطْرُونه، ليدافع عنهم وعن باطلهم، ويدفع خطر خصومهم
لا يفزعون إلى الدليل وإنما في العجز مفزعهم إلى السلطان
__________
(1) انظر ما تقدم ص ( 351 ) .(76/469)
ويقول العلامة الحسين بن عبدالرحمن الأهدل في كلامه عن الصوفية: (فإن عادة هذه الطائفة أعني "ابن عربي "وأتباعه التحبب إلى الدولة وإيراد أحاديث وروايات في فضائلهم، حتى يجعلوا السلطان الجائر من الأبدال (1) والعادل هو القطب، وربما ألقوا في سمعه أن له درجة التحكيم والتفويض فيما فعله بلا حرج؛ ولذلك لم يكد يتبع (2) إنكار العلماء من قديم الزمان وهذا من مكرهم، قاتلهم الله) (3)، وكلام الأهدل هذا هو الذي استفاض، بل تواتر معناه، وهناك مواقف كثيرة جداً للصوفية في التزلف إلى السلاطين والتمكين لأنفسهم لديهم منذ نشأة الصوفية إلى اليوم، والذي يعنينا هم صوفية اليمن وقبوريتها، فإليك بعض تلك المواقف: من ذلك تبشيرهم بالمُلك أو بخلوده في أعقابهم، ومنه ما ذكره الخزرجي في "العسجد " في ابتداء أمر الدولة الرسولية، قال: (قال صاحب السيرة المظفرية: أخبرني الشيخ الصالح سليمان بن منصور بن حزينة قال: لما وصل الملك المسعود (4)، وعبر طريق خبت القحرية، وكان على قارعة الطريق شيخان من مشايخ الصوفية الصالحين، يسمى أحدها المغيث، والآخر الهدس، فقال أحدهما للآخر: هل ترى ما أرى؟ فقال له: وأي شيء تراه؟ قال: أرى شخصاً إن سار سار العسكر جميعه. فقالوا: لعله الملك المسعود فقال: لا، بل هو الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، والملك في عقبه إلى آخر الدهر) (5).
ومن ذلك بشارة صاحبَي عواجة محمد بن أبي بكر الحكمي ومحمد بن حسن البجلي مؤسس الدولة الرسولية عمر بن علي بن رسول المذكور سابقاً بانتقال الملك إليه وتقوية عزمه عليه.
__________
(1) في الأصل ( الأنذال ) وهو غلط واضح وقد صححه كذلك عبدالله الحبشي عند نقله في الصوفية والفقهاء ( 74 ) .
(2) كذا هو يتبع ، وهو محتمل ، ومحتمل أن يكون ( ينفع ) هو الصحيح
(3) كشف الغطاء ص( 218 ) .
(4) آخر ملوك الأيوبيين في اليمن .
(5) العسجد ص( 192 ) .(76/470)
قال الأستاذ عبدالله الحبشي تحت عنوان " تاريخ الصوفية في عهد بني رسول ": (ولعل بداية تاريخ الصوفية مع الرسوليين يبتدئ ببداية هذه الدول، بل قبل البداية بسنوات عدة، فالمؤرخون يذكرون تلك الصداقة الوطيدة بين مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور عمر بن علي بن رسول.- حكمه من 629 – 647هـ - وبين الفقيه الصوفي محمد بن أبي بكر الحكمي سنة 617هـ وصاحبه الصوفي محمد بن حسين البجلي المتوفى سنة 621 هـ وهما من كبار الصوفية في اليمن. ويقال أنهما اللذان قويّا عزمه في الاستيلاء على الحكم بعد مشاهدتهما تضعضع الدولة الأيوبية وتنافس أمرائها فيما بينهم على الحكم. ونحن إذا أدركنا أن موت الحكمي كان قبل قيام الرسولي بالحكم بنحو عشر سنوات، ندرك مدى العلاقة التامة بين الصوفية ودولة بني رسول، ولندع الباحث المعاصر الأستاذ محمد بن أحمد العقيلي، يشرح هذه المسألة، فيقول:(عرف ذلك الشاب المتطلع لملك اليمن عمر بن علي الرسولي وهما قد تنبآ له بالملك ما يمكن لطموحه المتطلع من الاستفادة من نفوذهما الروحي، فأخذ في تقديرهما، وكانا عند قدوم مساح الأرض الزراعية لتقدير الخراج على المزارع، يكتبان أغلب أراضي أهل جهاتهما، فلما جاء دور الفقيهين لمسح أراضيهما وأخذ الضرائب عنهما، عفا عنهما الأمير عمر بن علي الرسولي وقد بلغ ذلك نحو خمسة عشرة ألف دينار، وأدركا بلا شك مطمعه البعيد، فأخذا يروجان مقالتهما السابقة بملك اليمن له ويشيعان ذلك سراً، ثم يذيعانه مقدماً؛ لتهيئة النفوس والعقول لوثبته، وشاعت كلمتهما، فتقبلها الناس بالترقب) (1).
إذاً فالدولة الرسولية، تدين للصوفية بوجودها بعد أن مهدوا لها عند الناس، وأصبحت مما ينتظر وقوعه. ولا أحتاج إلى تعليق على ما قرره الأستاذان الحبشي والعقيلي.
__________
(1) التصوف في تهامة ص (119) ، الصوفية والفقهاء ص (45-46).(76/471)
ومن تلك البشارات بشارة الصوفي إبراهيم بن الحسن بن أبي بكر الشيباني للملك المظفر، قال الشرجي في ترجمته: (وكانت له كرامات ظاهرة، من ذلك أنه زاره الملك المظفر في أيام والده الملك المنصور ابن رسول، ولازمه في الملك بعد أبيه، فضرب الفقيه بيده على كتف المظفر، وقال له: المُلك لك ولذريتك لا أسد الدين ولا فخر الدين، يعني بني عمه. وكان المظفر يخاف أن ينازعوه في الملك بعد أبيه،فكان كما قال: تولى الملك المظفر وذريته من بعده وبطل أسد الدين وفخر الدين، فلما صار الملك إلى الملك المظفر، سامح الفقيه في خراج أرضه وأراضي أهله، ولم يزالوا على الجلالة والاحترام مدة المظفر وبعده) (1).
ومن تلك البشارات بشارة إسماعيل الجبرتي للملك الأشرف بانهزام جند قصدوه، فكان كما قال الشوكاني: (وصارت له عنده منزلة وكلمة لا ترد) (2). ذلك بعض ما لدى صوفية تهامة، ولدى صوفية حضرموت ما يشابهه، أو يزيد عليه، من ذلك ما ذكره صاحب " تاريخ الدولة الكثيرية " في ترجمة بدر أبي طويرق تحت عنوان " نسبه واهتمام العلويين به " قال: (تصدّى جماعة من السادة العلويين في أوائل ظهوره للبحث والتنقيب عن سلسلة نسبه، ثم أسفرت نتائج بحوثهم عما يأتي:
هو بدر بن عبدالله بن جعفر بن عبدالله بن علي بن عمر بن جعفر بن بدر بن محمد بن علي بن عمر ابن كثير بن ظنة بن عبدالله بن حرام بن عمر بن سبأ الأكبر، ثم ينتهي النسب إلى يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود - عليه السلام -.
__________
(1) الطبقات ص(47 -48).
(2) البدر الطالع ( 1/139 ) وسيأتي كلام الشوكاني كاملاً في هذا المطلب .(76/472)
هكذا جاء في دشتة العلامة زين العابدين بن عبدالله بن شيخ العيدروس العلوي، قال: ولما أن تحققوا صحة هذه النسبة ذهب سبعة منهم إلى ضريح النبي هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، واعتكفوا هناك متضرعين إلى الله سبحانه، أن يقيض هذا السلطان؛ لحفظ القطر كله. قال وظهرت آثار الإجابة في السنة نفسها، إذ طرق بدر جميع الجهة الحضرمية، واستولى عليها من عين با معبد غرباً إلى ظفار شرقاً، وذلت له رقاب أهلها في بضعة شهور، ولم يبق بها إلا مواضع حقيرة، استكملها فيما بعد، كما سيأتي) (1). فالقوم عندما لاحظوا أمارات النجاح وعوامل النصر واستعداد هذا السلطان، لتكوين سلطنة قوية واسعة ذات نفوذ، أحبوا أن يكون لهم عنده يد، فمثلوا هذه الرواية، وأحكموا فصولها، وأقنعوا بها السلطان، وكسبوا وده.
__________
(1) تاريخ الدولة الكثيرية ص( 36 ) .(76/473)
وقريباً من ذلك فعل بعضهم مع منصب آل عمودي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو ست، قال علوي بن طاهر الحداد، وهو يتكلم عن نسب آل العمودي الذي أثبته محمد بن ياسين باقيس إلى أبي بكر الصديق في كتاب له باسم " النبذة ": (وفي هذه النبذة التصريح بنسبهم على ما يقوله السادة الأشراف العلويون وهو مخالف، لما يقوله المؤرخون، وسيأتي بسط القولين ومستندهما في بابه قال: قال: " أي الحبيب عبدالله الحداد " فزرنا الشيخ العارف بالله معروف باجمال مؤذن بضرفون (1) ومن في تربته،وطلعنا بضة، واجتمعنا فيها بكثير من أهل الفضل من آل العمودي وغيرهم. منهم السيد عمر باعقيل باعلوي وزوجته الصالحة بنينة ومن آل العمودي الشيخ عبدالقادر والشيخ مطهر والشيخ عبدالرحمن والشيخ سعيد أولاد الشيخ الكبير الشهير عبدالله بن عبدالرحمن بوست، وهو والي منصب آل العمودي أعني الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن، وسمي بوست؛ لأن له في كل يد ست أصابع لأنه شبيه، بعبد الله بن عبدالرحمن ابن سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ لأنه جدهم، وينسبون إليه على ما ذكره بعض سادتنا آل أبي علوي، نفع الله بهم في بعض مكاشفاته، ولا تكون إلا حقيقة؛ لأن الكشف الصادق إخبار عن عين اليقين وهو، حق وصدق، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بأقوال الصالحين في الأثر المروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا منه) (2)، ثم قال: وأما ما ذكره الشيخ محمد بن ياسين عن الحبيب عبدالله الحداد عند ذكر الشيخ عبدالرحمن ابن عبدالله أبو ست وانتساب آل العمودي إلى أبي بكر الصديق، وقوله: " على ما ذكره بعض سادتنا آل أبي علوي، نفع الله بهم " فمراده بالبعض المذكور السيد الشريف أستاذ الفقهاء والمتكلمين، وإمام الزهاد الورعين أحد الأولياء المعتقدين عبدالرحمن بن علي بن أبي بكر السكران بن عبدالرحمن السقاف، له كتاب فيه الوقائع التي وقعت له في
__________
(1) موقع بالقرب بضة بوادي دوعن .
(2) الشامل ص( 163 ) .(76/474)
اليقظة والمنام وما بينهما، وهي إطلاعات روحية، تتمثل لهم فيها المعاني والأرواح، ذكر أنه اجتمع بروح الشيخ الكبير سعيد بن عيسى، وسأله عن نسبه، فذكرله سلسلة نسبه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والقصة أطول مما ذكرنا، وقد رأيناها بقلم بعض أشياخ آل العمودي) (1)، ثم قال:(وقد نقل الشيخ عبدالرحمن بن عثمان - الآنف الذكر - تلك الواقعة،وكتبها في مصحفه، ومنه نقلتها، وهي: وذكر الشريف عبدالرحمن بن علي: أن عبدالله بن عبدالرحمن بن الإمام أبي بكر الصديق كان له ست أصابع، السادسة على صورة الإبهام تليها. وكان ذا فراسة وفهم في الأمور. كان إذا دخل البلد، لا يستطيع أحد من أهل البلد، أن يكذب خشية أن يعرفه، ويسمع كذبه بفراسته. وكان يقول له والده عبدالرحمن: سيخرج من صلبك ولدٌ اسمه كاسمك، وصورته كصورتك، والله إني أنظر إلى أصبعه الزائدة تتحرك عند حركتك،وتكون له فراسة كفراستك، وفهم كفهمك ووالله لولا أنه في غرة كل موجود ليس كمثله شيء، لقلت أنك هو، وهو أنت. وكان الشيخ محمد بن عمر باعفيف يقول لشيخه الشيخ عبدالرحمن: يا سيدي، أهو قد ظهر؟ فيقول. لا، إلا أنه قريب الظهور انتهى. والحبيب السيد الشريف عبدالرحمن بن علي المنسوب إليه هذه الواقعة الكشفية الروحية ولد سنة(850)، وتوفي سنة (923 هـ). وقد تحققتْ بولادة الموعود به الشيخ المعمر عبدالله بن عبدالرحمن المذكور في أواخر القرن العاشر، وتوفي سنة (1072 هـ)، وكان له في كل يد ست أصابع، الزائدة على صورة الإبهام تليها. وهذه الحكاية من أغرب ما يروي) (2)،وقد كان عبدالرحمن أبوست العمودي حاكماً على منطقة دوعن مدة طويلة.
__________
(1) المصدر السابق ص( 165 – 166 ) .
(2) المصدر السابق ص( 166 ) .(76/475)
وهذه النماذج وغيرها كثيرة كافية للدلالة على منهج القوم في استرضاء السلاطين والحكام؛ لكسب تأييدهم، وضمان وقوفهم معهم ضد مخالفيهم، ولم ينتهِ هذا المنهج أو يتغير، فصوفية اليوم هم صوفية الأمس، وإن ما حدث أيام حرب الانفصال - ربيع الأول 1415 هـ من صوفية حضرموت لكافٍ في الدلالة على ذلك. فقد وقفوا مع الانفصاليين بكل ما أوتوا من قوة، وقد تبارى خطباؤهم في تأييد حركة الانفصال، وأصدروا البيانات المؤيدة لها، وأفتوا بأن القتال في صفوف الاشتراكيين جهاد في سبيل الله؛ لأنه دفاع عن الأنفس والأعراض والأموال إلى غير ذلك من المواقف، بل إن بعض من يكتب اليوم في التنظير للصوفية والدفاع عنها قد قَبِل أن يكون وزيراً للأوقاف في حكومة الاشتراكيين الانفصاليين، ولكن سرعان ما تغيرت المواقف، وتبدل الولاء، وتناقضت الخطب والبيانات بمجرد انتصار القوات (الحكومية) وأصبحوا يتظاهرون بتأييدها، وأنهم كانوا مؤيدين لها طيلة المحنة التي مرت بها البلاد، ولا أدري كيف يثق الحكام بمن هذه مبادؤهم ومواقفهم؟! أم أنها مناورات من الطرفين على حد قول الأول: (كلانا عالمٌ بالترهات).
وإليك أخي القارئ الكريم بعض المواقف التي استعان فيها الصوفية بالحكام ضد مخالفيهم:
الموقف الأول: ما ذكره الخزرجي في ترجمة الفقيه حسين بن أبي بكر السودي، قال: (وكان فقيهاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالفقه والصلاح، وشهدت له كرامات كثيرة، وكان معظماً عند الناس، ولكن بلغ الملوك عنه أنه يتصل بإمام الزيدية في عصره، وهو محمد بن مطهر، فكرهوه، وهموا بأذيته، فكان لا يستقر في موضع ينالونه فيه، وكان ينكر على الفقراء الرقص والسماع؛ فلذلك أجمع الفقراء والفقهاء عليه، ولم يزل حذراً من السلطان حتى توفي في السنة المذكورة سنة "704هـ ") (1).
__________
(1) العقود اللؤلؤية (1/302 ) .(76/476)
الموقف الثاني:ذكره شيخ الإسلام الشوكاني - رحمه الله - في ترجمة إسماعيل الجبرتي، قال: (وكان أول ظهور أمره أنه بشر السلطان الأشرف بانهزام جند قصدوه، وكان الأمر كذلك. وصارت له بذلك عنده منزلة وكلمة لا ترد، وكان منزله ملجأ لأهل العبادة ولأهل البطالة وأهل الحاجات، فأهل العبادة يحضرون للذكر والصلاة، وأهل البطالة للسماع واللهو، وأهل الحاجات لوجاهته، فأنه تتلمذ له أحمد بن الرداد، ومحمد المزجاجي، فجالسا السلطان، وكان مغرى بالسماع والرقص داعياً إلى نحلة ابن عربي حتى صار من لا يحصل نسخة من الفصوص، تنقص منزلته عنده، واشتد البلاء على العلماء الصادعين بالحق، بسببه وفيه يقول بعض الأدباء، وكان منحرفاً عنه ومعتقداً لصلاح صالح المصري:
صالح المصري قالوا: صالح ولعمري إنه للمنتخب
كان ظني أنه من فتية كلهم إن تمتحنهم تختلب
رهط إسماعيل قطاع الطر يق إلى الله وأرباب الريب
سفل حمقى رعاع غاغة أكلب فيهم على الدنيا كلب
وقد كان قام صالح المصري هذا على صاحب الترجمة، فتعصبوا له حتى نفوه إلى الهند، ثم كان الفقيه أحمد الناشري عالم زبيد يقوم عليه وعلى أصحابه، ولا يستطيع أن يغيرهم عما هم فيه؛ لميل السلطان إليه) (1). فانظر كيف استُغِلَّ نفوذ هذا الصوفي على السلطان إلى هذه الدرجة من الظلم والاضطهاد للخصوم، وهناك مواقف كثيرة سيجدها المتتبع لو بحث عنها.
ولصوفية حضرموت مواقف تندرج في نفس هذا المسلك الدنيء، وتسير على ذات المنهج الرديء، وكان أبرزها في أثناء الصراع الذي نشب في إندونيسيا بين العلويين والإرشاديين:
__________
(1) البدر الطالع (1/139 – 140 ) وقد ذكر طرفاً من قصة صالح المصري الخزرجي في العقود اللؤلؤية ( 2/225 ) في حوادث سنة ( 797هـ ) ، وعبد الله الحبشي في الصوفية والفقهاء ص( 118 ) .(76/477)
فمن ذلك سعيهم لدى حكومة بريطانيا وإقناع قنصلها في العاصمة الإندونيسية بتافيا (جاكرتا) بأن الإرشاد، تعمل ضد السياسة البريطانية، قال صلاح البكري: (وقد تأثر القنصل لجهله حقيقة الإرشاد، فأرسل إلى الحكومتين القعيطية والكثيرية؛ ليأخذوا حذرهم من كل إرشادي يدخل حضرموت، ويرسل المسؤولون في الحكومتين منشوراً على كافة الحضارم بإندونيسيا) (1). ثم ذكر نص البلاغ الذي يتهدد ويتوعد كل من بقي في جماعة الإرشاد، ويصفه بأنه عدو لوطنه ولمواطنيه عاقاً لهم مخالفاً لجماعتهم في كل مقوماتهم ساعياً في تسميم عقولهم وأفكارهم (2)، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تحول إلى اضطهاد حقيقي للإرشاديين في بلدهم الأصلي حضرموت، قال البكري: (لم يكتف آل باعلوي وغيرهم من المعارضين لثورة الإرشاد الدينية الحرة عند هذا الحد، فاتجهوا بوشاياتهم إلى حضرموت، واستطاعوا أن يؤثروا على السيد حسين بن حامد المحضار وزير الحكومة القعيطية بمدينة المكلا. فقد كان هذا الوزير يتلقى الرسالة تلو الرسالة من قريبه السيد محمد المحضار ببندووسو بجاوه، يحرضه على عرقلة كل إرشادي يأتي من إندونيسيا إلى وطنه بحضرموت. وقد تأثر الوزير بتلك الرسائل إلى حد كبير، فأخذ يضطهد كل إرشادي قادم إلى حضرموت، وأسهم في ذلك والي دوعن عمر بن أحمد باصرة، أسهم في التعذيب؛ إرضاء لوزير الحكومة القعيطية) (3).
ولم يكتفوا بالتنكيل بالمنتمين إلى جمعية الإرشاد فحسب، بل تعدى الضرر والاضطهاد إلى أسرهم وأقربائهم للضغط عليهم وحملهم على إخراج أقاربهم من جمعية الإرشاد، وقد شرح ذلك الأستاذ البكري، وأوضح أن نائب السلطنة بدوعن، تولى ذلك، وأورد على ذلك دليلاً هو رسالة من أحد أقرباء عضو من أعضاء الإرشاد. هذا نصها:
(الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) تاريخ الإرشاد ص( 79 ) .
(2) المصدر السابق ص( 81 ) .
(3) المصدر السابق ص( 84 ) .(76/478)
إلى جناب الأكرم المكرم المحترم العزيز الأخ سالم بن أحمد با مصفّر سلمه الله تعالى آمين. وعليه مني السلام وأزكى التحية والإكرام ورحمة الله وبركاته على الدوام. صدر المرقوم من قيدون، والعلم خير ولطف وعافية، نرجو الله الكريم أنك وكافة المعارف بخير وعافية.
قد سبقت إليك جملة كتب وفيها من الحقائق كفاية، وعرفناك أن نحن بغيناك تخرج من هذه الجمعية "جمعية الإرشاد"؛ الله الله لحيث المشقة ضاوية علينا، وقد وصّالنا المقدم، وبتينا إلى عنده، وأعطى لنا مهلة لما شهر شعبان، من خرج من هذه الجمعية يخبر الحبيب محمد بن أحمد المحضار ولعاد عليه شيء، ومن لا خرج بايوصي المقدم لأهله،وأنت بُصْرك. الله الله في الجواب مطلوب وأما فينا فما تحتاج إلى وصاه والسلام.
حرر في 12 ربيع الثاني سنة: 1338 هـ
طالب الدعاء
محمد بن أحمد بامصفر) (1)
ولم يكتف العلويون بذلك، بل ذهبوا إلى أبعد منه حيث وشوا إلى شريف مكة، وحذروه هؤلاء الإرشاديين، ووصفوهم له بأنهم نواصب، يبغضون آل البيت، ولديهم أفكار سامة، يريدون منعهم من الحج والعمرة ودخول أراضي الحجاز؛ حرصاً على سلامة أهله وسائر الحجاج من انتقال عدوى هذه الأفكار إليهم؛ ومنعاً من أن يلتقي هؤلاء الخوارج بإخوانهم الذين على شاكلتهم، يعنون أتباع الدعوة النجدية، وقد أورد البكري نص الرسالة المتضمنة لذلك (2).
هذه بعض الأدلة على لجوء القبوريين إلى السلطان أياً كان هذا السلطان مسلماً أو كافراً، مادام أن الالتجاء إليه سيحقق لهم غرضاً.
__________
(1) تاريخ الإرشاد ص(121).
(2) المصدر السابق ص(82-83) .(76/479)
وقد لفت نظري سقاف بن علي الكاف في مؤلفه " حضرموت عبر أربعة عشر قرناً ". حين أرخ لهذه الحوادث، وقد حاول أن يضبط نفسه، وأن يقاوم مشاعره، فلم يتحامل تحاملاً ظاهراً على أصحاب الإرشاد، ولكنه أورد رسالتهم إلى وزارة الخارجية البريطانية ليومئ إلى القارئ أن هؤلاء القوم حملهم بغضهم لخصومهم وهواهم المتبع على أن يلجئوا إلى العدو الكافر، ويستعينوا به على خصومهم وقد نسي أن أصحابه قد فعلوا أكبر من ذلك وأكثر وليس فقط مع بريطانيا، بل مع بريطانيا وهولندا وغيرهما من دول المسلمين والكفار وأن بريطانيا استجابت لطلب العلويين وجارتهم على رغبتهم، وضايقت الإرشاديين في بعض مستعمراتها (1).
المطلب الثاني: اللجوء إلى القبائل وحملها على إخضاع خصومهم:
__________
(1) قد يقول قائل : وأنت فعلت نفس الشيء ، فذكرت ما صدر عن العلويين ، ولم تذكر ما صدر عن الإرشاديين . قلت : لا سواء ، فالكاف مؤرخ لحضرموت ومن المفترض أن يكون عادلاً منصفاً لكل أهل حضرموت ، وأما أنا فقد حددت منهجي وهو الكلام عن الصوفية فقط ناقداً وكاشفاً عن حقيقتها ، ولست مجرد مؤرخ ناقل للأحداث .(76/480)
تقدم بيان ما وصلت إليه الصوفية القبورية من سلطة ونفوذ على القبائل، والإشارة إلى أنها تستخدم ذلك النفوذ ضد كل من يخالفها، وتسخرها؛لتهديد وأذية خصومها، وقبل أن نذكر تسخير الصوفية للقبائل في ضرب الخصوم الأباعد، نذكر قصة طريفة تؤدي الغرض، وتظهر مدى استخدامهم لذلك النفوذ والزج بالقبائل في فتن لا ناقة لهم فيها ولا جمل، قال محمد بن هاشم تحت عنوان" قضية التابوت ": (الذي يظهر أن نفسيات السراة والزعماء من السادة وغيرهم من أهل ذلك القرن قاسية متصلبة، لا تعرف المرونة، ولا تجنح إلى المجاملة. وربما تغلّب على القوم التعسف الأناني، والتعصب الأعمى الذي تنكره العقول، وتمجه الأذواق، وتقف الطباع السليمة حسرى دون شأوه. وقضية التابوت يستنتج منها ما ذكرناه، ويعلم منها مبلغ التخبط السياسي الذي تعانيه حضرموت في ذلك العهد وإليك ما قالوه عنها، قالوا: "وفي سنة 1161هـ كانت واقعة التابوت الذي أرسله الشيخ العمودي لضريح الحداد، وهو شبيه التابوت الذي على قبر المحضار ". فاختلف رأي السادة فبعضهم رضي ذلك كالحبيب أحمد بن علي ابن الشيخ أبى بكر بن سالم ومنهم من لم يرض كالسادة آل العيدروس، وكذلك اختلف رأي القبائل على هذا حتى وقعت الحرب على وضعه. وأصابت رصاصة رأس السيد صالح بن علي بن أحمد ونفذوا به إلى عينات حيث قضى نحبه. وبقي التابوت موضوعاً في بعض الديار بأمر من يافع أشهرهم أحمد غرامة البعسي، وصمم الحبيب أحمد بن علي على وضعه على الضريح فجاء الرتبة من يافع ووضع بحضورهم قيل على رضى من آل همام ممزوج بخداع.(76/481)
وبعد وضعه قام السادة آل العيدروس وعظم عليهم الأمر واستنجدوا بالشنافر وساروا على أحيائهم فصار بعد ذلك ما صار من حريق التوابيت كلها التي على القبور. ثم تراجع الناس واجتمع الرأي على إرجاع التوابيت فأعيدت على حالها وأصلحن بأعواد هندية مصهرة) (1).
ومما يظهر نفوذ أولئك الصوفية وتسخيرهم للقبائل ما قاموا به إزاء الحملة النجدية على حضرموت، والتي استهدفت وادي حضرموت من المشهد جنوباً غربياً إلى عينات في الشمال الشرقي، أو إلى قبر هود شرق عينات، فبعد الكر والفر والأخذ والعطاء، وحينما همَّ النجديون بدخول وادي عمد والذي أول مُدنهِ مدينة حريضة، جمع آل العطاس قبائل تلك المنطقة وكونوا منهم جيشاً كبيراً تصدى للنجديين وكسروهم وذلك عندما بدأ الضعف يَدبُّ فيهم بسبب هجوم محمد علي باشا على عاصمتهم الدرعية وقد فصل ذلك صاحب تاج الأعراس في عدة مواضع (2)، ومما قال وهو يتحدث عن القائد العام لجيش حضرموت علي ابن جعفر العطاس:(ومما أكرمه الله به من دقة النظر، فمن فطانته ودقة سياسته أنه جعل على كل قبيلة من تعتقده وتحترمه من السادة المتقدم ذكرهم زيادة على غيره) (3)، وكانت القبائل التي جمعها آل العطاس وقادوها بأنفسهم قبائل الجعدة قال: (ومما يجدر بالذكر هنا أن المقدم عمر بن علي باصليب المشجري لما بلغه الخبر بهجوم الوهابيين على بلد حريضة جاء إليها في ثلاثمائة رامي من قومه آل باصليب سكان حالة باصليب والمعقل بوادي عمد منجداً للسادة آل العطاس وقبائل الجعدة ففرحوا بهم ومنهم وشكر الحبيب علي بن جعفر المقدم باصليب وقومه.. الخ) (4).
__________
(1) تاريخ الدولة الكثيرية ص( 115-116 ) . وانظر : جواهر تاريخ الأحقاف (ج2/218-219)..تأليف العلامة محمد بن علي بن عوض باحنان,طبع مكتبة الفجالة الجديدة ، القاهرة (1382هـ-1963م).
(2) انظر: ( 1/ 174 ) و ( 1/ 230 – 231 ) و ( 1/ 234 )
(3) تاج الأعراس ص(233-234).
(4) المصدر السابق (1/ 234 ) .(76/482)
وهذا نموذج آخر من استخدام القبائل للحفاظ على مصالح آل باعلوي وإلا فالجيش النجدي ما كان يريد إلا أن يطهر البلاد من أدران القبورية، وأن يصلح ما أفسده الصوفية والقبورية من عقائد الناس، وصاحب المصلحة الحقيقية في ردعه وصده هم القبوريون أما سائر الأمة فكان من صالحهم أن ينتصر وأن يزيل مظاهر القبورية التي أفسدت عقائد الناس وأن يعلموهم دينهم كما حصل في المناطق التي استولوا عليها في كثير من أرجاء الجزيرة العربية كما قرر ذلك شيخ الإسلام الشوكاني في ترجمة "الشريف غالب بن مساعد "من البدر الطالع قال وهو يتكلم عن حروبه مع صاحب نجد " عبدالعزيز بن سعود ": (فإن صاحب نجد تبلغ عنه قوة عظيمة لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة. فقد سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز. ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعده غالبهم إما رغبة وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئاً ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج. وبالجملة فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها، ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلاً تحت دولة صاحب نجد وممتثلاً لأوامره خارج عن الإسلام) (1).
__________
(1) البدر الطالع (2/5) .(76/483)
وقد أكد ما قلت عن الجيش النجدي العلامة ابن عبيد الله في مادة المحيضرة من "إدام القوت " حيث قال: (ولم يفسد حرثاً ولا أهلك نسلاً، وإنما هدم القباب، وسوى القبور المشرفة، وألقى القبض على المناصب وأهانهم، وأتلف قليلاً من الكتب، كثره بعض العلويين، كصاحبنا الفاضل السيد علوي ابن سهل بدون مبرر من الدليل) (1).مع أن أهل حضرموت في تلك الفترة بأمس الحاجة إلى من يعلمهم أمر دينهم ويبصرهم بما هم عليه من أخطاء في العقائد والأعمال. فكان قيام تلك القبائل تضحية بمصالحها الحقيقية للحفاظ على مصالح سادتهم، ولما لم يكن هناك مقاومة تذكر من علماء حضرموت تستحق التصدي القوي لها باستخدام القبائل لم أر شيئاً واضحاً في ذلك إلا في الصراع العلوي الإرشادي، فقد حاول آل باعلوي أن يستفيدوا من نفوذهم الروحي على قبائل يافع، فكاتبوهم يحرضونهم على مواجهة الإرشاديين وقمعهم ولكن الأحوال قد تغيرت، والعقول قد تفتحت، والعقائد التي كانوا يعتقدونها فيهم قد ظهر زيفها، فلم يسعفوهم ولم يستجيبوا لمطالبهم، بل سخروا بها وإليك بعض رسائلهم إلى قبائل يافع لذلك الغرض:
__________
(1) إدام القوت ص(122-123) الحلقة (40) المنشور في مجلة العرب .(76/484)
الرسالة الأولى: من محمد بن أحمد المحضار إلى علي بن حسن بن نقيب اليافعي قال فيها: (الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله مهدي السلام الخاص من الشيخ المكرم والمحب المحترم علي بن حسن ابن نقيب وعلى من بقي له اتصال بالحبيب والشيخ مولى الكثيب (1) وأما من خرج عن دائرة أهل البيت فيأكله الكلب أو الذئب، وماله في الأمر من نصيب وكتاب الشيخ علي وصل وفرحنا به وزواج الأولاد صالح وصالح مبارك وقدوم إلى خير وبودنا أن نرسل واحداً من الأولاد ولكنهم معذورون وبالنية حاضرون، والسلام وسلموا على الخال طالب عوض وسمعنا بعزمه إلى الحج والزيارة وربح التجارة وفرحنا له، ومن الله على الجميع، والسلام منا ومن الأولاد عليكم ولأهل الوداد أما أهل الفساد "يعني الإرشاديين" فلهم الإبعاد وأشد من بعد عاد والمولى بالمرصاد والشفيع سيد الرسل يوم الميعاد والتناد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وبلغنا أن الإمام " يحيى إمام اليمن " مجهز على يافع، ويافع لا يصلح الأمر ويطفي الجمر إلا الأخ محمد بن علي الحييد لأن الإمام يكاتبه ويافع قد هم حقه (2) أن بغيته يعزم أجمعوا على الذي يليق به من الخرج والفتح على يده، وخبر الإمام واجب الانتباه له - يعني إمام اليمن – لأن الأمر مهم جم جم، ومعه قصد – لعل الكاتب يقصد من سؤاله غزو حضرموت – لا
__________
(1) مولى الكثيب هو أبو بكر بن سالم صاحب عينات سمي مولى الكثيب لأنه عندما قربت وفاته حاول بعضهم أن يستخلفه فأبى وقال : ( إذا ما لحقنا حد متأهل با نطرحه في كثيب عينات ) فاشتهر الكثيب منذ ذلك الوقت وقالوا عنه أنه ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية ) ... الخ، انظر:الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر تاج الأكابر ص ( 117 ) .
(2) قوله : "قدهم حقه" أي إنما هم حقه أي ملكه وهذه العبارة كثيراً ما يطلقها السادة على أتباعهم والمتعلقين بهم أنهم حقهم أو فقراؤهم أو عسكرهم وهكذا .(76/485)
يقدرون يافع ولا غيرهم بمقاومته وهو هزم التركي ومعه دولة كبيرة والله يختار.
حرر في بندووسو في 7 جمادى الآخرة سنة 1338هـ
الداعي / محمد بن أحمد المحضار. (1)
والرسالة الثانية:- أيضاً من المحضار ذاته (الحمد لله ونسأله بالاسم الأعظم والحبيب الأكرم - صلى الله عليه وسلم -ومحبهم يغنم نخص المحبين بني مالك لا يزالون ملوك الممالك مازال الكل في مسلك المصطفى سالك،والشيخ أبو بكر ضامن لهم بذلك وفوق ما هناك (2) ونهدي السلام للجميع ونخص منهم الشيبان والشبان،جاء العزم إليكم بعد مولد ربيع الأول، والحذر شيء يدخل عليكم مما دخل على الكثير من أهل الزمان الذين استحوذ عليهم الشيطان وخرجهم من الأمان وسيخرجهم من الإيمان. بلغنا أنه وصل عندكم باعشر العشير وحمار الحمير وخنزير الخنازير قطعوا حباله وصفعه بالنكير وخبث الحديد ما يصفيه إلا الكير وشنو النكير. وإن بلغنا دخول شيء المكان تركنا كليران (بومي أيو) والله المستعان.
محمد بن أحمد المحضار) (3)
وقد علق الأستاذ البكري على هذه الرسائل فقال: (لم يستطع السيد المحضار الوقوف أمام تيار النهضة الفكرية ولم تؤثر رسائله في يافع فلم يقيموا لكلامه وزناً ولا لتهديداته ثمناً، بل كان الأمر بالعكس، كانوا يهزءون برسالته كل الهزء)(4).
المطلب الثالث: اعتماد التصفية الجسدية للخصوم:
__________
(1) تاريخ الإرشاد ص( 118 – 119 ) .
(2) انظر : هذه العبارة وقارنها بكلام دعاتهم اليوم الذين يقولون إنهم موافقون لخصومهم بأن من أعتقد الضر والنفع لغير الله فهو مشرك فأي نفع أعظم من هذه الضمانة باستمرار السلوك على سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) تاريخ الإرشاد ص( 119 – 120 ) .
(4) المصدر السابق ( 120 ) .(76/486)
مرّ بنا الأذية الكبيرة التي قام بها إسماعيل الجبرتي وأعوانه ضد الذي كان ينكر عليهم في زبيد " صالح المصري " (1)، وقد ذكر الشوكاني العجائب من ذلك مما يحاول القبورية والمنحرفون فعله بدعاة السنة كما في كتابه أدب الطلب سواء ما وقع للإمام محمد بن إسماعيل الأمير أو له شخصياً أو لغيرهما، وقد تناقل الناس ذلك في أنحاء اليمن في الجبال والتهائم وحضرموت وما بين ذلك ومما تناقلوه: الضرب ومحاولة القتل بالسلاح واستخدام السم ولكني في مثل هذه القضايا لا أعول على ما كان متداولاً بين الناس دون أن يكون مكتوباً وعليه فإنني أقتصر على ما ذكره صلاح البكري مما حدث ضد أصحاب الإرشاد بإندونيسيا. فقد قال تحت عنوان "محاولة اغتيال رائد النهضة الدينية ":
(حاول جماعة من آل باعلوي اغتيال الشيخ أحمد محمد السوركتي، وذلك بدس السم داخل فاكهة تسمى " بلمنبنق " وكان الشيخ مولعاً بأكلها فابتاع منها كمية وأكلها وبعد لحظات شعر بمغص شديد وأخذ يئن من شدة الألم فاستدعى طبيباً، وبعد الفحص قرر الطبيب أنه مسموم، ولولم يسعفه الطبيب بالدواء لذهب الشيخ إلى رحمة ربه، وهكذا أراد الله تعالى للشيخ أن يعيش ليستمر في تأدية رسالة الإسلام. وفي مدينة بوقور هاجم جماعة من العلويين وأنصارهم الشيخ عبد العزيز الكويتي ضيف إندونيسيا ومؤيد الحركة الإرشادية الحرة وضربوه بآلة حادة في رأسه ولكن عناية الله أحاطت به وأنقذته من الموت.) (2).
__________
(1) تقدم في هذا المبحث .
(2) تاريخ الإرشاد ص( 135 ) .(76/487)
وهناك حادثة أخرى ذكرها ابن عبيد الله وهو يتحدث عن حاكم تريم، فيقول: (وكان ينكر بطبعه غلوا القبوريين، فوافقته آراء الوهابية، وأكثر التعليق بوحيد عصره، وفريد دهره، مقدم الجماعة، وشيخ الصناعة، الذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم، العلامة الجليل السيد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، المتوفى بتريم سنة 1248هـ، وقد اتهمه العلويون بأنه هو الذي يعلم عبدالله عوض غرامة آراء الوهابية، ويحثه على الالتزام بها، ومؤاخذة الناس بمقتضاها، فتآمروا على قتاله، فهرب إلى بيت جبير)(1).
__________
(1) إدام القوت ص(122).الحلقة (40) من مجلة العرب .(76/488)
وأما الإمام الشوكاني فقد طالت شكواه من الخصوم الجهلة والمتعصبة القبورية وغيرهم وذكر أنواعاً من الأذى الذي حاولوا أن يلحقوه به وبغيره من دعاة السنة والتوحيد، فقال - رحمه الله -: (ومن عجيب ما أشرحه لك أنه كان في درس الجامع بعد صلاة العشاء الآخرة في صحيح البخاري يحضره من أهل العلم الذين مقصدهم الرواية وإثبات السمع جماعة، ويحضره من عامة الناس جمع جم لقصد الاستفادة بالحضور، فسمع ذلك وزير رافضي من وزراء الدولة وكانت له صولة وقبول كلمة بحيث لا يخالفه أحد وله تعلق بأمر الأجناد، فحمله ذلك على أن استدعى رجلاً من المساعدين له في مذهبه فنصب له كرسياً في مسجد من مساجد صنعاء، بمكان يسرج له الشمع الكثير في ذلك المسجد حتى يصير عجباً من العجب فتسامع به الناس وقصدوا إليه من كل جانب لقصد الفرجة والنظر إلى ما لا عهد به، والرجل الذي على الكرسي يملي عليهم في كل وقت ما يتضمن الثلب لجماعة من الصحابة صانهم الله، ثم لم يكتف ذلك الوزير بذلك حتى أغرى جماعة من الأجناد من العبيد وغيرهم بالوصول إليَّ لقصد الفتنة، فوصلوا وصلاة العشاء الآخرة قائمة ودخلوا الجامع على هيئة منكرة وشاهدتهم عند وصولهم، فلما فرغت الصلاة قال لي جماعة من معارفي إنه يحسن ترك الإملاء تلك الليلة في البخاري فلم تطب نفسي بذلك، واستعنت بالله وتوكلت عليه، وقعدت في المكان المعتاد، وقد حضر بعض التلاميذ وبعضهم لم يحضر تلك الليلة لمَّا شاهدَ وصول أولئك الأجناد، ولما عقدت الدرس وأخذت في الإملاء رأيت أولئك يدورون حول الحلقة من جانب إلى جانب ويقعقعون بالسلاح ويضربون سلاح بعضهم في بعض، ثم ذهبوا ولم يقع شيء بمعونة الله تعالى وفضله ووقايته. ثم أن ذلك الوزير أكثر السعاية إلى المقام الإمامي هو ومن يوافقه في هواه ويطابقه في اعتقاده من أعوان الدولة واستعانوا برسائل بعضها من علماء السوء، وبعضها من جماعة من المقصرين الذين يظنهم من لا خبرة له في عداد أهل(76/489)
العلم. وحاصل ما في تلك الرسائل إني قد أردت تبديل مذهب أهل البيت عليهم السلام، وأنه إذا لم يتدارك ذلك الخليفة بطل مذهب آبائه ونحو هذا من العبارات المفتراة والكلمات الخشنة والأكاذيب الملفقة. ولقد وقفت على رسالة منها لبعض أهل العلم ممن جمعني وإياه طلب العلم ونظمنا جميعاً عقد المودة وسابق الألفة فرأيته يقول فيها مخاطباً لإمام العصر: إن الذي ينبغي له ويجب عليه أن يأمر جماعة يكبسون منزلي ويهجمون مسكني، ويأخذون ما فيه من الكتب المتضمنة لما يوجب العقوبة من الاجتهادات المخالفة للمذهب، فلما وقفت على ذلك قضيت منه العجب، ولولا أن تلك الرسالة بخطه المعروف لديَّ لما صدقت، وفيها من هذا الزور والبهت الكلمات الفظيعة شيء كثير، وهي في نحو ثلاثة كراريس،وعند تحرير هذه الأحرف قد انتقم الله منه فشَّردَه أمام العصر إلى جزيرة من جزائر البحر مقروناً في السلاسل بجماعة من السوقة وأهل الحرف الدنيئة وأهلكه الله في تلك الجزيرة، ولا يظلم ربك أحداً) (1).
المطلب الرابع: تشويه صورة الخصم بالإشاعات الكاذبة:
__________
(1) أدب الطلب ص ( 32-33 )للإمام محمد بن علي الشوكاني ، تحقيق مركز الدراسات والأبحاث اليمنية صنعاء .(76/490)
هذا مسلك لأهل الباطل قديم، فأعداء الرسل قد استخدموه وقريش قد أكثرت منه لتشويه صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت " ساحر " و"شاعر " و" مجنون " و: كذاب " و { إنما يعلمه بشر } (1) الخ تلك الألقاب الكاذبة والإشاعات المغرضة المضللة، ومازال ذلك شأنهم مع العلماء القائمين مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - والوارثين له، وهو نفسه يتكرر مع علماء اليمن ودعاته كلما واجهوا جهّال ومنحرفي قومهم في سائر أنحاء اليمن، فأئمة التجديد قد عانوا أشد المعاناة من ذلك المسلك الظالم لدى خصومهم، وعبروا عنه بأساليب مختلفة، يقول العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير حاكياً ما لقيه من متعصبة عصره: (وإني لما تمسكت بعروة السنن الوثيقة، وسلكت سنن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنة البذيئة من أعداء السنة النبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمور غير ذلك كثيرة حرصاً على ألا يُتَّبَع ما دعوت إليه من العمل بسنة سيد المرسلين والخلفاء الراشدين والسلف الصالحين، فصبرت على الأذى وعلمت أن الناس مازالوا هكذا:
ما سلم الله من بريته ولا نبي الهدى فكيف أنا) (2)
ثم جاء دور المقبلي ولقي من الأذى ما لقي حتى أنه حين قال بيته المشهور:
قبَّح الإلهُ مفرِّقاً بين الصحابة والقرابة
أجابه أحد غلاة الزيدية فقال:
أطرق كرا يامقبلي فلأنت أحقر من ذبابة
وقال الآخر:
المقبلي ناصبي أعمى الشقا بصره
فرق ما بين النبي وأخيه حيدره
لا تعجبوا من بغضه للعترة المطهرة
فأمه معرفة لكن أبوه نكره (3)
والبيت الأول فيه وقاحة وخسة، والأبيات الأخرى فيها قذف له ولأمه. وقد أعرب الإمام العلامة محمد بن إسماعيل عن ذلك وشكى منه أمر الشكوى قال في قصيدته النجدية:
وأقبح من كل ابتداع سمعته وأنكاه للقلب الموفق للرشد
__________
(1) النحل ( 103 ) .
(2) من مقال محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم و القواصم للقاضي إسماعيل الأكوع( 1/21-22 ) .
(3) هجر العلم ( 1/271 ) .(76/491)
مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويعزى إليه كل مالا يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال النبي محمد وهل غيره بالله في الشرع من يهدي
لئن عدّه الجهال ذنباً فحبذا به حبذا يوم انفرادي في لحديد (1)
وأما الشوكاني فقد جمع إلى همه هموم المتقدمين عليه، وشكى مما أصابه وأصابهم وحل به وبهم، وهو لاشك أصدق تعبيراً فالنائحة الثكلى ليست كالمستأجرة، وقد تقدم كلامه في المطلب الثالث فأرجع إلية
وعندما نشب الخلاف بين العلويين وأصحاب الإرشاد في إندونيسيا تفنن العلويون في تشويه سمعتهم وإطلاق الألقاب المنفرة عليهم فكان مما أطلقوا عليهم من ألقاب: (أنهم وهابيون، ونصارى، وأنهم يعملون ضد مصالح هولندا وإنجلترا والقعيطي والكثيري، وأنهم خوارج يبغضون أهل البيت) (2).
__________
(1) ديوان الأمير الصنعاني ص( 167 ) طبع منشورات المدينة الطبعة الثانية ( 1407هـ - 1986 م ).
(2) الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في حضرموت ص ( 152 ) .(76/492)
وهذه عبارة مقتطعة من رسالة محمد بن أحمد المحضار إلى يافع في منطقة " يومي أيو " في إندونيسيا يقول أثناءها عن أحد الإرشاديين: (وصل عندكم باعشر العشير وحمار الحمير وخنزير الخنازير قطعوا حباله وصفعه بالنكير وخبث الحديد ما يصفيه إلا الكير وشنوا النكير) (1). وقد وصفوهم في رسالتهم إلى شريف مكة بما يلي: (وينهون إلى مقامكم السامي أنها نجمت من مدة قريبة من الخوارج في هذه البلاد، عقيدتها بغض أهل البيت الطاهر وتحقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وبث الدسائس وإيقاد الفتن، ولهم من النشرات الجمة ما يبين خبيث قصدهم)(2) هذه شذرات مما صدر عن القوم من تشويه وطعن لخصومهم.
المبحث الثالث
الردود الوارده على القبورية في كتب الفنون المختلفة
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: الردود على القبورية في كتب التاريخ:
إن جميع من له إدراك وفهم - ولوكان بسيطاً - يدرك بسهولة ضلالات القبورية وانحرافاتها، وقد تناثر نقد العلماء وردهم على تلك الضلالات والخرافات في ثنايا ماكتبوا من شتى الفنون، وأنقل إليك جملة مما ظفرت به من كلامهم:
فمن المؤرخين القاضي العلامة محمد بن علي الأكوع رحمه الله يقول في مقدمة السلوك للجندي منتقداً عليه شدة ولوعه بتتبع الكرامات والزيارات ومايقال عن المقابر وما لها من فضائل: (ومؤرخنا رحمه الله ولوع بشدة وبشكل جدي وكبير بذكر كرامات الأولياء والمنامات والمرائي الخلابة التي هي أغرب من الخيال وتلحق بقسم المستحيل وبحديث خرافة.
وكان يصدر أحكامه بتلك الكرامات عن عقيدة راسخة لاتقبل الجدل والمناقشة وعن نفس مؤمنة بذلك خصوصاً إذا تلقاها عن الثقات فإنها تصير عنده من القطعيات.
__________
(1) تاريخ الإرشاد ص ( 120 ) .
(2) المصدر السابق ص ( 82 ) .(76/493)
والحق أن أكثرها بالخرافات أشبه وبخرق العادات اعلق،وبالبله السذج ألصق، لأن البعض منها يخرجها عن حد المعقول إلى حيز المحال والتجديف، على أنا لاننحي باللائمة على مؤرخنا الجندي الذي انساق وراء هذه العاطفة الروحانية الزايفة لأن الوسط الذي كان يعيش فيه الجندي كان ملغماً بهذه الخرافات،ومنغمساً في هذا الجو القدسي في نظرهم كما سبقه إلى هذا غيره، وسير الأئمة وغيرهم مليئة بهذه الحكايات.
خدعة الملوك:
ومما يستغرب أن الملوك والرؤساء انجرفوا وراء هذه الظاهرة ومع السواد الأعظم وفي هذا المسار كما يحكي لنا الجندي في بعدة مواقف عن ملوك عصره ومن قبلهم.
وأعتقد جازماً أن انسياق الملوك والرؤساء وراء هذه الروحانية الزائفة "خدعة سياسية" لاتمت إلى عقيدتهم بصلة،كيف لا وبعض الملوك مهزوز العقيدة مضطرب في الإلهيات. وإنما يقصدون من وراء ذلك تضليل العامة وجعلهم في متاهة الجهالات وحتى يبتعدوا عن تتبع مساوئ الحكام والبحث عن كبائر جرائمهم وقد يكون البعض منهم صادقاً في ذلك والله من وراء العلم.
ويبدو أن هذه الظاهرة وهذه البلوى عمت جميع الأقطار الإسلامية، وما السيد البدوي والدسوقي والسيدة زينب وأضرابهم في القطر المصري والشيخ عبدالقادر الجيلاني والبسطامي وغيرهم في بغداد والنابلسي وابن عربي بالشام وقل في المغرب العربي وإفريقية المسلمة وإيران وغير ذلك إلا من هذا القبيل.(76/494)
أما كرامة أولياء بلادنا اليمن الأعلى فهم الأولياء المسلحون الذين يحملون السيف والرمح ويجالدون على الإمامة ويقاتلون دونها، وذلك مثل الإمام الهادي والإمام أحمد بن الحسين صاحب ذي بين وسيل الليل أحمد حسن وغيرهم، والعجب أن تخرج من ثنايا هذا الصراع الدموي كرامات وعجائب وغرائب. وتعليل هذه الظاهرة والموجه العارمة التي نزلت في بلاد الإسلام، هو ابتعاد المسلمين عن روح الدين الحنيف الصحيح الذي جاء عن محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وبما أدخله أعداء الإسلام من الشوائب والبدع التي صدأت جوهره الصافي النقي وولدت مثل هذه القضايا وكانت سبباً لتأخر المسلمين كما قيل.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -((لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه))(1) هذا وليس هنا بسط القول عن هذه المسألة، فمن شاء معرفة ذلك فعليه بكتب ابن تيمية وكتب تلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، وفي كتاب الله جل شأنه مافيه مقنع، وحسبنا ذلك) (2). وهكذا نرى هذا العلامة المؤرخ ينتقد هذه الظواهر، ويحللها، وبيبن موقف الحكام منها، ويربط بين تبنيهم لها وسياسة الملك التي يعمبلون على تثببيتها وأنهم ما جاروا القبورية إلا للاستفادة منهم في ذلك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص ( ) .
(2) مقدمة السلوك للجندي ( 1/ 27-28 )(76/495)
المؤرخ الثاني: القاضي العلامة إسماعليل بن علي الأكوع وهو أخو القاضي محمد وقد تعرض للقبورية في عدة مواضع من كتابه "هجر العلم "منها ما في بيت الفقيه في ترجمة "أحمد بن موسى بن العجيل "حيث قال في معرض الترجمة: (وكان على قبره تابوت وقبة أزالهما الإمام أحمد بن الإمام يحيى حميد الدين سنة 1348هـ حينما كان ولياً للعهد بعد أن تغلب على معارضة قبيلة الزرانيق -التي كانت تعرف من قبل بالمعازبة - لامتداد نفوذ الإمام يحيى إلى بلادها، ودخولها تحت حكمه.كما أزال الإمام أحمد كذلك التابوت من على قبر أحمد بن علوان في يَفْرُس من ناحية جبل حبشي سنة 1362هـ لاعتقاد جهلة العامة في صاحبي القبرين الضر والنفع، وتالله لقد أحسن الإمام أحمد صنعاً في كلتا الحالين ولو أن يده امتدت إلى سائر القباب والتوابيت الأخرى التي يعتقد عامة الناس في أصحابها الضر والنفع لأجزل الله مثوبته وأحسن إليه، ولاسيما القبور التي يلتمس عندها العامة الخير والبركة، ويرجون منها النفع،ودفع الضر والشر)(1)، ثم ذكر كلام الشوكاني في وصف قبة الإمام "أحمد بن الحسين " نقلاً عن الدر النضيد وتقدم ذلك النقل (2)، ثم ذكر رسالتين مهمتين لإمامين من أئمة الزيدية يأمران فيهما ببناء مشاهد على قبور بعض المقربين إليهما ثم قال حفظه الله: (وكان الواجب على الإمام أحمد هدم القبور التي يلتمس العامة منها الخير والبركة امتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بهدم القبور، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ألا أبعثك علىمابعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته "(3). وأفضل التشيع بالإمام علي رضي الله عنه الاقتداء به، والعمل
__________
(1) هجر العلم (1/222-223 ) .
(2) انظر : ص ( ) .
(3) تقدم تخريج الحديث ص ( ) .(76/496)
بسيرته التي هي مقتبسة من سيرة المشرّع العظيم رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - إذ لايكفي المحبة باللسان والمخالفة في العمل) (1).
وفي ذي الجنان "قرية أحمد بن علوان " قال في ترجمة ابن علوان: (وقد فتن به العامة في عهده وبعد وفاته وحتى اليوم فقبره مقصود للزيارة وكنت أعتقد أن افتتان الناس به إنما حدث بعد وفاته)(2)، وبعد أن ذكر موضوعاً عن الزبيري وقصيدة له فيهدم قبر ابن علوان وستأتي إن شاء الله في موضعها ثم قال: (ولكن الأخ القاضي فضل بن علي الأرياني أطلعني على قصيدة لأحمد بن علوان تدل على أنه كان يدعي لنفسه أموراً خارقة للعادات، نذكرها هنا، ونذكر كذلك جواب الفقيه علي المقصري السرددي عليها ومن يطلع عليهما لا بد أن يحكم عليه بأنه كان يزعم لنفسه كرامات أختص بها وأن أتباع طريقته قد فتنوا به في حياته. نسأل الله الهداية والتوفيق إلى اتباع أحكام كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي يرضاه)(3). وهذا كله يدل على توجه الرجل وحرصه على سلامة المعتقدة ومقته للقبورية والقبوريين.
__________
(1) هجر العلم (1/225 ) .
(2) المصدر السابق ( 2/750 ) .
(3) هجر العلم ( 2/751 ) .(76/497)
المؤرخ الثالث: الأستاذ صلاح البكري وهو من مؤرخي حضرموت المنتمين إلى جمعية الإرشاد بإندونيسيا وقد عنون في كتابه "تاريخ حضرموت السياسي" هذا العنوان " الخرافات " عدّد تحته الكثير من تلك الخرافات المتعلقة بالقبور وبالاعتقاد بالجن وتقديم ما يدفع شرهم من ذبائح أو كسر بيض على باب الدار لئلا يحتلها الجن وأبان من يقف وراء تلك الخرافات، ولا أطيل فهذا نص كلامه: (ولقد ابتنى بعض العلويين قباباً كثيرة لبعض موتاهم رحمهم الله، ووضعوا على أجداثهم التوابيت، ودعوا الناس لزيارتها، والتبرك بها، والتوسل إليها لقضاء الحاجات واستنزال البركات، وقد يوجد في القبة خزانة " تيحه " في داخلها إناءان: أحدهما للنقود والآخر للزيت الذي يقدمه المريض لطلب الشفاء، وأقرباء الميت هم الذين يتمتعون بهذه القرابين والنذور، وقد يبالغ بعض المرضى في الضلال فيأكلون قليلاً من تراب ذلك القبر لطلب الشفاء، وإني لأذكر أني حينما كنت في حضرموت وأنا يومئذ لم أبلغ سن الرشد أصبت بحمى، فذهبت إلى قبة المرحوم عمر بن محمد الهدار العلوي الواقعة على مقربة من حوطة أحمد ناصر،وأكلت قليلاً من تراب قبره ’ وقبلت تابوته، وتوسلت إليه ليذهب الآلام، ويعيد إلي صحتي كاملة غير منقوصة، ووضعت في الخزانة أوقية وربعاً، وعدت إلى البيت وأنا أرتعد من حمى الورد، ومن حسن حظي أني في اليوم الثاني شفيت من مرضي، ولكن من سوء حظي أن ازداد اعتقادي في الهدار واعتمادي عليه من دون الله، فذهبت في الحال إلى السوق وابتعت رطلاً من زيت السمسم، ثم ذهبت إلى قبة الهدار، ووهبت له الزيت في الخزانة، وهكذا ذكرت صاحب القبة في السراء والضراء خفية وجهرة، وهو لاينفعني بشيء، ولم أذكر الله عزوجل، الذي هو أقرب إلي من حبل الوريد، وبيده كل شيء.(76/498)
ويوجد في الروحانيين وبوجه أخص في العلويين من يصنع التمائم والعزائم للمرضى وغيرهم من طلاب الحاجات، ويبالغ بعض الدجالين من أصحاب السلطة الروحية فيسقون المريض ماءً ممزوجاً ببزاقهم للشفاء، ويتجرع هذا المريض " المغفل " ذلك البزاق القذر، وهو مسرور كل السرور متوهماً أن الشفاء آت لاريب فيه.
وهناك كتب ألفت ورسائل دونت كان لها أثرها السيء في عقلية الشعب، وتسميم أفكاره،وإفساد عقيدته، وفي مقدمة هذه الكتب " المشرع الروي " لصاحبه الشيخ محمدبن أبي بكر الشلي المشحون بالكفريات والخزعبلات، ثم كتاب: " الجوهر الشفاف " وغيرهما.
ويقسم كثير من الناس بالأضرحة ويخافونها إذا حنثوا في أيمانهم أكثر مما يخافون الله، فقد يطلب المشتكي من خصمه أن يقسم على ضريح مقدس خيراً من أن يقسم بالله أو بالقرآن، ويعتقدون أن لتلك الأضرحة قوة الانتقام إذا كان المقسم حانثاً، وأهم الأضرحة التي يقسمون بها هي:
الاسم ... المكان ... الاسم ... المكان
أحمد بن زين الحبشي العلوي ... حوطة أحمد بن زين ... الشيخ أبو بكر بن سالم العلوي ... عينات
عبدالله العيدروس العلوي ... تريم ... سعيد بن عيسى العمودي ... قيدون
عمر بن محمد الهدار العلوي ... حوطة أحمد ناصر ... معروف باجمال ... بضة
علي بن حسن العطاس العلوي ... المشهد ... عيدروس بن عمر الجيشي العلوي ... الغرفة
حسن بن صالح البحر العلوي ... ذي أصبح ... عمر المحضار العلوي ... تريم
وفي زعمهم أنه إذا أراد الشخص أن يأتيه كساء من أبيه أو من أحد أقربائه المهاجره في جاوة أوفي غيرها، فما عليه إلا أن يذهب إلى إحدى القباب ويقطع جزءاً صغيراً من ثوبه، ويربطة باللعاب، ويقذف به في الحائط، ولا تمضي سنة إلا وقد نال مطلوبة ولذلك تظهر الحيطان في بعض القباب كأنها مغطاة بطبقة من الورق المزخرف أو زينت بنقوش مختلفة الألوان.(76/499)
وبعض المرضى وبالأخص إذا كان صغيراً يُطاف حوله حَمَل مراراً، ثم يقطع جزءً من أذنه ويعلقه في ذراع المريض، ويذبح ذلك الحمل ويوزع لحمه على الجيران بعد أن يأخذ الدجال الذي أشار لهم بتلك العملية جزءً كبيراً منه. وأول ما يعمله الشخص الذي يريد أن يبني بيتاً أن يدق أربعة أوتاد في البقعة التي سيبني فيها المنزل لطرد عين السوء،وذلك بعد أن أخذ رأي أحد الروحانيين، وعندما يتم بناء البيت يذبح حملاً على عتبته كما يفعل الفرنجة عند الاحتفال بإنزال السفينة لأول مرة في البحر بكسر زجاجة خمر، وفي بعض أجزاء حضرموت يذبح صاحب البيت شاة، ويأخذ من دمها بيده ويخضب الباب. وبعضهم في أثناء عملية البناء ويأكل البناؤون لحمها، ويريقون دمها على الحيطان، وعندما يدخل صاحب البيت لأول مرة يكسر بيضتين على عتبة الدار، وأخريين على الدرج، وأخريين عند الطابق العلوي) (1)
__________
(1) تاريخ حضرموت السياسي ( 119-121 ) .(76/500)
والمؤرخ الرابع: الذي نستشهد ببعض كلامه هو الأستاذ كرامه سليمان بامؤمن صاحب كتاب" الفكر والمجتمع في حضرموت" وهو كتاب حديث تناول موضوعاً مهماً جداً وجانباً حساساً من جوانب الحياة في حضرموت،هو جانب الفكر مرتبطاً بالمجتمع،وقد كشف أسراراً وأبان مخبآت لم يرق للبعض ظهورها ولذلك فالكتاب ومؤلفه مستهدفان بالتشهير وهذا أقل ما يمكن أن أقوله،وإلا فيمكن أن يكون أكثر من التشهير، وإليك نموذجاً واحداً من ألصق ما ا حتوى عليه الكتاب بموضوعنا "القبورية " قال - حفظه الله - تحت عنوان"نقد الفكر الصوفي ماله وماعليه": (الإنسان كما أشرنا سابقاً مكون من جسم وروح لايفترقان إلا عند الموت. والتوازن بين نشاطهما هو مادعا إليه الإسلام. والتصوف جنوح نحو نشاط الروح مقتبساً فلسفته من ثقافات الأمم السابقة للإسلام، خاصة الثقافة المسيحية التي سنت الرهبنة والتنسك والخلوة في الكهوف والأديرة، وترك طيبات الحياة المباحة كعدم الزواج عند الرهبان والراهبات قال الله تعالى: { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } "الحديد: 27 "، والاعتدال في التصوف قولاً وعملاً والإلتزام بالكتاب والسنة دون تأويل ومغالاة لا يخرج المتصوف عن عقيدته التوحيدية وشريعته الإسلامية. وكم من هؤلاء الصوفية المستقيمين قد عرفهم العالم الإسلامي واليمن وحضرموت.وقد وقفوا في وجه الغلو والانحراف الصوفي واستنكروا ما صدر من المغالين من شذوذ وانحراف ومحذور قولاً وعملاً. ومما يعقّد مشكلة التصوف الضعف البشري أمام حالات مذهلة تتراءى للمتصوفة فتفقدهم توازنهم ولايثبت إلا الراسخون في العلم والعقيدة. ولاسيما أن كثيراً من مثل هذه الأحوال وخوارق العادات تحصل للبر والفاجر وللمسلم وغير المسلم. ناهيك عن أن للشيطان أحابيله لغواية الإنسان كما أن للعلم والسحر دورهما في كثير مما يصوره بعض الصوفية(77/1)
أنه كرامات كما تستغل الصدف والفراسة للإدعاء بالكرامات. ولا تقتصر الخطورة في غلو الصوفية وانحرافاتهم وشذوذهم، عليهم أنفسهم فحسب فهذه أمرها سهل ومحصور. وإنما الخطر كل الخطر في التأثير على الناس والمجتمع وخاصة على العوام والسذّج لأنهم أكثر فئات المجتمع تأثراً وانصياعاً لمؤثرات الفكر الصوفي المنحرف. ويجب أن ننظر إلى المتصوف وأحواله حالة خاصة به وحده. أما أن يجعل من أحواله وتصرفاته منهاجاً يقتدى بها - وأمامنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحاب رسول الله والتابعين ومن اهتدى بهديهم- فهذا مما يجب أن لا يكون ولايصح إطلاقاً أن نجزىء القرآن الكريم والحديث الشريف الصحيح إلى ظاهر للعامة وباطن للخاصة يؤلون معاني ألفاظ القرآن الكريم كما نزلت من عند الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألفاظ السنة كما تحدث بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعامة المسلمين ويطلقون عليها علوم الشريعة وفي تقديرنا إن أخطر وأوسع ثغرة فكرية تهدد بنيان الإسلام وتشوه عقيدة المسلم هو هذا المدخل في تجزئة القرآن الكريم والسنة إلى ظاهر وباطن وإلى شريعة وحقيقة. ولا تقف الخطورة عند تجزئة الإسلام إلى منهاجين وعلمين أحدهما للخاصة والآخر للعامة،بل تتعداها إلى تقسيم المجتمع الإسلامي إلى طبقتين أو فئتين اجتماعيتين هما فئة التعالي وهي فئة الخاصة المحدودة في المجتمع وفئة الأتباع- وهي فئة العامة العريضة في المجتمع -, ويتمادى التمييز الاجتماعي في غيه عندما تكون فئة الخاصة هي المدبرة والمسيرة لحياة ومعاش وسعادة فئة العامة من خلال سلطتها الروحية المطلقة التي يمثلها الديوان المصرفي وجهازه التنفيذي الهرمي اللذان تطرقنا إليه فيما سبق.(77/2)
وإذا رجعنا إلى آداب وتراث الفكر الصوفي الحضرمي؛ نجده مليئاً بحالات التصرف المطلق من قبل الأقطاب والأولياء والأحياء والأموات في حياة الناس من شفاء الأمراض، ورزق الأطفال، وغفران الذنوب، ورد الكوارث، وتأديب المتطاولين، وقتلهم أحياناً بالقدرة، واستئناف حياة الأموات من جديد واللقاء بالأحياء. يقول السيد علي بن حسن العطاس (من قام لله بالقدرة كلامه يتم). وهناك من يقول تأكيداً لمقولة العطاس هذه: (إن بعضهم كان يكلم الصوفي الشهير بدوعن الشيخ سعيد بن عيسى العمودي بعد موته ويشاوره). في أموره. كما يروي البعض الآخر أنه كان يخاطب الفقيه المقدم أمام قبره بل ويخرج الفقيه المقدم من قبره ليتناول مع زائره القهوة، ويتبادل أطراف الحديث.(77/3)
إن عودة الروح مسألة قديمة وكان فراعنة مصر يعتقدون بعودة الروح إلى الجسد بعد الموت. ولهذا كانوا يهيئون مدافنهم كالأهرامات كل ما سيحتاجه الميت من أدوات ومأكولات وغيرها. ينما يروي لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن روح المؤمن بعد وفاته تُعَلَّق على(1) شجر الجنة ولا تعود إلى الجسد إلا عند البعث. وفي الواقع إن كيفية حياة الإنسان بين الموت والبعث وعلاقة الروح بالجسد وعذاب القبر ونعيمه، وتلاقي الأرواح هي من الغيبيات، ونكتفي بالتسليم بما جاء نصه في القرآن والحديث ولا نزيد. ويعلمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ورثه لعلماء ينفعون به الناس، وصدقة جارية تصدق بها قبل مماته، وابن صالح يدعو في حياته لأبيه الميت. إن التطرف في تمجيد الأولياء والأقطاب يؤذي الأولياء أنفسهم ويخرجهم عن بشريتهم. وقد تبرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الغلو في الدين. أو طلب شيء منه لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: { قل إنما أنا بشرمثلكم يوحى ألي أنما إلهكم إله واحد } "الكهف -110")(2).
ونقد المؤرخين لهذه العقائد والأعمال ليس مختصاً بمؤرخي أهل السنة والمعارضين للقبورية، ولكن بعض المؤرخين المحسوبين على القبوريين هم كذلك ينقدون هذه الأمور ويحذرون منها، وقد تقدم كلام المؤرخ العلوي علوي بن طاهر الحداد في مباحث الزيارات القبورية وقد كان شديد الانتقاد لهم مصرحاً بأن بعض تلك العقائد والأعمال هي كفر بالله تعالى فارجع إلى هناك (3).
المطلب الثاني الٍردود على القبورية التي جاءت على ألسنة الشعراء:
__________
(1) الصحيح " تعلق في " والمعنى أنها تأكل .
(2) الفكر والمجتمع ( 228-230 ) .
(3) ص ( ) .(77/4)
وهذا الباب واسع جداً فقد تفنن الشعراء في الرد على القبورية من جوانبها المختلفة، فمن ناقد لبعض العقائد، ومن ناقد لبعض البدع والأعمال كالسماع ونحوه، ومنهم من ينتقد المتظاهرين بالولاية ممن هم في الحقيقة من المحتالين على خلق الله، ومنهم من يصف القبور المعظمة وما يفعل عندها من مناكر وضلالات، وهذه بعض تلك القصائد:
وأبدأ بشاعر من شعراء حضرموت وكبير من كبرائها العلامة الشاعر الصوفي المتشيع أبوبكر بن شهاب الدين العلوي المتوفى سنة (1341هـ)، وله قصيدتان الأولى في كشف مخاريق من يدعي الولاية ويتظاهر بمظاهرها ويتقمص لباسها، ثم من وراء ذلك يختل الغافلين ويصطاد أموال الجاهلين، بل ويتعدى الأمر إلى النساء ومايفعل تجاههن باسم الدين والولاية.
قال جامع ديوانه (وقال نفع الله به في وصف دجاجلة المتصوفة بزماننا:
هل للغرائب من حكيم عاقل ... أو عالم يقضي بحكم فاصل
أمِنَ الذئاب المُعط صنفٌ ناطق ... في صورة البشر السوي الكامل
أأقول: كلا والعيان مكذبي ... كلا بل المفتي أسير السائل
معط الذئاب الناطقات هم الأُلى ... جعلوا التصوف صنعة للداجل
فترسموا برسومه كي يحسبوا ... صوفية مثل الفضيل الفاضل
يضعون للتمويه والتغرير في ... مشكاة نور الحق نار الباطل
لبسو العبايا والمسابح والحبى ... والطيلسان يدار فوق الكاهل
والمظهرين البر والتقوى وإد ... مان التنسك خدعة للجاهل (1)
و إذا خلوا عكفوا على شهواتهم ... من لاعب أو شارب أو آكل
هجروا كتاب الله واستغنوا بألـ ... حان السماع ورقصه المتداول
زعماً بأن الطار والمزمار والـ ... أوتار تنعش كل قلب ذاهل
أيقوم دين الله بالسفهاء من ... ذي مزهر أو زامر أو طابل
بئس الطوائف لا مرام لهم ولا ... مرمى سوى جمع الحطام الزائل
ولهم حبائل لاجتلاب المال لم ... تدرك غوائلها لغير الفاتل
ويطوف أطراف البلاد دعاتهم ... ودهاتهم من كل صل صائل
__________
(1) في الأصل للجافل .(77/5)
ممن يبيع ولايبالي دينه ... بيع المزاد ولو بشاة شائل
في كل واد لاتطيش سهامهم ... مع كل حاف يَحْفِدون وناعل
ويذيع كل ما افترى من نعت شيـ ... خهم الغوي ولو خرافة هازل
من صومه وصلاته وقيامه ... جنح الظلام وزهده في العاجل
يروون عنه خوارقاً للرسل ما ... وقعت ولا اتفقت لساحر بابل
ولأجل نفي الريب مهما حدثوا ... حلفوا لسامع إفكهم والقابل
وهنالك الأستاذ يجهد فكره ... في سلب ثروة كل غر غافل
يترقب الفرص التي فيها قطيـ ... ـع الصيد يبدو مكثباً للنابل
يثني على أهل الثراء مصوباً ... أفعالهم مستدرجاً للفاعل
زيدٌ ربيعُ نَدى وعمروٌ في مقا ... مِ كذا وبكرٌ في الرعيل الواصل
ويشير رمزاً في الحديث بأن ما ... يحكيه من إلهام غيب نازل
حتى إذا اعتقدوا علو مقامه ... ومشت عليهم حيلة المتحائل
غمروه جوداً واستزاروه التما ... ساً للتبرك في المقر العائلي
ولمسحه رأس الصغير ووضعه ... يده الكريمة فوق بطن الحامل
ومتى تحكَّم مصلحاً في حالة ... جعل البخيل فريسة للباذل
وتراه يصدع بالمواعظ خاطباً ... في القوم بهرة كل جمع حافل
يملي زخارف زوره متأوهاً ... متباكياً ليرق قلب الناكل
طوراً يرغب في الثواب وتارة ... أخرى يندد باللئيم الباخل
وإذا رأى في الجمع من أكياسه ... ملأىمن التبر الوفير الطائل
أوحى إلى أحد الشياطين الأُلى ... منهم تعوذ كل غول غائل
فيقول: يامسكين زر شيخ الشيـ ... ـوخ تنل به أقصى أماني الآمل
وإذا أتى ألفاه في المحراب في ... جد وشغل بالعبادة شاغل
ويقال بعد الانتظار هنيهةً: ... أدخل فأنت اليوم أسعد داخل
ولك البشارة إن رزقت ولاءه ... بالانتشال من الحضيض السافل
فإذا تقدم قال شيخ السوء أهـ ... ـلاً يابني ومرحباً بالواصل
إني لرؤيتك ابتهجت ولست أد ... ري سر هذا الابتهاج الحاصل
فلعل في لوح السوابق بيننا ... سر اتصال بالأواصر واغل
ولعل حالك في أمور الدين والد ... نيا على دعة ولطف شامل(77/6)
إن كنت محتاجاً فخذ ما تبتغي ... تقوى به وتقيم ميل المائل
لا تخشَ إملاقاً عليَّ ولا عليـ ... ـك فنحن في كنف الرسول الكافل
أعلمتَ أني بعد ختم وظيفتي ... سحَراً أعرتني غفوة المتثاقل
فرأيته صلى عليه الله مبـ ... ـتسماً يقول وكان أصدق قائل
أبشر فأنت وتابعوك بذمتي ... ورعايتي لمقيمكم والراحل
نِب عن نبيك في مواساة العفا ... ة المعوزين وفي عظاة الجاهل
جُد بالنوافل ما استطعت على اليتا ... مى والأيامى والفقير العائل
خذ ما تشاء من امرىءٍ سبقت له الـ ... ـحسنى ولم يعبأ بعذل العاذل
وأنا الضمين لمن يعينك بالغنى ... طول الحياة وفي الجنان مخاللي
فيصدِّق المسكين كاذبَ قصة ... ممزوجة بزعاف سمٍّ قاتل
فيشاطر الأستاذ خالص تبره ... لسداد ذي عوزٍ ورفد أرامل
ولكَم لهم في السر غامض حيلة ... إبليس لم يطمع لها بمماثل
ولهم من الجنس اللطيف لطائف ... أبَتِ المروؤة شرحها للناقل
لكن على الأزواج عار المرسلا ... ت فهم أشد بلادة من باقل
هذي طرائقهم وهذا شأنهم ... تعساً لهم من خائن ومخاتل
أفهكذا كانت طريق مشايخ الـ ... إسلام أرباب السلوك العادل
كالتستري وكالسري والكالجنيـ ... ـد الحبر والشبلي أو كالشاذلي
كلا وحاشى بل هم عمد الهدى ... وسحائب الفيض العميم الهاطل
الزاهدون المتقون العارفون ... بربهم من كل بر عامل
وهم البراء من الأُلى كذبواعلى ... حضراتهم وخصومهم في الآجل
فإليك ربي المشتكى وبك العيا ... ذ من انتقامك والعذاب الهائل
واسمح بإرشاد الجميع إلى طريـ ... ـق الحق واصفح عن خطايا الخاطل
وتغش بالرحمات روح المصطفى ... والمرتضى تعداد طش الوابل
ضاعف صلاتك والسلام عليهما ... وبنيهما مدد الوجود الشامل
والصحب من بسيوفهم ثلت عرو ... ش الشرك واندرست رسوم الباطل(77/7)
ما تاب ذو خطأٍ وآب مفرط ... وأناب عبد في العتيم الحائل)(1)
وهذه القصيدة تجسد حال الكثير ممن يدعي الولاية على امتداد الأرض اليمنية، بل على امتداد البلاد الإسلامية وللأسف الشديد، وهؤلاء لاشك يخرجون من تحت عباءة المتصوفة والشيعة القبورية.
وهناك قصيدة أخرى لهذا الشاعر في نفس المعنى أضيفها هنا.
قال جامع ديوانه:(وقال نفع الله به:
العلم والمجد رضيعا لبان والجهل يرمي ربّه بالهوان
لايدعي العلم امرؤ جاهل يخاف أن يفضحه الامتحان
فهو لدى أشكاله باسل ... و إن جرى البحث الشرودُ الجبانُ
بلى يقول الجاهل المدعي ... العلم نور مشرق في الجنان
العلم سر الله إلهامه ... في القلب لا لقلقة باللسان
العلم إما ظاهر وهو في الـ ... ـكتب وللأحكام فيه البيان
أو باطن يعرفه أهله ... وهو لديهم واجب أن يصان
يومي بما يملي إلي أنه ... في أشرف القسمين رب العنان
وقد علت أصوات أمثاله ... بمثل هذا فالأمان الأمان
نشكو إلى الرحمن من هذه الـ ... ـغوغاء شكوى من رماه الزمان
من ماكر ذي سبحة أو مرا ... ء قارىء همساً وذي طيلسان
ورامز بالغيب في حيلة ... يلفظ بالقول الكثير المعان
رواد صيد كلهم حاذق ... في الرمي لايصطاد إلا السمان
شباكهم دعوى الكرامات والـ ... ـكشف وتزوير المرائي الحسان
هذا يرى المختار في نومه ... وذاك يستخبره بالعيان
كأنه من بعض أتباعهم ... يحضر في كل مكان وآن
ومنهم المخبر عن برزخ الـ ... ـموتى شقي أو سعيد فلان
وقد أراني الله شيخاً له ... جماعة رجلاه مصفرتان
فقلت: ماذا نابه؟ قيل: من ... وطء حشيش الجنة الزعفران
أف لقوم همهم كيدهم ... وجمعهم للمال من حيث كان
بالمال تلقاهم سكارى كما ... يسكر من يشرب خمر الدنان
إن أحسن الظن بتلبيسهم ... مُثْرٍ رأوا تطهيره بالختان
__________
(1) ديوان ابن شهاب ( 193 – 196 ) طبع مكتبة التراث الإسلامي صعدة ، ودار التراث اليمني صنعاء ، الطبعة الثانية سنة ( 1417هـ - 11996م ).(77/8)
من كل ما الإنسان يخشاه من ... مستقبل الدارين يعطي الضمان
وإن رأوا في عقله خفةً ... باعوه في الدنيا قصور الجنان
وكم وكم قد موهوا زائفاً ... فظنه البله ثمين الجمان
يارب يامنان أنت السريـ ... ـع الغوث والمفزع والمستعان
وفق رجال الدين للصدق والـ
ونزه الإسلام عن غش أهـ
واغفر ذنوب الكل واصفح ومن وصل أزكىماتصلي على
والآل أهل المجد والصحب ما ... إخلاص والإعراض عن كل فان
ـل المكر والتدليس كيلا يهان
قلوبنا اغسل كل ريب وران
من أشرقت من نوره الخافقان
أمالت الريح الغصون اللدان)(1)
وللشاعر الأديب والعالم الثبت - مفتي حضرموت في زمانه والشاعر المبرز على أقرانه العلامة عبدالرحمن ابن عبيدالله السقاف - نقد لاذع وبيان ساطع في نقد دجاجلة الصوفية والمتاجرين بالولاية حسب تعبيره، إليك بعضاً منه وهو مقدمته لإحدى قصائده في الموضوع: (وقد اتفق لي في شرخ الشباب أن أفضت في درسي كجاري عادتي في النعي على الخرافيين وتفنيد مزاعمهم وأنكرت قول بعضهم: إن أتان الفقيه المقدّم - قدّس سره - كانت تعرج الى السماء وتأتي بخبرها طرفي النهار، مع أن البراق لا يقدر على ذلك، فلو أنها حضرت ليلة المعراج لأغنت عنه؛ لأن البراق لم يجاوز إيلياء على الأصح، وقول بعض آخر عن بعض العلويين: إنه كانت له زوجة شريفة مضى لحملها ستة أشهر فتزوج فلاحة، فنشزت الشريفة؛ فخيرها بين الرجوع أو يأخذ الحمل من بطنها إلى بطن الفلاحة، ولما أصرت فعل ما تهدَّدها به، وولدت الأخيرة لثلاثة أشهر من حين الدخول! وقول آخر أن أحد الأولياء مات عن زوجة صالحة من غير ولد فاشتد حزن تلك الصالحة وعظم وجدها عليه فكان يتردد عليها من ضريحه حتى أحَبَلها بعد موته، فجاءت بولد نسبوه إليه.!
__________
(1)
ديوان ابن شهاب ص : ( 237 – 238 ) .(77/9)
وطالما أنكرتُ مثل هذه الأضاليل التي لها يتذمر الإسلام، وتنتكس الأعلام، وتكل عن عد شرها الأقلام، فما حصلتُ إلا على الملام، وذلك هو الذي استغرق جهدهم في تشويه سمعتي والتمضمض بعرضي والتقول عليّ والسعاية بي - لولا وقاية الله.
ومع هذا فلا يتظنّى امرؤ أني أحط من مراتب الأولياء السامية، أو أغمط من فضائلهم النامية، كلا والله فانني أتبرك بمواطئ أقدامهم وأتشرف بأن أعدّ في جملة خدّامهم، وبحمد الله قد حصل لي الحظ الأوفى من اعتنائهم، والنصيب الأكبر من صدق ولائهم، أولئك الذين لا اعتراض للشرع عليهم بحال. ولا للنقد في طريقهم أبداً مجال، ومن زعم أن بين الشريعة والحقيقة تخالفاً وقع في الضلال، وقد قال الشعراني سمعت المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام العلم والمعرفة حتى يرى الحقيقة مؤيدة للشريعة وأن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية وإنما هو عينها، وقال سمعت الخواص يقول مراراً: ومن ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أوعكسه فقد جهل. انتهى.
وجاء عن غير واحد من العارفين أن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخلّ بحكم واحد من الشريعة فقولوا إنه زنديق، والأدلة في هذا عن الصوفية فضلاً عمن سواهم من الفقهاء لا يضبطها الحصر.
ولئن اشترط القشيري الحفظ للأولياء فالعصمة بالاتفاق لا تكون إلا للأنبياء، وقد أثر عن إمام دار الهجرة أنه كان دائماً يقول: كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر الأعطر.
ويعجبني من الآلوسي تأويله ما ذكره ابن عربي " الطائي" من حياة أربعة من الأنبياء وأنهم لايزالون في الأرض وقوله بعد ذلك ما معناه: حسب الشيخ منا أن نؤول كلامه حتى يتفق مع كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأما العكس فمما لا سبيل إليه إذ الدين يصير بذلك لعبة لعّاب انتهى بمعناه)(1).
__________
(1) ديوان ابن عبيد الله (258-259).(77/10)
وقال في القصدة الرابعة عشرة: (وهذه في وصف بعض حال المموِّهين ووجوب الاعتماد على والإطراح لما عداها.
سوق الفضيلة في أيامنا رخصا ... كأن ما فيه من درّ الكمال حصى
لا حظّ إلا لأبناء السفاح ومن ... نمته أم حصان كابد الغصصا
ما زالت الناس قبلي يشتكون لما ... يلقون من قلة الأحرار والخلصا
واليوم أطلب إنسان فأعوزني ... ولم أجد غير وحش تلبس القمصا
فهل حقيقة هذا الجيل ثابتة ... أم لا فإشكال هذا الأمر قد عوصا
ما للزمان قد استشرى الفساد به ... والخير فيه على أعقابه نكصا
غنيمة المرء بعد الناس عنه فلا ... تفرح بآت ولا تحزن لمن شخصا
ولا يغرّك زي النسك من أحد ... فكم تنسك دجال ليقتنصا
يمشي الهوينا بشئ في عمامته ... كأنه الرّوق لكن في امتداد عصا
كأنما هو حاو لا تفارقه ... رقطاء يغوي بها من عقله نقصا
مموّه يذكر الأخيار منتهزاً ... بذكرهم من صغار الأنفس الفرصا
يروي غريب كرامات بلا سند ... وربما اختلق الأخبار والقصصا
خلوا الخرافات والأحلام إن لنا ... ديناً قويماًمن الأوهام قد خلصا
ما في شريعتنا وهم ولا شبه ... لكن عزائم صدق مازجت رخصا
وهذه سيرة الهادي وسنته ... من حاد عنها ولو قيد البنان عصى
خير النبيين من شباكه لنهى ... أهل النهى قد غدا من حبه قفصا
له وللمرتضى منّا التحية ما ... غنّى الحمام وما بان النّقا رقصا
وما هدي الركب بالريح النسيم وما ... انضى الدليل بأنواعه الحدا القلصا)(1)
الأستاذ الزبيري:
وللأستاذ الشاعر محمد محمود الزبيري مشاركة في نقد القبورية قالها حينما أمر الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بإزالة قبر ابن علوان وتسويته ونقل رفاته إلى مكان مجهول، فأهتبل الزبيري هذه الفرصة وأنشأ قصيدة طويلة مدح الإمام فيها ببيتين أو ثلاثة ثم أخذ في نقد القبورية فقال:
(كذلك المجد إما رافعاً علماً ... أو باعثاً أمماً أو هادماً صنما
__________
(1) ديوان ابن عبيد الله (238-239).(77/11)
يا من يجدد من آثار أمته ... مالو رأى جده المختار لابتسما
جرح على كبد الإسلام متسع ... وضعت فيه ذباب السيف فالتأما
خديعة للجماهير التي زعمت ... بأن من دينها أن تعبد الوهما
قالوا له كتب في القبر يكتبها ... ينهى ويأمر أنى شاء محتكما
فليت شعري أسحر ذاك يزعمه ... أم أنه اتخذ القرطاس والقلما
أم أنه اتخذ القبر المقيم به ... عرشاً يدبر فيه اللوح والأمما(1)
كاد ابن علوان إذ بَرَّدتَ مضجعه ... يسعى بأكفانه للعرش مستلما
يشكو إليك أناساً أحدثوا بدعا ... ما كان وصاهم فيها ولا علما
جاؤوه وهو رهين القبر منتظرٌ ... هول السؤال يخاف الويل والنقما
يعتد منطقه كي يستجاب له ... وقتاً تضيع فيه الألسن الكلما
فبينما هو يخشى هفوةً سلفت ... صغيرةً فيه فيما قال أو زعما
إذا به يجد الدهماء تعبده ... جهراً وتجعله رباً، وإن رغما
فظل يرجف من خوف ومن خجل ... وبقرع السن من أعدائه ندما
فكاد يهرب من مولاه معتذراً ... إليه لو أنه أحيى له قدما
ربّاه، إنيَ لم أرض الذي صنعوا!! ... وكيف أرضى ربي عندك التهما
قد عشت عبداً فلما آن منقلبي ... إليك صيّرني أهل الهوى صنما
ما كان أخلص توحيدي لو أنهم ... ترسموا الدين والآيات والحكما
وكيف تخلق حلقاً ثم أسألهم ... عبادتي دون من أولاهم النعما
وكيف أطلب حقاً أنت مالكه الـ ... ـقهار تأخذ من ناواك واجترما
وكيف أجعل نفسي ندّ من خلق الـ ... أفلاك والشمس والأقمار والديما
لو كنت أدفع عن نفسي لما وجدت ... للموت طعماً ولا ذاقت له ألما
لو كنت أزعمها رباً لما دفنت ... بين التراب وصارت جيفة ودما
ما كنت آمرهم إلاّ بما أمرت ... به الأناجيل والقرآن والحكما
مادمت فيهم فقد كنت الشهيد لهم ... وكنت أزجر من ثنّى ومن ظلما
لما توفيتني كنت الرقيب على ... ما يصنعون، وكنت الشاهد الحكما
__________
(1) مجلة الإكليل (39 ) مقال لعبدالله البردوني .(77/12)
وأنت أعلم من نفسي بما صنعت ... نفسي وأعدل من جارى ومن حكما)(1)
وقد أطال الزبيري الاعتذار عن ابن علوان وأنه غير راض عما يعمله الناس عند قبره، ولكن القاضي الأكوع كما سبق في المطلب الذي قبل هذا قد صرّح أنه وجد من كلام ابن علوان نفسه ما يدل على افتتان الناس به في حياته وادعائه تلك الخوارق التي تحمل الناس على التعلق به، وهذا شأن كثير من أقطاب الصوفية.
وفي نفس الحادث يقول الشاعر المناضل زيد الموشكي:
(ياعين هذا الصنم الأكبر ... وهذه "يفرس " والمنكر
هذا ابن علوان وذا قبره ... يعبده العالم لا يفتر
ياعين هذا هبل آخر ... وقد يفوق الأول الآخر)(2)
وأما علي أحمد باكثير الشاعر الكبير والأديب الشهير ففي مسرحيته " همام، أو في بلاد الأحقاف " قد شخص لنا الولي " ولي الله" الذي عرفه مجتمعه الحضرمي تلك الحقبة من الزمن الذي لم يبق علم ولا تصوف كما يصرح بذلك جمع من عقلاء تلك البلاد في ذلك الزمن، وإنما رسوم ومظاهر وراءها نفوس فارغة من الصلاح، وقلوب خاوية من الإيمان،وعقول مردت على الكيد والاحتيال،وياليت القوم كانوا عصابة سرقةٍ أو قطعِ طريق أو شبه عصابات " المافيا " إذن لهان الأمر إذ يوجد ذلك في كل مكان، ويأخذ الناس حذرهم منهم،وتتحمل السلطات مسؤولية ملاحقتهم، ولكن باسم الدين وباسم الولاية وباسم الكرامات هذا ما لا يطيقه مسلم عرف الإسلام، لذلك جاء نقد الأديب باكثير عنيفاً وفي صورة صارخة من السخرية والهزء بهذا النوع من الناس فاسمعه يصف الولي المحتال:
(ولي الله ذو الحبو ... ة والأردية الخضر!
وذو والعمَّة المسواك ... قد أربى على الشبر!(3)
ورب السبحة الغار ... ق في التسبيح والذكر
بها يذكر في الناس ... ولا يذكر في السر
ومن يمشي بعكازين ... من أتباعه الكُثر
__________
(1) هجر العلم ( 2/750 – 751 ) .
(2) مجلة الإكليل مقال البردوني (39 )
(3) في الأصل تقديم المسواك والصواب ماذكر .(77/13)
يطأطىء رأسه للأر ... ض كالباحث عن سر)(1)
وبعد أن كشف باكثير عن شخصية الولي الحي الذي يعتقد الناس فيه الصلاح وهو يمكر بهم ويحتال عليهم، يتجه اتجاهاً آخر إلى ولي ميت وماذا يدور حول قبره وأثناء زيارته، وماذا يريد الناس منه، ثم ختم المشهد بغضب همام وثورته على هذه الخرافات وهذا الجهل والتجهيل،وقد صرح بذلك في وجه داعية الخرافة:
فهذا همام بطل المسرحية يسأل محمداً أحد أشخاصها قائلاً:
(محمد هات عن قيدو ... ن ماذا كان من أمر؟
وما شاهدت في الموسم ... من عرف ومن نكر؟
وهل وفقت في الإنكار ... والتذكير والزجر؟
فيجيبه محمد:
توافى الناس أفواجاًً ... إلى قيدون كالذر
فمِن سا عِيَة تمشي ... ومن راكبة الحمر
هناك الساحة الكبرى ... تحاكي ساحة الحشر
بها ما شئت من لهو ... ومن لغو ومن هذر
وقد غصت بأشتات ... من الآساد والعفر!
تبارت ثم في ... الحلية ... والأبراد والخمر
وقد يقتلن بالمعصـ ... ــــم ... أو بالنظر السحري!!
من الظهر إلى العصر ... إلى منبلج الفجر!
هناك الخسر في الدين ... وحسب الناس من خسر
ولا يربح في تلك الـ ... ـزيارات سوى التجر
وأما سادن القبة ... فهو الرابح المثري!
تساق لداره الأكيا ... س من حب ومن تمر
و " للصندوق " ما يبا ... ع من ورق ومن تبر!
*
ولما حضر الوقت ... تداعوا كضحى النفر
وأمُّوا نحو قبر الشيـ ... ـخ بالطبل وبالزمر
يصيحون ولي الله ... جئناك إلى القبر!
أتيناك لكي تحمل ... عنّا ثقل الوزر
وكي تسبل ياقطب ... علينا ضافي الستر
وفي الأنفس حاجات ... بها ياسيدي تدري!
أتيناك لكي تقضى ... ونحظى منك بالسر
*
ولما وصلوا القبة ... داروا دورة الحمر
وأهوت راح ذاك الجمـ ... ـعِ في التابوت بالنقر
فلا تسمع إلاَّ ما ... يصيب السمع بالوقر
هناك الناس غير ... الناس ... في الإخبات والذكر!
__________
(1) همام أو في بلاد الأحقاف لعلي أحمد باكثير ص (47) منشورات الصبان وشركاه ، الطبعة الثانية (1385-1965) .(77/14)
فهذا خاضع شاك ... وهذا دمعه يجري
وهذا ينشج النشجة ... تستعصي علىالصدر!
وهذا يرعد الرعد ... ة في أعضائه تسري!
وهذا ينذر النذر ... وهذا جاء بالنذر
وهذا صائح يا ... سيدي ... عطفاً على فقري
على عجزي وإهمالي ... على ضعفي على ضري
وقدجُلِّلَت القبة ... بالزينة والستر
وبيضات من البلو ... ر علقت على الجدر!
فمن حمر إلى صفر ... إلى زرق إلى خضر
ومصباح كبير الضوء ... مثل الكوكب الدري
وللتابوت معنى من ... جلال العتق والقدر(1)
قد اسود من التقبيل ... في مختلف العصر!
عليه ضبب الفـ ... ضة ... في أسود كالحبر
فتبدو كثغور الزنـ ... ـج إذ تضحك من أمر!
فثم الضم و ... التقبيل ... بالثغر وبالنحر
تلاقى فيه دمعا ... الشاب ... والجارية البكر
*
ولما سكن الجمع ... سكون الموج في البحر
تراءى الناس شيخاً ذا ... شقاشق فيهم هدر
ينادي أيها الناس إهـ ... ـنأوا بالفوز والنصر
بهذي النعمة العظمى ... بنيل الفضل والفخر
قصدتم باب ذي عطف ... وذي جود وذي بر
وأنَّ الشيخ لا يترك ... من زار بلا أجر!
عليكم بخلوص ... القصد ... في السر وفي الجهر
وبالتسليم للأقطا ... ب والخدمة والصبر
وإيّاكم وسوء الظـ ... ــن بالصوفية الغر
فأهل الله هم جازوا ... مناط النهي والأمر
ملوك لهم التصر يـ ... ــف في البر وفي البحر
*
سمعنا أن في (حدرى) ... تبا شير من الكفر(2)
تصدى ناشيء غر ... بلاه الله من غّر!
يربي الشعر كالفسا ... ق إذ يعنون بالشعر
تلقى من فنون العلـ ... ــم مازاد على القدر
فأغواه وأرداه ... وجاء النفع بالضر
ومن شقوته استحلى ... حميم الأدب المزري
جرى القلب لايعبـ ... ــأُ بالتهديد والزجر
يبث السم في الجا هـ ... ــل والعلامة الحبر
يسيء الظن بالأقطا ... ب أهل المدد السري!
له أتباع سوء كلـ ... ـهم يدعو إلى الشر
*
__________
(1) العتق : القدم .
(2) تطلق حدرى على ما سفل من حضرموت كشبام وسيئون وتريم ، وعلوى على ما علا منها كدوعن وعمد ووادي العين.(77/15)
هنا قمت وقد ضاق ... بي الواسع من صدري
وما باليت بالغوغا ... ءِ في عسكرها المجر
وقلت اسكت عجوز السو ... ءِ يا داعية النكر
عدو الله والإصلا ... ح! هل تهذي ولا تدري؟
أتدعو الناس للنكر ... وتهجو داعي الخير
فصا ح الشيخ غولوه ... فذا من شيعة الغر
فلولا أن تسللت ... من الجمهور بالفر
لكانوا أعدموني مهـ ... ـجتي بالضرب والدفر (1)
*
همام يضحك ويقوم إ لى محمد ويضرب على كتفيه:
حماك الله من سوء ... وقاك الله من شر
لقد قمت مقاماً لا ... يوازي عظمة شكري
ولا بد لذي الإصلا ... ح من عزم ومن صبر!)(2)
هذه بعض القصائد في نقد القبورية العامة، وهناك قصائد أخرى كثيرة في هذا الباب ولكنني أكتفي بما سبق لئلا يطول هذا المطلب.
المطلب الثالث نقول عن بعض من يعتقدهم القبورية في نقد عقائدهم وأعمالهم:
الباطل لايمكن الإجماع عليه لأنه لو حصل ذلك للبَّس على الناس دينهم ولبطلت خصيصة من خصائص هذه الأمة، وهو أنها " لا تجتمع على ضلالة "، فالطائفة المنصورة دائماً ظاهرة في مخالفة الباطل وإنكار المنكر في أي جانب كان.
__________
(1) الدفر : الدفع في الصدر .
(2) همام ( 48-52) .(77/16)
وفوق ذلك فإن من المحبين لأهل الباطل الواثقين بهم المقلدين لهم من هو من أهل الخير والصلاح، ولو رجع إلى نفسه ودرس الأمر بعيداً عن المؤثرات لميز الحق من الباطل ولظهر له خطأ كثير مما استصوبه أصحابه، فلذلك عندما تتاح لهذا النوع من الناس تلك السوانح فإنهم يقتنصونها وتظهر على أقوالهم وأفعالهم، وهناك من هو متمكن في الضلال ولكن يأبى الله إلا أن يجري كلمة الحق على لسانه أو قلمه، فمن أجل ذلك كله عقد هذا المطلب لإيراد نماذج من تلك الفتاوى والتقريرات التي وردت إما من القبورية أو ممن هو محسوب من أنصارهم وأتباعهم من علماء وفقهاء اليمن، ولن أخوض في نوايا أولئك الناس أو أحكم عليهم بضلال أو هداية، إذ المقصود هنا فقط هو تأييد الحق الذي يعرفه أهل السنة، ويقررونه ويستدلون عليه بالأدلة الشرعية المعتمدة بما يقوله من يحسب القبورية أنه منهم أو من أنصارهم وأشياعهم.
النموذج الأول:
فتوى السيد عبدالله بن محفوظ الحداد مفتي ساحل حضرموت في زمنه (1)
__________
(1) السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهو ممن عاصرته مدة وعملت معه في بعض الدورات الشرعية التي أقامتها وزارة الأوقاف والإرشاد بحضرموت ، والرجل درس في رباط تريم ثم سافر مبتعثاً إلى السودان وتخرج من هناك وعاد ليتولىرئاسة محكمة الاستئناف بالمكلا ثم رئاسة القضاء بحضرموت واستمر فيه إلى عام 1970م ثم استقال منه .
وهو قد استفاد من تفرغه أيام الحزب الاشتراكي في أول عهده وعهد الجبهة القومية فقرأ كثيراً ومما قرأ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكنه مع ذلك ظل متمسكاً بالأشعرية على طريقة الغزالي ، وكان يكره الخوض في مجال البدعة بل إن له كتاباً أيد فيه أصل الابتداع في الأمور العملية ورد على صاحب كتاب "السنن والمبتدعات "وكان يغضب عندما يسأل عن حكم القباب التي على القبور ، ثم بعد اشتداد موجة التصوف تعاطف مع المتصوفة أكثر وكان يقول إن علي بن حسن السقاف - صاحب الأردن الذي ألف رسائل في تأييد بعض البدع ورد على الشيخ الألباني وابن تيمية وغيرهما - يقول عنه أنه مجدد هذا القرن .ومع ذلك كان يفتي هذه الفتاوى في أن الاستغاثه بغير الله شرك إلى آخر حياته - رحمه الله - .(77/17)
إذ سأله بعض أهالي تريم عن الاستغاثة بالأموات: وماحكم تلفظ القائل عند حدوث مكروه،مثل سقوط طفل: يالله ياشيخ سعيد أو يالله يامحضار، وأحياناً يقول: يامحضار احضر..... الخ.
فأجاب: (الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد، إن مثل هذه العبارات من العبارات الشركية التي يجب على المسلم أن يتنزه عنها. فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: ماشاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً " وهذه الاستغاثات ممنوعة لأنها موهمة وتؤدي إلى خلل في العقيدة خصوصاً العامي الذي يعتقد أن لهؤلاء الأولياء تصرفاً وأنهم يحضرون عند الاستغاثه بهم – وإنما يستغاث بـ الله جل جلاله – لا بغيره من الملائكة أو الرسل أو الأولياء والصالحين فكل مما يجب منعه ومحاربته. ومع الأسف فإن هذه الألفاظ يكررها العوام، والعلماء يسمعون فلا ينهونهم ولا ينبهونهم على خطرها لأنها تتصل بالعقيدة. فالله هو النافع الضار المحيي المميت مالك الملك لاشريك له، ليس لأحد معه شرك ولا تصرف.
قال في " بغية المسترشدين ": " مسألة ك (1)" جعل الوسائط بين العبد وربه فإن صار يدعوهم كما يدعو الله في الأمور ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله فهو كفر، وإن كان نيته التوسل بهم إلى الله في قضاء مهماته مع الاعتقاد أن الله هو النافع الضار المؤثر في الأمور دون غيره، فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحاً أ.هـ.
__________
(1) حرف الكاف رمز للشيخ العلامة محمد بن سليمان الكردي مفتي الشافعية في زمانه معزو إلى فتاواه .(77/18)
قلت: فإن قوله الظاهر عدم كفره أن ذلك حرام لأنه يؤدي إلى الكفر خصوصاً من العوام الذين أصبحوا يعلنون مثل ذلك في كلامهم وحتى عند الجنائز – فأهل السوق يقولون: يامحضار، وأهل النويدره يقولون: ياشهاب الدين – وهذا إن لم يكن كفراً صريحاً فهو قريب منه، ويجب على العلماء التنبيه عليه والتحذير منه ومنع إعلانه في المجتمعات كالجنائز ونحوها من الحريق وغيره، وليأخذوا بالسبيل القويم الأسلم. وإذا كنا نعذر بعض العلماء مما ورد في أشعارهم لأنهم علماء يعلمون مايقولون فإذا نادى ميتاً فإنما لأجل مدحه لا للاستغاثة به. وإن كان فيه استغاثة حملناه على المحمل السليم لعلمه، أما أن نترك العامة يأخذون الألفاظ ويعلنونها كأنها من الأذكار فهذا مالا يجوز قطعاً. والساكت عن الحق شيطان أخرس. والله المستعان) (1).
ولما انتشرت هذه الفتوى ومضت مدة لانتشارها شكك البعض فيها فعاد أحد طلابه إليه وذكر له ذلك فأصر على صواب تلك الفتوى، وأصدر فتوى أخرى فرق فيها بين الاستغاثة التي يحرمها ويعتبرها من الشرك وبين التوسل المعروف بالأولياء بأشخاصهم أو بأعمالهم وهو ممن يجيز التوسل، وهذا نص الفتوى الثانية:(إن المتوسل متوجه بطلبه إلى الله، وذكر المتوسل به على سبيل التحبب، وأما الاستغاثة فيمكن اعتبارها توسلاً ظنياً لمن يفهم وينوي طلب الدعاء، وإلاّ فإنها ممنوعة وبالذات للعوام الذين قد يعتقدون في المستغاث به القدرة على تحقيقها استقلالاً، ولهذا فهي محرمة على العوام وعلى إظهارها الفتوى بها، ونعذر العلماء الذين جاءت في أشعارهم لعلمنا بصحة عقيدتهم وأنهم إنما يقصدون التوسل بالمستغاث به وطلب دعائه) (2).
__________
(1) هذه الفتوى صدرت بخطه وتوقيعه وختمه ثم طبعت في ورقة أخرى ووزعت في حياته ولازالت النسختان محفوظتين .
(2) وهذه الفتوى حررت يوم الاثنين 12 صفر 1416هـ وهي كذلك محفوظة بخظ المفتي وتوقيعه .(77/19)
وهذه الفتوى وسابقتها للعلامة الحداد لم تصل إلى المستوى المطلوب أو لم تخلُ من بعض المآخذ ولكن المراد من إثباتها هنا إثبات أن مبدأ اعتبار الاستغاثة بغير الله شرك شائع ومعروف عند كل من خلع ربقة الهوى والتقليد ومن تعصب بدون بصيرة، وإن اختلفت العبارات وتفاوت مستوى التحقيق والتدقيق في الفتاوى.
ويقرب من ذلك ما قرره العلامة عبدالله بن أحمد باسودان - رحمه الله - وهو من أكابر فقهاء حضرموت في وقته، ومن المنطوين في السادة العلويين؛ بل يعتبر شيخاً للكثير منهم في كتابه "ذخيرة العباد شرح راتب الحداد " (وقد فشت في العامة اعتقادات فاسدة في أولياء الله، فإن مرضوا، قالوا: هذا صدر من فلان، وإن شفوا؛ قالوا: بركة سيدي فلان، فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم؛ حلفوا بهم ونذروا لهم من دون الله، واستشفوا بهم من دون الله، فإن أجرى الله سبحانه الوادي؛ قالوا: شيء لله يافلان، وإن قبض الله عليهم المطر؛ قالوا: قبضها فلان.. والله سبحانه القابض الباسط المحيي المميت وكل شيء بيده في ملك ملكوت، ولو ذهبنا لما في الكتاب والسنة من التحذير في ذلك لعرف الناس أنهم قد هلكوا، وأكثر هؤلاء بل كلهم أتباع الدجال نعوذ بالله من الضلال، ويقع من هؤلاء في زيارة قبور الأولياء أو غيرهم كثيرٌ من الجهالات والمآثم المتكررة، هذا ما قاله الشيخ عبدالخالق المزجاجي الزبيدي.) (1).
__________
(1) ذخيرة العباد شرح راتب الحداد ( 124-125 ) بواسطة طريقة الساده العلويين نقلاً عن كتبهم ( 7-8 ) كتبها مجموعة من الشباب كنوا عن أنفسهم بـ ( مخلصون ) وقدم لها السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهي مخطوطة لدى.(77/20)
والمهم في هذا النقل قوله: (فلما اعتقدوا ضرهم ونفعهم حلفوا بهم ونذروا لهم من دون الله واستشفوا بهم من دون الله)، وهذا هو الرد الحاسم على المزايدين من المعاصرين، الذين يقولون: إن تلك الأفعال التي يفعلها العامة (1) إنما هي مجرد أعمال لاتقوم على اعتقاد ضر ولانفع، ولو صح أن هناك اعتقاد ضر أو نفع لقلنا بشركهم، فهذا العالم الذي تعتبرونه من أجل علمائكم يصرح بأن هذه الأعمال ما صدرت إلا عن اعتقاد.
أما نحن فنقول: إن مجرد فعل هذه الأعمال وصرفها لغير الله شرك ولولم يصحبه اعتقاد وانظر ما قرره الإمام الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة في الدر النضيد. (2)
__________
(1) إن هذا القول إنما هو تنصل من الحقيقة وإلا فهو قول العامة وكثير من الخاصة ولئن كان العامي تربى على ذلك واعتقده تقليداً، فإن بعض من يحسب من الخاصة من يقوله ويدافع عنه ويقيم الحجج بزعمه على صحته ، ثم عند المناظرة يراوغ ويقول إنما هذا فعل العامة ومن اعتقد الضر والنفع في غير الله فقد أشرك ، فله مذهبان مذهب عند الأتباع هو تأصيل ذلك وتأييده ومذهب عند الخصوم هو المراوغة والتقية وإسكات الخصم بما يوافقه وإن كان خلاف مايعتقده ذلك المناظر .
(2) الدر النضيد ص ( 110 ) .(77/21)
ويشبه ذلك - أيضاً - ما نقله علوي بن طاهر الحداد عن " الإمام " الحداد المشهور " عبدالله بن علوي " حيث قال: (وأما الغلو في الأولياء فسببه الجهل وقلة المعرفة بعقائد الدين وقد ينتهي ببعض الناس إلى أن يثبت لهم القدرة على الضر والنفع كما يثبت لله عزوجل، وهذا انتكاس على أم الرأس وفقد لحقيقة الإيمان والإسلام: قال الإمام العارف بالله محيي الطريق وداعي الفريق الحبيب عبدالله بن علوي الحداد العلوي: التصرف الحقيقي الذي هو التأثير والخلق والإيجاد لله تعالى وحده لاشريك له ولا تأثير للولي ولا غيره في شي قط لاحياً ولاميتاً، فمن اعتقد أن للولي أو غيره تأثيراً في شيء فهو كافر بالله تعالى انتهى). (1)
وهو كالذي قبله يثبت أن للعامة اعتقاداً منحرفاً في الأولياء بفقد حقيقة الإيمان والإسلام وأن (من اعتقد أن للولي أوغيره تأثيراً في شيء فهو كافر بالله تعالى)
__________
(1) عقود الألماس بمناقب الإمام العارف بالله الحبيب أحمد بن حسن العطاس (1/47)(77/22)
وفي مسألة الذبح لغير الله قال العلامة عبدالرحمن المشهور في "بغية المسترشدين " " مسألة ب"(1): (القنيص المعروف بحضرموت من أكبر البدع المنكرات والدواهي المخزيات، لكونه خارجاً عن مطلوبات الشرع، ولم يكن في زمن سيد المرسلين والصحابة والتابعين - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، ومن بعدهم من الأئمة ولم يرجع إلى أساس ولم يبن على قياس، بل من تسويلات الرجيم وتهويسات ذي الفعل الذميم والعقل الغير المستقيم؛ لأن من عاداتهم أنه إذا امتنع عليهم قتل الصيد قالوا: بكم ذيم. (2) فيذبحون رأس غنم على الطوع - يعني العود الذي تمسك به الشبكة - تطهيراً للقنيص من كل شك ووسواس فالذبح على هذه الصفة لايعجل قتل مالم يَحْضُر أجله، إذ الأجل كالرزق والسعادة والشقاوة له حدّ ووقت مقدر كما قال تعالى: { لكل أجل كتاب } (3)، وفي الحديث: " فرغ الله من أربع: من الخلق والأجل والرزق والخلق " ثم الذبح علىمثل هذه الحالة يتنوع إلى ثلاثة أمور: إما أن يقصد به التقرب إلى ربه، ولم يشرك معه أحداً من الخلق، طامعاً في رضاه وقربه وهذا حسن لابأس به، وإما أن يقصد به التقرب لغير الله تعالى كما يتقرب إليه معظماً له كتعظيم الله كالذبح المذكور بتقدير كونه شيئاً يتقرب إليه ويعول في زوال الذيم عليه فهذا كفر والذبيحة ميتة، وإما أن لا يقصد ذا ولا ذا بل يذبحه على نحو الطوع معتقداً أن ذلك الذبح على تلك الكيفية مزيل للمانع المذكور، من غير اعتقاد أمر آخر فهذا ليس بكفر ولكنه حرام والمذبوح ميتة أيضاً وهذا هو الذي يظهر من حال العوام؛ كما عرف بالاستقراء من أفعالهم، كما مقت هذه الصور الثلاث أبو مخرمة فيمن يذبح للجن)(4)
__________
(1) يعني أن هذه المسألة فتاوى عبدالله بن الحسين بن عبدالله بافقيه كما في مقدمة العينية (2 ).
(2) الذيم ) يظهر أنه اصطلاح خاص بالقوم ولم يفسره المصنف ولعله مانع من موانع حصول الصيد بسبب معين .
(3) سورة الرعد ( 38 ) .
(4) بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمة من العلماء المتأخرين تأليف عبدالرحمن بن محمد باعلوي طبعة دار الفكر بدون تاريخ ص ( 255-256 ) .(77/23)
والشاهد في النص اعتبار الذبح لغير الله على سبيل التعظيم شرك بالله تعالى، وتصريح هؤلاء الثلاثة العلماء الكبار به وهم من مشاهير علماء حضرموت المحسوبين من قدوات الصوفية:بامخرمة، وبافقيه،والمشهور.
وفي نفس الموضوع يقول ابن عبيدالله مفتي حضرموت في وقته: (ولنضرب مثلاً بأولياء الرحمن فإن من استخف حقهم وأنكر خصوصيتهم اقتحم الغلط وأتى بأكبر شطط ومن طلب منهم مالا يطلب إلا من جبار السماوات واعتقد أن لهم تأثيراً من دون الله فقد وقع في صريح الإشراك)(1).
وفي الحلف بغير الله يقول عبدالله بن حسين بن طاهر: (وأحذركم الحلف بالله في جميع شؤونكم (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم)(2)، وأما الحلف بالآباء والجدود وبكل مخلوق - وإن عظم - فهو محذور ويختلف الحكم فيه باختلاف المقصود فبعض صوره قادح في التوحيد ومادون ذلك فمكروه؛ للنهي الشديد وأشدّ من ذلك الحلف بالأمانة فالمحتاط من كف عن ذلك لسانه)(3)
والشاهد جعله بعض صور الحلف قادحاً في التوحيد ولعله يقصد إذا قصد الحالف تعظيم المحلوف به.
وهذا ظاهر عند الذين يصرون على ألا يقبلوا الحلف إلا بالولي ويرفضون الحلف بالله وكذلك الذين يتهيبون من الحلف بالولي ولا يتهيبون الحلف بالله
__________
(1) مذكرة طريقة السادة العلويين كتبها مجموعة من الشباب كنوا عن أنفسهم بـ ( مخلصون ) وقدم لها السيد عبدالله بن محفوظ الحداد وهي مخطوطة لدى ص ( 10 ) عن رسالتي ( المساواة والملكية ) للسيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف .
(2) البقرة ( 224 )
(3) المجموع لعبدالله بن حسين بن طاهر ص ( 237 ) بواسطة طريقة السادة العلويين ص ( 8- 9 ) .(77/24)
وفي النذر قد سبق ما قاله العلامة أبو بكر الخطيب وموضع الشاهد قوله: (أقول وأنت خبير بأن العامي الجاهل الصرف يخفى عليه ملاحظة أن هذا التصدق لايعتقد إلا في القرب ومعرفة ما هو قربة، فليتنبه لما يجيئون به للولي أو قبره أو مشهده وهو ميت فإن الغالب أنهم يقصدون به تعظيم ذات الولي أو قبره أو مشهده وذلك باطل؛ كما تقدم والله أعلم بالصواب)(1)، أقول والذي تقدم قوله: (الذي تحصل للفقير من كلام أئمتنا الشافعية - رحمهم الله تعالى - ملخصاً من كلام طويل لهم في مثل هذه المسألة أن ما تصدق به على النبي أو الولي الميتين أو على قبرهما أو مشهدهما مثلاً سواءاً كان بنذر أو وقف، ومثل ذلك الأمل(2) المعروف بالجهة عندنا أنه قصد به تمليك الميت أو القبر أو المشهد بطل؛ لعدم صحة تمليك من ذكر وكذا لو نوى بذلك التقرب إلى من ذكر؛ لأن القرب إنما يتقرب بها إلى الله تعالى لا إلى خلقه ومثل ذلك ما إذا كان المتصدق به شمعاً أو زيتاً، ومثله السليط والقاز عندنا وقصد به الإسراج للتنوير تعظيماً للبقعة أو القبرأو التقرب إلى من دفن فيها أونسبت إليه كما يعتقده بعض العامة فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات بنفسها ويرون أن التصدق عليها مما يندفع به البلاء..) (3) أقول واضح من هذا النقل أن هذا الفقيه يوافق في قوله هذا القول الصحيح من أن النذرلغير الله شرك إذا كان عن اعتقاد في المنذورله، وهذا على قول من يجعل النذر بمعنى الهبة أو العطية، وأما من يقول إن النذر لايسمى نذراً إلا إذا كان عبادة؛ فإنه يكون النذر - على قولهم - وعلى من نذر على هذا الوجه - شركاً ولولم يصحبه تعظيم.
__________
(1) الفتاوى النافعة ص ( 249 ) .
(2) الأمل يشبه نذر المكافأة كأن يقول إن شفي مريضي فللولي الفلاني كذا كذا .
(3) المصدر السابق ص (248-249).(77/25)
يقول السيد عبدالرحمن المشهور في التفريق بين الكرامة والسحر والإشارة إلى أن بعض من يدعي الولاية قد يكون من السحرة المشعوذين والتنصيص على بعض المجاذيب من أتباع الرفاعي أو أحمدبن علوان أن بعضهم إنما يفعل ذلك بطريق السحر وتأكيده على أن الكرامة لا تكون على يد فاسق ولا يتعلم من حصلت على يده سببها ولا يسعى إليها وأن من التشبه بأصحاب الكرامات من ليسوا منهم من يستعملون الجان يقول في ذلك كله: "مسألة ى" (1) (خوارق العادة على أربعة أقسام: المعجزة المقرونة بدعوى النبوة المعجوز عن معارضتها الحاصلة بغير اكتساب وتعلم،والكرامة وهي ما تظهر على يد كامل المتابعة لنبيه من غير تعلم ومباشرة أعمال مخصوصة، وتنقسم إلى ما هو إرهاص وهو ما يظهر على يد النبي قبل دعوى النبوة، وما هو معونة وهو ما يظهر على يد المؤمن الذي لم يفسق ولم يفتر به‘ والاستدراج وهو مايظهر على يد الفاسق المغتر، والسحر وهو ما يحصل بتعلم ومباشرة سبب على يد فاسق، أو كافر، كالشعوذة وهي خفة اليد بالأعمال وحمل الحيات ولدغها له، واللعب بالنار من غير تأثير، والطلاسم والتعزيمات المحرمة، واستخدام الجان وغير ذلك. إذا عرفت ذلك علمت أن ما يتعاطاه الذين يضربون صدورهم بدبوس أو سكين أو يطعنون أعينهم أو يحملون النار أو يأكلونها وينتمون إلى سيدي أحمد الرفاعي أو سيدي أحمد بن علوان أو غيرهما من الأولياء أنهم إن كانوا مستقيمين على الشريعة قائمين بالأوامر تاركين للمناهي عالمين بالغرض العيني من العلم عاملين به لم يتعلموا السبب المحصل لهذا العمل فهو من حيز الكرامة وإلا فهو من حيز السحر إذ الإجماع منعقد على أن الكرامة لا تظهر على يد فاسق وأنها لاتحصل بتعلم أقوال وأعمال وأن ما يظهر على يد الفاسق من الخوارق من السحر المحرم تعلمه وتعليمه وفعله ويجب زجر فاعله ومدعيه، ومتى حكمنا
__________
(1) أي أن هذا النقل عن الشيخ عبدالله بن عمر بن أبي بكر بن يحيى كما في المقدمة (2) .(77/26)
بأنه سحر وضلال حرم التفرج عليه؛ إذ القاعدة أن التفرج على الحرام حرام؛ كدخول محل الصور المحرمة، وحرم المال المأخوذ عليه، والفرق بين معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء وبين نحو السحر أن السحر والطلسمات والسيمياء وجميع هذه الأمور ليس فيها شيء من خوارق العادة؛ بل جرت بترتيب مسببات على أسباب، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بخلاف المعجزة والكرامة فليس لهما سبيل في العادة، وإن السحر مختص بمن عمل له، حتى أن أهل هذه الحرف إذا طلب منهم الملوك مثلاً صنعتها طلبوا منهم أن يكتب لهم أسماء من يحضر ذلك المجلس فيصنعون ذلك إن سمي لهم فلو حضر آخر لم ير شيئاً وأن قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي المحتفّة بالأنبياء والأولياء من الفضل والشرف وحس الخلق والصدق والحياء والزهد والفتوة وترك الرذائل وكمال العلم وصلاح العمل وغيرهما، والساحر على الضد من ذلك) (1).
__________
(1) بغية المسترشدين ص ( 298 – 299 ) .(77/27)
وهذا تفصيل حسن لخوارق العادات وتمييز للمعجزة عن الكرامة من الاستدراج والسحر. والفائدة الكبيرة والقاعدة العظيمة التي تجلي الفرق بين الكرامة والسحر، أن الكرامة لا تكون بتعلم لما يحدث ذلك الأمر فإن كان ذلك الخارق ناتجاً عن سبب ظاهر وتعلم له، كان الخارق من حيز السحر لا من حيز الكرامة ولو أننا مع الصوفية جميعاً وقفنا عند هذه القاعدة وطبقناها تطبيقاً حاسماً وسليماً لاتضح أن معظم ما تطفح به كتب الصوفية في مناقب أوليائهم مما صح نسبته إليهم من باب السحر لا من باب الكرامة لأن جماعات منهم اشتهروا أو ثبت عنهم تعلم السمياء أو علم الحروف وذلك من السحر كما في هذا النقل وغيره، فمن ثبت أنه عالم بذلك مستعمل له فاسم الفسق قد وقع عليه، ثم ذلك الخارق قد أصبح صادراً عن تعلم فانتفى أن يكون من حيز الكرامة ولم يبق إلا أن يكون من حيز السحر وكذلك من يتعاطى الرياضة التي هي في صورة عبادات لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن تلك الرياضة سبب يتوصل به إلى إظهار خوارق للعادات، وقد نص الشعراني على أن بعض النصابين يمارسون الرياضات ليوهموا الناس أنهم من الأولياء ذوي الكرامات (1)
__________
(1) انظر الطبقات الكبرى (1/ 108 ) .(77/28)
فاتضح أن هناك فارقين أساسيين بين الكرامة والسحر أوالاستدراج وهما: التعلم واتخاذ الأسباب، فمتى وجد هذا الفرق حكم على الخارق بأنه سحر، ولو كان على يد من يظهر عليه سيما الصلاح؛ لأنه قد يكون في الباطن بخلاف ذلك. وأما الفرق الثاني: وهو الاستقامة للكرامة، والفسق للسحر والاستدراج؛ فإنه قد تحايل عليه الصوفية ولم يبق له أثر لديهم ولا لدي أتباعهم؛ حيث قرروا أصلاً خطيراً وهو أن الولي يتجزأ ويظهر بمظاهر مختلفة وأن ما تراه لديه مما ظاهره الفسق فإنه في الباطن شيء آخر، بل إن الخمر إذا رأيته يشربها فإما أنها خمر لَدُنِّية من الحضرة الربانية وإما أنها مشروب آخر ظهر لمصلحة في صورة الخمر، وكل ذلك قد ضربت عليه أمثلة،وأيضاً نقلت عنهم كيف يعتذرون لمن لم ير يصلي قط وأنه فحص فظهر أن له عشر صور، صورة واحدة هي التي رآها المعترض لا تصلي بينما تسع صور دائبة في العبادة وصدقهم من رأى ذلك ونقل الحادث على أنه كرامة من أشهر وأكبر كرامات ذلك الولي. فلنتأمل هذا الفرق ثم نحكم بموجبه على كل خارق من الخوارق على يد من كان من الناس.
شهادة حق من أصحاب وحدة الوجود:
قلت في مبحث سابق إنني لم أجد لعلماء حضرموت قولاً فاصلاً واضحاً في أصحاب وحدة الوجود مع عموم إحسان الظن بهم واعتبارهم من الأولياء، ولكني اطلعت أخيراً على نقل نقله علوي بن طاهر الحداد عن الشيخين الشافعيين الشهاب الرملي وابن حجر المكي يدل على أنه موافق لها فيه، وهذا النقل مهم جداً خصوصاً عن ابن حجر المكي الذي اشتهر عنه التأويل لأصحاب وحدة الوجود يقول الحداد:
(وسئل الشيخ أحمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود فقال: يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لايقبل تأويلاً. وكفره أشد من كفر اليهود والنصارى، واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذه الفتوى، وكان قبل ذلك يتمحل لبعض المتصوفة القائلين بها ويؤول كلامهم فرجع عن التأويل.) (1)
__________
(1) عقود الألماس ( 1/104 ) .(77/29)
وأخيراً طعنة من الحداد في صميم دعاوى قومه:
قال جامع كتاب النفائس العلوية في المسائل الصوفية: (وسأله بعض الأصحاب أيضاً عن الكبش الذي يعتاد أهل الغيل تركه في بيوتهم ويسمونه مسايراً. فأجاب رضي الله عنه ونفعنا به: أما الكبش الذي يعتاد تركه أهل الغيل في بيوتهم ويسمونه " مسايراً " وكلما ذهب أبدلوه بغيره. فهذا والعياذ بالله من الشرك بالله والشرك ظلم عظيم،وهو وأمثاله سبب تسلط الشيطان وجنوده على العاملين به. فإن الله تعالى قد سلط الشيطان على من يتبعه من بني آدم، وهذا من الاتباع له قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سبلطان إلا من اتبعك من الغاويين)(1)(2) موضع الشاهد أنه جعل اتخاذ هذا الكبش شركاً. ومن المعلوم ضرورة أن متخذه لم يعتقد أنه يضر وينفع من دون الله قطعاً؛ لأنه يعرف هذا الكبش ويعرف حقيقته ومن أين جاء، وكيف يموت وينتهي، ومع ذلك كان اتخاذه شركاً. إذن فكيف لايكون من يدعو غير الله مشركاً إلا إن كان يعتقد استقلاله بالضر والنفع من دون الله، وصورة الدعاء لغير الله أظهر في الإشراك من صورة اتخاذ هذا الكبش؟
المطلب الرابع: فتاوى وبيانات جماعية للتحذير من عقائد وأعمال القبورية:
لكي يعلم القاريء الكريم أن موقف علماء اليمن المعاصرين هو موقف أسلافهم الكرام الرافض للقبورية بعقائدها وأعمالها، أسوق في هذا المطلب عدداً من الفتاوى والبيانات الجماعية، التي انتقد كاتبوها والموقعون عليها أعمالاً من أعمال القبورية أو أيدوا خلافها وهي تتناول البناء على القبور وبعض الزيارات والشعائر القبورية وادعاء علم الغيب.
__________
(1) الحجر ( 42 ) .
(2) النفائس العلوية في المسائل الصوفية ص ( 127 – 128 ) لعبدالله بن علوي الحداد طبع دار الحاوي الطبعة الأولى ( 1414هـ - 1993م ) .(77/30)
الفتوى الأولى: كانت رداً على سؤال بعث به أحد القائمين على بعض القباب في جهة تهامة ونص السؤال هو: (ماقولكم سادتي العلماء رضي الله عنكم في قضية عظيمة الخطر هي مايمارس الناس من أعمال،فهم يقربون الذبائح إلى القبور وينذرون لها ويذبحون لها ويستعيذون بها ويعتقدون فيها النفع والضر والحياة والموت " ورأس برأس " فهل هذا يرضاه الإسلام ياعلماء الإسلام، وهل ارتفاع القبور والقباب من الإسلام في شيء، وهل يؤجر عليها فاعله،فأنا منصوب قبة الشيخ داود بن الزين والناس يأتون إلي بريالات وكباش وعجلان وأشياء أخرى يقولون هذه حق الشيخ داود وإذا نهيتهم قالوا الولي سيضرك،أولئك كانوا يعملون ويقبلون، فلماذا لا تسير على ما ساروا عليه، قولوا لنا كلمة الإسلام في الموضوع - وفقكم الله -، والسائل مستفيد وهناك قباب كثيرة ومناصيب أخرى والعمل هو العمل ويأتي جهلة بدوان ويقومون بحركات ورعشات،أفتونا لا خلا عنكم الوجود؟
وقد جاءت الفتوى هكذا (الحمد لله حيث كان الحال ماشرحه السائل، فالتقرب بالذبائح إلى القبور والأولياء والإستعانة بهم والنذر لهم دائر بين أمرين خطيرين، إما كفر بواح، وإما وسيلة إلى الكفر، ذلك أنه إذا صدر هذا الفعل الشنيع ممن نشأ في دار الإسلام عالماً بأحكام الشرع في مثل هذا معتقداً النفع والضر من الولي يكفر فاعله، فتجري عليه أحكام الردة جميعها وإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ في غير دار الإسلام،أو في دار الإسلام نائياً عن أماكن المعرفة، فيكون هذا الفعل في حقه وسيلة من وسائل الكفر، فيجب تعليمه وتبيين الأدلة له وإقامة الحجة عليه فإن انتهى بعد ذلك منها وإلا فحكمه أن يكفر.(77/31)
فعلى كل يجب على ولاة الأمر الردع من مثل هذه الأمور والأخذ بيد من حديد، لكل من يقدم على هذا المنكر الفظيع ولو أدى ذلك إلى هدم القباب الموضوعة على القبور سداً للذرائع،هذا ما نعتقده في هذا الموضوع والله على ما نقول وكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم).
وقد كتب الفتوى أحد كبار علماء زبيد المعاصرين وهو الشيخ أسد بن حمزة بن عبدالقادر وصادق عليها جمع من علماء زبيد وغيرها، ومنهم: محمد بن محمد بن سليمان الأهدل، محمد بن علي البطاح الأهدل، أحمد بن عبدالقهار بن صالح، محمد بن عبد الجليل العزي، عبدالجليل بن علي خليل، محمد ابن عبدالله بازي، محمد بن عيدروس علوي، عبد المجيد بن عزيز الزنداني، عمر بن أحمد سيف، علي ابن محمد واصل، حامد بن مختار شرف، محمد بن أحمد كديش " عضو محكمة الحديدة التجارية "، محمد بن علي مكرم، حسين بن محمد عثمان الوصابي، أحمد بن عبدالله سعيد الضافري، عبدالله بن قاسم الوشلي، أحمد بن محمد عامر، وعلي بن محمد الوشلي، محمد بن محمد عزيز القديمي، وإبراهيم ابن حسين صائم الدهر، عبدالرحمن الوشلي، عبدالرحمن بن عبدالله الأهدل، هذة الأسماء التي تبيَّنْتُها وهناك أسماء لم أتبيّنها.(77/32)
وقد علق حاكم زبيد السابق – رحمه الله – عبدالله الأنباري على الفتوى فقال: (أنا أقرر ما قرره الأئمة السادة العلماء بمنع كل بدعة قبيحة تخالف منهج الشريعة المطهرة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فالضر والنفع بيدالله سبحانه وتعالى، والذبح لغير الله لايجوز، ومن ثبت تعاطيه لذلك فيمنع ويضبط حتى يتوب. وفق الله الجميع لخدمة كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بهدية وجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.)(1)
الفتوى الثانية:كما وزعت فتوى أخرى على شكل ملصق علق في المساجد وغيرها يحتوي على فتوى مقاربة للفتوى السابقة ملخصة من مجموع ما أفتى به العلماء، وإليك نص السؤال وملخص الجواب:
نص السؤال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فإن في بلادنا قبور رجال صالحين، مرفوعة ببناء فوق الأرض، فيها حفرة صغيرة، بداخلها تراب يتبرك به ويستشفى به، وتقام لهذه القبور زيارات سنوية موسمية في شهر رجب الحرام وغيره،، يذبح فيها الكباش لأصحاب القبور، ويجتمع عندها الرجال والنساء والباعة والألعاب، ويحتفل بهذه الزيارات كالاحتفال بيوم العيد، وتهان فيها القبور أيما إهانة.
فما هو قول السادة العلماء والأئمة الفضلاء في رفع القبور بالبناء؟ وما حكم هذه الزيارات؟ وهل هي الزيارات الشرعية التي حث عليها أبو القاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ أفتونا مأجورين. نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
وقد تفضل أصحاب الفضيلة العلماء بالإجابة على هذا الاستفتاء. ننشر هنا خلاصة إجاباتهم:
__________
(1) لدي صورة طبق الأصل من هذه الفتوى وقد وردت ضمن كتيب بعنوان" الفتاوى اليمنية في تحريم رفع القبور والزيارات البدعية والشركية "وهو من سلسلة باسم ( السلسلة الدعوية ) رقم (9) ويوزع مجاناً بدون تاريخ .(77/33)
أولاً: أوضح العلماء في فتاواهم على أنه لا أحد من الخلق لا ملك ولا نبي ولا ولي يضر أو ينفع، وأن الأموات لا ينفعون الأحياء ولا يغنون عنهم من الله شيئاً بل الأموات بحاجة إلى دعاء الأحياء لهم، والاستغفار لهم، وإذا كان سيد الأولين والآخرين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك ذلك غيره ممن هو دونه، وعليه فلا يجوز اعتقاد النفع والضر في أصحاب القبور مطلقاً،لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام.
ثانياً: أوضح العلماء أن شد الرحال إلى القبور بدعة محدثة منكرة وقد جاء الشرع بالنهي عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
ثالثاً: أكد العلماء على حرمة رفع القبور أكثر من شبر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب:((لاتدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) أخرجه مسلم.
رابعاً: أكد العلماء على حرمة البناء على القبور مطلقاً، وتجصيصها، والكتابة عليها، والقعود عليها، لحديث جابر بن عبدال له: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد على القبر،وأن يجصص أو يبنى عليه)) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيء)) أخرجه أبو داود وابن ماجه.(77/34)
خامساً: بيّن العلماء الفرق بين الزيارة الشرعية للقبور، التي تكون للعظة، والاعتبار، وتذكر الآخرة، والدعاء والاستغفار للميت. وبين الزيارات البدعية والشركية التي يتقرب فيها إلى أصحاب القبور، بالذبائح،والنذور، والاستغاثات، وما إلى ذلك من أمور الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام،وأن هذه الأمور لا تكون إلا لله - عز وجل -وحده لا شريك له، لقوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ولقوله تعالى: { فصل لربك وانحر } ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) أخرجه مسلم.
سادساً: أكد العلماء على أن وضع حفرة على القبر وجعل التراب فيها للتبرك والاستشفاء به من وسائل الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام.
سابعاً: أكد العلماء على تحريم، وخطورة ما يجري في هذه الزيارات، من الاختلاط بين الرجال، والنساء،وخروج الباعة، والطبول، ومايجره من الفتن، والفواحش والموبقات، علماً أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:((لعن زوَّرات القبور)) أخرجه أحمد والترمذي.
ثامناً: أوضح العلماء تحريم تخصيص شهر من السنة، لزيارات قبور الأولياء، خاصة في شهر رجب الحرام، وأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك، الذي لايغفره الله - عز وجل -- إن مات صاحبه عليه - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لا تجعلوا قبري عيداً)) أخرجه أبو داود.
وإليك أسماء بعض العلماء والمشايخ الذين أفتوا ووقعوا على هذه الفتوى.(77/35)
(1) محمد بن إسماعيل العمراني (2) مقبل بن هادي الوادعي (3) د. إبراهيم القريبي (4) د. عبدالوهاب الديلمي (5) محمد الصادق مغلس (6) عبد المجيد الزنداني (7) عبدالعزيز الدبعي (8) عبدالمحسن ثابت (9) عبدالمجيد الريمي (10) عقيل المقطري (11) محمد بن عبدالوهاب الوصابي (12) د. أحمد محمد زبيلة (13) أحمد حسن المعلم (14) إسماعيل العنسي (15) محمد المهدي (16) عبدالرحمن ابن عبدالله شميلة (17) حسين بن محفوظ (18) عمر أحمد سيف (19) عبدالقادر الشيباني (20) صالح الوادعي (21) طارق عبدالواسع (22) عبدالله الحاشدي (23) ناصر الكريمي (24) عيسى شريف (25) أحمد حسان (26) علي بارويس (27) علي بن فتيني (28) عبدالله الحميري (29) أحمد أهيف (30) أمين جعفر (31) عمّار ناشر (32) محمد الوادعي (33) عارف أنور (34) علي مقبول الأهدل (35) محمد سالم الزبيدي (36) محمد سعد الحطامي (37) حسن صغير الأهدل (38) مراد القدسي (39) إسماعيل عبد الباري (40) حسن الزومي (41) حاكم زبيد عبدالكريم النعماني (42) محمد المعمري (43) عبدالله فيصل الأهدل (44) عمر سقيم.
الفتوى الثالثة: نص السؤال: ما حكم الشرع في هذه النتيجة التي يصدرها هذا الرجل، والتي يذكر فيها ما سيحدث للأشخاص والبلدان، وكذلك مختلف الأحداث والتغيرات السياسية والاقتصادية والكوارث وغير ذلك، معتمداً كما يقول على علم الجفر والنجوم وغيرها؟ وهل يجوز إصدارها أو بيعها وشراؤها؟
وقد تفضل أصحاب الفضيلة بالإجابة عن التساؤل، ننشر هنا خلاصة تلك الإجابات، آملين أن نتمكن مستقبلاً من نشر إجابات العلماء مفصلة.. والله الموفق.
ركز العلماء على أن عمل هذا الرجل هو ادعاء لعلم الغيب، وأن من أصول العقيدة الإسلامية المقررة عند أهل الملة أن الله استأثر بعلم الغيب فلا يعلمه أحد سواه، وأدلة ذلك جدّ كثيرة، ومنها:(77/36)
1- قوله تعالى: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } "النمل 65"
2- وقوله تعالى: { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } "آل عمران179"
3- وقوله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. } "الأنعام 59 ".
4- وقوله تعالى: { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله } " يونس 20 ".
5- وقوله تعالى: { ولله غيب السموات والأرض } " النحل 77 ".
6- وقوله تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً } "الجن 26 ".
وعلى هذا فعلم الغيب محجوب عن جميع الخلق، بما في ذلك الملائكة والنبيين، قال الله تعالى حكاية عن الملائكة: { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } " البقرة 32 ". وقال الله حكاية عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } "الأعراف 188 ". وقال الله آمراً نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } " الأنعام 50 "، وقال الله: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } " الجن 26 ". وقال الله عن الجن: { فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } "سبأ 14 "، ويقول تعالى: { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } "لقمان34".
فالله قد حجب علم الغيب عن أكرم خلقه وهم الأنبياء والملائكة إلا ما أعلمه الله لهم، أبعد هذا يأتي هذا ويدعي معرفة الغيب؟!. إن من ادعى علم الغيب قد نازع الله، وكذب القرآن، وفارق هذه الملة.(77/37)
ركز العلماء في إجابتهم على أن هذا العمل من الكهانة التي جاء الإسلام بتحريمها؛ إذ أن الكاهن هو الذي يدعي معرفة علم الغيب، وما سيقع من أحداث مستقبلية، وأن صاحب هذا العمل كاهن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس منا من تطيّر أو تُطيِّر له أو تكهَّن أو تُكهِّن له)) رواه البزار والطبراني.
وأن من أتى كاهناً، فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يوماً، كما جاء في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما إن سأله وصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه،وصححه الألباني في الإرواء "2006"،هذا في السائل فما بالك بالمسؤول.
-علم النجوم الذي يدّعي صاحب هذه النتيجة الاعتماد عليه في معرفة علم الغيب - يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)). رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد،وصححه الألباني في السلسلة " 793 ".
وقد جاء في البخاري عن قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة السماء، وعلامات يهتدى بها، ورجوم للشياطين، فمن تأوّل فيها غير ذلك، أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.
وقال الإمام الخطابي في معالم السنن: (علم النجوم المنهي عنه هو: ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وهذا منهم تحكّم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، فلا يعلم الغيب سواه).
- وأما علم الجفر (وأنه العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر والذي يحتوي على ما كان ويكون وأن الرسول خَصّ به علياً وذريته من بعده)، فأمر وهمي لا حقيقة له. وأدلة ذلك كثيرة ويكفي منها:(77/38)
ما جاء عند البخاري من سؤال أبي جحيفة لعلي -- رضي الله عنه - -: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن أو ليس عند الناس؟. فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهماً يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر. وما جاء عند مسلم برقم" 1987 " عن علي قوله: (ما خصنا رسول الله بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا) وأخرج صحيفة مكتوب فيها: ((لعن الله من ذبح لغير الله...)).
فعلم الجفر باطل، وما بني على باطل فهو باطل.
وبناءً على ما سبق؛ فقد أكد العلماء على أنه لا يجوز التصريح بإصدارها، كما أنه لا يجوز طبعها،ولا بيعها، ولا شراؤها، ولا تداولها. وأنه يجب على الجهات المختصة مصادرتها والأخذ على يد صاحبها ومحاكمته، وأنه يجب عليه التوبة إلى الله والابتعاد عن هذه الضلالات، وأنه يجب إسداء النصيحة لكل من يقتنيها أو يطلع عليها، وتبيين مخاطر ذلك على العقيدة والتوحيد لعموم المسلمين. تلك هي بعض أهم النقاط التي ركز عليها العلماء سارعنا في إخراجها؛ إقامة للحجة؛ وتوضيحاً للحق؛ ونصحاً للخلق.
أما العلماء الذين تكرّموا بالإجابة على هذا التساؤل فهم:(77/39)
محمد بن إسماعيل العمراني، عمر أحمد سيف، عبد المجيد الريمي، محمد الصادق، حسين عمر محفوظ، محمد المؤيد، حسن حيدر الوصابي، على العديني، مراد القدسي، أحمد حسان، عارف أنور عمار بن ناشر، عبدالله بن أحمد المرفدي، أحند مقبل بن نصر، عبد الرحمن قحطان، عقيل المقطري، عبد الله سيف، عبد الله سنان، طارق عبد الواسع، عبد الملك داود، عبد القادر الشيباني، فاضل محمد عبدالله، يحيى الجهراني، د0 حسن الأهدل، أمين عبدالله جعفر، د0 عبد الله الأهدل، محمد سعيد الحطامي، عمر علي سقيم، حسن صغير الأهدل، عبد الرحمن عبد الله الأهدل، أحمد حسن المعلم، عبده عبدالله الحميدي، حميد عقيل، محمد المهدي، القاضي علي البعداني، محمد بن علي الرحبي، عبد الله بن غالب الحميري، عبد الرحيم الشرعبي، عبد الله عبده الإِبي، يحيى السوسوة.
كما تم الاعتماد على فتوى حول الموضوع لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومعه لجنة الافتاء الدائمة المكونة من كل من:، عبد العزيز آل الشيخ، صالح الفوزان، بكر أبو زيد، عبد الله الغديان.
الفتوى الرابعة:السؤال: ما حكم شد الرحال إلى الجند من قبل الرجال والنساء؟ وما صحة ما ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؟
- ما حكم الموالد التي تقام داخل المسجد ليلة ذلك اليوم؟ وما حكم ما يفعله المجاذيب من طعن الرؤوس؟
- ما حكم اختلاط الرجال بالنساء داخل المسجد؟
- ما صحة ما يشاع من أن الذهاب هو حج الفقراء؟
وقد تفضل أصحاب الفضيلة العلماء بالإجابة على تلك الأسئلة. ننشر هنا خلاصة إجاباتهم، آملين أن نتمكن من نشرها كاملة ومفصلة.
أولاً: أكد أصحاب الفضيلة على شد الرحال إلى الجند بقصد التقرب والتعبد بدعة محدثة منكرة. وقد جاء الشرع بالنهي عن الابتداع. فالنص النبوي يقول: ((وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ويقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وفي رواية: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).(77/40)
هذا وقد جاء نص نبوي آخر له صلة بحرمة شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))، وأما ما يردده بعض الجهال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إلى أربعة مساجد)) بإضافة مسجد الجند، فكذِب على النبي - صلى الله عليه وسلم - والرسول يقول: ((ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار)).
ولا يخفى على أحد خطورة الابتداع في الدين، ويكفي في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدعها)) حسنه الألباني.
ومما يزيد النكارة،ويشدد الحرمة ممارسة منكرات أخرى في ليلة ذلك اليوم في ذلك المكان، ومنها: (السحر الذي يفعله المجاذيب، وامتهان المسجد باختلاط الرجال والنساء – وهو منكر في حد ذاته – ومضغ القات وغير ذلك..
ثانياً: أكد العلماء على أن تخصيص أول جمعة من رجب، هو بدعة أخرى لا دليل عليها، وكذلك اتخاذ ذلك المكان بعينه في ذلك الوقت ومن باب اتخاذه عيداً، مع العلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن اتخاذ قبره عيداً، فهذا المكان من باب أولى.(77/41)
ثالثاً: أكد العلماء على أهمية محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أنها من الأمور الواجبة على كل مسلم، بل لا يتم إيمان المرء حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، كما أكدوا على أهمية تدارس سيرته وتعلمها وتعليمها، وليس من ذلك إقامة الموالد، سواء في تلك المناسبة أو في غيرها، بل الموالد أمر محدث لم ينص عليه كتاب ولا سنه، ولم يفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد صحابته الكرام، ولا في عهد التابعين، ولا في عهد الأئمة الأربعة، وهم أكمل الناس حباً لرسول الله، وأكثرهم تعظيماً له وقد كمّل الله دينه، وأخبر عن ذلك بقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } وليست هذه الموالد من الدين الذي أكمله الله، بل تدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
رابعاً: أكد العلماء على أن ما يحصل ممن يُسمَّون بالمجاذيب هو نوع من السحر المعلوم حُرْمته، ومعلوم ما جاء في صحيح البخاري أن عمر كتب إلى ولاته: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة) وقوله تعالى: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } الآية وقوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } الآية.
خامساً: أكد أصحاب الفضيلة على حرمة الاختلاط في ذلك المكان وفي غيره، وعلى النكارة الشديدة لشد الرحال من قبل النساء إلى ذلك المكان، فإذا كانت المرأة لا ينبغي لها أن تخرج من بيتها للصلاة جماعة؛ إذا ترتب على خرجوها فتنة، فهذا من باب أولى.
والاختلاط أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات وسبب في كثرة الفواحش.
سادساً: أشار العلماء إلى أنه لم يثبت في فضل رجب أو في فضل العمل فيه رجب شيءٌ، وأنه كغيره من الشهور. غير أنه فقط من الأشهر الحرم، وقد ألف الحافظ ابن حجر رسالة في ذلك..(77/42)
سابعاً: ذكر بعض الباحثين ممن أجاب على السؤال: أن مسألة بناء معاذ لمسجد في الجند بحاجة إلى مزيد من البحث والتحري وحتى لو ثبت ذلك فليس في ذلك أدنى دليل على ما يفعل من شد الرحال إلى هناك، فالصحابة بنوا العديد من المساجد في الشام والعراق ومصر وغيرها، ولم يكن ذلك البناء مدعاة إلى شد الرحال إليها.
ثامناً: أكد العلماء على أهمية دور العلماء والمرشدين في إنكار مثل هذه البدع؛ قياماً بواجب النصيحة ((الدين النصيحة))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه...))
وأكدوا على أهمية دور أصحاب السلطات في ردع المنتفعين من ذلك؛ لما يقومون به من التغرير بالعامة والتلبيس عليهم، وأكدوا - أيضاً – على أهمية تظافر الجهود في إزالة هذا المحدث وغيره من المحدثات.
تاسعاً: أكد العلماء على أن القول بأن الذهاب إلى هناك يعدل حجة هو من الكذب على الله، ومعلوم قوله تعالى: { لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاعٌ قليل ولهم عذاب اليم } .
عبد الله سيف الحيدري، أحمد حسن المعلم، عقيل بن محمد المقطري، عبد الله بن غالب الحميري، محمد بن محمد المهدي، عبده عبد الله الحميدي، علي بن علي البعداني، عبد الرحيم الشرعبي، محمد بن علي الرحبي، علي بن يحيى شمسان، حميد قاسم عقيل، عبد الملك داود عبد الصمد، عبد القادر الشيباني، يحيى بن محسن الجهراني، فاضل محمد عبدالله، عبد العزيز الدبعي، سعيد بن سعيد حزام، أحمد مقبل(77/43)
ابن نصر، عبد الله سنان، د0 حسن شبالة، عبد الله بن فيصل الأهدل، عبد المجيد الريمي، عبد الرحمن سعيد البريهي، عبد الله بن سعيد الحاشدي، كمال بن عبيد القادر بامخرمة، محمد الصادق مغلس ن عبدالله علي صعتر، عبد المجيد الزنداني ن عبد الوهاب لطف الديلمي، صالح الضبياني، علي ابن عبد الله العديني، حسن بن محمد حيدر الوصابي، مراد بن أحمد القدسي، مهيوب بن حسين المعولي، د0 علي مقبول الأهدل، عبد الله عبده الإبي،القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني، محمد عبد الرحمن غنيم، د0 صالح صواب، حسين عمر محفوظ ن محمد بم على الوادعي، صالح ابن علي الوادعي، أحمد حسان، محمد بن علي المؤيد، طارق بن عبد الواسع، عبد العزيز البرعي.
الفتوى الخامسة: فتوى بمنع ما يسمى " زف الختاميات " التي يقيمها القبورية في بعض مدن حضرموت كالمكلا والشحر وغيرها، والزف هو السير الجماعي من المسجد الذي يقام فيه الحفل " حفل ختم القرآن" إلى قبر ومشهد معين, ويصحب ذلك السماع الصوفي بالدفوف والطبول وأنواع من الملاهي ويحتشد لحضوره جمع كبير من الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً, ويحصل فيه مفاسد كبيرة، يقول أخونا الشيخ أحمد برعود في كتابه " الأضواء المضيئة على بعض العادات الحضرمية " وهو يتكلم عن تلك العادة " البدعة " بدعة الختاميات:(ولقد أمليت على هذه الفتوى وكتبتها بيدي ووقع عليها المشايخ المذكورون في نفس الجلسة عدا السيد عباس حامد الحداد لم يكن حاضراً، كما زكى الفتوى السيد عبدالله بن محفوظ الحداد. فإليك أخي القارىء نص الفتوى:(77/44)
" بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين وبعد: فقد اتفق طلبة العلم بمدينة الشحر على أن تمنع زفوف الختاميات بعد نهاية الصلاة والقرآن لما يترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات التي لاتتفق مع الشرع الشريف، فعليه نطلب من حكومتنا الموقرة أن تمنع وأن تلاحظ من يخالف هذا الأمر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))، كما نطلب من السيد الفاضل عبدالله بن محفوظ الحداد في هذا الموضوع أن يصدر فتوى لمنع الزفوف منعاً لما يحصل بسببها من المنكرات والمفاسد، وبعد هذه الفتوى ينبغي ويلزم كل مسلم أن يمنع أهله من الحضور لمثل هذه المجموعات التي تحصل فيها المنكرات حصولاً ظاهراً, ومع العلم أنه ليس هناك ختم حقيقي للقرآن الكريم كما كان السلف يقرأون من أوله في الصلاة ثم يختمونه في إحدى اليالي ويدعون اللعه بعد الختم ويحضره الناس في المسجد ثم يتفرقون إلى بيوتهم هذا وبالله التوفيق.
وكذلك نعلم حكومتنا الموقرة أن هذه الليالي من رمضان يجتمعن كثير من النساء في الأسواق لشراء حوائجهن، فيجتمع بسببهن كثير من السباب فيحتكون بالنساء احتكاكاً متعمداً يأباه الشرع الحكيم وأهل النفوس الزكية، فالمطلوب من حكومتنا الموقرة أن تقوم بملاحظة هؤلاء الناس، ودفعهم عن النساء وهم المسؤولون بين يدي الله سبحانه وتعالى. والله الموفق
21/ رمضان 1411هـ
التوقيع:
" الشيخ عبد الكريم عبدالقادر الملاحي، الشيخ سالم خميس حبليل، الشيخ السيد عباس حامد الحداد ".
الحمد لله وأنا بدوري أزكي ما قاله مشايخ الشحر وعلماؤها وأضم صوتي إلى صوتهم لتقوم الحكومة بمنع هذه المنكرات المحدثه.
التوقيع:(77/45)
عبد الله بن محفوظ الحداد)(1).
بيان بشأن أحداث تسوية القبور بعدن بعد انتهاء حرب الانفصال سنة (1415هـ/1994م)
وقد صدرت ردود فعل كثيرة تجاه تلك الحوادث معظمها كانت في معرض النقد والاستهجان لذلك العمل منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي إسلامي أو غير إسلامي كما صدرت عدة بيانات تعبر عن مواقف أصحابها منه ومعظمها إما رسمي يراعي سياسة الدولة التي كانت في موقف محرج أمام الجهة الإعلامية التي جوبه بها الحدث أو كانت منطلقة من منطلق حزبي تعبر عن الموقف الرسمي للحزب فلذا لم يبرز فيها الحكم الشرعي كما هو عند علماء الشرع السالمين من تلك الضغوط والحسابات الأخرى وما رأيت في تلك البيانات والكلمات والمواقف ما يمثل الحكم الشرعي الصريح الا هذا البيان الذي وقعه مجموعة من خيرة من علماء اليمن ونشرته مجلة المنتدى التي كانت تصدر تلك الفترة من صنعاء في عددها.
وهذا نص البيان وأسماء الموقعين عليه: (الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين محمد ابن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فقد تابع العلماء الموقعون على هذا البيان الأحداث الأخيرة في عدن:
الأول منها نتج عنه تسوية القباب والقبور التي تعلق بها عوام الناس من قديم حتى أضفوا عليها من القداسة والتعظيم إلى درجة عبادتها من دون الله تعالى متمثلة في دعائها لكشف الضر وتفريج الكرب والذبح والنذر لها.
والحدث الثاني وهوحدث لا صلة له بالأول ألا وهو اشتباك مسلح بين رجال الأمن وبعض الشباب وذلك حول مقر ما يسمى بمليشيا الحزب الاشتراكي وسببه خلاف في ملكية المنزل.
__________
(1) ? الأضواء البهية على بعض العادات الحضرمية تأليف أحمد بن علي برعود ص ( 37 ).، الطبعة الأولى: ( 1421 – 2001 ) .(77/46)
كما تابع العلماء البيانات السياسية والمقالات الصحفية ورأوا أن الحقيقة الشرعية ضاعت بين دهاء سياسي وسبق صحفي، وكلا الأمرين لم ينطلقا من ضوابط شرعية وثوابت عقدية في ديننا الإسلامي.
لهذا رأى الموقعون على هذا البيان أن يبينوا الحكم الشرعي في هذه القضية حتى لا يشملهم قوله تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } ، كما أن هذا البيان ينطلق من قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم من حديث أبي سعيد (1) الخدري ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا لمن يارسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
الشرك وخطره:
من المعلوم من الدين بالضرورة ومن قطعيات الشريعة ويقينياتها خطورة الشرك وأنه مخرج من ملة الإسلام وموجب لصاحبه عدم المغفرة وحبوط العمل؛ قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وقال تعالى: { أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } ، وقال تعالى: { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } .
وإن أصل دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام قام على محاربة الشرك وتأسيس التوحيد، قالى تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ، وإن من وسائل الشرك التي ابتليت بها الأمة تعظيم الصالحين ونصب القباب لهم فكانت نتيجة ذلك الغلو أن دعوهم من دون الله بحجة أنهم أولياء صالحون، وهذا من تزيين الشيطان وإضلاله، لأن الغلو في التعظيم يجر إلى العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.
نعم الواجب توقير أولياء الله ومحبتهم وإثبات الكرامات لهم؛ ولكن لا يجوز دعاؤهم والاستعانة بهم والذبح والنذر لهم كما يفعله الخرافيون.
__________
(1) االصحيح أن لحديث من رواية أبي رقية تميم بن أوس الداري(77/47)
والزيارة الشرعية لأموات المسلمين سنة لأنها تذكرهم بالآخرة، أما الزيارات المبتدعة التي تكون موسمية ويجتمع لها الرجال والنساء ولاعبو القمار ويحدثون حول تلك القبور من المفاسد البدعية والشركية والسلوكية ما لا يرضى بها عاقل، بل هي من المنكرات والصور التي شوهت جمال الإسلام وصفاءه، ويجب على العلماء إنكارها والبراءة منها.
وقد أنكر العلماء قديماً وحديثاً هذه الظواهر، وهذه أقوالهم:
قال ابن حجر الهيتمي المكي:
(وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه نهى عن ذلك وأمر - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قندل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره) اهـ.- الزواجر عن اقتراف الكبائر " 1/149".
الإمام الشوكاني:
وقال في الدر النضيد ص 22:(وروي لنا أن بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب " ذي بين " رحمه الله فرآها وهي مسرجة بالشمع والبخور ينفح في جوانبها وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى الباب: " أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين".
قال الإمام الصنعاني في " تطهير الاعتقاد ":
(وكذلك تسمية القبر مشهداً ومن يعتقدون فيه ولياً لا تخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: " على الله وعليك " ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها.
فأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي يابن العجيل، وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يابن علوان).
4-فتوى دار الإفتاء المصرية:(77/48)
هذا وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ "2/7/1928م"، ونصها:(اعلم أنه يحرم رفع البناء على القبر ولو للزينة ويكره للإحكام بعد الدفن بل تكره الزيادة العظيمة من التراب على القبر لإنه بمنزلة البناء وهو منهي عنه لما في صحيح مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يبنى عليه.انتهى من الدر المختار وحاشية رد المحتار.
وحين نقول يجب إنكار الشرك ومظاهره فلا يعني ذلك إعطاء الفرصة للذين يصطادون في الماء العكر ولكن لا بد من الحكمة في ذلك واتخاذ الوسائل الناجحة في استئصال كل المظاهر التي تسيء إلى ديننا وأمتنا ومراعاة المصالح والمفاسد وهدم كل مظاهر الشرك من النفوس والقلوب أولاً بواسطة نشر الوعي بين المسلمين بالوسائل المشروعة حتى يتيسر هدمها في الواقع، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوكل إلى خالد ابن الوليد بعد أن استقر في قلبه هدم العزى، حتى قال خالد - رضي الله عنه -:
ياعزُ كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك
ولقد حرص الحزب الاشتراكي على دعم الخرافيين الذين تحالفوا معه وأيدوه في قرار الإنفصال وذلك سعياً منهم في طعن الإسلام وتدميره باسم الإسلام.
وإنه من ما ينبغي التنبيه عليه ان الحامل لبعض الشباب المسلم على تسوية القبور التي قدست من دون الله هو ما قدمنا من مسلمات الدين وضرورياته، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،أنه قال:((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) - متفق عليه -.
وروى مسلم في صحيحه أن علياً - رضي الله عنه - قال لأبي الهياج الأسدي: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته..)).(77/49)
إلا أن بعض الساعين إلى الفتنة والحاقدين على وحدة الأمة استغل الحدث أبشع استغلال بغية ضرب المسلمين بعضهم ببعض وشق صفهم ولبس الحق بالباطل، وتشويه الحقائق حتى صيروا المنكر معروفاً والمعروف منكراً.
وأدخلت قضيتان في بعضهما مع أن كلاً منهما منفصلة عن الأخرى، فقضية تسوية القبور كانت يوم الجمعة 27 ربيع الأول 1415هـ وما قبلها من أيام ومرت بسلام.
وقضية الصراع حول مركز المليشيا كانت يوم السبت 28 ربيع الأول 1415هـ وهي القضية المؤسفة جداً التي أدت إلى سفك دماء الأبرياء سواء من الأمن أو الشباب، فسفك الدماء بهذه الطريقة يدل على عدم مسؤولية وتصرف أرعن يجب التحقيق المنصف لمعرفة المتسبب لهذه الحادثة، وحتى لا يكون بداية سيئة وخطرة يستغلها أعداء شعبنا لتفجير صراعات داخلية واستغلالها سياسياً في الخارج وتلك هي أمنية الانفصاليين.
وعلى ضوء ما تقدم نوصي بالتالي:
على ولاة الأمر والعلماء القيام بواجبهم الشرعي في محاربة الشرك ومظاهره واتخاذ الوسائل الشرعية لذك وتكوين هيئة للأمر بالمعروف والنهي لتتولى محاربة جميع ظواهر الفساد، وهذا يسد أبواب الفوضى والاضطراب.
اتحاد كلمة العلماء وخصوصاً في مثل هذه المواقف الخطرة وأن يصدروا عن مواقف مشتركة ومنسقة تخدم دين الله - عز وجل -.
على الشباب الرجوع إلى العلماء والالتفاف حولهم وأن لا يقدموا على عمل دون الرجوع إلى العلماء ومعرفة توجيهاتهم والحكم الشرعي في ذلك، مع العلم أن ما حصل في عدن لم يكن بمشاورة العلماء مما أدى إلى هذه النتيجة غير المرضية.
أن يتم تغيير المنكرات بالحكمة ومراعاة الواقع وقاعدة المصالح والمفاسد.
أن يحذر المسلمون الفرقة والتنازع لأن هذا مما يضعفهم ويقر عيون أعداء الإسلام.
تشكيل لجنة من العلماء والالتقاء بالشباب لمعرفة ملابسات الحادث والعمل على إطلاق سراحهم.
أن يقوم ولاة الأمر برعاية مصالح الأمة وشبابها وصيانة دينها فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.(77/50)
يجب عدم إعادة الأضرحة وتشييدها وخاصة بعد معرفة الحكم الشرعي في ذلك ويجب إنفاق الأموال المرصودة لذلك للمتضررين من الحرب وخاصة في المحافظات الجنوبية.
والله من وراء القصد
صادر عن مجموعة من علماء اليمن بتاريخ 11 ربيع الآخر 1415هـ
العلماء الموقعون على البيان هم:
عقيل المقطري، عمار بن ناشر، طارق عبد الواسع، عبد العزيز الدبعي، عبد القادر الشيباني، أحمد علي معوضة، علي محمد بارويس، عارف أنور، أحمد الشيباني، عبد الكريم الضراسي، زيد بن ثابت، عبد الله سنان، مجاهد الوصابي، علي صالح عنان محمد، عبد المجيد الريمي، محمد عبد الله الإمام، يحيى الجهراني، د. عبد الوهاب الديلمي، حمود علي ناصر السعيدي، علي العديني، عبد الله الحاشدي، مراد القدسي، يحيى علي محمد جغمان، صالح الوادعي، محمد الوادعي، أحمد مقبل، خالد أحمد سعيد.
المبحث الرابع
الجهود العملية لمواجهة القبورية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول:أثر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على القبورية:
التعريف:
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة تجديدية، هدفها إعادة الأمة إلى ماكان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، وذلك بالدعوة إلىالتوحيد الخالص، وتنقية عقائد الأمة مما داخلها من عقائد ومفاهيم منحرفة،أدت إلى الشرك بالله تعالى، ودعوة للاتباع الكامل للنبي - صلى الله عليه وسلم -،وتنقية عبادات الأمة مما ألصق بها من البدع والمحدثات، والمجاهدة؛لإقامة الشرع في حياة الأمة وإزالة ما يخالفه.هذا ملخص ما يمكن أن تُعرَّف به دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى.
نشأتها:(77/51)
نشأت الدعوة السلفية التي جددها الشيخ محمد بن عبدالوهاب "دعوة الإسلام الأولى" في ذهنه، بعد أن بدأ في طلب العلم،وبدأ يقارن بين ما يتعلمه من مبادئ الشرع وأحكامه وما يرى عليه الناس، ثم بدأ فعلاً عندما عاد من رحلاته إلى بلده، ولكن الدعوة راوحت مكانها بل كاد أن يُقضى عليها بالقضاء على الشيخ نفسه،حينما عزم أمير العيينة على تصفيته جسدياً (1)، فهاجر من العيينة إلى الدرعية وفيها نشأت الدعوة النشأة الأخيرة العملية، ومنها انطلقت حينما وجد الشيخ المناصرة الكاملة من قبل أميرها محمد ابن سعود -رحمه الله -وذلك سنة (1157 هـ).
وبعد أن تقبلت الدرعية وأهلها دعوة الشيخ وآمنت بها، وصَدَقتْ في ولائها، انطلق دعاتها حاملين مبادئها إلى ما حولها من ديار نجد،ثم إلى الإحساء والمناطق الشرقية،وإلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة العربية، وكان بعض ذلك في حياة الشيخ والإمام محمد بن سعود وبعضه بعدموتهما في أيام عبد العزيز ابن محمد بن سعود على يد ابنه سعود، وكان من فضل الله على عباده أنه في زمن قصير تحقق للدعوة نجاح كبير،وطُهِّرت نجد وما حولها من البدع والشركيات ووسائلها،ثم أخذ أئمة الدعوة من أبناء وأحفاد الإمامين يسيرون في الأرض دعاة مجاهدين، فمن أجاب قبلوا منه،ومن أبى قاتلوه.
المآخذ على الدعوة النجدية:
وعندما تكاثر الأتباع والأنصار حدث من بعضهم حوادث غير مرضية، وقضايا على خلاف مقتضى الشرع.
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد ص( 11 ) تأليف عثمان بن بشر – طبع مكتبة الرياض الحديثة – بدون تاريخ.(77/52)
وهذا طبيعي فليس كل الجند بل ولا كل القادة هم من العلماء العاملين والدعاة المخلصين، وإنما هناك من يركب الموجة، وهناك من يطمع في الغنيمة،وهناك أصناف من الناس مختلفو المقاصد وجرائرهم كلها تلقى على كاهل الشيخ ودعوته، ولقد صار لتلك الدعوة صدىً واسع، وانتشر لجيوشها رعب كبير بين الناس،وخاف كل ذي سلطة على سلطته من أمراء وأشراف وشيوخ طرق،كلهم رأوا أن الدعوة تهددهم، فبدأت الحرب بشتى وسائلها،الحرب العسكرية والحرب الدعائية، وغيرها من أنواع الحروب، وكان الذي تولى كبر ذلك الدولة العثمانية بإسطنبول،وذلك لأمرين أساسيين:
الأمر الأول: السياسة، إذ خشيت على أجزاء كبيرة من أطراف مملكتها، ومن أهم تلك الأطراف الحجاز بما فيه مكة والمدينة،أن تخرج عن سيطرتها.
الأمر الآخر: إن الصوفية الاتحادية،كانت هي المسيطرة على الخلفاء،وهم أعدى أعداء هذه الدعوة للاختلاف العقدي بينهما.(77/53)
فمن هناك طارت الدعايات، وانتشرت الشائعات ضد دعوة الشيخ -رحمه الله تعالى- وكانت كما وصفها الشيخ الإمام ابن الأمير (وأتتنا فيها جوابات من مكة المشرفة ومن البصرة وغيرهما، إلا أنها جوابات خالية عن الإنصاف(1)واستغل خصومها بعض الهفوات التي يقع فيها بعض المحسوبين على الدعوة فضخموها، وزادوا فيها، واتخذوها أدلة على ضلال الدعوة وانحرافها، ولكن ذلك كله مازاد الدعوة التجديدية هذه إلا رسوخاً وانتشاراً وقبولاً في الأرض؛ خصوصاً بعد أن دخلت الحجاز، وحكمت الحرمين، والتقى دعاتها بالحجاج من كل مكان مباشرة، فعرف الناس الحقيقة، وتبين لهم زيف الدعايات التي كانوا يسمعونها، فحملوا هذه الدعوة إلى بلادهم، ونشروها بين أهليهم وإخوانهم، وهاهي الدعوة " الوهابية " كما سميت وشاع ذلك عنها، هاهي لا يخلو بلد من بلدان المسلمين من حاملين لها فيه، وكم من علماء وجمعيات وهيئات علمية ودعوية تسير على الخط السلفي الذي جدده الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى- في مشارق الأرض ومغاربها،رغم أن الدولة العثمانية وبواسطة واليها على مصر محمد علي باشا قد حاولوا القضاء عليها، وتمكنوا من القضاء على الدولة والقوة العسكرية والكيان السياسي، ولكنهم لم يتمكنوا من القضاء على ما أشربته قلوب الناس من الحق، فما خرج الجنود الغزاة من نجد حتى عادت الدعوة والقوة والدولة بشكل قوي، ربما أقوى من ذي قبل، وهاهي قائمة إلى اليوم في أوسع مداها وأقصى انتشارها.
علاقة الدعوة النجدية باليمن:
__________
(1) الديوان ص( 172 ) .(77/54)
من الطبيعي أن الداعية الموقن بصحة ما يدعو إليه المخلص لمبادئه محب الخير لأمته، لا تقف همته عند حد، ولا يكتفي في نشر دعوته ببلد دون بلد؛ لذا فإنه قد كان اليمن كل اليمن مستهدفاً للدعوة مُعرّضاً لدعاتها وجيوشها، ولقد شقت جيوشها الطريق إلى اليمن من جهتين، من الغرب عبر الحجاز وجبال السراة حتى وصلت إلى مناطق عسير جبالها وتهائمها، فكانت القاعدة لها بعد أن انضم أهلها إليها، وفتنوا بمبادئها، ودخل بعض أشرافها وأمرائها مع النجديين، وآزروهم على نشر الدعوة حتى وصلوا إلى الحديدة، بل إلى زبيد وحيس وما حولها (1).
__________
(1) البدر الطالع – ترجمة الشريف حمود بن محمد صاحب أبي عريش ( 1/ 240-241 ) .(77/55)
وحينما بلغت الدعوة النجدية تلك المكانة من الاستيلاء على البلاد ودخول القبائل معها والقبول بما تدعو إليه، تجاوبت القبائل اليمنية لذلك، وشعرت بضعف دولة صنعاء في عهد الإمام " المنصور " أحد الأئمة الذين عاصرهم الإمام الشوكاني، وتقدمت تلك القبائل حتى حاصرت صنعاء بعد عام (1216هـ)(1)، وكانت الرسل في أثناء ذلك ترد إلى صنعاء من الدرعية بالدعوة إلى التوحيد وهدم القباب والمشاهد، وحينما أحس الإمام المتوكل بالضغط الشديد شاور من بحضرته في هدم تلك القباب والمشاهد، فقالوا له: إن كان هذا الهدم لوجه الله وتنفيذاً للشريعة فنعمَّا هو، وإن كان إنما هو مجاملة لأصحاب نجد فلا فائدة (2)، قال الشوكاني: (ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها وفي جهة ذمار وما يتصل بها) (3)،كما أنني لا أشك أنهم عندما مروا بمدن وقرى تهامه قد أزالوا ما فيها من مشاهد وقباب وسووا ما فيها من قبور مشرفة؛ لأن هذه هي عادتهم في كل مكان يستولون عليه، وإن لم أظفر بذلك في مرجع خاص، والفرقة الأخرى من جهة الصحراء حتى وصلت حضرموت.
وصول الدعوة النجدية إلى حضرموت:
__________
(1) فرجة الهموم والحزن للواسعي ص( 234 ) و الشوكاني حياته وفكره ص( 55 ) .
(2) حوليات يمانية ص( 22-23 ) .
(3) البدر الطالع (1/262-263 ) .(77/56)
وصلت الدعوة النجدية إلى حضرموت رسمياً بوصول الجيش النجدي الذي يقوده ناجي بن قملا وكان ذلك في سنة (1224هـ)، فاستولوا على الكسور، وفيها حورة وهينن وحواليهما،وصَالَحَ ابن قملا القبائل اليافعية والنهدية والشنفرية، وهدم غالب رؤوس القباب المبنية على القبور من دوعن غرباً إلى قبر هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام شرقاً (1)، ولم يكن التأثير مقتصراً على هدم القباب فقط، بل وصل إلى إقناع القبائل وجماعات من أبناء حضرموت بهذه الدعوة وحملهم لها ورفضهم للخرافات والعقائد القبورية التي كانت سائدة في البلاد، ومن تلك القبائل قبيلة " آل علي جابر " ببلد خشامر وما حولها في منطقة العقّاد بين القطن وشبام، وحتى بعض رجال السادة العلويين تابعوهم على ذلك، كما ذكر ابن عبيدالله في "إدام القوت" عند كلامه على الحوطه "حوطة أحمد ابن زين" (2)وبشكل أوسع في منطقة " المحيضرة " إحدى ضواحي تريم وهو يتكلم، عن السلطان عبدالله عوض غرامة، فقد قال: (وكان ينكر بطبعه غلو القبوريين، فوافقته آراء الوهابية، وأكثر التعلق بوحيد عصره وفريد دهره مقدم الجماعة، وشيخ الصناعة والذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم،العلامة الجليل السيد أبي بكر بن عبدالله الهندوان،المتوفى بتريم سنة (1248هـ)،وقد اتهمه العلويون بأنه هو الذي يعلم عبدالله عوض غرامة آراء الوهابية، ويحثه على الالتزام بها، ومؤاخذة الناس بمقتضاها، فتآمروا على قتاله، فهرب إلى بيت جبير،ولم يقدر عبدالله غرامة على حمايته بتريم؛ لأن غرامة لا يملكها كلها، وفي أيامه كان وصول الوهابية إلى تريم سنة (1224 هـ)،بقيادة
__________
(1) تاريخ حضرموت المسمى بـ ( العدة المفيدة ) ( 1/321 ) للشيخ العلامة سالم بن محمد بن سالم بن حميد الكندي . تحقيق عبدالله محمد الحبشي . مكتبة الإرشاد . صنعاء ( الطبعة الأولى ، 1411 هـ - 1991 م ) ، وتاج الأعراس ( 1/ 174 ) .
(2) انظر إدام القوت لابن عبيدالله ص(227 ) .(77/57)
الأمير علي (1) بن قملا، فطوى بهم حضرموت، ولم يفسد حرثاً،ولا أهلك نسلاً، وإنما هدم القباب،وسوى القبور المشرفة،وألقى القبض على المناصب، وأهانهم،وأتلف قليلاً من الكتب،كثره بعض العلويين، كصاحبنا الفاضل السيد علوي بن سهل، بدون مبرر من الدليل، وأقاموا بتريم نحو أربعين يوماً، وعاهده عبدالله عوض غرامة، وعبدالله بن أحمد بن يماني على أن يكف الأذى عن بلادهما، على شرط أن يقوما بنشر دعوته، التي لاقت هوى من نفوسهم وقبولاً من خواطرهم) (2).
__________
(1) كذا قال والصواب ناجي بن قملا .
(2) إدام القوت الحلقة (40 ) في مجلة العري التي تصدر في الرياض .(77/58)
إذاً فهذا إمام كبير وعلامة شهير من سادة تريم،كان يوافق أهل نجد على منهجهم،وقد اتهم بنشر هذا المنهج وتعليمه لهذا السلطان،حتى أن السلطان عبدالله عوض غرامة أرسل رسالة عزاء في قتيل قتل في مشاجرة بغير قصد، جاء فيها: (إننا لا نريد ذلك ولانحبه، وإنما كان قتله على غير اختيار منا، ولكن شؤم أعمالكم والتفاتكم إلى غير الله وعبادتكم للأموات والقبور هو الذي جر عليكم المصائب، وسيجر عليكم ما هو أعظم)، قال ابن عبيدالله: (ويقال أن هذه المكاتبة كانت من إنشاء إمام تريم لذلك العهد المتقدم، ذكره السيد أبي بكر بن عبدالله الهندوان، والله أعلم) (1)، بل هناك نص أوضح وأصرح في استجابة الكثير من قبائل حضرموت وبعض السادة العلويين للدعوة الوهابية، بل وطلبهم وصول دعاتها إلى حضرموت، يقول ابن عبيد الله في ترجمة أحمد بن سالم منصب عينات: (وفي أيامه كان وصول الوهابية إلى حضرموت، بطلب من بعض السادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنما كانوا ينشرون دعوتهم، ويستجيب لهم الناس، وكان ممن استجاب لهم آل علي جابر بخشامر، غربي شبام، وبعض السادة وبعض آل كثير وعبدالله عوض غرامة بتريم) (2)، ولكن وجود النجديين في حضرموت لم يدم طويلاً حيث كان وصولهم إليها في آخر عمر الدولة السعودية الأولى، والتي انتهت بوصول القوات المصرية إلى الدرعية سنة (1233هـ) (3)، وكانت جيوشهم قد وصلت إلى ساحل ينبع سنة (1226 هـ) (4)، وما بين هذين التاريخين كان أهل نجد مشغولين بقتال القوات المصرية، ومن هنا قلّت إمداداتهم إلى جيوشهم التي تقاتل في أطراف الجزيرة العربية ومنها الجيش الذي بحضرموت؛ ولذلك فقد هزم هذا الجيش بالقرب من حريضة على يد قبائل الجعده وقيادة السادة آل العطاس(5)، ورجعوا إلى بلادهم.
__________
(1) إدام القوت ص(123 ) .
(2) إدام القوت ص( 43 ) .
(3) عنوان المجد (ص 191 – 214 ) .
(4) المصدر السابق ص( 157 ) .
(5) انظر تاج الأعراس ( 1/230-237 )(77/59)
ولكن آثار دعوتهم مازالت موجودة، وكان أشهر بلد استقرت على مبادئ هذه الدعوة هي بلد خشامر وأهلها آل علي جابر؛ لذلك كانت من النوادر أن أحداً إذا أراد من وليٍّ كرامة فلم تحصل يهدَّده باللجوء إلى آل علي جابر في خشامر، كما ذكر في تذكير الناس قول الذي قال في زيارة المشهد:
زوار جينا بانزورك ياعلي لي تكرم القاصد وترحب بالغريب
إن شيء كرامة با تقع ذا حلها والا رجعنا لا قَدَا صالح حبيب (1)
أي إذا لم تكرمنا فإننا سنذهب إلى صالح حبيب شيخ آل علي جابر الوهابيين، وقول الآخر حينما جاء إلى الحسن بن صالح البحر، وله ولد مريض، فخاطبه بقوله: (وعزة المعبود إن لم تذهب الحمى من
ولدي محمد لأصبح في خشامر عند بن علي جابر) (2). وكل ذلك قد تقدم.
ومالبث الناس بعد ذهاب النجديين إلا يسيراً، فنشأت جمعية الإرشاد بإندونيسيا، فتواصل التأثير، ولله الحمد،حتى جاء الله بهذه الصحوة التي هي سلفية سنية منابذة للقبورية متمسكة بمنهج السلف الصالح رضوان الله، عليهم نسأل الله أن يتم نوره، ويعلي كلمته، ويهدي الجميع للتمسك بما يرضيه
المطلب الثاني: دعوة الإرشاد بإندونيسيا وأثرها على القبورية في اليمن:
من خلال العوامل التي أدت إلى قيام دعوة الإرشاد يمكننا أن نتعرف على أهم ملامحها، فالعوامل التي أدت إلى قيامها هي:
1) الجهل المركّب الذي يسود العرب في إندونيسيا.
2) تمادي العنصريين في استعلائهم على الناس واستغفالهم لهؤلاء ماديّا واجتماعيّا.
3) كثرة البدع والخرافات.(3)
__________
(1) تذكير الناس ص( 219 ) .
(2) تذكير الناس ص( 220 ) .
(3) تاريخ الإرشاد ص(6) .(77/60)
من خلال هذه العوامل يتضح أن هذه الدعوة كانت ثورة على الجهل الذي كان يسود العرب في مهجرهم، ووسيلة إزالته العلم، وثورة على التعالي العنصري، والمطلوب هو التساوي والعدل الذي جاء به الإسلام، وثورة على البدع والخرافات،وسبيل ذلك هو نشر التوحيد والاتباع وتعلم الإسلام الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن مجموع ذلك نتعرف على جمعية الإرشاد الإسلامية بإندونيسيا، فنراها تقوم على ثلاثة أصول:
1) نشر العلم وإفشائه بين سائر الطبقات.
2) المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الشرائح في المجتمع.
3) محاربة البدع والخرافات ونشر ضدها من التوحيد والاتباع.
وهذه الأصول كلها نقض لبعض أركان القبورية في اليمن، وقد سبق ذكرها مفصلة في الباب الثاني في آثار القبورية.
وقد وصلت هذه الدعوة إلى اليمن وإلى حضرموت بوجه خاص موطن، مؤسسي هذه الجمعية، وكان لها أثرها الطيب؛حيث تنبه الناس من غفلتهم واستيقظوا من رقدتهم، فهرعوا إلى العلم، ورفضوا التمايز الطبقي، ودعوا إلى التوحيد والسنة ورفض البدع والخرافات والشركيات، وقام بعضهم بتسوية بعض القبور في مناطقهم، وأذكر أن أحدهم في قريتنا عَمَدَ إلى ثوب كان يكسى به صناديق مكتبة الشيخ عمر بن أحمد العمودي الشهيرة والمعروفة عند المؤرخين بـ " المكتبة الشُعبية " وعند العوام بخزانة
الشيخ عمربن أحمد، قام بأخذ هذا الثوب الذي تكسى به صناديق الكتب -على جهة التعظيم- وألقاه في بئر معطلة بالقرب من الخزانة، وذلك الرجل هو الشيخ عبدالرحيم ابن محمد المهجوس العمودي رحمه الله، وكان أول من أعلن الدعوة إلى السنة ومحاربة البدع والشركيات في ذلك البلد.
وهكذا لم يبق وادٍ أو منطقة من مناطق حضرموت إلا ووجد فيها مثل ذلك الرجل، وفي كثير من الأماكن كان لهؤلاء أنصار وأعوان، يحملون هذه الدعوة ولو في أنفسهم وأقاربهم.(77/61)
ومما يدل على وجود هذا الأثر ضجة القبوريين من هذه الدعوة والشكوى منها ونشر الدعاية ضدها، من ذلك ما هو مكتوب، ومنه ما هو على الألسنة.
المطلب الثالث: جهود أئمة وعلماء اليمن الأعلى في المواجهة العملية للقبورية:
إن القبورية لم تترسخ في اليمن الأعلى مثلما ترسخت في بقية مناطق اليمن، وذلك أن الفرقة الزيدية والمذهب الهادوي ليس فيهما من الغلو ما في مذاهب أهل الرفض والباطنية من الإسماعيلية والصوفية الغلاة، لذلك؛لم يكن في أصل المذهب الهادوي ترخيص في البناء على القبور، ولا في عقائد الزيدية اليمنية الأولى شيء من ذلك، وإنما طرأت تلك الأقوال في القرن السابع عندما توافد الصوفية على اليمن وحينما بنى بنو أيوب المشاهد على قبور سلاطينهم،وميزوها عن قبور الناس، عند ذلك سرت العدوى إلى ديار الزيدية، وبقيت محصورة على الأئمة الحاكمين وأسرهم ومقربيهم، فهي فتوى سياسية أكثر منها شرعية واعتماد على إلحاح الواقع لا على أدلة الشرع؛ ولذلك فليس هناك تعظيم للقبور التي في ذلك الجزء من اليمن كما هو في بقية الأجزاء الأخرى، وليس هناك فلسفة لزيارتها كما يوجد عند الصوفية؛ لذلك كله كان من السهل على علماء تلك البلاد وبعض حكامها أن يدركوا الحكم الصحيح لتلك المشاهد وأن يتمكنوا من هدمها وإزالتها بيسر أكثر مما عليه الحال في مناطق الصوفية، كذلك فقد كانت هناك جولات لبعض العلماء وبعض الأئمة وجهود عملية؛لإزالة بعض تلك المشاهد وتسوية القبور المعظمة عند بعض العامة،وقد اطلعت على جولتين من تلك الجولات.(77/62)
الجولة الأولى: على عهد الإمام المهدي العباس بن الحسين بن القاسم المولود (1131هـ) والمتوفى سنة (1189هـ) والذي كان معاصراً للإمام ابن الأمير الصنعاني رحمه الله المتوفى (1182هـ)، فقد قام هذا الإمام بهدم كثير من تلك المشاهد والقبور المعظمة بتحريض جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (وقد تكلم جماعة من أئمة أهل البيت -رضوان الله عليهم- ومن أتباعهم رحمهم الله، في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتسع المقام لبسطه، وآخر من كان منهم نكالاً على القبوريين،وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية، مولانا الإمام المهدي العباس بن الحسين ابن القاسم رحمه الله، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس وسبباً لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها فهدمها،وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء ترسلوا إليه برسائل، وكان ذلك الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين (1).
أما الجولة الثانية: فقد تم فيها إزالة القباب والمشاهد في اليمن الأعلى بجهود علماء صنعاء وحث أئمة الدعوة النجدية، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في ترجمة سعود بن عبدالعزيز بن محمد ابن سعود في البدر الطالع: (ومازال الوافدون من سعود يفدون إلينا إلى صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور، وإلى حضرة ولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة، ويكتب إليّ أيضاً مع ما يصل من الكتب إلى الإمامين، ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأماكن المجاورة لها وفي جهة ذمار،ومايتصل بها)(2).
__________
(1) الدر النضيد ص( 126 – 127 ) .
(2) البدر الطالع ( 1/262-263 ) .(77/63)
وقد ورد هذا الخبر مزيداً ومفصلاً في كتاب "حوليات يمانية" الذي حققه ونشره السيد عبدالله الحبشي حيث قال: (وفي سنة (1229 هـ) تهيأ المتوكل على خروجه على النجدي على تهامة، وعلى الشريف وعاهد الإمام القاضي عبدالله العِكام، ووصل وقد رحل المتوكل من صنعاء إلى ذمار، وبقي خارج ذمار،وطلب المغلَّبات من الإمام،ولم يتم منه بشيء ونهب محل اليهود في ذمار لا رحمه الله، وتعدى إلى الطريق المسبلة،ورحل خارج اليمن، وتبعه المتوكل وجرت بينهم حروب.
وفيها وقعة السرايم خارج جبلة، وخاب السعي من النفوذ على تهامة، فكلما هيأهم المتوكل للتحضير على المخالفين طلبوا المغلَّبات، وما مقصدهم إلا الفساد، ووقع لهم شيء من المال ورجعوا بلادهم، ورجع الإمام إلى صنعاء، ورجح مكاتبة النجدي ومداهنته، حتى وصل من الدرعية المطاوعة الآخرون الأمير محمد، ويوسف القرماني وجماعة معهم، وخاطبوا المتوكل في خراب المشاهد والقباب المنصوبة على قبور الصالحين والأئمة الهادين، فجمع الإمام أعيان دولته وعلماء حضرته، وأجاب عليه العلماء بأنه إذا كان العمل بالشريعة حقيقة لا على أنها مداهنة للنجدي وقبول قوله فهذه القباب ورفع القبور بدعة لاعلى الوجه المشروع،كما روي عن أمير المؤمنين بهدمها وتسويتها بالأرض، فرجح المتوكل الأمر بهدمها وهدمت الذي في صنعاء وما حولها قبة صلاح الدين، وقبة المنصور حسين في الأبهر،وقبة الفليحي،وسدة قبة المهدي العباس التي فيها القبر، ولم يبق إلا قبة المتوكل للصلاة، وهدمت قبة أحمد بن أحسن في الغراس وأرسل على بقية النواحي بهذا (1).
__________
(1) حوليات يمانية ص ( 22-23 ) .(77/64)
ومن هذا النص نفهم أن أصحاب نجد قد شددوا على الإمام في صنعاء في هذا الأمر وقد وجد الإمام نفسه مضطراً لقبول ضغوطهم والعمل بمايدعون إليه، ولكن أراد أن يحمل المسؤولية العلماء بدل أن يتحملها بمفرده، وكان العلماء يتحينون هذه الفرصة؛ لأنها تحقق جزءاً مهماً من دعوتهم،ولذلك كان جوابهم: (بأنه إذا كان العمل بالشريعة حقيقة لا على أنها مداهنة للنجدي، وقبول لقوله فهذه القباب ورفع القبور بدعة على الوجه المشروع، كما روي عن أمير المؤمنين بهدمها وتسويتها بالأرض،فرجح المتوكل الأمر بهدمها)(1). فهذا جهد كبير كان الدافع له دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتنفيذه برغبة وقناعة تامة من علماء اليمن، والنتيجة هي هدم تلك القباب وتسوية تلك القبور المشرفة وإن كانت قد أعيدت إلى سالف عهدها فيما بعد،ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) هنا في التعليق على الكتاب ص( 22 ) رقم ( 7 ) قلت : وفي هذه المناسبة ألف العلامة محمد بن علي الشوكاني رسالة ( شرح الصدور في تحريم رفع القبور ) .(77/65)
ونموذج آخر قام به أحد الأئمة ولكن، هناك شكوك في دوافعه، تلك الجهود هي التي قام بها الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين حينما كان ولياً للعهد في أيام أبيه وحاكماً للواء تعز، فقد قام بهدم قبة أحمد ابن موسى بن العجيل في مدينة بيت الفقيه عام (1348هـ)، وتحطيم تابوت أحمد ابن علوان وإخراج رفاته ثم دفنه في مكان مجهول عام (1372هـ)، وهذا العمل من حيث أنه تحقق به أمر مطلوب شرعاً فهو جيد، ولكن الشكوك ساورت الناس حينما اقتصر على هدم مشاهد البلاد الشافعية بينما البلاد الزيدية فيها مشاهد كثيرة،ومنها ما قد فتن به بعض الناس، ومع ذلك لم يمسها بشيء من ذلك، قال القاضي إسماعيل الأكوع في "هجر العلم" بعد أن ذكر هدم الإمام أحمد لهذين المشهدين: (وتالله لقد أحسن الإمام أحمد صنعاً في كلتا الحالين، ولو أن يده امتدت إلى سائر القباب والتوابيت الأخرى التي يعتقد عامة الناس في أصحابها الضر والنفع لأجزل الله مثوبته وأحسن إليه، ولاسيما القبور التي يلتمس عندها العامة الخير والبركة، ويرجون منها النفع ودفع الضر والشر (1)، ثم استطرد في الموضوع إلى أن قال: (وكان الواجب على الإمام أحمد هدم القبور التي يلتمس العامة منها الخير والبركات؛ امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(2).
__________
(1) هجر العلم (1/ 223 ) .
(2) المصدر السابق ( 1/ 225 ) .(77/66)
قلت: وفي هذا إشارة إلى أن الإمام أحمد ما فعل ما يجب عليه،وما كان مقصده تطبيق أمر الشرع بشكل خالص؛ وإلا لعمم ذلك، وربما يعتذر له بأن هذه المشاهد تحت سلطته بينما غيرها ليس له عليها سلطة، فقد مر أن أباه كان يؤيد تلك المشاهد التي على قبور الأئمة، وقد أمر ببناء واحد منها في منطقة أرحب على قبر الإمام أحمد بن هاشم الويسي المتوفى سنة (1269 هـ) والمدفون في (دار أعلا من أرحب للتبرك به، وهددهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنه سينقل رفاته إلى مكان آخر، فما كان من أهل أرحب إلا أن بنوا له قبة، ووضعوا على قبره تابوتاً) (1).
والخلاصة أن هناك جهوداً عملية قام بها أئمة وعلماء في هذه المناطق، وقضوا ما عليهم، وقاموا بما أمروا به، فمن كان منهم مخلصاً فأجره على الله، ومن كان له مقصد آخر؛فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى.
المطلب الرابع: الجهود العملية المختلفة التي قام بها أناس مختلفون في سائر أنحاء اليمن:
إن الجهود العملية لتسوية القبور المشرفة كانت من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تزال إلى اليوم، وقد مر في الباب التمهيدي حديث علي -رضي الله عنه- حين قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)(2)، وهو يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذل جهوداً في محاربة القبور المشرفة، وكذلك علي -رضي الله عنه- في أيام خلافته وقبل ذلك في أيام عثمان حيث كان يتفقد المقابر بنفسه، ويأمر بتسويتها، وقد مر هناك.
__________
(1) المصدر السابق ( 1/225 ) .
(2) انظر الباب التمهيدي ( ) .(77/67)
ثم مازال ولاة الأمور يتابعون هدم ما بني في المقابر، كما صرح الإمام الشافعي -رحمه الله- بذلك في الأم ونقلته في الباب التمهيدي، وإنما تخاذل ولاة الأمر في ذلك بعد تمكن الباطنية من مقاليد الأمر في القرن الرابع كما مر كذلك، وفي القرون المتأخرة أصبح السلاطين يؤيدون القبورية؛لأغراض سياسية فعمقوها وجذروها في الأمة،وأصبحت الجريمة ليست هي بناء المساجد والمشاهد على القبور، وإنما هدم وإزالة تلك الأبنية.
وبالمناسبة أقول: إنه لدينا في اليمن تجري السلطة على نفس منهج السلاطين المتقدمين من مجاراة للقبورية ومداهنة لهم، ونتوهم أنهما بذلك يكسبونهم ويكسبون الأمة من ورائهم، وهذا وهم كاذب، فالصوفية لا تحب هذا النظام أوتنصح له، وأكبر دليل ما حصل منها أثناء حرب الانفصال وكل الناس يعرفون موقفها من ذلك، وعندما يقوم فرد أو مجموعة من الغيوريين بتنفيذ أمر سول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسوون قبراً أو يهدمون مشهداً،تقوم عليهم الدنيا ولا تقعد ويساقون إلى السجون، وتشهر بهم الصحف المأجورة، ويتناولهم بأنواع السباب والشتائم من لا علم ولادين ولاخلق له، والعلة في ذلك حسب زعمهم هي: إثارة العوام، وإثارة القلاقل، والإخلال بالأمن، واحتمال وقوع الفتن والقتل، ونحو ذلك من العلل.(77/68)
وأقول: إنه قد يحصل شيء من هذا،لكن أليس ما يقوم به القبورية اليوم على مرأى ومسمع من الجميع من بناء مشاهد جديدة وترميم وإصلاح المشاهد القديمة وبعث العادات والبدع القبورية الميتة، أليس هذا كله يستفز الأمة التي قد وعت وعرفت أن ذلك حرام ووسيلة من وسائل الشرك؟ وجميع المسؤولين والمهاجمين لمعارِض القبورية معترفون به، فإذن لِمَ تجوز الإثارة من قبلهم ولا تجوز من قبل معارضيهم؟ مع أنهم على باطل ومعارضوهم على حق باعتراف قيادات الأمن وقضاة المحاكم وأساطين الصحافة؟ هل لأن الدعاة لا يلجأون للإثارة وتهييج الجموع؟ والقبورية يتقنون ذلك؟ أم أن هناك إيحاءً بذلك من جهات لا نعرفها؟ يجب أن نسمع جواباً شافياً على هذا التساؤل وعدلاً وإنصافاً مع الأطراف المختلفة والتخلي عن محاباة طرف على حساب الآخر.
ويجب أن يزول كذلك وهم أن الصوفية القبورية ومن على شاكلتهم قادرون على أن يحققوا لبعض الأحزاب أهدافها، فوالله ماهم بفاعلين؛ لأنهم إنما يسعون لمصلحة مبادئهم ومناهجهم لالمصلحة أحد سواهم، ولو فرض إرادتهم نفع هذا الحزب أو ذاك فلم يعودوا قادرين عليه؛لأن الأمة قد سحبت ثقتها منهم ولم يعد نفوذهم يسيّرها.
نماذج من تلك الجهود:
بعد هذه المقدمة التي أطلت فيها حيث لم أستطع تجاوز هذا الموضع بدونها أقول: (إن هناك نماذج مشرقة في مواجهة القبورية في اليمن مواجهة فعلية، وتقدم قريباً ما فعل علماء صنعاء عندما واتت الفرصة لهم، كما سبق في مبحث من مباحث هذا الباب، ما فعله القاضي العلامة عبدالله عوض بكير وزملاؤه أعضاء لجنة الشؤون الدينية حينما قامت اللجنة الشرعية وأعطي لها الصلاحيات من إزالة الكثير من مناكر الزيارات القبورية، وكذلك ما فعله بحكم منصبه القضائي من إغلاق لمشهد " علوية " بمدينة المكلا ومنع إقامة الحضرة فيه.(77/69)
ولقد تساند بعض القضاة الصالحون مع بعض مسؤولي النواحي في -ما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن- فقاموا بجهود مشكورة ومساندة للدعاة لإزالة بعض المشاهد وتسوية بعض القبور المعظمة وهاك مثالاً على ذلك وهو ما أخبرني به الأخ الشيخ محمد بن علي الغيلي من احتساب، قام به الشاب الغيور الداعية إلى الله في بلاد المحابشة من محافظة حجة الأستاذ الشهيد -إن شاء الله- " أحمد بن أحمد الأمين " مع مجموعة من إخوانه طلبة العلم والدعاة حيث قرروا إزالة هذه المشاهد وما يترتب عليها من مفاسد،وبدأوا بالتوعية والتهيأة لذلك،ثم اتصلوا بالعلماء فوجدوهم مجمعين على أن ذلك من البدع المنكرة، غير أنهم ما كان بمقدورهم الإفصاح عن ذلك، ثم اتصلوا بالمسؤولين "العامل والقاضي ومسؤول الأوقاف"، وقد وافقهم الجميع، ثم أخذوا أمراً من القاضي " محمد بن علي الخزان " حاكم القضاء، هذا نصه:
(نأمر المذكورين المحررة أسماؤهم بالعزم بمعية الولدين محمد علي الغيلي، وأحمد الأمين لهدم مشهد "الصوفرة" ليزول الاعتقاد والفساد لدى العوام وفي ذلك عمل صالح تخدمون به الإسلام والعقيدة الحقة، اعتمدوا هذا.
11/شعبان سنة 1394هـ حاكم القضاء
محمد بن علي الخزان
وذكر أسماء المكلفين بذلك، وقد نفذت العملية صبيحة يوم الرابع عشر من شعبان عام (1394هـ) وذلك من قبل الشباب المذكورين، ومعهم عدد من الجنود المسلحين، ولم يحدث شيء يذكر من فتنة ولاغيرها ثم قضى على بقية المشاهد في المنطقة، والحمد لله رب العالمين.
هذا ملخص ما حكاه الشيخ محمد الغيلي حفظه الله، وصورة أمر القاضي موجودة لدي،(77/70)
وإليك مثالاً ثانياً على المواجهة العملية للقبورية في اليمن من محافظة شبوة حيث قام مجموعة من المهاجرين إلى الحجاز الذين جالسوا علماء مكة والمدينة وعرفوا منهم الحق في موضوع القبورية قاموا بعمل ملفت حيث اتفقوا مع الشيخ الجليل والداعية المعروف الشيخ محمد بن عبدالوهاب البناء المصري أحد أعضاء جماعة أنصار السنة المحمدية،والذي كان مقيماً في المدينة حيناً وفي مكة حيناً آخر، اتفقوا أن يصحبوه إلى بلادهم للدعوة إلى الله عزوجل ونشر السنة والتوحيد وإصلاح ما أفسدته القبورية، فارتحل معهم وذلك قبيل استقلال البلد عن الاستعمار البريطاني بقليل،حتى وصلوا إلى بلادهم والتي كانت تسمى"سلطنة الواحدي " ومكثوا مدة طويلة فيها، يدعو الشيخ ويعلم الناس، وتلك المجموعة تناصره وتحميه، وقد اتصل بالمسؤولين والعلماء وكبار الناس في المنطقة، وكان لدعوته أثر طيب،منه قيام أولئك النفر ومن تأثر بهم بهدم بعض القباب والمشاهد وتسوية بعض القبور المعظمة،ومنها القبر المزعوم والمنسوب إلى من قالوا أنه النبي (دانيال ابن هادون بن هود)،ولا أدري كيف أجازوا إضافة نبي لم يخبر به كتاب ولاسنة ولا أثر صحيح، المهم اكتُشف القبر ورسخ في عقول ونفوس الناس أنه قبر هذا النبي " المزعوم "، فصار مشهداً تقام له زيارة سنوية في رجب،وتحصل فيها اجتماعات وكرامات، هذا القبر الذي فتن الناس به،هدمه أولئك الرجال جزاهم الله خيراً (1).
ومن العجب -وكل أمر القبورية عجب- أن بعض الإخوة الذين عاصروا هدم ذلك القبر أخبرني أنه عندما هدمت القبة، وأزيل ما على القبر لم يوجد به أي قبر وإنما وجدوا صفاة صماء لا حفر فيها ولا أي أثر يدل على أنه قد دفن فيه أحد.
__________
(1) انظر ما جاد به الزمان من أخبار مدينة حبان تأليف السيد / محمد بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر الحوت المحضار لم تذكر له دار نشر وتاريخ ص( 33 ) .(77/71)
ومثال ثالث أخير على المواجهة العملية وهو من محافظة عدن، وهي الحادثة التي كان من نتائجها تسوية القبور المشرفة، وهدم القباب المرتفعة، وتحطيم التوابيت التي على قبور من يدعون أنهم أولياء، فيفتتن بهم عامة المسلمين، تلك الحادثة وقعت في عدن عقب انتهاء حرب الانفصال في عام (1415هـ) والتي قام بها مجموعة كبيرة من شباب الصحوة من سائر فصائل العمل الإسلامي، بعد أن رتبوا أو على الأقل أبلغوا الجهات الأمنية ولم تجد معارضة لفعلهم، غير أنه وبعد يومين من بداية الحملة انعكس توجه الحكومة ويبدو أن ذلك كان تحت ضغوط داخلية وخارجية كبيرة، وبدأوا يلاحقون الشباب الذين شاركوا في تلك الحملة، وزجوا بمجموعة كبيرة منهم في السجون، وقد ضخمت تلك الحادثة في وسائل الأعلام تضخيماً كبيراً، ووصف القائمون بذلك العمل بشتى الأوصاف القبيحة من إرهابيين ومجرمين وجبناء وغير ذلك، وكان من نتيجة ذلك هدم قبة الهاشمي وتسوية ما بداخلها من القبور المشرفة وكذلك قبة العثماني وكلاهما في الشيخ عثمان، وتحطيم تابوت العيدروس وما بجواره من القبور المشرفة، وعددها حوالي اثني عشر قبراً، ثم إخراج القبور من المساجد وهي قبر العراقي من مسجد حسين، وقبر مجاور للمسجد، وقبر المهدلي وقبر حسين الأهدل وقبر في مسجد العلوي بالقطيع وقبر الحامد من مسجد بالزعفران وتسوية قبر أو قبرين بـ (صيره).
وربما كان هناك أخطاء في تلك الحملة قبل البدء فيها حيث لم ينظر بدقة إلى عواقب الأمر، وما سيترتب على ذلك العمل من نتائج وفي ظل أجواء مشحونة بالتوتر ووجود فئات مهزومة،لم يبقَ لها إلا سلاح الدعاية والإشاعات الخبيثه،وتوجه إعلامي كامل نحو اليمن إثر الحرب التي انتهت قبل أيام.(77/72)
كما حصل أثناء الحملة بعض الأخطاء، مثل: الحفر عن بعض القبور، وإخراج جثث الموتى منها، ولا أدري في أي مكان دفنت بعد ذلك، فهذه بعض المفاسد وهي طفيفة،وأما المصالح فكانت كثيرة فمنها: امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاص بتسوية القبور المشرفة، ومنها: إزالة أماكن المنكر والفتنة التي يضل بها فئام من الناس كل حين، ومنها: إقامة البرهان على كذب الدعاوى العريضة التي كان سدنة تلك المشاهد يرددونها حول الكرامات الخارقة التي يزعمونها لأولئك الأولياء، ومنها: هذه الكرامة التي ينسبونها للعيدروس حيث يقولون: (إن القطب أبابكر العيدروس كان يمازح الولي الشهير سعد السويني، والعيدروس بعدن، والسويني بحضرموت، إذ ضجر السويني من ممازحة العيدروس، فرماه بمسواكه فأقبل المسواك " كالصاروخ سكود " فاكتشفه العيدروس وأمر طلابه بأن يخفضوا رؤوسهم حتى لايصيبهم، ولكن المسواك ارتفع عن المسجد ومن فيه ووقع في الجبل القريب منهم فأحدث فتحة كبيرة، لاتزال موجودة إلى اليوم)، هكذا يقولون للسذج من الناس ويصدقهم الكثير منهم، ويلغون عقولهم فلا يفكرون في إمكانية ذلك من عدم إمكانيته، فلما كسر التابوت وحطم أجزاء من المباني حوله بل وحفر القبر ورفع الرفات المتبقي من تلك الجثة، أيقن العقلاء أن ذلك هراء ودجل صريح، فهذه الفائدة كبيرة جداً، وإن كان بعض المخدوعين مازالوا يعتقدون بتصرف العيدروس في الكون حياً وميتاً، ولم يعدم السدنة والمضللون من القبورية حيلاً يبررون بها ما جرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولعمري لقد أدى أولئك الشباب واجباً، وقاموا بفرض تخلى عنه الآخرون، فجزاهم الله خير الجزاء، وغفر لهم ما فيه من أخطاء.(77/73)
ولقد تباينت ردود الأفعال كثيراً حول تلك الحادثة، وقال كلٌّ بما أراد أن يقول، إما عن اجتهاد أو هوى، وقد صدرت على إثر ذلك الحادث بيانات وكتبت مقالات، كان الغالب عليها مراعاة الحالة السياسية والوضع الذي تمر به البلاد والتأثر بما قامت به وسائل الإعلام العالمية من هجوم ضد منفذي هذه العملية، ولم أر من تلك البيانات والمقالات أكثر تجرداً، ولا أوضح تناولاً، ولا أنصح من بيان العلماء الذي سبق نقله في المبحث الثالث من هذا الفصل؛لأن الموقعين عليه من العلماء العاملين والدعاة المخلصين والمتجردين من الضغوط والأهواء المختلفة، فهو بحق يمثل الموقف الشرعي الصحيح إزاء ذلك الحادث، ويعتمد على الأدلة الصحيحة والبراهين الناصعة، فجزى الله من أصدره خير الجزاء.
الخاتمة
الحمد لله الذي أتم عليَّ نعمه، ووالى عليَّ مننه، وأعانني فأكملت هذا البحث بهذه الصورة التي أرجو أن أنال بها رضاه،وأن يكون البحث نافعاً محققاً للغرض منه،وقد توصلت من خلاله إلى عدة نتائج من أهمها:
أن بني آدم كانوا على التوحيد الكامل حتى طرأ عليهم الشرك وذلك بالغلو في الصالحين ولم يعرف شرك في البشرية قبل ذلك.
أن اليهود والنصارى واليونان كانوا قبورية متعلقين بالقبور معظمين لها معتقدين فيها عقائد باطلة وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة ستتبعهم في ذلك.
أن العرب كانوا موحدين على ملة أبيهم إبراهيم، حتى حرفهم عمرو بن لحي الخزاعي وكان من أسباب انحرافهم الغلو في بعض البشر، كما حصل عندما أحبوا (اللات) وعظموا موضعه،ثم اتخذوه إلهاً، وبالغلو في آثار الأنبياء حتى عظموا الحرم وحملوا حجارته معهم تعظيماً له، ثم أنهم عبدوا تلك الأحجار بعد مدة.
أن الشرك بعد ذلك عمّ جزيرة العرب والعالم كله حتى مقتهم الله تعالى إلا بقايا من أهل الكتاب ومعهم عدد قليل من حنفاء العرب.(77/74)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت إلا وقد طهر الجزيرة العربية من الشرك وعلم أمته طرق حماية التوحيد وحذرهم من الشرك ووسائله أبلغ تحذير.
أن القرون المفضلة كانت خالية من جميع مظاهر القبورية، وأن الصحابة والتابعين وأتباعهم من علماء وأمراء عملوا على إزالة أي مظهر من مظاهر القبورية المتمثلة في البناء على القبور، وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم حتى أن الخلفاء والأمراء كانوا يتولون ذلك بأنفسهم أو بوكلائهم، وأن ما يستدل به القبورية على وجود مبان وقبور مرتفعة في ذلك الوقت إنما هو مجرد شبه لا وزن لها
أن الشيعة كانوا يحاولون منذ زمن مبكر إنشاء مبان على قبر الحسين - رضي الله عنه - وإقامة مراسيم بدعية له، ولكن الخلفاء كانوا يمنعونهم من ذلك، ويشددون في المنع، ويزيلون ما يحدث في حين الغفلة، وأن ذلك كان بدافع الحرص على منع الابتداع في الدين وليس كما يقول الرافضة بسبب بغض الحسين وأهل بيته.
أن الشيعة الغالية من رافضة وإسماعيلية وباطنية هم الذين أنشأوا المظاهر القبورية في العالم الإسلامي ضمن بدع كثيرة ابتدعوها حينما حكموا بلاد المسلمين أواخر القرن الثالث وسائر القرن الرابع وبعض الخامس وأن تلك المظاهر قد ألفها المسلمون منذ ذلك الحين ولذلك فإن الدول السنية التي جاءت بعدهم قد قلدتهم في ذلك ونشرت تلك المظاهر في البلاد التي لم تصلها الدولة الشيعية.
أن الصوفية المتأخرة القائمة على الفلسفة هي نبته غريبة على الإسلام ولا علاقة لها بالزهد الذي حث الشرع عليه، وليس لها قدوة من صحابي أو تابعي أو إمام معتبر من أئمة المسلمين.(77/75)
لقد أخذت باطنية الشيعة جملة من العقائد عن الفلاسفة وغيرهم من الأمم الكافرة وطبقتها على أئمتها وصاغتها صياغة تناسب ملتها ثم نشرتها بين اتباعها وحملتهم عليها ثم إن المتأخرين من الصوفية أخذوا ذلك عنهم ودمجوه في منهجهم وعملوا به واعتقدوه ومن ذلك عقيدة القطبية والتصرف في الكون التي انبثقت عنها معظم العقائد الضالة في الأولياء والكرامات.
كما أخذت الباطنية الشيعية والصوفية بعلة الزيارة التي قررها الفلاسفة وأصبحوا يزورون القبور بمقتضاها لا بمقتضى العلة الشرعية التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وتلك العلة المأخوذة عن الفلاسفة هي الاستشفاع والاستمداد من أرواح الأموات المزورين واعتقاد أنها تمد من استمد منها
إن الصوفية الغالية الحريصة على إظهار الخوارق وعدها كرامات تدل على ولاية من جرت على يديه قد اخذوا بعدد من علوم السحر واستخدموها ونشروها في الأمة ومنهم من كان يعاني أنواعاً من الرياضات للوصول للكشف وخرق العادة على طريقة سحرة الهند وغيرهم.
ليس ما ذكرته عن الصوفية منطبقاً على كل من انتمى إليهم أو وصف بولاية منهم، بل ممن نسب إليهم مَن هو برئ مما نسب إليه، وهناك من اعتقد عقائدهم وعمل ببدعهم؛ تقليداً لهم وإحساناً للظن بهم، فهؤلاء أمرُهم إلى الله، وأما ما نسب إليهم من ذلك فهو باطل وانحراف وهو إدانة للمنهج الصوفي ودليل على بطلانه؛ لأن الصوفية هم الذين نسبوا ذلك إلى شيوخهم ونشروه مرتضين له، بل يعدونه من أعظم فضائلهم.(77/76)
أثبتت هذه الدراسة أن أهل اليمن كانوا على منهاج السلف الصالح في عقيدتهم وأحكامهم وأن مصادر علمهم هي كتب السنة قبل دخول الكتب الفقهية والمذاهب المختلفة وكتب الفرق المخالفة لذلك المنهج،وأن منهج السلف الصالح ظل قائما ًحتى بداية القرن الثامن في البلاد الشافعية وأنه ما كاد يغلب على تلك البلاد المذهب الأشعري حتى قام منهج السلف الصالح في البلاد الزيدية على يد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وأتباعه وهذا المنهج ما زال قائماً إلى اليوم والحمد لله.
كما عرفنا أن جميع المذاهب المخالفة لمذهب السلف الصالح إنما هي وافدة على اليمن وليست أصيلة فيه وأن الصوفية القبورية لم تعرف بفلسفتها المبتدعة في اليمن إلا منذ القرن السادس ولم تستقر ولم تنتشر إلا في القرن السابع.
أن جميع ما لدى صوفية العالم الإسلامي من عقائد ضالة وبدع باطلة ومخالفات ظاهرة أو خفية أو دعاوى وشطح كل ذلك قد قلدهم فيه صوفية اليمن في وقت ما أو مكان ما.
كما أظهرت الدراسة أن لسلاطين اليمن السنيين وأئمته الزيديين دوراً كبيراً في نشر القبورية وتعميقها في البلاد
كما أظهرت الدراسة أن لوجود القبورية وانتشارها آثاراً سيئة كثيرة منها:
أ) إفساد عقائد كثير من الناس بالشرك الأكبر والأصغر لتعلقهم بالأولياء وإيهامهم أنهم يمدون من استمد منهم، ويعطون من دعاهم، وينفعونهم ويضرونهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
ب) نشر الخرافة في الأمة حتى أصبحت جزءاً من حياتها.
نشر السحر واستخدامه باسم الكرامة والولاية، حتى أصبحت تقرأ عن أولياء يوصفون بأوصاف جليلة جداً، وتنسب إليهم كرامات عظيمة، وربما في نفس الترجمة يوصف بأنه يتقن علم أسرار الحروف والأوفاق والرمل وما أشبه ذلك،ويتصرف بها وهي من علوم السحر والكهانة مما يجعل الباحث في شك كبير من غالب أولئك الأولياء وتلك الكرامات لاختلاط الكرامة بالسحر والكهانة وعدم التقيد في صفة الأولياء بالضوابط الشرعية.(77/77)
كما أنه ترتب على ذلك نقص العلم الشرعي وتجهيل الأمة وحصر التعلم في فئات محدودة.
هـ) وترتب على ذلك أيضاً وجود تمايز طبقي وترفّع بعض الفئات على بعض مما كان له نتائج سيئة على المجتمع.
واجه علماء اليمن القبورية وتصدوا لها رغم ما كانت تقوم به من أساليب كثيرة لمواجهة هؤلاء العلماء، منها اللجوء إلى السلطان، وتسخير القبائل لضرب من ينازعها واستخدام الاختراق والاحتواء والتشويه للخصم، وقد يصل الأمر إلى التصفية الجسدية أو الضرب المبرح.
19.لعلماء اليمن مؤلفات قيمة نافعة في مواجهة القبورية كتبها علماء من سائر الجهات اليمنية. 020لقد كان لحركات التجديد السنية أثرها البالغ على القبورية في اليمن من حيث كبح جماحها،
وتبصير الناس بمعايبها، وصدهم عن متابعتها، والحركات التي كان لها بالغ الأثر هي مدرسة
التجديد والاجتهاد التي ابتدأها ابن الوزير وتبعه عليها ابن الأمير والشوكاني وغيرهم من علماء
اليمن ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، ودعوة الإرشاد بإندونيسيا، وقد ترتب على
ظهور هذه الدعوات هدم الكثير من المشاهد والقباب المقامة على أضرحة الأئمة والأولياء في
فترات مختلفة.
هذه أهم النتائج التي خرجت بها، ولا شك أن هناك فوائد ونتائج أخرى سيلمسها القارئ من خلال مطالعته لهذه الرسالة، أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، سالمة من الأغراض والأهواء، نافعة لي ولإخواني المسلمين إنه سميع مجيب، والحمد لله أولاً وآخراً.(77/78)
الكشف عن حقيقة الصوفية
لأول مرة في التاريخ
تأليف/ محمود عبد الرءوف القاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
اقرأ الفصلين الأول والثاني بهدوء وإمعان
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [النساء:1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:70-71].
أمابعد..(78/1)
لننتبه إلى الآيات التالية، ولنتمثلها جيداً، قبل البدء بقراءة الفصول، يقول سبحانه: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [المائدة: (78-79)]. ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) [الأنفال:24].
ثم: يقسم المتصوفة الصوفية إلى طريقة وحقيقة.
والطريقة هي التي تؤدي إلى الوصول إلى الحال الذي يعرفون به تلك الحقيقة.
فما هي الطريقة؟ وما هو الوصول؟ وما هي الحقيقة؟
وسنبدأ بدراسة الحقيقة أولاً، ثم الطريقة، ثم الوصول، وبعد ذلك تأتي المناقشات.
وستكون المناقشات بعرض حقائق الصوفية على القرآن والسنة، ثم تفسيرها فيزيولوجيًّا، ثم الكشف عن آثارها التاريخية والاجتماعية.
وعلى هذا فسيكون الكتاب قسمين:
- القسم الأول للدراسات.
- والقسم الثاني للمناقشات.
القسم الأول
الدراسات
الحقيقة - الطريقة - الوصول
الباب الأول
الحقيقة الصوفية
الفصل الأول
مذهب واحد
عباراتنا شتى وحسنك واحد ……وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير
لا يوجد إلا صوفية واحدة، غايتها واحدة، وحقيقتها واحدة (وسنرى أن طريقتها واحدة) منذ أن وجدت الصوفية حتى النهاية، وإن اختلفت الأسماء، وهذه براهين من أقوال عارفيهم (وصاحب البيت أدرى بما فيه):
قال الجنيد(1) (سيد الطائفة):
__________
(1) الجنيد بن محمد، إمام الطائفة، مات في بغداد سنة (297هـ) ويعرف أيضاً بالقواريري.(78/2)
(الصوفية أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم)(1).
وقال أبو نصر السراج الطوشي(2) (صاحب اللمع، الكتاب الأم في التصوف):
...لأن علم الحقائق ثمرة العلوم كلها، ونهاية جميع العلوم، وغاية جميع العلوم إلى علم الحقائق، إذا انتهى إليها وقع في بحر لا غاية له، وهو علم القلوب، وعلم المعارف، وعلم الأسرار، وعلم الباطن، وعلم التصوف، وعلم الأحوال، وعلم المعاملات، أي ذلك شئت فمعناه واحد(3).
ويقول أبو طالب المكي(4):
...فأما المعرفة الأصلية التي هي أصل المقامات ومكان المشاهدات، فهي عندهم واحدة؛ لأن المعروف بها واحد، والمتعرف عنها، إلا أن لها أعلى وأول، فخصوص المؤمنين أعلاها، وهي مقامات المقربين، وعمومهم أولها، وهي مقامات الأبرار، وهم أصحاب اليمين(5).
ويقول أبو حامد الغزالي(6):
...فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب(7).. [وعبارة (منتهى المطلب) تعني بوضوح أن لا غاية غيره].
ويقول ابن عربي(8) (الشيخ الأكبر):
...وينكرون الذوق؛ لأنهم ما عرفوه من نفوسهم، مع كونهم يعتقدون في نفوسهم أنهم على طريق واحدة، وكذلك هو الأمر، أصحاب الأذواق على طريق واحدة بلا شك، غير أن فيهم البصير والأعمى والأعمش، فلا يقول واحد منهم إلا ما أعطاه حاله، لا ما أعطاه الطريق، ولا ما هو الطريق عليه في نفسه(9)..
__________
(1) الرسالة القشيرية (ص:127).
(2) عبد الله بن علي بن محمد، طاوس الفقراء، مات سنة (378هـ).
(3) اللمع (ص:457).
(4) محمد بن علي المكي مات في بغداد سنة (386هـ).
(5) قوت القلوب: (2/79).
(6) محمد بن محمد الغزالي مات سنة (505هـ).
(7) إحياء علوم الدين: (1/255).
(8) محمد بن علي بن عربي الحاتمي، أندلسي مات في دمشق سنة (638هـ).
(9) الفتوحات المكية: (3/213).(78/3)
ويقول ابن البنا السرقسطي(1): مذاهب الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف(2).
يشرح ابن عجيبة(3) هذا البيت فيقول:
...يقول (أي: ابن البنا): ثم تقوم الحجة الدالة على أنهم على المحجة والطريق المستقيم، بشيئين:..بخلاف مذهب الصوفية، فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك.. فمرجع كلام القوم في كل باب لأحوالهم، وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها، وذلك بخلاف مذهب غيرهم، والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة وإن اختلفت مسالكها، فالنهاية واحدة، والذوق واحد، وفي معنى ذلك قال قائلهم:
الطرق شتى وطريق(4) الحق واحدة ……والسالكون طريق الحق أفراد
ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع، أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان، وهم متفقون فيه لأنه أمر ذوقي لا يختلف(5).
ويقول عبد الرزاق القاشاني(6) في شرحه على فصوص الحكم:
...يعني أن الطريق والغاية كلاهما واحدة في الحقيقة، وهو الحق، فالعارف يدعو على بصيرة من اسم إلى اسم(7).
ويقول أحمد الصاوي المالكي الخلوتي(8):
...وإنما العارفون تنافسوا في محبة الله ورسوله؛ فمنهم من طلب الوصال بالتغزل في الوسيلة، كالبرعي والبوصيري، ومنهم من طلبه بالتغزل في المقصد كابن الفارض وأمثاله، ومنهم من تغزل في المقامين كسيدي علي وفا، ومقصد الجميع واحد(9)...[يعني بقوله (الوسيلة): محمداً صلى الله عليه وسلم].
__________
(1) أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف التجيبي، من سرقسطة في جنوب الأندلس، مات قي فاس في حوالي الربع الأول من القرن التاسع.
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:101).
(3) أحمد بن محمد بن عجيبة الدوريس الفاسي مات سنة (1224هـ).
(4) ليستقيم البيت يجب أن يكون (الطرق شتى ودرب الحق...).
(5) الفتوحات الإلهية، (ص:101) وما بعدها.
(6) الفاضل الكامل مات بعد سنة: (730هـ).
(7) ص:155).
(8) مصري مات سنة (1241هـ).
(9) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية (ص:45).(78/4)
ويقول سيدي محمد كنسوس(1) (تيجاني):
...فاعلموا أيدكم الله أَن طرق المشايخ -رضوان الله عليهم- كلها أَبواب مفتوحة إِلى حضرة مولانا الكريم، وهى بمنزلة الطرق المحسوسة المؤدية إِلى محل واحد، وهي مع ذلك مختلفة في القرب والبعد والسهولة والصعوبة والأمن والخوف(2)...
وقال شاعرهم:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ………وكل إلى ذاك الجمال يشير(3)
ويقول محمود أَبو الفيض المنوفي(4):
...وِاذا فني العبد عن الأغيار، كملت معرفته لبقائه مع الحق...وإذا وصل من المعرفة إِلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع -أي: الحقيقة- وصار الجمع له حالًا...وهذا المعنى هو مرمى نظر الصوفية، وكل ما صنفوه ودونوه وامروا به ونهوا عنه في أقوال وأفعال وأحوال، إِنما هي وسائل إِلى هذا المقصد الشريف، والمقام المنيف(5)...
ويقول عبد القادر عيسى(6):
...وإن الطريق واحدة في حقيقتها، وإن تعددت المناهج العملية، وتنوعت أساليب السير والسلوك، تبعاً للاجتهاد وتبدل المكان والزمان، ولهذا تعددت الطرق الصوفية، وهي في ذاتها وحقيقتها وجوهرها واحدة(7)...
ويقول عبد الحليم محمود (الشيخ الأكبر) شيخ الجامع الأزهر:
...وفي الناس من يرى أن التصوف مذاهب وفرق وطوائف، ولكن هذا التفكير المنحرف تأتى إِلى القائلين به من نظرتهم إلى علم الكلام وإلى الفلسفة؛ ففي علم الكلام: أشاعرة ومعتزلة ومشبهة، وفي الفلسفة: أرسطيون وإِفلاطونيون وديكارتيون...
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن أحمد مات في مراكش سنة: (1294هـ).
(2) كشف الحجاب (ص:329).
(3) غاية القرب، (ص:86).
(4) محمود أبو الفيض بن على بن عمر من منوف في مصر ولد عام (1312هـ)، أسس الكلية الصوفية في القاهرة ولعله لا يزال حيًّا حتى كتابة هذه الكلمات.
(5) معالم الطريق إلى الله، (ص:262).
(6) من حلب، شاذلي الطريقة، هاجر من حلب في أواخر السبعينات؛ متمتع بصحته حتى كتابة هذه الكلمات.
(7) حقائق عن التصوف، (ص:272).(78/5)
والنفوس مهيأة لقبول فكرة الطوئف في جميع العلوم النظرية؛ ولقد خلط الكاتبون بين هذه الدراسات والتصوف، فزعموا أن في التصوف مذاهب وفرقاً وطوائف ولو أمعنوا النظر، لعرفوا أن التصوف تجربة روحية، وليس نظراً عقلياً، وإذا كان النظر العقلي يفرق الناظرين إلى طوائف وفرق، فإن التجربة لا يختلف فيها اثنان؛ وإذا كانت الفلسفة، لأنها نظر عقلي، مذاهب متعددة، فإن التصوف، وهو تجربة، مذهب واحد لا تعدد فيه ولا خلاف.
وكما أنه لا يستساغ الخلط بين الوسائل والغايات في أي ميدان من الميادين، فإنه لا يجوز أن يستساغ الخلط بين طرق التصوف، وهي وسائل، وبين الغاية، وهي التصوف نفسه، فطرق التصوف متعددة مختلفة، وبعضها أوفق من بعض، وبعضها أسرع من بعض، ولكنها على اختلافها وتعددها، تؤدي إلى هدف واحد وغاية واحدة.
التصوف إذن مذهب «بصيغة المفرد» لا مذهب «بصيغة الجمع»(1).
هذه أقوال لبعض كبار القوم، نخلص منها إلى أن للصوفية عقيدة واحدة يدين بها كل المتصوفة قديمهم وحديثهم، وأن الطرق الصوفية (كالشاذلية والرفاعية والقادرية والخلوتية والنقشبندية واليشرطية والمولوية والبكطاشية والتجانية وغيرها وغيرها، وإن اختلفت أسماؤها، فهي كلها تؤدي إلى هدف واحد هو العقيدة الصوفية الواحدة.
فما هي هذه العقيدة؟
سيظن الكثيرون -بناء على ما تقدم- أنه يكفي لدراسة الصوفية أن ندرس عقيدة صوفي واحد، كالغزالي مثلاً، أَو ابن عربي، أو ابن عجيبة، أو غيره، ثم نطلق حكماً بكل ثقة واطمئنان على جميع المتصوفة، وإن حكمنا سيكون علمياً صحيحاً.
فنقول: هذا صحيح كل الصحة من الناحية العلمية، ولكننا إمام جماعة باطنية لهم عقيدة سرية، استهوت عقولهم ونفوسهم واستحوذت عليها، فلا يهتدون سبيلًا إِلا سبيلها، وهم يدافعون عنها بكل ما لديهم من إِمكانيات وبالمراوغات والمغالطات واللف والدوران وجميع الأساليب اللاعلمية واللاأخلاقية!
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:12، 13).(78/6)
وكمثل على ذلك: إِنهم يعلمون يقيناً وخاصة الواصلون منهم أن الصوفية هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة الإسلامية، ومع ذلك فهم يكتمون هذه الحقيقة ويشيعون بين الناس أن الصوفية هي قمة الإسلام والإيمان وهي منتهى التقى والورع، وهي مقام الِإحسان!
وقد انطلت هذه الخدعة على الناس وصدقوها، حتى لو قلت لأحدهم: إِن الصوفية زندقة، لثار عليك واتهمك الاتهامات التي لا تخطر لك على بال، رغم أَنه ليس صوفيًّا، ولكنه اقتنع بالخدعة وانجرت عليه ذيولها.
ومثل من مراوغاتهم المعتادة: لو جئتهم بدراسة عن صوفية ابن عربي مثلًا، لسمعت من يقول لك: هذا مدسوس عليه، أَو لسمعت من يقول: هذا شيء لا يدين به الباقون، أو لسمعت: هذا كان فيما مضى من الزمان، ولم يبق له أثر، أو تسمع من يقول: الصوفية الآن لا يعرفون هذه الأمور ولا يفهمونها، فأَكثرهم بسطاء وسذج، أو هذا يعرفه بعضهم ويجهله الآخرون، وإن كانت الدراسة حول صوفي غير مشهور، فسيكون الجواب: هذا مندس على الصوفية، مدع لها، والصوفية الحقة بريئة منه ومن أمثاله، والصوفية الحقة هي قمة الِإسلام والِإيمان...
ولو أتيتهم بنصوص صوفية للغزالي مثلاً، وبرهنت لهم على صحتها وصحة نسبتها إلى قائلها وأريتهم مواضع الضلال فيها، فالجواب الذي ستسمعه: هذا كلام له تأويل! أو يجب أن نؤوله! أو هذا كلام لا نفهمه! أو...أو...إِلخ.
ومثل هذه الأجوبة، نسمعها أيضاً من غير المتصوفة من كثير من الناس، لأنهم سمعوها سابقاً من المتصوفة، وسمعوها وسمعوها كثيراً حتى اقتنعوا بها!(78/7)
ومن الأجوبة التي نسمعها من غير المتصوفة أكثر الأحيان، ومن المتصوفة في بعضها، قولهم: الصوفية على وشك الانتهاء، أَو هي في طريقها إِلى الزوال، أو إِن الصوفيين قليلون لا تأثير لهم في المجتمع، أو إِن الكلام عنهم فيه مبالغة.. إِلخ.. مع العلم أن (90%) من الأمة الإِسلامية لهم صلة بالتصوف وأهله بشكل من الأشكال- كما يقول سعيد حوى- أما الحقيقة فنسبة المتأثرين بالتصوف تزيد على ذلك، بل والمدافعون أنفسهم الذين يدعون أن التصوف انتهى هم في أفكارهم ودفاعهم متأثرون بالصوفية إِلى حد بعيد.
ومن أعجب ما نسمع من دفاع، قول القائل الغافل: إن فضح الصوفية هو دعاية لها، وعندما تصل السذاجة بصاحبها إلى مثل هذا المستوى، فلا يبقى مجال لمناقشتها.
أمام هذا الوضع الغريب عن الإِسلام، وعن قرآن الإِسلام، وعن سنة رسول الِإسلام.. أمام هذا الوضع الشاذ الذي تتخبط به المجتمعات الإسلامية.. أمام هذا الوضع، لا يكفي تقديم دراسة عن صوفي واحد أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة! لذلك ستكون الفصول الآتية أقوالاً لأكبر عدد يمكن للكتاب أن يستوعبه من أئمتهم وكبرائهم، منذ الجنيد وأقرانه حتى أصحاب الطرق في أيامنا الحاضرة، بحيث لا يبقى مجال لأولئك المدافعين، ولا يبقى مكان لحججهم.
ويجب أن نتذكر دائماً، وأن لا ننسى أبداً أن التصوف مذهب واحد، كما يقرره أصحاب هذا المذهب العارفون الواصلون.
وكل ما هو آت من الفصول إِنما هو براهين على ذلك، ولنتذكر دائماً أن أصحاب البيت أدرى بما فيه.
الفصل الثاني
مدخل إلى فهم النصوص الصوفية
يا رب جوهر علم لو أبوح به ……لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ……يرون أقبح ما يأتونه حسنًا(78/8)
قبل الولوج في متاهات النصوص الصوفية، ودهاليزها الملتوية المتعرجة، وزحاليقها المتقنة الصنع، قبل ذلك يجب أن نأخذ فكرة واضحة عن الأساليب التي يتبعونها في بسط أفكارهم وعقائدهم، في أقوالهم وكتاباتهم، في تواليفهم ودعاياتهم، لنستطيع فهم كلامهم بوضوح تام، وأن نعرف أغراضه وأهدافه، وبدون ذلك لا نستطيع دراسة الصوفية دراسة صحيحة، وستكون دراستنا لأساليبهم من أساليبهم، ومن أقوالهم وتواصيهم فيما بينهم.
سنرى -في هذه الدراسة- بوضوح تام ما يلي:
1- هناك سر غريب يتواصون بكتمانه عن غير أهله.
2- أهل هذا السر هم الصوفية.
3- هذا السر هو كفر وزندقة، يُقتل من يبوح به على أنه مرتد عن الإسلام.
4- يقسّمون المجتمع الإسلامي إِلى صنفين:
أ- أهل الشريعة: ويسمونهم أهل الظاهر، أو أهل الرسوم، أو أهل الأوراق، أو العامة.
ب- أهل الحقيقة: وهم الصوفية، ويسمونهم أيضاً أهل الباطن، وأهل الأذواق، أو الخاصة، وخاصة الخاصة هم كبارهم.
5- يتواصون دائماً وفي كل زمان ومكان، أن يظهروا لأهل الشريعة ما يوافقهم من الأحكام الِإسلامية، وأن يكتموا عنهم ذلك السر لئلا تباح دماؤهم، إِلا في حالات معينة (ستمر بين ثنايا النصوص) حيث يعبرون عنه باللغز والرمز والإشارة والعبارة المنمقة.
6- لا يعرف هذا السر إِلا بالذوق، أي: أن يذوقه الِإنسان بنفسه، وضربوا لذلك مثلاً: اللذة الجنسية التي لا يعرفها إِلا من يذوقها.
7- في العادة، يرمزون إِلى الذات الِإلهية بأسماء مؤنثة مثل ليلى وبثينة وغيرها..
وهذه نصوص لأئمتهم وأقطابهم وعارفيهم أوردها حسب التسلسل التاريخي (بدون دقة):
مما ينسبونه لزين العابدين (وهو في الواقع لكلثوم بن عمرو العتّابي توفي عام: 220هـ):
يا رب جوهر علم لو أبوح به……لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا(78/9)
ولاستحل رجال مسلمون دمي ……يرون أقبح ما يأتونه حسناً(1)
فما هو هذا العلم الذي لو أباح به لرمي بالوثنية ولقتل على الردة؟
ويقول أبو بكر الكلاباذي (تاج الِإسلام)(2):
قال الجنيد للشبلي(3): نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رءوس الملإ! فقال: أنا أقول، وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري؟
يهمنا في هذا النص قول الجنيد فقط. إِنه يخبر عن علم حبره هو تحبيراً، (أي: وضع قواعده وأصوله)، ثم خبأه في السراديب! فما هو هذا العلم المخبأ؟! ولم خبأه في السراديب؟!
أما قول الشبلي فسنراه فيما بعد.
ويقول الجنيد أيضاً، مجيباً على رسالة أرسلها له أبو بكر الشبلي:
يا أبا بكر، الله الله في الخلق، كنا نأخذ الكلمة فننشقها، ونقرظها، ونتكلم بها في السراديب، وقد جئت أنت فخلعت العذار! بينك وبين أكابر الخلق ألف طبقة، في أول طبقة يذهب ما وصفت(4).
عندما يتمرس القارىء بالأساليب الصوفية سيعرف أَن معنى قوله: (يذهب ما وصفت)، هو: تُقتل.
ويقول الجنيد أيضاً:
لا يكون الصدّيق صدِّيقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صدِّيقاً أنه زنديق، فهم يشهدون على ظاهره، مما ظهر من حاله؛ لأن الصديق يعطي الظاهر حكم الظاهر، ويعطي الباطن حكم الباطن، فلا يلبسون بالباطن على الظاهر ولا بالظاهر على الباطن، فهم يشهدون أنه زنديق ظاهراً، كما يعلمون أنه صديق باطناً، لتحققهم بذلك الحال في نفوسهم(5).
يا للعجب! ظاهراً -أي حسب الشريعة- زنديق، وباطناً صديق!! فهل الشريعة تخدعنا؟؟
__________
(1) الأنوار القدسية في بيان الآداب للشعراني، هامش الطبقات: (1/134)، والمناظر الإلهية، (ص:44)، والفتوحات الإلهية، (ص:44) وغيرها.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف، [باب: 65، (ص:145)].
(3) الشبلي من أصحاب الجنيد وأقرانه مات في بغداد عام (334هـ).
(4) اللمع، (ص:306).
(5) المناظر الإلهية، (ص:44)، وكشف الحجاب، (ص:373) وغيرها.(78/10)
وقال أيضاً (وقد أورده الغزالي في إحياء علوم الدين):
..أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة(1).
وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك، وذلك يحتمل منهم ويليق بهم(2).
وقد كان الجنيد ينشد أبياتاً يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين، وإن كان ذلك لا يجوز إِظهاره، وهي هذه الأبيات(3):
سرت بأُناس في الغيوب قلوبهم ……فحلّو بقرب الماجد المتفضل(4)
عراصاً بقرب الله في ظل قدسه ……تجول بها أرواحهم وتنهل
مواردهم فيها على العز والنهي ……ومصدرهم فيها لما هو أكمل
تروح بعز مفرد من صفاته ……وما كتمه أولى لدين وأعدل
سأكتم من علمي به ما يصونه ……وأبذل منه ما أرى الحق يبذل
وأعطي عباد الله منه حقوقهم ……وأمنع منه ما أرى المنع يفصل)
على أن للرحمن سراً يصونه ……إلى أهله في السر والصون أجمل
وقال سهل التستري(5): (للعالم ثلاثة علوم، علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره أحد)(6).
- أما العلم الظاهر، فقد عرفناه، إنه علم الشريعة. فما هو علم الباطن؟! ولم هو باطن؟!
وبقول الحلاّج(7): «المنكر في دائرة البراني، وأنكر حالي حين لم يران، (...وبالزندقة).. حملني...وبالسوء رماني»(8).
- يعني بدائرة البراني: ما هو خارج دائرة الصوفية.
- فلم يسميه المنكر زنديقاً؟ ويرميه بالسوء؟! ما هو السر؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (4/292)، ولعل الفقرة (وهم يجدون المزيد.. إلخ) هي من تعليق الغزالي.
(2) إحياء علوم الدين: (4/292)، ولعل الفقرة (وهم يجدون المزيد.. إلخ) هي من تعليق الغزالي.
(3) إحياء علوم الدين: (4/288).
(4) في البيت إقواء.
(5) سهل التستري، من تستر، بلد من الأهواز، من أئمة القوم، توفي عام: (283هـ) أو (273هـ).
(6) إحياء علوم الدين: (1/89).
(7) قتل صلباً عام: (309هـ).
(8) الطواسين، طايسين النقطة.(78/11)
وقال: (يخاطب الناس في المسجد) ويروي القصة عبد الودود بن سعيد الزاهد: ...اسمعوا، إن الله أباح لكم دمي فاقتلوني، فبكى بعض القوم، فتقدمت من بين الجماعة، وقلت: يا شيخ، كيف نقتل رجلاً يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟ فقال: يا شيخ، المعنى الذي به تحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن، فاقتلوني تؤجروا وأستريح، فبكى القوم، وذهب، وتبعته إلى داره، وقلت: يا شيخ، ما معنى هذا؟ قال: ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهمّ من قتلي. فقلت له: كيف الطريق إِلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين، وليس مع الله أحد. فقلت: بين. قال: من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا(1). إنه يقرر أن الشريعة تبيح قتله! فلِمَ؟
ويقرر أن المعنى الذي يباح قتله من أجله خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن! فما هو هذا المعنى؟
لننتبه إلى قوله: (ليس مع الله أحد)، وقوله: (من لم يقف على إِشارتنا لم ترشده عبارتنا).
ويقول:
كفرت بدين الله والكفر واجب ……عليّ وعند المسلمين قبيح(2)
- يعني بقوله: (كفرت) أي: سترت، والكفر هو الستر، فهو يقول: سترت بالإسلام، والستر واجب عليّ. - فما هو هذا الأمر الذي يستره بدين الله؟! ما هو؟!
- فما هو هذا الأمر الذي يستره بدين الله؟! ما هو؟!
- من الممكن أن نعرف هذا السر من بعض أقواله وفلتات شعره، يقول:
رأيت ربي بعين قلب……فقلت: من أنت؟ قال: أنت(3)
فالحقيقة، والحقيقة خليقة، دع الخليقة، لتكون أنت هو، أو هو أنت من حيث الحقيقة(4).
- ولا أعلق على هذا القول بشيء، فهو واضح، وهو هو السر الذي يكتمونه.
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:57).
(2) ديوان الحلاج، (ص:28).
(3) الطواسين (طاسين النقطة).
(4) الطواسبن (طاسين الصفاء).(78/12)
وقال أبو الحسين النوري(1) مخاطباً الجنيد:
يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل(2).
- وسنرى فيما يأتي من النصوص كيف غشهم الجنيد؟ إِنه كان يتكلم عليهم بالفقه.
ومما يورده الغزالي:
...قال بعضهم: للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام(3).
- أسرار!! تبطل بها النبوة، ويبطل بها العلم، وتبطل بها الأحكام؟! فما هي هذه الأسرار؟
وقال ابن عطاء(4) في قوله تعالى: ((وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)) [النساء:63]، قال: على مقدار فهومهم ومبلغ عقولهم(5).
- واضح أنه يعني: على مقدار فهوم أهل الظاهر (أهل الشريعة)، ومبلغ عقولهم.
وقال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء: ما لكم أيها المتصوفة! قد اشتققتم ألفاظاً أغربتم بها على السامعين؟ وخرجتم على اللسان المعتاد! هل هذا إِلا طلب للتمويه؟ أو ستر لعوار المذهب؟
فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إِلا لغيرتنا عليه، لعزته علينا، كيلا يشريها غير طائفتنا. ثم اندفع يقول:
أحسن ما أظهره ونظهره ……بادىء حق للقلوب نَشعره
يخبره عني وعنه أخبره ……أكسوه من رونقه ما يستره
عن جاهل لا يستطيع ينشره ……يفسد معناه إِذا ما يعبره
فلا يطيق اللفظ بل لا يعشره ……ثم يوافي غيره فيخبره
فيظهر الجهل وتبدو زمره ……ويدرس العلم ويعفو أثره(6)
__________
(1) أحمد بن محمد النوري، بغدادي من أقران الجنيد مات سنة: (295هـ)، وترد كنيته في كتبهم أحياناً (أبو الحسن) وأحياناً (أبو الحسين)، وقد اعتمدت الثانية (أبو الحسين) دون تحقق، إذ لا يهمنا ذلك في هذا الكتاب.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف، (ص:146).
(3) إحياء علوم الدين: (1/88).
(4) أبو العباس بن محمد بن عطاء الأدمي البغدادي، من أقران الجنيد، مات سنة: (309هـ).
(5) التعرف، [باب: 65 (ص:146)].
(6) التعرف، [باب: 31 (ص:89)].(78/13)
وأنشدونا أيضاً له(1):
إِذا أهل العبارة ساءلونا ……أجبناهم بأعلام الِإشارة
نشير بها فنجعلها غموضاً ……تقصر عنه ترجمة العبارة
ونَشْهَدها وتُشْهِدُنا سروراً ……له في كل جارحة إِنارة
ترى الأقوال في الأحوال أسرى ……كأسر العارفين ذوي الخسارة
- البادي: ويقال: بادي الحق، والباده(2)، وهو بداية الوارد(3)، والوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني من غير تعمد من العبد(4).
- وقوله: أكسوه من رونقه ما يستره عن جاهل...أي: يكسو الكلام الذي يظهره للناس من الرونق الذي يعجب السامع ما يستر حقيقة السر، لأنه لولم يفعل ذلك، لأخبر الجاهل (أي: غير الصوفي) به غيره، فكان ذلك سبباً لقتل صاحب هذا السر.. وبقتله وقتلهم يزول هذا العلم (الصوفي) ويظهر الجهل به.
- وفي الأبيات التي بعدها:
- أهل العبارة: يعني بها الناس غير الصوفيين الذين يحتاج في خطابهم إِلى العبارة ذات الرونق.
- الأحوال: جمع حال، وهو ما يرد على القلب من طرب وحزن أو بسط وقبض (وغيرها)، وتسمى أيضاً: الوارد(5).
- في البيت الأول والثاني يخبرنا أنه يجيب على السؤال بالِإشارة، ويجعل هذه الِإشارة غامضة! فلِمَ؟!
- في البيت الثالث يخبر عن تلك التي يَشْهدها هو، وتُشهده هي سروراً تستنير له كل جارحة من جوارحه، فما هي هذه التي يَشْهدها، وتُشْهده كل هذا السرور؟؟
__________
(1) عبارة: (وأنشدونا أيضاً له) هي لأبي بكر الكلاباذي مؤلف (التعرف).
(2) الباده وردت في الرسالة القشيرية، حاشية العروسي (2/84).
(3) تعريف البادي من معجم مصطلحات الصوفية مادة (وارد).
(4) تعريف الوارد من معالم الطريق إلى الله: (ص:428).
(5) تعريف الأحوال من معجم مصطلحات الصوفية، مادة (حال).(78/14)
- في البيت الرابع يبين أنه عندما ترد عليه الأحوال- وعلى غيره- تكون الأقوال والكلمات لديهم أسيرة لا يطلقونها بحرية، ويشبهها بالعارفين (أي: الذين بلغوا الغاية من الصوفية) الذين خسروا حريتهم لأنهم باحوا بالسر، فأصبحوا أسرى مكبلين، وكذلك الأقوال.
- فلم كل هذا؟!
ويورد أبو بكر الكلاباذي قي (التعرف) ما يلي(1):
.. وقال غيره في قوله تعالى: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)) [الحاقة:44-45]، أي: لو نطق بالمواجيد على أهل الرسوم، يدل عليه قوله: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، ولم يقل: بلغ ما تعرفنا به إِليك.
- المواجيد: جمع وجد على غير قياس، وهي ثمرات الأوراد(2)، أو الوجد هو غلبة ما كان يبعثه (المتواجد) ويتواجد له على قلبه(3)، وهو يشبه الحال والوارد.
- إنه يفسر الآية كما يلي: (لو نطق بما يجده عندما يرد عليه الحال، على أهل الرسوم، -أي: أهل الشريعة- أو أهل الظاهر، لأخذنا منه باليمين..).
- وطبعاً هذا تفسير ما أنزل الله به من سلطان، ولا عرفه محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وهو هنا يفتري على الله سبحانه أنه يأمر محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكتم سر المواجيد! فما هو هذا السر؟
ويقول الطوسي (صاحب اللمع):
...ولهم في حقيقة التوحيد لسان آخر، وهو لسان الواجدين، وإشاراتهم في ذلك تبعد عن الفهم، ونحن نذكر من ذلك طرقاً كما يمكن شرحه، وهذا العلم أكثره إِشارة لا تخفى على من يكون أهله(4).
ويقول الطوسي نفسه في تعريف (التقية):
__________
(1) التعرف، (باب:65).
(2) حاشية العروسي: (2/46)، الهامش.
(3) حاشية العروسي: (2/43)، ويعرف ابن عربي في (كتاب اصطلاح الصوفية) الوجد بأنه: ما يصادف القلب من الأحوال المغيّبة له عن شهوده.
(4) اللمع، (ص:51).(78/15)
قال قوم: استعمال الأمر والنهي، وقال قوم: ترك الشبهات، وقال قوم: التقية حرم المؤمن كما أن الكعبة حرم مكة، وقال قوم: التقيه نور في القلب يفرق بها بين الحق والباطل(1)...
- هكذا جعلوا التقية مقدسة يتسترون بها. إِذاً: فنحن أمام فرقة باطنية.
ويقول أَبو طالب المكي(2):
...فتفصيل معاني التوحيد من شواهد الناظرين اضيق الضيق، وشهادة الجمع في التفرقة والبقاء قي الفناء أخفى الخفي، وشرح غريب عن الأسماع يُنكر أكثره أكثر من سمعه، غير أَن من له نصيب منه يشهد ما رمزناه، فينكشف له ما غطيناه(3).
- شواهد: جمع شاهد، وهو ما تعطيه المشاهدة(4) من الأثر في قلب المشاهد(5).
- الجمع: إِشارة إِلى حق بلا خلق(6). [لننتبه جيداً إِلى معنى (حق بلا خلق)].
- التفرقة (أو الفرق): وهو إشارة إلى خلق بلا حق، وقيل: مشاهدة العبودية(7)، [هناك الفرق الأول، والفرق الثاني، ولها عندهم تعابير كثيرة، ولننتبه إلى عبارة (خلق بلا حق)].
- الفناء على ثلاث درجات: فناء الظاهر، وهو مسلوبية العبد عن إرادته واختياره بتجلي الحق عليه بصفة الفعالية، وتسمى (فناء الأفعال).
وفناء الباطن: وهو مغلوبية صفاته في سلطنة أنوار الصفات القديمة الأزلية، وتسمى (فناء الصفات).
وفناء سر الباطن، الذي هو ذات العبد، فإِن الأفعال هي حجاب الصفات، فالصفات باطنها؛ والصفات هي حجاب الذات، فالذات باطنها وسرها، ولذا يسمى (فناء الذات)، وهو كناية عن مغلوبية ذات العبد في إِشراق أنوار عظمة الذات وأحديتها(8).
__________
(1) اللمع، (ص:303).
(2) محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، نشأ في مكة ومات في بغداد سنة: (386هـ).
(3) قوت القلوب: (2/81).
(4) أي: مشاهدة الحق (الله).
(5) رسائل ابن عربي (اصطلاح الصوفية).
(6) رسائل ابن عربي.
(7) رسائل ابن عربي.
(8) حاشية العروسي: (2/61).(78/16)
- البقاء: لا بد لصحة العبودية من التنزل عن عالم الجمع إِلى عالم التفرقة، ويقال لهذا: (البقاء)(1).
* ملحوظة: يلاحظ القارىء هنا أن الألغاز تفسر بالألغاز، ويُشرح الغموض بالغموض؟! وذلك لأننا الآن وجهاً لوجه أمام السر الذي يكتمونه.
ويقول أيضاً (أبو طالب المكي):
...وقال الجنيد: (وهؤلاء -أي: الصوفية- هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالى، هم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم، وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون أشياء هي عند العامة كفر بالله تعالى، لما قد علموا أن الله تعالى يحبهم، وأن لهم عند الله جاهاً ومنزلة، ثم قال عن بعض العلماء: أما أهل الأنس بالله تعالى فليس إلى معرفتهم سبيل).. هذا من كلام الجنيد ونحو معناه، حدثني به الخاقاني المقري، ولولا أنا روينا عنه ما ذكرناه، ما كنا نشرح حال هؤلاء إِشفاقاً على الألباب(2)...
- يوهم أبو طالب المكي القارئ أنه لا يشرح حال هؤلاء القوم الذين يتكلمون بأشياء هي الكفر عند العامة- أي: عند أهل الشريعة- إشفاقاً على الألباب، وهذا غير صحيح، فهو لا يشرح خوفاً من السيف، وليس شيئاً آخر.
نعود إِلى ما مر من مصطلحاتهم وألغازهم، ولا بأس من وضع بعض الصور الصغيرة التي قد تساعد على فهم هذه الألغاز، على أن توضيحها الكامل سيأتي في ما يأتي إِن شاء الله.
فالفناء: ويسمى أيضاً: المحو، والسكر، والغيبة، والطي، والحضور بالحق، والجلوة، والإحسان، والجمع.. وكلها أسماء لمسمى واحد، وهو مقام الجمع (وهناك بعض الاختلاف بين مدلول الكلمات)، فالجمع هو الفناء، وضم تعريفيهما إِلى بعضهما يساعد- بعض الشيء- على فهم السر والألغاز.
__________
(1) حاشية العروسي: (2/61).
(2) قوت القلوب: (2/77).(78/17)
أما البقاء: ويسمى أَيضاً: الفرق الثاني، أو الجمع في التفرقة، أو الفرق في الجمع، أو صحو الجمع، أو الِإطلاق.. فهو مقام أعلى من مقام الجمع، يجتمع فيه الفناء مع الصحو، أو الجمع مع الفرق، والاستغراق في مقام البقاء يسمى (جمع الجمع)، وبيت من تائية ابن الفارض قد يلقي أمام القارىء بعض النور، يقول:
ومن (أنا إِياها) إِلى (حيث لا إِلى) ……عرجت وعطرت الوجود برجعتي
في هذا البيت يخبرنا ابن الفارض أَنه بدأ عروجه إِلى الله (سبحانه وتعالى علوًّا كبيراً) من (أنا إِياها) الذي هو مقام الفناء، أو الجمع.. إِلخ، حتى وصل إِلى (حيث لا إِلى) ويكني بذلك عن مقام جمع الجمع.
- الرجاء من القارىء أن ينتبه إِلى كل عبارة، وخاصة (أنا إِياها)، وماذا يعني بـ(إِياها).
ويقول أبو حيان التوحيدي(1) في (رسالة:1):
يا هذا! إِن كنت ثاكلًا فنح على ما أصبت به، وإن كنت مكروباً بالسر فبح، فلعلك تشفي غليلك فيه(2).
* ملحوظة: في هذه الفقرة يذكر التوحيدي أحد الأسباب التي تدفع العارف بالسر إلى إفشائه.
ويقول أيضاً (رسالة كد):
...يا هذا! تجمع عن تفرقك، وتفرق في تجمعك! أتدري ما تفسير هذا اللغز؟
أي: احضر عن غيبتك، وتغيب عن حضورك، هذا أيضاً لغز آخر! أنا أكشف لك بما هو أبين، فتحل منه بما هو أزين؛ معنى ذلك: انف عن سرك الهموم كلها، حتى تنقى من كل دنس يكون في الإنس، ثم اخطب مجلسك من حضرة الحق بقبول ما يجود به لك(3).
__________
(1) علي بن محمد بن العباس، نزيل فارس، بقي إلى سنة: (400هـ) ويمكن أن تكون وفاته سنة: (407هـ).
(2) الإشارات الإلهية، (ص:48).
(3) الإشارات الإلهية، (ص:195).(78/18)
- أنبه إِلى ما يلي: إِنه يستعمل حرف الجر (عن) في العبارة الأولى (تجمع عن تفرقك) بينما يستعمل (في) في العبارة الثانية (تفرق في تجمعك) وذلك لأن- كلمة (تفرّق) تعني (الفرق الأول) الذي هو حالة المحجوبية التي نتخبط فيها نحن المحجوبون؛ فنحن نرى أن الخلق غير الحق! وهذا هو ما يسمونه (الفرق الأول) فهو يطلب الانخلاع عنه بالترقي إِلى مقام الجمع، فيقول: (تجمع عن تفرقك)، بينما في العبارة الثانية: (تفرق في تجمعك) يطلب من الواصل إِلى (الجمع) أن يتحقق بالتفرقة في جمعه، أي: يجمع التفرقة والجمع، وهذا -كما مر معنا- هو مقام (البقاء) أو (الفرق الثاني).
- والفرق الأول هو ما عبر عنه بعد ذلك بـ(الهمهوم كلها).، وبـ(كل دنس يكون فى الإنس)، فالهموم كلها وكل دنس يكون في الإنس: يعني بهما (الفرق الأول)، أو حالة المحجوبية التي نحن المحجوبون فيها.
- السر: في قوله: (انف عن سرك..)، هو حسب اصطلاحهم، لطيفة مودعة في القلب، كالروح في البدن، وهو محل المشاهدة(1) (أَي: مشاهدة الألوهية).
- لاحظنا أنه عبر هنا عن (الفرق الأول) أو حالة المحجوبية التي هي عدم رؤية الحق في الخلق، عبر عنها بـ(الهموم والدنس)، وقد يعبرون عنها أيضاً بـ(الصفات الذميمة، أو الردية)، و(الأفعال الذميمة، أو الردية)، وما شابه هذه التعابير.
كما يعبرون عن (الجمع) بـ (الصفات الحميدة) أو (الأفعال الحميدة) أو الِإحسان) وما شابه ذلك.
ويقول أبو بكر الكلاباذي(2):
إن للقوم عبارات تفردوا بها، واصطلاحات فيما بينهم، لا يكاد يستعملها غيرهم، نعبر ببعض ما يحضر، ونكشف معانيها بقول وجيز.
__________
(1) معجم مصطلحات الصوفية باختصار.
(2) محمد بن إبراهيم، فارسي، مات سنة: (380هـ) أو (390هـ).(78/19)
وإنما نقصد في ذلك إلى معنى العبارة دون ما تتضمنه العبارة، فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلاً عن الكشف، وأما كنه أحوالهم، فإن العبارة عنها مقصورة، وهي لأربابها مشهورة(1).
- يعني بكلمة (الكشف) هنا: المعنى اللغوي المعروف، لا معناهم الاصطلاحي، أما عبارة (العبارة عنها مقصورة) فسنرى بعد التمرس بأسلوب القوم أنها مغالطة للإيهام، وأن المانع عن كشفها هو الحرف من عقوبة الردّة.
ويقول القشيري(2) (صاحب الرسالة):
...وهذه الطائفة يستعملون ألفاظاً فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر علي من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن يشيع استعمالها في غير أهلها، إِذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معانٍ أودعها الله تعالى قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم(3).
- عبارة غيره منهم على أسرارهم) هي أَيضاً مغالطة، وسنرى أَمثالها كثيراً، إِنها ليست الغيرة، وإنما هو الخوف من السيف (سيف الردة).
ويقول أبو حامد الغزالي (الذي يسمونه حجة الِإسلام)(4):
__________
(1) التعرف، (ص:111).
(2) أبو القاسم، عبد الكريم بن هوازن، مات سنة: (465هـ) في نيسابور.
(3) الرسالة القشيريه، (ص:31).
(4) محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي مات في طوس سنة: (505هـ).(78/20)
...ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: (إِفشاء سر الربوبية كفر)، بل قال سيد الأولين والآخرين: (إِن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إِلا العلماء بالله، فإِذا نطقوا به لم ينكره إِلا أهل الغرّة بالله. ومهما كثر أهل الاغترار، وجب حفظ الأسرار على وجه الِإسرار، لكني أراك(1) مشروح الصدر بالله بالنور، منزه السر عن ظلمات الغرور، فلا أشح عليك في هذا الفن بالِإشارة إِلى لوامع ولوائح، والرمز إِلى حقائق ودقائق، فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إِلى غير أهله.
فمن منح الجهال علماً أضاعه ……ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فاقنع بإِشارات مختصرة، وتلويحات موجزة(2).
* الملحوظات:
أ- يبين (حجة الِإسلام) متى يكتم هذا العلم المكنون؟ ومتى ينشر؟ ولمن؟
ب- يذكر (أهل الغرة بالله)، وأهل (الاغترار الذين يجب حفظ الأسرار عنهم)، و(الجهال...) فمن هم هؤلاء؟ من هم؟
ج- يقول لسائله: (أراك مشروح الصدر بالله بالنور) فما هو هذا النور؟
د- بالعودة إِلى ما سبق من نصوص، نعرف أن الجهال هم أهل الظاهر (أهل الشريعة) وهم هم أهل الغرة بالله؟!
هـ- يشير (حجة الِإسلام) إِلى أن ما سيذكره هو إِشارات إِلى لوامع ولوائح، هو رمز إِلى حقائق يخفيها، هو إشارات مختصرة وتلويحات موجزة؟! فما هي؟
ويقول:
__________
(1) هذا الكلام، بل الكتاب (مشكاة الأنوار) كله هو جواب لسائل سأله.
(2) مقدمة كتاب مشكاة الأنوار.(78/21)
...نعم، قد تختلف الأعصار في كثرة الحاجة وقلتها، فلا يبعد أن يختلف الحكم لذلك، فهذا حكم العقيدة التي تعبد الخلق بها، وحكم طريق النضال عنها وحفظها (يعني بذلك علم الكلام)، فأما إزالة الشبهة وكشف الحقائق، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه، وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة، فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات، والإقبال بالكلية على الله تعالى، وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المحاولات، وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق، وبحسب التعرض، وبحسب قبول المحل، وطهارة القلب، وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولا يبلغ ساحله، فإن قلت: هذا الكلام يشير إلى أن هذه العلوم لها ظواهر وأسرار، وبعضها جلي يبدو أولاً وبعضها خفي يتضح بالمجاهدة والرياضة والطلب والحثيث والفكر الصافي والسر الخالي عن كل شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب، وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع، إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسر وعلن، بل الظاهر والباطن والسر والعلن واحد فيه، فاعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون الذين تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه، فلم يكن لهم ترقّ إلى شأو العلاء، ومقامات العلماء والأولياء(1).
* الملحوظات:
أ- يقول: إن معرفة حقائق الأمور وكشفها، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه (لا كما يعرفها الناس) وإدراك الأسرار، كل هذا لا يعرف إلا بالمجاهدة وقمع الشهوات و..!
فهل يجيز لنا (حجة الإسلام) هنا أن نتساءل: ما هو دور الرسل؟ وما هو دور الشريعة؟
وما هو دور العلم؟! بل ما هي الفائدة من إرسال الرسل؟!
ب- ما الذي كان يمنع محمداً صلى الله عليه وسلم من أن يعلمنا أن الحقيقة لا تعرف إِلا بالمجاهدة وقمع
الشهوات و..، وما هو الخطر الذي كان يخشاهُ صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى جاء هؤلاء العارفون ليعرفونا بهذا السر؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/88).(78/22)
ج- تقريره وتأكيده على وجود الظاهر والباطن، والسر والعلن، وان هذا لا ينكره إلا من عميت بصيرته! فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى البصيرة عندما قال لنا: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك...}(1).
د- ما هي غاية (حجة الإسلام) من تعريضه بـ(الذين تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه..)، وماذا يعني بكلمة (شيئاً) التي تفيد التعميم بكونها اسماً نكرة؟! طبعاً إن من هذا الشيء الذي تلقفوه هو علوم القرآن والسنة (الشريعة).
ويقول أبضاً:
..فإن فلت:.. فإن الباطن إن كان مناقصاً للظاهر ففيه إِبطال الشرع، وهو قول من قال: (إِن الحقيقة خلاف الشريعة، وهو كفر؛ لأن الشريعة عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإِن كان لا يناقضه ولا يخالفه فهو هو، فيزول به الانقسام، ولا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الحفي والجلي واحداً؟ فاعلم أن هذا السؤال يحرك خطباً عظيماً، وينجر إِلى علوم المكاشفة، ويخرج عن مقصود علم المعاملة، وهو غرض هذه الكتب، فإن العقائد التي ذكرناها من أعمال القلب، وقد تعبدنا بتلقينها(2) بالقبول والتصديق بعقد القلب عليها، لا بأَن يُتوصل إِلى أن ينكشف لنا حقائقها، فإِن ذلك لم يكلف به كافة الخلق...وإِنما الكشف الحقيقي هو صفة سر القلب وباطنه، ولكن إِذا أبحر الكلام إِلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر الباطن، فلا بد من كلام وجيز في حله، فمن قال: إِن الحقيقة تخالف الشريعة، أَو الباطن يناقض الظاهر، فهو إِلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان! بل الأسرار التي يختص بها المقربون يدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها، ويمتنعون عن إِفشائها إليهم، ترجع إِلى خمسة أقسام:
__________
(1) سنن ابن ماجة، المقدمة، حديث: (43).
(2) بتلقينها، هكذا في الِإحياء، ولعلها غلطة في النسخ أو الطباعة، ولعل الصحيح هو (بتلقيها).(78/23)
القسم الأول: أَن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه! فيختص بدركه الخواص، وعليهم أن لا يفشوه إِلى غير أَهله، فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أَفهامهم عن الدرك، وإِخفاء سر الروح(1)، وكفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيانه من هذا القسم، فإِن حقيقته تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه.. بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه، ولم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إِلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما، حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إِلى علمهم وقدرتهم، إِذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة، فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة، ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء، لم يفهموه، بل لذة الجماع إِذا ذُكرت للصبي أَو العنين لم يفهمها إِلا بمناسبة إِلى لذة المطعوم الذي يدركه، ولا يكون ذلك فهماً على التحقيق(2).
* الملحوظات:
أ- تقرير «حجة الإِسلام» أَن القول بأن «لا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الخفي والجلي وأحداً»، يحرك خطباً عظيماً! وينجر إِلى علوم المكاشفة.
- وقد عرفنا ما هو الخطب! وسنعرف أيضاً.
ب- تقريره أنهم (أي: الصوفية) تعبدوا الله بتلقيها بالقبول المباشر، قبل أَن ينكشف لهم؛ لأن الكشف لمِ يكلف به كافة الخلق، وهذا الكلام هو عرض فيه إِيحاء للقارئ أَن يتلقى هو أَيضاً هذه العلوم الكشفية بالقبول المباشر، لا بأَن يتوصل إلى أن تنكشف له!
ج- هذه الجملة (الأسرار التي يختص بها المقربون) وما فيها من إيهام وإيحاء مغري!
د- تقريرهُ أَن السر لا يمكن فهمه فهماً صحيحاً بالشرح، ولا يفهم إِلا بالذوق، ويشبهه بلذة الجماع.
__________
(1) إشارة إلى حديث ابن مسعود حين سأله اليهود عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم حتى نزلت الآية، واستعماله في هذا الموضوع هو مغالطة صريحة.
(2) الإحياء: (1/89).(78/24)
ويقول: ...زاد الفلاسفة فأَولوا كل ما ورد في الآخرة، وردوه إِلى آلام عقلية وروحانية، ولذات عقلية، وأَنكروا حشر الأجساد، وقالوا ببقاء النفوس، وأَنها تكون إِما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس؛ وهؤلاء هم المسرفون، وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنورها إلهي، لا بالسماع ثم إذا انكشف لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إِلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أَولوه- فأَما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين موقف...والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة، والقول فيه يطول، فلا نخوض فيه، والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر، وأنه غير مخالف له(1).
* الملحوظات:
1- ماذا يعني بعبارة (جمود الحنابلة)؟ في حدود معرفتي، كان علماء الحنابلة يطلبون دائماً الدليل من القرآن والسنة ويتمسكون به، فهل هذا هو الجمود الذي يعنيه (حجة الِإسلام)؟!
2- تقرير «حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إِلى دار السلام» أن الحق الذي يسميه «حد الاقتصاد» لا يعرف بالسماع والسماع بدهيًّا، يكون من عالم بالقرآن أو عالم بالحديث أَو عالم بالفلسفة...وغيرها. وهؤلاء- طبعاً- أَخذوا علومهم بالسماع من علماء قبلهم، وهؤلاء- حسب قول الغزالي- لا يطلعون على حد الاقتصاد، ولا يمكن أن يعرفوه! إِذاً: فكيف يمكن معرفته؟!
الجواب يقدمه (حجة الِإسلام): لا يطلع عليه إِلا الموفقون الذين يدركون سر الأمور بنور إِلهي (أي: بالكشف)، لا بالسماع! فنسأله: ما هو دور القرآن والحديث؟ ولم أنزلا؟ ونسأل غيره: أليس هذا الكلام هو كفر من جهة، ومحاربة للعلم من جهة ثانية؟!
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/92).(78/25)
3- يقرر (حجة الِإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إِلى دار السلام) أن علم الكشف هو الحق، هو واقع الوجود وحقيقته، بقوله: (إِذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه)، وقوله: (ما شاهدوه بنور اليقين)! وسنرى فيما يأتي أنه مخدوع، وأن كشفه لا يمت إلى اليقين بأي صلة.
4- اعترافه بوضوح كامل وصراحة تامة أنهم لا يأخذون بغير الكشف، وأنهم لا يعترفون بشيء من الشريعة إِلا إِن وافق كشفهم! وما يخالف كشفهم يؤولونه! وهذا يعني بكل جلاء، أنهم يعتبرون الشريعة غير صحيحة، وأنها ليست هي الحق، وأَنها - على الأقل- فيها أخطاء يجب أن تؤوّل لتتفق مع كشفهم!
والسؤال: إِذا لم يكن هذا ضلالًا وزندقة..! فما هو الضلال والزندقة..؟
وقد يقول قائل -وما أكثرهم-: إِنه لا يعني الشريعة بقوله: (السمع والألفاظ الواردة)، فنجيبه:
أ- الفلسفة، لا يحتاجون تأويل نصوصها؛ لأن من أَسهل الأمور أَن يقولوا عنها: إِنها كذب وخطأ وضلال وكفر وأي شيء يريدون، دون أَن يخافوا أحداً أو يخشوا شيئاً، أَما الشريعة فهي التي لا يستطيعون أن يقولوا عنها: إِنها كذب أَو خطأ، أَو يقولوا: فيها شيء من ذلك؛ لأن وراء هذا القول حد الردة، لذلك يستعملون الِإشارة والرمز واللغز ليموّهوا علينا، فيقول قائلهم: (السمع والألفاظ الواردة) بدلًا من (الشريعة)!
ب- الغزالي نفسه يوضح لنا مراده من مثل هذا التعبير في مكان آخر من إِحيائه، يقول: (.. أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إِليه ببصيرة ومشاهدة، فهذا شخص قيده معتقده.. فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة(1)...
إِذن فالغزالي يعني بـ (السمع والألفاظ الواردة) الشريعة الِإسلامية.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/255).(78/26)
5- وقد يأتي متحمس، وقد يحمل شارة علمية ذات اسم أو ذات شكل، ليفور ويثور، ويأتي بنصوص من هنا وهناك، يحاول أَن يثبت له بها الِإمامة والاستقامة! فنجيبه:
أ- هذا أسلوب معروف من أساليب المغالطة.
ب- الجواب عليه ورده واضح في هذه النصوص المنقولة عنهم.
ج- نحن هنا أمام نصوص محددة نناقشها، وموضوع معين ندرسه.
6- بما أن سيف التأويل (السحري) مسلط على رقاب النصوص (من قرآن وحديث)، إذن فلا مخالفة بين الشريعة والكشف! (هذا ما يقرره الحجة)!
- هنا نتقدم -بخشوع صوفي- لنسأل (الإمام، حجة الإسلام، ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام!) لنسأله: ما معنى قوله سبحانه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59]؟
- وهل يا إمام عبارة ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ))، تعني: ردوه إلى الكشف!
- جوابنا لهذا الِإمام ولأتباع هذا الإمام، هو: أِن من يؤمن أن محمداً رسول الله، يقول: إذا خالف القرآن الكشف، ندوس الكشف تحت أقدامنا، ونتبع القرآن الكريم، هذا هو سبيل المسلم.
ويقول أيضاً:(78/27)
...علم المكاشفة -وهو علم الباطن- وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله...وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئاً...وهو علم الصديقين والمقربين (أعني: علم المكاشفة) فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة(1)، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها، فيتوهم لها معانٍ مجملة، غير متضحة، فيتضح إِذ ذاك، حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمه في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين، وكيفية معاداة الشياطين للِإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إِليهم، والمعرفة بملكوت السماوات والأرض، ومعرفة القلب، وكيف تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار، وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى: ((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)) [الإسراء:14]. ومعنى لقاء الله عز وجل، والنظر إِلى وجهه الكريم، ومعنى القرب منه والنزول في جواره...إِذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بها مقامات شتى، فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة.. وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل...فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور إيضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه، وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرآة عن هذه الخبائث
__________
(1) مرّ معنا قبل صفحات معنى عبارة: (صفاته المذمومة).(78/28)
التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله.. ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها(1)...
* الملحوظات:
أ- علم المكاشفة هو علم الباطن، وهو غاية العلوم.
ب- يجب التصديق به والتسليم لأهله.
ج- هو علم الصديقين والمقربين:
وعلينا أن نلاحظ ما في الفقرتين (ب، ج) من إيحاء براق وجذاب! كما علينا أن ننتبه إلى تزكيتهم أنفسهم (صديقون ومقربون) بالرغم من الآيات الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49-50] و((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) [النجم:32] و((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9].
د- يلقي الغزالي هنا بصيص نور على السر الذي يكتمونه (نور يظهر في القلب، تتضح به المعرفة بذات الله وبصفاته التامات، حتى أن (بعضهم يدعي أموراً عظيمة)، وتتضح أيضاً معرفة معنى النظر إلى وجهه الكريم)...
وعلينا أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (المعرفة بذات الله)، وهي بقية العبارات جزء يسير من السر سمح لنفسه أن يسطره في هذه الفقرات، فهذا الخيط إذا أمسكناه فسنصل إِلى السر.
هـ- تسميته للحجاب عن الله سبحانه بـ(قاذورات الدنيا والخبائث)، ومر معنا في نص سابق تسميته له بـ(الصفات المذمومة)، وعرفنا من قول أبي حيان التوحيدي، أن هذه إِشارات ورموز يعنون بها (الفرق الأول) وسنعرف فيما بعد ما هو (الفرق الأول).
__________
(1) الإحياء: (1/18).(78/29)
ويقول: ...وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق، حيث قرأ قوله تعالى: ((يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)) [الطلاق:12]، فقال: لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني، وفي لفظ آخر: لقلتم: إِنه كافر(1).
- وطبعاً ابن عباس بريء من هذه الضلالات والهذيانات.
ويقول أَيضاً:
...فاعلم أَن هذا قرع باب من المعارف، وهي أعلى من علوم المعاملة، ولكنا نشير منها إِلى ملامح، ونقول: هاهنا نظران: نظر بعين التوحيد المحض، وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأَنه المشكور، وأنه المحب وأَنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، وأن كل شيء هالك إِلا وجهه، وأن ذلك صدق في كل حال أزلاً وأبداً؛ لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام، ومثل هذا الغير لا وجود له، بل هو محال أن يوجد، إِذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه، وما ليس له بنفسه قوام، فليس له بنفسه وجود، بل هو قائم بغيره، فهو موجود بغيره، فإِن اعتبر ذاته ولم يلتفت إِلى غيره لم يكن له وجود ألبتة، وإنما الموجود هو القائم بنفسه، والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً، فإِن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره، فهو قيوم، ولا قيوم إِلا واحد، ولا يتصور أن يكون غير ذلك.. فإِذا ليس في الوجود غير الحي القيوم، وهو الواحد الصمد، فإِذا نظرت من هذا المقام، عرفت أن الكل منه مصدره، وإليه مرجعه، فهو الشاكر وهو المشكور، وهو المحب وهو المحبوب(2)...
* ما يجب أَن نلاحظه:
__________
(1) الإحياء: (4/85).
(2) الإحياء: (4/74).(78/30)
أ- في هذا النص كشف الغزالي حجاباً آخر عن السر المصون، ومع ذلك فهو يشير إِلى ملامح منه، وقد سمى السر هنا (التوحيد المحض) (وهذا النظر بعين التوحيد المحض يعرفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب بل وأنه ليس في الوجود غيره)، (وأخيراً صرح بالسر المصون، فغدا السر غير مصون)، ومع هذا التصريح فقد لا يكون القارىء قد عرف هذا السر بعد.
ب- بعد التصريح بالسر (ليس في الوجود غيره)، هذا التصريح الذي قد يجرد عليه السيوف، بدأ الغزالي يلوك بأُسلوب علم الكلام، ليبعد به شبح ما بعد التكفير، ثم يعي ليقرر من جديد: (فإِذاً ليس في الوجود غير الحي القيوم...الكل منه مصدره، وإِليه مرجعه..).
- وهكذا نكون الآن قاب قوسين أَو أَدنى من معرفة نور اليقين.(78/31)
ويقول: ...الفريق الثاني ليس بهم عمى، ولكن بهم عور؛ لأنهم يبصرون بإِحدى العينين وجود الموجود الحق، فلا ينكرونه، والعين الأخرى إِن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق، فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى، وهذا مشرك تحقيقاً...فإِن جاوز حد العمى إِلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين، فأَثبت عبداً وربًّا، فبهذا القدر من إِثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد، ثم إِن كحل بصره بما يزيد في أنواره، فيقل عمشه، وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أَثبته سوى الله تعالى، فإِن بقي في سلوكه كذلك، فلا يزال يفضي به النقصان إِلى المحو، فينمحي عن رؤية ما سوى الله، فلا يرى إِلا اللّه، فيكون قد بلغ كمال التوحيد، وحيث ادرك نقصاً في وجود ما سوى اللّه تعالى دخل في أوائل التوحيد...وترجمته قول: (لا إِله إِلا الله)، ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق، والواصلون إِلى كمال التوحيد هم الأقلون...إذ عبدة الأوثان ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]، فكانوا داخلين في أوائل أَبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً(1).
* الملحوظات:
لا بأس الآن من إِضافة فقرة متممة للنص، أفردتها عنه لأن لها قيمة خاصة، يقول: (.. وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال، فتلوح له حقائق التوحيد، ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت، وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم، والدوام فيه عزيز).
- هذه صورة مما يحدث عندما يبلغ السالك إِلى ما يسمونه: (الفناء في الله أَو الجمع..)، ستفيدنا فيما بعد.
__________
(1) الإحياء: (4/75).(78/32)
ويقول: ...فإِن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إِفشاء سر الربوبية كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم ذكر ما يكسر سورة استعبادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهد والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد، إذ نقول: إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه، وتفصيل روحه وجسده وأعضائه. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقه، فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان، وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً.(78/33)
ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه، وتؤمن به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إِنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإِن لم يكن ما آمنت به صفتك، كما أَنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبيًّا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إِلا الواحد الحق تارةً تدوم وتارةً تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز، وإِلى هذا أَشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال: في ماذا أَنت؟ فقال: أَدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل، وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أَفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخوّاص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع، فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الِإجمال...أَما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنيًّا عليه(1)...
* الملحوظات على النصين الأخيرين:
أ- في النص الأول، قوله: (فأَثبت موجوداً مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً)، يقرر فيه بأسلوب فيه رونق، أَن من يرى أَن هذه المخلوقات هي شيء غير الله تعالى فهو مشرك تحقيقاً.
- أي إنه -آخر الأمر- شرح لنا ما هو السر، ولكن بأسلوب فيه شيء من الزحلقة للقارىء.
- وفي النص الثاني يرد على شبهة من يقول: كيف لا يشاهد إلا واحداً مع وجود السماوات والأرض؟.. ويقرر أَن هذا هو علم الكشف، وبالتالي هو السر الذي لا يجوز أَن يسطر في كتاب.
- ومع ذلك فقد سطر ما يفشي هذا السر إلى غير أَهله! ثم يقدم مثلاً يعين على فهم هذا الأمر (أي: رؤية الواحد في الكثرة).
ب- قوله: (فلا يرى إلا الله، أَي: لا يرى في هذا الكون في كل ما يراه من المرئيات إِلا الله، فيكون قد بلغ كمال التوحيد.
__________
(1) الإِحياء: (4/213).(78/34)
- وفي النص الثاني، يوضح أَكثر فأَكثر، فيقول: (وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات...فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد..).
- إِذاً: فالخالق والمخلوق هما واحد، أو هما وحدة... وهكذا، وضح لنا السر أخيراً، إِنه (وحدة الوجود)، وما أدراك ما وحدة الوجود؟!
ج- في النص الأول يقرر أن عبدة الأوثان داخلون في أوائل التوحيد دخولاً ضعيفاً.
- فأسال: إِن لم يكن هذا هو الكفر والزندفة، فما هو الكفر والزندقة؟
- وأُنبه إِلى أن القارىء الكريم عندما يمتلك ناصية العبارة الصوفية سيعرف أن معنى جملة الغزالي هو أن عبدة الأوثان دخلوا في التوحيد عندما عبدوا الوثن (لأنه جزء من الله) وكان دخولهم ضعيفاً عندما قالوا: ((...لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) ؛ لأن هذا القول هو تفريق بين الخالق والمخلوق، وهو عكس التوحيد، ولو كانوا داخلين في التوحيد دخولاً كاملاً لقالوا- عن إِيمان وعقيدة-: إِنهم يعبدون الله بعبادتهم للصنم؛ لأنه جزء من الله.
د- أطلب من القارىء الكريم أن يقرأ النصين الأخيرين بتعمق ويكرر قراءتهما حتى يستوعبهما جيّداً، ففي هذا تسهيل كبير لفهم كل نصوصهم، وفهم سرهم.
وهذه نصوص إضافية لـ(حجة الإسلام) أوردها دون تعليق:
يقول: ...والرابعة أن لا يرى في الوجود إِلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إِلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً في التوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق(1).
__________
(1) الإحياء: (4/212).(78/35)
ويقول: من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إِلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إِلا الله تعالى، وأن ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، ولا يتصور إلا كذلك...فإذن لا موجود إِلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إِلا وجهه أزلاً وأبداً...ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أَكبر) أَنه أَكبر من غيره، حاشا لله، إِذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه(1)...
ويقول: العارفون بعد العروج إِلى سماء الحقيقة اتفقوا على أَنهم لم يروا في الوجود إِلا الواحد الحق(2)...
- وأختم هذه الجرعة الضئيلة من بحر أقوال الغزالي في هذا الموضوع بنتف من تائيته؛ يقول:
إِذا كان قد صح الخلاف فواجب ……على كل ذي عقل لزوم التقية(3)
وهل أنا إِلا أنت ذاتاً ووحدة ……وهل أَنت إِلا نفسي عين هويتي
كأني لم أحجب بها وكأنما هي ……احتجبت بي فازدهى الناس عشقتي
فدِِنْتُ بأمر حرمته شريعتي ……وأَحييتُ حكماً قد أَماتته سنتي(4)
تسترتُ جهدي في هواك وطاقتي ……فلما مُنِعْتُ الصبر أَبديت صفحتي
فأعلنتُ ما أسررتَ فيّ فلم يكن ……بقولٍ ولا فعلٍ سواك فضيحتي
وقد كان لي في الصبر ستر على الهوى ……بهتكك ستر الصبر أَبديت عورتي(5)
يكِلُّ لساني عن صفاتي وإِنما ……يُعبر عني أَنني ذاتُ وحدة(6)
- لا بأس من التنبيه إِلى فكرة (لزوم التقية) في البيت الأول، حيث نعرف أَننا أَمام (فرقة باطنية) ترى لزوم التقية، وقد مر هذا، وهي ملحوظة هامة جدًّا جدًّا.
__________
(1) مشكاة الأنوار (حقيقة الحقائق)، (ص:55).
(2) مشكاة الأنوار (إشارة) (ص:57).
(3) النفحات الغزالية، (ص:149).
(4) النفحات الغزالية، (ص:173)، والأبيات ليست متتابعة في القصيدة.
(5) النفحات الغزالية، (ص:169).
(6) النفحات الغزالية، (ص:170).(78/36)
ويجب أَن أَعود فأنبه في أقوال الغزالي إلى ما يلي:
1- اعتبار الغزالي أَن كشفهم ومشاهدتهم هو الحق والحقيقة والصدق، وإليه يجب أَن يرجع في كل الأمور، حتى القرآن الكريم والسنة يجب أن يعرضا عليه ليحكم في صحتهما، فهذا إِن لم يكن كفراً وزندقة، فما هو الكفر والزندقة؟!
2- نفهم من هذا أَنه- وأَنهم- لا يرون القرآن حقًّا؛ لأنهم يؤولون منه ما خالف الكشف.
مع العلم أَن الِإيمان بالقرآن يقتضي نبذ كل ما يخالفه؛ لأنه كفر وزندقة، وهذا واضح.
3- علم المكاشفة عنده هو علم الصديقين والمقربين!! فأين ذهب القرآن وصحيح السنة؟!
4- ليس في الوجود غير الله، وكما يعلم كل من في بصيرته ذرة من عقل أو إيمان أن الكون موجود أوجده الله، ولكن عند الغزالي -وعندهم- الكون هو الله، (ما الكون إِلا القيوم الحي) وهي وحدة الوجود.
5- يقرر (حجة الإسلام) أن من يثبت موجوداً آخر مع الله، أي: (من يقول: إِن المخلوقات هي غير الله) هو مشرك تحقيقاً!!
- سبحان الله! ما هو هذا الكشف القريب العجيب!!! إِننا نقرأ في كتاب الله مثلاً: ((إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) [البقرة:173]، وواضح حتى للأغبياء أن عبارة (غير الله) تعني: الأوثان والقبور والأولياء وغيرهم، وكل هؤلاء مخلوقات. إِذاً: فالقرآن يقرر بوضوح كامل أن المخلوق غير الخالق، فنسأل (الحجة)، وأتباع الحجة، والمخدوعين بالحجة: هل القرآن شرك؟ أم الذين يخالفون القرآن هم المشركون؟ والضالون المضلون؟ والزنادقة الكفرة المارقون؟
6- كلمة (التوحيد) يعني - ويعنون - بها (وحدة الوجود) وحيثما وردت في كلامهم فهذا هو معناها.
7- يقرر أن عابد الأصنام داخل في أوائل التوحيد.
8- تقريره أن وحدة الوجود هي مشاهدة الصديقين (والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحداً وهي مشاهدة الصديقين)!!
9- تقريره لزوم التقية! فلِمَ؟؟ وعلامَ؟؟ وفيم؟؟(78/37)
10- حكم وحدة الوجود في القرآن الكريم سنراه فيما يأتي.
11- هذه الأقوال للغزالي، وهي جزء صغير جدًّا من فيضه، هي من كتابه المشهور، بل المقدس، والمسمى (إِحياء علوم الدين)، كلها عنه إلا نصين، ومع ذلك فيسمى صاحبه (حجة الإسلام) ويتخذ الكتاب مرجعاً رئيسياً عند غالبية المسلمين؟! فإنا لله وإنا إِليه راجعون.
12- للغزالي كتب كثيرة يذكر فيها العلم (المضنون به على غير أهله) لم أتطرق إليها؟ لأن كتاب الِإحياء فيه الكفاية والشهرة، وهو ثقة عند القوم، وعند غير القوم.
13- أنبه بشكل خاص إلى قوله في تائيته: (فدنت بأمر حرمته شريعتي وأحييت حكماً قد أماتته سنتي)، الذي نفهم منها أنهم يعرفون تماماً أن الصوفية تناقض الإسلام، كما يعترف بالشطر الثاني أن الِإسلام أماتها، فجاء هو وأحياها؟! كما يُفهم من هذا الكلام أنها كانت موجودة قبل الِإسلام.
- وننتقل إِلى غيره، لنعود إِلى التواصي بالكتمان، ونرى صوراً من العبارة التي يستعملونها:
يقول عبد القادر الجيلاني(1) (قطب الأولياء الكرام):
...هم (أي: الواصلون) أبداً في سرادق القرب، فإِذا جاءتْ نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم، إِذا جاءت نوبة الخروج كانوا على الباب يأخذون القصص من الخلق يصيرون وسائط بينهم وبين الحق عز وجل، هذه أحوالهم، ولكن من الحال ما يكتم(2).
* ما يجب الانتباه إليه:
1- الواصلون (في سرادق القرب): واضح أنه القرب من الله، و(كانوا في صحن الحكم): واضح أنه الحكم في الكون، أو التصرف! وهذا هو مقام الغوثية وهو- كما يعرف كل من قرأ القرآن وفهمه- أنه (أي: القول بالتصرف) من الشرك الأعظم؛ لأنه سبحانه يقول: ((..وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26].
__________
(1) أبو محمد محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى جنكي دوست، ولد في جيلان عام (470)، وعاش في بغداد، وتوفي فيها عام (561هـ).
(2) الفتح الرباني، (ص:200).(78/38)
2- في نوبة الخروج يكونون على الباب وسائط بين الخلق والحق، وهذا أسلوب آخر في التعبير عن مقام (الفرق الثاني) أترك تحليله للقارىء.
3- مع ما في قوله من الشرك العظيم، فهو يقول: (ولكن من الحال ما يكتم)، فما هو هذا الحال الذي يكتم؟! وهل هناك ما هو أعظم من الشرك (كانوا في صحن الحكم)؟!
- في الواقع نحن الآن نعرف الجواب ومع ذلك نكرر السؤال! ما هو؟
- كما يحق لنا -منذ الآن- أن نعرف أن سيف التأويل صقيل صقيل، طويل طويل، لفاف دوار!
ويقول أيضاً (سلطان الأولياء):
...فهكذا العارف، الخلق جميعهم كالأولاد، يخاطب الخلق بلسان الحكم، ثم يرحمهم لاطلاعهم على العلم، فيرى أفعال الحق عز وجل فيهم، ينظر إِلى خروج الأقضية والأقدار من باب الحكم والعلم، ولكنه يكتم ذلك ويخاطب الخلق بالحكم الذي هو الأمر والنهي، ولا يخاطبهم بالعلم الذي هو السر(1).
ويقول: ...حتى إِذا رأيت موارد الحق إِلى قلبك، غمض عينيك وأخبت، لا تفش إِلى الغير سره، وارد الحق يأتي قلوبهم، على اختلاف أحوالهم ومقاماتهم تتغير ظواهرهم لتغير بواطنهم، ويحتاج المريد المطلع على أسرارهم أن يكون أعمى أصم سكران، حتى إِذا ظهرت نجابته عنده، وتحقق أدبه، يكتم سره، لعله يكسو قلبه ببعض ثيابه، يدعو الله بظاهره(2).
- نكرر السؤال رغم معرفة الجواب: ماهو السر الذي يكتمه؟؟
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:225).
(2) الفتح الرباني، (ص:362).(78/39)
ويقول: ...ليس الخبر كالمعاينة، فحينئذٍ تكون من أمرك على بيضاء نقية لاغبار عليها ولا تلبيس ولاتخليط ولا شك ولا ارتياب، فالصبر الصبر، والرضا الرضا، حفظ الحال حفظ الحال، الخمول الخمول، الخمود الخمود، السكوت السكوت، الصموت الصموت، الحذر الحذر، النجا النجا، الوحا الوحا، الله الله ثم الله، الإطراق الإطراق، الإغماض الإغماض، الحياء الحياء، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فيؤخذ بيدك، فتقدم وينزع عنك ما عليك، ثم تغوص في بحار الفضائل والمنن والرحمة، ثم تخرج منها فتخلع عليك خلع الأنوار والأسرار والعلوم والغرائب اللدنية، ثم تقرب وتحدث فيه بإعلام وإلهام وتكلم وتعطي(1)...
* ملحوظة: نحن -مع عبد القادر الجيلاني- أمام القمة في الأسلوب الإشاري الرمزي.
ففي هذا النص الأخير مثلاً، يريد أن يقول: الكشف هو الحقيقة التي لا شك فيها، ويحتاج إلى الصبر على المجاهدة مع الرضا وحفظ السر، حتى إذا وصل السالك تخلع عليه الأنوار ويعطى العلوم اللدنية، ويرى أشياء كثيرة ويسمع.
وللقارئ أن يحلل النص بنفسه.
ومما ينسب إليه (وهي في الحقيقة لابن عربي):
أنا القرآن والسبعُ المثاني ……وروحُ الروحِ لا روح الأواني
وغُصْ في بحر ذات الذات تنظرْ ……معاني ما تبدّتْ للعيانِ
وأسراري قراءةٌ مبهماتٍ ……مسترةٌ بأرواح المعاني
فمن فهِمَ الإشارةَ فلْيَصُنْها ……وإلا سوف يُقتل بالسّنان
كحلاج المحبة إذا تبدَّت ……له شمسُ الحقيقة بالتّداني
وقال أنا هو الحقُّ الذي لا ……يُغير ذاتَه مرُّ الزمان(2)
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:63، 64).
(2) فتوح الغيب، (ص:230)، وقد أورد ابن عربي هذه القصيدة في (كتاب الإسرا) في (باب سفر القلب) كما أورد أبياتاً منها في مقدمة الفتوحات المكية مع التصريح بأنها له، وقد أورد البيت (وأسراراً تراءت مبهمات) بدلاً من (وأسراري قراءة مبهمات)..(78/40)
- ما أنبه إِليه هو قوله: (كحلاج المحبة) الذي يدل على أن قائل القصيدة يؤمن بعقيدة الحلاج، وكذلك أهل الطريقة القادرية؛ لأنهم يتبنون هذه القصيدة، وكذلك توضيحه لسبب الكتمان (وإلا سوف يقتل بالسنان).
ويقول أحمد الرفاعي الغوث(1):
...أي علي! كل القوم شربوها فحكمت عليهم، فعربدوا وباحوا، وخالك شربها فحكم عليها، فكتم حبه، وأخفى وجده، فظهر بكتمانه على أقرانه، وارتفع بكتمان حُبه عند حبه على صحبه. أي: علي! عليك بكتمان الأسرار، تنال الفخار(2).
- يريد بقوله: (شربوها)، أي: شربوا الخمرة الإلهية، وهي إِشارة إِلى التحقق بالألوهية وما يصاحبه من لذة.
ويقول: أي سادة! من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة، فينبغي أن يحفظ أدب كلامه، فلا يكشف وثائقه إلا عند أهله، وأن لا يحفل المريد فوق طاقته، ولا يمنع كلامه من كان من أهله، ويكون كلامه مع أهل المعرفة بلسان المعرفة، ومع أهل الصفاء بلسان المحبة، ومع أهل الزهد بلسانهم، ومع كل صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم وقدر عقولهم، فإن الله تعالى جعل للعارف هذه الألسن، نعم كلها تتلاشى عند ظهور سلطان الحق، وينبغي ألا يتحدث بحديث لا يبلغ عقل المستمع إِليه، فيكون ذلك فتنة، فإِن أكثر الناس جاهلون، اشتغلوا بعلوم الظواهر، وتركوا علم تصحيح الضمائر، فلا يحتملون دقائق كلام العارفين؛ لأن كلماتهم لاهوتية، وإشاراتهم قدسية، وعباراتهم أزلية...وأي دهشة أشد من دهشة العارف، إِن تكلم عن حاله هلك، وإن سكت احترق(3)...
__________
(1) أحمد محيي الدين أبو العباس الرفاعي ولد وعاش في أم عبيدة (كسفينة) من أعمال واسط بالعراق، وتوفي فيها عام (578هـ).
(2) قلادة الجواهر (ص:83)، وعلي هذا هو علي بن عثمان ابن أخت الشيخ أحمد، وهو صاحب كتاب (السر الجلالي والمقامات والمعالي).
(3) أعلام التصوف الإسلامي لأحمد أبو كف (ص:26، 27).(78/41)
- أقول: الكلام واضح جدًّا، لا يحتاج إِلى شرح (الكتمان عن غير أهله، والبوح به لأهله.. مع وصف إِشاري للسر).
ويقول:
ومستخبر عن سر ليلى تركتُه ……بعمياءَ من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينُها ……وما أنا إِن أخبرتهُم بأمينِ(1)
- نلاحظ أنه يشير إِلى ما يكتمه بالاسم المؤنث (ليلى).
ويقول:
ولما شربناها ودبّ دبيبُها ……إِلى معدنِ الأسرارِ قلت لها قفي
مخافةً أن يسطو عليَّ مدامها ……فتظهرَ جُلاسي على سريَ الخفي(2)
- إِذن هناك سر خفي يكتمه، ويتحدث بكتمانه تعليماً لمريديه، ويرمز بالمدامة التي شربها إِلى الجذبة ولذتها.
ويقول:
يسقي ويشربُ لا تلهيه سكرتُه ……عن النديم ولا يلهيو عن الكاسِ
أطاعهُ سكرُه حتى تمكَّنَ من ……حال الصّحاة وهذا أعظمُ الناس(3)
ونعرف طبعاً أن السكر هو مقام الفناء، أو هو لذة الشعور بالألوهية.
ويقول: ...فإِذا أتقن السالك معرفة هذه الآداب اللازمة المطلوبة منه في حق مرشده علماً وعملاً، فحينئذ يلزم عليه أن يدخل باب القوم -رضي الله عنهم- بفناء النفس والِإعراض عن الدنيا بالكلية، والِإعراض عن الخلق-.. وعدم التفاخر وترك الدعوى وستر الأحوال وكتمان الأسرار(4)...
وطبعاً، نعرف الآن ماذا يعني بقوله: (بفناء النفس والأعراض عن الدنيا...).
ويقول: ...أعلم أن المدَّاح الذي يمدح بمجلس الفقراء بغير طمع...يكون له من الفقر سبعة قراريط، بشرط أن يكون مداحاً بالحقيقة...ولهذا الشرط في المعنى شروطاً: الأول: أن يكون فقير اً...السادس: أن يكون أمين الخزائن السرية، أي: أميناً على الأسرار فلا يكون مبيحاً بالسر(5).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:226).
(2) قلادة الجواهر، (ص:227).
(3) قلادة الجواهر، (ص:227). في كتاب (بهجة الأسرار ومعدن الأنوار)، (ص:117) يعزى البيتان للشيخ سيف الدين قاضي القضاة أبي صالح؟؟.
(4) قلادة الجواهر، (ص:279).
(5) قلادة الجواهر، (ص:279).(78/42)
- ولا أظننا -منذُ الآن- بحاجة للتعليق على النصوص، فقد أصبحت واضحة المعاني لمن درس النصوص السابقة بإِمعان.
- ويقول أبو مدين المغربي(1) (الغوث):
وفي السر أسرار دِقاق لطيفةٌ ……تُراقُ دِمانا جَهْرة لو بها بُحنا(2)
ويورد عبد الحليم محمود (الدكتور، شيخ الجامع الأزهر)(3):
قيل له: (أي: لأبي مدين) مرة في المنام: حقيقة سرك في توحيدك؟
فقال: سري مسرور بأسرار تستمد من البحار الإلهية التي لا ينبغي بثها لغير أهلها، إِذ الِإشارة تعجز عن وصفها، وأبت الغيرة الِإلهية إِلا أن تسترها، وهي أسرار محيطة بالوجود لا يدركها إِلا من كان وطنه مفقوداً، وكان في عالم الحقيقة بسره موجوداً، يتقلب في الحياة الأبدية، وهو بسره طائر في فضاء الملكوت، وشرح في سرادقات الجبروت، وقد تخلق بالأسماء والصفات، وفني عنها بمشاهدة الذات...وكشف لي عن مكنون التحقيق، فحياتي قائمة بالوحدانية، وإشاراتي إِلى الفردانية(4)...
- يلاحظ هنا أن الكلام منامي! رؤيا رآها أحدهم!! ولكن نحن ماذا علينا؟ فقد رواه في كتابه الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر!! كما يجب أن ننتبه إلى عبارة: (وإشاراتي إلى الفردانية).
ويورد أيضاً أن ابن عربي يقول:
شيخنا أَبو مدين، من الثمانية عشرنفساً الظاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله في الأكوان(5).
__________
(1) أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من (حصن قطنيانة) قرية تابعة لِإشبيلية في الأندلس، هاجر إلى
بجاية صغيراً، وعاش فيها، وتوفي في (العباد) خارج تلمسان عام: (594هـ) وقيل قبل ذلك.
(2) الفتوحات الِإلهية، (ص:45)، وهي من قصيدة أولها:
تضيق بنا الدنيا إذا غبتمو عنا ……وتزهق بالأشواق أرواحنا منا
أوردها عبد الحليم محمود في كتابه (أبو مدين الغوث) حاذفاً منها هذا البيت؟؟!!.
(3) من أكبر مشايخ الصوفية في مصر، توفي منذ سنوات قليلة.
(4) كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:130).
(5) أبو مدين الغوث، (ص:124).(78/43)
ويورد أيضاً ما يلي (على لسان ابن عربي أيضاً):
ذهبت (المتكلم هو ابن عربي) أنا وبعض الأبدال إِلى جبل قاف، فمررنا بالحية المحدقة به، فقال لي البدل: سلم عليها فإِنها سترد عليك السلام، فسلمنا عليها فردت، ثم قالت: من أي البلاد؟
فقلنا: من بجاية(1).
فقالت: ما حال أبي مدين مع أهلها؟
فقلنا لها: يرمونه بالزندقة.
فقالت: عجباً والله لبني آدم(2)!
- ويقول عمر بن الفارض(3):
فلاحٍ وواشٍ ذاك يُهدي لعزةٍ ……ضلالًا وذا بي ظل يَهذي لِغرةِ
أخالف ذا في لومه عن تقىً ……كما أخالف ذا في لؤمه عن تقية(4)
- يجب أن ننتبه في البيت الثاني إِلى فكرة (التقية) ومع من يستعملها؟
ويقول:
ولي في الهوى علم تجل صفاته ……ومن لم يفقَهْ الهوى فهو في جهل
ومن لم يكن في عزة النفس تائهاً ……بحبِّ الذي يهوى فبَشِّرْهُ بالذُّلّ
إذا جادَ أقوامٌ بمال رأيتهم ……يجودون بالأرواح منهم بلا بخل
وإن أودِعوا سراً رأيت صدورهم ……قبوراً لأسرار تُنزه عن نقل(5)
ويقول:
وثَم أمورٌ تمّ لي كشفُ سرْها ……بصحو مفيقٍ عن سواي تغطّتِ
وعنيَ بالتلويح يفهم ذائقٌ ……غنيٌّ عن التصريحِ للمتعنت
بها لم يبح من لم يُبح دمه ……وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت(6)
- ما يجب أن ننتبه إليه في أقوال ابن الفارض هنا، هو كلمة (الهوى) في قوله: ولي في الهوى علم تجل صفاته...وإلى ماذا تشير؟
إِن تحليلاً لهذه العبارة (الإشارية) يقدم مساعدة جديدة في فهم إِشاراتهم ورموزهم، نحن نعلم أن الهوى أو العشق -كائناً ما كان- ليس فيه علم ولا فقه، فما هو هذا الهوى الذي يعلِّم ويفقّه؟!
__________
(1) مدينة جزائرية على ساحل البحر الأبيض.
(2) أبو مدين الغوث، (ص:123).
(3) ولد وعاشر في القاهرة ثم هاجر إلى مكة وبقي فيها (15) عاماً، ثم عاد إلى القاهرة وتوفي فيها عام: (632هـ).
(4) التائية الكبرى، الديوان، (ص:23).
(5) ديوان ابن الفارض، (ص:91).
(6) التائية الكبرى.(78/44)
من البدهي أنه يعني بالهوى هنا، هوى الذات الإلهية، ونريد أن نقفز فوق فصول الكتاب، لنوضح هذه الِإشارة، رغم أن مكان التوضيح هو في ما يأتي من الفصول.
في الحقيقة والواقع أن هذا الهوى هو هوىً لتلك اللذة العارمة التي يذوقونها في (الجلوة) أو (الجذبة)، ففي الجذبة يغدون في حالة لا يرون فيها الأجسام كما هي، فقد يرونها أشباحاً شاحبة يتخللها نور قد يكون باهتاً وقد يكون قوًّيا طاغياً، وقد تضمحل هذه الأشباح والرؤى فلا يرى أَمامه إِلا أبعاداً شفافة، وقد يرى مناظر مختلفة، وقد يرى نفسه شفافاً مندمجاً في وجود شفاف، ويفسر هذا حسب الِإيحاءات الشيخية أنه فناءً في الله (جل وعلا) وما شابه ذلك.
وهم يظنون أَن هذا النور الذي يشاهدونه في كل شيء، وفي ذواتهم، هو الله ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))، والحق أن هذه الحالة تشبه بدقة حالة التحشيش والأفينة! وفي هذه المشاهدة قد يسمعون كلاماً، أو يرون أشياء، يظنونها علماً، وهو ما يسمونه (العلم اللدني) وسنرى فيما بعد أمثلة من هذا العلم (اللدني).
إِن الهوى أَو العشق، للخمرة الِإلهية -كما يسمونها- هو الذي يدفعهم إِلى الرياضة والمجاهدة من أَجل (الوصول إِلى الجذبة)، ويسمون ذلك (الوصول إِلى الله، أَو العروج إِلى الله) حيث يتلقون العلم اللدني.
- إِذن: فهذا الهوى هو الذي قادهم إِلى الجذبة فالعلم، ومن هنا كانت إِشارة ابن الفارض.
فهو يرمز بكلمة (الهرى) إِلى ما يقود إِليه الهوىَ، وهو الجذبة، أَو الفناء في الله (بل الصحيح هو اللذة التي يجدونها والتي تستغرقهم حتى الإمناء).
ويقول السّهروردي المقتول(1):
بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم ……وكذا دماء البائحين تباح(2)
__________
(1) شهاب الدين، يحيى بن حبش، قتل بحلب عام: (587هـ).
(2) التصوف في الإسلام لعمر فروخ، (ص:115)..(78/45)
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي(1):
.. فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معانٍ يعرفونها وتعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف، حتى صار ذلك رسماً مستمراً وخبراً مستقراً في كل عصر وزمان(2).
ويقول:.. وربما يتراءى له أنه بالله يصول وبالله يقول وبالله يتحرك، فقد ابتلى بنهضة النفس ووثوبها، ولا يقع هذا الاشتباه إلا لأرباب القلوب وأرباب الأحوال، وغير أرباب القلب والحال عن هذا بمعزل، وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص دون العوام فاعلم ذلك(3).
* ملحوظة:
- الأسلوب الِإشاري في القمة، يشبه أسلوب عبد القادر الجيلاني، أو يفوقه، ولا غرو فقد تخرج في مدرسته، انظر إِلى قوله: (بالله يصول، وبالله يقول، وبالله يتحرك) حيث يمكن تفسيره بتفسير ظاهر لا غبار عليه، وآخر باطن هو ما يريده ويرمز إِليه، ومن السهل معرفته بشيء من التامل، كما يمكن التعرف أيضاً بشيء من التامل إِلى ماذا ترمز العبارة: (ابتلي بنهضة النفس ووثوبها) والجملة: (وهذه مزلة قدم مختصة بالخواص..)، توضح الإشارة، وتشرح العبارة، وتحل الرمز.
ويقول محيي الدين بن عربي(4):
__________
(1) أبو حفص، شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عموية، صحب عمه أبا النجيب السهروردي والشيخ عبد القادر الجيلاني، من سهرورد، توفي في بغداد عام: (632هـ).
(2) عوارف المعارف، هامش إحياء علوم الدين: (1/303).
(3) عوارف المعارف، هامش الإحياء: (2/99)..
(4) ولد في مرسية في الأندلس، ثم انتقل منها إلى إشبيلية حيث اتصل بابن برجان وأخذ عنه الطريقة العريفية (وفي إمكانية هذا الاتصال نظر)، ثم ذهب إلى المغرب وأتصل بأبي مدين، وكثر تنقله في المشرق حتى استقر في دمشق ومات فيها عام: (638).(78/46)
وهذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو، فغوره بعيد، والتلف فيه قريب، فإن من لا معرفة له بالحقائق ولا بامتداد الرقائق، ويقف على هذا المشهد من لسان صاحبه المتحقق به، وهو لم يذقه، ربما قال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، فلهذا نستره ونكتمه.
وقد كان الحسن البصري -رحمه الله- إِذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأسرار التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يقف عليها، دعا بفرقد السبخي ومالك بن دينار ومن حضر من أهل هذا الذوق، وأغلق بابه دون الناس، وقعد يتحدث معهم في مثل هذا الفن، فلولا وجوب كتمه ما فعل هذا(1) !..
ويقول: فالساترون لهذه الأسرار في ألفاظ اصطلحوا عليها غيرة من الأجانب، والقائلون بوجود الآثار بالهمم لا يزالون مقيمين على مناهجهم حتى يلوح لهم أعلام بأيدي الروحانيات العلى، القائمين بالمرتبة الزلفى من مقام الفهوانية، فيها كتب مرقومة مقدسة، تقوم لهم شواهد على تحقيق ما هم عليه وتعظيم الانتقال عن هذا الوصف إِلى وصف آخر ميزها، فينهتك ستر الساتر، فيكشف ما سُتر ويفك معماه، ويحل قفله، ويفتح مغالقه، ويتحد همم ذلك الآخر بمطالعة الحقيقة الأحدية، فلا يرى إِلا همًّا واحداً لا غير، عنه تكون الآثار على الحقيقة، فتارةً تكون عنه تحويراً، وتارة تكون عنه عند تكون هذه الهمم عنه(2).
الفهوانية: خطاب الحق بطريق المكافحة في عالم المثال(3).
- رجعنا إِلى تفسير الألغاز بالألغاز!! ولكن سنعرف معناها بالضبط فيما يأتي.
* ما يجب ملاحظته:
في النص الأول يقدم سببين للستر:
أ- علو هذا الفن، وبعد غوره، وأظن الِإشارة فيه مفهومة.
2- التلف (أي: الموت أو القتل) القريب لمن لا يستر.
__________
(1) رسائل ابن عربي، كتاب الفناء، (ص:3).
(2) رسائل ابن عربي، كتاب الفناء، (ص:4).
(3) معجم المصطلحات الصوفية. [عبارة (عالم المثال) هي مصطلح إسماعيلي].(78/47)
والعبارة (امتداد الرقائق) فيها بعض الوضوح لمن قرأ النصوص السابقة، وفي نص لاحق في هذا الكتاب سيرى القارىء كلمة (رقيقة) بمعناها الواضح تماماً.
وفي النص الثاني، قوله: (بوجود الآثار بالهمم) يعني الهمم على المجاهدات والرياضات، وآثارها مشروحة فيما سبق.
كما أن لها معنى آخر، فالآثار، أو سرائر الآثار: يعنون بها الأسماء الِإلهية(1)، ومنها نعرف معنى الآثار. والهمم: الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا التفسير في كتاب (معالم الطريق إِلى الله) في فصل (معجم مصطلحات الصوفية). مع الملحوظةأنها وردت في (باب الميم) بعد كلمة (مالك الملك) وقبل (المناصفة)، ومع العلم أن محلّها يجب أن يكون (باب الهاء). والمعنيان مدلولهما واحد.
وهناك العبارة: (.. بمطالعة الحقيقة الأحدية، فلا يرى إِلا همًّا واحداً لا غير، عنه تكون الآثار على الحقيقة...). وما أظن إِلا أن القارىء أصبح الآن يدرك معناها بسهولة، أوْلاً، ففي النصوص المقبلة المعين اللازم الكافي.
ويقول: أما تهمته في دينه، فهو أن يكون من أهل الكشف والوجود، فيلحق بأهل السحر والزندقة، وربما يكفر، فهو يتكلم على الأسرار التي أودعها الله في موجوداته وجعلها أمناء عليها، والناس ينسبونه إِلى أنه يقول بنسبة الأفعال إِليها، فيكفرونه بذلك(2).
- الوجود: وجدان الحق ذاته بذاته، ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود(3).
أو: وجدان أحق في الوجد(4).
- ألغاز تفسر بألغاز، ولكن ابن سبعين يوضح فيقول: ومن اسمه (الوجود) كيف يخصص بأسماء(5)؟
__________
(1) معجم مصطلحات الصوفية.
(2) رسائل ابن عربي (الميم والواو والنون)، (ص:7).
(3) معالم الطريق إلى الله (معجم مصطلحات الصوفية).
(4) رسائل ابن عربي (اصطلاح الصوفية)، (ص:5).
(5) ابن سبعين وفلسفته الصوفية.(78/48)
ويقول: ...وكنت أريد أن أذكر الخلوة وشروطها وما يتجلى فيها على الترتيب، شيئاً بعد شيء، لكن منعني من ذلك الوقت، وأعني بالوقت علماء السوء الذين أنكروا ما جهلوا، وقيدهم التعصب وحب الظهور والرياسة عن الإذعان للحق، والتسليم له إن لم يكن الإيمان(1).
* ما يلاحظ:
1- الخلوة.. وما يتجلى فيها، هو ما يجب كتمانه: (ونعرف الآن ما الذي يتجلى فيها).
2- تسميته علماء الشريعة بـ (علماء السوء)؟!
3- أسلوبه في مهاجمة الشريعة والدعاية للتصوف.
ويقول: إشارة- لا راحة مع الخلق- فارجع إلى الحق، فهو أولى بك، إن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت عن الحق، وإن عاشرتهم على ما أنت عليه قتلوك، فالستر أولى، وأيسر أن تكون كائناً بائناً(2).
الملحوظةالهامة جدًّا: (إِن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت من الحق)!! فما هو هذا الذي هم عليه والذي يبعده من الحق؟! إِنه الشريعة الِإسلامية بلا ريب! ويقول: ...وامتطيت متون الرفارف، وطرت في جو المعارف.
فعايَنْتُ من علمِ الغيوب عَجائباً ……تُصانُ عن التذكار في رأيِ من وعى
ومن واصلٍ سرّ الحقيقَةِ صامتٍ ……ولو نطقَ المسكينُ عجَّزه الورى
ومن كاتمٍ للسر يُظهِر ضدَّه ……عليه لطلابِ المشاهد للبقا(3)
- لننتبه إِلى قوله: (يظهر ضده).
ويقول:
وغُصْ في بحر ذات الذات تبصر……عجائبَ ما تبدَّتْ للعيانِ
وأشواراً تراءت مبهماتٍ ……مسترة بأرواح المعاني
فمَنْ فهِمَ الإشارةَ فلْيَصُنْها ……وإلا سوف يُقتل بالسِّنان
كحلاج المحبة إِذ تبدَّت ……له شمسُ الحقيقة بالتَّداني
فقال: أنا هو الحقُ الذي لا……يُغير ذاتَه مرُّ الزمان(4)
__________
(1) رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي، (ص:7).
(2) رسائل ابن عربي (كتاب التراجم)، (ص:47).
(3) رسائل ابن عربي (كتاب الإسرا)، (ص:47).
(4) رسائل ابن عربي (كتاب الإسرا)، (ص:4).(78/49)
- مرت معنا هذه الأبيات قبل صفحات على أنها لعبد القادر الجيلاني، وأوردها ها هنا على أَنها لمحيي الدين بن عربي! وهي له في الحقيقة.
وللقارئ أن يتساءل: إِذن لماذا أوردتها باسم الجيلاني ما دامت في حقيقتها لابن عربي؟!
الجواب: إِن جميع السالكين والواصلين والعارفين والكمل من أصحاب الطريقة الجيلانية، يقرءونها في كتبهم وفي خلواتهم ومناجاتهم، يتقربون بها إِلى الله، على أنها من قول شيخهم الجيلاني، ولا بد أن العارفين الكمل عرفوا ذلك- إِخباراً أو إِقراراً- عن طريق الكشف الذي هو (نور اليقين وحق اليقين وعين اليقين)؟
لذلك، وتأدباً مع الكشف والكاشفين والعارفين، ولئلا أتهم هؤلاء الأشياخ الكمل، فقد أوردتها هناك على أنها للجيلاني.
والتزاماً بالبحث العلمي، وبالحقيقة الحقيقة، أوردها هنا على أنها لابن عربي، لأنها له.
ويقول ابن عربي أيضاً:
...إلا أنه تعالى وصف نفسه بالغيرة؛ ومن غيرته حرم الفواحش، وليس الفحش إلا ما ظهر، وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له، فلما حرم الفواحش، أي: منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة، وهو أنت من الغير، فالغير يقول: السمع سمع زيد، والعارف يقول: السمع عين الحق(1)..
__________
(1) فصوص الحكم (عفيفي) حكمة أحدية في كلمة هودية، (ص:110).(78/50)
ويشرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني هذا القول، فيقول: «إلا أنه تعالى قد وصف نفسه بالغيرة، ومن غيرته حرم الفواحش، وليس الفحش إلا ما ظهراً مما يجب ستره، ومن جملته سر الربوبية، فقد قيل: إفشاؤه كفر، وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له» وهو الحق، ومن أظهره الله عليه، وذلك أن الحق هو الظاهر والباطن، «فلما حرم الفواحش: أي منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء، فسترها بالغيرة» أي: ستر هذه الحقيقة بالتعينات المختلفة التي يطلق عليها اسم الغير، فحدث السوى والغير، حيث يقال: أنت غيري وأنا غيرك، فاعتبرها، وأوجب الغيرة من الغير، فلهذا قال: (وهو أنت) أي: إلى الغيرة أنت، يعني أنانيتك إِذا اعتبرتها، إذ لولم تعتبرها ونظرت إليها بعين الفناء كما هي عليه في نفس الأمر(1)...نرى أن المتن مفهوم أكثر من الشرح، ونستطيع بكل ثقة واطمئنان أن نسمي الشروح الصوفية بـ(الشروح الباطنية)، أو (شروح المتاقاة)؛ لأن أكثرها من هذا النوع!
ولكن يهمنا أن نلاحظ أنه قد باح بالسر، حيث يقول: (حرم الفواحش، أي: منع أن تعرف حقيقة ما ذكرناه، وهي أنه عين الأشياء).
إِذن فالحقيقة هي أن الله هو الكون (جل الله وعلا) وهذا ما يُسمى (وحدة الوجود)، وهو السر الذي يجب ستره، والفحشاء المحرمة هي إِفشاؤه.
ويقول ابن هود(2):
علمُ قومي بيَ جَهْلُ ……إن شأني لأجَلُّ
أنا عبدٌ أنا رب ………أنا عز أنا ذُل
أنا دنيا أنا أخرى ……أنا بعضٌ أنا كُلُّ
أنا معشوقٌ لِذاتي ……لستُ عنه الدهر أسلو(3)
- ولا حاجة للتعليق فالكلام واضح.
__________
(1) شرح القاشاني على الفصوص، (ص:157).
(2) الحسن بن عضد الدولة علي، أخي المتوكل على الله ملك الأندلس، ابن يوسف بن هود الجذامي المرسي، مات في دمشق سنة: (699هـ).
(3) أعلام الزركلي، (ج:2).(78/51)
ويقول أبو الحسن الشاذلي(1):
ليكن الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً(2).
- التصريح هنا جيد الوضوح، إِنه يقول: خاطب الناس بالفرق، واكتم الجمع في قلبك، والفرق والجمع معروفان، عرفناهما في نص سابق.
ويقول ابن سبعين(3) مخاطباً أحد تلامذته:
...وشرطي عليك ألا يقف عليه (أي: على الكلام في الحقيقة الموجه في الرسالة إِلى التلميذ) إلا من هو من خواص خواص الخواص، وأن تكف عن السؤال فيه على أمر هو من الأمور التي ليست من جنس ما يكتسب، وهو من الغرابة بحيث لا يفهمه إِلا السعداء والأخيار، والكلام بما ليس من شأنه أَن يلفظ به خبر، وكأني بمن يقف عليه من الجهلة الخفافيش الذين تظلم الشمس والكواكب والأنوار الطبيعية وغير الطبيعية في أعينهم داخل الذهن وخارج الذهن(4).
- العبارة (الجهلة الخفافيش...) استعملها قبله الغزالي في (إِحياء علوم الدين).
ويقول: (بد العارف): كتمانه بد سعادتك، وإفشاؤه فسادها(5).
بد العارف: البد في اللغة هو الصنم. ويفسر أبو الوفاء التفتازاني (بد العارف) بـ(المعبود الذي يتوجه إليه العارف)(6).
__________
(1) علي بن عبد الله بن عبد الجبار الضرير الزاهد، ولد في قرية (غمارة) قرب سبتة فى المغرب، واتصل بابن مشيش وأخذ عنه الطريقة، وبناءً على توجيهاته ذهب إلى شاذلة في تونس، حيث نسب إليها، أقام في الِإسكندرية، توفي وهو في طريقه إلى الحج في صحراء عيذاب سنة: (656هـ).
(2) بداية الطريق إلى ناهج التحقيق، (ص:65).
(3) قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد...ابن سبعين من بلدة رقوطة تابعة لمرسية في الأندلس، ويعرف أيضاً بابن دارة، مؤسس الطريقة السبعينية، تنقل في المغرب ومصر وأقام في مكة وفيها مات سنة: (669هـ).
(4) رسائل ابن سبعين (الرسالة الفقيرية).
(5) رسائل ابن سبعين (ملاحظات على بد العارفين)..
(6) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:100).(78/52)
ويقول: وفي ذلك (أي: في التوحيد) يقول الحلاج رضي الله عنه: (أنا الحق) بمعنى لا آنية إلا واحدة، فإذا وقع الاتصاف ونطق بها، وقع في ذلك معنى متشابه عند العامة، وقتل القائل له، والذي حمله على ذلك محض الإفراد والإخلاص، حتى إن بعض الصوفية رضي الله عنهم أنشدوا له في ذلك.
بذكر الله تنفتحُ القلوب ……وتتضحُ المعارفُ والغيوبُ
وترك الذكر أفضل كل شيء ……فإن الحق ليس لهُ مغيب
وهذه هي (الدقيقة) عند القوم تارة، وهي (الحقيقة) أخرى، والذي يتكلم بها على حقيقتها من حيث هي، يقطع رأسه في عالم الشهادة، ويقتل في عالم الكون(1).
ويقول: أعلم أن الحروف خزانة الله، وفيها أسراره وأسماؤه وعلمه وأمره وصفاته وقدرته ومراده، فإذا اطلعت علي شيء منها، فأنت من خزانة الله، فلا تخبر أحداً بما فيها من المستودعات، فمن هتك الأسرار عذب بالنار(2).
* ملحوظة: قوله: (الحروف خزانة الله، وفيها أسراره 000)، نرى مثل هذا الكلام تماماً في كتب السحر وأقوال علمائه!
ويقول أَبو العباس المرسي(3):
قد يكون الولي مشحوناً بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهورة، حتى إِذا أُعطي العبارة، كان كالِإذن من الله تعالى في الكلام، ويجب أن نفهم أَن من أُذن له في التعبير، جلت في مسامع الخلق إِشاراته(4).
وكان يقول أيضاً:
كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار(5).
- في كلامه هذا يبين- شأنه شأن غيره- أَن هناك أسلوباً معيناً يسميه (العبارة) - وقد رأينا هذا سابقاً- لا يجوز للولي أَن يتكلم إِن لم يتقن هذا الأسلوب.
__________
(1) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (79).
(2) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:85).
(3) أحمد أبو العباس المرسي، من أكابر العارفين، ومن السلسلة الشاذلية، صحب أبا الحسن الشاذلي، مات عام (768هـ).
(4) طبقات الشعراني: (2/12).
(5) طبقات الشعراني: (2/12).(78/53)
وقد مر معنا صورٌ كثيرة منه، في قمتها أُسلوب الجيلاني ثم تلميذه السهروردي البغدادي (شهاب الدين) الذي سبق أستاذه.
وقال ابن عطاء الله السكندري(1) من قصيدة:
فالله أَعنيه اسم الذات منفرداً فاعرفْ حقيقَته يا خير مؤتَمَنِ، وارفع به حُجباً واشفِ به عللاً، واكشِفْ به كرَباً عن كل ممتحنِ، وابذل له نفساً في كل موهنةٍ، واحفظ سرائرَه من كل مفتَتِنِ(2).
ويقول عبد الله اليافعي (الغوث)(3):
وروي أنه لما سعي بالصوفية إِلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور(4)...
- يفهمنا اليافعي في هذا النص أن الصوفية كان يحكم عليهم بالقتل على الزندقة، وأن الجنيد كان يتستر بالفقه.
ويقول:..وكشف لهم (أي: للواصلين) الغطاء، فانكشف لهم من العالم العلوي والسفلي ما أطلعهم عليه من علم الحال والماضي والمآل، فأخبروا بما جاز لهم كشفه من علم الغيوب، ونطقوا بما جاز النطق به مما في ضمائر القلوب...وعرفوا العلم الأعظم المقصود الأهم، وهو العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته علم مشاهدة وعيان، لا علم نظر واستدلال...وأودع قلوبهم أسراراً من كل مصونٍ لديهم مستور(5)...ويقول:
بها هام بعض في البراري وبعضهم ……به وله ظنوا جنوناً فقيّدا
وبعض عن الأكوان بان وبعضهم ……به جاوز الِإسكارُ حدًّا فعربدا
فسلَّ عليه الشرع سيفاً حمى به ……حدوداً فرى الحلاجَ ماضٍ محدداً
فمات شهيداً عندكَم مِن مُحقق ……ولَمْ عندهم يخرج عن القوم ملحداً(6)
__________
(1) تاج الدين بن عطاء الله السكندري، صحب ياقوت العرشي وأبا العباس المرسي، مات في القاهرة سنة (707هـ).
(2) القصد المجرد، (ص:66، 67)، والأبيات ليست متتابعة.
(3) أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي، من عدن، انتقل منها حتى استقر في مكة ومات فيها عام: (768هـ).
(4) نشر المحاسن الغالية، (ص:422).
(5) نشر المحاسن، (ص:90).
(6) نشر المحاسن: (ص:283).(78/54)
ويقول لسان الدين بن الخطيب(1):
...وثالثها خاصة الخاصة، ويختص به من علوم الشريعة علم الحد...وهو علم الِإلهام، والعلم اللدني، والموهبي، والِإلهي. ويحتوي على معانٍ لا يقدر أن يعبر عنها من أطلع عليها، إِنما هو استشراف واطلاع على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهو بحر لا يوصف بطول ولا عمق ولا عرض ولا نقطة ولا خط، إِنما هو ذوق تتلون لذاته في الطعمة الواحدة إِلى ما لا ينحصر عدده ولا ينتهي أمده، وهو علم النبوة...وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه ولا إِذاعته ولا ادعاؤه، ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه...وهو المراد بقوله تعالى: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ))(2)[الملك:4]..
- كلام ابن الخطيب واضح، ونرى كيف يفسرون الآية الكريمة حسب التفسير الإشاري.
ويقول عبد الكريم الجيلي(3)، (وهو غوث أيضاً):
أنا الموجود والمعدوم ……والمنفي والباقي
ولا تثبت وجوداً لي ……ولا تنفيه يا باقي
ولا تجعلك غيراً لي ……ولا عيناً لآماقي
وقل أنا ذا ولست بذا ……بأوصافي وأخلاقي(4)
إِنه يقول: لا تثبث وجوداً لي (في نفسك باعتباري مخلوقاً)، ولا تنفيه (بلسانك).
وقوله: (يا باقي) أي: (يا من وصل إِلى مقام البقاء) ومثل هذا ما يريده في البيتين الآخرين.
ويقول:
رمزي الذي لي في الهوى ……أعيا قراءة كل كاتب
أظهرته بعبارة ……دقت فلم تفهم لصائب
عرضته لوحته ……صرحته بين الحبائب
فزويت عنه عينهم ……ورويت منه كل شارب
__________
(1) لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد...السلماني، وزير الأندلس، وهو المخصوص في (نفح الطيب)، مات قتلاً بسبب كتابه (روضة التعريف) الصوفي، وذلك سنة: (776هـ).
(2) روضة التعريف في الحب الشريف، (ص:431، 432).
(3) عبد الكريم بن إبراهيم ابن سبط عبد القادر الجيلاني، غوث، مات سنة: (832هـ).
(4) الإنسان الكامل، (ص:11).(78/55)
أبديته وكتمته ……والله عن كل الحبائب
عذل العذول فعندما ……ظهروا فشا بين الأجانب(1)
يقول: إِنه رمز إِلى السر ثم أظهره بعبارة دقيقة...ولكن عندما عذل العذول أظهره ففشا بين الأجانب، وعذل العذول هو سبب جديد لِإفشاء السر يُعرّفنا به.
ويقول:
واشرب من الثغر المدا ……م فخمر فيها فيها
وأدر كئوسك راشداً ……رغم الذي يطويها
أبدت محاسنها سعا ……د فلا تكن مخفيها
ودع اغترارك بالسوى ……ليس السوى يدريها(2)
أظن أن القارىء أضحى الآن يعرف أنه يرمز بـ(سعاد) للذات الِإلهية، كما يرمز إِلى اللذة العارمة التي يشعر بها عندما يتحقق بالألوهية في خلوته، بـ(مدام الثغر، وخمر فيها، والكئوس، والمحاسن). كما أظن أن كلمة (السوى) أضحت مفهومة، أو سهلَاً فهمها.
والملحوظةهي أنه يدعو إِلى إِعلان السر وعدم إِخفائه (فلا تكن مخفيها) وإلى عدم الالتفات إِلى السوى (ودع اغترارك بالسوى) وهذا يعني أننا سنرى عنده كل التصريح بالسر، رغم استعماله الرموز في كثير من الأحيان. فنراه يقول مثلاً:
وما الخلق في التمثال إِلا كثلجة ……وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ……وغير أن في حكمٍ دعته الشرائع
ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه ……ويوضع حكم الماء والأمر واقع(3)
في هذه الأبيات تصريح ومغالطة:
فهو يصرح أن الخلق من الخالق كالثلجة من الماء، فكما أن الثلجة هي جزء من ماء تغير مظهرهُ فقط، كذلك الخلق هو جزء من الحق، تغير مظهره فقط.
والمغالطة هي تقريره أن الثلج هو الماء في تحقيقهم، بينما هو في حكم الشرائع غير الماء، ونتيجةً هذه المغالطة هي انطباع لدى القارىء أن الشرائع مخطئة، وتحقيقهم هو الصحيح.
__________
(1) الإنسان الكامل، من قصيدة مطلعها (لي في الغرام عجائب وأنا وربك ذو العجائب)، (ص:16).
(2) الإنسان الكامل، (ص:45).
(3) الإنسان الكامل، (ص:46). والأبيات من قصيدته المسماة (البوادر الغيبية في النوادر العينية)، وهي طويلة ومشهورة.(78/56)
- ولا أدري! هل لم يجد من يقول له: إِن حكمه خطأ وقياسه فاسد؟
ويقول من نفس القصيدة:
وها أنا ذا أخفي وأظهر تارةً ……رموز الهوى ما السر عندي ذائع
وإياك أعني واسمعي جارتي وما……يصرح إِلا جاهل أو مخادع
ولكنني آتيك بالبدر أبلجاً ……وأخفيه أخرى كي تصان الودائع(1)
فلننظر إِليه كيف يأتينا بالبدر أبلجاً، يقول:
خبتني فكانت فيّ عني نيابة ……أجل عوضاً بل عين ما أنا واقع
فكنت أنا هي وهي كانت أنا وما……لها في وجوِد مفردٍ مَن ينازع
بقيتُ بها فيها ولا تاء بيننا …وحالي بها ماض كذا ومضارع
ولكن رفعت النفس فارتفع الحجا ……ونُبهتُ من نومي فما أَنا ضاجع
وشاهدتُني حقًّا بعين حقيقتي ……فلي في جبين الحسن تلك الطلائع
جلوتُ جمالي فاجتليتُ مرائياً ……ليطبع فيها للكمال مطابع
فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها ……وأخلاقها لي في الجمال مطالع
واسمي حقًا اسمها واسم ذاتها ………لي اسم ولي تلك النعوت توابع(2)
قوله: (ولا تاء بيننا) يعني بها تاء المخاطب، أَي: إِنهما صارا ذاتاً واحدة.
ولننتبه إلى أَنه يشير إِلى الذات الإلهية بضمير المؤنث، حيث يظهر للغافل وكأَنه يتغزل بمحبوبته، ويقول في مكان آخر:
...لأن الكلام عن الحقائق بالِإشارة، ولا يفهم إِشارتنا ويعرف آفة ما فيها من عباراتنا إِلا من هو نحن ونحن هو، فافهم. وإليه الِإشارة، نقول شعراً:
وغني لي منى قلبي ……فغنيت كما غنى
وكنا حيث ما كانوا ……وكانوا حيث ما كنا
وقد أَردف سيدنا الشيخ العالم الرباني، شهاب الدين أَحمد بن أَبى بكر الرداد هذه الأبيات ثالثاً، فقال:
فحاسبنا وما بانوا ……ولا بانوا ولا بنّا
ولعمري أَشار إلى معنى غريب، لولا المقام -مقام الإشارة- لأنعمنا عنه العبارة(3).
* ملحوظة: منى قلبي: يعني به اللّه سبحانه، والضمير في (كانوا) عائد على الله سبحانه وتعالى، وعلى القارئ التحليل.
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:202).
(2) الإِنسان الكامل، (ص:61).
(3) المناظر الإلهية، (ص:77).(78/57)
ويقول ابن البنا السرقسطي(1):
وهذه مسأَلة معتاصة ……لم يجد الحبر لها خلاصة
لأنها مسأَلة غريبة ……حقيقة الجواب عنها ريبة
وقلِّ ما تلقى لها مساعداً ……بل منكراً أَو ناقداً أو جاحداً(2)
ويقول:
وهذه حقيقة الإنسان ……حيث لها أنموذج رباني
متى ارتقيت عن قبيل الحس ……أَدركت في نفسك معنى النفس
يا من على القشر غدا يحوم ……حتى عن اللب متى تصوم
ووضعه في الكتب لا يجوز ……بل هو كنز في النهى مكنوز(3)
ويقول منها:
واستشعروا شيئاً سوى الأبدان ……يدعونه بالعالم الروحاني
ثم أمام العالم المعقول……معارف تُلغز في المنقول(4)
ويقول منها:
ثم امتحى في غيبة الشهود ……فأَطلق القول أنا معبودي
حتى إِذا رُدَّ عليه منه ……أَثبت فرقاً حيث لم يكنه
فَرُدَّ تحو عالم التحويل ……وعبَّروا عن ذاك بالنزول
ورده بالحق نحو الخلق ……كي ما يؤدي واجبات الرق
فكلم الناس بكل رمز ……والغز التعبير أَي لغز(5)
وقال ابن خلدون(6):
قُتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر وأَهل الباطن، أَهل الشريعة وأهل الحقيقة؛ لأنه باح بالسر فوجبت عقوبته(7).
ويقول عبد الوهاب الشعراني(8):
__________
(1) أبو العباس أحمد بن محمد بن يوسف التجيبي المعروف بابن البنا السرقسطي، من سرقسطة في الأندلس، انتقل إلى فاس ومات فيها في النصف الأول من القرن التاسع الهجري.
(2) الفتوحات الإلهية (ص:27)، والأبيات من قصيدته المشهورة (المباحث الأصلية).
(3) الفتوحات الالهية، (ص:43) وما قبلها.
(4) الفتوحات الإلهية، (ص:112).
(5) الفتوحات الإلهية، (ص:351) وما قبلها.
(6) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، ولد في تونس عام: (1334م)، تقلب في البلاد، وتوفي في القاهرة عام (1406م)، الموافق لسنة: (808هـ).
(7) الفتوحات الإلهية، (ص:347).
(8) أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المعروف بالشعراني، توفي في القاهرة سنة: (973هـ).(78/58)
...ونور بصائرهم بفضله، وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون، وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار؛ لأنهم عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون، فإِذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إِلى الزندقة والجنون، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، فمنهم المنكر لكراماتهم، ومنهم المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم(1)...
ويقول: ومن الأولياء من سد باب الكلام في دقائق كلام القوم حتى مات، وأحال ذلك على السلوك، وقال: من سلك طريقهم اطلع على ما اطلعوا عليه، وذاق كما ذاقوا، واستغنى عن كلام الناس، وسيأتي في ترجمة عبد الله القرشي رضي الله عنه أن أصحابه طلبوا مكة أن يسمعهم شيئاً من علم الحقائق، فقال لهم: كم أصحابي اليوم؟
قالوا: ستمائة رجل. فقال الشيخ: اختاروا لكم منهم مائة. فاختاروا، فقال: اختاروا من المائة عشرين، فاختاروا، فقال: اختاروا من العشرين أربعة. فاختاروا، (قلت): وكان هؤلاء الأربعة أصحاب كشوفات ومعارف. فقال الشيخ: لو تكلمت عليكم في علم الحقائق والأسرار، لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة(2).
- ما يجب أن ننتبه إليه بشدة في هذا النص، هو قوله: (لكان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة)، مع العلم أنهم أصحاب كشوف ومعارف، فهم متحققون بمثل ما تحقق به شيخهم، مما لو نطق به لكفروه! إذن فلم يكفرونه وهم على مثل عقيدته؟!
الجواب فيما مر معنا من نصوص، وخاصة قول الجنيد في أوائل هذا الفصل؛ أي: يكفرونه لأنه يبوح بالسر.
ويقول الشعراني أيضاً:
__________
(1) الطبقات الكبرى: (1/2).
(2) الطبقات الكبرى: (1/12).(78/59)
قال سيدي يوسف العجمي -رحمه الله-: (وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغلق الباب لما أَراد أَن يلقن جماعةً من أصحابه، كما تقدم، وقال: هل فيكم غريب...؟ لينبه على أَن طريق القوم مبنية على السحر، بخلاف الشريعة المطهرة، فلا ينبغي لأحد من أهل الطريق أَن يتكلم بالحقيقة عند من لايؤمن بها خوفاً أن ينكرها فيمقت(1).
وكان يقول:
إِياك أيها المريد أن تجادل أصحاب الطقوس بما تجده في نفسك من الأمور الذوقيات، فربما شنوا عليك الغارات ولم يرجعوا عما هم عليه، وربما سبوا الطريق وأهلها(2).
ويقول شيخ الشيوخ عبد الرحمن المجذوب(3) زجلاً:
احفر لسرك ودكوا في الأرض سبعين قامة ……وخلّ الخلائق يشكّو إلى يوم القيامة(4)
ويقول أحمد بن عبد الأحد السرهندي(5) (مجدد الألف الثاني):
...والمنع من إظهار حقائق عالم الأمر إنما هو بسبب دقة تلك المعاني المكنونة...وليس في بثي الأسرار وإِن ظهر لنا كالشمس في فلك.. وبقية الجواهر العليا التي فوق الصفات الحقيقية داخلة في دائرة حضرة الذات تعالت وتقدست، ولهذا يقال لتجليات هذه المراتب الثلاثة: تجليات ذاتية، ولا مصلحة في التكلم وراء ذلك، بلغ اليراع إِلى هنا فتكسرا(6). ا هـ.
أظن أن القارئ يعرف الآن أن عبارة (بسبب دقة تلك المعاني المكنونة): هي للمغالطة، وأن السبب الحقيقي هو خوف التكفير.
- ويقول ابن عجيبة(7):
__________
(1) الأنوار القدسية: (1/29).
(2) الأنوار القدسية: (163).
(3) سيدي عبد الرحمن المجذوب من الأولياء الأكابر!
كان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه في أوائل جذبته، مات في القاهرة عام: (944هـ).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:112).
(5) مؤسس الطريقة المجدية، مات في الهند سنة: (1034هـ/1625م).
(6) المنتخبات من المكتوبات، (ص:7).
(7) العارف بالله أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني مغربي من كبار صوفية القرن الثالث عشر الهجري، مات سنة: (1224هـ).(78/60)
...فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم، وقليل ما هم.
ومن أفشى شيئاً من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه، كما قال أبو مدين رضي الله عنه:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة ……تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
وهذهِ الأسرار هي أسرار الذات وأنوار الصفات التي تجلّى الحق بها في مظهر الأكوان، وإلى ذلك إشارة (ابن عطاء الله السكندري) بقوله: (الكون كله ظلمة، وإنما أَناره ظهور الحق فيه)(1).
- هنا يصرح ابن عجيبة بالسر، فيقول: (وهذه الأسرار هي أَسرار الذات...التي تجلِّى الحق بها في مظهر الأكوان)، وأظن أَن الجملة واضحة.
ويقول: ...فلأن هذه الأمور أذواق باطنية، وأَسرار ربانية...وأَيضاً هي أمانات وسر من أسرار الملك، وسر الملك لا يحل إِفشاؤه، فمن أفشاه كان خائناً واستحق الطرد والعقوبة، ولا يصلح أن يكون أميناً بعد ذلك، فكتم الأسرارمن شأْن الأخيار، وهتك الأسرار من شأْن الأشرار. وقد قالوا: قلوب الأحرار قبور الأسرار.
وقال الشاعر:
لا يكتُمُ السر إِلا كلّ ذي ثقة ……فالسر عند خيار الناس مكتوم(2)
ويقول أيضاً: (وقال الحلاج -رضي الله عنه-: أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني، وتوحيدك توحيدي، وعصيانك عصياني.
وقال أيضاً (أي: الحلاج):
سبحان من أظهر ناسوته ……سرّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً ……في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ……كلحظة الحاجب بالحاجب
وبإِظهار هذا وأمثاله قُتل -رضي الله عنه- فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صوناً لذلك السر أن يظهر لغير أهله، ومن أفشاه لغير أهله قُتل كما فُعل بالحلاح...(3).
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:39)، وجملة (الكون كله...) من الحكم العطائية.
(2) إيقاظ الهمم، (ص:112).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:156).(78/61)
* ملحوظة: هم يكتمون السر خوفاً من السيف، وتجرءوا على الله سبحانه فجعلوه مثلهم! فهل يخاف سبحانه من السيف؟؟!
ويقول: ...قد يرخص للمعارف الماهر إِلقاء الحقائق مع من لا يعرفها، بعبارة رقيقة وشارةً لطيفة، وغزل رقيق، بحيث لا يأخذ السامع منها شيئاً. فقد كان الجنيد رضي الله عنه يلقي الحقائق على رءوس الأشهاد، فقيل له في ذلك، فقال: جانب العلم (أي: علم الحقائق الصوفية) حمى من أن يأخذه غير أَهله(1).
ويقول ابن عجيبة أيضاً في شرح قول ابن البنا السرقسطي:
ثم امتحى في غيبة الشهود ……فأَطلق القول أَنا معبودي
حتى إِذا رد عليه منه ……أَثبت فرقاً حيث لم يكنه
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:113).(78/62)
يقول: العبد في حال غفلته يكون مبتلى برؤية نفسه، واقفاً مع شهود حسّه، مسجوناً بمحيطاته، محصوراً في هيكل ذاته. فإِذا أراد الله تعالى أن يرفع عنه الحجاب ويدخله في حضرة الأحباب، ألقاه إِلى ولي كل أوليائه، وعرفه سر خصوصيته واصطفائه، فلا يزال يسير به ويحاذيه ويخرق عليه عوائد نفسه ويغيبه عنها، ويزهدهُ في فلسه وجنسه، فإذا رآه الشيخ قد رق في حقه الحجاب، واستحق الانخراط في سلك الأحباب، فتح له الباب وقال له: ها أنت وربك، فإِذا زج في حضرة النور، ورفعت عنه الستور، أنكر الوجود بأسره، وأنكر وجود نفسه، فامتحق وجودُه في محبوبه، وانطوى شهوده في شهود معبوده، فأنشأ يقول: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا، أنا المحب والحبيب، ليس ثم ثان)، فإِذا تمكن في الشهود، وتحقق برؤية نور الملك المعبود، رُدَّ عليه صحوه ورجع إِليه سلوكه، فأثبت فرقاً في عين الجمع، قياماً بوظائف الحكمة في عين شهود القدرة، فيكون الجمع في باطنه مشهوداً، والفرق على ظاهره موجوداً، فرقاً لفظيًّا لا حقيقيّا؛ أدباً مع الربوبية وقياماً بوظائف العبودية...(إِلى أن يقول): ...وقوله: (فأطلق القول: أنا معبودي). إِطلاق هذا القول لا يسلم له إِلا في حالة القوة والجذبة، وإلا فقد علمت ما وقع للحلاج وهو ولي الله حقّا، وفي معنى ذلك قيل:
ومن شهد الحقيقة فليصنها ……وإلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت ……له شمس الحقيقة بالتداني
وقال آخر:
بالسر إِن باحوا تباح دماؤهم ……وكذا دماء البائحين تباح
وقال ابن خلدون: (قتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر والباطن، أهل الشريعة وأهل الحقيقة؛ لأنه باح بالسر، فوجبت عقوبته). وممن أفتى بقتله الجنيد والشلبي، غيرة على السر أن يفشى لغير أهله، فالواجب كتم الأسرار، وإظهار شريعة النبي المختار(1).
* ملحوظة:
__________
(1) الفتوحات الإلهية، حاشية الإيقاظ، (ص:346، 347).(78/63)
قوله: (.. كتم الأسرار وإظهار شريعة النبي...) واضح الدلالة على أن الأسرار تناقض شريعة المختار.
ويقول أيضاً: ...ثم هؤلاء الجهال (أي: أهل الشريعة) لم يقنعوا بالإنكار، حتى كفروا من قال بشيء من ذلك (أي: من ذلك السر) كما قال: (أي: ابن البنا السرقسطي):
وكفَّروا وزندقوا وبدَّعوا ……إذا دعاهم اللبيب الأروع
قلت: هذا من الحرمان، وعلامة الخذلان، إذا دعاهم أحد إلى التحقيق، قالوا: إنه زنديق. وإذا خرق عوائد نفسه في دواء قلبه، قالوا: إنه صاحب بدعة. وهذا كله حجاب وستر لأوليائه، فإذا سمع المريد شيئاً من ذلك فليطب نفساً، فتلك عناية به، نعم، ينبغي أن يجزم نفسه في ستر السر الذي عنده، فإن أفشى شيئاً من ذلك فسيف الحلاج فوق رأسه(1).
ويقول: إذا قال الفقير: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدّقه في حاله، وإلا تعرض لقتله(2)...
- نرى أن ابن عجيبة واضح، ونصوصه واضحة، إنه- فى الواقع- يفشي السر رغم دعوته إلى كتمانه، ثم يشرح لنا بوضوح سبب الدعوة إلى الكتمان.
وفي النص الأخير يبين لنا معنى كلمة (الفناء) بحيث لا نحتاج معه إلى الرجوع إلى غيره، ومن الواضح جدًّا أنه يعني بقوله: (أنا من أهوى) أي: أنا الله! وقد مر في نص قبله، قوله: (أنا معبودي) ومتى تسلم لقائلها؟
ويقول أيضاً:
إياك أن تقول أناه……واحذر أن تكون سواه(3)
واضح أن عبارة (أناه) تعني: (أنا هو) أو (أنا الله)، وهذه الجملة لابن عجيبة هي الموضوع الذي دارت حوله كل ما مر معنا من نصوص حول هذا الموضوِع، فهو يقول: إياك أن تقول (بلسانك للناس): أنا الله، ولكن احذر أن تكون (عقيدةً) سواه، أي: أن تعتقد أنك سواه (أي: سوى الله!) - وهو نفس قول الشاذلي: (ليكن الفرق في لسانك..).
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:427).
(2) الفتوحات الإلهية، (ص:456).
(3) الفتوحات الإلهية، (ص:347).(78/64)
ويقول محمد مهدي الرواس(1):
وبويعت في الحضرة على كتم أسرار الحضرة إلا عن أهلها، وقد قال إمامنا الشافعي -رضي الله عنه-:
ومن منَحَ الجهال علماً أضاعهُ ……ومَن مَنَعَ المستوجبين فقد ظلمْ(2)
وبويعت في الحضرة، على خفاء في ظهور، وظهور في خفاء، وطلسمية في مجلى، ومجلى في طلسمية، وانقباض في انبساط، وانبساط في انقباض، وتعين في استتار، واستتار في تعين(3)...
ويقول: وبويعت في الحضرة على الوقوف على قدم الاهتمام، مع حكم الطي في الزمان، يإعلاء أحكام شريعة سيد الأكوان- عليه صلوات الرحمن- وها أنا والحمد لله على العهد، تجردت لِإعلام أحكامها، برقائق يفهمها من فهمه الله بنوره المبين، وفقهه في الدين، مع طي في منشور الزمان، على منوال قول القائل:
تسترتُ من دهري بظل جناحه ……فصرتُ أرى دهري وليس يراني
فإِن تسألِ الأيام عنيَ ما درتُ ……وأين مكاني ما عرفن مكاني(4)
ويقول (من قصيدة):
طريقتُنا أنّا نمرُّ زماننا ……ونحن على مهدِ التَّكتُّم قُوّم
طريقتُنا أن نجعلَ السر رقعةً ……وفيها سطورُ الصدقِ لله نَرْقُمُ(5)
ومنها:
طريقتُنا أن نحفظَ الشرعَ ظاهراً …وهذا هو السرّ الخفيّ المطلسم(6)
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي(7) (من قصيدة):
__________
(1) القطب الغوث الفرد المتمكن...السيد بهاء الدين محمد مهدي الشيوخي الشهير بالرواس، ابن علي الرفاعي الصيادي الحسيني الحسني، من بلدة سوق الشيوخ من أعمال البصرة، تجول كثيراً ومات في بغداد عام (1287هـ).
(2) بوارق الحقائق، (ص:292).
(3) بوارق الحقائق، (ص:273).
(4) بوارق الحقائق، (ص:274).
(5) المجموعة النادرة، (ص:287).
(6) المجموعة النادرة، (ص:288).
(7) محمود أبو الفيض بن علي بن عمر بن إبراهيم أبو ماضي...ولد في مدينة منوف من مديريات مصر عام (1312هـ)، وهو مؤسس الطريقة الفيضية، وصاحب مجلة العالم الِإسلامي، ورئيس تحريرها، ولعله يكون متمتعاً بالصحة أثناء كتابة هذه الكلمات.(78/65)
وأبصرتُ أسرار تسامت بذاتها ……وإني أرى شرحي لها فوق طاقتي
فإني إذا ما بحت يوماً بسرها ……لقيت حمامي بعد تمزيق مهجتي
ولست على سر أميناً إذن ولا ……حظيت بقرب عند أهل مودتي(1)
* * *
وكن كاتماً للسر عن غير أهله ……ولا تفشه إِلا لأهل البصيرة(2)
ويقول أيضاً:
ومن أعظم مواهب الله لأوليائه وجود العبارة، وهي (الفتوح بالتعبير عن المقاصد).
قال(3): وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: يكون الولي مشحوناً بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهودة، حتى إذا أعطي العبارة، كانت كالِإذن من الله له في الكلام.
وقال: من أذن له في التعبير حسنت في مسامع الخلق عباراته، وحليت لديهم إشاراته.
وقال: سمعت شيخنا أبا العباس يقول: كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وطلاوة من نور قلبه، وكلام الذي لم يؤذن له يكون مكسوف الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فيقبل من أحدهما ويرد على الآخر، واعلم أن من أراد الله أن يكون داعياً إليه من أوليائه فلا بد من إظهاره إلى العباد ولو لخاصتهم، إذ لا تكون الدعوة إلى الله إلا كذلك(4).
- لقد مرت أقوال أبي العباس المرسي في صفحات سابقة، وأكررها هنا، لأن السيد المنوفي يتبناها.
- وعن الشيخ محمد أمين الكردي(5) يقول الشيخ سلامة العزامي(6):
__________
(1) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق، (ص:66).
(2) معالم الطريق إلى الله، (ص:444).
(3) معالم الطريق إلى الله، (ص:257).
(4) معالم الطريق إلى الله، (ص:257).
(5) شيخ شيوخ العصر...القطب الكبير محمد أمين الكردي الِإربلي ابن الشيخ فتح الله زاده، أخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ عمر النقشبندي، رحل إلى الحجاز ثم إلى القاهرة ومات فيها عام: (1332هـ).
(6) الشيخ سلامة العزامي، أحد أكابر علماء الأزهر وتلميذ الشيخ الكردي.(78/66)
...وكان يرى أن القول بوحدة الوجود من سكر الوقت وغلبة الحال، يعذر صاحبه إذا كان مغلوباً، ولا يصح تقليد غيره له، وكان يرى الخوض فيه حراماً إلا لمن ثبتت قدمه فى عقيدة أهل السنة والجماعة، وعرف ذلك من بقايا السكر ولم يتأثر بما يسمعه من الشطحات(1)...
- الوقت: ما هو غالب على العبد(2)، أو ما كان هو الغالب على الِإنسان(3)، فيقال: (وقتك الحزن، أو وقتك السرور، أو وقتك الجذبة، أو وقتك الغيبة...) وهذا النص أكثر وضوحاً من أن يحتاج إلى تعليق، ولكنه مع ذلك بحاجة إلى تأمل.
ويقول الشيخ عبد القادر الحمصي(4):
احذر نفس الله في كل آن ……واكتم سر الله ضمن الجنان
واعلم أن الله عين العيان ……واجمع خلق الله في الوحدة(5)
ومن قوله:
اكتم الأسرار عن ذوي الأغيار ……واهدم الأسوار واهجر بيعك(6)
- ذوو الأغيار أو أصحاب الأغيار: أي الذين يتوهمون أن في الوجود غير الله، أو الذين يتوهمون أن المخلوق غير الخالق.
ويقول ابن أنبوجة(7): ...والغير عبارة عن التلبس بالرسوم، والكتم عن السر، والِإشارة دون تصريح صيانةً للأسرار، واتساعاً لمحل الأمانة، فيرقى عن ضيق الحمل، ومطاوعة البوح(8).
__________
(1) ترجمة الشيخ الكردي في مقدمة كتاب تنوير القلوب، (ص:42).
(2) معجم المصطلحات الصوفية.
(3) شرح حاشية العروسي: (2/22).
(4) الشيخ عبد القادر الحمصي، أخذ الطريقة عن الشيخ علي اليشرطي وهو قريب العهد.
(5) اللطائف الروحية، (ص:42).
(6) اللطائفة الروحية، (ص:82).
(7) الشيخ العلامة العارف بالله سيدي عبيدة بن محمد الصغير بن أنبوجة الشنقيطي التيشيتي، من أفراد أعلام الطريقة التجانية.. توفي عام: (1284هـ).
(8) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:113).(78/67)
- الرسوم: جمع رسم، وهو الخلق وصفاته؛ لأن الرسوم هي الآثار، وكل ما سوى الله هي آثاره الناشئة من أفعاله(1). ومعنى هذا الكلام هو أن الرسوم هي المخلوقات إذا توهمناها غير الخالق، ويكون معنى قوله: (التلبيس بالرسوم) هو: التظاهر بأن الخلق غير الخالق!
- يبين ابن أنبوجةَ لمَ يستعملون الإشارة في العبارة دون التصريح، إنها من أجل أن ترقى بهم عن ضيق الحمل (أي: حمل السر) وعن مطاوعة البوح به، فيفرّجون عن صدورهم بعبارات مموهة على أهل الرسوم.
ولعل في هذا القدر من أقوال الكبار من أئمة الصوفية في كتمان السر عن غير أهله، والتلبيس على أهل الشريعة بالشريعة، وتنبيه السالكين أن التصريح بالسر يقودهم إلى السيف؛ لأن السر كفر وزندقة!! لعل في هذا القدركفاية.
بل فيه أكثر من الكفاية، بل وأكثر بكثير! فقد كانت الكفاية في نص أو نصين من (إحياء علوم الدين) الكتاب العظيم الشأن! عظيم الوقع! كثير النفع! جليل المقدار! ليس له نظير في بابه! ولم ينسج على منواله! ولا سمحت قريحة بمثاله! كاشفاً عن الغوامض الخفية...إلخ، لمؤلفه (حجة الِإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام! الِإمام! بل أكثر من عشرين ألف إمام! جامع أشتات العلوم! الضرغام! والبدر التمام! كاشف غياهب الشبهات...إلخ) أبي حامد الغزالي.
لقد كان في نص أو نصين منه كفاية؛ إذ لا كلام في هذا الكلام مع كلام حجة الِإسلام؛ لأن حجة الكلام كلام حجة الِإسلام! وليس بعد كلامه كلام! وإلا فما معنى كونه (حجة الِإسلام)؟!!
- هذه الفقرة هي من عدوى الكشف والعلوم اللدنية فالمعذرهّ!!
قد يقول قائل: ما دام نص أو نصان يكفيان! فلِمَ كل هذا الركام؟!
الجواب: هو محاولة- قد تكون فاشلة وقد تكون ناجحة- للوقوف أمام الثعلبيات الزئبقية التي نسمعها دائماً وأبداً من الصوفية وأنصارهم، ومن السذج الذين خدعوا بالعبارات المنمقة التي تسمي الليل ظهراً والجهل علماً!
__________
(1) معجم مصطلحات الصوفية.(78/68)
فلو أتيناهم مثلاً بمثل من (الِإحياء) لسمعنا أقوالًا مختلفة، فقد يقول قائل منهم: (هذا كلام مدسوس على الكتاب)، وهى الجملة الظالمة التي كررت وتكرر دون حياء، وقد يقول آخر: (هذا قول انْتُهِيَ منه، ولم يبق له رصيد الآن. هذا كان عند بعضهم فقط). وقد يقول آخر: (التعميم لا يجوز)، وقد يقولون: هذا له تأْويل (وما أدراك ما التأْويل، له ذنب طويل، وخرطوم طويل، وناب طويل، وظفر طويل، وشعر طويل...).
من أجل هذا أوردت هذا الركام، ولولا الخوف من الِإطالة، وأن يبلغ الكتاب حجماً أكبر من حجمه؛ لأوردت من أقوال من أوردت أسماءهم، ومن أقوال غيرهم في هذا الموضوع ما قد يحتاج إلى مئات الصفحات، إن لم يكن ألوفها!!
واستكمالاً للفائدة، أعيد عرض بعض النصوص السابقة ذات الأهمية الخاصة الواضحة مع بعض الِإضافات.
يقول الجنيد:
لا يكون الصدِّيق صدِّيقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق!! وفي رواية: (ألف صديق أنه زنديق).
ويقول ابن عجيبة:
...وإلا فقد علمت ما وقع للحلاج، وهو ولي الله حقّا...وممن أفتى بقتله الجنيد والشبلي...(طبعاً لأنه باح بالسر).
ويقول ابن عربي:
ومن كاتمٍ للسر يظهر ضده ……عليه لطلاب المشاهد للبقا
ويقول اليافعي:
...لما سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء، أمر بضرب رقابهم، فأما الجنيد فتستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور.
ويقول أبو الحسن الشاذلي:
ليكن الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً.
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.
وهو نفس المعنى تماماً الذي يقوله أبو الحسن الشاذلي. (الفرق: هو أن تفرق بين الخالق والمخلوق، والجمع أن تجمعهما في ذاتٍ واحدة)، وقد مر هذا الشرح سابقاً، وأعيده هنا.
وأعيد قول الحلاج لأهميته الخاصة الخاصة، يقول:
المعنى الذي به تُحقن الدماء، خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن.(78/69)
ولا أعلق بشيء، فهي واضحة جدّاً، ولذلك أعدت كتابتها، ولكني أورد قولاً آخر له أهميته الخاصة جداً.
يقول الشعراني:
..قال عبد الله القرشي: ..لو تكلمت عليكم في علم الحقائق والأسرار، كان أول من يفتي بكفري هؤلاء الأربعة(1)!
- وطبعاً! يفتون بكفره ظاهراً بألسنتهم، أما في الباطن فهم يعتقدون عقيدة جازمة أنه صدّيق ولي لله، وأن إفتاءهم- في الظاهر بكفره هو للتمويه والنجاة من السيف! أو لكتمان السر!! أو لإعطاء الظاهر حكم الظاهر، ويبقى للباطن حكم الباطن!
ويقول أحمد الشرباصي معلقاً على قولٍ للغزالي:
فأنت ترى معي، من غير شك، أن الغزالي بعد أن أبان الصعوبة في وضع تعريف جامع مانع للتصوف بسبب سريته وباطنيته.. إلى أن يقول: ولعل هذه السرية أو الباطنية المستكنة في حقيقة التصوف، كانت المدخل لادعاء الكثيرين التصوف(2).
ومما يورده أحمد زيني الدحلان: (وسئل والد الشيخ محمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود، فقال: يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً، وكفره أشد من كفر اليهود والنصارى، واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذهِ الفتوى...فمن زعم أن وحدة الوجود غير وحدة الشهود لم يشم رائحة معنى الوحدة، فوحدة الوجود ترجع إلى وحدة الشهود من غير حلول ولا اتصال، هذا هو القول الحق(3). انتهى).
- لنلاحظ أن الكفر عندهم هو التصريح بوحدة الوجود بعبارة لا تقبل التاويل (لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً) كما يجب أن نلاحظ أن وحدة الشهود هي وحدة الوجود.
ويقول عبد القادر الجيلاني:
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/12).
(2) التصوف عند المستشرقين، (ص:14).
(3) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:51).(78/70)
أشد الأشياء على من عرف الله عز وجل، النطق مع الخلق والقعود معهم، ولهذا يكون ألف عارف والمتكلم فيهم واحد؛ إلا أنه يحتاج إلى قوة الأنبياء عليهم السلام، وكيف لا يحتاج إلى قوتهم وهو يريد أن يقعد بين أجناس الخلق، يخالط من يعقل ومن لا يعقل، يقعد مع منافق ومؤمن، فهو على مقاساة عظيمة، صابر على ما يكره، ومع ذلك فهو محفوظ فيما هو فيه، معان عليه؛ لأنه ممتثل لأمر الحق عز وجل في كلامه على الخلق، لم يتكلم بنفسه وهواه واختياره وإرادته، إنما أجبر على الكلام، فلا جرم يحفظ فيه(1).
- والآن..
نختم هذا الفصل، بفصل من كتاب (اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر) للِإمام العارف الرباني سيدي عبد الوهاب الشعراني..
يقول: (الفصل الثالث) في بيان إقامة العذر لأهل الطريق في تكلمهم في العبارات المغلقة على غيرهم رضي الله عنهم(2): اعلم رحمك الله، أن أصل دليل القوم في رمزهم الأمور، ما روي في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأبي بكر الصديق: أتدري يومَ يوم؟ فقال أبو بكر: نعم يا رسول اللّه، لقد سألتني عن يوم المقادير، وروي أيضاً أنه قال له يوماً: يا أبا بكر، أتدري ما أريد أن أقول؟ فقال: نعم، هو ذاك هو ذاك، حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في بعض كتبه.
* نقف قليلاً لنورد قوله صلى الله عليه وسلم: {إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}(3) جواباً على هذه الأحاديث المكذوبة.
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:216).
(2) اليواقيت والجواهر: (1/14).
(3) صحيح مسلم (كتاب العلم).(78/71)
وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الرابع والخمسين من الفتوحات ما نصه: اعلم أن أهل الله لم يضعوا الِإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم، فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك، وإنما وضعوها منعاً للدخيل بينهم، حتى لا يعرف ما هم فيه، شفقة عليه أن يسمع شيئاً لم يصل إليه، فينكره على أهل الله، فيعاقب على حرمانه، فلا يناله بعد ذلك أبداً، قال: ومن أعجب الأشياء في هذه الطريق، بل لا يوجد إلا فيها، أنه ما من طائفة تحمل علماً من المنطقيين والنحاة وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين والفلاسفة، إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم؛ لا بد من ذلك، إلا أهل هذه الطريق خاصة، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم، وما عنده خبر بما اصطلحوه، وجلس معهم، وسمع منهم ما يتكلمون به من الِإشارات، فهم جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح، ويشاركهم في الخوض في ذلك العلم، ولا يستغرب هو ذلك من نفسه، بل يجد علم ذلك ضروريًّا لا يقدر على دفعه، فكأنه ما زال يعلمه، ولا يدري كيف حصل له ذلك، هذا شأْن المريد الصادق، وأما الكاذب فلا يعرف ذلك إلا بتوقيف، ولا يسمح له قبل إخلاصه في الِإرادة وطلبه لها أحد من القوم؛ ولم يزل علماء الظاهر في كل عصر يتوقفون في فهم كلام القوم، وناهيك بالِإمام أحمد بن سريج، حضر يوماً مجلس الجنيد، فقيل له: ما فهمت من كلامه؟ فقال: لا أدري ما يقول، ولكن أجد لكلامه صولة...ثم إن القوم لا يتكلمون بالِإشارة إلا عند حضور من ليس منهم، أو في تأْليفهم لا غير. ثم قال: ولا يخفى أن أصل الِإنكار من الأعداء المبطلين إنما ينشأ من الحسد، ولو أن أولئك المنكرين تركوا الحسد وسلكوا طريق أهل الله لم يظهر منهم إنكار ولا حسد، وازدادوا علماً إلى علمهم. ولكن هكذا كان الأمر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...وأشد الناس عداوة لأصحاب علوم الوهب الِإلهي في كل زمان أهل الجدال بلا أدب، فهم لهم من(78/72)
أشد المنكرين؛ ولما علم العارفون ذلك عدلوا إلى الِإشارات، كما عدلت مريم عليها السلام، من أجل أهل الِإفك والِإلحاد إلى الِإشارة، فلكل آية أو حديث عندهم وجهان: وجه يرونه في نفوسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم، قال تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)) [فصلت:53] فيسمون ما يرونه في نفوسهم إشارة ليأنس المنكرون عليهم، ولا يقولوا: إن ذلك تفسير لتلك الآية أو الحديث، وقاية لشرهم ورميهم لهم بالكفر، جهلاً من الرامين معرفة مواقع خطاب الحق تعالى، واقتدوا في ذلك بسنن من قبلهم، وإن الله تعالى كان قادراً أن ينص ما تأوله أهل الله وغيرهم في كتابه، كالآيات المتشابهات، والحروف أوائل السور، ومع ذلك فما فعل، بل أدرج في تلك الكلمات ألِإلهية والحروف أوائل السور، علوماً اختصاصية لا يعلمها إلا عباده الخُلَّص...ومع هذا التفاضل المشهور فيما بينهم ينكرون على أهل الله تعالى،.. فإن القوم لما عملوا بما علموا، أعطاهم الله تعالى علماً من لدنه، بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقاً لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة!!
* وقفة قصيرة ثانية: بما أننا الآن نعيش لحظات في التفسير الِإشاري، فنريد أن نفهم النصوص فهماً (إشاريًّا). وعليه يكون المعنى (الإشاري) لعبارة (مطابقاً لما جاءت به الشريعة) هو: مطابق (أي: يشكل طبقة مقابلة) لما جاءت به الشريعة، وواضح أن هذا يعني أنهما منفصلان عن بعضهما. أما قوله: (لا يخرج عنها ذرة) فتحتمل معنيين (إشاريين):
المعنى الأول: لا يخرج عنها (أي: عن الشريعة) ذرة، أي: واحدة، لتلتحق بالعلم اللدنِي، فلا يوجد في العلم اللدني ذرة واحدة خرجت إليه من الشريعة، فهما مختلفان جملة وتفصيلاً.(78/73)
المعنى الثاني: (بالكشف) نشاهد أن كلمة (ذرة) تعني في لغة (الحقيقة) المسافة بين الجنة وجهنم، فيكون المعنى: لا يخرج عنها ذرة؛ أي: لا يخرج عنها المسافة بين الجنة وجهنم، فالمسافة بين الجنة وجهنم موجودة بين الشريعة وبين حقيقتهم.
نعود لمتابعة النص، بعد القفز عن تفسيرات إشارية:
...ولكن هؤلاء المنكرون، لما تركوا الزهد في الدنيا وآثروها على الآخرة، وعلى ما يقرب إلى الله تعالى...
* وقفة قصيرة ثالثة: أين قوله هنا: (وآثروها على الآخرة) من أقوالهم: (إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟)، و(اخلع نعليك)، و(اخرج من الكونين).. إلخ؟! والتي سنراها في نصوص مقبلة...نتابع.
...وتعوّدوا أخذ العلم من الكتب، ومن أفواه الرجال، حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله عباداً تولى تعليمهم في سرائرهم، إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله، وعلمه هو العلم الصحيح الذي لا يشك مؤمن ولا غير مؤمن في كماله...فعلم أن من كان معلمه الله تعالى، كان أحق بالاتباع ممن كان معلمه فكره، ولكن أين الِإنصاف؟
فصان الله نفوسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، لكون المنكرين لا يردون الِإشارات، وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل الله في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لو تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحمّلت لكم منها سبعين وقراً)، فهل ذلك إلا من العلم اللدني الذي آتاه الله تعالى له.
* وقفة قصيرة رابعة: الكذب على علي بن أبي طالب أهون من الكذب على الله أو على رسوله. ونتابع.(78/74)
.. وقد كان الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول لعلماء زمانه: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علومنا عن الحي الذي لا يموت، وكان الشيخ أبو مدين إذا سمع أحداً من أصحابه يقول في حكاية: (أخبرني بها فلان عن فلان) يقول: لا تطعمونا القديد، يريد بذلك رفع همة أصحابه، يعني: لا تحدثوا إلا بفتوحكم الجديد الذي فتح الله تعالى به على قلوبكم في كلام الله تعالى أوكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواهب للعلم الِإلهي حي لا يموت، وليس له محل في كل عصر إلا قلوب الرجال.
* وقفة قصيرة أيضاً: يقول: (الذي فتح الله تعالى به.. في كلام الله تعالى أو كلام رسوله)!! فهل قول أبي يزيد، وقول أبي مدين يوافق كلام الله أو كلام رسوله من قريب أو من بعيد؟! أو من أبعد من بعيد؟! إلا عن طريق التأويل، فسيفه صقيل، ومفعوله سحري، بل يعجز السحر والسحرة والفجرة عن تحقيق ما يحققه التأْويل!.. نتابع.(78/75)
.. وسئل الأستاذ علي بن وفا رضي الله عنه من بعض العارفين، على لسان بعض المعترضين: لمَ دوّن هؤلاء العارفون معارفهم وأسرارهم التي تضر بالقاصرين من الفقهاء وغيرهم؟ أما كان عندهم من الحكمة وحسن الظن والنظر والرحمة بالخلق ما يمنعهم عن تدوينها؟ فإن كان عندهم ذلك فمخالفتهم له نقص! وإن لم يكن عندهم حكمة ولا حسن ظن فكفاهم ذلك نقصاً؟! فأجاب بقوله: يقال لهذا السائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة، ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة، عليم حكيم؟ فلا يسعه إلا أن يقول: نعم هو تعالى عليم حكيم، فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح أخر تربو على هذه المفاسد، قلت: وكذلك الجواب عن مسألتك، فكما أن الحق تعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهيرة مراعاة لأبصار من ضعف بصره! فكذلك العارفون لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم، بل الزاهدين فيها، بل المنكرين عليها.. وحسبك جواباً أن من دوّن المعارف والأسرار، لم يدونها للجمهور، بل لو رأى من يطالع فيها ممن ليس هو بأهلها لنهاه عنها.
* ملحوظة:
هذا سبب من أسباب تدوين هذياناتهم التي يسمونها (علماً) ظلماً للعلم، ويسمونها (حقيقة) ظلماً للحقيقة! ونتابع:
.. وكان بعض العارفين يقول: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا؛ وكذلك لا يجوز أن ينقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله إلى من لا يؤمن به، دخل هو والمنقول إليه جهنم الِإنكار، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رءوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل، ومع ذلك فلم يسمع أهل الغفلة والحجاب، بل تعدوا حدود القوم، وأظهروا كلامهم لغير أهله...
* وقفة قصيرة: هذا الكلام كله مغالطات، سيأْتي تفصيلها إن شاء الله تعالى بين ثنايا النصوص.. نتابع.(78/76)
.. فكما أوجب المجتهدون وحرّموا وكرهوا واستحبوا أموراً لم تصرح بها الشريعة في دولة الظاهر؛ فكذلك العارفون أوجبوا أموراً وحرموا وكرهوا واستحبوا أموراً في دولة الأعمال الباطنة؛ فالاجتهاد واقع في الدولتين...
* وقفة يجب أن تكون- هنا- طويلة جدًّا، ولكن لا مناص من تقصيرها: فالمجتهدون استنبطوا أحكاماً من النصوص؛ وهي موافقة لها ولكليات الشريعة الِإسلامية، بينما هؤلاء (العارفون) أوجدوا- عن طريق الكشف- عقائد لا تمت إلى الِإسلام بصلة، بل جاء الِإسلام وكل الأنبياء لمكافحة هذه العقائد.
أكرر القول: إن هؤلاء (العارفين) جاءوا بعقائد غريبة، وبنوا عليها أحكاماً غريبة!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.
.. فإن قيل: فلمَ رمّز القوم كلامهم في طريقهم بالاصطلاح الذي لا يعرفه غيرهم، إلا بتوقيف منهم كما مر؟ ولم لم يظهروا معارفهم للناس- إن كانت حقاً كما يزعمون- ويتكلموا بها على رءوس الأشهاد كما يفعل علماء الشريعة فى دروسهم، فإن في إخفاء العارفين معارفهم عن كل الناس رائحة ريبة، وفتحاً لباب رمي الناس لهم بسوء العقيدة وخبث الطوية؟
فالجواب: إنما رمَّزوا ذلك رفقاً بالخلق ورحمة بهم، وشفقة عليهم - (كذب ومغالطة، بل رمَّزوا خوفاً من سيف الحلاج) - وقد كان الحسن البصري! وكذلك الجنيد والشبلي وغيرهم، لا يقررون علم التوحيد إلا في قعور بيوتهم، بعد غلق أبوابهم، وجعل مفاتيحها تحت وركهم! ويقولون: أتحبون أن ترمى الصحابة والتابعون الذين أخذنا عنهم هذا العلم بالزندقة بهتاناً وظلماً.
* وقفة: هذا الكلام- أي: اتهام الحسن البصري والصحابة والتابعين بهذا الاتهام- هو البهتان والظلم، فقد كان الصحابة والتابعون والحسن البصري بريئين من هذه الزندقة، وفي كلامهم واتهامهم هذا مغالطة جريئة جدًّا جدًّا جدًّا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. نتابع.(78/77)
..وما ذلك إلا لدقة مداركهم (أي: الصوفية) حين صفت قلوبهم وخلصت من شوائب الكدورات الحاصلة بارتكاب الشهوات والآثام! ولا يجوز لأحد أن يعتقد في هذه السادة! أنهم ما يخفون كلامهم إلا لكونهم فيه على ضلال، حاشاهم من ذلك!! فهذا سبب رمز من جاء بعدهم للعبارات التي دونت، وكان من حقها أن لا تذكر إلا مشافهة، ولا توضع في الطروس، ولكن لما كان العلم يموت بموت أهله إن لم يدوّن، دوّنوا علمهم ورمزوه مصلحة للناس، وغيرةً على أسرار الله أن تذاع بين المحجوبين.
وأنشدوا في ذلك:
ألا إن الرموز دليل صدقٍ ……على المعنى المغيّب في الفؤاد
وكل العارفين لها رموزٌ ……وألغازٌ تدق على الأعادي
ولولا اللغز كان القولُ كفراً ……وأدّى العالمين إلى الفسادِ
* والآن.. ليست وقفة، بل مشية! إذا قال الشاعر: (الرموز دليل صدق) فقد كذب الشاعر وكذب شعره؛ لأن الرموز عكاكيز الدجاجلة، والشعراء يتبعهم الغاوون، أما اصطلاحهم فقد غدا معروفاً لدى الباحث، ولننتبه بشكل خاص إلى قوله: (ولولا اللغز كان القول كفراً). نتابع.
فقد بان لك أنه ليس للإنسان مقابلة الوحوش والسباع الكواسر والظهور لهم، إلا إن علم قدرته على دفع أذيتهم له بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة والمكنة والأنصار، فإن قيل: فلمَ لم يترك هذا العارف إظهار معارفه وأسراره بالكلية ويدخل فيما فيه الجمهور حتى يتمكن ويقوى فيكون ذلك أسلم له؟
* نعود إلى الوقفة، هنا أراد بقوله: (بتهيؤ أسباب القهر لهم بالقوة..) أن تكون (عبارة إشارية) فكانت أقرب إلى الإفصاح! لقد أشارت هذه العبارة إلى الكيد الذي يكيدونه للإسلام، وأفصحت عن الخطة التي وضعوها لذلك! أو بالأصح: الخطة الذي وضعها الشيطان ليكيد للإسلام باستخدامهم واستغلالهم! وفي قوله: (ويدخل فيما فيه المجهور حتى يتمكن..) إفصاح كامل عن أن ما هم فيه يختلف كل الاختلاف عما فيه الجمهور، أي: عن الإسلام. نتابع.(78/78)
...ونقل الإمام الغزالي في (الإحياء) وغيره عن الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين -رضي الله عنه- أنه كان يقول:
يا ربّ جوهر علمً لو أبوحُ به……لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا
ولاستحلّ رجالٌ مسلمونَ دمي ……يروْن أقبحَ ما يأتونهُ حسنًا
قال الغزالي: والمراد بهذا العلم الذي يستحلون به دمه: هو العلم اللدني، الذي هو علم الأسرار، لا من يتولى من الخلفاء ومن يعزل، كما قاله بعضهم؛ لأن ذلك لا يستحل علماء الشريعة دم صاحبه، ولا يقولون له: أنت ممن يعبد الوثن(1).اهـ.
* تعليق: هذا الشعر مفترى على زين العابدين، من قبل العارفين الصادقين الصديقين الأولياء.
ويقول محمد العربي السائح التجاني(2):
__________
(1) اليواقيت والجواهر، (ص:14- 19)، وقد حذفت منه كثيراً مما لا فائدة منه للبحث.
(2) محمد العربي بن السائح الشرقي العمري نسبة، التجاني مشرباً، مغربي توفي سنة: (1309هـ)، وهو تلميذ أحمد التجاني وأحد خلفائه.(78/79)
..قال الشيخ علي الروذباري: (علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي). ومن هنا احتاج أهل الله تعالى إلى وضع الِإشارات المصطلح عليها فيما بينهم، فيتكلمون بها عند حضور الغير وفي تآليفهم ومصنفاتهم لا غير، ولم يضعوها لأنفسهم؛ لأنهم يعرفون الحق الصريح في ذلك، والحامل لهم على وضعها الشفقة على الدخيل بينهم، خشية أن يسمع منهم أو يرى في تأليفهم شيئاً لا يصل إليه فهمه، فينكره، فيعاقب بحرمان علمه، فلا يعلمه بعد، والعياذ بالله تعالى...وكان بعض العارفين يقول: (نحن قومٌ يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقتنا، وكذلك لا يجوز أن يُنقل كلامنا إلا لمن يؤمن به، فمن نقله لمن لا يؤمن به دخل هو والمنقول إليه إلى جهنم، وقد صرح بذلك أهل الله تعالى على رءوس الأشهاد، وقالوا: من باح بالسر استحق القتل). فإن قيل: هلّا طوى العلماء من أهل الطريق بساط التأليف والتصنيف في مثل هذه العلوم وأمسكوا عن الخوض في رقائق الِإشارات ودقائق السر المكتوم؟ لأن الكلام في ذلك ربما ضر بالقاصرين من الفقهاء، فضلًا عمن عداهم، وربما خفيت وجوه المخرج فيه عن بعض النبلاء فضلاً عمن سواهم! أما كان عندهم من الحكمة والنظر للخلق بعين الشفقة والرحمة ما يمنعهم من الخوض في ذلك والتقحم لمضايق هاتيك المسالك؟! قلنا: قد ذُكر في (اليواقيت والجواهر) عن العارف بالله تعالى سيدي علي بن وفا رضي الله عنه، أنه قيل له مثل هذا فأجاب بقوله -رضي الله عنه-: يقال لهذا القائل: أليس الذي أطلع شمس الظهيرة ونشر ناصع شعاعها مع إضراره بأبصار الخفافيش ونحوها من أصحاب الأمزجة الضعيفة عليماً حكيماً؟ فإن قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح تربو على هذه المفاسد. قلنا له: وكذلك الجواب عن مسألتك! فكما أن الحق سبحانه وتعالى لم يترك إظهار أنوار شمس الظهر مراعاة لأبصار من ضعف بصره، فكذلك العارفون، لا ينبغي لهم أن يراعوا أفهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم؛ بل الزاهدين(78/80)
فيها، بل المنكرين عليها.. وكان تدوين معارفهم وأسرارهم من أحق الحقوق عليهم، لكون غيرهم لا يقوم مقامهم في تدوين أدوية أمراض القلوب وآداب حضرات الحق تعالى في جميع الأمور المشروعة؛ فإن لكل مقام حضوراً وآداباً تخصه...)(1).
- ولتخليص ما مضى وتثبيته؛ يجب أن نتذكر دائماً وألا ننسى أبداً أن غاية الصوفية واحدة وهدفها الذي يسعون إليه واحد، رغم اختلاف عباراتهم وأسماء طرقهم، وكل ما مضى براهين، ونزيده قولاً آخر لعبد الحليم محمود، يقول:
إن لكل صوفي طابعاً معيناً، ولكلامه مذاقاً خاصًّا، والصوفية وإن كانوا جميعاً يسيرون إلى هدف واحد، وغاية لا مذاهب فيها، هي التوحيد- فإنهم يختلفون في الشكل، ويتفاوتون في الطريق، ومن هنا كانت الكلمة المأثورة: (التوحيد واحد- والتوحيد هو الغاية- والطريق إلى الله كنفوس بني آدم.. إنها تتعدد وتتفاوت)(2).
- وهكذا عرفناً أن الغاية هي (وحدة الوجود)، وأنها غاية الصوفية وهدف جميع طرقها؛ ولا هدف ولا غايهّ لهم غيرها، والوصول إلى ذوقها هو ما يسمونه: (الِإحسان). وإن التقية واجبة، وهي التظاهر بالإسلام وشرعه، وإخفاء العقيدة الصوفية إلا لأهلها.
كما عرفنا متى يصرحون بعقيدتهم ولمن.. لكننا، وكما قلنا سابقاً، أمام مراوغات زئبقية لا تعرف معنى للخجل؛ فأحدهم يكذب عليك أمامك دون أي شعور بالحياء، كما حدث ويحدث دائماً.
ووقوفاً أمام مراوغاتهم ومكرهم نورد أيضاً أقوالاً لعدد كبير من أئمتهم، تثبت كلها أنهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، لكن بعد أخذ فكرة عن معاجمهم، وما يسمونه شروحاً لمصطلحاتهم.
* المعاجم الصوفية:
أَلف بعض علماء التصوف معاجم للمصطلحات الصوفية، واكتفى بعضهم بإدراج بعض المصطلحات، أو جملة منها في ثنايا تواليفهم مع ما يسمونه (شروحها).
__________
(1) بغية المستفيد، (ص:18، 19، 20).
(2) أبو بكر الشبلي حياته وآراؤه، (ص:5).(78/81)
وفي الواقع، ليست معاجمهم معاجم شروح وتفاسير، فالقارىء العادي لا يرى فيها إلا تفسير الألغاز بالألغاز، ولا يخرج منها بأي طائل؛ وذلك لأنها في حقيقة الأمر معاجم عبارات، فهي مصنوعة من أجل هدف واحد، هو أَن تقدم للسالك عبارات إشارية مرموزة جاهزة ليستعملها في كتاباته وفي حواره مع أهل الشريعة، وكذلك ما يقدمونه في ثنايا تواليفهم مما يسمونه (شروحاً) لمصطلحاتهم.
وفيما يلي مجموعة من مصطلحاتهم، مع شيء من العبارات التي تشير إلى معانيها الحقيقية بأسلوب رمزي، مأخوذة من معاجمهم ومن كتبهم، ولن أذكر اسم المرجع الذي آخذ منه العبارة، لئلا أزيد في حجم الكتاب من جهة؛ ولأن ذلك لا ضرورة له من جهة ثانية، إلا في حالات خاصة.
وأترك للقارىء الكريم أن يتسلى باستخراج معانيها الحقيقية ليتمرس باللغة الصوفية، وقد أوضّح بعض المعاني عندما أظن ذلك ضروريًّا، وأضع التوضيح بين قوسين، إن كان في درج كلامهم، أو أجعله بعد كلامهم بشكل تعليق أو ملحوظة..
* الجمع والفرق:(78/82)
الجمع شهود الأغيار بالله، والفرق شهود الأغيار لله، الجمع إشارة إلى حق بلا خلق، والفرق إِشارة إِلى خلق بلا حق، وقيل: مشاهدة العبودية، الجمع شهود الحق بلا خلق، والفرق (الأول) هو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء الرسوم الخلقية بحالها، الجمع إزالة الشعث والتفرقة بين القدم والحدث، (أي: بين الخالق والمخلوق) ؛ لأنه لما انجذبت بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات، استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة، وارتفع التمييز بين القدم والحدث لزهوق الباطل عند مجيء الحق...والجمع الصرف يورث الزندقة والِإلحاد، ويحكم برفع الأحكام الظاهرية (أي: الشريعة).. ولصاحب الجمع أن يضيف إلى نفسه كل أثر ظهر في الوجود (أي: يقول: أنا الخالق، أنا البارىء، أنا العرش) وكل فعل وصفة وأثر، لانحصار الكل عنده في ذات واحدة...والفرق: ما نسب إليك.. ومعناه أن ما يكون كسباً للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع، وشهود الحكمة والنظر إلى الأسباب فرق.
ومن العبارات المرموزة التي يقدمها الطوسي في (اللمع):
...الجمع والتفرقة اسمان، فالجمع جمع المتفرقات، والتفرقة تفرقة المجموعات، فإذا جمعت قلت: الله ولا سواه، وإذا فرقت قلت: الدنيا والآخرة والكون؛ وهو قوله: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] فقد جمع، ثم فرق، فقال: ((وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) [آل عمران:18]، كذلك قوله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) [البقرة:136]، وقد جمع؛ ثم فرق، فقال: ((وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) [البقرة:136].
* ملحوظة:
من الواضح جيداً أن في الكلام كثيراً من الوضوح؛ بل ومن التصريح، ولنلاحظ كيف يفسرون الآيات الكريمة تفسيراً ما أنزل الله به من سلطان.
ومنها:(78/83)
قال قوم: الجمع ما جمع البشرية في شهود الربوبية، والتفرقة ما فرقها عن تقسيم الرسوم، وقد ذهب الجنيد إلى أن قربه بالوجد جمع، وغيبته في البشرية تفرقة (أي: قرب الله في الوجد، وغيبة الله في البشرية). وقال أبو بكر الواسطي: إذا نظرت إلى نفسك فرقت، وإذا نظرت إلى ربك جمعت.. يضيف الطوسي قوله: وهذه أحرف مختصرة في معنى الجمع والتفرقة ولمن يتدبر في فهمه إِن شاء الله.
ومن شروح ابن عجيبة في (الفتوحات): ...قال شيخ شيوخنا علي العمراني رضي الله عنه في كتابه: اعلم أن الكلف (أي: القيام بالتكاليف) صفة من أوصاف الفرق، وعدم الكلف صفة من أوصاف الجمع، والفرق عبودية، وهو حق؛ والجمع ربوبية، وهو حق أيضاً، صار الحق هو القائل وهو المستمع لما قال؛ لأجل هذا المعنى تجد هؤلاء المتوجهين إلى الله تعالى، من غلب عليه شهود الجمع، تجده في غاية البسط والراحة من الكلف، ومن غلب عليه شهود الفرق تجده في غاية القبض والتعب والكلف.. اهـ.
* المعنى الصريح:
الجمع: هو جمع الخالق والمخلوق في وحدة، وشهود أن الله سبحانه هو كل الأشياء والموجودات، (ما الكون إلا القيوم الحي)، أو أنها جزء منه.
والفرق: هو التفريق بين الخالق والمخلوق، والظن أن المخلوق غير الخالق، والمؤمن بهذا سماه الغزالي في إحيائه (مشرك تحقيقاً) ؛ لأنه يجعل مع الله شريكاً له في الوجود.
* الحق بالحق للحق:
يقول الطوسي: وأما معنى قولهم: (الحق بالحق للحق) فالحق هو الله عز وجل. قال أبو سعيد الخراز: عبد موقوف مع الحق بالحق للحق، يعني: موقوف مع الله بالله لله، وكذلك: (منه له به) يعني: من الله لله بالله(1)...
أقول: يتوضح معنى العبارة إذا عرفنا أنها تشير إلى وحدة الوجود وإلى تحقق المعْنيِّ بها بالألوهية.
* التوحيد:
__________
(1) اللمع، (ص:411).(78/84)
محو آثار البشرية وتجريد الألوهية (والمعنى الصريح هو: توحيد كل الموجودات في وجود واحد، أي: لا موجود إلا الله، وقد خانتهم العبارة في هذا القول الذي يجب أن يكون (محو آثار الخلقية وتجريد الألوهية).
* الِإحسان:
أن تعبد الله كأنك تراه.. وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم وصفاء توحيدهم وقطعهم النظر إلى الأغيار ورؤيتهم النعم من المنعم (معجم مصطلحات الصوفية).
وهو التحقق بالعبودية على مشاهدة حضرة الربوبية بنور البصيرة، أي: رؤية الحق موصوفاً بصفاته بعين صفته...لأنه تعالى هو الرائي وصفه، وهو دون مقام المشاهدة في مقام الروح (اصطلاحات الصوفية للكاشاني).
* الفناء:
الطوسي في (اللمع) عن جعفر الخلدي: سمعت الجنيد يقول: وسئل عن الفناء فقال: إذا فني الفناء عن أوصافه وأدرك البقاء بتمامه.
قال: وسمعت الجنيد يقول وقد سئل عن الفناء؟ فقال: استعجام كلك عن أوصافه، واستعمال الكل منك بكليتك.
وقال ابن عطاء: من لم يفن عن شاهد نفسه بشاهد الحق، ولم يفن عن الحق بالحق، ولم يغب في حضوره عن حضوره، لم يقع بشاهد الحق.
وقال الشبلي: من فني عن الحق بالحق لقيام الحق بالحق، فني عن الربوبية فضلاً عن العبودية.
الخلاصة: الفناء هو الجذبة، أو ما يحصل أثناء الجذبة من غيبوبة عن الخلق، وهذا هو الفناء عن الخلق، أو ما يحصل من غيبوبة يتوهمونها أنها في الحق، ويسمونها: الفناء في الله، وهي شعور المجذوب بالألوهية.
* ملحوظة:
بدأت بالمصطلحات السابقة لأهميتها، والباقية ستكون حسب الترتيب الأبجدي.
* الاتحاد: هو شهود وجود الحق الواحد المطلق، الذي الكل به موجود بالحق، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجوداً به معدوماً بنفسه، لا من حيث أن له وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال. [أي: أنهم يعنون بالاتحاد (وحدة الوجود). ولننتبه إلى الجملة (لا من حيث إن له وجوداً خاصاً اتحد به، فإنه محال)].(78/85)
* الأحد: هو اسم الذات، باعتبار انتفاء تعدد الصفات والأسماء والنسب والتعينات عنها.
* انصداع الجمع: هو الفرق بعد الجمع، بظهور الكثرة في الوحدة، واعتبارها فيها. (ويسمى أيضاً: الفرق الثاني، وصحو الجمع،..).
* البارقة: هي لائحة ترد من الجناب الأقدس (هكذا يتوهمون) وتنطفىء سريعاً، وهي من أوائل الكشف ومبادئه.
* الباطل: ما سوى الحق، وهو العدم، إذ لا وجود في الحقيقة إلا للحق؛ لقوله عليه السلام: {أصدق بيت قاله العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ……وكل نعيم لا محالة زائل }
* البرزخ: هو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عندنا (عالم المثال) أعني الحاجز بين الأجساد الكثيفة وعالم الأرواح المجرد، (أعني: الدنيا والآخرة) ومنه الكشف الصوري. (المعنى الصريح: البرزخ هو عالم الجذبة، ويسمونها (البرزخ الأول) والبرزخ الثاني هو البرزخ بالمعنى الشرعي المعروف).
* البواده: جمع بادهة، وهي ما يفجأ القلب من الغيب، فيوجب بسطاً أو قبضاً.
* الجلاء: هو ظهور الذات المقدسة لذاتها في ذاتها، والاستجلاء: ظهورها لذاته في تعيناته.
- لننتبه جيداً إلى الجملة الأخيرة: (ظهورها لذاته في تعيناته).
* الهواجم: ما يرد على العبد بقوة الوقت من غير تعمق من العبد، وهي البواده المذكورة.
* الواحدية: اعتبار الذات (أي: الإلهية) من حيث انتشاء الأسماء منها، وأحديتها بها، مع تكثرها بالصفات.
* الوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني من فحص مواهبه، من غير تعمل من العبد.
* واسطة الفيض وواسطة المد: وهوالِإنسان الكامل الذي هو الرابطة بين الحق والخلق بمناسبة للطرفين، كما قال تعالى: لولاك لما خلقت الأفلاك!
* ملحوظة:
هذا كذب على الله سبحانه، إذ لا أصل لهذا القول إلا في اختراعاتهم.(78/86)
* الوجود: وجدان الحق ذاته بذاته، ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود، وجهان لعناية، هما: الجذبة والسكون، اللذان هما جهتا الهداية، وجهان للِإطلاق والتقييد، وهما جهتا اعتبار الذات بحسب سقوط جميع الاعتبارات، وبحسب إثباتها..
* ملحوظة:
ليس الفرق كبيراً بين قراءة هذا الهراء وبين علك اللباد. والمعنى بدون ثرثرة هو: الوجود هو الحالة التي يجد بها المجذوب أنه هو الله، وأن كل شيء هو الله (جل الله)، أو أنه يجد أن الله موجود به، أو أنه هو موجود في الله (تعالى الله)، ولذلك يطلقون على الله سبحانه اسم (الوجود)، وللهراء تتمة حذفناها رحمة بأعصاب القارىء.
* الحال: ما يرد على القلب بمحض الموهبة، من غير تعمل أو اجتناب كحزن أو خوف أو بسط أو قبض أو شوق أو ذوق (يجب الانتباه إلى معنى كلمة ذوق). ويزول بظهور صفات النفس، سواء يعقبه الميل أو لا، فإذا قام وصار ملكاً سمي مقاماً.
* الحجاب: انطباع الصور الكونية في القلب، المانعة لقبول تجلي الحقائق.
* حقيقة الحقائق: هي الذات الأحدية الجامعة، بجميع الحقائق وتسمى حضرهّ الجمع، وحضرة الوجود.
* الحقيقة المحمدية: هي الذات (أي: الِإلهية) مع التعين الأولى، فله (أي: لمحمد) الأسماء الحسنى كلها وهو الاسم الأعظم.
* الطالع: أول ما يبدو من تجليات الأسماء الِإلهية على باطن العبد، فيحسن أخلاقه وصفاته بتنوير باطنه.
- لعل القارىء يذكر ما هو معنى «يحسن أخلاقه وصفاته» وإن كان قد نسي فليرجع إِلى صفحات سابقة.
* الطمس: هو ذهاب رسوم السيار (أي: السالك) بالكلية في صفاء نور الأنوار.
* يوم الجمعة: وقت اللقاء والوصول إلى عين الجمع: (أي: وقت التحقق بالألوهية).
* الكل: اسم للحق تعالى، باعتبار الحضرة الواحدية الإلهية الجامعة للأسماء كلها، ولهذا يقال: أحد بالذات كلٌّ بالأسماء [وواضح أن (الكل) تعني كل شيء في الوجود].
* اللائحة: هي ما يلوح من نور التجلي، ثم يروح، وتسمى أيضاً بارقة وحضرة.(78/87)
* اللطيفة: كل إشارة رقيقة المعنى، يلوح منها في الفهم معنى لا تسعه العبارة.
* اللوامع: أنوار ساطعة تلمع لأهل البدايات من أرباب النفوس الصافية الطاهرة، فتنعكس من الخيال إلى الحس المشترك، فتصير مشاهدة بالحواس الظاهرة، فتتراءى لهم كأنوار الشهب والقمر والشمس فتضيء ما حولهم. وهي إما من غلبة أنوار القهر والوعيد على النفس، فتضرب إلى الحمرة، وإما من غلبة أنوار اللطف والوعد، فتضرب إلى الخضرة والفقوع.
* المحو: رفع أوصاف العادة، بحيث يغيب العبد عندها عن عقله (أي: الجذبة)، ويحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها كالسكر من الخمر.
* محو الجمع والمحو الحقيقي: هو فناء الكثرة في الوحدة: (أي: استشعار وحدة الوجود).
* المفتاح الأول: هو اندراج الأشياء كلها على ما هي عليه في غيب الغيوب، الذي هو أحدية الذات: كالشجرة في النواة، ويسمى بالحروف الأصلية.
* ممد الهمم: هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه الواسطة في إفاضة الحق والهداية على من يشاء من عباده.
* المنقطع الوحداني: هو حضرة الجمع التي ليس للغير فيها عين ولا أثر، فهي محل انقطاع الأغيار، وعين الجمع الأحدية، ويسمى منقطع الِإشارة، وحضرة الوجود، وحضرة الجمع.
* نهاية السفر الأول: هو رفع حجاب، الكثرة عن وجه الوحدة.
* نهاية السفر الثاني: رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة العلية الباطنية.
* نهاية السفر الثالث: هو زوال التقيد بالضدين (أي: الجمع والفرق) ظاهراً وباطناً، بالحصول في أحدية عين الجمع.
* نهاية السفر الرابع: شهود اضمحلال الخلق في الحق، واندراج الحق في الخلق، حتى يرى العين الواحدة (أي: الله سبحانه) في الصور الكثيرة، والصور الكثيرة في عين الوحدة.
* السالك: هو السائر إلى الله (بل إلى الجذبة) المتوسط بين المريد والمنتهي، ما دام في السير (أي: يقوم بالذكر والخلوة).
* الستائر: صور الأكوان؛ لأنها مظاهر الأسماء الِإلهية، تعرف من خلقها.(78/88)
* سر التجليات: هو شهود كل شيء في كل شيء، وذلك بانكشاف التجلي الأول للقلب، فيشهد الأحدية الجمعية بين الأسماء كلها، لاتصاف كل اسم بجميع الأسماء، لاتحادها بالذات الأحدية، وامتيازها بالتعينات التي تظهر في الأكوان التي هي صورها، فيشهدكل شيء.
* سر الربوبية: هو ظهور الرب بصور الأعيان، فهي من حيث مظهريتها للرب القائم بذاته الظاهر بتعيناته قائمة به موجودة بوجوده.
* العالم: هو الظل الثاني، وليس إلا وجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سمي باسم السوى والغير...وإلا فالوجود عين الحق.. فالعالم صورة الحق، والحق هوية العالم وروحه، وهذه التعينات في الوجود الواحد أحكام اسم الظاهر الذي هو مجلى لاسمه الباطن.
* العارف: من أشهدهُ الله تعالى ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث عن شهود (انظر معنى كلمة شهود فيما بعد).
* عين الجمع: اسم من أسماء التوحيد (أي: توحيد الخالق والمخلوق في وحدة واحدة).
* عين الحياة: مظهر الحقيقة الذاتية من هذا الوجود، أو: هو باطن الاسم الحي الذي من تحقق به شرب من ماء عين الحياة الذي من شرب منه لا يموت أبداً؛ لكونه حيًّا بحياة الحق، وكل حي في العالم يحيا بحياة هذا الِإنسان لكونه حياتُه حياةُ الحق.
* الري: مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال (هذا التعريف لأبي الحسن الشاذلي من طبقات الشعراني).
* العيد: ما يعود على القلب من التجلي، أو وقت التجلي كيف كان.
* الفرق الأول: هو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء الرسوم الخلقية بحالها. (أي: هي حالة المحجوبين- مثلنا- الذين يظنون أن الخلق هم غير الحق).
* الفرق الثاني: هو شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة فى الكثرة، والكثرة في الوحدة، من غير احتجاب صاحبه بإحداهما عن الأخرى.(78/89)
(أي: هو كما يقول ابن عجيبة: إياك أن تقول أنا الله، واحذر أن تكون سواه).
* الفرقان: فرق.
* القرآن: جمع.
* فرق الجمع: هو الفرق الثاني، ومثله: صحو الجمع، والفرق في الجمع.
* الفهوانية: خطاب الحق بطريق المكافحة في عالم المثال. (كلمات كلها غموض ولكن عرفنا ما هو عالم المثال، إنه في الواقع عالم الجذبة عندما يكون المجذوب غائباً عن شعوره بالمخلوقية، وعندما يشعر أنه الله، ويكون معنى (الفهوانية) هو الكلام الذي يسمعه المجذوب من نفسه باعتباره هو الله، أثناء الجذبة).
* صاحب الزمان، وصاحب الوقت، وصاحب الحال: هو المتحقق بجمعية البرزخية الأولى، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضية ومستقبلة، إلى (الآن) الدائم، فهو ظرف لأحواله وصفاته وأفعاله، فلذلك يتصرف في الزمان بالطي والنشر، وفي المكان بالقبض والبسط؛ لأنه المتحقق بالحقائق والطبائع، والحقائقُ في القليل والكثير، والطويل والقصير، والعظيم والصغير سواء، إذ الوحدة والكثرة والمقادير كلها عوارض، فكما يتصرف في الوهم فيها، كذلك في العقل فصدّق، وافهم تصرفه فيها في الشهود والكشف الصريح، فإن المتحقق بالحق المتصرف بالحقائق، يفعل ما يفعل في طوروراء أطوار الحس والوهم والعقل، ويتسلط على العوارض بالتغيير والتبديل.
* الصعق: هو الفناء في الحق بالتجلي الذاتي: (أي: التحقق بالألوهية وذوقها).
* صورة الحق: هو محمد صلى الله عليه وسلم، لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية، ويعبر عنه بـ (صاد) كما لوح إليه ابن عباس رضي الله عنه، حين سئل عن معنى (ص) فقال: جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن.
* الرداء: هو ظهور صفات الرب على العبد.
* الرسم: هو الخلق وصفاته.
* الرعونة: الوقوف مع حظوظ النفس ومقتضى طباعها. (أي: هي الركون إلى الشعور بالمخلوقية، أو هي الركون إلى الفرق الأول).(78/90)
* الشاهد: ما يحضر القلب من آثار المشاهدة (أي: مشاهدة الألوهية) وهو الذي يشهد له بصحة كونه محتظياً من مشاهدة شهوده، إما بعلم لدني لم يكن له فكان، أو وجد، أو حال، أو تجل وشهود.
* شعب الصدع: هو جمع الفرق بالترقي عن حضرة الواحدية إلى حضرة الأحدية، ويقابله صدع الشعب، هو النزول عن الأحدية إلى الواحدية.
* الشهود: رؤية الحق بالخلق (أي: رؤية الله في المخلوقات، يعني رؤية أن كل شيء هو الله).
* شهود المفصل في المجمل: رؤية الكثرة في الذات.
* شهود المجمل في المفصل: رؤية الأحدية في الكثرة.
* شواهد الحق: هي حقائق الأكوان، فإنها تشهد بالكون.
* الشئون الذاتية: اعتبار النفوس والأعيان والحقائق في الذات الأحدية، كالشجرة وأغصانها وأوراقها وأزهارها وأثمارها في النواة.
* التحقيق: شهود الحق في صور أسمائه التي هي الأكوان، فلا يحتجب بالحق عن الخلق، ولا بالخلق عن الحق (أي: هو مقام البقاء).
* الذوق: هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية، عن أدنى لبثة من التجلي البرقي، فإذا زاد وبلغ أوسط مقام الشهود، سمي شرباً، فإذا بلغ النهاية سمي ريًّا.
* ذو العقل والعين: هو الذي يرى الحق في الخلق، والخلق في الحق، ولا يحتجب بأحدهما عن الآخر، بل يرى الوجود الواحد بعينه حقًّا من وجه، وخلقاً من وجه، فلا يحتجب بالكثرة عن شهود الوجه الواحد الأحد، ولا يزاحم في شهود كثرة المظاهر أحدية الذات التي يتجلى فيها، ولا يحتجب بأحدية وجه الحق عن شهود الكثرة الخلقية.
* ظاهر الممكنات: هو تجلي الحق بصور أعيانها وصفاتها، وهو المسمى بالوجود الِإضافي، وقد يطلق عليه (ظاهر الوجود).
* ظل الإله: هو الِإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية.
* الغوث: هو القطب حينما يلتجأ إليه.
* غيب الهوية: هو الذات (الإلهية) باعتبار اللاتعين.(78/91)
* العبارة والِإشارة والرمز: الِإشارة أرق وأدق من العبارة، والرمز أدق من الِإشارة، فالأمور ثلاثة: عبارات وإشارات ورموز، وكل واحدة أدق مما قبلها، فالعبارة توضح، والِإشارة تلوح، والرمز يفرح، أي: يفرح القلوب بإقبال المحبوب.
- أقول: هكذا يعرف ابن عجيبة العبارة والِإشارة والرمز في كتابه (إيقاظ الهمم) ص (118)، لكن أقوال القوم واستعمالاتهم تجعل المعنى خلاف ذلك.
فالعبارة: هي الجملة التي يستعملها المتصوفة فيتفاهمون بها فيما بينهم، ولا يفهم الآخرون من حقيقة معانيها شيئاً، إلا معان يتوهمونها لجهلهم، والعبارة تكون إشارة أو رمزاً أو لغزاً، وهذه الثلاثة متقاربة المعاني، ولا فائدة من تفصيلها هنا(1).
* عالم المثال: الجذبة ورؤاها.
* طريق المكافحة: هو معاملة السالك (أي: مشاهدته ومخاطبته وسمعه) لله بالله (أي: لله الكائن فى السالك، بالله الذي استشعره السالك. فهو مثلاً: يسمع من الله بالله، أي: يسمع من الله الباطن فيه بالله الذي هو نفسه حين استشعار الألوهية، أو يسمع من نفسه بنفسه، أي: من نفسه التي هي الله الباطن فيه، بنفسه التي وصلت إلى الشعور بالألوهية وذوقها وذوق معانيها).
* الحضور: النفس حين تتحد بالواحد في حال الجذب (هذا التعريف هو لأفلوطين، من المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية)، وإذا أردنا أن نصيغ هذه الجملة بالعبارة الصوفية، نقول: الحضور هو الفناء في الذات.
- قبل الانتقال إلى الفصل الثاني، نورد هذا النص للتذكير والتوكيد.
- يقول الدكتور سيد حسين نصر (صوفي شديد التحمس للصوفية):
__________
(1) من يريد التفصيل يمكنه الرجوع إلى كتبهم، مثل: (إيقاظ الهمم) لابن عجيبة، (ص:118، 119)، وغيره من كتبهم.(78/92)
..والأدب الصوفي الضخم الوارد فى جميع اللغات الِإسلامية.. هذا الأدب أشبه بمحيط يزخر بأمواج تندفع في جهات مختلفة، وتتخذ صوراً متباينة لكنها تعود دوماً إلى المنشأ الذي انطلقت منه.. لقد كان أقطاب التصوف على اتفاق في لباب ما قالوه عبر العصور وإن تباينت تعابيرهم(1)..
- يفهمنا هذا النص أن كل العبارات الصوفية المختلفة التي مرت والتي ستمر والتي لن تمر معنا، كلها تشير إلى معنى واحد، (وقد عرفناه، إنه وحدة الوجود).
يقول سيد حسين نصر مؤكداً:
..وكل ما نستطيعه هو التشديد على أن التعاليم الصوفية تدور حول عقيدتين أساسيتين هما: (وحدة الوجود)، و(الإنسان الكامل). إن جميع الأشياء تجليات للأسماء الحسنى والصفات الِإلهية، فبالِإنسان الكامل يتصور الله بذاته، ويتأمل جميع الأشياء التي جاء بها إلى- حيز الوجود(2).
لننتبه إلى تعريفه للِإنسان الكامل، وقد عرفنا مما سبق أن الِإنسان الكامل عندهم هو الذي وصل إلى مقام الفرق الثاني، وقد يضيفون المقدرة على كسب ثقة الآخرين، ويجعلونَ محمداً صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للِإنسان الكامل، ولذلك، كثيراً ما يطلقون هذه العبارة (الِإنسان الكامل) وهم يعنونه بها.
في ختام هذا الفصل أعود فأذكر أن كتّاب الصوفية وشعراءها ومتكلميها يتفاوتون فيما بينهم بالمقدرة الفنية على سبك العبارة الصوفية بإشاراتها ورموزها وألغازها التي تطوي دائماً في ثناياها معنى وحدة الوجود، ويأتي في مقدمتهم: الجنيد، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وشهاب الدين السهروردي البغدادي.. وآخرون.
__________
(1) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:22).
(2) الصوفية بين الأمس واليوم، (ص:42).(78/93)
وكان من الممكن أن يكون محيي الدين بن عربي منهم، لولا كثرة تواليفه مع كثرة ما يورد فيها من عبارات شعرية ونثرية، جعلت قسماً منها يخونه بوضوحه؛ لأن من كثر لغطه كثر غلطه، وللزيادة في التبيين والمساعدة على التمرس باللغة الصوفية، أُورد مثلاً من عبارات الجنيد:
جاء في كتاب (دقائق التفسير الجامع لتفسير الِإمام ابن تيمية) قول ابن تيمية رحمهُ الله:
(...وبين لهم الجنيد الفرق الثاني، وهو أنهم مع مشاهدة المشيئة العامة، لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه، وهو الفرق بين ما يحبهُ وما يبغضه، وبين ذلك لهم الجنيد، كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم)(1).. إلخ.
أقول: رحم الله ابن تيمية، لم يكلف نفسه دراسة اللغة الصوفية وعباراتها، فانزلق مثل هذا الانزلاق.
وأظن أن عبارة الجنيد (مشاهدة المشيئة العامة) هي الآن واضحة المدلول، أما العبارتان: (ما يأمر الله به، وما ينهى عنه) فقد تغيب الإشارة فيهما عن القارئ الذي لم يتمرس بعد باللغة الصوفية، فإلى ماذا تشيران؟
مر معنا في صفحات سابقة، وسيمر فيما يأتي من فصول أنهم يقولون بالِإسلام والِإيمان والِإحسان الذي جاء في الحديث الشريف، وأنهم يفسرون (الِإحسان) أنه الفناء في الذات، أو استشعار الألوهية وتذوقها، وبالتالي معرفة وحدة الوجود استشعاراً وذوقاً وتحققاً.
ومر معنا- وسيمر- أنهم يجعلون معنى كلمة (الفاحشة، أو الفواحش) الواردة في القرآن الكريم هو البوح بالسر، ولنتذكر أيضاً تفسيرهم للآية الكريمة: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ)) [الحاقة:44]، وغيرها.
__________
(1) دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع وتحقيق د. محمد السيد الجليد: (1/426).(78/94)
من هنا تتوضح الِإشارة في قول الجنيد (ما يأمر الله به) التي تشير إلى الآية الكريمة: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...)) [النحل:90]، وكذلك الِإشارة في قوله: (وما ينهى عنه) التي تشير إلى الآية الكريمة: ((وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...)) [النحل:90].
أي إن عبارة الجنيد: (ما أمر الله به) تشير إلى (الِإحسان) الذي يأْمر الله به، والذي هو عندهم معرفة وحدة الوجود؛ وعبارته: (وما ينهى عنه) تشير إلى (الفحشاء) التي ينهى الله سبحانه عنها، والتي هي عندهم البوح بالسر.
وبذلك تكون العبارة: (لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه) لها نفس معنى عبارة الشاذلي: (اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً) ونفس معنى عبارة الجيلاني (فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارة وإلى جماله تارةً أخرى)، ونفس معنى عبارة ابن عجيبة: (إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه)..
وكذلك العبارة: (الفرق بين ما يحبه وما يبغضه) تشير إلى نفس المعنى.
أما عبارة: (إفراد الحدوث عن القدم) فتحمل نفس معنى (اجعل الفرق في لسانك موجوداً).
- ومثل آخر من عبارات أحمد الفاروقي السرهندي(1)، يقول:
__________
(1) أحمد بن عبد الأحد، يلقبونه بـ (مجدد الألف الثاني)، وهو مؤسس الطريقة المجددية، مات سنة (1034هـ/1625) في الهند.(78/95)
...مثلاً، قالت طائفة، من السكر، بالِإحاطة الذاتية، ورأوا أن الحق محيط بالعالم بالذات تعالى وتقدس، وهذا الحكم مخالف لآراء علماء أهل الحق، فإنهم قائلون بإحاطة علمية، وآراء العلماء أقرب إلى الصواب في الحقيقة(1)...ا هـ. إنه يقول: إن القائلين: إن الله سبحانه محيط بالعالم إحاطة علمية (أي: بعلمه سبحانه)، هم أقرب إلى الصواب من القائلين بأنه محيط بالعالم بذاته، ولعل القارىء انتبه إلى أن القول بالإحاطة الذاتية يقتضي الاثنينية: محيط ومحاط به، بينما القول بالإحاطة العلمية لا يقتفي لا الوحدة ولا الاثنينية، أَي: إن القول بأن الله سبحانه محيط بالعالم بعلمه لا يتنافى مع وحدة الوجود، كما أنه لا يتنافى مع التفريق بين الخالق والمخلوق، ولذلك كان هذا القول أقرب إلى الصواب. (ولننتبه إلى عبارة (أقرب إلى الصواب) التي تعني أنه ليس الصواب بعينه، وإنما هو أقرب إليه من ذلك القول). وبعبارة أوضح: إن مقولة (الإحاطة الذاتية) يمكن أن تحمل معنى الاثنينية أكثر من مقولة (الإحاطة العلمية) ولذلك كانت مقوله (الإحاطة العلمية) أقرب إلى الصواب الذي هو وحدة الوجود.
الفصل الثالث
وحدة الوجود عقيدة كل الصوفية
إن كنت لم تقطع بـ(لا) عنق السِّوى ……في قصر (إلا الله) لستَ بواصل
عن أحمد الفاروقي السرهندي.
قبل البدء بقراءة هذا الفصل يجب استيعاب الفصلين السابقين، وهضمهما وتمثلهما، ليصبح القارىء ممتلكاً ناصية العبارة الصوفية، يفهمها كما يفهمها أصحابها وواضعوها، لا كما يحلو له أن يتوهم، أو كما يوهمونه.
إن الصوفيين كلهم، من أولهم إلى آخرهم، (إلا المبتدئين)، يؤمنون بوحدة الوجود، وما مضى، ومئات النصوص التالية هي أدلة وبراهين.
يقول أبو بكر الكلاباذي في التعرف:
قال الجنيد: المعرفة وُجودُ جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا. قال: هو العارف وهو المعروف.
__________
(1) المنتخبات من المكتوبات، (ص:10).(78/96)
يفسر أبو بكر الكلاباذي هذا الكلام فيقول: (معناه: أنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو)(1).
- قوله: (العارف هو المعروف)، واضح تماماً، فالعاوف (وهو مخلوق) هو نفس المعروف (الذي هو الله).
- وقول الكلاباذي: (أنك جاهل به من حيث أنت..)، فضمير المخاطب (أنت) يرمز به إلى (الفرق)، فهو يريد أن يقول: (إنك جاهل به) (أي: بالحق) من حيث تعتقد أنك (أنت) ولست (هو)، وإنما عرفته من حيث أنك (هو).
وبيت لابن الفارض قد يساعد على توضيح المعنى، يقول:
فقد رُفِعت تاء المخاطب بيننا ……وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفعتي
- هذا هو نفس المعنى الذي أراده الجنيد بقوله: (المعرفة وجود جهلك..).
وقال أيضاً (أي: الجنيد):
حقيقة التوكل: أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل(2).
- قوله: أن يكون (أي: المتوكل الذي هو خلق)، كما لم يكن (أي: كأنه غير موجود كما كان سابقاً)، وهذا ما يسمونه (الفناء عن الخلق)، فيكون الله له كما لم يزل (أي: هو الموجود الوحيد ولا موجود غيره).
ويقول سهل بن عبد الله التّستري:
يا مسكين! كان ولم تكن، ويكون ولا تكون. فلما كنت اليوم صرت تقول: أنا وأنا!
كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان(3)...
- قول سهل هذا، هو نفس قول الجنيد، لكنه أكثر وضوحاً منه، وهو في الواقع لا يريد من جملته كلها إِلا قوله: (كان ولم تكن، وإنه اليوم كما كان)، وليس في باقي كلامه معنى يزيد على هذا.
- في هذه الأقوال وضوح قد يغيب عن بعض القراء، لكن بالرجوع إلى ما سبق من نصوص، وبملاحقة ما يأتي، يتبين المعنى تماماً؟ إنه «لا موجود إلا الله»، و«الكون هو الله».
ويقول أبو نصر الطوسي(4) في (اللمع):
__________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف، باب: (22)، (ص:66).
(2) التعرف، باب: (44)، (ص:101).
(3) إحياء علوم الدين: (4/222).
(4) أبو نصر الطوسي مؤلف (اللمع)، الكتاب الأم في التصوف، مات سنة: (378هـ).(78/97)
وبلغني عن أبي حمزة (الصوفي)(1) أنه دخل دار حارث المحاسبي، وكان لحارث دار حسنة وثياب نظاف، وفي داره شاة مُرغية، فصاحت الشاة مرغية، فشهق أبو حمزة شهقة، وقال: (لبيك يا سيدي)، قال: فغضب الحارث وعمد إلى سكين، فقال: إن لم تتب من هذا الذي أنت فيه أذبحك. قال: فقال له أبو حمزة: أنت إذا لم تحسن هذا الذي أنت فيه فلِمَ لا تأكل النخالة بالرماد..
يعلق الطوسي على هذا الكلام فيقول: يريد (أبو حمزة) بذلك أن إنكارك عليّ يشبه أحوال المريدين والمبتدئين(2).
- أي إن الشاة هي الله (أو جزء منه) وإن صوتها صوته (!) تعالى الله علواً كبيراً.
وتكلم أبو حمزة في جامع طرسوس فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم، إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة، وقالوا: حُلولي زنديق، وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع: (هذا فرس الزنديق)(3).
وأبو الحسين النوري(4): سمع أذان المؤذن فقال: طعنة وشم الموت، وسمع نباح الكلاب، فقال: لبيك وسعديك(5).
- وهذا يعني أن الله هو كل ما نرى (وما لا نرى) بما في ذلك (؟!) تعالى الله.
وقد مر معنا قول الشبلي، وهو يجيب الجنيد: (أنا أرى وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري).
وهذا قول بعيد الإشارة بعض الشيء، على أن الشبلي يكون أكثر وضوحاً عندما يقول لبعض زواره عند خروجهم من عنده: أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وكلاءتي(6).
يقول الطوسي شارحاً: (أراد بقوله ذلك: إن الله تعالى معكم حيث ما كنتم وهو يرعاكم..).
ويقول الشبلي أيضاً:
__________
(1) قُتل على الزندقة، ولم أقف على تاريخ قتله، وهو من أقران الجنيد.
(2) اللمع، (ص:495)، وقد أورد القصة أيضاً عبد الفتاح أبو غدة في ترجمته للحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين)، (ص:23).
(3) تلبيس إبليس، (ص:169).
(4) أحمد بن محمد النوري، بغدادي من أقران الجنيد، مات سنة: (295هـ)..
(5) اللمع، (ص:492).
(6) اللمع، (ص:478).(78/98)
كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت(1).
- وسنرى بعد قليل ما هي عقيدة الحلاج هذه التي كتمها الشبلي وأظهرها الحلاج فقُتل.
وعندما صُلب الحلاج ليُقتل، أرسل الشبلي امرأة متصوفة وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله ائتمنك على سرٍّ من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد(2).
- ونحن نعرف الآن ما هو هذا السر، ومع ذلك فسنراه من أقوال الحلاج الصريحة.
ويقول إبراهيم بن محمد النصراباذي(3):
إن كان بعد النبيين والصديقين موحدٌ فهو الحلاج(4).
- نفهم مما سبق أن الشبلي والنصراباذي يوافقان الحلاج في عقيدته كل الموافقة، فعقيدته التي سنراها هي عقيدتهما. ويقول أبو سعيد الخزاز(5): معنى الجمع: أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم، بل أعدمهم وجود وجودهم لأنفسهم عند وجودهم له(6).
يفسر الكلاباذي هذا الكلام بقوله: معناه قوله: (كنت له سمعاً وبصراً ويداً، فبي يسمع وبي يبصر..) الخبر.
- كلام الخراز أوضح من تفسير الكلاباذي، وفي الحقيقة، إن الكلاباذي لا يريد تفسير كلام الخراز، بل يريد دعمه بالحديث الشريف، الذي أورده مشوهاً، مع العلم أن هذا المعنى الذي يعتمده الصوفية لهذا الحديث هو معنى فاسد، وسيأتي تفصيله، وقوله: (أوجدهم نفسه في أنفسهم) واضح جدًّا.
* وقال فارس(7):
__________
(1) من كتاب (الحلاج) لـ (طه عبد الباقي سرور)، وهو شيخ الصوفية في مصر، معاصر، (ص:104).
(2) الفكر الصوفي، (ص:62).
(3) أبو بكر النصراباذي من نيسابور، صحب الشبلي، وخرج في آخر حياته إلى مكة، ومات فيها عام: (367هـ).
(4) تلبيس إبليس، (ص:172).
(5) أحمد بن عيسى الخزاز (لسان التصوف) من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وغيره، مات سنة: (277هـ).
(6) التعرف، (ص:121).
(7) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.(78/99)
سألت أبا عبد الله المعروف بشكثل(1): (ما الذي منعك عن الكلام؟)، فقال: يا هذا، الكون توهمٌ في الحقيقة، ولا تصح العبارة عما لا حقيقة له، والحق تقصُرُ عنه الأقوالُ دونه! فما وجه الكلام؟ وتركني ومر(2).
- إنه يصرح بكل وضوح أن الكون توهم لا حقيقة له باعتباره كوناً (أو خلقاً) وليس إلا الحق الذي تقصر عنه الأقوال دونه.
* ملحوظة:
كان يكفيه أن يقول: تقصر عنه الأقوال. أو: تقصر الأقوال دونه، ولكنه استعمل الكلمتين (عنه) و(دونه) للتعمية بالتعقيد.
ويقول أبو يزيد البسطامي:
غبتُ في الجبروت، وخضت بحار الملكوت، وحُجُبَ اللاهوت، حتى وصلتُ إلى العرش، فإذا هو خالٍ، فألقيت نفسي عليه، وقلت: سيدي أين أطلبك؟ فكشف، فرأيت أني أنا، فأنا أنا، أوّلي فيما أطلب، وأنا لا غيري فيما أسير(3).
وقال عندما تجلى له هذا النور (أي: نور وحدة الوجود):
(سبحاني ما أعظم شأني)(4)!!
ويقول الحلاج:
وأي الأرض تخلو منك ……حتى تعالوْا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إِليك جهراً ……وهم لا يبصرون من العماء(5)
- يريد بقوله: (ينظرون إليك جهراً)، أي: أن كل ما يرونه هو أنت.
ويقول:
يا عينَ عينِ وجودي يا مدى هممي ……يا منطقي وعباراتي وإيمائي
يا كلَّ كلي ويا سمعي ويا بصري ……يا جملتي وتباعيضي وأجزائي(6)
ويقول:
سبحان من أظهر ناسوته ……سرّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً ……في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقُه ……كلحظة الحاجب بالحاجب(7)
ويقول:
رأيتُ ربي بعين قلب ……فقلتُ من أنت قال أنت
فليس للأين منك أينٌ ……وليس أينٌ بحيث أنت
__________
(1) لم أقف على ترجمتهما، ويفهم من أقوال الكلاباذي أنهما معاصران له.
(2) التعرف، (ص:148).
(3) شطحات الصوفية، (ص:164).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:156).
(5) أخبار الحلاج، (ص:125)، وفي ديوانه.
(6) أخبار الحلاج، (ص:115)، وفي الديوان أيضاً.
(7) الديوان وأخبار الحلاج، (ص:127).(78/100)
في محواسمي ورسم جسمي ……سألتُ عني فقلتُ: أنت
أشار سري إليك حتى ……فنيت عني ودمتَ أنت(1)
ويقول:
عقد الخلائقُ في الِإله عقائداً ……وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه(2)
ويقول:
يا سر سر يدق حتى ………يحل عن وصف كل حي
وظاهراً باطناً تبدّى ………من كل شيء لكل شيء
إن اعتذاري إليك جهلٌ ……وعظم شك وفرط عيْ
يا جملة الكل لست غيري ………فما اعتذاري إذاً إليْ(3)
ويقول: فالحقيقة، والحقيقهّ خليقة، دع الخليقة لتكون أنت هو، أو هو أنت من حيث الحقيقة(4).
ويقول: وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغيّر عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد(5).
- وكتب كتاباً هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، المتجلي عن كل شيء لمن يشاء. السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي، وحقيقة الكفر معرفة جليلة.
أما بعد، حمداً لله الذي يتجلى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السماوات والأرضين عمن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره، فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود، والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغتر بالله ولا تيئس منه. وإياك والتوحيد، والسلام(6).
ويقول:..إن بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون علي بالكفر أحب إلي وإلى الله من الذين يقرون لي بالولاية.. لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون علي بالكفر تعصباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبُّ إلي ممن أحسن الظن بأحد(7)...
__________
(1) الديوان، (ص:16)، والأبيات هنا غير متتابعة، وأوائلها موجود في (طاسين النقطة).
(2) الديوان، (ص:76)، وينسب أيضاً لابن عربي، وهو الأصح.
(3) أخبار الحلاج، (ص:78).
(4) طاسين الصفاء.
(5) طاسين الأزل والالتباس.
(6) أخبار الحلاج، (ص:50).
(7) أخبار الحلاج، (ص:26).(78/101)
وقال: ...يا إِله الآلهة، ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم، رُدّ إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا من هو أنا وأنا هو، لا فرق بين أنّيتي وهويتك إلا الحدث والقدم(1)...
- هذه عقيدة الحلاج، عقيدة وحدة الوجود (الكون هو الله)، أو هو جزء من الله (!) سبحانك اللهم عما يصفون.
وسنرى أن هذا القسم المتعين (أي: المتشكل في أعيان) من اللاهوت، يسمى بلسان العارفين (الملكوت)، ويسميه المحجوبون أمثالنا (الملك)، أما القسم اللطيف من اللاهوت، الذي لم يتعين، فهو (الجبروت). وناقل الكفر ليس بكافر.
بمعرفتنا عقيدة الحلاج نعرف عقائد كثيرين من كبار الطائفة الذين يصرحون بولايته وصدِّيقيته. ومرت معنا أمثلة منها.
وقد درج كثير من كتابهم على ألا يذكروا اسمه صراحة، لئلا يفضحوا عقيدتهم، وإنما يقولون: (أحد الكبراء) أو (أحد كبار العارفين) أو ما شابه ذلك، وكمثل نورده: الكلاباذي في (التعرف) الذي يستعمل عبارة (بعض الكبار) بدلاً من اسمه الصريح، وقبل الانتقال إلى غير الحلاج، نورد له أمثله، تجري عباراتها على ألسنتهم وفي كتبهم.
يقول:
كن لي كما كنت لي ……في حين لم أكنِ(2)
إنه يسأل الله مقام (الفناء) أو (الجمع).
ويقول:
وأقبل الوجد يُفني الكلَّ من صفتي ……وأقبل الحق يُخفيني وأُبديه(3)
من هذا البيت نفهم معنى (الوجد) ومعنى (فناء الصفات).
ويقول: صفات البشرية لسان الحجة على ثبوت صفات الصمد، وصفات الصمدية لسان الِإشارة إلى فناء صفات البشرية، وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد(4).
ويقول: نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك(5).
- مصطلحاً (الجمع والفرق) معروفان الآن، وأترك للقارىء أن يفسر لِمَ كان الجمع ورطة والفرق فكاكها؟ ولمَ كان الجمع غبطة والفرق هلاكاً؟
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:30).
(2) ديوان الحلاج، (ص:90).
(3) ديواد الحلاح، (ص:94).
(5) أخبار الحلاج، (ص:44).(78/102)
وللتوضيح: الجمع كفر بالنسبة للشريعة، والفرق كفر بالنسبة لعقيدة الصوفية.
* فقرة معترضة:
مع أني أتدرج بإيراد النصوص حسب التسلسل التاريخي، بدون دقة، مع ذلك أرى من المفيد إيراد نص كان مكانه بعد صفحات، أورده لأن فيه توضيحاً لبعض المصطلحات الصوفية الأساسية.
يقول شيخ مشايخ الِإسلام، مظهر الفيض القدوسي، الأستاذ السيد مصطفى العروسي:
...والعلم بكيفيته (أي: الفناء، أو الجمع، أوما يرادفه من ألفاظ) مختص بالله تعالى لا يمكن أن يطلع عليه إلا من يشاء من عباده الكمّل الذين حصل لهم هذا المشهد الشريف والتجلي الذاتي المفني للأعيان بالأصالة، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا...)) [الأعراف:143]، فإذا علمتَ ما قدمتُه لك علمتَ معنى الاتحاد الذي اشتهر، وعلمت اتحاد كل اسم من الأسماء مع مظهره وصورته، أو اسم مع اسم آخر، أو مظهر مع مظهر آخر؛ وشهودُك اتحادَ قطرات الأمطار بعد تعددها، واتحادَ الأنوار مع تكثرها، كالنور الحاصل من الشمس والكواكب على وجه الأرض، أو من السرج المتعددة في بيت واحد، وتبدُّل صور عالم الكون والفساد على هيولى واحدة، دليل واضح على حقيقة ما قلنا، هذا مع أن الجسم كثيف، فما ظنك بالخبير اللطيف الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف.(78/103)
والحاصلُ أن الاتحاد والحلول بين الشيئين المتغايرين من كل الوجوه شرك عند أهل الله؛ وذلك لفناء الأغيار عندهم بسطوع نور الواحد القهار، بل المراد أن الحق تعالى باعتبار أنه مصدر الكائنات جميعها، علويها وسفليها، مركبات أو بسائط أو مجردات، جواهر وأعراضاً، كليات أم جزئيات، واعتبار انفراده بالوجود الذاتي، وأن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي وهي هو، على معنى: لا هو إلا هو، كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة، محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، لِحِكَم عليَّة، وأسرارٍ إِلهية، عَلِمها مَن علمها وجهلها من جهلها، بتدبيره تعالى وتقديره، لا يُسأل عما يفعل، فافهم ولا تك أسير النقل والتقليد(1)...
- ورد في هذا النص عدة عبارات، نراها مبثوثة في كتبهم، وهم يستعملونها دائماً مع غيرها طبعاً وقد شرحت هذه العبارات بوضوح، لذلك كان من المفيد جدّاً إعادة قراءة هذا النص مراراً حتى تنطبع عباراته في الذهن، مما يجعل النصوص الصوفية واضحة المدلول.
وأهمها العبارات التالية:
- التجلي الذاتي المفني للأعيان - الظاهر في كل المراتب - فناء الأغيار - سطوع نور الواحد القهار - انفراده بالوجود الذاتي - فهو هي وهي هو - لا هو إلا هو - كان الله ولا شيء معه ويبقى الله ولا شيء معه - الكائنات تعينات - إليه يرجع الأمر كما بدأ.
وهي كلها تعني (وحدة الوجود) أو تشير إليها وإلى سطوعها.
لكن يجب أن ننتبه بشكل خاص إلى قوله: (.. ولا تك أسير النقل والتقليد)! ما معناها؟
- وقال أبو الحسين النوري:
كان الله ولا أين، والمخلوقات في عدم، فكان حيث هو، وهو الآن حيث كان، إذ لا أين ولا مكان(2)...
وقال أيضاً:
__________
(1) حاشية العروسي: (2/20).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:46).(78/104)
عزّ ظاهر، وملك قاهر، ومخلوقات ظاهرة به وصادرة عنه، لا هي متصلة به ولا منفصلة عنه(1).
إنه في قوله: (لا هي متَّصلة به) ينفي الاتصال؛ لأن كلمة (الاتصال وما اشتق منها) تعني وجود اثنين متصلين ببعضهما، لذلك فهو ينفي الاتصال نفياً لتوهم الاثنينية، ثم ينفي الانفصال لِإثبات الوحدة.
- وقال أبو سليمان الداراني:
...إنك لا تكون مخلصاً في عملك حتى لا ترى في الدارين أحداً غير ربك(2).
- ويقول أبو طالب المكي(3) (مفسراً):
...يعني أنه رجع إلى العبد في أوله، أي: يكون كما كان قبل أن يكون لقوله: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف:172]، إذ كان ذلك قبل أن يكون، وهل أجابت إلا الأرواح الطاهرة المقدسة؟ بإقامة القدرة النافذة والمشيئة السابقة؟ فيكون العبد كما كان، وأيًّا كان، ولماذا كان، وكيف كان. وهذا غايته تحقيق توحيد الموحِّد للواحد، وهو أن يذهب كما لو لم يكن، ويتلاشى وتنمحي أوصافه وتبقى أوصاف الحق كما لم يزل، على معنى قوله: صرت سمعه وبصره ويده ورجله وقلبه يسمع به ويبصربه ويأخذ به ويعقل به(4).
وقال أيضاً:
ظاهر التوحيد هو توحيد الله فى كل شيء، وتوحيده بكل شيء، ومشاهدة إيجاده قبل كل شيء، ولا نهاية لعلم التوحيد(5)...
- بشيء من التمعن ينكشف المعنى واضحاً في النصين.
ويقول أبو حيان التوحيدي في رسالة (كط):
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:46).
(2) علم القلوب، (ص:157).
(3) محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، من كبار القوم، مات سنة: (358هـ).
(4) علم القلوب (ص:95).
(5) علم القلوب، (ص:104).(78/105)
...بل أنت الموجود في كل شيء، لا كما يوجد ما دام بك وافتقر إليك، ولكن كما توجد أنت وليس واجدُك سواك؛ واجدٌ لك وواجدٌ بك وواجد منك؛ فأما واجد بك فلأنه وجد عينه بك، وأما واجد لك فلأنه وجد وجده من أجلك، وأما واجد منك فلأنه وَجَدَ ما به وَجَدَ ما وجَدَ مِن جهتك، فأنت المحيط وأنت المشتمِل، إلا أن إحاطتك بالقدرة، واشتمالك بالمعونة، وكل ما لخلقك بالمجاز؛ فَلَكَ الحقيقة، وكل ما سواك بالأثر؛ فَلَكَ بالعين، والإشارة التي هي إليك هي منك، والذاكر الذي هُو لك هُو بك، والوجد الذي هو منك هو بك، والوجد الذي هو بك هو منك، ولم تختلف هذه الحروف إلا لحاجة الخلق إليها في التكور، وإلا فالمعنى واحد مؤتلف متفق، لا يرنّق عليه لبس، ولا يمربه جن ولا إنس(1)...
ويقول أيضاً، رسالة (يه):
أشرقت الأكوان بالأشباح، وشرفت الأعيان بالأرواح، وتجلت أسرار الحق فيها بين الافتراح والارتياح، وتناجت النفوس على بُعد الديار بما تتخافت فيه الأفواه على قرب المزار، ورُدَّت على الناظرين خوائن الأبصار، والتقت في الغيب سوانح الِإقرار والِإذكار...فعندها لَحَظَ اللاحظون بعين الصدق، ولفظ اللافظون بلسان الحق شنآن الحال، واضمحلال المقال، والتواء المنال، فناجوا في السرائر، وباحوا بالضمائر، ورفعوا رقوم البواطن والظواهر، وافترقوا عن الألفة، وتكثروا بالوحدة، وخيموا بين سواحل التجني وبلاغ التمني(2)... ومنها:
__________
(1) الِإشارات الِإلهية: (1/224).
(2) الِإشارات الِإلهية: (1/139).(78/106)
...فالأسماء مطروحة بالتوقيف، والمعاني مأخوذة بالتعريف، الأسماء مختلفة بكَدَر الخلق، والمعاني مؤتلفة بصفو الحق الأسماء مجموعة بلسان التفرقة، والمعاني مسموعة بلسان الجمع. الأسماء متنافية باللغات، والمعاني متصافية بحكم الصفات. أما تعلم أن الأنس بالمعاني على إيثار الحق، مقدم على الاستيحاش في الأسماء لتنافيها على إيثار الخلق. الأسماء محدودهً بالأفهام، والمعاني معدودة بالإلهام. فإياك أن تلحظ المعاني بعين الاسم فتعطب، وإياك أن تعطي الاسم ذات المعنى فتتعب، وإياك أن تعطي المعنى رسم الاسم فتكذب، وإياك أن تفرق بينهما فتتهم، وإياك أن تجمع بينهما فتُوهّم، ها هنا زلقت أقدام المتكلمين، وانتكست أعلام المتحذلقين؛ لأنهم (سعوا في آياته معاجزين)، ونظروا في الآية مستهزئين، وركنوا إلى عقولهم مفتخرين متعززين، فنكصوا على أعقابهم خائبين خاسرين(1).
ويقول: رسالة (لد):
...وتحصّن من نفسك في نفسك، وتبرأ من جنسك في بني جنسك، واشهد الغيب وغب عن الشهادة، واحفظها عند بروز الحق الذي إذا بدا لك أباد، وإذا أحب أعاد وأفاد؛ وإياك وملابسة الكون فإنها تؤديك إلى الفرقة والبين، وعليك بالتجريد والتفريد، وعليك بهجران كل شيطان مريد(2).
ويقول: رسالة (لح هـ):
تباركت خطراتي في تعالائي ……فلا إله إذا فكرت إلائي(3)
- نلاحظ أن أسلوب الوحيدي فيه جزالة ألفاظ وغموض يشعر أن هناك سرّاً تحاك حوله هذه الألفاظ، والهلع من ظهور السر متماثل بين السطور، وهو يستعمل عبارات قليلاً ما يستعملها غيره، ولكنها مستعملة على كل حال. وبشيء من التأني في القراءة والتكرار تتوضح الأسرار، وكلمة (تعالائي) من فعل الثناء (تعالى).
ويقول القشيري:
__________
(1) الإشارات الإلهية: (1/140).
(2) الإشارات الإلهية: (1/259).
(3) الإشارات الإلهية: (1/388).(78/107)
...فإذا فني عن توهم الآثارمن الأغيار، بقي بصفات الحق، ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار ولا أثراً ولا رسماً ولا طللاً، يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق(1).
ويقول:..ومن محاه الحق سبحانه عن مشاهدته (أي: مشاهدته لنفسه وأفعاله)(2)، أثبته بحق حقه، ومن محاه الحق عن إثباته به، ردّه إلى شهود الأغيار وأثبته في أودية التفرقة(3)..
* فقرة معترضة:
مر معنا ويمر هنا وفي كتبهم مصطلح (المشاهدة) والفعل منه (شاهد، يشاهد)، فماذا يعنون به؟
يقول القشيري: (...وتوهم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة؛ لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين، وهذا وهم من صاحبه، فإن في ظهور الحق سبحانه ثبور الخلق، وباب المفاعلة جملتُها لا تقضي مشاركة الاثنين، نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله(4)...
- يفهمنا القشيري أن المشاهدة لا تكون بأن تشاهد الله سبحانه خارجاً عنك، فتكونا اثنين، لا، بل تشاهده في ذاتك، تشاهده أنك هو، إذن، منذ الآن، يجب أن نفهم مصطلح (المشاهدة ومشتقاتها) في كلام القوم حسب هذا المعنى. (مشاهدة الله تعني الاستشعار بالألوهية أو ذوق معنى الألوهية).
ويقول أبو حامد الغزالي (حجة الإسلام، الِإمام):
...فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل(5)...
__________
(1) الرسالة القشيرية، (ص:37).
(2) الجملة بين القوسين من شرح الرسالة في هامش حاشية العروسي: (2/76).
(3) الرسالة القشيرية، (ص:39).
(4) الرسالة القشيرية، (ص:40).
(5) إحياء علوم الدين: (1/254).(78/108)
- يبين لنا الغزالي هنا كيف يفهمون الجملة (كل شيء ما خلا الله باطل)، والآية ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88]، ومنذ الآن يجب أن نعرف كيف يفهمونها، ولا نحاول التأويل واللف والدوران مثلهم.
ويقول: ...واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهي عالم الملكوت(1)...
- يبين الغزالي هنا أن حضرة الربوبية هي عالم الملكوت! فما هو عالم الملكوت؟
يشرحه ابن عجيبة بقوله: (مراتب الوجود هي العوالم الثلاثة: الملك والملكوت والجبروت، وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات: وجود أصلي أزلي، وهو الذي لم يدخل عالم التكوين، ويسمى عالم الأمر، وعالم الغيب، وهو المسمى بعالم الجبروت. ووجود فرعي، وهو النور المتدفق من بحر الجبروت، وهو كل ما دخل عالم التكوين لطيفاً كان أو كثيفاً، ويسمى عالم الشهادة، وعالم الخلق، وهو المسمى بعالم الملكوت(2)..
- إذن فحضرة الربويية يعني بها (الكون)، وسنرى هذا في نص آت، وقول ابن عجيبة: (وهو النور المتدفق من بحر الجبروت)، هو نفس نظرية (الفيض) اليونانية، والعريقة في تاريخ الوثنيات.
ويقول الغزالي أيضاً:
...نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية.
__________
(1) إحياء علوم الدين: (1/242).
(2) الفتوحات الإلهية حاشية إيقاظ الهمم، (ص:109).(78/109)
والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به...وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى.. فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة.. فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال...ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً، وهو كما قال(1)...).
- هذا النص مشحون، لكن أهم ما فيه هو:
1- استعمال الغزالي أساليب علم الكلام لإثبات أمر غيبي تتعذر معرفته إلا عن طريق الوحي.
2- قوله: (المنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه) يعني: أن الله جلت قدرته، لم يخلق شيئاً من العدم، إذ لو خلق شيئاً من العدم لكان هذا الشيء غير الله، ولكان مع الله موجود آخر غيره، لكن الحجة يقرر أن ليس مع الله موجود سواه، وهذه هي: (وحدة الوجود).
3- إعطاؤه لكلمة «الربوبية» معنى لم يرد عن خير البشر، ولا عن خير القرون، ولا عن تابيعهم.
4- إيراده القول الذي يعزوه إلى بعض مشايخ الصوفية والذي يفيد:
أ- إن فرعون رب في الباطن، وقد صرح بهذه الربوبية. لننتبه إلى كلمة (صرّح).
ب- هذه الربوبية هي في باطن كل إنسان، أي: أن كل إنسان هو رب في الباطن، لكنه لا يجد مجالاً لاستشعار هذه الربوبية أو للتصريح بها مثل فرعون.
5- تقرير الغزالي صحة هذا القول لقوله: (وهو كما قال).
ويقول الغزالي أيضاً:
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/243).(78/110)
...ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية) ؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله(1)...
- نحن الآن نعرف مما سبق ومما سيأتي من نصوص، أنه وأنهم يعنون بقوله وقولهم: (أفعال الله) أي: حركاته (سبحانه عما يصفون).
ويقول: ...والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد)...والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد(2)...
__________
(1) إحياء علوم الدين: (3/13).
(2) إحياء علوم الدين: (4/212).(78/111)
ويقول: ...فإن قلت: كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الِإنسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع) ؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ...وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز(1)...
* ملحوظة: أرجو الانتباه إلى كلمتى: (الجمع والتفرقة) اللتين يشرح معناهما بوضوح.
ويقول: ...فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضوة الِإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره، ولا يُتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تُستبان بأضدادها، وما عمّ وجوده حتى إنه لا ضدّ له، عسر إدراكه(2)...
ويقول بعد أن يذكر- إشارةً ورمزاً- صفة الذي لا يرى إلا الله: ...فهذا الذي يقال فيه: (إنه فني في التوحيد وفني عن نفسه)، وإليه الِإشارة بقول من قال: (كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن...ولذلك قيل:
لقد ظهرتَ فلا تخفى على أَحدٍ ……إلا على أكمهٍ لا يعرف القمرا
__________
(1) الِإحياء: (4/213).
(2) الإِحياء: (4/276).(78/112)
لكن بطنتَ بما أظهرتَ محتجباً ……فكيف يُعرف من بالعرف قد سُترا(1)
ويقول: (حقيقة الحقائق):..من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، لا يُتصور إلا كذلك.. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً...ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاشا لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية(2)...ويقول: (إشارة) العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق(3). - نلاحظ أن أسلوب الغزالي فيه وضوح وصراحة، ونرى أنه عندما يريد التعمية، لا تساعده العبارة الإشارية، لذلك فهو يضيف جملاً موهمة، فمثلاً يقول: [إذ ليس في الوجود معه غيره...]، ثم يقول بعدها مباشرة: [بل ليس لغيره رتبة المعية...]!
فكيف ينفي وجود الغير في الجملة الأولى ثم يثبته في الثانية؟! في الواقع الغزالي غير متناقض مع نفسه وعقيدته في هذا النص أو غيره، فهذا أسلوبه في العبارة الملغزة الذي يحاول به مثل غيره من الصوفية التعمية على من هم غير أهله، وقد نجح في هذا الأسلوب.
__________
(1) الإحياء: (4/276، 277).
(2) مشكاة الأنوار، (ص:55).
(3) مشكاة الأنوار، (ص:57).(78/113)
والنصان الأخيران يوضحان معنى قولهم (أو قول بعضهم) أحياناً: (وحدة الشهود)، حيث نفهم منهما أن عبارة (وحدة الشهود) تعني بكل بساطة (مشاهدة وحدة الوجود). ويقول: ...لكن ينبغي أن يُعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود، إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، فالكل من الحضرة الإلهية، كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر -حتى الحراس- هم من المعسكر...فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية(1)...(أفعال الله تعني حركاته سبحانه وتعالى).
ويقول في تائيته التي مطلعها:
بنور تجلي وجه قدسك دهشتي ……وفيك على أن لاخفىً بك حيرتي
منها:
وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدةً ……وهل أنت إلا نفس عين هويتي(2)
ومنها:
فكيف بشكري كل عضو وقوة ……جعلت لنفعي عند تأليف بنيتي
وشكر التي قد حُجبت بي وإنها ……لأظهرُ لي من نور شمس تبدت(3)
ومنها:
ملأت جهاتي الست منك فأنت لي ……محيط وأيضاً أنت مركز نقطتي
فصرتُ إذا وجهت وجهي مصلياً ……فرايض أوقاتي فنفسي كعبتي
فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي ……ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي
وحولي طوافي واجبٌ وخلاله ……استلامي لركني من مناسك حجتي
وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي ……لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي
ولو همَّ مني خاطر بالتفاتة ……لما كان لي إلا إليّ تلفُّتي
ولو لم أُؤدِّ الفرض مني إليَّ لم ……يصح بوجه لي ولم تَبرَ ذمتي(4)
__________
(1) إلجام العوام عن علم الكلام، (ص:32).
(2) النفحات الغزالية، (ص:173)، معارج القدس، (ص:195).
(3) النفحات الغزاليه، (ص:183)، ومعارج القدس، (ص:199).
(4) معارج القدس، (ص:202، 203).(78/114)
ويقول: ...فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد...وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟ ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلًا؟ وإن كان الله تعالى فاعلًا فكيف يكون العبد فاعلًا؟...ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، ثم قال عز وجل: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)) [الواقعة:63]، أضاف إلينا، ثم قال تعالى: ((أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..)) [عبس:25-28]، وقال عز وجل: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] وكان النافخُ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)) [التوبة:14] فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، وقال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17] وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي(78/115)
يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:4-5]، ثم قال: ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)) [الرحمن:2] وقال: ((عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) [الرحمن:1-4] وقال: ((إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)) [القيامة:19] وقال: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) [الواقعة:58-59](1)...اهـ.
- أمثال هذا النص تتكرر كثيراً في كتب الغزالي، وخاصة في كتاب (إحياء علوم الدين).
ولقد رأينا في النصوص السابقة تصريح الغزالي بوحدة الوجود التي يسميها (التوحيد)، وهذا النص واضح، لكن بالنسبة لمن قرأ نصوص الغزالي السابقة واستوعبها معنى وألفاظاً وجملًا.
أما من يقرأ هذا النص لأول مرة، وهو خالي الفكر، فقد لا يستطيع ملحوظة فكرة (وحدة الوجود) الماثلة في كل جملة من جمله؛ لذلك كان من اللازم لمن يريد فهمه أن يرجع إلى نصوص الغزالي السابقة، خاصة، وإلى نصوص الصوفية عامة، ثم يعود إلى هذا النص ليرى (وحدة الوجود) واضحة كل الوضوح في ثنايا الكلام.
ولهذا النص فائدة كبيرة، لمعرفة كيفية فهمهم للنصوص القرآنية ولنصوص الحديث، وكيف يضعونها في سياق موهم، بحيث تظهر لأهل الأذواق وكأنها تحمل المعاني التي يريدونها! وكيف يلوون أعناقها ببراعة وانسياب تظهر وكأنها تتفق مع كشفهم وعقيدتهم؟!
إنه يقدم ما أورد من آيات في سياق الكلام عن (التوحيد) الذي يعني به توحيد الخالق والمخلوق في وحدة واحدة! يقدم هذه الآيات ليجعلها دليلاً على نظريته!
وهرباً من الِإطالة، نقدم توضيحاً لثلاث آيات، منها فقط:
__________
(1) الإحياء: (4/221).(78/116)
1- الآية ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) [مريم:17] يريد الغزالي أن يقول: (إن الله سبحانه أرسل (روحه) ؛ وروحه كما يتبادر إلى أذهاننا، هو جزء منه، وهذا الروح هو ملك كما تخبرنا آية ثانية، إذن فالملك هو روح الله، وهو بالتالي جزء منه! أو هو هو حسب تعابيرهم).
2- الآية: ((فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)) [القيامة:18] التي يتبعها بتفسيره حيث يقول: «معناه: إذا قرأه عليك جبريل..». فالله سبحانه يقول: ((قَرَأْنَاهُ)) بصيغة المتكلمين، بينما القارىء هو جبريل، إذن فجبريل هو الله، أو هو جزء منه!!. سبحانه وتعالى علوًا كبيراً عما يصفون.
3- الآية: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) التي يفسرها بقوله: (...وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً...)، وهو كلام واضح جدّاً! إنه يقول: [معناه: وما رميت (يا محمد الرب) إذ رميت (يا محمد العبد) ولكن الله رمى]، إذن محمد هو الله، (تعالى الله علوّاً كبيراً).
ولونظرنا إلى بقية الآيات التي أوردها في هذا النص- وفي غيره في كتبه- لرأيناه يريد بها نفس المعنى الذي بيّنّاه في هذه الآيات الثلاث.
يورد الغزالي بعد كلامه الذي سجلناه حديثين، يوجههما لأداء نفس المعنى الذي يحاول تقريره.(78/117)
يقول العراقي عن أولهما: (...في سنده جهالة، وقال ابن عدي: إنه منكر...). ويقول عن ثانيهما: (لم أجد له أصلاً). (ولم أوردهما تجنباً للِإطالة). ويورد أيضاً بعدها آيات أخرى، وأقوالاً لبعضهم وشعراً، نوردها دون تعليق الغزالي، ودون أي تعليق غيره؛ ليستطيع القارىء أن يفهم مرادهم من الآية حيثما مرت معه. يقول: ...وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسماوات، ثم قال: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [فصلت:53] وقال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18]، فبين أنه الدليل على نفسه...قال بعضهم: (عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي)، وهو معنى قوله تعالى: ((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوّض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر (أن ملكي الموت والحياة تناظرا...)(1) لذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: (خذها: لولم تأتها لأتتك)، أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة...وأصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)...فإذاً لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم...فهو الحق وما سواه باطل، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته..)(2).
هذه عبارات -أو بعض العبارات- التي يستعملونها يشيرون بها إلى وحدة الوجود، أوردها الغزالي متتابعة، وقد أورد غيرها الكثير في أماكن أخرى من (الِإحياء) وغير (الإِحياء)، مع التكرار لها في مواضع كثيرة.
وهذه صورة أخرى من صور العبارة الإشارية:
يقول ابن عطاء الله في حِكَمه:
متى جعلك في الظاهر ممتثلاً لأمره، ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره، فقد أعظم عليك المنة(3).
__________
(1) الحديث مكذوب.
(2) الإحياء: (4/222).
(3) جمهرة الأولياء، (ص:78).(78/118)
وقد أوردها محمود أبو الفيض المنوفي (القطب) على أنها تحمل نفس معنى قول أبي الحسن الشاذلي، الذي رأيناه: (ليكن الفرق بلسانك موجوداً...) وهي إشارة إلى مقام (الفرق الثاني).
ويقول ابن عطاء الله أيضاً في حكمه: (كن بأوصاف ربوبيتي متعلقاً، وبأوصاف عبوديتك متخلقاً، فإن تحققت بأوصافك أيدك بأوصافه)(1)، وهي كما يقرر المنوفي تحمل نفس معنى سابقتها، أي: (الفرق الثاني).
ويقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام):
الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية(2)...
ويقول:
...ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره(3).
__________
(1) جمهرة الأولياء، (ص:80).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:41).
(3) الفيوضات الربانية، (ص:5). وتبرز هنا ملحوظة هامة، هي أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.(78/119)
ويقول: ...فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما(1). اهـ [أرجو الانتباه إلى حدود العمل بالكتاب والسنة (حتى يأتيك صاحب العلم)].
ويقول: ...إذا قال لك القلب (لا) فهو حرام، وإن قال: (نعم) فهو حلال، وإن سكت فلم يقل: (نعم) ولا (لا) فهو شبهة، إن عدمت المألوفات وصبرت نفسك فهو القناعة، تدري كم عنده من الطاعات، والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار(2).
ويقول: ...بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك(3).
- يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي إلى قلوب المريدين. إذاً فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله التي مرت معنا آنفاً.
ويقول: قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك(4).
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:217).
(2) الفتح الرباني، (ص:357).
(3) الفتح الرباني، (ص:360).
(4) الفتح الرباني، (ص:367).(78/120)
- يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته، ونستطيع أن نرجع إليها حالاً، لتكون تذكرة وتعيها أذن واعية. ويقول: ...وإذا كان القطب اطّلع على أعمال أهل الدنيا وأقسامهم وما تؤول أمورهم إليه، ويطّلع على خزائن الأسرار، ولا يخفى عليه شيء في الدنيا من خير أو شر، لأنه مفرد الملك بطانته، نائب أنبيائه ورسله، أمين المملكة، فهذا هو العين القطب في زمانه(1)...
ويقول: ...يا عبدَ الهوى والطبع، يا عبدَ الثناء والحمد، ما جفّ به القلم وسبق به العلم من الأقسام، لا بد من استيفائهما، لكن الشأن هل يأخذها بك، أو به يوجدك، ويقعدك مع التوحيد...أطلب القرب من باب فنائك...ويكون (أي: العارف أو الواصل) نائب الرسول في المتابعة، يُترك ثم يؤخذ، ثم يُؤخذ، يَتْرُك المتروك ويأخذ المأخوذ، يضيء لك الأمر كفلق الصبح، يجدد على العبد ثوبَي الوجود تارة والفناء تارة، يُفْتقد، فيُقبل الحق عليه، وتارةً يوجد- فيخبر عن الحق (روى قلبي عن ربي)(2)...
- قبل الانتقال إلى كتاب آخر من كتب الشيخ، يجدر الانتباه إلى قوله: «يجعل التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم»، و«قدّرك على التكوين»، وقوله في نص سابق: «فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم»، ثم عرض هذه الأقوال على الآية القرآنية الكريمة: ((...مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، وقوله: (ها أنتما ربكما).
طبعاً! الأمر واضح، إن الذي يعتقد أن مخلوقاً ما، سواء كان إنساناً أو ملكاً، يمكن له (التكوين)، وأن يتصرف في الكون، إنما هو كافر؛ لأنه يناقض نص الآية الصريح.
__________
(1) الفتح الرباني، (ص:354).
(2) الفتح الربايى، (ص:355).(78/121)
- لكن! همسة أهمسها في أذن القارىء: إنهم يؤولون- كما يقول الِإمام الغزالي- النصوص المخالفة للكشف لتتفق مع كشفهم!! وعليه فهم يؤولون هذه الآية، ليصبح معناها: (إن كل من يحكم فهو الله)، لأن الله لا يشرك في حكمه أحداً، وبما أن هناك من يحكم ولو في أمر واحد، إذن فهو الله؛ لأن الحاكم هو الله وحده، ولأنه لا يشرك في حكمه أحداً؛ وطبعاً! هذه هي وحدة الوجود.. نعود إلى الشيخ.
يقول الجيلاني:
...ثم إذا لم يجد عند الخالق نصرَةً، استطرح بين يديه مديماً للسؤال أو الدعاء والتضرع والثناء والافتقار مع الخوف والرجاء، ثم يعجزه الخالق عز وجل عن الدعاء، ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع الأسباب، فحينئذ يَنْفذ فيه القدر، ويفعل فيه الفعل، فيفنى العبد عن جميع الأسباب والحركات، فيبقى روحاً فقط، فلا يرى إلا فعل الحق، فيصير موقناً موحداً ضرورة، يقطع أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله، لا محرك ولا مسكن إلا الله، ولا خير ولا شر ولا ضر ولا نفع ولا عطاء ولا منع ولا فتح ولا غلق ولا موت ولا حياة ولا عز ولا ذل إلا بيد الله...ويكون ولا حراك به في نفسه ولا في غيره، فهو غائب عن نفسه في فعل مولاه، فلا يرى غير مولاه وفعله، ولا يسمع ولا يعقل من غيره، إن بَصر وسمع(1)...اهـ.
- كل العبارات الدالة على وحدة الوجود في هذا النص، مرت معنا فيما سبق، مثل: (يفنى العبد عن جميع الأسباب..)، و(يصير موحداً)، و(لا فاعل إلا الله)، و(غائب عن نفسه في فعل مولاه).
لكن أمامنا الآن عبارة جديدة هي: (فيبقى روحاً فقط)، وكذلك المفردات المتلاحقة: (لا خير ولا شر ولا ضر...)، والتي يفهم الصوفي والمتمرس بعباراتهم إلى ماذا ترمز وتشير، وكذلك قوله: (فلا يرى غير مولاه وفعله).
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:8، 9).(78/122)
ويقول: ...والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- لما رأى رب العزة في المنام، فقال: كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال، فقال: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها(1)...
- في هذا النص تزكية واضحة لأبي يزيد البسطامي ولمكاشفته، وهذا يعني أنه يؤمن بعقيدة أبي يزيد، وبالتالي يمكننا أن نكون موقنين أنه يتبنى أقواله التي مرت فيما سبق، كما يتبنى قوله في هذا النص، الذي هو: (فانسلخت من نفسي...)، والذي نعرف بعد قراءتنا لهذا الركام من أقوالهم وإشاراتهم، أنه يعني به الانسلاخ من فكرة تفريق الخلق عن الحق ومن الشعور بها.
ويقول: ...فحينئذ يصير مَحْقاً من أهل الحقيقة...وإن كنت في حالة (حق الحق)، وهي حالة (المحو والفناء)، وهي حالة الأبدال المنكسري القلوب لأجله، الموحدين العارفين، أرباب العلوم والعقل، السادة الأمراء خفراء الخلق خلفاء الرحمن وأخلائهِ وأعيانه وأحبائه عليهم السلام(2)..
- ما يجب الانتباه إليه: قوله: (حق الحق، المحو، الفناء، الموحدين، العارفين، خفراء الخلق وما بعدها..)، ومن لم يعرف معناها ومرماها فعليه البدء بقراءة الكتاب من أوله بوعي وحفظ، ويقول: ...فحينئذ يسمع نداء من قبل الحق عز وجل من باطنه: اترك نفسك وتعال، اترك الحظوظ والخلق إن أردت الخالق، واخلع نعليك (دنياك وآخرتك)، وتجرد عن الأكوان والموجودات وما سيوجد والأماني بأسرها، وتعرّ عن الجميع وافْن عن الكل، وتطيب بالتوحيد، واترك الشرك، وصدّق الإرادة(3).
ويقول: إلى متى المعاد؟ إلى متى الحق؟ إلى متى الهوى؟ إلى متى الرعونة؟ إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟!!! إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك والأشياء؟
المكوّن الأول الآخر الظاهر الباطن، والمرجع والمصدر إليه(4).
* ملحوظات:
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:25).
(2) فتوح الغيب، (ص:28).
(3) فتوح الغيب، (ص:127).
(4) فتوح الغيب، (ص:144).(78/123)
قوله: اخلع نعليك: (دنياك وآخرتك)، وقوله: إلى متى الآخرة؟! إذا خلعنا الآخرة! فماذا بقي لنا؟ وماذا نفعل بعشرات الآيات التي تأمرنا بالإيمان بالله واليوم الآخر؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) [الممتحنة:6]؟!
وما معنى قوله: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)) [النساء:77]؟!
وما معنى قوله: ((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنعام:32].
وما معنى قوله سبحانه: ((...وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [الأنفال:67]؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يوسف:57].
وما معنى قوله سبحانه: ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف:169]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [يوسف:109]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)) [النحل:30]، وقوله: ((وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) [الإسراء:19]، وقوله: ((وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:64]، وقوله: ((وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ)) [الأحزاب:29]، وقوله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]...وغيرها وغيرها من الآيات.
فهل حكمة الشيخ (الكشفية) تنسخ آيات الله؟!(78/124)
وماذا في الأمر؟! فهؤلاء القوم هم المحبون المحبوبون العارفون المقربون الصديقون الواصلون الموحدون الذائقون المدللون الأولياء الصالحون الخلص أصحاب الأسرار الذين أشرفوا على عتبة أحوال الأنبياء، المتحققون بالأسماء والصفات والذات المتصرفون في الكون، الأقطاب الغيوث الطيبون الراضون المرضيون المقدسون القديسون المتقون الذاكرون المحفوظون السائرون السالكون العارجون الأوتاد الأبدال الأخيار الصفوة المخلصون المختارون المصطفون المختصون بالعلوم اللدنية الداخلون في بحار الأنوار الذائقون من معاني اسمه الصمد والقيوم والعزيز والجبار والمتكبر أي المتصفون بها والمتحققون بها والعارجون بها منها فيها إليها عليها حتى يصبحوا في الغاية: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]..
والأوصاف كثيرة تعجز عنها العبارات والإشارات والكلمات والحروف والجمل والسطور والمقاطع والصفحات والملازم والفصول والأبواب والكتب والمجلدات والمكتبات..
- فلا جرم! من كانت هذه نعوتهم وصفاتهم، فهم يستطيعون- ولهم الحق- التصرف والحكم بنسخ القرآن كله، وحديث -رسول الله صلى الله عليه وسلم- كله، ووجود الأنبياء كلهم، وأحكام الشرائع كلها، ورسالات النبيين كلهم، بجرة قلم، أو بقوله: [كن فيكون]!!
ولهم المنة والفضل والشكر والإحسان والحمد والثناء والنعمة والكرم والجود والحكم والتصرف والحكمة والعلم والكشف وما بعد الكشف، ما قبل الكشف وما فوق الكشف وما تحت الكشف، وكشف الكشف، وكشف كشف الكشف، والعلم اللداني، وما فوقه وتحته وأمامه وخلفه وحوله وقبله وبعده...إلخ.
- (هذا من عدوى العلوم اللدنية).
ويقول الشيخ: ...فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارة أخرى(1).
__________
(1) فتوح الغيب، (162).(78/125)
- عرفنا فيما سبق أن عبد القادر الجيلاني له أسلوب هو في القمة من حيث التعمية والإلغاز، وهذا نص يحمل نفس معنى الجملة التي مرت قبل صفحات: «إياك أن تقول: أناه، واحذر أن تكون سواه». وأترك للقارئ تحليلها مع العلم أن أسلوب عبد القادر الجيلاني في الرمز واللغز لا يفوقه إلا أسلوب تلميذه عمر السهروردي.
ويقول: ...ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، فقال: في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من اسمه، فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله، باطن بقدرته وظاهر بحكمته، ظهر بصفاته وبطن بذاته، حجَب الذات بالصفات وحَجَب الصفات بالأفعال، وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع والصنيعة، وأظهر الصنعة بالإرادة، فهو باطن في غيبه وظاهر في حكمته وقدرته، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) [الشورى:11].
ولقد أظهر في هذا الكلام من أسرار المعرفة ما لا يظهر إلا من مشكاة فيها مصباح أمره برفع يد العصمة: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}(1). اهـ.
1- نسبة هذا التفسير لابن عباس غير صحيح.
2- يريد الشيخ أن يجعل ابن عباس يفسر قوله سبحانه: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13] أن السماوات والأرض جميعاً هي من الله، بمعنى هي جزء منه!
لذلك جعله (ناقلاً) يقول: (في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من أسمائه)، ومعنى هذا واضح، فاسم (الشمس) مثلاً هو من أسماء الله! والقمر هو من أسمائه سبحانه، وكذلك كل ما في السماوات والأرض، مثل: المريخ، المشتري، الثريا، الهواء، التراب...ومنها الدنسيات (جل الله وعلا علوًا كبيراً).
__________
(1) فتوح الغيب، (165).(78/126)
وهنا نرى بوضوح أن هذه العبارات (في كل شيء اسم من أسمائه واسم كل شيء من أسمائه...) تحمل نفس معنى قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، وقول الآخر: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدسية) وما ماثلها مما ورد في هذا الكتاب ومما لم يرد.
ثم جعله يقول: (فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله) وهذا واضح أيضاً. إنه يعني: إنك يا مخاطب بما أنك موجود بين الأشياء التي في الأرض، من هواء وماء وتراب وأحجار وغيرها وفي السماوات وبما أنها كلها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذاً فأنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله!! (ولا ننسى أن عبارة (أفعال الله) يعنون بها حركاته جل وعلا).
وقوله: (ظاهر بصفاته...)، يعني أن كل ما يظهر لنا ونراه ونلمسه هو صفات الله! فهو ظاهر بها، فالحجر -مثلاً- يحمل صفة الحجرية التي نراها وهذه الصفة الحجرية تحجب عنا حقيقة كونه من الذات؟!
ويقول: يا هذا، الفناء إعدام الخلائق، وانقلاب طبعك عن طبع الملائكة، ثم الفناء عن طبع الملائكة، ثم لحوقك بالمنهاج الأول، وحينئذ يسقيك ربك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع(1)؟!
- يفسر كلمة (الفناء)، إنها إعدام الخلائق...ثم لحوقك بالمنهاج الأول، فما هو المنهاج الأول؟ إنه القول الذي يكررونه (كان الله ولا شيء معه) هذا هو المنهاج الأول! وسنراه فيما يأتي، وقد مر معنا فيما سبق.
وقال: ثم قال لي: يا غوث الأعظم، نم عندي لا كنوم العوام ترني! فقلت: يا رب! كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات.. في فناء ذاتك بالذات. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، قل لأصحابك وأحبابك، من أراد منكم جنابي فعليه باختيار الفقر، ثم فقر الفقر، فإذا تم الفقر فلا ثمَّ إلا أنا(2).
- ما يُنتبه له هو: (في فناء ذاتك بالذات)، و(فلا ثم إلا أنا) وهما واضحتان، فقد مرا فيما سبق بلفظهما أو بمعناهما.
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:170).
(2) الفيوضات الربانية، (ص:8).(78/127)
ولكن معنا الآن عبارة جديدة، هي (فقر الفقر) التي يعني بها (إعدام فكرة الخلق) وكذلك عبارة (فإذا تم الفقر) أي: فإذا تمت الغيبة عن مشاهدة الخلق على أنهم خلق.
ومما ينسب له، من قصيدة (والعارفون كلهم ينسبونها له):
وسِرّي سرُّ الله سارٍ بخلقه ……فلذ بجنابي إن أردتَ مودتي
وأمري أمرُ الله إن قلتُ كن يكن ……وكل بأمر الله فاحكم بقدرتي
وشاهدتُ ما فوق السماوات كلها ……كذا العرشُ والكرسيُّ في طي قبضتي
وجودي سَرى في سرّ سِر الحقيقة ………ومرتبتي فاقت على كل رتبة
ومطلع شمس الأفق ثُم مغيبها ……وأقطار أرض الله في حال خطوتي
أقلّبها في راحتي ككورة ……أطوف بها جمعاً على طول أحتي(1)
ويقول أحمد الرفاعي (الغوث):
...وراقبه في الخلوات والجلوات، واحمده واشكره على الفقر والغنى، واترك الأغيار، فما في الدار غيره ديار، وكن صوفيًّا صافياً(2).
ويقول: الذكر حِفظُ القلب من الوسواس، وترك الميل إلى الناس، والتخلي عن كل قياس، وإدراك الوحدة بالكثرة، وحسنُ ملحوظة المعنى(3).
ويقول: ...إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء(4).
- علينا هنا أن نتذكر قول الجيلاني الذي مر آنفاً في هذا المعنى.
ويقول:
طلبتُ في الكون باقي كي أهيم به ……غير الحبيب، فسرّ الحب وافاني
وقال لي: خل عنك الغير منخلعاً ……عن السوى، فسوى من تَدْره فاني
فصرتُ منه لديه فيه عنه به ……والغير راح بلا تَرْكي ونسياني(5)
__________
(1) الفيوضات الربانية، (ص:48، 49، 50).
(2) قلادة الجواهر، (ص:151).
(3) قلادة الجواهرة، (ص:148).
(4) قلادة الجواهر، (ص:191).
(5) قلادة الجواهر: (ص:232).(78/128)
ويقول: ...إذا أراد الله تعالى لعبد أن يؤهله لهذه المنزلة (الغوثية) وهذه الأحوال، أول ما يكلِّفه نفسه، فإذا داراها وأدبها وساسها واستقامت معه، كلَّفه أهله، فإذا داراهم وأحسن عشرتهم، كلَّفه جيرانه ومحلته، فإذا داراهم وأحسن إليهم وأقام بحقوقهم كلفه أمر بلده، فإذا أحسن إليهم وداراهم كلَّفه جهةً من الأرض، فإذا أقام بحقوقهم وأحسن إليهم كلفه جميع الأرض، وإذا سبقت له العناية الأزلية وأحسن إليهم وداراهم وأحسن سريرته مع الله تعالى فيهم، كلفه أمور الدنيا كلها، فإذا أقام بها كلَّفه ما بين السماء والأرض، فإن بينهما خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله تعالى، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه ما عدا بني آدم من المخلوقات، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه سماء بعد سماء إلى جميع السماوات، حتى ينتهي إلى مقام الغوثية، ثم يرفع منزلته حتى تصير صفته من صفات الحق سبحانه...فإذا صح لهذه الأمور، صار عينَ سرّ الله في أرضه، فيه ينزل الغيث، وبه يرفع البلاء، وبه تنزل البركات، حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة، ولا يَطَّلِعُ الله على خلقه إلا بنظره، ولا تقطر قطرة إلا بإذنه(1).
ويقول أبو يعزى المغربي(2):
من طلب الحق من جهة الفضل وصل إليه، ومن لم يكن بالأحد لم يكن بأحد(3).
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:195).
(2) يلنّور بن ميمون الهزميري، أستاذ أبي مدين، مات بالطاعون سنة: (572هـ).
(3) طبقات الشعراني: (1/137).(78/129)
ويقول: لا يكون الولي وليّا حقّاً حتى يكون له قَدَمٌ ومقام وحال ومنازلة وسرٌّ، فالقدم ما سلكته من طريقك إلى الحق، والمقام ما أقرتك عليه سابقتُك في العلم الأزلي، والحال ما بعثك في فوائد الأصول لا من نتائج السلوك، والمنازلة ما خُصِّصتَ به من تحف الحضور بنعت المشاهدة لا بوصف الاستتار، والسر ما أُودِعتَه من لطائف الأزل عند هجوم الجمع، ومحق السوى، وتلاشي ذاتك، فحفظ حكم المقام يفيد الفقه في الطريق، ويفيد الاطلاع على خبايا معانيه، وحفظ حكم الحال يفيد بسطة في التصريف لله بالله(1).
* ملحوظة: حبذا لو استظهر القارىء هذا النص، فكل جملة منه هي (عبارة) صوفية تحمل إشارة ورمزاً.
ويقول أبو مدين المغربي (الغوث):
من لم يصلُح لخدمته شَغَلَهُ بالدنيا، ومن لم يصلُح لمعرفته شَغَلَه بالآخرة(2)!!
- رأينا مثل هذا الكلام قبل صفحات: (إلى متى الدنيا، إلى متى الآخرة) والجواب عليه هناك.
ويقول: إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره(3).
- المعنى واضح، فالعارف الذي يظهر له الحق، يظهر له في كل شيء، فيرى كل شيء هو الحق، ولا شيء غيره؛ وما كان يظنه غيره يظهر على حقيقته أنه الحق، حيث تزول عنه الغيرية.
ويقول: علامة الِإخلاص أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق(4).
ويقول: الفقر أمارةٌ على التوحيد، ودلالةٌ على التفريد، وحقيقة الفقر ألا تشاهد سواه(5).
عبارتا أبي مدين الثانية والثالثة، يحملان نفس المعنى وبدقة.
- مصطلح (التوحيد) شرحه لنا الغزالي بوضوح تام؛ إنه وحدة الوجود.
- والتفريد هو تفريد الله بالوجود، فليس معه غيره..
ويقول: الجمع ما أسقط تفرقتك، ومحا إشارتك، والوصول استغراقُ أوصافك، وتلاشي نعوتك(6).
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/137).
(2) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).
(3) من كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:59).
(4) أبو مدين الغوث، (ص:60).
(5) أبو مدين الغوث، (ص:60).
(6) أبو مدين الغوث، (ص:84).(78/130)
- المعنى واضح، إذ معنى (الجمع والتفرقة) أصبح معروفاً، وما بقي يمكن فهمه بسهولة.
ويقول:
فلا تلم السكران في حال سكره ……فقد رُفع التكليف في سكرنا عنا
ويا عاذلي كرِّرْ عليَّ حديثهم ……فاعينُنا منهم وأعينُهم منا(1)
- وواضح ما يعني بضمير الغائبين في (حديثهم، منهم، أعينهم) إنها إشارة إلى الحق سبحانه.
ويقول:
فالكل دون الله إن حققته ……عدمٌ على التفصيل والِإجمال
فالعارفون فنوا ولما يشهدوا ……شيئاً سوى المتكبر المتعال
ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً ……في الحال والماضي والاستقبال(2)
- هذه الأبيات تذكرنا بأقوال الغزالي، فهي هي بحروفها وكلماتها، كما نفهم منها معنى (وحدة الشهود).
ويقول شهاب الدين السهروردي البغدادي:
...فقلب الصوفي مجرد عن الأكوان، ألقى سمعَه، وشهد بصرُه، فسمع المسموعات وأبصر المبصرات، وشاهد المشهودات، بتخلّصِه إلى الله تعالى، واجتماعه بين يدي الله، والأشياء كلُّها عند الله، وهو عنده، فسمع، وشاهد فأبصر، وسمع جملها، ولم يسمع ويشاهد تفاصيلها؛ لأن الجمل تدرك لسعة عين الشهود، والتفاصيل لا تدرك لضيق وعاء الوجود، والله تعالى هو العالم بالجمل والتفاصيل(3).
ويقول: ...قال الله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) [ق:37]، قال: ...قال بعضهم: لمن كان له قلب سليم من الأغراض والأمراض. قال الحسين بن منصور: (لمن كان له قلب لا يخطر فيه إلا شهود الرب)(4)...
- إنه يستشهد بالحلاج، وبتفسير الحلاج، وحكمة الحلاج، إذاً: فهو يؤمن بالحلاج وعقيدته وأقواله، وهذا واضح.
ويقول (في دعاء):
__________
(1) أبو مدين الغوث، (ص:111).
(2) أبو مدين الغوث، (ص:112).
(3) عوارف المعارف هامش الِإحياء: (1/217).
(4) العوارف: (1/213).(78/131)
...يا دهريا ديهوريا ديهار، يا أبد يا أزل، يا من لم يزل ولا يزال ولا يزول، هو يا هو، لا إله إلا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، يا كان يا كينان، يا روح، يا كائن قبل كل كون، يا مكوناً لكل كون، أهيا، أشراهيا، أدوناي، أصبؤت، يا مجلى عظائم الأمور(1)...
- الكلمات: (أهيا، أشراهيا...) هي كلمات عبرية، وفيها إشارة إلى أثر اليهودية في الصوفية.
وقال: ...وقال بعضهم: الروح (وهي غير الروح التي في الجسد) لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة، لا يعبر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره...) اهـ(2).
- ما هي هذه الأماكن المعروفة؟ سنعرفها فيما بعد!
وقال: ...والصوفي صفا عن هذه البقية (رؤية الخلق) في طرفي العمل، والتركِ للخلق، وعَزْلِهم بالكلية، ورآهم بعين الفناء والزوال، ولاح له ناصية التوحيد، وعاين سرّ قوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] كما قال بعضهم في بعض غلباته: ليس في الدارين غير الله...)(3) اهـ.
- بالرغم من أن الأسلوب الِإشاري عند عمر السهروردي هو في القمة العليا من حيث الرمز واللغز، ولكن العبارة خانته في هذه الفقرة، فكانت وحدة الوجود فيها واضحة تماماً، كما أنها في الفقرات السابقة، واضحة لمن عرف لغة القوم.
ويقول عبد السلام بن مشيش(4) (الغوث) في صلاته:
اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وتنزلت علوم آدم...
__________
(1) العوارف: (4/19).
(2) العوارف: (4/182).
(3) العوارف: (1/324).
(4) أبو محمد عبد السلام بن مشيش، أو بشيش، أحد الأئمة العارفين، كان يسكن مغارة في رأس جبل في المغرب، مات عام: (622هـ)، ومن تلامذته أبو الحسن الشاذلي.(78/132)
ولا شيء إلا وهو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط...اللهم إنه سرُك الجامع الدالّ عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك...وزُجّ بي في بحار الأحدية، وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها(1)...
* ملحوظة:
يلاحظ هنا أنه يستعمل كلمة (التوحيد) بمعناها الِإسلامي (أي: توحيد الله) ويجعلها أوحالًا، وهو يصرح بالوحدة.
وقال مخاطباً تلميذه أبا الحسن الشاذلي:
يا أبا الحسن! حدّدْ بصر الِإيمان، تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقربِ هو وصفه، وبحيطةٍ هي نعته، وعَدِّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وَعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور المخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان(2).
ويقول تاج العارفين أبو الوفاء(3):
...الذكر ما غَيّبك عنك بوجوده، وأخذك منك بشهوده، فإن الذكر شهود الحقيقة وخمود الخليقة(4)...اهـ.
- يعني أبو الوفاء بكلامه أن الذكر لا يكون ذكراً إلا إذا أنتج ما بَيَّنه لك (...ما غيبك.. وأخذك...).
ويقول الشيخ عقيل المنبجي(5):
__________
(1) النفحة العلية في أوراد الشاذلية، (ص:16).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:40، 201).
(3) كردي عراقي من أهل النصف الأول من القرن السادس الهجري.
(4) طبقات الشعراني: (1/135).
(5) شيخ شيوخ الشام في وقته، ولد في قرية في الشرق، وانتقل منها (طيراناً) إلى منبج، ومات فيها، ولم أقف على تاريخ وفاته، لكن من الذين تخرجوا بصحبته عدي بن مسافر، فيكون من أهل النصف الأول من القرن السادس.(78/133)
...فإذا جاء الفضل، قل إلهي فَضْلُك لصنعك بلا أنا، فإذا شئتَ فقد حصل لك عند الخشوع عبودية، وعند الدلال توحيد، فعبوديتك بفقرك إليه، ودلاله أنه ما ثم غيره، فإذا جاءت الِإلهية (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)، فبمجاهدة الهوى تعرفه، وبخروجك عن الخلق توحده(1)...اهـ [لاحظ عبارة (فإذا جاءت الِإلهية)].
ويقول الشيخ علي بن الهيتي(2):
كل من كوشف بالحقيقهّ.. أو شاهد الحق، أو اختُطِف عن مَشاهِدِهِ بوجود الحق، أو استُهلك في عين الجمع، أو لم يشهد سوى الحق تعالى، أو لم يحس سوى الحق، إلى آخر ما يعبَر عنه معبِّر، أو يشير إليه مشير، أو ينتهي إليه علم، فإنما هي شواهد الحق، وحق منْ الحق له، وكل ما بدا على الخلق فذاك مما يليق بالخلق(3)...
- وحدة الوجود واضحة في قول أبي يعزى (عند هجوم الجمع ومحق السوى وتلاشي ذاتك)، وفي قول المنبجي: (.. إنه ما ثَم غيره، فإذا جاءت الِإلهية...).
أما الهيتي فيورد عدةً من العبارات المرموزة التي تشير إلى وحدة الوجود، يقدمها للسالك الواصل ليستعملها في أحاديثه وكتاباته، وليتدرب على إنشاء العبارات المماثلة، ويجدر بالقارىء الكريم أن يستظهرها ليزداد تمرساً باللغة الصوفية.
ويقول عبد الرحمن الطفسونجي(4):
__________
(1) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/136).
(2) نسبة إلى هيت على الفرات، من أكابر مشايخ العراق، يشب إلى القطبية العظمى، سكن رزيران ومات بها عام: (564هـ).
(3) الطبقات الكبرى للشعراني: (1/145).
(4) نسبة الى طفسونج، بلدة بأرض العراق، من أكابر مشايخ العراق وأعيان العارفين وصدور المقربين، مات بطفسونج مُسناً، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولكنه معاصر لعبد القادر الجيلاني.(78/134)
...وينسى باستيلاء ذكر ربه عليه جميع الِإحساس، فيقال: انْدَرجَ في رؤية مذكوره، ويقال: فني عن نفسه، ويقال: فني بربه، ويقال: فني عن فنائه أي غفل عن ذكر غفلته عن نفسه باستيلاء ذكر ربه عليه، وصار ليس يشهد غيره، وهاهنا يكون مصطلماً عن مَشَاهِدِه، مختطَفاً عن نفسه، ممحوّاً عن جملته، فانياً عن كله، وما دام هذا الوصف باقياً فلا تمييز ولا إِخلاص ولا صدق، وهذا جمع الجمع، وعين الوجود، وهذا هو الوصول الذي يرد على أحوال التمييز والتكليف(1)...
- أقول: هذه عبارات أخرى مرموزة وملغزة تشير إلى وحدة الوجود، وتساعد على التمرس بلغة الصوفية.
ويقول الشيخ مطر الباذرائي(2):
...ولذة الأرواح الشربُ بكأس المحبة من أيدي عرائس الفتح اللدني، في خلوة الوصل، على بساط المشاهدة والهيام، بين عالَم الكون، في نور العزة وقراءة ما كُتب على صفحات ألواح نسمات ذرات الوجود، بقلم التوحيد (كلا بل هو الله العزيز الحكيم)(3) اهـ. (أي: إن ذرات الوجود هي الله العزيز الحكيم).
ويقول محيي الدين بن عربي (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر):
...فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عينَ كل شيء(4).
ويقول: ...والعارف المكمَّل من رأى كلّ معبود مجلى للحق يُعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك(5)...
ويقول: ...ولا يُشهَد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار، للطفه وسريانه في أعيان الأشياء(6).
ويقول (الشيخ الأكبر نفسه):
__________
(1) طبقات الشعراني: (1/146)..
(2) من أجل مشايخ العراق وسادات العارفين، من الأكراد، سكن (باذراء) قرية من أعمال النجف، وبها مات، ولم أقف على تاريخ وفاته، ولعله في الربع الأخير من القرن السادس الهجري.
(3) طبقات الشعراني: (1/148).
(4) فصوص الحكم (فص حكمة إمامية في كلمة هاوونية)، (ص:192).
(5) الفصوص، (ص:195).
(6) الفصوص، (ص:196).(78/135)
فإن الِإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه: يسع نفسه ولا لايسعها، فافهم(1).
ويقول: ...((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وما خص إنساناً من إنسان، فالقرب الِإلهي من العبد لا خفاء به في الِإخبار الِإلهي، فلا قربَ أقربُ من أن تكون هوّيته (أي: هوية الله) عينَ أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو حقّ مشهود في خلقٍ متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود، وما عدا هاذين الصنفين، فالحق عندهم معقول والخلق مشهود(2)...
في هذا النص يفسر لنا الشيخ الأكبر معنى كلمة (القرب) عند الصوفية، وهذا يجعلنا نفهم بوضوح كل العبارات السابقة واللاحقة، والتي تمر معنا، والتي فيها كلمة (القرب) ونستطيع من هذا النص فهم كلمة (الوجود) الاصطلاحية.
ويقول: ...فمن عَرَف أن الحق عينُ الطريق، عَرَف الأمر على ما هو عليه، فإن فيه -جل وعلا- تسلُكُ وتسافر، إذ لا معلوم إلا هو، وهو عينُ الوجود، والسالكُ والمسافر(3)...
ويقول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر أيضاً:
...وبالِإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها، فهو محدودٌ بحدِّ كل محدود، فما يُحَدُّ شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمَّى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عينُ الوجود، فهو على كل شيء حفيظ بذاته، ولايؤوده حفظ شيء، فحفظهُ تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته، ولا يصح إِلا هذا، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبِّر له، فهو الِإنسان الكبير.
فهو الكون كله ……وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه ……ولذا قلت يغتذي
__________
(1) الفصوص (فص حكمة فردية في كلمة محمدية)، (ص:226).
(2) الفصوص (فص حكمة أحدية في كلمة هودية)، (ص:108).
(3) الفصوص، (ص:109).(78/136)
فوجودي غذاؤه ……وبه نحن نحتذي
فبه منه إن نظرت ……بوجه تعوُّذي(1)
- في النصين الأخيرين يستعمل كلمة (الوجود) بمعناها اللغوي، وليس بمعناها الاصطلاحي، كما في النص الذي قبلهما.
ويقول: ...وإذا كان الحق وقايةً للحق بوجه، والعبدُ وقايةً بوجه، فقل في الكون ما شئت: إن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حقَّ من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك(2)...
- هذا النص يساعدنا كثيراً على فهم عبارات مرت معنا، وستمر، مثل: (أفنِ الخلق، أو أفن من لم يكن يبق من لم يزل، أو الفناء عن الصفات، أو الفناء عن الأفعال الرديئة، أو الفناء عن الكون...) إذ بما أن الكون هو الحق في الحقيقة، وهو خلق، أو كون بالتوهم، فإذا أفنينا الخلق، أو الكون، أو الصفات (التي تعني الخلق) بقيت الصفة التي تعني (الحق) وهذا هو معنى (الفناء في الحق).
ويقول:
فلا تنظر العينُ إلا إليه ولا ……يقعُ الحكم إلا عليه
فنحن له وبه في يديه ……وفي كل حالٍ فإنا لديه
لهذا يُنكَر ويُعرف وُينزَّه ويوصف، فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف، ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف، ومن لم ير الحق منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل(3)...
- هذا النص يعيننا على فهم العبارات التي تمر معنا مثل: (له وبه وفي يديه ولديه)، و(منه فيه بعينه)، وما شابهها، كما يدلنا على معنى المعرفة [منه فيه بعينه (أي: بعين الله)].
ويقول: ...إن لله تجلِّيينْ: تجلّي غيبِ، وتجلي شهادة، فمن تجلي الغيب يُعطي الاستعداد الذي يكون عليه القلب، وهوَ التجلي الذاتي الذي الغيبُ حقيقتُه، وهو (الهوية) التي يستحقها بقوله عن نفسه (هو) فلا يزال (هو) له دائماً أبداً(4)...
__________
(1) الفصوص، (ص:111).
(2) الفصوص، (ص:112).
(3) الفصوص، (ص:113).
(4) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:120).(78/137)
- في هذا النص يشرح لنا بصراحة معنى مصطلح (الهوية)، ومصطلح (هو)، حيث نستطيع أن نفهم بوضوح تام ماذا يعنون بكلمة (هو) حيثما وردت، مثل قولهم: (لا هو إلا هو).
ويقول: ...التجلي الشهودي في الشهادة...ثم رفع الحجابَ بينه وبين عبده، فرآه في صورة معتقدِه، فهو عين اعتقاده، فلا يشهدُ القلب ولا العينُ أبداً إلا صورةَ معتقده في الحق.
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورتَه، وهو الذي يتجلى له فيعرفه، فلا ترى العين إلا الحق الاعتقادي، ولا خفاء بتنوع الاعتقادات، فمن قيَّدَه (أي: في عقيدة واحدة) أنكره في غر ما قَيّدَه به، وأقرَّ به فيما قيَّده به إذا تجلى. ومن أطلقه عن التقييد لم ينكره وأقرّ به في كل صورة يتحول فيها، ويعطيه من نفسه قدر صورة ما تجلَّى له، إلى ما لا يتناهى، فإن صور التجلي ما لها نهاية نقف عندها(1).
- يقول (الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر) في هذا النص: إن كل الاعتقادات صحيحة، وكل المعبودات حق...كما يفهمنا أن الكشف تابع للقناعات الفكرية المسبقة.
ويقول: ...فإذا نظرتَ في قوله: (كنتُ رجله التي يسعى بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي يتكلم به)(2)، إلى غير ذلك من القوى ومحلّها الذي هو الأعضاء، لم تفرق، فقلتَ: الأمر حقٌّ كله، أو خلق كله، فهو خلق بنسبةٍ، وهو حق بنسبة، والعينُ واحدة. فعينُ صورة ما تجلّى عينُ صورة من قبِل ذلك التجلِّي. فهو المتجلي والمتجلّى له. فانظر ما أعجب أمر الله من حيث هويته، ومن حيث نِسبتُه إلى العالَم في حقائق أسمائه الحسنى(3).
ويقول:
فلولاه ولولانا ……لما كان الذي كانا
فإنا أعبدٌ حقّا ……وإن الله مولانا
وإنا عينُه فاعلم ……إذا ما قلت إنساناً
فلا تُحجب بإنسان ……فقد أعطاك برهانا
فكن حقًّا وكن خلقاً ……تكن بالله رحمانا
__________
(1) الفصوص، (ص:121).
(2) جزء من حديث مشهور يستغله الصوفية في غير معناه الحقيقي.
(3) الفصوص، (فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية)، (ص:121).(78/138)
وغذّ خلقَه منه ……تكن رَوْحاً وريحانا
فأعطيناه ما يبدو ……به فينا وأعطانا
فصار الأمر مقسوماً ……بإياه وإيانا
فكنا فيه أكواناً ……وأعياناً وأزماناً(1)
ويقول: ...((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) [الأنبياء:22]، وإن اتفقا، فنحن نعلم أنهما لو اختلفا تقديراً لنفذ حكم أحدهما، فالنافذُ الحُكْمِ هو الِإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإِله، ومن هنا نعلم أن كل حكم يَنْفُذ اليوم في العالم أنه حكم الله عز وجل، وإن خالف الحكْمَ المقرر في الظاهر المسمى شرعاً، إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر، لأن الأمر والواقع في العالَم إنما هو على حكم المشيئة الِإلهية، لا على حكم الشرع المقرَّر، وإن كان تقريره من المشيئة، ولذلك نفذ تقريره خاصة، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير، لا العمل بماجاء به، فالمشيئة سلطانها عظيم...فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجاً عن المشيئة، فإن الأمر الِإلهي إذا خولف هنا بالمسمى (معصية) فليس إلا الأمْرَ بالواسطة، لا الأمر التكويني، فما خالف الله أحدٌ قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فَوَقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة، فافهم، وعلى الحقيقة، فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل، لا على من ظهر على يديه، فيستحيل ألا يكون(2)...
- أرجو من القارئ أن يتسلى بتحليل النص بهدوء.
__________
(1) الفصوص، (فص حكمة نبوية قي كلمة عيسوية)، (ص:143).
(2) الفصوص، (فص حكمة وحودية في كلمة داودية)، (ص:165).(78/139)
ويقول: ...فإن العقل إذا تجرد لنفسه...وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي، كملت معرفته بالله، فنزَّه في موضع وشبَّه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عينَ الحق عينَها. وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها، ولذلك كانت الأوهام أقوى سلطاناً في هذه النشأة من العقول(1)...وبه جاءت الشرائع الِإلهية فشبهت ونزهت، شبهت في التنزيه بالوهم، ونزهت في التشبيه بالعقل، فارتبط الكل بالكل(2)...
- في هذا النص نتبين ماذا يعني الصوفية عندما يقولون: إن طريقهتم أو طرقهم مقيدة بالشريعة، فهم يفهمون الشريعة على هذا المنوال، كذلك يتبين لنا بوضوح ما معنى عبارتهم (الكل بالكل) عندما نسمعها في مثل قولهم: (فناء الكل بالكل، أو بقاء الكل بالكل، أو وجود الكل بالكل، أو ارتباط الكل بالكل...).
وبتوضيح: يقولون: إن طرقهم مقيدة بالشريعة على أساس المنهج التأويلي المبينَّ بعضه في هذا النص، وأرجو من القارىء أن يحلله بنفسه بهدوء؛ لأن تحليل بضعة نصوص تحليلاً صحيحاً يفيد في التمكن من العبارة الصوفية أكثر من قراءة بضعة كتب.
__________
(1) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).
(2) الفصوص، (فص حكمه إيناسية في كلمة إلياسية)، (ص:181).(78/140)
ويقول: ...ولما كان الاستواء الِإلهي على القلب من باب (وسعني)(1)، صارت الألوهية غيباً في الِإنسان، فشهادتُه إنسان، وغيبه إله، ولسريان الألوهية الغيبية في هذا الشخص الِإنساني، أدَّعى الألوهية بالاسم الإله، فقال فرعون: ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) [القصص:38].. وصرح بالربوبية لكونها لا تقوى قوة الألوهية، فقال: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24]، بخلاف من قالها عن الحال، من طريق الأمر بمساعدة المشيئة، فكان جمعاً، مثل أبي يزيد حين قال: (إنني أنا الله لا إله الا أنا فاعبدوني)، وقال مرة: (أنا الله)، فلم يكن للألوهية فيه موضع فراغ ترمي سهمها فيه لكمال السريان(2)...
- في هذا النص ردّ ملجم للذين حاولوا -ويحاولون- خداعاً، تأويل أقوال أبي يزيد البسطامي! وتصريحُ بعقيدة سريان الِإلهية في المخلوقات.
ويقول: ...ونحن من جانب الحقيقة في عين ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)) [مريم:9]، و((لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) [الإنسان:1]، فكأنا لم تكن، فلا أولية إذن ولا آخرية، إذ لا نحن فبقي هو خاصة وهو المطلوب(3).
- هذه الفقرة تساعدنا وتوضح لنا معنى عبارتهم: (إذا كان كما كان قبل أن يكون)، و(كان ولم تكن وهو اليوم كما كان) و(أفن من لم يكن يبق من لم يزل) وما شابهها.
__________
(1) إشارة إلى الحديث القدسي الذي يقول فيه (...ووسعني قلب عبدي المؤمن).
(2) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).
(3) رسائل ابن عربي، (كتاب الجلالة)، (ص:5).(78/141)
ويقول: لما كان مرِتبة الإمكان بما تحويه الممكنات غيباً، ولها الظلمة، وكانت الممكنات هي التي تتعين في النور الوجودي، ويظهر أحكام بعضها للبعض بالحق وفيه، وهو سبحانه لا قيدَ له ولا تميز، كان المثال بالواقع في الوجود مطابقاً للأصل، فالمداد مع الدواة نظير مرتبة الِإمكان وما حوته من الممكنات، من حيث إحاطة الحق بها وجوداً وعلماً، وحقائقُ الممكنات كالحروف الكامنة في الدواة، وإليه الِإشارة بقوله: (كان الله ولا شيء معه)(1)، ونحوه قولي.
وليس في الغيب الذاتي الِإلهي تعدد ولا تعين وجودي، والورق وما يُكتَب فيه كانبساط النور الوجودي العام الذي يَتعين فيه صور الموجودات، والكتابة سر الِإيجاد والِإظهار، والواسطة والآلة القلمُ الِإلهي، والكاتب الحقّ، من حيث كونه موجداً وخالقاً وبارئاً ومصوراً(2)...
- في هذا النص يتبين لنا مرادهم باستعمال الأسماء الحسنى (موجد، خالق، بارىء، مصور...وغيرها).
ويقول:
أنضِ الركابَ إلى رب السماوات ……وانبذْ عن القلب أطوارَ الكرامات
واعكف بشاطىء وادي القدس مرتقباً ……واخلعْ نعاليك تحظى بالمناجاة
وغب عن الكون بالأسماء متصفاً ……حتى تغيبَ عن الأوصاف بالذات(3)
__________
(1) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).
(2) رسائل ابن عربي، (رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي)، (ص:12).
(3) رسائل ابن عربي، (كتاب الِإسرا)، (ص:36).(78/142)
- بعد أن وضح لنا ابن عربي كل السر، وأكثَرَ الأساليب التي يستعملونها، نستطيع أن نعرف، بوضوح أيضاً، في هذه الأبيات معاني العبارات الواردة فيها (أنض الركاب إلى رب السماوات) المرادفة لـ (السير إلى الله) و(العكوف بشاطىء وادي القدس)، وقد عرفنا آنفاً معنى (خلع النعلين)، ونعرف الآن ما معنى (الغياب عن الكون) و(الاتصاف بالأسماء) و(الغياب عن الأوصاف بالذات)، وعلينا أن نحفظها لأنها تستعمل كثيراً كثيراً، وكلها تعني (التحقق بالألوهية)، أو بوضوح أكثر: (العمل للوصول إلى الجذبة التي تجعلك تذوق شيئاً فشيئاً معاني الألوهية، حيث تعرف، بالذوق، أن الخالق هو نفس المخلوق)، وهو ما يُسمَّى: (وحدة الوجود).
ويقول ابن عربي أيضاً:
رأيتُ الحق في الأعيان حقًّا ……وفي الأسماء فلم أره سوائي
ولستُ بحاكم في ذاك وحدي ……فهذا حكمه في كل رائي
وعند المثبتين خلافُ هذا ………هو الرائي ونحن له المرائي(1)
ويقول:
الخلق تقديرٌ وليس بكائنٍ ……والمبْدَعاتُ هي التي تتكون
الروح والكلمات شيء واحد ……والحق فيه هو الذي يتعينَّ(2)
ويقول:
تجسدتُ أسمائي فكنتُ كثيراً ……ولم يرني غيري فكنت بصيرا
فيا قائلاً بالغير أين وجودُه؟ ……وأين يكون الغير؟ كنتَ غيورا(3)
ويقول:
مَن ستر الحقَّ ولم يُفشه ……فذلك الشخص الذي قد كَفَر
تبارك الله الذي لم يزل ……يَظْهر فيما قد بدا من صور
فإنه منشئها دائماً ……في كل ما يَظْهر أو قد ظَهَر(4)
ويقول:
فليس إلا عينه بالخبر ……وليس إلا غيره بالبصر
إن قيل هُوْ قيل لهم ليس هُوْ ……لأنه مطلوبكم بالفِكَر
أو قيل ما هوْ. قيل هُوْ إنه ……عين الذي تشهده في البصر(5)
ويقول أيضاً:
وقد أتى في الصلاة حُكْم ……منه بتقسيمه المثاني
فقال بيني وبين عبدي ……فمن رآه فقد رآني
__________
(1) الفتوحات المكية: (3/549).
(2) الفتوحات: (3/553).
(3) الفتوحات: (3/361).
(4) الفتوحات (3/375).
(5) الفتوحات: (3/376).(78/143)
فلست غير إله ولا هُوْ ……لوحدتي في الوجود ثاني(1)
ويقول:
عِنْديَّة الحق عينُ ذاته ……فهي لأشيائه خزائن
ينزل منها الذي يراه ……فهي لما يحتويه صائن
إنزاله لم يُزِله عنها ……لأنه أعينُ الكوائن(2)
وكل هذه الآبيات واضحة كل الوضوح فيما يخص عقيدة وحدة الوجود. ومعها أبيات أترك تحليلها للقارىء ليدرب نفسه على فهم نصوصهم أينما وردت.
ويقول أيضاً:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة ……فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبةُ طائف ……وألواحُ توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ……ركائبه فالحب ديني وإيماني(3)
- وبدهي أن هذه العقيدة تنبثق من (وحدة الوجود)، ولنعلم أنه كان ينشر هذا الكلام في زخمة الحروب الصليبية.
ويقول جلال الدين الرومي(4)، مؤسس الطريقة المولوية:
نَفْسي، أيها النور المشرق، لا تَنْء عني لا تَنْءَ عني
حبي، أيها المشهد المتألِّق، لاتَنْءَ عني لاتَنْءَ عني
انظرْ إلى العمامة أحكمتُها فوق رأسي
بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري
أحملُ الزنار، وأحمل المخلاة(5)
لا بل أحمل النور، فلا تَنْءَ عني، لا تَنْءَ عني
مسلمٌ أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي
توكلتُ عليك أيها الحق الأعلى، فلا تَنْءَ عني لا تَنءَ عني
ليس لي سوى معبدٍ واحد، مسجداً كان أو كنيسة أو بيت أصنام
ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي، فلا تَنْءَ عني لاتَنْء عني(6)
* ملحوظات:
__________
(1) الفتوحات: (3/535).
(2) الفتوحات: (3/193).
(3) ديوان ترجمان الأشواق، ومحاضرة الأبرار، (ص:402).
(4) مؤسس الطريقة المولوية، بلخي انتقل إلى سيواس، ثم إلى تركيا، ومات في قونية سنة: (672هـ).
(5) جملة (وأحمل المخلاة) يشير بها إلى الهندوسية، لأن البراهمة منهم يحملون المخلاة للاستجداء.
(6) في التصوف الاسلامي وتاريخه، (ص:94).(78/144)
- التشابه واضح بين هذا الكلام وكلام ابن عربي السابق، وعقيدة وحدة الوجود، هي التي ترى كل الأديان صحيحة؛ لأن كل المعبودات هي الله وكل شيء هو الله.
- ولنا أن ننتبه إلى قوله: (نفسي أيها النور المشرق لا تنء عني)، ثم سيره بخطابه لنفسه حتى يقول: (أيها الحق الأعلى لا تنء عني)، حيث نلاحظ أسلوباً جديداً في العبارة وتدرجها، ولننتبه إلى العبارة (لا تنء عني).
ويقول جلال الدين الرومي أيضاً:
مجهول أنا عند نفسي، بربك خبِّرني ما العمل
ولا بهذا الكون ولا ذاك، ولا في الجنة ولا النار موطني
ولا طردت من عدن ولا يزدان، ولا من آدم أخذت نسبتي
بل من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم
تجردت عن بدني وروحي، فمن جديد أحيا في روح محبوبي(1).
- ما يجب ملاحظته قوله: (من مقام ما أبعده من مقام، وطريق خفي المعالم)، وقوله: (فمن جديد أحيا في روح محبوبي).
ويقول أيضاً:
يظهر الجمال الخاطف كل لحظة في صورة، فيَحْمِلُ القلبَ ويختفي، في كل نفسٍ يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد، فشيخاً تراه تارة وشاباً تارة أخرى... انظر إليه وقد خرج من طينة الفخار، وانتشر في الوجود، ظهر بصورة نوح وأغرق الدنيا بدعاء منه...وفي نهاية المطاف ظهر بصورة عربي، ودان له ملك العالم...ذلك الجميل فتان القلوب قد ظهر بصورة سيفٍ في كف علي، وأصبح البتَّار في زمانه، لا لا! بل هو الذي ظهر في صورة إنسان، وصاح أنا الحق، ليس (منصور) هو الذي صُلِبَ على الدار، ولو ظن الجاهلون خلاف ذلك(2)...اهـ. (منصور هو الحلاج).
ويقول: أنا سَرِقَة اللصوص، أنا ألم العصا، أنا السحاب وأنت الغيث، أنا الذي أمطرتُ في المروج(3)...
ويقول على لسان قطبٍ يخاطب البسطامي:
__________
(1) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:95).
(2) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:105)، (106).
(3) فىِ التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:152).(78/145)
إن الله هو ما تراه فيَّ بعين قلبك؛ لأنه اختارني بيتاً له، فإذا رأيتَني فقد رأيته، وطفْتَ حول الكعبة الحنفية، وإذا عبدتَني فقد عبدتَه وسبَّحت له، فلا تظنَّ أنني شيء غيره(1).
* ملحوظة: الكلام -وخاصة النص الأخير- واضح جدّاً.
ويقول الشيخ أرسلان الدمشقي(2):
كلّك شرك خفي، ولا يبين توحيدك إلا إذا خرجتَ عنك، فكلما أخلصتَ يُكْشَفُ لك أنه هو، لا أنت، فتستغفر منك، وكلما وحّدْتَ بان لك الشرك، فتجدّد فى كل ساعة ووقتٍ توحيداً وإيماناً، وكلما خرجتَ عنهم زاد إيمانك، وكلما خرجتَ عنك قوي يقينك...اليقين الأقوم في غيبتك عنك ووجودك به، فكم بين ما يكون بأمره وبين ما يكون به، إن كنت قائماً بأمره خَضَعت لك الأسباب، وإن كنتَ قائماً به تضعضعت لك الأكوان...ما صلُحت لنا وفيك بقية لسوانا، فإذا حوّلتَ السّوى عنك، أفنيناك عنك، فصلُحْت لنا وأودعناك سرَّنا. إذا لم يبق عليكَ حركة لنفسك كمل يقينك، وإذا لم يبق لك وجودٌ عندك كمل توحيدُك...إذا أفناك عن هواك بالحكمة وعن إرادتك بالعلم صرتَ عبداً صرفاً لا هوى لك ولا إرادة، فحينئذ يكشف لك، فتضمحلَّ العبودية في الوحدانية، فيفنى العبد ويبقى الرب تعالى، الشريعة كلها قبض، والعلم كله بسط، والمعرفة كلها دلال...إذا زال هواك يكشف لك عن باب الحقيقة، فتفنى إرادتك، فيكشف لك عن الوحدانية، فتحققتَ به أنه هو، بلا (أنت معه)...إن جئت بلا (أنت) قَبِلَك، وإن جئت بك حجبك...الخلق حجاب، وأنت حجاب، والحق ليس بمحجوب، وهو محتجب عنك بك، وأنت محجوب عنك بهم، فانفَصِلْ عنك تشهده، والسلام(3).
__________
(1) في التصوف الِإسلامي وتاريخه، (ص:157).
(2) مات في دمشق سنة: (541هـ).
(3) مقتطفات من رسالة الشيخ أرسلان من كتاب (شروح رسالة الشيخ أرسلان).(78/146)
- في هذا النص، يبين الشيخ أرسلان أن التحقق بالألوهية لا يكون إلا بنسيان كل شيء على الإطلاق، حتى الإحساس بالذات، وهذا مثل قولهم: (اخلع نعليك)، وسيأتي شرح لبعض عباراته.
ويقول عمر بن الفارض:
فلم تهوني ما لم تكن في فانياً……ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي
- إنه يشرح معنى (الفناء) بقوله: (تجتلي فيك صورتي)، أي: تصير صورتك صورة الله!
أممت إمامي في الحقيقة فالورى……ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي
يراها أمامي في صلاتي ناظري ……ويشهد في قلبي أمام أئمتي
ولا غرو أن صلى الإمام إلي أن……ثوت في فؤادي وهي قبلة قبلتي
وكل الجهات الست نحوي توجهت ……بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي بالمقام أقيمها ……وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى……حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم يكن……صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
فأفنى الهوى ما لم يكن ثم باقياً……هنا من صفات بيننا فاضمحلت
فألفيت ما ألقيت عني صادراً……إلي ومني وارداً بمزيدتي
خرجت بها عني إليها فلم أعد……إلي ومثلي لا يقول برجعة
جلت في تجليها الوجود لناظري……ففي كل مرئي أراها برؤية
وأشهدت عيني إذ بدت فوجدتني……هنالك إياها بخلوة خلوتي
ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها……وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها……وهيأتها إذ واحد نحن هيأتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ……منادى أجابت من دعائي ولبت
وإن نطقت كنت المناجي كذاك إن ……قصصت حديثاً إنما هي قصت
فقد رُفعت تاء المخاطب بيننا……وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن لم يجوّز رؤية اثنين واحداً ……حجاك ولم يثبت لبعد تثبِّت
سأجلو إشاراتٍ عليك خفيةً ……بها كعباراتٍ لديك جلية
وما شان هذا الشأن منك سوى السوى……ودعواه حقاً عنك إن تُمحَ تُثبت
كذا كنت حيناً قبل أن يكشف الغطا……مناللبس لا أنفك عن ثنوية
أرح بفقد بالشهود مؤلِّفي……وأغدو بوجد بالوجود مشتَّتي(78/147)
يفرقني لبّي التزاماً بمحضري ……ويجمعني سلبي اصطلاماً بغيبتي
ومن فاقتي سكراً غنيت إفاقة ……لدى فرقي الثاني فجمعي كوحدتي
فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما……وصفت سكوناً عن وجود سكينة
وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج……هدى فرقة بالاتحاد تحدت
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ……بتقييده ميلاً لزخرف زينة
من معاني البيت الأخير: كل شيء هو الله وكل العقائد صحيحة، وكل معبود هو الله..
وما زلتُ إياها وإياي لم تزل …ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وليس معي في الملك شيء سواء والـ…معية لم تخطر على ألمعيتي
نفي المعية في هذا البيت يوضح أنه لا يريد من كلمة (الاتحاد) حيثما أوردها إلا (الوحدة):
ولكن لصد الضد عن طعنه على ……علا أولياء المنجدين بنجدتي
رجعت لأعمال العبادة عادة……وأعددت أحوال الإرادة عدتي
في البيتين الأخيرين اعتراف جريء من الشيخ بأنه كان قد قطع العبادة، ثم رجع إليها لتكون عادة لا عبادة، وليصد بها الأضداد (أهل الشريعة) عن الطعن على الأولياء مثله، وهذا مثل قول الغزالي الذي مر في صفحة سابقة تماماً:
وهذبت نفسي بالرياضة ذاهباً ……إلى كشف ما حجب العوائد غطت
متى حلت عن قولي (أنا هي) أو أقل……وحاشا لمثلي (أنها فيَّ حلَّت)
منحتك علماً إن ترد كشفه فرد……سبيلي واشرع في اتباع شريعتي
فنبع صداء من شراب نقيعه……لدي فدعني من سراب بقيعة
واضح أنه يعني بقوله: (سراب بقيعة) كل ما ليس من سبيله ولا من شريعته التي هي (وحدة الوجود) وبذلك تكون الشريعة الإسلام هي من (السراب البقيعة).
وكل الورى أبناء آدم غير أنـ……ـي حزت (صحو الجمع) بين أخوتي
ومن (أنا إياها) إلى حيث (لا إلى)……عرجت وعطرت الوجود برجعتي
وغيري على الأغيار يثني وللسوى……سواي يثني منه عطفاً لعطفتي
ومبدأ إبداها اللذان تسببا ……إلى فرقتي والجمع يأبى تشتتي
هما معنا في باطن الجمع واحد……وأربعة في ظاهر الفرق عدت
- يبين في البيت الأخير وما قبله معنى الجمع والفرق.(78/148)
ولم أَلهُ باللاهوت عن حكم مظهري……ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتيي
قول:إنه في الحكم إله وفي المظهر إنسان، وإنه يعي ذلك ولم ينسه.
تحققت أنا في الحقيقة واحد……وأثبت (صحو الجمع) محو التشتت
إذا ما أزال الستر لم تر غيره……ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
فأشكاله كانت مظاهر فعله……بستر تلاشت إذ تجلى وولت
- يقول: إن فعل الله هو أشكاله التي يظهر بها والتي تتلاشى عندما يتجلى.
تنزهت في آثار صنعي منزهاً……عن الشرك بالأغيار جمعي وألفتي
فبي مجلس الأذكار سمع مطالع……ولي حانة الخمار عين طليعة
وما عقد الزنار حكماً سوى يدي……وإن حل بالإقرار بي هي حلت
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد……فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه……يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وإن خر للأحجار في البد عاكف……فلا وجه للإنكار بالعصبية
فقد عبد الدينار معنى منزه……عن العار بالإشراك بالوثنية
وما زاغت الأبصار من كلِّ ملةٍ……وما زاغت الأفكار في كل نحلة
وما اختار من للشمس عن غرة صبا……وإشراقها من نور إسفار غرتي
وإن عبد النار المجوس وما انطفت……كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم……سواي وإن لم يظهروا عقد نيتي
- يقول: كل شيء حق، وكل العبادات حق، وكل العقائد حق، فعابد البد (أي: الصنم) وعابد النار والنصراني واليهودي والمسلم كلهم على حق، وعلينا أن نلاحظ أن هذه الأقوال قيلت في زخمة الحروب الصليبية.
ويقول ابن سبعين في الرسالة النورية مخاطباً تلميذه:(78/149)
وجميع ما توجه الضمير إليه اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمه به، من اسمه (الوجود) كيف يخص بأسماء منحصرة؟ هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: من سمى نفسه (الله) قال لك: أنا كل شيء، وجميع من تنادي أنا. وقد يصعب عليك هذا فعسى أن تسلم أنه معك بالعلم والفعل، فإذا سلمت هذا تسلم أن الذي استجاب لك هو الوجود، فإذا سلمت ذلك فعجل بذلك، ولا تكن كذلك فما يحق لك ذلك؛ يا هالك يا مالك انظر من حالك وقل بعد ذلك: يا حق يا أبد يا راحم يا أحد يا أكبر يا واجب الوجود، الذي الوجود ووحدته واحد، يا ماهية كل ماهية، يا آنية كل آنية.. لا شيء عندي إلا أنت.. لأن الكذب لا يجوز على الله ولا مع الله، ولا شيء أكذب من لسان الإضافة، ولا شرك أقبح من شركها... ولا يعتبر المحقق في ذلك إلا الله، وبد البد، والهو هو.
يعني بقوله: (لسان الإضافة) إضافة شيء إلى الله، مثل (عبد الله، أو مخلوقات الله...) أو إضافة الله إلى شيء، مثل: (خالق الكون..) لأن الإضافة تعني الاثنينية، أي وجود اثنين، خالق ومخلوق وهذا عند الصوفية كذب وشرك لأنه لا موجود إلا الله، والكون هو الله.
ويقول في إحدى رسائله:
... واضرب عن الوهم والحس والخيال والعادة، واخرج عن لواحقك ومحمولك وموضوعك... واطلب واحدك بوحدتك، واخرج عن وترك الخاص بك كما خرجت عن شفعك التابع لك، حتى يبقى الواحد. (أقول: هذا الكلام مثل كلام الشيخ رسلان).
وكان ابن سبعين يقول هو وأصحابه في ذكرهم: (ليس إلا الله) بدل قول المسلمين: (لا إله إلا الله).
ويقول في أحد الفصول التالية لـ(ملاحظات على بد العارف):
يا هذا، غض بصر إدراكك عن غير الله، ثم قل لنفسك: ياخسيسة المنزلة، متى ثبت سواه؟ حتى تستريبي فيه وتغضي بصرك عنه! هو الله.. فلا هو إلا هو ولا يمكن غير ذلك. اهـ.(78/150)
- أرجو الانتباه والتدقيق في معنى العبارة الأخيرة: (... ولا يمكن غير ذلك).
ويقول: ...لو كان فيهما موجود غير الله لكان الله وبالوهم لفسدت...
ويقول:
كم ذا تموّه بالشعبين والعلم……والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعبر عن سلع وكاظمة……وعن زرود وجيران بذي سلم
ظللت تسأل عن نجد وأنت بها……وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حي سوى ليلى فتسأله……عنها سؤالك وهم جر للعدل
ويقول:
ليس من فوه بالوصل له……مثل من سير به حتى وصل
لا ولا الواصل عندي كالذي……قرع الباب وللدار دخل
لا ولا الداخل عندي كالذي……سارروه وهو للسر محل
لا ولا من سارروه كالذي……صار إياهم فدع عنك العلل
فمحوه عنه فيهم فانمحى……ثم لما اثبتوه لم يزل
ذاك شيء علق القلب به……لو تجلى ذاك للخلق قتل
ويقول في (رسالة الإحاطة):
رب مالك وعبد هالك، ووهم حالك، وحق سالك، وأنتم ذلك! اختلط في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد فيه النجو مع الورد، واتفق فيه السقر مع القر، وبالجملة السبت هو يوح الأحد، والموحد هو عين الأحد، ويوم الفرض هو يوم العرض، والذاهب من الزمان هو الحاضر، والأول في العيان هو الآخر، والباطن في الجَنَان هو الظاهر، والمؤمن في الجِنان هو الكافر، والغني هو الولي، والفقير هو الغني، وهذه وحدات حكمية، لا أحداث وهمية.
يريد بقوله: (عبد هالك) أي: لا وجود للعبد؛ والنجو هو الغائط.
ويقول في إحدى رسائله:
الله فقط، الله المستعان والمستعين، والإعانة معنى فيه في كونه معيناً ومستعيناً، والحمد لله في الأزل والأبد ولي المجد، ومن هو بهما عين الحامد والحمد... ولا حول ولا قوة إلا بالساري بذاته في أفعاله عن أسمائه بصفاته، أحب فتسمى بالحي، وأحاط فتسمى بالعالم... هو عين كل ظاهر، فحق له أن يتسمى بالظاهر، وهو معنى كل معنى فحق له أن يتسمى بالباطن.
ويقول في رسالة ثانية:(78/151)
استمع لما يوحى ويستقرا... من أبصر مقصوده كف عن سواه لأنه سواه، وشرط من سري واستوى قطع وهم السوى، فمن قربه الله يقول: الله فقط... ويحرر قضيته البسيطة بإطلاق الهوية على الآنية.
- للتذكير: الهوية من قولهم: (هو) إشارة إلى الله سبحانه، والآنية إشارة إلى المخلوقات التي هي تعينات.
ويقول الششتري:
ما للحجاب مكان في وجودكم……إلا بسر حروف انظر إلى الجبل
أنتم دللتم عليكم منكم ولكم……ديمومة عبرت عن غامض الأزل
عرفتم بكم هذا الخبير بكم……أنتم هم يا حياة القلب يا أملي
ويقول (زجلاً):
لقد أنا شيء عجيب…لمن رأني……أنا المحب والحبيب……ليس ثم ثاني
يا قاصداً عين الخبر……غطاه أينك……الخمر فيك والخبر……والسر عندك
ارجع لذاتك واعتبر……ما ثم غيرك
ويقول أيضاً:
لقد فشا سري بلا مقال……وقد ظهر عني في ذا المثال
ترى وجود غيري من المحال……وكل ما دوني خيال في
متحد في كل شيء……أنا هو المحبوب وأنا الحبيب
والحب لي مني شيء عجيب……وحدي أنا فافهم سري غريب
فمن نظر ذاتي رآني شيء……وفي حلا ذاتي طواني طي
صفاتي لا تخفى لمن نظر……وذاتي معلومة تلك الصور
أفنَ عن الإحساس ترى عبر ……في السر والمعنى خفيت كي
لأنه مني ستر علي(1)
يعلق ابن عجيبة على هذه الأشعار بعد شرحها، فيقول: وقد اتفقت على هذا المعنى، وهو سر الوحدة، مقالات العارفين، ومواجيد المحبين، وأشعارهم كل على قدر ذوقه وشربه، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً، ولا يفهم هذه العبارات إلا أهل الأذواق والإشارات(2)...
ويقول الششتري أيضاً:
محبوبي قد عم الوجود ……وقد ظهر في بيض وسود
وفي النصارى مع اليهود ……وفي الخنازير مع القرود
وفي الحروف مع النقط ……أفهمني قط أفهمني قط
عرفته طول الزمان ……ظهر لي في كل أوان
وفي المياه وفي الدلوان ……وفي الطلوع وفي الهبوط
أفهمني قط أفهمني قط(3)
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:42).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:43).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:43).(78/152)
- قوله هنا: (وفي الخنازير مع القرود)، هو مثل قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)(1)، ومثل قول ولي الله الدهلوي: ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية، ومثل قول ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد، ومثل قول مصطفى العروسي: الظاهر في كل المراتب، الخسيس منها والشريف، ومثل قول عبد القادر الجيلاني الذي ينسبه لابن عباس: في كل شيء اسمٌ من أسمائه واسم كل شيء اسمه، ومثل قول أحمد الرفاعي: إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء. وغيرهم وغيرهم.
- وقبل الانتقال إلى غيره، نستشير متصوفةً كباراً آراءهم بهذا الششتري، فمن أقوالهم فيه:
1- كان الششتري يذكر في أزجاله قوله: شيوخي هم شاذلية(2). وكان ذلك في حياة أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي.
2- قَبِل الشاذليةُ إلى حد ما أشعاره في حضراتهم واحتضنوها(3).
3- عبر ابن عباد الرتدي(4) في رسائله الكبرى عن إعجابه بأزجال الششتري وموشحاته، وهو ينصح مريديه الشاذلية بقراءتها، ويقول عنها: وكلام الششتري عندي أقرب مأخذاً من كلام ابن سبعين، وأما أزجاله ففيها حلاوة وعليها طلاوة(5).
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:338).
(2) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(3) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(4) محمد بن إبراهيم بن أبي بكر.. ابن عباد النفري الرندي، من رندة جنوبي الأندلس من شيوخ الشاذلية توفي سنة (792هـ)، ممن تأثربه، القديس يوحنا الصليبي من صوفية المسيحيين.
(5) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).(78/153)
4- شرح الشيخ أحمد زروق(1)، وهو من كبار الشاذلية، بعض أشعار الششتري ووصفه بقوله: الشيخ العارف، أحد الصوفية، من أبناء الملوك ثم صار من سادات الصوفية، كان يقرأ عليه القرآن والسنن، عارف بالحديث، وأما علم الأسرار والأنوار والحِكَم والأذواق، فحاز فيه قصب السبق(2)...
5- ويقول أبو العباس الغبريني(3):
الشيخ الفقيه الصوفي الصالح العابد الأديب أبو الحسن علي النميري الششتري من الطلبة المحصلين، ومن الفقراء المنقطعين، له معرفة بالحكمة، ومعرفة بطريق الصالحين الصوفية، وله تقدم في علم النظم والنثر على طريق التحقيق، وشعره في غاية الانطباع والملاحة، وتواشيحه ومقفياته ونظمه الزجلي في غاية الحسن(4).
6- ويقول عنه ابن عجيبة الحسني:
...وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين، لأن الششتري كان وزيراً وعالماً، وأبوه كان أميراً، فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه: لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق، ففعل جميع ذلك، وقال له: ما نقول في السوق. فقال: قل: بدأت بذكر الحبيب، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب، فبقي ثلاثة أيام، وخرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق، ومن كلامه رضي الله عنه:
شويخ من أرض مكناس ……في وسط الأسواق يغني
آش علي من الناس ……وآش على الناس مني(5)
__________
(1) الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق، كان قطباً غوثاً، توفي سنة (899هـ).
(2) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:174).
(3) المؤرخ الفقيه صاحب عنوان الدراية، توفي سنة (714هـ).
(4) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:170).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:28).(78/154)
إذن فالششتري من كبار القوم وشيوخهم وعارفيهم، يذكرون اسمه مصحوباً بـ(رضي الله عنه)، ويأخذون أقواله حكماً ونبراساً ومعارف، وما دام هو كذلك، فشهادته كافية لتزكية أي شخص عند القوم، وهو يزكي شيخه ابن سبعين، بل يقدسه ويدعوه بكعبة الحسن وكنز حياته وشمسها وبدرها ومحيي الرسم، وممد الذات، وذات الخير، وكمية السعادة، وإكسير الذوات، ومغناطيس النفوس(1).
ويقول أبو الحسن الشاذلي:
إنا لننظر إلى الله ببصر الإيمان والإيقان، فأغنانا عن الدليل والبرهان، وإنا لا نرى أحداً من الخلق، فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق، وإن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً(2).
- لنلاحظ أن أبا الحسن الشاذلي يصرح بالاستغناء عن الدليل والبرهان؟! وطبعاً يكون الدليل والبرهان من القرآن والسنة، والحق عنده هو ما يراه بالكشف! كما أن وحدة الوجود ظاهرة في النص.
ويقول: إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لون فيها، فليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً(3).
وقد مر هذا النص فيما سبق، ولننتبه إلى قوله: التي لا لون فيها.
ويقول: ...من الأولياء مَنْ يسكر من شهود الكأس ولم يذق بعد شيئاً، فما ظنك بعد ذوق الشراب وبعد الري؟ واعلم أن الري قل من يفهم المراد به، فإنه مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال(4).اهـ.
- أي: إن الري هو التحقق بالألوهية الكاملة بكل معانيها.
ويقول: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى لما حققهم به من شهود القيومية وإحاطة الديمومية(5). اهـ.
- من مثل هذا النص نعرف معنى عبارة (وحدة الشهود).
__________
(1) ابن سبعين وفلسفته الصوفية، (ص:172).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:44).
(3) طبقات الشعراني (2/7).
(4) طبقات الشعراني (2/8).
(5) طبقات الشعراني (2/9).(78/155)
ويقول: لا يتزحزح العبد عن النار إلا إن كف جوارحه عن معصية الله، وتزين بحفظ أمانة الله، وفتح قلبه لمشاهدة الله، ولسانه وسره لمناجاة الله، ورفع الحجاب بينه وبين صفات الله، وأشهده الله تعالى أرواح كلماته(1).
ويقول: العلوم التي وقع الثناء على أهلها، وإن جدت فهي ظلمة في علوم ذوي التحقيق، وهم الذين غرقوا في تيار بحر الذات، وغموض الصفات، فكانوا هناك بلا هُمْ، وهم الخاصة العليا الذين شاركوا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في أحوالهم(2).
- يجب الانتباه إلى قوله: فكانوا هناك بلا (هُمْ)، الذي مر معنا مثله، وإلى العبارتين الجديدتين علينا: (غرقوا في تيار بحر الذات) و(وغرقوا في غموض الصفات). وفي النص السابق عبارة: رفع الحجاب بينه وبين صفات الله. وهي واضحة تماماً من حيث المعنى. ثم لننتبه إلى هذا الأسلوب في محاربة العلم: (العلوم...وإن جلت فهي ظلمة...).
ويقول: فإذا أمدَّه الله تعالى بنور ذاته، أحياه حياة باقية لا غاية لها، فينظر جميع المعلومات بنور هذه الحياة؛ ووجد نور الحق شائعاً في كل شيء، لا يشهد غيره(3)...
- لننتبه إلى قوله: (أحياه حياة باقية لا غاية لها)، فما هي هذه الحياة الباقية؟ المعنى واضح، ففي حياتنا الدنيا لا حياة باقية إلا لله، فيكون معنى (أحياه حياة باقية..)، أي: حققه بالألوهية، ونرى مثل هذه العبارة كثيراً في نصوصهم.
__________
(1) طبقات الشعراني (2/10).
(2) طبقات الشعراني (2/11).
(3) طبقات الشعراني (2/12).(78/156)
ويقول: ...فبينما هم كذلك، إذ ألبسهم ثوب العدم، فنظروا فإذا هم لا (هُمْ)، ثم أردف عليهم ظلمة غيبتهم عن نظرهم، فصار نظرهم عدماً لا علة له، فلا معرفة تتعلق به، اضمحلت المعلومات، وزالت المرسومات زوالاً لا علة فيه، وبقي من أشير إليه، لا وصف له ولا صفة ولا ذات، واضمحلت النعوت والأسماء والصفات، وكذلك فلا اسم له ولا صفة ولا ذات، فهنالك ظهر من لم يزد ظهوراً لا علة فيه، بل ظهر بسره لذاته في ذاته، ظهوراً لا أولية له، بل نظر من ذاته لذاته في ذاته، وهناك يحيا العبد بظهوره حياة لا علة لها، وصار أولاً في ظهوره، لا ظاهراً قبله، فوجدت الأشياء بأوصافه، وظهرت بنوره في نوره سبحانه وتعالى، ثم يغطس بعد ذلك في بحر بعد بحر إلى أن يصل إلى بحر السر، فإذا دخل بحر السر غرق غرقاً لا خروج له منه أبد الآباد، فإن شاء الله تعالى بعثه نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحيي به عباده، وإن شاء ستره، يفعل في ملكه ما يشاء، فهذا عنبرة من طريقَي الخصوص والعموم. فتنبه(1).
ويقول أبو العباس المرسي(2)، تلميذ أبي الحسن الشاذلي:
قال لي الشيخ أبو الحسن: يا أبا العباس، ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا وأنا أنت(3).
- هذا الكلام اعتراف من المرسي بأنه يسير على قدم أستاذه، فهما من عقيدة واحدة، وهذا بدهي.
ويقول: لو كان الحق سبحانه وتعالى يرضيه خلاف السنة، لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى من التوجه إلى الكعبة(4).
ويقول: لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله(5)!؟! (ولا تعليق).
ويقول ابن عطاء الله السكندري(6) في حِكَمِه:
__________
(1) طبقات الشعراني (2/12).
(2) مرت ترجمته، مات عام (686هـ).
(3) طبقات الشعراني (2/14).
(4) طبقات الشعراني (2/14).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:156)، ولطائف المنن، (ص:95).
(6) مرت ترجمته توفي سنة (707هـ).(78/157)
لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى)) [النجم:42](1).
- قوله: لا ترحل من كون إلى كون...ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون. هو تماماً مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مر معنا:..إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟ إلى متى سوى المولى؟.. إذ المعنى واحد تماماً، وكذلك هو مثل قوله: اخلع نعليك: دنياك وآخرتك..، لكن يزيد عليه إن الذي يبتغي الآخرة يكون كحمار الرحى (كانت الطواحين تدار بالحمير)، إذ إن حمار الرحى يدور، يدور ثم يرجع إلى مكانه، وهكذا طالب الآخرة عند السكندري؟!
ويقول: لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز(2).
- في هذا النص يتضح لنا معنى المصطلح (حضور) ومعنى العبارة (غيبة عن ما سوى المذكور..)، وسنشاهدهما كثيراً في كتبهم.
ويقول: إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً(3).
أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار(4).
أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك(5).
- في هذه النصوص، يتبين لنا معنى (الوارد). وبدهياً، أننا الآن نعرف بدقة معنى العبارات (لتكون به عليه وارداً، ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار، ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك). فهي كلها تعني (شهود وحدة الوجود)، ويعني بالآثار شهود الخلق.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:72).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:79).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:86).
(4) إيقاظ الهمم، (ص:86).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:86).(78/158)
ويقول: فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحُجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار(1). مما يدلك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه(2).
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء(3)!
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء(4)! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر لكل شيء(5). كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء(6)! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ليس معه شيء(7)!
- لنركيف يقدم ابن عجيبة (الذي يشرح حكم ابن عطاء الله) هذه التعجبات! إنه يقول: ...ثم استدل (أي: ابن عطاء الله) على بطلان وجود الحجاب في حقه تعالى بعشرة أمور، متعجباً من كل واحد، لظهوره مع خفائه، أي لشدة ظهوره عند العارفين، وشدة خفائه عند الغافلين الجاهلين، فأشار إلى الأول بقوله: كيف نتصور أن يحجبه شيء...، ومعنى هذا الكلام، أن الحجاب الذي يحجب الحق تعالى عن الغافلين الجاهلين هو الوهم فقط، لأن الحق ظاهر شديد الظهور، لكنه اختفى عن الغافلين بسبب غفلتهم وجهلهم. فهم يظنون أن المخلوقات هي غير الله. وهذا باطل عند العارفين.
- ويعلق ابن عجبية على قول ابن عطاء الله: وهو الذي أظهركل شيء، شارحاً فيقول: والظاهر هو الباطن، ما بطن في عالم الغيب هو الذي ظهر في عالم الشهادة، فحياض الجبروت متدفقة بأنوار الملكوت:
انظر جمالي شاهداً ……في كل إنسان
الماء يجري نافداً ……في أس الأغصان
تجده ماءً واحداً ……والزهر ألوان
يا عجباً كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف(8)...
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص:40).
(2) إيقاظ الهمم (ص:41).
(3) إيقاظ الهمم (ص:43).
(4) إيقاظ الهمم (ص:43).
(5) إيقاظ الهمم (ص:43).
(6) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
(7) إيقاظ الهمم (ص:44). موجودة كلها في حاشية لطائف المنن (ص:603).
(8) إيقاظ الهمم (ص:43).(78/159)
- ويشرح قوله:..وهو الذي ظهر بكل شيء، فيقول: بباء الجر، أي تجلى بكل شيء، فلا وجود لشيء مع وجوده، فكيف يحجبه شيء، والفرض أن لا شيء. قال صاحب العينية(1) رضي الله عنه:
تجليت في الأشياء حين خلقتها ……فها هي ميطت عنك فيها البراقع(2)
- ويشرح قوله: ...وهو الظاهر قبل وجود كل شيء، فيقول: فكل ما ظهر فمنه وإليه، فكان في أوله ظاهراً بنفسه، ثم تجلى لنفسه بنفسه، فهو الغني بذاته عن أن يظهر بغيره، أو يحتاج إلى من يعرفه غيره، فالكون كله مجموع، والغير عندنا ممنوع(3).
- ويشرح قوله: ...وهو الواحد الذي ليس معه شيء، فيقول: لتحقق وحدانيته أزلاً وأبداً، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، أإله مع الله، تعالى الله عما يشركون، أفي الله شك، فكل ما ظهر للعيان فإنما هو مظاهر الرحمن، قال صاحب العينية:
تجلى حبيبي في مرائي جماله ……ففي كل مرأى للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعاً ……تسمى بأسماء فهن مطالع
فالحق تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا شيء قبله ولا شيء بعده ولا شيء معه(4).
- هذا النص الأخير يبين مرادهم من قولهم: توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال التي تعني كلها وحدة الوجود.
ويقول ابن عطاء الله:
ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه(5).
من عرف الحق شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئاً(6). إنما حجب الحق عنك شدة قربه منك، إنما احتجب بشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار لعظيم نوره(7).
قبل الانتقال من حكم (بل نقم) ابن عطاء إلى غيرها يجب أن نعرف قيمتها عند القوم.
__________
(1) هو عبد الكريم الجيلي المتوفي سنة (805هـ).
(2) إيقاظ الهمم (ص:43).
(3) إيقاظ الهمم (ص:44).
(4) إيقاظ الهمم (ص:44).
(5) إيقاظ الهمم، (ص:199).
(6) إيقاظ الهمم، (ص:235).
(7) إيقاظ الهمم، (ص:236).(78/160)
يقول ابن عجيبة: سمع شيخ شيخنا مولاي العربي (أي: الدرقاوي) رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه البناني يقول: كادت حكم ابن عطاء الله أن تكون وحياً، ولو كانت الصلاة تجوز بغير القرآن لجازت بكلام الحكم أو كما قال(1).
كما أنها تدرس في مساجد المسلمين، يدرسها علماء لهم شهرة، ويحمل بعضهم ألقاباً علمية.
ويقول ابن عطاء الله أيضاً:
..((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) [الإسراء:110]، وإن تعددت الأسماء، فالمقصود منها واحد، وهو الله، وكل الأسماء هي صفته ونعته، وهو أولها وأصلها، والأسماء كلها سرت في العالم سريان الأرواح في الأجساد، وحفت منه محل الأمر من الخلق، ولزمته لزوم الأعراض للجواهر، فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل، كثف أو لطف، كثر أو قل، إلا وأسماء الله جل وعز ذكره محيطة به عيناً ومعنى، ومقتضى اسم الألوهية جامع لجميعها(2)...
* الملحوظة:
قوله: فإنه ما من موجود دق أو جل، علا أو سفل...إلى آخر النص، هو مثل ما مر في صفحة سابقة من قولهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...وبقية العبارات. ويقول إبراهيم الدسوقي(3):
من أُدخل دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، بقي هو بلا هو(4)....ويقول: وهي في الحقيقة لعامر بن عامر البصري، ولكن نوردها على أنها له احتراماً لكشف العارفين:
تجلى لي المحبوب في كل وجهة ……فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائري ……فقال: أتدري من أنا؟ قلت: منيتي
فأنت مناي بل أنا أنت دائماً ……إذا كنت أنت اليوم عين حقيقتي
وأنظر في مرآة ذاتي شاهداً ……لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي
وما شهدت عيني سوى عين ذاتها ……وإن سواها لا يلم بفكرتي
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:4).
(2) القصد المجرد، (ص:33).
(3) إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن الحسين بن أبي طالب، مات في مصر عام (676هـ).
(4) طبقات الشعراني، (1/167).(78/161)
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة ……أجدد فيها حلة بعد حلة
فليلى وهند والرباب وزينب ……وعلوى وسلمى بعدها وبثينة
عبارات أسماء بغير حقيقة ……وما لوحوا بالقصد إلا لصورتي(1)
- ومن المفيد إيراد النص التالي...
يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته، أنا علي رضي الله عنه في حملاته، أنا كل ولي في الأرض خلعته بيدي ألبس منهم من شئت، أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها، وبيدي جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس(2)...(ولا تعليق)!
وكتب إلى بعض مريديه، بعد السلام؛ وإنني أحب الولد وباطني خليّ من الحقد والحسد، ولا بباطني شظا، ولا حريق لظى، ولا جوى من مضى، ولا مضض غضا، ولا نكص نصا، ولاسقط نطا، ولا ثطب غطا، ولاعطل حظا، ولا شنب سرى، ولا سلب سبا، ولا عتب فجا، ولا سمداد صدا، ولا بدع رضا، ولا شطف جوا، ولا حتف حرا، ولا خمص خيس، ولا حفص عفص، ولا خفض خنس، ولا حول كنس، ولا عنس كنس، ولا عسعس خدس، ولا جيقل خندس، ولا سطاريس، ولا عيطافيس، ولا هطامرش، ولا سطامريش، ولا شوش أريش، ولا ركش قوش، ولا سملاد نوس، ولا كتبا سمطلول الروس، ولا بوس عكمسوس، ولا انفداد أفاد، ولا قمداد أنكاد، ولا بهداد ولا شهداد(3)...وغيرها كثير من هذه الهذيانات التي يسمونها: (علماً لدنياً).
__________
(1) طبقات الشعراني، (1/182).
(2) طبقات الشعراني (1/181).
(3) طبقات الشعراني (1/168).(78/162)
ويقول: أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته، وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة(1). ويقول داوُد الكبير بن ماخِلاّ(2):
كلما جدد العبد المؤمن بالصدق حقيقة الإيمان، اقتضى تجديده ذلك فناء عوالم الأكوان(3).
- الرجاء الانتباه إلى ربطه الإيمان بفناء عوالم الأكوان، (أي: وحدة الوجود).
ويقول: ما ظهر متلصص كون إلا عند غيبة حارس المعرفة، ولولاها ما لاح متلصص كون أبداً، وإن شئت قلت تنويعاً لمثل التوصيل: ما لاح كوكب كونٍ إلا عند غيبة شمس المعرفة، ومتى طلعت شمس المعرفة من مشارق التوحيد أفلت كواكب الآثار وغابت نجوم الأغيار(4)...
- عبارات جديدة نراها في هذا النص: (متلصص كون) يعبر بها عن التفرقة، وكأنه يقول: إن الذي يعتقد أن الكون شيء خارج عن الوحدة، إنما هو لص يسرق الكون من الوحدة، وعبارة حارس المعرفة التي يعني بها مقام الجمع. وكذلك بقية العبارات. ويقول: ...فلسان اللسان هواء عن هواء، ولسان القلب داع إلى هدى، ولسان الغيب يشير إلى عالم المحق والفناء، وانطوى الفرع الأدنى في الأصل الأعلى(5).
- الفرع الأدنى هو المخلوق، أو هو الإنسان، هنا، أو هو السالك، إذا أردنا التخصيص، والأصل الأعلى هو الحق سبحانه.
__________
(1) طبقات الشعراني (1/183).
(2) الشيخ داوُد الكبير من ماخلا، شيخ محمد بن وفا الشاذلي، كان شرطياً في بيت الوالي بالإسكندرية في أوائل القرن الثامن الهجري.
(3) طبقات الشعراني (1/191).
(4) طبقات الشعراني (1/191).
(5) طبقات الشعراني (1/192).(78/163)
ويقول: إنما صد الناس عن العارف المحقق، وجود شركهم، لأن العارف يدفع بهم في حضرات الجمع والتفريد، فتفر نفوسهم من حر نار الأنوار إلى ظل ظلال الأغيار(1). ويقول: لو زال منك (أنا) للاح لك من أنا(2).
- يعني بكلمة (أنا) الأولى، ما يسمون في مصطلحهم بالأنية، أي الشعور بالذات كمخلوق، ويعني بـ (أنا) الثانية، ضميراً عائداً على أي متكلم كان (أو على الحق). وكان يقول:
كلما وجه العبد قلبه إلى الله تعالى انجمع، وكلما وجه قلبه إلى الخلق تفرق(3). كل سبب فرقك فقد أفناك وأماتك، وكل سبب جمعك فقد أحياك وأثبتك(4).
ويقول محمد وفا(5) الشاذلي الغوث مؤسس الطريقة الوفائية:
قال لي الحق: أيها المخصوص، لك عند كل شيء مقدار، ولا مقدار لك عندي، فإنه لا يسعني غيرك، وليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، وكل شيء مجازك، وأنا موجود في الحقيقة، معدوم في المجاز، يا عين مطلعي، أنت الحد الجامع المانع لمصنوعاتي، إليك يرجع الأمر كله، وإلي مرجعك، لأنك منتهى كل شيء، ولا تنتهي إلى شيء، طويت لك الأرضين السبع في سبع من الحب والنوى، المتنوعة بالفعل إلى أصناف من نبات شتى، فإذا شئت على نشرها، أوْلجت فيها جواهر السماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ((إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [فصلت:39](6).
__________
(1) طبقات الشعراني (1/193).
(2) طبقات الشعراني (1/149).
(3) طبقات الشعراني (1/196).
(4) طبقات الشعراني (1/196).
(5) محمد وفا، من أكابر العارفين، خاتم الأولياء، صاحب الرتبة العلية، مات سنة (765هـ) في القاهرة.
(6) طبقات الشعراني: (2/22).(78/164)
- هذا العارف محمد وفا يتبع في تصريحه وتبيانه للحقيقة في هذا النص، أسلوب الحلاج والبسطامي وابن عربي وابن الفارض وغيرهم، لكن بشكل معكوس، فالحلاج قال: أنا الله، والبسطامي: أنا أنا، أو سبحاني، وهذا يقول: قال لي الحق، فالحق -سبحانه وتعالى عما يصفون- هو الذي يقول لمحمد وفا: ليس مثلك شيء، أنت عين حقيقتي، يا عين مطلعي، إليك يرجع الأمركله.
ويقول لسان الدين بن الخطيب:
...وإنما وقعت الكثرة بالتفصيل، والأمر في نفسه حقيقة واحدة وما ثم غيرها، الغدير إذا امتلأ عند المطر ملأ جباباً، ثم لم يكن غير الغدير صباباً(1).
ويقول: ...وأول مراتب العلم هو عين الذات، المعبر عنه بحقيقة الحقائق الكلية، وسريانه في كل اعتبار، ففي الإلهية إلهياً، وفي الكونية كونياً، والكل مظاهره...وهو قسمان: ذاتي وحداني، يلازمه الغنى، معناه شهود الذات نفسه من حيث الواحدية، التي هي مظهر للأحدية بجميع الاعتبارات والشئون، معنويها ومثاليها وحسيها، دنيا وبرزخاً وآخرة، دفعة واحدة، من حيث الكل في شهود الحق عيناً واحدة(2).
ويقول علي وفا(3) (ابن محمد وفا) وهو غوث أيضاً:
...لا يصح لأحد أن يقول في استفتاحه ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] إلا حتى لا يرى غيره، ولا المصلَّى، ولا القبلة، ولا المناجي، فاجعل ربك مشهودك دون غيره(4).
__________
(1) روضة التعريف، (ص:611).
(2) روضة التعريف، (ص:581).
(3) هو وأبوه من سلسلة الخرقة الشاذلية، مات في مصر سنة (801هـ) حسب طبقات الشعراني، و(807هـ) حسب جمهرة الأولياء وشذرات الذهب وغيرها.
(4) طبقات الشعراني: (2/23).(78/165)
من أعجب الأمور قول الحق تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: ((لَنْ تَرَانِي)) [الأعراف:143]، أي مع كونك تراني على الدوام، فافهم(1). ((وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)) [العنكبوت:45] وهو شهود ذاته وحده لا شريك له، لم يكن شيء غيره فافهم(2).
- قوله: لا يصح لأحد أن يقول: ((وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [الأنعام:79] حتى لا يرى غيره، هو مثل قولٍ للغزالي أرجو من القارئ أن يتسلى بالبحث عنه.
- وكان يقول في قوله: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54]: أي كإحاطة ماء البحر بأمواجه معنى وصورة، فهو حقيقة كل شيء، وهو ذات كل شيء، وكل شيء عينه وصفته، فافهم(3).
وكان يقول في حديث: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني} أي: مهما تصورني به من الصور، كنت ممده من أفق تلك الصورة بحكمها، فافهم(4).
وكان يقول: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً(5).
وكان يقول في حديث: {فإذا أحببته كنت سمعه. وفي رواية: كنته} ليس المراد به معنى الحدوث في نفس الأمر! لأنه كذلك بالذات، وإنما ذلك ليكون الشهود مرتباً على ذلك الشرط الذي هو المحبة، فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث لا من حيث التقرير الوجودي، فافهم(6).
- قوله: ما عبد عابد معبوداً إلا من حيث رأى له وجهاً إلهياً، يذكرنا بقول الغزالي الذي مر معنا سابقاً وبقول محيي الدين بن عربي..
والحديث: {كنت سمعه} هو من حديث مشهور يستغله الصوفية أبشع استغلال، يحرفون معناه ويعطونه معنى هو في نظر الإسلام كفر.
وكان يقول -وهي عبارات تشير إلى وحدة الوجود يقدمها بين يدي القوم-:
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/23).
(2) طبقات الشعراني: (2/23).
(3) طبقات الشعراني: (2/23).
(4) طبقات الشعراني: (2/32).
(5) طبقات الشعراني: (2/32).
(6) طبقات الشعراني: (2/24).(78/166)
ما عبد الله أحد إلا على الغيب، لكن فتح لك الشرع الذوقي، في الذوق الشرعي المحمدي باباً إلى الجمع، بأن تشهد كل شيء من معبودك، حتى عبوديتك، فتراه هو الذي يجري الأحكام عليك، ويقيمها فيك بقيوميته، فتصير عند شهودك هذا تعبده كأنك تراه، لأنك لو رأيته، رأيته وجودك القائم بجميع صفاتك، وسمى اللسان المحمدي هذا الشهود مقام الإحسان، وليس بعده إلا مقام الإيقان، وهو العيان(1)، فافهم. (أرجو الانتباه إلى معنى: الإحسان، عندهم).
وكان يقول في معنى حديث: {كنت كنزاً لا أعرف...}، يعني: مرتبة التجرد... {فأحببت أن أعرف فخلقت خلقاً...}، أي: قدرت أعياناً تقديرية، {وتعرفت إليهم ودللتهم على كل منها بكل منها، ...فبي عرفوني}، أي: لأني أنا الكل، هذا حقيقة هذا الكلام في التحقيق، وله في الفرقان من معان أُخر، وكل من عند الله، فافهم(2).
وكان يشير أن يكون صدر كل كتاب هو: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه...أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وهو هو بما هو، سيدي وربي، وهو مولاي وحسبي، ليس إلا هو)(3)...
وكان يقول:
...فهو تعالى ذات كل موجود، وكل موجود صفته، وليس لها مبدأ أول إلا هو، إذ ليس بعده إلا العدم، والعدم لا يكون مبدأ، سيما لموجود(4).
* ملحوظة هامة:
هذا الكلام ينفي عن الله سبحانه قدرة الإيجاد من العدم! وهو واضح للمتأمل.
وقوله: (هو ذات كل موجود) هو مثل قول الآخر: (وما الكلب والخنزير...أو اجتمع فيه النجو مع الورد، وغيرها).
وكان يقول:
من هو بكل شيء محيط، لا يسعه شيء، هذا ومعه شيء! فكيف بمن هو كل شيء؟ ولم يكن شيء غيره، ويكفيك هذا فاصبر نفسك في جدك أو أثبت التجريد(5).
ويقول عبد الكريم الجيلي:
صفات الله فرقان ……وذات الله قرآن
__________
(1) طبقات الشعراني: (2/27).
(2) طبقات الشعراني: (2/32).
(3) طبقات الشعراني (2/40).
(4) طبقات الشعراني: (2/45).
(5) طبقات الشعراني: (2/42).(78/167)
وفرق الجمع تحقيق ……وجمع الفرق وجدان(1)
نعرف الآن أنهم يعنون بعبارة (صفات الله، أو أسمائه) أنها هي المخلوقات بجميع أشكالها وأنواعها.
والجيلي هنا، يعني بكلمة (فرقان) أي مقام التفرقة، أو الفرق، وهو كما نعلم (التفريق بين الخالق والمخلوق). ويعني بكلمة (قرآن) مقام الجمع، وهو جمع الخالق والمخلوق في وحدة، هي الله، وحيثما وردت في كلام القوم عن الحقائق فيريدون بها هذا.
ويقول:
عجباً لذاك الحي كيف يهمه ……قحط السنين وأحمد نيسانه
أوج التعاظم مركز العز الذي ……لِرحى العلا من حوله دورانه
ملك وفوق الحضرة العليا على الـ……ـعرش المكين مثبثِ إمكانه
ليس الوجود بأسره إن حققوا ……إلا حباباً طفحته دنانه
الكل فيه ومنه كان وعنده ……تفنى الدهور ولم تزل أزمانه
فالخلق تحت سما علاه كخردل ……والأمر يبرمه هناك لسانه
والكون أجمعه لديه كخاتم ……في إصبع منه أجل أكوانه
والملك والملكوت في تياره ……كالقطر بل من فوق ذاك مكانه
وتطيعه الأفلاك من فوق السما ……واللوح ينفذ ما قضاه بنانه
هو نقطة التحقيق وهو محيطه ……هو مركز التشريع وهو مكانه(2)
- يظهر في هذه الأبيات، وكأن الجيلي يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك؟ بل هي عقيدة يؤمن بها كل الصوفية دون استثناء! ويسمونها (الحقيقة المحمدية) ويقولون: إن محمداً هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، وبتعبير أوضح: هو أعظم جزء في الذات الإلهية، والمسيطر على بقية الأجزاء، سبحانك اللهم.
وظن بعض الباحثين أن (الحقيقة المحمدية) هي عقيدة بعض الصوفية دون بعضهم الآخر، وأخطئوا، فكلهم يعتقدون نفس العقيدة! وسيأتي بيان ذلك، وهي عندهم جزء من عقيدة وحدة الوجود.
ويقول:
الواحدية مظهر للذات ……تبدو مجمعة لفرق صفات
الكل فيها واحد متكثر ……فاعجب لكثرة واحد بالذات
هذاك فيها عين ذا وكمثل ما ……نباك في حكم الحقيقة هاتي
__________
(1) الإنسان الكامل: (1/113).
(2) الإنسان الكامل: (1/73).(78/168)
فهي العبارة عن حقيقة كثرة ……في وحدة من غير ما أشتات
كل بها في حكم كل واحد ……فالنفي في ذا الوجه كالإثبات
فرقان ذات الله صورة جمعه ……وتعدد الأوصاف كالآيات
فاتلوه واقرأ منك سر كتابه ……أنت المبين وفيك مكنوناتي(1)
ويقول (من العينية):
خبتني فكانت فن عني نيابة أجل عوضاً بل عين ما أنا واقع فكنت أنا هي، وهي كانت أنا وما لها في وجود مفرد من ينازع بقيت بها فيها ولا تاء بيننا وحالي بها ماض كذا ومضارع وشاهدتني حقاً بعين حقيقتي فلي في جبين الحسن تلك الطلائع فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها وأخلاقها لي في الجمال مطالع واسمي حقاَ اسمها، واسم ذاتها لي اسم، ولي تلك النعوت توابع(2). ومنها:
فما ثم من شيء سوى الله في الورى ……وما ثم مسموع وما ثم سامع
هو العرش والكرسي والمنظر العلي ……هو السدرة اللاتي إليها المراجع
هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى ……هو الفلك الدوار وهو الطبائع
هو النور والظلماء والماء والهوى ……هو العنصر الناري وهو الطبائع
هو الشمس والبدر المنير مع السها ……هو الأفق وهو النجم وهو المواقع
هو المركز الحكمي والأرض والسما ……هو المظلم العتام وهو اللوامع
هو الدار وهو الحي والأثل والغضا ……هو الناس والسكان وهو المرابع
هو الحكم والتأثير والأمر والقضا ……هو العزو والسلطان والمتواضع
هو اللفظ والمعنى وصورة كل ما ……يجول من المعقول أو هو واقع
هو الجنس وهو النوع والفصل إنه ……هو الواجب الذاتي والمتمانع
هو العرض الطاري نعم وهو جوهر ……هو المعدن الصلدي وهو الموائع
هو الحيوان الحي وهو حياته ……هو الوحش والإنس وهو السواجع
هو القيس بل ليلى(3) وهو بثينة ……أجل نشرها، والخيف وهو الأجارع
هو العقل وهو النفس والقلب والحشا ……هو الجسم وهو الروح والمتدافع
هو الموجد الأشيا وعين وجودها ……وعين ذوات الكل وهو الموانع
__________
(1) الإنسان الكامل: (1/43).
(2) الإنسان الكامل (1/61).
(3) ليستقيم الوزن يجب أن تكون: (بل ليلاه).(78/169)
حقائق ذات في مراتب حقه ……تسمى باسم الخلق والخلق واسع
ونزهه عن حكم الحلول فما له ……سوى، وإلى توحيده الأمر راجع
فيا أحدي الذات في عين كثرة ……ويا موجد الأشياء، ذاتك شائع
تجليت في الأشياء حين خلقتها ……فها هي ميطت عنك فيها البراقع
قطعت الورى من ذات نفسك قطعة ……ولم يك موصولاً، ولا فصل قاطع
فأنت الورى حقاً وأنت إمامنا ……وإنك ما يعلو وما هو واضع
وما الخلق في التمثال إلاكثلجة ……وأنت بها الماء الذي هو نابع
فما الثلج في تحقيقنا غير مائه ……وغير انِ في حكم دعته الشرائع
ولكن يذوب الثلج يرفع حكمه ……ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها ……وفيه تلاشت فهو عنهن ساطع
فكل بهاء في ملاحة صورة ……على كل قدٍّ شابه الغصن يافع
وكل اسوداد في تصافيق طرة ……وكل احمرار في الطلائع صانع
وكل كحيل الطرف يقتل صبه ……بماضٍ كسيف الهند حالٌ مضارع
وكل اسمرار في القوائم كالقنا ……عليه من الشعر الوسيم شرائع
وكل مليح بالملاحة قد زها ……وكل جميل بالمحاسن بازع
وكل لطيف جل أو دق حسنه ……وكل جليل وهو باللطف صادع
محاسن مَنْ أنشاه ذلك كله ……فوحّد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك لا تلفظ بغيرية البها ……فما ثم غير وهو بالحسن بادع
وأطلق عنان الحق في كل ما ترى ……فتلك تجليات من هو صانع
وشاهده حقاً فيك منك فإنه ……هويتك اللاتي بها أنت دالع
ففي، أينما، حقاً، تولوا وجوهكم ……فما ثم إلا الله، هل مَنْ يُطالع
ودع عنك أوصافاً بها كنت عارفاً ……لنفسك فيها للإله ودائع
فقد صح في متن الحديث تخلقوا ……بأخلاقه ما للحقيقة مانع
وها هو سمع بل لسان أجل بدا ……لنا هكذا بالنقل أخبر شارع
فعم قوانا والجوارح كونه ……لساناً وسمعاً ثم رجلاً تسارع
ويكفيك ما قد جاء في الخلق أنه ……على صورة الرحمن، آدم واقع(1)
__________
(1) فتوح الغيب، (ص:203- 207).(78/170)
في الأبيات الأخيرة، نرى كيف يفسرون الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، والحديث: {تخلقوا بأخلاق الله}، وهو حديث موضوع، وكيف يفسرون الحديث: {...فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطش بها...} كما نرى في الأبيات التي قبلها تقرير الشاعر أن كل شيء هو الله، ونرى استعمالهم لعبارة: دع عنك أوصافاً...أي: دع أوصافك...
ويقول: ثم كتب (أي: الحق سبحانه) على جناح الطير الأخضر، بقلم مداد الكبريت الأحمر، أما بعد؛ فإن العظمة نار، والعلم ماء، والقوى هواء، والحكمة تراب، عناصر بها يتحقق جوهرنا الفرد، ولهذا الجوهر عرضان؟ الأول: الأزل، والثاني: الأبد. وله وصفان؟ الوصف الأول: الحق، والوصف الثاني: الخلق، وله نعتان؟ النعت الأول: القِدَم، والنعت الثاني: الحدوث. وله اسمان، الاسم الأول: الرب، والاسم الثاني: العبد(1)...
ويقول: اعلم أن جميع حقائق الوجود، وحفظها في مراتبها، تسمى الألوهية، وأعني بحقائق الوجود: أحكم المظاهر مع الظاهر فيها، أعني الخلق والحق، فشمول المراتب الإلهية، وجميع المراتب الكونية، وعطاء كل حقه من مرتبة الوجود، هو معنى الألوهية(2)...
ويقول:.. واعلم أن الرب في كل موجود وجهٌ كامل، وذلك الوجه على صورة ذلك الموجود، وروح ذلك الوجود على صورة محسوسة وجسد، وهذا الأمر للرب أمر ذاتي...وإلى ذلك الإشارة في قوله: {خلق آدم على صورة الرحمن}، وقوله: {خلق آدم على صورته}، وهذان الحديثان، وإن كانا يقتضيان معاني قد تحدثنا عليها، فإن الكشف أعطانا أنهما على ظاهر اللفظ(3)...
__________
(1) الإنسان الكامل: (1/24).
(2) الإنسان الكامل: (1/37).
(3) الإنسان الكامل: (2/6).(78/171)
ويقول محمد ين سليمان الجزولي(1) مؤلف دلائل الخيرات: ...اللهم صل على محمد وعلى آله، بَحْرِ أنوارك ومعدن أسرارك...وإمام حضرتك(2).
...اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار(3)......اللهم صل على سيدنا محمد...إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، عين أعيان خلقك(4)...اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات،صلى الله عليه وسلم(5)...اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة(6)...
- هذة العبارات هي صور عن (الحقيقة المحمدية) واضحة المعنى، ووحدة الوجود واضحة فيها.
ويقول: ...ووفقني لاتباعه.. واجمعني عليه...وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب(7)...يا هو، يا من لا هو إلا هو، لا إله إلا هو(8)...
- لقد مرت هذه العبارات في الصفحات السابقة وشرحت هناك. إنها كلها تعني (وحدة الوجود).
ويقول زكريا الأنصاري(9) (شيخ الإسلام):
...قالوا: والفناء على ثلاثة أوجه: فناءٌ في الأفعال: (لا فاعل إلا الله)، وفناء في الصفات: (لا حي ولا عالم ولا قدير ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله (وفناء في الذات): (لا موجود على الإطلاق إلا الله)، وأنشدوا في ذلك:
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ……فكان فناؤه عين البقاء(10)
* ملحوظة: قول الأنصاري هذا، هو أوضح ما قالوه في تعريف الفناءات.
ويقول شارحاً:
__________
(1) أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن...ابن سليمان الجزولي السملالي مات سنة (870هـ).
(2) دلائل الخيرات، (ص:76، 99).
(3) دلائل الخيرات، (ص:90).
(4) دلائل الخيرات، (ص:100).
(5) دلائل الخيرات، (ص:233).
(6) دلائل الخيرات، (ص:214).
(7) دلائل الخيرات، (ص:15).
(8) دلائل الخيرات، (ص:223).
(9) زكريا الأنصاري الخزرجي، مات في مصر سنة (926هـ).
(10) هامش الرسالة القشيرية، (ص:28)، وهامش حاشية العروسي: (2/3).(78/172)
...وسئل الجنيد عن هذا، أعني عن قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فأنشد جواباً للسائل:
طوارق أنوار تفوح إذا بدت ……فتظهركتماناً وتخبر عن جمع
أي: المقامات، أولها طوارق تلوح إذا ظهرت، ونهايتها أنها إذا قويت بعد ظهورها، أظهرت الجمع وكمال الحال وكتمان السر، فأول المقام طوارق، ونهايته جمع، وكمال حال، وكتمان سر، فأشار بالأول إلى مقام الأبرار، وبالثاني إلى مقام المقربين(1)!
ويقول عبد الرحمن العيدروس(2) في مقدمة كتابه لطائف الجود في مسألة وحدة الوجود(3):
باسم الله بداية ونهاية، والحمد لله رواية ودراية، وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر وعلى آله وأصحابه الراتعين في بساتين المظاهر.
أما بعد، فهذه لطائف تتعلق بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف.
* ما يلاحظ:
قوله: وأصلي وأسلم على الأول والآخر والباطن والظاهر.
نعلم أن الأول والآخر والباطن والظاهر هي من صفات الله تعالى، لكنه هنا جعلها صفات للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما يسمونه الحقيقة المحمدية إذ يعتبرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو المجلي الأعظم للذات الإلهية، أي إن أعظم ظهور لله سبحانه هو في شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
والملحوظةالثانية قوله: ...بمسألة الوحدة، القائل بها أهل المعارف، حيث يبين لنا ماذا يعنون بمصطلح (العارف) كما يبين أن أهل المعارف يدينون بوحدة الوجود.
وهو تصريح يشكر عليه.
ويقول في نفس الكتاب (اللطيفة الثالثة):
قال الشيخ الأكبر -نفع الله به- في الباب الثامن والأربعين والمائة من (الفتوحات المكية): الحق خلق، وما الخلق حق!
__________
(1) هامش حاشية العروسي (2/33).
(2) عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس، ولد في مدية (تريم) في حضرموت، تنقل ثم استقر في مصر، ومات فيها سنة (1192هـ).
(3) كتاب من (14 صفحة) فقط، والكتابة في أكثر صفحاته لا تتجاوز الصفحة.(78/173)
قال أهل المعرفة -نفع الله بهم-: ذلك لأن الإطلاق الحقيقي ذاتي للحق، فلا تقيده الأكوان بظهور تعيناتها في تجلية المنبسط عليها.
والخلق مقيد، والقيد ذاتي له، لأن الخلق عبارة عن تعين خاص في الوجود المنبسط، اقتضته ماهيته الثابتة.
فلو ارتفع القيد لم يكن خلق، فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق، لأن المقيد الذي يكون القيد ذاتياً له، لا يكون عين المطلق الذي يكون الإطلاق ذاتياً له. بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح، لأن المطلق الحقيقي لا تقيده الأكوان، فتجليه فيها لا ينافي التنزيه بـ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].
- وهكذا أخضعوا الله- جل وعلا- وصفاته لعلم الكلام.
ويقول في نفس الكتاب: (اللطيفة السادسة: علمُ وحدة الأفعال، ووحدة الصفات، ووحدة الذات، من غير مباشرة ذلك ذوقاً وكشفاً وشهوداً، ليس لغير الخاصة، وأما الخواص فلهم مباشرة ذلك كشفاً.
...وإذا كان السالك في مباشرة (وحدة الأفعال) قَدِرَ على طي الأرض واختراق الهواء والمشي على الماء والإشباع بالقليل مكان الكثير والارتواء بالقليل، ونحو ذلك.
وإذا كان في مباشرة (وحدة الصفات) سمع في تجلي صفة السمع له جميع الأشياء ناطقة، من جماد ونبات وحيوان، لأنه بالحق يسمع لا بنفسه، وكذلك يبصر في (تجلي صفة البصر له) جميع المُبْصَرات، ولا يحجبه شيء عن شيء، لأنه بالحق يبصر، وكذا جميع بواقيه (أي: بواقي الحديث) كما ورد: فبي يبصر وبي يسمع وبي يبطش إلى آخره.(78/174)
وإن كان في مباشرة (وحدة الذات) كان بحسبها، لأنها تعود الأسماء الذاتية عنده كالملونة لون إنائه، فيتصف به (أي: بالله) بقبول الألوان كلها؟ فلا يدري العبد من هو لشهود الحق بالحق بلا نسبة شهود له، بل كـ ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18] و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79] و((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) [المجادلة:6]، فتتصل الشاهد بالشاهد في جميع المشاهد والشواهد. اهـ.
- وحدة الأفعال: أي ليس في الوجود إلا فاعل واحد، وكل فعل، كائناً ما كان، فهو فعل الواحد الذي لا فاعل غيره، وقد مر معنا معنى مصطلح (فعل الله) عندهم، يعني حركته.
- وحدة الصفات: لا يوجد إلا حي واحد وسميع واحد وبصير واحد ومتكلم واحد...فجميع الذين يتصفون بالحياة والسمع والبصر والكلام و...و...هم واحد، وهو الله.
- وحدة الذات: وهي أن يرى كل الممكنات هي من ذات الحق، ويشرحها عبد الرحمن العيدروس شرحاً أوضح عندما يقول: كـ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) [آل عمران:18].. أي إن الواصل يشهد أنه هو نفسه الله الذي لا إله إلا هو. ويشهد وحدة ذاته وذات كل شيء مع الذات الإلهية مثل: و((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء:79]، أي لا شهيد غيره.
ويقول محمد بن عبد الله بن شيخ العيدروس(1):
...فانتبه لنفسك أيها الأخ، وتقرب إلى مولاك بالصدق، تر العجائب فيما بينك وبين الوقوف على كنه الأشياء والاطلاع على أسرارها، إلى أن تنطلق من أسر هواك، وتتجرد عن علائق نفسك، فهناك تشرق عليك أنوار القبول، وتلوح عليك آثار الوصول، فإذا كنت كذلك:
بدا لك سر كان منك اكتتامه ……ولاح صباح كنت أنت ظلامه
__________
(1) محمد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس، ولد بمدينة (تريم) بحضرموت، وتخرج بوالده في طريق القوم، ورحل إلى الهند شاباً حيث مات ببندرسوت عام (1031هـ) حسب الإيضاح، أو سنة (1005هـ) حسب أعلام الزركلي.(78/175)
وكنت حجاب القلب عن سر غيبه ……ولولاك لم يطلع عليك ختامه
فمذ غبت عنه حل فيك وطنبت ……على موكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ……شهي إلينا نثره ونظامه(1)
ويقول عبد القادر ابن شيخ العيدروس(2):
السائر إلى الله تعالى تتجلى له في أثناء سلوكه أنوار وتبدو له أسرار، فإن أرادت همته أن تقف عندما كشف لها من ذلك، لاعتقاده أنه وصل إلى الغاية القصوى، والنهاية من المعرفة، نادته هواتف الحقيقة: المطلوب أمامك فجد في السير، وإن تبرجت له ظواهر المكونات بزينتها، فمال إلى حسنها وجمالها، نادته حقائقها الباطنة: إنما نحن فتنة فلا تكفر؟ وغض عينيك عن ذلك. وأن إلى ربك المنتهى.
فلا تلتفت في السير غيراً وكل ما ……سوى الله غيرٌ فاتخذ ذكره حصناً
وكل مقام لا تقم فيه، إنه ……حجاب فجد السير واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتلى ……عليك، فحلْ عنها فعن مثلها حلنا
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب ……ولا صورة تجلى ولا طرفة تجنى(3)
قال الجنيد: أدركتُ سبعين عارفاً كلهم يعبدون الله على ظن ووهم، حتى أخي أبا يزيد منهم لو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه. قال سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه في قوله: يعبدون الله على ظن ووهم. وإنما ذلك أنهم ظنوا أنه من المقامات ما لا يصلح أن يكون فوقه مقام، وليس كذلك، فلو أنهم تحققوا لعلموا أن فوق ذلك المقام مقاماً، إلى ما لا نهاية.
قوله لأسلم على يديه أي: لأنقاد له؟ والإسلام الانقياد، فليكن المريد عالي الهمة والنية حتى لا يكون له التفات إلى غير الله، وتكون النية إلى هذا المقام بإرشاد الشيخ العارف الرداد:
ولو كان لي ما كان في الكون كله ……وكانت لي الأكوان بالأمر ساجدة
__________
(1) إيضاج أسرار علوم المقربين، (ص:31)، والشعر لابن العريف صاحب الطريقة العريفية.
(2) قطب العارفين، غوث الواصلين، محيي الدين، عم محمد بن عبد الله السابق، لم أقف على تاريخ وفاته.
(3) الأبيات من قصيدة للششتري.(78/176)
لما نظرت عيني إليها وما رأت ……إذا لم تكن ذاتي لذاتك واحدة
ولسيدي الحبيب الوالد شيخ بن عبد الله العيدروس في المعنى:
لا ترتضِ بالاسم دون مسمه ……إن كنت يا ندمان صباً عاشقاً
واعكف على حب الحبيب وذكره ……في جمع جمع الجمع لا تتفرقا
وإذا نأى لك قرنه من دونه ……لا ترضها وارحل ولا تتعوقا
فهناك نادتك الحقائق لا تقف ……فأمامك المطلوب دُم متشوقاً(1)
وقال عبد الله بن أبي بكر العيدروس(2):
...فمن فني عن أفعال نفسه فهو باقٍ بأفعال الله، ومن فني عن صفاته فهو باقٍ بصفات الله تعالى، ومن فني عن ذاته فهو باقٍ بذات الله تعالى، كما قال بعضهم:
وقوم تاهوا في أرض بقفر ……وقوم تاهوا في ميدان حبه
فأفنوا ثم افنوا ثم أفنوا ……وأبقوا بالبقاء بقرب ربه
فالأول كما قالوا: فناء صفاته لبقاء صفات الحق، ثم فناؤه عن صفات الحق بشهود الحق، ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق، وهو فناء الذات في الذات، وهذه حقيقة ((قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ...)) [الأنعام:91] الآية(3).
وقال: فصل في حقيقة عالم التوحيد المبني على التفريد بعد أداء حق التجريد:
__________
(1) غاية القرب من مجموعة إيضاح أسرار علوم المقربين، (ص:85).
(2) إمام أئمة الأولياء العارفين، مؤسس الطريقة العيدروسية، من مدينة (تريم) في حضرموت، مات فيها سنة (865هـ).
(3) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76).(78/177)
وهو أن يفردك الحق بفردانيته، عند استيلاء سلطان الذكر، حتى تخرج من قشور الحروف والصوت، فتفنى بسطوة بقية وجودك الذاكر، وبقية سلطنة إثباته، فثبوت المذكور عن الذكر بدوام الذكر على مقتضى قوله: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)) [البقرة:152]، فيصير حينئذ الذاكر مذكوراً والمذكور ذاكراً، ويستبدل الأين بالعين، والمباينة بالمعاينة، والأنية بالوحدانية، وفني عن نفسه وعن غيره بالكلية في عين جمع الجمعية، فشاهد الذات الحقيقة الصمدية المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة وتوابعها ولوازمها بالكلية، ولا يرى إلا الواحد الحق أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11] هذا توحيد خواص الخواص.
...فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته، إلى أن تورث الجذبة المشاهدة، فالمشاهدة أحضرته معه وغيبته عنه، إلى أن ظهر بالعيان، فالعيان يسحقه والعين تمحقه، ثم يحققه الحق ويزهق باطله، فيكاشف بأنوار غيب الغيب، فيطالع أسرار الملك والملكوت، ويتيه في تيه العظموت والجبروت، حتى تتجلى له شمس الربوبية عن سماء العبودية، فأشرقت أرض البشرية بنور ربها، ويرقى في المقام إلى تلألؤ نور الألوهية المستفاد من الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النور:35]، ثم نفحة الألطاف الربوبية، وانفتح في عين الشمس باب الهوية، وانغمس فيه المنغمس، ثم لا تسأل:
قد كان ما كان مما لا أفوه به ……فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر(78/178)
فاستضاءت الآفاق الجسدانية بضوء الشريعة، وظهرت المشكاة النفسانية بلوامع الطريقة، وتنورت الزجاجة القلبية بأنوارحقيقة الروحانية، وأشرق الصباح الروحية بنار نور الألوهية، وبدت شجرة الوحدانية، ونودي موسى السر: ((أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [القصص:30]، فانمحت الجهات، وتلاشت الصور، وانطمس الأبعاض، وانعدمت الأجزاء، وسطعت عزة الوحدانية بتجلي نور الصمدانية الربانية، فتدكدك جبل الإنسانية الروحانية صعقاً، فاحترقت الغيرية بنار الغيرة، وارتفعت الشركة وبقيت الوحدة، متعززاً برداء الكبرياء والعزة، متزراً بإزار العلاء والعظمة، وحده لا شريك له، ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88]، هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذا وقت ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)) [النجم:3] وهو سر {كنت له سمعاً وبصراً ولساناً، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق}، ولعمري إن هذا الحال من كوشف بأسرار {كنت كنزاً مخفياً} فلما كشف الغطاء، وذهب الجفاء، ودام اللقاء فـ ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)) [النجم:11]، وللقلب ما زوى، فرعى في رياض المعرفة...إذ تجافى عن المحاط المطلق المحاط به غيب الغيب المحيط المطلق، فتحقق له: ((أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)) [فصلت:54].
أبان الحق ليس به خفاء ……وباح السر وانكشف الغطاء
فنفسي زائل والروح نادت ……فلم يبق التكبر والصفاء
بقاء الحق أفنانا فأفنى ……بقاء فنائنا، ذاك البقاء
تجلت سطوة الجبروت حتى ……فنينا ثم إذ فني الفناء
هذا مقام المعرفة بمشاهدة الحقيقة(1)...
* ملحوظات:
- هناك أخطاء مطبعية، نقلتها على شكلها الصحيح الذي يجب أن تكون عليه أنبه.
__________
(1) الكبريت الأحمر والإكسير الأكبر، من مجموعة (إيضاح أسرار علوم المقربين)، (ص:76، وما بعدها).(78/179)
- الجملة: (ويستبدل الأين بالعين...والأنية بالوحدانية)، وردت في الكتاب: (.. و.. والأينية بالوحدانية)، وهي غلطة مطبعية.
- (المنزهة عن الجسمية الكثيفة واللطيفة)، وردت: (الكشفية واللطيفة..).
- (فالجذبة تبعده عن أنانيته وتقربه لهويته)، وردت: (...تبعده عن إنابته..).
- (فاحترقت الغيرية بنار الغيرة..)، وردت: (.. بنار الغيرية).
- (متزراً بإزار العلاء..)، وردت: (.. مترزاً..).
- (هذا أوان ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) [الأنفال:17])، وردت: (هذا وإن رميت إذ رميت..). - (فلما كشف الغطاء..)، وردت: (فلما كوشف الغطاء..).
ويبرز لنا في هذا النص ما يلي:
أ- دور الجذبة في الصوفية، وأنها هي المطلب.
ب- ما يظهر للسالك أثناء الجذبة، وأن المشاهدة هي في الجذبة.
ج- وحدة الوجود التي يشاهدها في الجذبة.
د- عبارات تشير إلى وحدة الوجود وهي من عباراتهم التي يستعملونها.
هـ- كيف يفسرون بعض الآيات والأحاديث.
والرجاء من القارئ أن يتسلى بتحليل عبارات النص التي تشير كلها إلى وحدة الوجود.
ويقول مجدد الألف الثاني أحمد الفاروقي السرهندي(1):
...وإذا قال هؤلاء الصوفية بنفسهم بأن ذات الحق سبحانه وتعالى لا يُحكم عليها بحكم؟ يكون الحكم عليها بالإحاطة والسريان مخالفاً لهذا القول، والحق أن ذاته تعالى ليس كمثله شيء، لا سبيل لحكم من الأحكام إليها أصلاً، بل في ذلك الموطن الحيرةُ الصرفة والجهالة المحضة، فكيف يتطرق السريان والإحاطة إليها؟ ويمكن الاعتذارمن جانب الصوفية القائلين بهذه الأحكام بأن مرادهم بالذات هو التعين الأول، فإنهم لما لم يقولوا بزيادة ذلك التعيين على المتعين، قالوا لذلك التعين عين الذات، وذلك التعين الأول المعبر عنه بالواحدية سارٍ في جميع الممكنات(2)...
__________
(1) مؤسس الطريقة المجددية النقشبندية، هندي مات سنة (1034هـ).
(2) المنتخبات من المكتوبات، (ص:10).(78/180)
- لتسهيل التحليل، يعني بالإحاطة قولهم: الله محيط بكل شيء، أو بالممكنات، ويشيرون بها إلى وحدة الوجود، وبالسريان قولهم: الله سار في كل الممكنات، أو الأشياء، ويعنون بها وحدة الوجود أيضاً. وطبعاً القول بالإحاطة هو حكم، وكذلك القول بالسريان هو حكم أيضاً، لذلك لا يقولون بها، لأن ذات الحق لا يحكم عليها بحكم. ويعنون بكلمة (المتعين) الجزء من الله (جل الله وعلا)، الذي تشكل أو تعين بالمخلوقات، ويقرر المجدد أنهم لم يقولوا بزيادة التعين (أي: الخلق) على المتعين. فهو هو. والمتعين الأول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وطبعاً، هذا أسلوب جديد يقدمه المجدد لتقرير وحدة الوجود بأسلوب موهم فيه شيء من التعقيد، أرجو من القارئ أن يحلله بهدوء ليزداد تمرساً باللغة الصوفية، وليتأكد أن العقيدة عندهم التلاعب بالألفاظ.
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي(1) في شرح رسالة الشيخ أرسلان:
واعلم أن الشرك الجلي هو أن يظهر للعبد أو لغيره منه اعتقاد أن مع الله تعالى رباً آخر يستحق العبادة من الخلق، أو مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته تعالى، أوله فعل كأفعاله تعالى، أو اسم كأسمائه، أوحكم كأحكامه.
__________
(1) دمشقي، توفي في دمشق سنة (1143هـ).(78/181)
والشرك الخفي، هو خفاء شيء، من ذلك على العبد، وهو فيه بسبب استيلاء الغفلة على قلبه، فترى الغافل عن معرفة نفسه جازماً أنه مشارك لله تعالى في الوجود، وفي جميع الصفات التي منها السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك، وفي جميع الأسماء التي منها الحليم والكريم واللطيف والعليم إلى آخره، وفي جميع الأفعال كالإيجاد للعبادات والإعدام للمخالفات ونحو ذلك، وفي جميع الأحكام كالجزم بالحرام والحلال على الأمور الداخلة بانفرادها وتشخصها تحت أحكام القرآن والسنة؟ ومع ذلك هو غافل عما هو فيه، غير منتبه لأمره، قاطع بأنه موجود آخر مع الله تعالى، موصوف بأوصافٍ، مسمى بأسامي، له فعال وأحكام تصدر منه(1)....اهـ.
* تبيين:
قوله: إن الشرك الجلي هو:..اعتقاد أنه.. مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته...يعني: من صفات الله، مثلاً أنه يسمع ويرى، والإنسان كذلك يسمع ويرى، فمن اعتقد أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في السمع والرؤية، وهكذا بقية الأسماء والصفات، ومنها الوجود، ويجعل هذا شركاً جلياً.
ويجعل من الشرك الخفي أن يكون هذا الاعتقاد بسبب الغفلة.
ويجعل من الشرك الخفي مثلاً، أن يظن إنسان -بسبب الغفلة- أنه مشارك لله في الوجود، فمن ظن أن الإنسان هو غير الله، فقد جعل لله شريكاً في الوجود.. وكذلك من اعتقد أن الأوثان التي تعبد هي غير الله فقد جعل لله شريكاً غيره يعبد.
ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً شارحاً لقول الشيخ أرسلان: فكلما أخلصت يكشف لك أنه هو لا أنت: فكلما أخلصت، أي: في خروجك عنك بأن خرجت عن هذا الخروج أيضاً...يكشف لك - بالبناء للمفعول- أي يكشف الله تعالى لك، بأن يظهر فيك وتجده في نفسك المعدومة، وهذا الانكشاف ليس كانكشاف الأشياء المغطاة...
قال أحد العارفين:
__________
(1) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:75، 76).(78/182)
توهمت قدماً أن ليلى(1) تبرقعت ……وأن حجاباً دونها يمنع اللثما
فلاحت فما أن ثم والله حاجب ……سوى أن طرفي كان من حسنها أعمى
أي: هو كشف، لكنه ليس كما يكشف الغطاء عن الآنية، أو الستر عن الباب، بل هو أمر إذا ظهر يرى العبد أن ذلك لم يكن مستتراً بشيء، وإنما الإدراك كان ضعيفاً عن الوصول إليه، فقواه الحق، فأدرك ما كان ظاهراً: أنه...هو، أي: الله سبحانه وتعالى الموجود وحده فقط، بالوجود القديم الخاص به (لا أنت)، أي: لا وجود لك بالكلية، بل أنت عدم محض حينئذ، وإن كنتَ عند ذلك على ما كنت عليه قبل ذلك، من غير تغيير، إلا أن بصيرتك قويت فأدركت ما لم تكن تدرك من قبل(2).. ويقول أيضاً:
قد بالغ في الظهور والكتمان ……حتى حارت به أولو العرفان
والسر على التحقيق كالإعلان ……قد أودعه في هذه الأكوان(3)
ويقول عبد الغني النابلسي أيضاً:
أنا كل الوجود والكائنات ……أنا كل الأرواح كل الذوات
أنا كل العقول بل كل شيء ……في جميع الأزمان والأوقات
ليس كل الوجود إلا أسامي ……والمسمى بكل ذلك ذاتي
والتباسي عليك حيث لباسي ……كل شيء يلقيك في الآفات(4)
- وسيتسلى القارىء بتحليل هذه النصوص، وهي واضحة تماماً.
ويقول الشيخ أحمد الدردير(5) في صلواته:
...وزج بي في بحار الأحدية، وانتشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها(6)...
__________
(1) يشير بكلمة (ليلى) إلى الحق سبحانه عما يصفون.
(2) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص 80، 81).
(3) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:107).
(4) شرح رسالة الشيخ أرسلان، (ص:175، 176).
(5) أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوي المالكي الشاذلي الخلوتي الملقب بالدردير مات في القاهرة سنة (1201هـ).
(6) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).(78/183)
- هذه الفقرة هي جزء من الصلاة المشيشية، والشيخ الدردير يتبناها، ويضعها في أول صلواته، التي هي من الأوراد الخلوتية، إذن فيمكن اعتبارها، وكأنها له.
ويقول (حرف التاء):
...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لابثاً في جميع اللحظات...وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات(1).
ويقول في منظومة أسماء الله الحسنى:
وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً ……لأدري به سر البقاء مع الفنا
وجُد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة ……وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
ومن علينا يا ودود بجذبة ……بها نلحق الأقوام من كان قبلنا(2)
يشرح الشيخ أحمد الصاوي هذا الكلام، فيقول:
لما كان جمع الجمع ووصل الوصل أعلى من الفناء والبقاء، ترقى إليهما بقوله: وجد لي.. إلخ، واعلم أن لهم مقاماً يقال له: الفناء، ومقاماً يقال له: البقاء والجمع والفرق، ومقاماً يقال له: جمع الجمع، ومقاماً يقال له: الفرق الثاني، ومقاماً يقال له: الوصل، ومقاماً يقال له: وصل الوصل.
فأما المقام الأول الذي هو الفناء، فهو استغراق العبد في الله، حتى لا يشهد شيئاً سوى ذات الله، ويقال لصاحبه: غريق في بحار الأحدية.
__________
(1) كتاب الأوراد الخلوتية (الصلوات الدرديرية).
(2) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:125، وما بعدها).(78/184)
وأما المقام الثاني، وهو البقاء، فهو الرجوع بعد الفناء إلى ثبوت الآثار، بشهود ذات وصفات المؤثر فيها، ويقال لصاحبه: غريق في عين بحر الوحدة، فمُشاهد الأحدية مشاهد للذات دون الأسماء والصفات وآثارها، وهو الفاني، ومشاهد الوحدة مشاهد للذات متصفة بالأسماء والصفات، مثبتاً للآثار، جامعاً بين الحق والخلق، وهذا هو الكمال بعينه، فلذلك قالوا: لا بد لكل فناء من بقاء، ومقام البقاء هذا، هو المسمى بـ (الجمع والفرق)، فجمعه شهوده لربه، وفرقه شهوده لصنعه، وأما جمع الجمع فهو مقام أعلى من البقاء وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكاً بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم من يبقى بهذه السكرة إلى الموت، كالسيد البدوي رضي الله عنه، ولذلك قال العارفون: إنه جُذب جذبة استغرقته إلى الأبد، ومنهم من يرد إلى الصحو عند أوقات الفرائض والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي وأضرابه، والمؤلف أي الشيخ الدردير رضي الله عنهم، فيكون رجوعاً لله بالله لا للعبد بالعبد، هذا الرجوع يسمى (الفرق الثاني)؟ وأما (الوصل) فهو تلذذ القلب بشهود الحق بعد زوال الحجب الظلمانية والنورانية، فإن دام له الشهود يقال له: (وصل الوصل)، أي الوصل الكامل، كقولهم: (سر السر وعين العين) مبالغة في كمال الشيء(1)...
ويقول الشيخ الدردير:
...فإذا أدركته العناية الإلهية، واستند إلى شيخه بالكلية، ولازم المجاهدة حتى تمكن من الصفات المحمودة، وانقطع عنه عِرْق الرياء، وصارت نفسه ذليلة، واستوى عنده المدح والذم، ودخلت (أي: نفسه) في مقام الفناء، ورضيت بكل ما يقع في الكون من غير اعتراض أصلاً، سميت راضية...
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص 125، وما بعدها).(78/185)
ولكن رؤية الفناء والإخلاص ربما أوقع في شيء من الإعجاب فيرجع به القهقرى، فليستعذ بالله من ذلك، مع مداومة الذكر والالتجاء إلى الله، وملحوظة أنه لا يتم له الخلاص إلا بمدد الشيخ، فإذا فني عن الفناء، خلص من رؤية الإخلاص، وتجلى عليه الرضا، وعفا عن كل ما مضى، وتبدلت سيئاتها (أي: النفس) حسنات، وانفتح لها أبواب الأذواق والتجليات، فصارت غريقة في بحار التوحيد...ولذا سميت (مرضية)...إلا أن صاحب الهمة العلية لا يرضى بالوقوف عند هذه المقامات وإن كانت سنية، بل يسير من الفناء إلى البقاء، ويطلب (وصل الوصل) بتمام اللقاء، فتناديه حقائق الأكوان، ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] فإذا سار إلى منازل الأبطال وخلف الدنيا وراء ظهره، ناداه بأحسن مقال: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي)) [الفجر:27، 30]...اهـ(1).
* الملحوظات:
- نلاحظ في هذا النص ما يلي:- الدور الأساسي للشيخ في السير وفي الوصول.
- الأوصاف التي يطلقونها على الجذبة وما بعدها (الصفات المحمودة، انقطاع عرق الرياء...).
- دور مداومة الذكر.
- عبارة (صارت غريقة في بحار التوحيد) التي تشير إلى الاستشعار الدائم لوحدة الوجود، أو للألوهية.
- عدم الوقوف عند هذه المقامات، أي الغرق في التوحيد الذي هو مقام الفناء، بل يسير منه إلى البقاء بمداومة الذكر ومدد الشيخ.
- يشير إلى وجوب هذا الانتقال بالعبارة (فتناديه حقائق الأكوان: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102].
__________
(1) حاشية العلامة الصاوي شرح الخريدة، (ص:134).(78/186)
ونعرف الآن أن العقيدة الصوفية هي أن الأكوان ليست شيئاً غير الله سبحانه وتعالى، إذن فحقائقها هي أنها تعينات إلهية، أو هي الله جل وعلا، التي تناديه: ((إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)) [البقرة:102]، والنداء هنا مجازي طبعاً، ويجعل الشيخ الفتنة مشيرة إلى استشعار الألوهية حيث يبهت الواصل ويقول: (أنا الله، سبحاني...) إلخ، فيحكمون عليه بالكفر.
والجديد في هذا النص هو فهمهم للآية: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ....)) [الفجر:28] ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي...)) [الفجر:29] أوردها مشيراً بها إلى مقام البقاء الذي يستشعر فيه العارف أنه الله (جل الله وعلا)، ويشاهد بنفس الوقت العبودية، وجملة: ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)) [الفجر:29] يجعلونها مشيرة إلى رؤية العبودية (أو الفرق)، والجمع مع الفرق هو مقام البقاء.
- ويقول ابن عجيبة(1) شارحاً قول ابن عطاء الله السكندري: الحق ليس بمحجوب عنك، إنما أنت المحجوب عن النظر إليه، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو قاهر له، وهو القاهر فوق عباده، يقول: ...قلت: الحق تعالى محال في حقه الحجاب.. فلا يحجبه شيء، لأنه ظهر بكل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، فلا ظاهر معه، ولا موجود في الحقيقة سواه، فهو ليس بمحجوب عنك، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه، لاعتقادك الغيرية، وتعلق قلبك بالأمور الحسية، فلو تعلق قلبك بطلب المولى، وأعرضت بالكلية عن رؤية السوى، لنظرت إلى نور الحق ساطعاً في مظاهر الأكوان، وصارماً كان محجوباً عنك بالوهم في حق الشهود والعيان، ولله در القائل:
لقد تجلى ما كان مخبى ……والكون كله طويت طي
مني علي دارت كئوسي ……من بعد موتي تراني حي
__________
(1) أحمد بن عجيبة الدوريس الشاذلي الفاسي، توفي سنة (1224هـ).(78/187)
فالناس كلهم يشاهدون ولا يعرفون، وكلهم في البحر ولا يشعرون، وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: والله ما حجب الناس عن الله إلا الوهم، والوهم أمر عدمي لا حقيقة له(1).
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...واعلم أن هذه الأوصاف البشرية التي احتجبت بها الحضرة، إنما جعلها الله منديلاً لمسح أقذار القدر (كالنفس والشيطان والدنيا)، فجعل الله النفس والشيطان منديلاً للأفعال المذمومة، وجعل البشرية منديلاً للأخلاق الدنيئة، وما ثم إلا مظاهر الحق وتجليات الحق، وما ثم سواه(2).
ويقول: ...فإذا تكامل إشراق نور الإيقان، وغطى وجود الأكوان، ووقع العيان على فقد الأعيان، ولم يبق إلا نور الملك الديان، كما أشار (أي: ابن عطاء الله) إلى ذلك بقوله: ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه.
قلت: الحق تعالى ظاهر، ونوره للبصائر باهر، وإنما حجبه مقتضى اسمه الحكيم واسمه القاهر، فما حجبك عن شهود الحق وجود شيء معه: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [النمل:63]، ولكن حجبك عن شهوده توهم وجود موجود معه، ولا شيء معه، وكما كان ولا شيء، بقي ولا شيء(3).
- أرجو أن ينتبه القارىء إلى كيفية تفسيرهم للآية: ((أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) [النمل:63].
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:64، 65).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:66).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:199).(78/188)
ويقول: واعلم أن سر الخصوصية الذي جعله الله في بواطن أوليائه، وستره بظهور وصف بشريتهم، قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة، فقد يظهر على وليه من قدرته وعلمه وسائر كمالاته ما تحار فيه العقول، وتذهل فيه الأذهان، لكن لا يدوم ذلك لهم، بل يكون على سبيل الكرامات وخرق العادات، يشرق عليهم شموس أوصافه، فيتصفون بصفاته، ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم، فنور الخصوصية، وهي المعرفة، ثابت لا يزول، ساكن لا يحول؛ وسرها، وهو كمالاته تعالى، تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبية، وتارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم وشهود عبوديتهم، فالمعرفة ثابتة، والواردات مختلفة، والله تعالى أعلم(1).
ويقول: ...وقال سيدي علي رضي الله عنه، على قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شأن الخلق: أراهم كالهباء في الهواء، إن فتشتهم لم تجدهم شيئاً، قال: بل إن فتشتهم وجدتهم شيئاً، وذلك الشيء ليس كمثله شيء يعني: وجدتهم مظاهر من مظاهر الحق، أنواراً من أنوار الملكوت فائضة من بحر الجبروت(2).
- نرى في هذا النص أن عبارات عارفيهم ليست دائماً موافقة لما يريدون، فقد يُخْطِئون ويُخَطِّئون.
ويقول ابن عجيبة أيضاً:
...والتحقيق ما قدمناه من أن التعلق بأوصاف الربوبية يكون في الباطن، والتحقق بأوصاف العبودية يكون في الظاهر، فالحرية في الباطن على الدوام، والعبودية في الظاهرعلى الدوام، فحرية الباطن هي شهود أوصاف الربوبية، وهو معنى التعلق بها؛ لكن إن كان مجاهدةً فهو تعلق، وإن كان طبيعة وغريزة فهو تحقق.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:157).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:166).(78/189)
...والحاصل أن عظمة الربوبية ظهرت في مظاهر العبودية، فمن نظر للعظمة صرفاً تحقق بعظمة الربوبية، ومن نظر بظاهر المظهر تحقق بأوصاف العبودية، والكامل ينظر لهما معاً، فيتحقق بعظمة الربوبية في الباطن، ويتحقق بأوصاف العبودية في الظاهر، فيُعطي كل ذي حق حقه. فالتجمع في باطنه مشهود، والفرق في ظاهره موجود(1)...ويقول: ...اعلم رحمك الله ووفقك للتسليم لأوليائه، أن الحرية إذا تحققت في الباطن، لا بد من رشحات تظهر على الظاهر، فكل إناء بالذي فيه يرشح...ولذلك نجد أهل الباطن رضي الله عنهم، جلهم أقوياء في الظاهر، فربما تصدر منهم مقالات تستخرجها القدرة منهم، فيظن الجاهل بحالهم أن ذلك دعوى وظهور! وليس كذلك. وإنما ذلك رشحات من قوة الباطن لا قدرة لهم على إمساكها، منها ما يكون تحدثاً بالنعم، ومنها ما يكون نصحاً للعباد ليعرفوا حالهم فينتفعوا بهم في طريق الإرشاد، ومن هذا الأمر رفضهم كثير من أهل الظاهر المتعمقون في العبادة أو المتجمدون على ظاهر الشريعة(2)...
- يوضح ابن عجيبة في هذا النص سبب تصريح العارفين بمعارفهم وطبعاً، صار القارئ الآن يعرف معنى عبارة (الحرية)، فهي ضد العبودية، وتحققها في الباطن يعني استشعار السالك أنه ليس عبداً بل هو الله.
ويقول: ...وقال في لطائف المنن: وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال...ومن هاهنا تبين لك أن الحجاب ليس أمراً وجودياً بينك وبين الله تعالى، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه! ولا شيء أقرب من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب(3)...
ويقول (معلقاً على قول ابن البنا السرقسطي):
حتى إذا جاء بطور القلب ……خوطب إذ ذاك بكل خطب
فقيل لو عرفتني بكوني ……قيل إذن فاخلع نعال الكون
__________
(1) إيقاظ الهمم (ص:184).
(2) إيقاظ الهمم (ص:186).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:201).(78/190)
يقول: إذا وصل النور، من ناحية المذكور، إلى جبل الطور، وهو قلبك المستور، بحجاب هيبة المذكور، رفع عنه الستور، وخاطبه حينئذ بكل أمر جليل، وسر جليل، فلا تعلم نفس ما خصص به من المساررة، والمصافاة، والمكالمة، والمناجاة، فيناديه لسان الملكوت مترجماً عن عالم الجبروت: يا أيها العبد الشائق إلى حضرتي، لتعاين سر قدرتي، هلا عرفتني بكوني، وقنعت بذلك مني؟ فيقول العبد المشتاق إلى حضرة التلاق: لا أريد إلا وجهك الكريم، ومشاهدة سرك العظيم، فيقول له الحق جل جلاله: إن أردت هذا الخطب الجسيم، والأمر العظيم، فاخلع عنك نعال الكونين، وتخط بقدم همتك نعيم الدارين، فإذا خلعت عنك الحظوط والهوى، فأنت بالوادي المقدس طوى(1). ويقول: ...فأوصاف الربوبية رفيعة القدر عظيمة الشأن، وأوصاف العبودية خسيسة القدر دنيئة المقدار، فلا مناسبة بينهما في القدر، مع تلازمهما في المحل بتحقيق الوحدة، فهما متلازمان في القيام، متضادان في الأحكام(2)...
- هذا القول مثل قولهم: واتحد فيه النجو مع الورد، وقولهم: وفي الخنازير مع القرود.. وغيرها..
ويقول: إذا حققت أن الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، علمت علم يقين أن الأكوان والمكان والزمان لا وجود لها، وأن الحق كما كان وجوده وحده ولا أين ولا مكان، بقي كذلك، لا أين ولا مكان ولا زمان، نورُ أحديته محى وجود الأكوان، فانتفى بوجوده الزمان والمكان، ولم يبق إلا الواحد المنان(3)...
ويقول: ...ثم قال أي ابن البنا السرقسطي:
أو قال بالظهور والحلول ……فبدعة يقدح في الأصول
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:342).
(2) إيقاظ الهمم، (ص:419).
(3) إيقاظ الهمم، (ص:297).(78/191)
قلت -القائل ابن عجيبة-: مراده بالظهور: ظهور الذات العالية لبصر الحس، حتى تدرك بالبصر الحسي، وقد قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103]، وإنما تدركه البصيرة، فإذا انفتحت وقوي نورها، استولت على البصر، فصار الحكم لها، فالبصر لا يرى إلا الحس، والبصيرة لا ترى إلا المعنى؟ وقد يتلطف الحس فيصير كأنه معنى، فيكون ما تراه البصيرة في حق العيان، وهو محل الشهود، إذ الحس لا يفارق المعنى، وأما الحلول، فمعناه: إثبات السوى وحلول الألوهية فيه، وهو كفر صراح، فمن ادعى شيئاً من الظهور والحلول فارفضه، فقد أتى ببدعة تقدح في أصول إيمانه والعياذ بالله من الزلل.
ثم قال (أي: السرقسطي):
وقوله أنا الذي أهواه ……قبل الفنا عنه فما أقصاه
إذا قال الفقير: أنا من أهوى ومن أهوى أنا، قبل تحقق فنائه، فما أبعده عن الصواب، وإذا تحقق فناؤه، فلا يقول ذلك إلا مع من يصدقه في حاله، وإلا تعرض لقتله(1)...
* تعليق:
يعني بالظهور: الرؤية بالعين المجردة (الحاسة البصرية)، وقد مر معنا معنى الحلول عندهم، وقد يعبرون، في عصرنا هذا، عن الحلول بقولهم: التلبس، وقد سمعت من يقول: إن الولي يتلبسه الله، وفي هذه الحالة، عندما يتكلم الولي، فالمتكلم حقيقة هو الله..، وطبعاً قائل هذا القول هو إنسان جاهل بالصوفية، فالحلول عندهم كفر، وكذلك الاتحاد! لأن هذا وذاك لا يكون إلا بين اثنين، ولا يوجد إلا واحد.
والتعليقات كثيرة، أتركها للقارئ.
ويقول ولي الله الدهلوي(2):
__________
(1) الفتوحات الإلهية، (ص:455، 456).
(2) أبو الفياض ولي الله أحمد بن أبي الفيض عبد الرحيم الدهلوي (نسبة إلى دهلي) شيخ محدثي الهند في القرون الأخيرة، توفي سنة (1176هـ).(78/192)
والفناء إما شفاهي، وإما حجابي، أما الشفاهي فانصباغٌ بحقيقة الذات، لا تجلياته، انصباغاً قوياً تاماً، ويختص برجل شديد، فصوْرة مزاجه لا تنقهر إلا بتكرار التجليات، قوي جذبه لا يغادرحالاً ولا شيئاً إلا غلبه وقهره، ولا يدعه حتى يبلغ الدرجة القصوى.
...وذلك لأنه ربما لم يتحقق الفناء الشفاهي، وحينئذ تظهر النفس في صورة الربوبية، فيعسر زواله، ويعقب خلافه خزياً شديداً في الحياة الدنيا(1).اهـ.
- قوله: فصورة مزاجه، أي: فصورة مزاج الفناء...
- وقوله: ...فيعسر زواله، أي: يعسر زوال ظهور صورة الربوبية، فيبقى الولي يقول عن نفسه: أنا الحق....
- وقوله: ويعقب خلافه خزياً شديداً...، نعلم ما هو هذا الخزي؟ إنه التكفير...والقتل.
ويقول: وأما الخاص، فكل فناء في حضرة الذات، كان مع الصورة المزاجية...وأصل مذهبهم أن يتجشموا عملاً نيرنجياً، وذلك العمل أن يتلطفوا من أنفسهم، فينقدح لهم سر عظيم الشأن، على درجاته.
فأول ما ينقدح استناد الأفعال إلى الله سبحانه، فهناك يتوكل على الله ولا يخاف إلا إياه، وهذا ظَهْرُ السر في الدرجة الأولى، وأما بطنها، فأن يُرى اللهُ سبحانه في عين كل فعل على أن الفعل من أستاره وتقيداته. ووجه أوليتها أن الأفعال على شرف العدم في نفس الأمر، وإنما الموطن العلمي من تمثلات هذا الموطن، وهذه هي (المحاضرة) عندهم.
وثانياً: ينقدح لهم استناد الصفات بأجمعها إليه، فيرى أن كل بصره فهو من بصره، وكل سمع فهو من سمعه، إلى غير ذلك؟ ولعلك حرور باقتناص بطنها ووجه ثانويتها، فهذه هي المكاشفة.
__________
(1) الخير الكثير، (ص:106).(78/193)
وثالثاً: ينقدح استناد الذوات، فيرى أن كل ذات فهو من ذاته، فإذا انتقل إلى بطنها، وهو أن الواجبَ جَلَّ مَجْدُه سَنْخٌ كلِّ موجود، وأن كلَّ موجودٍ مُفاضٌ منه إفاضةً مقدسة، ثم السير إلى الله، وهذه هي (المشاهَدة)، ثم إن جذبات الله تعالى تجاذبه حيناً فحيناً حتى ترتفع الحجب والتقيدات ولا يبقى إلا ذو الجلال والإكرام في وحدته وكبريائه، ويكون المدرَك عين المدرِك، فلا يعلم بالعلم الحضوري إلا الله سبحانه(1)...اهـ.
- مر هذا النص في معناه أكثر من مرة في الصفحات السابقة، ملخصه أن السالك في سيره إلى المعرفة، أي إلى معرفة وحدة الوجود، يمر في ثلاث مراحل:
أولاً: معرفة وحدة الأفعال، حيث يشاهد الواصل ذوقاً واستشعاراً أن كل الحركات التي تجري في الكون هي حركات الواحد وأفعاله، وهذه هي المحاضرة.
ثانياً: معرفة وحدة الصفات حيث يشاهد الواصل أن الصفات جميعها التي يراها المحجوبون صفات لمخلوقات، مثل: سميع، بصير، طويل، عريض، أحمر، أخضر، شجاع، جبان.. هي صفات للواجب جل مجده (حسب تعبير الدهلوي) تظهر فى تعيناته التي يظنها المحجوبون غيره، وهذه هي المكاشفة.
ثالثاً: وحدة الذات، أو وحدة الوجود، وهذه هي المشاهدة، وفي واقع الأمر إن الأصل هو وحدة الوجود، وما وحدة الأفعال ووحدة الصفات إلا نتائج لها.
ويجب أن نعرف أن هذا الترتيب قد يحصل لواصل وقد لا يحصل، وهو تابع، إلى حد ما، لتوجيهات الشيخ وإيحاءاته.
ويقول ولي الله الدهلوي أيضاً:
ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سَنْخ القدوسية على سبيل الظهور والتمثل، فإنه لكل متدنس قدوسية هي أقرب من حبك وريده، وهو أبعد منها بما هو هو كبعد المشرقين(2)...اهـ.
- هذه المقولة هي مثل مقولة ابن سبعين: واتحد فيه النجو مع الورد. ومثل مقولة الششتري: وفي الخنازير مع القرود. ومقولة ابن عجيبة: متلازمان في المقام متضادان في الأحكام.
__________
(1) الخير الكثير، (ص:104، 105).
(2) الخير الكثير، (ص:21).(78/194)
ومثل قول قائلهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا. وغيرها من الأقوال المماثلة التي مرت والتي ستمر.
ويقول أيضاً مقرراً:
قال الشيخ صدر الدين القونوي(1): الحق سبحانه من حيث وحدة وجوده، لم يصدر عنه إلا الواحد، لاستحالة إظهار الواحد وإيجاده- من حيث كونه واحداً- غير الواحد، وذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان المكونات ما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول أيضاً، وبين سائر الموجودات، ليس كما يذكره أهل النظر من الفلاسفة، فإنه ليس ثمة عند المحققين إلا الحق، والعالم ليس بشيء زائد على معلومه لله تعالى أولاً، المتصفة بالوجود ثانياً(2)...اهـ.
* الملحوظات:
نلاحظ في هذا النص ما يلي:
1- وضوح عقيدة وحدة الوجود.
2- إيمان قطبين كبيرين بها: القونوي صاحب النص، والدهلوي الذي أورده مقراً بما فيه.
3- العقيدة الإسماعيلية التي هي أصلاً من اليونانيات: الصدور والفيض والعقل الأول...
4- محاولتهم التوفيق بين الإسلام واليونانيات عندما جعلوا العقل الأول (وهو من اليونانيات) هو القلم الوارد في الحديث الشريف.
5- يخالفون أصحاب اليونانيات (أهل النظر من الفلاسفة) الذين يقولون: إن العقل الأول انفصل عن الحق سبحانه وصار كأنه غيره رغم أنه صدر عنه بالفيض، بينما يقرر المحققون (أي: الصوفية) أنه ليس ثمة إلا الحق، حيث لا وصل ولا فصل ولا غيره. وللعلم: القلم الأعلى الذي هو أول موجود، المسمى بالعقل الأول، هو محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
ويقول الدهلوي أيضاً مقرراً:
__________
(1) صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي تلميذ ابن عربي وابن زوجته، له مكاتبات مع نصير الدين الطوسي وزير هولاكو، مات في قونية سنة (673هـ-1275م).
(2) الخير الكثير، (ص:37).(78/195)
قال مولانا عبد الرحمن الجامي(1)- بعدما فضل القول في تسويغ كون الوجود العام المنبسط على هياكل الموجودات عين الواجب جّل مجده بهذه الألفاظ-: الصوفيون القائلون بوحدة الوجود، لما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق، لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحده ونفي الشريك عنه (أي: الشريك في الوجود)، فإنه لا يمكن أن يتوهم فيه اثنينية وتعدد من غير أن يُعتبر فيه تعين وتقيد(2)...اهـ.
- في هذا النص يظهر إيمان الجامي والدهلوي بوحدة الوجود، وكلاهما من الأقطاب.
ويقول أحمد زيني الدحلان(3):
...قال أهل المعرفة: إن تجلّي الحق سبحانه وتعالى على الدوام، ولا يمنع من ظهور أنوار التجلي إلا الاشتغال بالسِّوَى والإقبال على الغير، فلذلك يأمر الأشياخ المريدين بذكر لا إله إلا الله، لأنها مكنسة الأغيار، فإذا ذهب السِّوَى ظفر بالمولى، فالحق سبحانه وتعالى ليس بغائب، إنما الغائب أنت لاشتغالك بسواه، فأحضر قلبك تكن كأنك تراه، وهذا هو مقام الإحسان، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
__________
(1) نور الدين، عبد الرحمن بن أحمد الجامي، ولد في جام من بلاد ما وراء النهر، وتوفي في هراة سنة (898هـ-1492م).
(2) الخير الكثير، (ص:38).
(3) شيخ مشايخ الإسلام ورئيس العلماء الأعلام، شيخ الفريقين وإمام الطريقين أحمد بن زيني الدحلان، ولد في مكة وتوفي في المدينة سنة (1304هـ-1886م).(78/196)
وهاهنا نكتة ذوقية في قوله صلى الله عليه وسلم: {فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، فَهِمها بعض العارفين حيث قال: (تكن): تامة بمعنى توجد، أي: فإن لم توجد، بأن فنيت فيه، فإنك تراه، أي إذا تحققت بمقام الفناء، نلت مقام الشهود، وهو الرؤية القلبية التي تصير في الآخرة بصرية؛ ولا يُشْكل على ذلك أن مقتضى هذا المعنى أن يكون (تراه) جواب الشرط، ومقتضى قواعد العربية حذف الألف من (تراه) لأنه مجزوم جواباً للشرط. لأنا نقول: إن بعض العرب يبقي مثل هذه الألف في الفعل المجزوم، فلا مانع أن يخرج ذلك على تلك اللغة لإفادة هذا المعنى اللطيف؟ ويكون قوله: (فإنه يراك): كلاماً مستأنفاً.
والحاصل أن الأصل في ذلك كله التحلي بالتوحيد، ومعرفة أن الأشياء كلها صادرة منه سبحانه وتعالى، ومستمدة من فضله، فلو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبداً.
ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَك بنعته، وأوصلك إليه بما مِنْه إليك، لا بما مِنْك إليه، عناية بك(1). اهـ.
- نحن في هذا النص، أمام أسلوب جديد ومبتكر في تفسير الحديث، ولا حاجة بنا للتعليق، لأنه من البدهي أن الذي يحرف كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد مواضعه، يكون منحدراً في منزلقٍ سحيق.
__________
(1) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:216، 217).(78/197)
وقد أصبحت -الآن- العبارات: (الأشياء كلها صادرة منه ومستمدة من فضله)، و(فناء مساويك ومحو دعاويك)، مفهومة تماماً لدينا، فالعبارتان الأوليان تعنيان الوحدة، والثانيتان تعنيان: الفناء عن الأغيار، أي عدم شهود الخلق، فلا خلق موجود، ويقول: ...فالسالك سائر عن عالم الطبيعة إلى عالم الملكوت، ومنه إلى عالم الجبروت، ومنه إلى عالم حضرة اللاهوت، حضرة تمحى فيها العبارة والإشارة، وتذهب الأسماء والرسوم، ولا يبقى هناك مشهود إلا الحي القيوم، فإذا ظهرت شمس المعرفة ذهبت نجوم التفرقة، فلا يشهد المنتهي إلا مولاه، ولا يظهر له فعل ولا وصف ولا وجود إلا لله، فمن عرف الله شهده في كل شيء، فلا يتوحش من شيء ويستأنس به كل شيء، ويستأنس هو من كل شيء، ويشهد معنى قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) [القصص:88] عياناً، ويفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم:} أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.....................
وتشرق على قلبه لمعة من قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3]، ويتجلى له: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، ويرتفع عنه اشتباه معنى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وينطق بالحق، لأن الحق يكون حينئذ سَمْعَه وبَصَرَه ولسانَه، كما في الحديث القدسي: {فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به ولسانَه الذي ينطق به}.(78/198)
والحاصل أن العارف يصل إلى حالة يفنى فيها عن أفعاله وأوصافه وذاته، فلا يشهد إلا فعل مولاه وأوصافه وذاته، وهذا يسمى جمعاً، ومع ذلك لا يحجبه هذا عن فرقه. فالعارف لا يحجبه جَمعه عن فرقه، ولا فرقه عن جَمعه، ولا صحوه عن سكره، ولا سكره عن صحوه.. ويوضح لك شَمَّة من ذلك قولُه تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، فنفى عنه الرمي أولاً بقوله: (وما رميت)، وهو عين الجمع، وأثبته ثانياً بقوله: (وإذ رميت)، وهو عين الفرق، ثم قال: (ولكن الله رمى)، أي إن الرمي منسوب إلى الله(1).
ويقول مصطفى العروسي(2) شيخ مشايخ الإسلام:
__________
(1) تقريب الأصول لتسهيل الوصول، (ص:266).
(2) شيخ الجامع الأزهر حتى سنة (1870م)، مات سنة (1876م) الموافق لـ(1293هـ).(78/199)
الحمد لله الذي عين الأعيان بفيض نوره الأقدس، وقدرها بعلمه في ذاته على وجه الحكمة الأنفس...فسبحانه من إله قد تجلى بذاته لذاته، فأبدع آدم وأودعه مظاهر أسمائه المنعوتة (بالعالَم)، وأجمل فيه جميع الحقائق وألهم، فجعله مظهر اسمه الجامع لما تأخر وتقدم، وجعل له من نعوت التلوين ما قد يكون بغير التمكين مزلة للقدم، ومنحه سر العليم الأعلم، فهو العالم(1) والعلم والمعلَّم والحاكم والمحكوم عليه والحكم(2)، والمسمى بالأسماء الحسنى، ومرآة درج الكمال الأسنى...كيف لا وهو الإنسان الكامل والطلسم المعمى على سائر الأواخر والأوائل...مَنْ قيل فيه لولاك ما خلقت الأفلاك...سيدنا ورسولنا أبو القاسم، جمع الجوامع، وسر الأسرار، مَنْ كان من نوره سائر الأنوار، فهو الاسم الأعظم، الناطق بلسان: {أنا سيد ولد آدم}، أول التعينات الإلهية، وآخر الدلالات الإرشادية المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام، من المجردات والمركبات، من أول التعيين إلى آخر الختام(3). اهـ.
- الجديد في هذا النص هو قوله: المبعوث إلى كافة الأرواح والأجسام من المجردات والمركبات!! وهذا الكلام يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى القرود والذئاب والهررة والفئران والكلاب والخنازير!! كما أنه مبعوث رسولاً إلى المزابل والحجارة والتراب، وإلى الهيدروجين والأكسجين والآزوت والحديد والنحاس..! لكن ما هي رسالته لهؤلاء؟!
الكشف أعلم!! لأن الكشف يعلم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويعلم ما لم يعلمه رسل الله ولا كتبه -والمشتكى إلى الله-.
- كما نرى العبارة: أول التعينات الإلهية وآخر الدلالات الإشارية. التي تعني:
__________
(1) وردت في الكتاب (فهو العلم والقلم والمعلَّم) وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.
(2) وردت في الكتاب (المحكم)، وهي غلطة مطبعية كما هو واضح.
(3) حاشية العروسي، (ص:2).(78/200)
أول تشكل صدر عن ذات الله وخاتم الرسل، وقد عرف المقربون الصديقون الأولياء العارفون هذا الأمر من حديث موضوع، وضعه أحد الكذابين الضالين المضلين، ولكن كشفهم صحح هذا الحديث، وإذا قال الكشف فصدقوه! فإن القول ما قاله الكشف!!
ويقول: ...وهذه الحضرة، أي حضرة الذات الأحدية، أو حضرة العماء، أو الحضرة الواحدية، تتعين بالتعين الأول، لأنها محل الكثرة، ومظهر ظهور الحقائق والنسب الأسمائية، وكل ما تعين فهو مخلوق، فهي العقل الأول...القائل بهذا القول يسمي هذه الحضرة بحضرة الإمكان، وحضرة الجمع بين أحكام الوجوب والإمكان، والحقيقة الإنسانية، وكل ذلك من قبيل المخلوقات، ويعترف بأن الحق في هذه الحضرة متجل بصفات الخلق...ويوضح قولنا: يُشار بالألف إلى الحضرة الأحدية. أن الحقيقة إن أُخذت بشرط أن لا يكون معها شيء، فهي المسماة بالمرتبة الأحدية المستهلكة فيها جميع الأسماء والصفات، وتسمى أيضاً: (جمع الجمع)، و(حقيقة الحقائق)، و(العماء)، وإن أخذت بشرط شيء: فإما أن تؤخذ بشرط جميع الأشياء اللازمة لها، كلياتها وجزئياتها المسماة بالأسماء والصفات، فهي المرتبة الإلهية المسماة عندهم (بالواحدية)، و(مقام الجمع)، وهذه المرتبة باعتبار الإيصال لظاهر الأسماء التي هي للأعيان والحقائق، إلى كمالاتها المناسبة لاستعداداتها في الخارج، تسمى مرتبة: (الربوبية)، وإن أخذت لا بشرط شيء، ولا بشرط لا شيء، فهي المسماة بـ: (الهوية السارية في جميع الموجودات)، وإن أخذت بشرط ثبوت الصور العلمية فيها، فهي مرتبة (الاسم الباطن المطلق، والأول، والعليم، ورب الأعيان الثابتة)، وإن أخذت بشرط كليات الأشياء فقط، فهي مرتبة الاسم: (الرحمن، ورب العقل الأول المسمى بلوح القضاء، وأم الكتاب، والقلم الأعلى)، وإن أخذت بشرط أن الكليات فيها جزئيات مفصلة ثابتة من غير احتجابها عن كلياتها، فهي مرتبة الاسم (الرحيم، رب النفس الكلية المسماة بلوح القدر، وهو اللوح(78/201)
المحفوظ، والكتاب المبين)، وإن أخذت بشرط أن تكون الصور المفضلة جزئية متغيرة، فهي مرتبة الاسم (الماحي والمثبت والمحيي، رب النفس المنطبعة في الجسم الكلي، المسمى بلوح المحو والإثبات)...ومرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جميع المراتب الإلهية والكونية، من العقول والنفوس الكلية والحسية، ومراتب الطبيعة إلى تنزلات الوجود، وتسمى بالمرتبة العمائية أيضاً، فهي مضاهية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلا بالربوبية والمربوبية، فلذلك صار خليفة الله سبحانه وتعالى(1). اهـ.
* الملحوظات:
نلاحظ في هذا النص الطويل (وقد حذفت منه كثيراً) ما يلي:
1- يُظهرأن الأسماء الحسنى هي مظاهر الكون، ويضيف إلى الأسماء الحسنى، أسماء ابتدعها القوم على أنها من أسماء الله، مثل: (الهوية السارية..).
2- يوفق بين الفلسفة اليونانية (الأفلاطونية الحديثة) التي تبناها الإسماعيلية، وبين العقيدة الإسلامية، وفي هذا دليل على أن في الصوفية نُسُغاً يونانياً.
3- يبين عقيدة القوم بالإنسان الكامل، وأفكار غيرها يراها القارئ.
ويقول: ...وظلُّ الإلهِ هو الإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية، والعالم الذي هو علامة على وجود موجده (الظل الثاني)، إذ ليس إلا الوجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلها، فلظهوره بتعيناتها سُمي باسم السوى والغير، وذلك باعتبار إضافته إلى الممكنات، إذ لا وجود للممكنات إلا بمجرد هذه النسبة، وإلا فالوجود عين الحق، فالممكنات ثابتة على عدميتها...فالعالَم صورة الحق، والحق هوية العالَم وروحه(2)..
__________
(1) نتائج الأفكار القدسية، (حاشية العروسي)، (ص:5).
(2) نتائج الأفكار القدسية: (1/8).(78/202)
ويقول: ...وإن جميع الموجودات مستمدة من وجوده، فهو هي، وهي هو، على معنى: (لا هو إلا هو)، كان الله ولا شيء معه، ويبقى الله ولا شيء معه، وإنما الكائنات تعينات له مخصوصة في أزمنة مخصوصة محكوم عليها بأحكام مخصوصة، ثم إليه يرجع الأمر كما بدا، الحِكَمُ عَليَّة، وأسرار إلهية علمها من علمها وجهلها من جهلها بتدبيره تعالى وتقديره، لا يسأل عما يفعل فافهم، ولا تك أسير النقل والتقليد(1).
ويقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني(2)...
...أي كل خلق تراه العين فهو عين الحق.. ولكن خيال المحجوب سماه خلقاً لكونه مستوراً بصورة خلقية، محتجباً بها، وإن كان متجلياً لم يعرفه(3)...
* الملحوظة:
نلاحظ مخالفة للقاشاني، فهو هنا يشرح (فصوص الحكم) لابن عربي، وابن عربي يقول: الحق خلق وما الخلق حق، وقد شرحها العيدروس فيما مر قبل صفحات، بقوله بعد شرح: ...فلا يصح أن يقال: الخلق عين الحق...بخلاف أن يقال: الحق عين الخلق، فإنه صحيح....بينما نرى القاشاني يقول: كل خلق، فهو عين الحق، وهو اختلاف في أسلوب التعبير فقط.
__________
(1) نتائج الأفكار القدسية (2/20).
(2) الأستاذ الفاضل والعالم الكامل الشيخ عبد الرزاق القاشاني، توفي بعد سنة (730هـ)، وكان محله أن يرد في مكان سابق حسب تاريخ وفاته، لكني أوردته هنا لأنني لم أعثر على ترجمة له، ولم أعرف تاريخ وفاته، وظننت أنه من أحياء القرن الثالث عشر هجري، فأوردته هنا، ثم عثرت على كتاب آخر له هو رشح الزلال في شرح الألفاظ المتداولة بين أرباب الأذواق والأحوال، وقد ذكر المحقق في مقدمته أنه توفي بعد سنة (730هـ)، وهو شيعي (حسب الصوفية بين الأمس واليوم (ص:136)، وكتبه مقدسة عند جميع المتصوفة السنة والشيعة.
(3) شرح فصوص الحكم للقاشاني (ص:152).(78/203)
ويقول: ...فمن عرف علم الطريق، وأنه ليس إلا الحق، إذ لا شيء غيره عليه، عرف أن أسفل سافلين لا يخلو عن الحق، فعلم أن الجهنميين في القرب وإن توهموا البعد(1)..
ويقول: ...وإن تعلقت مشيئته بإرادة الرزق لنا من لدنه، فهو المراد أن يكون لنا رزقاً، من حيث إنه الوجود الحق، فيوجدنا كما يشاء، ويختفي فينا، ويُظهرنا كالغذاء بالنسبة إلى المغتذي؟ فإنا نقوش وهيئات وشئون وتعينات لا وجود لنا ولا تحقق، فهو المتعين بنا، ومظهرنا، وغذاؤنا بالوجود، كما نحن غذاؤه بالأحكام(2)...
ويقول أحمد الصاوي المالكي الخلوتي(3) في شرح الصلوات الدرديرية: بتجلي الأسماء والصفات، أي: بظهور أسمائك العظيمة وصفاتك الكريمة بحيث لا نشهد حادثاً من الحوادث، ولا كوناً من الأكوان، إلا بشهود الأسماء والصفات قبله، لكون الأكوان آثارها، وهو معنى قولهم: العارف يرى الله في كل شيء، وقول بعض العارفين:
وفي كل شيء له آية ……تدل على أنه واحد
ومعنى قول سيدي عبد الغني النابلسي:
كل شيء عقد جوهر ……حلية الحسن المهيب
ومعنى حديث: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها ورجلَه التي يمشي بها..} الحديث. أي كنت مسموعَه عند سمعه الحوادث، مبصورَه عنده إبصاره الحوادث، وحولَه وقوتَه عند بطشه ومشيه، أي يشهدُني كذلك، لأنها آثاري وهي ظاهرة بي على حد قول بعض العارفين:
الله قل وذر الوجود وما حوى ……إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققته ……عدمٌ على التفصيل والإجمال
من لا وجود لذاته من ذاته ……فوجوده لولاه عين محال
__________
(1) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:156).
(2) شرح الفصوص للقاشاني، (ص:288).
(3) من شيوخ الطريقة الخلوتية عاش في مصر وأخذ عن الدردير، مات في سنة (1241) في مصر.(78/204)
وهذا المقام هو المسمى بوحدة الوجود، ولا يدركه الشخص إلا بعد الفناء في الأحدية الذي قال فيه ابن بشيش: وزج بي في بحار الأحدية. ووحدة الوجود هذه يسمى صاحبها في مقام البقاء ويسمى غَرقان في بحر الوحدة التي هي شهود المولى من حيث قيام الأسماء والصفات به(1).
ويقول الشيخ حسن رضوان(2)، من منظومته (روض القلوب المستطاب):
وتنجلي الرقائق المطوية ……في لفظة والحكمة المنوية
لا سيما ما كان في العقائد ……فإنه من أعظم المقاصد
وحسبه من ذلك المقصود ……إشراق نور وحدة الوجود
وكل ما سواه نجم آفل ……بل في شهود العارفين باطل
فليس إلا الله والمظاهر ……لجملة الأسماء وهو الظاهر
فمن صفت مرآته تحققا ……بما من الأسما عليه أشرقا
وشاهد المَشَاهد المصونة ……وأدرك المواهب المكنونة(3)
- قوله:
وكل ما سواه نجم آفل ……بل في شهود العارفين باطل
هي شهادة واضحة وجريئة من (عارف) أن العقيدة الإسلامية باطلة في شهود (العارفين)، لأنها لا تؤمن بوحدة الوجود، ولأن القرآن الكريم يحكم على القائلين بوحدة الوجود بالكفر المبين، ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)) [الزخرف:15].
- وقوله: فليس إلا الله والمظاهر، يذكرنا بالذكر: ليس إلا الله، الذي استعمله جماعة منهم بدلاً من (لا إله إلا الله) كما مر آنفاً.
ويقول أيضاً:
__________
(1) الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية، (ص:60).
(2) الشيخ حسن رضوان من كبار القوم، مصري توفي عام (1310هـ)، ومنظومته هذه كما يقول زكي مبارك، تقرب من اثني عشر ألف بيت، وربما كانت أعظم منظومة في قواعد التصوف.
(3) من كتاب التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/260).(78/205)
إذا مَنَّ الحق تعالى على عبد من عباده، وصافاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما سواه، وطهره من جنابات غفلته ورعونات شهوته، حتى أفناه به فيه حق اليقين، وبلغ بذلك مرتبة (جمع الجمع)، ولحقت نفسُه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذ رقيقة لطيفة ذاتية حقية، مفاضة من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته، ينكشف له به سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسر تجليات الأسماء والصفات، وظهوره في كل مظهر بحسب استعداده، كشفاً إيمانياً، وذوقاً روحانياً، فيرى الحق في الخلق، والخلق بالحق؟ وهذا هو مشهد كمل العارفين المحققين(1). اهـ.
- قبل الانتقال إلى غيره، لا بأس من إيراد شهادة تزكية للشيخ حسن رضوان من لفةٍ كبرى في الجامع الأزهر، يقول زكي مبارك: وقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق (وكان شيخ الجامع الأزهر الأكبر)، أن البلد الذي أقام فيه الشيخ حسن رضوان، كثر فيه العلماء والمدرسون، فهو من الهداة الصالحين(2).
ويقول الشيخ محمد مهدي الرواس (قطب الغوث):
...قلنا: لَزِم الشكر والاعتبار، وطرحُ الدنيا عن الأفكار، والاشتغال بالمؤثر عن الآثار، إذ ما في الدار غيره ديار(3).
ويقول: وبويعت في الحضرة، على دوام الحضور بالانفراد الطوري من حيث مشهد القلب إلى الله تعالى، منقلباً عن مشاهدة الأكوان، ومنسلخاً عنها انسلاخ مقيم مع مراقبته، محترزاً من انتقاد مراقبه، فإن الناقد بصير، والأمر المقصود خطير، وإلى الله تصير الأمور(4).
__________
(1) التصوف الإسلامي لزكي مبارك: (1/265).
(2) التصوف الإسلامي لزكي مبارك (10/260).
(3) فصل الخطاب. (ص:224).
(4) فصل الخطاب: (ص:54).(78/206)
- إن العبارة عند محمد المهدي الصيادي تذكرنا بالعبارة عند عبد القادر الجيلاني، فهي في القمة من حيث الأسلوب الإشاري الرمزي، وهذا النص الأخير واضح بالنسبة للمتمرس بالأساليب الصوفية، أما حديث العهد بها فيرى نفسه أمام كلام غير مفهوم. ويقول: ...وطرْحُ هياكل الأكوان، هو عبارة عن التحقق بالتوحيد الخالص، والعلم بأن الخلق والأمر لله سبحانه، ألا له الخلق والأمر(1). اهـ.
* الملحوظة:
التوحيد في الإسلام لا يحتاج إلى طرح هياكل الكون لا كثيراً ولا قليلاً، ولا جملة ولا تفصيلاً. أما عند الصوفية، فطرحها هو الأساس، لأن هياكل الكون لا حقيقة لها باعتبارها هياكل، لأن حقيقتها هي الحق.
ويقول: المادة الثانية والتسعون من المائة الثانية: طرح هياكل الأكوان تحققاً بالتوحيد، مع حفظ الآثار، وإرجاع التأثير الذي يصدر عن الكل إلى الله تعالى(2).
- يعبر في هذا النص عن مقام (الفرق الثاني)، وأترك تحليله للقارئ.
ويقول:
آمنت بالله الوجود كله ……سواه يفنى وهو باقٍ لم يزل(3)
فطهِّر القلب لقدسه وكن ……ممتثلاً كتابه كما نزل
ويقول:
ولدى الأمرين حقاً ……ليس إلا الله فاعل
ثق به واترك سواه ……واربطنْ فيه الوسائل
وخذ الهادي إماماً ……فهو برهانٌ الدلائل
واتبع القوم فمنهم ……كل مقبول وواصل
عَرَفوا الله وحقاَ ……ما خلا الله فباطل(4)
ويقول:
وغب عن جميع الحادثات لربها ……ولا تتخذ فيها سوى شغله شغلا
وإن وهبوك العرش والفرش والفضا ……برمشة عين ضمن حُجب فقل لا
وسر سيرتي واسلك بنهج طريقتي ……إلى الله لا تشهد لدى غيره فعلاً
وجردك من كل الوجودات واضطجع ……على حُصُر التسليم يا من سما عقلاً
- يشير بهذه الأبيات إلى (وحدة الأفعال).
ولا تر للمخلوق حولاً وقوة ……فلا قوة للخلق طراً ولا حولا
__________
(1) فصل الخطاب: (ص:62).
(2) المجموعة النادرة، (ص:225).
(3) المجموعة النادرة، (ص:291).
(4) المجموعة النادرة، (ص:303).(78/207)
وخذ حلْوَ أمر الله في الدين مشرباً ……فلن ترى من مجلى مشاربه أحلى
- البيتان يشيران إلى (وحدة الصفات):
ومَن قاد للأغيار فاهجر سبيله ……ورافقْ محب الله إن قل أو جلا(1)
- هذا البيت الأخير يشير إلى (وحدة الذات).
- في البيتين: (وإن وهبوك العرش..)، و(وخذ حلو أمر الله..)، في الشطر الثاني من كل منهما خلل في الوزن.
ويقول: من صلوات له:
اللهم اجمعنا بك عليك، وارددنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع، إنك أنت المانح الفاتح، تمنح ما شئت من مواهب ربانيتك لمن شئت(2).
ويقول: من نفس الصلوات.
اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، اللهم إنا قد عجزنا من حيث إحاطة عقولنا، وغاية أفهامنا، ومنتهى إرادتنا، وسوابق هممنا، أن نصلي عليه من حيث هو، وكيف نقدر على ذلك، وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه(3). اهـ.
- نحن الآن نعرف كثيراً من مصطلحات القوم، ومنها (المشاهدة) وقد مرت قبل صفحات، إذن، فالعبارة: المستغرق في مشاهدة ذاتك واضحة المعنى، أترك للقارئ البحث عنها وتحليلها.
وما يجب أن نلاحظه بشكل متميز، هو إدراجه للجملة: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]، التي توهم الساذج أنه يعني بها المعنى المعروف في كتب التفسير، أي إن كلمة (حق) تعني الصدق، لكن بشيء من التروي لمن تمرس بأسلوب القوم، يرى أنه يستعمل كلمة (حق) على أنها اسم من أسماء الله الحسنى، فهو يقول: أمحمد هو الله قل إي وربي إنه الله. ثم لننتبه إلى قوله: وأسماءك مظهره، وإلى قوله: ومنشأ كونك منه، وكل هذا داخل فيما يسمونه (الحقيقة المحمدية) التي هي جزء من عقيدة (وحدة الوجود).
__________
(1) المجموعة النادرة، (ص:289 و290).
(2) بوارق الحقائق، (ص:328).
(3) بوارق الحقائق، (ص:326).(78/208)
أما قوله: (ومنشأ كونك منه)، فهو أكثر وضوحاً من قول البوصيري في البردة:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ……ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول (من نفس الصلوات):
اللهم بك توسلت...أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية، بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق، وترقينا بها في معاريج شهود وجود ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53](1). - السحق: ذهاب تركيبك تحت القهر (ابن عربي في اصطلاح الصوفية)، ويفسره الدكتورعبد المنعم الحفني: هو الاضمحلال، أي ذهول العبد تجاه قهر الحق.
- المحق: فناء وجود العبد في حضرة الحق، أو فناء وجود العبد في ذات الحق، أو فناؤك في عينه.
- وسياق الكلام يُظْهِر المعنى الذي يشيرون إليه من الآية: ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت:53]، فهو يعني أن محمداً هو الحق، بجعل الهاء من (أنه) عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل (الحق) من أسماء الله الحسنى.
- وهذا الكلام يدور- كما هو واضح- حول الحقيقة المحمدية، وبالتالي وحدة الوجود.
ويقول:
قد حاول الجمعَ أقوامٌ فأرجعهم ……موتى وهم بِطَنين الظن أحياء
فالعارفون بباب الفَرْق موقفهم ……والأنبياء العرانين الأجلاء
قال اتحاداً أناسُ والحلول حكوا ……والكل صدْمتُهم في الدين دهماء
لو حل فيهم على فرض المحال لما ……منهم تحلل بالتحويل أجزاء(2)
- يقول في البيت الأول: إن أقواماً حاولوا الوصول إلى مقام الجمع، ولكنهم فشلوا ورجعوا خائبين موتى ويظنون أنفسهم أحياء، وطبعاً يقول هذا الكلام ليقارنهم مع نفسه والمقام الذي وصل إليه.
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:340).
(2) بوارق الحقائق، (ص:110).(78/209)
- وفي البيت الثاني يقول: إن العارفين، وهم الذين وصلوا إلى مقام الفرق الثاني (أو صحو الجمع..)، وكذلك الأنبياء، يقفون بباب الفرق، بمعنى أنهم يظهرون للناس العبودية لله، ويكتمون سر (الجمع).
- يهمنا من هذه الأبيات، البيتان الأخيران، لأنه ينفي بهما الاتحاد والحلول، ونعرف أن الاتحاد لا يكون إلا بين اثنين يتحدان ببعضهما. وكذلك الحلول يحتاج إلى اثنين يحل أحدهما في الآخر.
ويقول في نفس القصيدة:
وقائل الحق لم تُقْلَب حقيقته ……وإن ترنَّم بالتبديل ورقاء
سرُّ تكاتمه أهل القلوب فخذ ……منه الرموز وما للسر إفشاء
الفرق بين نماط الجمع متسق ……والجمع يَشْهَدُه لطفٌ وإنطاء
يُسِفُّهُ الحق سفَّاً ثم يرجعه ……فرقاً وفي الأمر تجريد وإكساء(1)
- في الواقع، ليس هنا مكان هذه الأبيات، والتي قبلها، فمكان هذه في فصل سابق، ومكان التي قبلها في ما يلحق، وقد أوردتها هنا من أجل القارئ الذي يريد الرجوع إلى كتب الرواس - مَن نحن في حضرته الآن - فإنه سيجد في كتبه كلاماً يوهم لأول وهلة بـ (الفرق)، وقد يوهم بـ (الحلول) أو بـ (الاتحاد)، وكل ذلك هو من الأسلوب الإلغازي، أو (العبارة) ومن التقية.
ولتوضيح ذلك، لا بأس من نظرة سريعة على الأبيات الأخيرة.
في البيت الأول: وقائل الحق لم تقلب حقيقته...، يقول: إن الذي يقول الحق، أو العارف لا يتغير، ولا تُقلب حقيقته، أو حقيقة أنه عارف، إذا ترنم بالتبديل، أي إذا بدل القول، وقال بعكس الحقيقة.. فإنه يبقى على حقيقته.
- وفي البيت الثاني يشرح سبب ذلك، فيقول: إنه السر الذي يتكاتمه أهل القلوب - وهم طبعاً الصوفية - ويطلب من المخاطَب الذي يعنيه هو، يطلب منه أن يأخذ من الكلام الرموز، لأنه لا يفشي السر.
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:109).(78/210)
- وفي البيت الثالث: الفرق بين نماط الجمع..، يقول: إنه يذكر في كلامه (الفرق) الذي هو التفريق بين الخالق والمخلوق، أو العبودية، متسقاً مع الجمع، أي إنه يذكر الجمع ثم الفرق ثم الجمع ثم الفرق، وهكذا...وأن الجمع يَشْهَدُه اللطف في البحث والتمعن به.
- والبيت الرابع واضح جداً.
ويقول علي اليشرطي(1):
الوجود، هو الكتاب، والأنبياء سوره، وأكابر المسلمين والكفار آياته، وعامة الخلق كلامه، والوجود الناقص حروفه، والمجموع هو الله(2).
ويقول: انظر لمن يقرأ القرآن، كل إنسان يقرأ بسورته، فالوجود كله فرقان، فمن جاوز قرآنُه فرقانَه، كمل إيمانه وعرفانه(3).
- لعلنا نذكر، من النصوص السابقة، أنهم يعنون بـ (القرآن) مقام (الجمع)، وبـ (الفرقان) مقام (الفرق).
ويقول: قارئ القرآن مناجي الحق، قارئ القرآن ترجمان الحق، والقرآن حضرة الجمع(4).
وقال: متى استوى الجمع في بطن الفقير، تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وتظهر الأسرار والأنوار، وعلى هذه الحالة كان مَنْ قُتل وعُذِّب في مقام الجمع، أما صاحب الفرق الثاني، فهو يسري في الممكنات سريان الماء بالعود الأخضر(5).
وقال: من استوى جمعه، صار قيومَ كل ذرة من ذرات الوجود(6).
وقال: إذا كان الإنسان في حالة جمعه سائراً لله، شهد الله في كل شيء، فيكون في مقام الواحدية؛ فإذا تم جمعه، سار به الحق، وما رأى شيئاً طلبه إلا أنكره، ويكون ذلك الإنكار من جملة مطلوبه، ويكون الوجود الحق، وهذا مقام الأحدية، فهي أصل لظهور الممكنات التي هي أرض العبودية(7).
__________
(1) الشيخ علي نور الدين اليشرطي، مغربي هاجر إلى عكا، وأسس الطريقة الشاذلية اليشرطية، مات عام (1316هـ).
(2) نفحات الحق، (ص 69).
(3) نفحات الحق، (ص 70).
(4) نفحات الحق، (ص:97، 98).
(5) نفحات الحق، (ص:98).
(6) نفحات الحق، (ص:98).
(7) نفحات الحق، (ص:98، 99).(78/211)
- كلمة (الممكنات) وشرحها في النص الأخير يوضح مراد الشيخ من قوله: فهو يسري في الممكنات...في النص السابق.
وقال: اجعل ظاهرك عبودية، وباطنك أحدية، وميز ومهد(1).
هذا القول هو نفس قول الجيلاني، فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه، ونفس قول أبي الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً والجمع في جنانك مشهوداً، وقول ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.. وقد مرت معنا ومر غيرها أيضاً بنفس المعنى.
وقال: يصل الفقير إلى مقام يقول فيه للشيء: كن فيكون. ثم تابع حديثه فقال: والبعض عند الخاطر(2).
- ويعني بقوله: عند الخاطر، أي يحصل الشيء عندما يمر بخاطره فقط، دون أن يقول له: كن.
وقال: ما زال العبد يذكر الله، حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم، انطوت العبدية بالربية، وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيَّب العبد عن وجوده حساً ومعنى(3).
وقال: ...ومَن يرحم الفقير ربي يحسن إليه، وهذه وحدة الوجود لا يحصل عليها أي إنسان، فهي للأصفياء والأنبياء(4).
وقال: مر سائح كان يبحث عما يقربه إلى الله تعالى، ثم إذا هو بامرأة تحمل ولدها على منكبها فقالت له: ألم تر ولدي فقد فقدته؟! فنظر إليها وقال: هو ذا الولد على منكبيك وتسألين عنه! فقالت: يا عجباً هو معنا وندور نبحث عنه! فانتبه الرجل لحاله وقال لها: جزاك الله عني خيراً(5).
وقال: ما في فراق (أي: الفرق غير موجود)، ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، الفراف من هذا القفص، ومتى خرجت منه تنظر جميع العوالم متصلة بك(6).
- يعني بالفراق: الفرق، وبالقفص: الجسد.
وقال: العبد قابل لظهور تجليات الحق(7).
__________
(1) نفحات الحق، (ص:99).
(2) نفحات الحق، (ص:99).
(3) نفحات الحق، (ص:110).
(4) نفحات الحق، (ص:134).
(5) نفحات الحق، (ص:163).
(6) نفحات الحق، (ص:225).
(7) نفحات الحق، (ص:235).(78/212)
- هذا القول ظاهر المعنى، ومع ذلك فالنصوص التالية تزيده ظهوراً.
يقول محمد بهاء الدين البيطار(1):
...فاعلم أيدك الله وإيانا بروح القدس، وأراك آياته في الأفاق وفي النفس، أن لله أسماء، وأسماء الأسماء، فأما أسماء الأسماء فهي التي يعلمها عموم الناس من الأسماء الرقمية أو اللفظية أو الذهنية، فهي في الحقيقة أسماء للأسماء وليست عين الأسماء، والأسماء الحقيقية هي أعيان العالم وصور حقائق المعاني، إذ من المعلوم أن اسم الله المميت مثلاً ليس المؤثر منه بالموت هذه الحروف التي هي الألف واللام والميمان والياء والتاء، وإنما المؤثر بالموت معنى هذه الحروف الذي هو الحقيقة العزرائيلية، وليس المميت عزرائيل(2) فقط، بل عزرائيل مظهر من مظاهر الاسم المميت وصورة من صوره، ومعلوم أن صُوَرَه لا تتناهى، فكل ما أمات فهو صورة للاسم (المميت)، فصورة الاسم تفنى، وأما جوهر الاسم وعينه فلا تفنى، لأنها عين الوجه الباقي، وكل شيء هالك إلا وجهه. فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى، فكل ما أمات، مثلاً، من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم المميت، ومعنى المميت شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات، ومن هنا يفهم قوله تعالى: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) [الأنفال:17]، فتارة ينسب الله تعالى الإماتة إلى عزرائيل، فيقول: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11]، وتارة إلى الملائكة مطلقاً، فيقول: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) [النحل:28]، وتارة إلى البشر، فيقول: ((فَاقْتُلُوا
__________
(1) محمد بهاء الدين البيطار الشامي الميداني، من شيوخ الطريقة الرشيدية، مات سنة (1314هـ).
(2) الاسم: عزرائيل لم يرد في قرآن ولا في سنة صحيحة، وقد عبر إلى كتب المسلمين من اليهودية بواسطة المتصوفة.(78/213)
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) [التوبة:5]، وتارة يقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ)) [الزمر:42]، فإذا فهمت ذلك، وعلمت أن المظاهر صور الظاهر، والظاهر حقيقة واحدة، وهو وجود مطلق أحدي العين، تجلّى في صور مختلفة، فأنت بالخيار، فإن شئت فانسب إلى الصورة الظاهرة مراعاة للأسباب، وإن شئت فانسب لحقيقة الصور كلها، والتي هي وجود الله تعالى، إذ الصور كلها مندرجة في وجود الله اندراج أمواج البحر، فالأمواج هالكة في البحر، وهي عينه، فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل. وإذا فهمت ذلك، فخذ جميع أسماء الله على هذا المنوال، فالرزاق والحفيظ والسميع والبصير إنما هي المظاهر القائمة بهذه المعاني، فهي الأسماء لا الكلمات المؤلفة من بسائط حروف هذه الأسماء، لأن حروف الرزاق لا ترزق، ولا لفظ الرزاق، وكذلك لفظ السميع ليس هو السميع، هكذا، بل هذه الكلمات أسماء الأسماء لا عين الأسماء، كما حققه شيخنا الأكبر في الفتوحات المكية، سأل مريد أستاذه عن الاسم الأعظم، فضربه بحصاة، فكان هذا الضرب هو الجواب! يشير له، أنك أنت الاسم الأعظم، إن عرفت نفسك وأقمت الجدار عنك، فيظهر لك كنزك، وينكشف لك سر قوله صلى الله عليه وسلم:} من عرف نفسه عرف ربه {، إذا تحققت ذلك وتيقنته وسلمه قلبك بالإيمان القطعي. قال الشيخ الأكبر قُدس سره في كتاب (بلغة الغواص): قال تعالى: ((إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ)) [النمل:30] يعني سليمان ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]؛ فجعل سليمان عليه السلام عين ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) [النمل:30]، وإذا فهمت التفصيل المتقدم بين الأسماء وأسماء الأسماء، سهُل عليك فهمُ هذا. فإن الكامل في وقته مظهرُ هذه الأسماء الثلاثة التي هي: الله والرحمن والرحيم، بك مظهر أسماء الله على الكمال،(78/214)
القائم بحقيقة الجمال والجلال. قيل لبعضهم: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحيي وأميت وأنا على كل شيء قدير(1)...
ويقول: نحمدك اللهم يا من صلى على محمد بفيض ذاته، فكان مجلى له في جميع تجلياته...وأشهد أن لا إله إلا الله ولا موجود في هذا الوجود إلا إياه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنسان عين ذاته وسر إمداداته(2)...
ويقول: ...ورد في الحديث القدسي: {العظمة إزاري والكبرياء ردائي} فإزاره عينه، ورداؤه عينه، فالمظهر عين الظاهر، والاسم عين المسمى، فهو المحيط بذاته بإحاطة هي عين ذاته، فكل ما تحيط به ذاته هو عين ذاته، فكل شيء له الكمال الذاتي المشار له بقوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فصراطه ذاته، فهو الآخذ بناصية كل شيء بذاته لذاته، والمأخوذ عين ذاته، فهو عين الصراط المستقيم الأحدي، وهو الذي عليه، فما على هذا الصراط إلا هو، وكل شيء عليه، فهو ذات كل شيء، وحقيقة النور والظل والفيء، ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]، فالأول عين الآخر، والظاهر عين الباطن، فالوجود واحد، كان الله ولا شيء معه، فهو تعالى كائن لا يزول، وأسماؤه لا تزول، كل يوم هو في شأن، فالشمس تجري لمستقر لها، ولا مستقر لها سواها، وهاهنا كنز مطلسم(3)...
ويقول: ...فما الأمر إلا هو، فكل أمرٍ عين الهو، وواقعٌ على الهو، وأوله هو، وآخره هو، وظاهره هو، وباطنه هو، وحقيقته هو، وذاته هو، قال الله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1]، غير أن هذه الهوية لها وجهان، كل منهما مرآة الآخر في عين واحدة(4)...
__________
(1) النفحات الأقدسيه، (ص:5، 6).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:3).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:113).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:280).(78/215)
- في هذا النص يتوضح لنا معنى كلمة (الهوية) التي مرت معنا في نصوص سابقة، ولننتبه إلى تفسيرهم لـ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1].
ويقول: (جَمَع الجمع، وفَرَّق الفرق، من حيث لا جمع ولا فرق)(1)، أي إن الجمع والفرق حُكمان اعتباريان معقولان، وما ثَم إلا عين واحدة، هي المخبَّر عنها بالحي القيوم، فلا حي سواها، ولا قيوم سواها، كان الله ولم يكن شيء غيره، أي: (لا غير)، وهذا الحكم مستمرٌّ أزلاً وأبداً، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، فمن رأى الأشياء معه فقد جهل، فإن الله تعالى دفع هذا الوهم بقوله: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) [البقرة:115]، فأين الأشياء؟ إلا أن الكاملين يَسْتُرون هذا الوجه بأسماء الأشياء(2).
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي(3):
__________
(1) هذه الجملة بين الحاصرتين هي من الصلوات الأحمدية الإدريسية التي هي من أوراد الطريقة الرشيدية.
(2) النفحات الأقدسية، (ص:281).
(3) مؤسس الطريقة الشاذلية الفيضية في مصر، أسس الكلية الصوفية عام (1927م)، وبقيت حتى عام (1933م)، ثم أصدر مجلة البهلول.(78/216)
وكذلك كل ما يبزغ أو يبدو في الكون من حياة أو وعي أو إرادة تنجلي كلها لكفاياتنا العليا، كأنها نعوت وخصائص أصلية لذلك الكائن الأسمى، الذي يبدو أنه مطلق يشمل اقتداره وإبداعه وجودنا ووجود غيرنا من الكائنات، وما وراءها من كائنات معجبة بأفعالها الخفية، ودليل ذلك أن الوجود في شموله - مع ما يبدو فيه من كثرة وتعدد- يمثل لإدراكنا الذاتي وحيرتنا النفسية الوجدانية وحدة شاملة مؤتلفة الروابط والعلائق، وإن تفاوتت فيها النسب والأوضاع والكيفيات والوظائف، لدى الحس والحواس والعقل والمعقولات، مما يدلك دلالة صريحة موجبة لليقين قاطعة للشك، على أن أصلها سبب إلهي مبدع لأسباب أولى الكائنات وعللها القريبة التي تصدر عن مشيئته، وهو ضرورة يدرك ما يفعل قبل أن يفعل وبعد أن يفعل، وتصير إليه أيضاً في النهاية نتيجة ما أراد وما فعل، وهو نفسه، فهو يقيناً ذلك الكائن الغيبي الذي نظم الكون ما علا منه وما سفل، بسماواته وأراضيه، وقد طبعها جميعها على أسلوب يجعلها كمَّاً واحداً متناغم الوحدات مترابط الحلقات، إن صانعها ومبدعها واحد أحد، وقد جعل الكائنات كلها تتطور وتترقى إلى هدف خاص بالمجموع، كما لو كان هذا المجموع الكلي كائناً واحداً يهدف إلى حقيقة لا يُدرك لها غور ولا نهاية، وما ذلك إلا لأن مبدع الكل كائن مطلق، ومتوحد في وجوده المتسامي(1).
* الملحوظات:
نحن الآن أمام ظاهرة في الكتابة الصوفية، فيها شيء من الجدة، هذا الشيء هو العبارة الخائنة، التي خانت قائلها فأظهرته بمظهر التناقض الصارخ، وإليك النص التالي الذي هو أكثر وضوحاً من هذا السابق.
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:43).(78/217)
يقول: ...وقد أقاموا -أي الذين يهاجمون التصوف- أنفسهم بمعارفهم الضئيلة حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه، بدون مبرر يبرر نظرياتهم لا من الشرع ولا من العقل، حالةَ أنهم لم يتذوقوا من مشارب القوم وعلومهم ومعارفهم ومواجيدهم فيما بينهم وبين ربهم، وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود! وأول ما يرمون التصوف به من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود، فما وحدة الوجود يا ترى؟ هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟! هو المستحيل أو بين حادث وقديم وهو مستحيل أيضاً، والقوم أهل توحيد، أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟ وهذا باطل ينفيه التصوف الحق(1).
* التعليق على هذا الكلام:
- يقول: وقد أقاموا أنفسهم بمعارفهم الضئيلة..، فنجيبه:
وقال السها للشمس أنت ضئيلة ……وقال الدجى للظهر لونك حائل
لكن تقريراً للحقيقة: إن هذه العبارة تعني معارفهم الضئيلة بالصوفية، وهو بهذا صادق، لأن كل الذين هاجموا التصوف كانوا لا يعرفون عنه إلا أموراً سطحية، فمعارفهم به كانت ضئيلة.
وقوله: ...حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه بدون مبرر...، فنجيبه:
أ- الذي يحكم بالقرآن والسنة لا يكون حاكماً قاسياً، والذي يتهمه لذلك يخرج من الإيمان: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].
ب- يقول:.. على أولياء الله..، فمن قال لك يا هذا أنكم (أولياء الله)، أوَلَمْ تقرأ الآية الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:404).(78/218)
ج- أما قوله: بدون مبرر!!، فجوابنا: بل المبرر موجود وموجود وموجود، وهو من الشرع، ومن القرآن، ومن السنة، وهو فرض لا سنة، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- ويقول: وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود..، فنجيبه: قرر مشايخ الصوفية وكبارهم وعارفوهم والمكاشفون والمشاهدون أن الحقيقة هي زندقة بالنسبة للشريعة، فإن كانت نظرات (أهل الحقيقة) سامية وعميقة! فكيف تكون نظرات الشريعة المناقضة لها؟؟ طبعاً ستكون بعكس ذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- ويقول: وأول ما يرمون به التصوف من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود...فنجيبه:
لقد أفحمتنا يا شيخ؟! لأن القول بأن اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود هو كذب عظيم!! هذا القول هو مفحم جداً!! بل وجداً جداً أيضاً!! ولا يسعنا أمام ما يأتي به هؤلاء الأولياء العارفون من صدق عظيم وجرأة عظيمة وفصاحة أعظم إلا أن نقول: اللهم إنا نشكو إليك هذا البلاء العظيم الذي دمر الأمة الإسلامية، والذي يصر أقطابه على السير في طريقهم للقضاء على ما تبقى لهذه الأمة من عقيدة إسلامية وأخلاق ووجود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- ثم يقدم التساؤلات: فما وحدة الوجود يا ترى؟! هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟ ويجيب نفسه: وهو المستحيل.
ونقول: نعم، هو مستحيل، ولم يقل أحد إن هذه هي وحدة الوجود، ونعجب من شيخنا كيف يورد هذا التساؤل الذي لم يرد!! ولكنه الأسلوب الماهر.
ويواصل شيخنا تساؤله: أو بين حادث وقديم؟! وهو مستحيل أيضاً.
ونجيبه نعم، إن الصوفية لا تقول بهذا، لأنه هو ما يسمى بالحلول أو الاتحاد، والصوفية بريئة من كليهما، والإسلام بريء من الجميع.
ويقول: والقوم أهل توحيد.
فنجيبه: نعم، إنهم أهل توحيد، وقد رأينا توحيدهم في أكثر من مائة نص سابق، وعرفنا ما هو، إنه توحيد الوجود.(78/219)
ثم يقول: أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟! وهذا باطل ينفيه التصوف الحق.
فنجيبه:
نعم، نعم، الاثنينية بين الخالق والمخلوق، أي وجود خالق ووجود مخلوق، حيث يكون في الوجود اثنان، خالق ومخلوق فهذا مرفوض عند الصوفية، وقولك يا شيخنا: هذا باطل ينفيه التصوف الحق، هو صحيح تماماً. فالتصوف الحق لا يؤمن بوجود خالق ومخلوق، وإنما يؤمن بوجودٍ واحد فقط هو الحق، وما الخلق منه إلا كموج البحر من البحر، وهي هي نفسها (وحدة الوجود).
ونقول: يا شيخنا، هاأنت تقرر وحدة الوجود عندما ترفض الاثنينية، إذن، فلم اتهمت (الذين يرمون شيوخ التصوف بوحدة الوجود؟!)، لم اتهمتهم بالكذب العظيم؟ وهم لا يرمونكم إلا بما أنتم عليه.
وللإيضاح: يقول النص: ...اتهام جميع شيوخ التصوف، وهذا يعني أن قسماً من شيوخه لا يؤمنون بوحدة الوجود، وسنرى فيما يأتي أن الذين لا يؤمنون بالوحدة هم الدخلاء على التصوف الذي يدعون المشيخة دون ذوق أو معرفة (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
ويقول في نص آخر:
إنما ترجحت هذه الطائفة من حيث ارتفاع معارفها، لأن من تحقق عنده العلم بانفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات وقيام مآثر الموجودات بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة، قاده ذلك إلى جمع الهمة عليه وعكوفها لديه، وتصفو هذه المعرفة في ميدان الفناء عن ذكر غيره ورؤية سواه، وإذا فني العبد عن الأغيار، كملت معرفته لبقائه مع الحق، وقلت غفلاته عنه، وهو علم البقاء، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن، شارف عين الجمع، أي الحقيقة، وصار الجمع له حالاً، فَعَينُ الجمع بخلاف علم الجمع الخاص بذلك، (والجمع هنا جمع معنوي خالص لجمع الروح على خالقها ونافخها دون حلول أو اتحاد أو اتصال أو انفصال، كما يحدث في المحسات وهو الحلول(1).
* تعليق:
__________
(1) معالم الطريق إلى الله، (ص:262).(78/220)
الأسلوب فيه شيء من الجدة كما قلنا. فهو يقول: انفراد الله سبحانه بالفعل والصفة والذات، بدلاً من قولهم: وحدة الأفعال والصفات والذات، ولكنه يضيف عبارة جديدة هي انفراده سبحانه بـ (قيام مآثر الموجودات) التي هي لا تخرج عن معنى وحدة الوجود، ولكن فيها شيء من الغموض يساعد هذا العارف على إضاعة القارئ العادي، خاصة عندما يضيف الجملة: بما يخلقه لهم وفيهم من الصفات والحياة التي تعني الفرق. ويعني بعبارة جمع الهمة عليه وعكوفها لديه: مقام الجمع، وهو واضح.
على أننا لو قبلنا جملته الأخيرة حسب ظاهرها الذي يمكن أن يفهمه القارئ العادي لكان النص كله تفاهة وسخافة، بل لكان كتابه كله كذلك.
ويشرح لنا كلمتين يستعملونهما كئيراً وهما: (اتصال وانفصال) ويقرر أن ذلك هو الحلول.
وتوضيح ما يريده هو أن الاتصال يقتضي وجود اثنين متصلين ببعضهما، وهو الحلول، والانفصال يقتضي وجود اثنين أيضاً منفصلين عن بعضهما، وبما أن الاثنينية مرفوضة، إذن فلا اتصال ولا انفصال، بل وحدة، والجمع هو الإحساس بهذه الوحدة ذوقاً واستشعاراً.
ويقول: وأما المرحلة السابعة، فهي مرحلة السعادة الأبدية التي يقول الله سبحانه وتعالى في وصفها بحديثه القدسي: {ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، وما زال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه وبصرَه ويدَه ولسانَه} إلى آخره، وهي المرحلة التي قيل فيها أيضاً: (وهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وهي المرحلة التي قلنا فيها من قصيدتنا الوجدانية:
فلما قرعتُ الباب قصدَ لقائها ……خلعتُ لها جاهي وعلمي ودعوتي
وحققتُ وصفي وهو ذلي لعزها ……وعاديت فيها حظ نفسي وعادتي
فلما رأتْ ذلي وعجزي وفاقتي ……تجلت إلى قلبي بمكنون حكمتي
وقربني الساقي لحان شرابها ………فكان بها سكري وصحوي ونشوتي
ولما بدتْ من طُور ليلاي نارها ……رأيت بها منها إليها هدايتي(78/221)
وصارت تناجيني بحُلْوِ خطابها ……فشاهدتُها لكن بعين بصيرتي
وأبصرتُ أسراراً تسامت بذاتها ……وإني أرى شرحي لها فوق طاقتي
فإني إذا ما بحتُ يوماً بسرها ……لقيت حمامي بعد تمزيق مهجتي
ولستُ على سرٍّ أميناً إذن ولا ……حظيت بقرب عند أهل مودتي
وفي مثل هذا المقام يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه حيث بلغه ووصل إليه من طريق الشهود:
وكان ما كان مما لست أذكره ……فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر(1) اهـ.
- اعتدنا أن نسمع من القوم قولهم: تحققت بأوصافها. وما شابه ذلك، أما هنا، فيعكس الأسلوب زيادة في التعمية، حيث يقول: وحققت وصفي، إذن فهو بعد كل الجهد الطويل والرياضات المملة والخلوة والجوع والسهر، وبعد تأليف الكتب، ما زاد على أن حقق وصفه فقط!! وبكل هذه البساطة. مع العلم أن كل ما يدب على الأرض محقق وصفه الذي هو ذله لعزها، دون هذه الفلسفة، لأنه فطر على تحقيق وصفه: ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]. ولكن، نقول للقارئ، إنه الإمعان في التقية! ولنوضح الأمر:
في مراحل من تاريخ المسلمين، وصلت المجتمعات الإسلامية بمساعي الصوفية وجهودهم المستمرة إلى أحط دركات الجهل والغفلة، حيث أخذ الأولياء العارفون الصديقون المقربون الطاهرون المطهرون الأبرار الواصلون المحققون المصطفون المحبوبون المؤيدون العالمون الموحدون خواص الخواص...، حيث أخذوا حريتهم الكاملة في البيان، وأرخوا لعباراتهم العنان، وباحوا بالسر المصان.
وقد رأينا قول بعضهم: وحسبه.. إشراق نور وحدة الوجود.
ولعل النص التالي يغني عن الإطالة وإيراد نصوص أُخَر.
يقول الشيخ عبد الرزاق القاشاني:
__________
(1) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق، (ص:66). والواقع أن نص الغزالي هذا مسروق، أو منقول نقلاً شبه حرفي من كتاب: قوت القلوب، وكذلك نصوص كثيرة غيره.(78/222)
وبعد، فإن الزمان تقاصرت أذياله، وكادت ترتفع بانكشاف الحق أسباله، ونطق الحق على لسان الخلق بأسراره، وزهق الباطل بتشعشع أنواره، واقتضت الحقيقة أن تُهْتَك أستارها، وطفقت في كل سمعٍ يُحدث أخبارُها، أقبل علي جماعة من إخوان الصدق والصفا، وأرباب الفتوة والوفا، من أهل العرفان والتحقيق، ومَن أيدته العناية بالتوفيق، خصوصاً كالصاحب المعظم العالم العارف الموحد المحقق، شمس الملة والدين، قدوة أرباب اليقين...أن أشرح لهم كتاب فصوص الحكم...شارطين علي أن لا أكتم شيئاً من جواهركنوزه(1)...اهـ.
- والكتب الصوفية التي ألفت في القرن الثالث عشر الهجري وعدة قرون قبله، تحمل كلها، أو جلها، طابع التصريح الكامل بوحدة الوجود، وما يدور حولها من عقائد وفلسفات.
وجاء القرن الرابع عشر، وتوسعت الثقافة، وزاد فهم بعض المسلمين للإسلام، ولبعض أعداء الإسلام، ولبعض أمراض المسلمين، وفهموا، بسبب الكتب التي ألفت في القرون السابقة، الكثير عن هذا السرطان الخبيث، وخطره ومكره، وأخذوا ينبهون عليه.
فأسرع (العارفون الصديقون الصادقون) إلى تقيتهم ورموزهم وألغازهم، وكلما توسع الوعي الإسلامي قليلاً، كلما زادوا في التعمية والغموض.
والنصوص الأخيرة صور من هذه التقية الجديدة، التي أخذت تمعن في الغموض والتعمية، حتى وصلت إلى حد الكذب الجريء.
كان القوم يستعملون فيما سبق العبارة والرمز واللغز والإشارة، أما في حاضرنا، فأخذوا يستعملون الإنكار؟!
وماذا عليهم؟ فالمهم هو (جلب الزبائن)، حتى إذا خضع الزبون للشيخ، وقام بالرياضات والمجاهدات والخلوات، التي تحقنه بالإيحاء الذاتي حقناً يملأ كل خليةٍ في جسمه، وطبق عليه شيخه الإيحاء الخارجي المستمر، حتى يصل إلى الجذبات، وتتجلى عليه التجليات، ويذوق من معاني الألوهية، أو يذوق على الأقل معنى اسم من أسماء الحق، عندئذ يُمْسون عاروين، ولات حين؟؟
__________
(1) شرح القاشاني، (ص:4).(78/223)
والذين لا يصلون، من الذين وقعوا في الشبكة، يُمْسون، بتأثير الإيحاءات، أنصاراً مغفلين متحمسين، يدافعون عن الشيخ العارف، وعن الطريقة المجيدة، وعن السالك المريد...ويمهدون المنزلقات إلى الهاوية، ويغطونها بالألفاظ المنمقة، والأكاذيب الجريئة المزوقة...انتظاراً لصيد جديد، في يوم جديد.
وقد تطور هذا الأسلوب أكثر وأكثر، وصار أكثر جدة.
وهذا الأسلوب الجديد، لا يخرج على القاعدة التي وضعها سيد الطائفة الجنيد، عندما قرر: لا يكون الصديق صديقاً حتى يشهد له في حقه سبعون صديقاً أنه زنديق، وفي رواية: ألف صديق...
ولا يخرج على قاعدة الجنيد عندما أفتى هو والشبلي بقتل الحلاج، وهما يعلمان أنه في الحقيقة ولي الله حقاً.
ولا يخرج على القاعدة التي وضعها أقطابهم وعارفوهم، والتي هي شرح لقاعدة الجنيد، والتي تقول: إن الصديق يعطي الظاهر- أي الشريعة- حكم الظاهر، ويعطي الباطن- أي حقيقتهم- حكم الباطن، وبالتعبير الآخر لا يلبس بالباطن على الظاهر ولا يلبس بالظاهر على الباطن.
كما لا يخرج على القانون الأساسي للطائفة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه.
وكما قلنا: المهم هو جلب الزبائن، وبعد ذلك يأتي التسليك، ثم يأتي الباقي.
ويقول عبد القادر عيسى(1):
اختلف علماء النظر في موقفهم من العارفين المحققين القائلين بوحدة الوجود، فمنهم من تسرع باتهامهم بالكفر والضلال وفهم كلامهم على غير المراد(2)...
__________
(1) شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية في حلب.
(2) حقائق عن التصوف (ص:552)، وللعلم، يقال: إن كتاب (حقائق عن التصوف) هو من تأليف أحد تلاميذ الشيخ، نسبه إلى شيخه طلباً للقربى والوصول.(78/224)
- إذن، فالعارفون المحققون يقولون بوحدة الوجود، وهذا اعتراف كامل من عارف محقق، كما يعترف أن من علماء النظر من يتهمهم بالكفر والضلال، لكنه يتهم المتهمين بالتسرع، وعدم فهم كلامهم. فهل صحيح أنهم لم يفهموا كلامهم؟ مع أنه يقرر بوضوح أن العارفين المحققين يقولون بوحدة الوجود، فكيف ذلك؟
يتمم كلامه، قيقول:
...ومنهم من لم يتورط بالتهجم عليهم، فتثبت في الأمر، ورجع إليهم ليعرف مرادهم، لأن هؤلاء العارفين، مع توسعهم في هذه المسالة، لم يبحثوا فيها بحثاً يزيل إشكال علماء النظر، لأنهم تكلموا في ذلك ودونوا لأنفسهم وتلاميذهم، لا لمن لم يشهد تلك الوحدة من غيرهم، لذلك احتاج الأمر للإيضاح، لتطمئن به قلوب أهل التسليم من علماء النظر(1).
- تقرير جديد؛ إن غيرهم لم يشهد تلك الوحدة! إذن فهم شهدوها.
يتمم: ومن العلماء الذين حققوا في هذه المسألة وفهموا المراد منها، السيد مصطفى كمال الشريف، حيث قال: الوجود واحد لأنه صفة ذاتية للحق سبحانه وتعالى، وهو واجب فلا يصح تعدده، والموجود هو الممكن، وهو العالم، فصح تعدده باعتبار حقائقه. وقيامه إنما هو بذلك الوجود الواجب لذاته، فإذا بقي الوجود كما هو، فالموجود غير الوجود، فلا يصح أن يقال: الوجود اثنان: وجود قديم ووجود حادث، إلا أن يراد بالوجود الثاني (الموجود) من إطلاق المصدر على المفعول، فعلى هذا لا يترتب شيء من المحاذير التي ذكرها أهل النظر على وحدة الوجود القائل بها أهل التحقيق...
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:552).(78/225)
...إلى أن قال: الحس لا يرى إلا الهياكل -أي: الموجود- والروح لا تشهد إلا الوجود، وإذا شهدت الموجود فلا تشهده إلا ثانياً، على حد من قال: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. وأراد بهذه الرؤية الشهودَ، لا رؤية البصر، لأن الرؤية من خصائص البصر، والشهود من خصائص البصيرة، لذلك ورد: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يرد (أرى) بل ولا يصح أن يقال: (أرى)(1). اهـ.
- إذن فقد قُتل الحلاج وأبو حمزة وابن برّجان والسهروردي وغيرهم، واستتيب من الكفر الجنيد والشبلي والبسطامي وأبو حيان وغيرهم، وكُفِّرَ وكُذِّبَ الغزالي وأحرق كتابه إحياء علوم الدين، وكذلك ابن عربي وغيره وغيره...من أجل إطلاق الاسم الوجود على المخلوق الموجود من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!!
أي قالوا: الوجود بدلاً من أن يقولوا: الموجود.
من أجل استعمال المصدر بمعنى اسم المفعول، صُنع بهؤلاء المساكين الأبرياء ما صُنع! ومن أجل هذا تسرع علماء النظر باتهامهم بالكفر والضلال! (يا حرام).
على أنه يعود فيعترف أن الموجود هو الهياكل فقط، أي الأشكال والصور التي تُرى بالبصر، وهي في حقيقتها إنما هي الوجود، أي الحق سبحانه، وهذا لا يشاهده إلا الروح.
وهناك ملحوظة هامة جداً، إنها تفسيره لمعنى (أشهد)، فنحن نعرف أن معناها لغةً وشرعاً: أعترف وأقر، وكذلك فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها عنه أصحابه وتابعوهم وكل المسلمين المسلمين.. بينما يفسرها هنا بمعنى (شهود البصيرة) وهو الذي يكون أثناء (الجذبة)!! وإلى الله المشتكى.
يتمم: وهكذا شأن العلماء المنصفين، يغارون على الشريعة الغراء، ويتثبتون في الأمور، دون أن يتسرعوا بتكفير أحد من المؤمنين، ويرجعوا في فهم كل حقيقة إلى أهل الاختصاص بها(2).
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:552، 553).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:553).(78/226)
- الجواب على هذا الكلام:. ((...يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) [البقرة:9].
- يا هؤلاء، ما دام علماء النظر يكفرون أهل هذا الاختصاص، فكيف تطلبون منهم أن يرجعوا إليهم؟! ثم، هل الغيرة على الشريعة الغراء تكون بالتسليم للكفر وقبوله، واستفتاء أهله ليحكموا على أنفسهم؟! عجيب والله! إن الله سبحانه يقول: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، وأنتم تطلبون من الآخرين أن يردوه إليكم لتقولوا لهم: إن كلمة الوجود هي من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول!
وكفى الله المؤمنين القتال! وصار الكفر إسلاماً والضلال إيماناً وحقيقتكم شريعة غراء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول: ...وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه،- مستعينة به، لأنه لا فاعل في الوجود سواه(1).
* تنبيه: أرجو من القارئ الذي عرف لغة القوم أن ينتبه إلى المراد من هذه العبارات، ويقول: ...ولذا طَرَق السادة الصوفية باب شكر الله تعالى على جميع أحوالهم، وحمدوا الله تعالى في سائر شئونهم، وشهدوه الفاعل المطلق والمنعم المتفضل والبر الرحيم(2)...
- قد مر معنا عشرات الأمثلة على معنى قولهم: (لا فاعل إلا الله)، وهنا يزيد المعنى توكيداً وتوضيحاً بقوله: (لا فاعل في الوجود سواه)، و(شهدوه الفاعل المطلق)، أي أضاف في الأولى عبارة: (في الوجود)، وفي الثانية: (المطلق)، وهذا زيادة في التوضيح.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:380).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:393).(78/227)
ويقول: قالوا: وإنما السماع حقيقةٌ ربانية ولطيفةٌ روحانية، تسري من السميع المُسْمع إلى الأسرار بلطائف التحف والأنوار، فتمحق من القلب ما لم يكن، ويبقى فيه ما لم يزل، فهو سماع حق بحق من حق(1).
- وطبعاً، نحن نعرف الآن تماماً ما معنى: (فتمحق ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل) و(سماع حق بحق من حق)، وإن وُجد من لا يعرف معناها بعد مئات الأمثلة السابقة فلن يكون هذا ذنبنا.
ويقول: ويختلف الواصلون في وصولهم إلى الله تعالى، كل على حسب مقامه وهمته:
فمنهم من وصل في سيره إلى وحدة الأفعال ذوقاً وشهوداً، ويفنى فعله وفعل غيره، ويتذوق معنى قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، وهذه رتبة في الوصول.
ومنهم من يصل في سيره إلى وحدة الصفات ذوقاً وشهوداً، فيتذوقون معنى قوله تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، ويتذوقون معنى الحديث القدسي: {فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصر به}، وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء في الذات، فيشهد عرضية كل شيء مقابل وجود الحق عز وجل، وتفيض عليه أنوار اليقين ولسان حاله يقول:
وُجودي أن أغيبَ عن الوجود ……بما يبدو علي من الشهود
ويتذوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أصدق كلمة قالها الشاعركلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل(2)}.
- الكلام واضح واضح، ونعرف الآن تماماً ماذا يريدون عندما يوردون قوله سبحانه: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ...)) [الأنفال:17]، وقوله: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) [الإنسان:30]، فقد مرت كثيراً في الأمثلة السابقة مع شروحها التي قدموها، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {..كنتُ سمعه..}، وقد مر شرحها أيضاً.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:209).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:280، 281).(78/228)
ولكن الملاحظ هنا، أن الشيخ استعمل عبارة (وحدة الأفعال) و(وحدة الصفات)، حتى إذا وصل إلى الذات لم يستعمل العبارة التي استعملها أسلافه في مثل هذا التسلسل، وهي عبارة (وحدة الذات) بل لاص عنها ليستعمل عبارة تحمل نفس المعنى، استعملها العارفون الصديقون المقربون في أقوالهم ويستعملونها، وهي: (الفناء في الذات) ووضوحها كافٍ.
ونُضيف: إن كل من يأخذ أقوال شخص ما على أنها أقوال حكيمة يُطلب تطبيقها، ثم يقدس هذا الشخص، فلا يذكر اسمه إلا مصحوباً بـ (سيدي) يتبعها بالدعاء له، إن كل من يفعل مثل هذا مع شخص ما فهو لا يفعله إلا إن كان يؤمن بعقيدته وسلوكه إيماناً كاملاً.
وهذه نبذ من كتاب عبد القادر عيسى المسمى: (حقائق عن التصوف)، يورد فيها أسماء متصوفة مرت معنا أقوالهم في وحدة الوجود، ورأينا مدى صراحتها ووضوحها.
يقول تحت عنوان: أقوال العارفين بالله من رجال التصوف..(1).
أبو حامد الغزالي:
قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(2):
وقد أورد اسمه في الكتاب متمثلاً بأقواله ومستشهداً بها وداعياً إليها، تسعاً وثلاثين مرة.
- ومرت معنا أقوال الغزالي، فليرجع إليها القارئ ليرى ما فيها مما يغضب وجه الله.
ويقول: قال سيد الطائفتين الجنيد(3)..
- وقد مرت معنا أقوال الجنيد في وحدة الوجود، وورد اسمه في الكتاب سبعاً وعشرين مرة.
- وورد اسم ابن عطاء الله السكندري تسع عشرة مرة. جاء في المرة الأولى بقوله: يقول ابن عطاء الله السكندري(4).
وقد مرت أقواله الصريحة في وحدة الوجود.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:59).
(2) حقائق عن التصوف، (ص:60).
(3) حقائق عن التصوف، (ص:14).
(4) حقائق عن التصوف، (ص:66).(78/229)
ويورد اسم ابن الفارض وأقوالاً له ست مرات، جاء فيها في المرة الأولى النص التالي: ...وما علموا كيف كانت بداية ابن الفارض من حيث مجاهدته لنفسه، وإليك بعض كلامه يصف مجاهداته في سيره، مما يدل على أهمية المجاهدة، مع العلم أنه ابتدأ سيره إلى الله تعالى من نفسٍ لوامة، لا أمارة بالسوء، ويبين أن السالك الذي - لا مجاهدة له، لا سير له، ولا محبة له...(1).
- ونعرف إعلان ابن الفارض إيمانه بوحدة الوجود وتصريحه بذلك.
- وممن يورد أسماءهم مع أقوال لهم مشفوعة بالتقديس والدعاء: أبو الحسن الشاذلي في خمسة عشر موضعاً، أبو حمزة البغدادي في ثلاثة مواضع، أبو القاسم القشيري في خمسة عشر موضعاً، أبو يزيد البسطامي في خمسة مواضع، إبراهيم الدسوقي في موضع واحد، ابن عجيبة في ثلاثين موضعاً، أحمد زيني الدحلان في أربعة مواضع، زكريا الأنصاري في خمسة مواضع، عبد الكريم الجيلي في ثلاثة مواضع...وغيرهم الكثير مما مر معنا ومما لم يمر.
وقد رأينا أقوال هؤلاء العارفين في وحدة الوجود، وإيراد عبد القادر عيسى لهؤلاء الصوفية المشهورين هو دليل أكثر من كافٍ على إيمانه بما كانوا يؤمنون به، وهو وحدة الوجود ولا يبقى على الذين يخادعون إلا أن يكفوا عن مخادعتهم.
ويقول آية الله الخميني:
واعلم أن الأسماء والصفات الإلهية كلها كامل، بل نفس الكمال...وأكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكل الكلمات، ومظهره الإنسان الكامل المستجمع لجميع الصفات والأسماء الإلهية ومَظْهَرُ جميع تجلياته(2)...
ويقول: فالإنسان الكامل جميعُ سلسلةِ الوجود وبه يتم الدائرة، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الكتاب الكلي الإلهي(3)...
ويقول: الموجودات كلها أسماء إلهية.
__________
(1) حقائق عن التصوف، (ص:127).
(2) شرح دعاء السحر، (ص:78).
(3) شرح دعاء السحر، (ص:67).(78/230)
ولعلك بعد التدبر في روح الاسم، والتفكر في حقيقته ومطالعة دفتر سلسلة الوجود وقراءة أسطره، ينكشف لك بإذن الله وحسن توفيقه أن سلسلة الوجود ومراتبها ودائرة الشهود ومدارجها ودرجاتها كلها أسماء إلهية(1)...
- هذا مثل قول قائلهم: واجتمع فيه النجو مع الورد وغيرها مما مر.
ويقول تحصيل إشراقي: فإذا بلغ السالك إلى الله والمجاهد في سبيله إلى ذاك المقام، وتجلى عليه الحق في مظاهر الخلق، مع عدم احتجاب عن الحق والخلق، بنحو الوحدة في ملابس الكثرات، والكثرة في عين الوحدة، ينفتح عليه أبواب من المعرفة والعلوم والأسرار الإلهية(2)...- أقول: سنرى فيما يأتي من الفصول قيمة هذه المعرفة والعلوم الكشفية.
ويقول سعيد حوى:
...وبشكل عام، فإن السائر إلى الله ليصل إلى مقام الإحسان، فإنه يمر على ما يسميه الصوفية (الفناءات)، والفناء في الأفعال بأن يحس الإنسان أن كل شيء فعلُ الله، والفناء في الصفات بأن يستشعر الإنسان صفات الله عز وجل، والفناء في الذات، وهو أن يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها. ومتى استقر في هذا المقام أحس بمقام الإحسان، ويحاولون في هذه الحالة أن ينقلوه إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهذا الذي يسمونه مقام (البقاء)، وقد تكون النقلة سريعة إلى الفناء في الصفات مباشرة، أو قد تكون إلى الفناء في الذات مباشرة، ثم يبدأ السالك يستشعر ما سوى ذلك(3)؟
- النص واضح جداً، مر معنا أمثاله. وفيه بعض العبارات الغامضة:
فعبارة: ...أولية الذات الإلهية يعني بها: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه، فأولية الذات الإلهية هي: كان ولا شيء معه، ويستشعر بها، أي: يستشعر أنها على حالها كما كانت، وهو الآن على ما كان عليه.
__________
(1) شرح دعاء السحر، (ص:84).
(2) شرح دعاء السحر، (ص:113).
(3) تربيتنا الروحية، (ص:298).(78/231)
وعبارة: ...وصمدانيتها: للاسم الصمد معنيان؟ أحدهما: الذي يُصمد إليه، أي: يُرجع إليه ويُتوجه إليه في كل شيء. ومعنى صمدانية الذات الإلهية عند الصوفية هو نفس معنى الآية: ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) [العلق:8] عندهم، ونفس معنى: ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)) [الفجر:28] عندهم.. وقد مر معنا كيف يفهمون الآيتين.
إذن، فمعنى قوله: يستشعر الإنسان أولية الذات الإلهية وصمدانيتها هو: أنه يستشعر وحدة الوجود. وهذا المعنى واضح تماماً لكل من فهم عباراتهم وتذوق معانيها. أما من لم يستطع بعدُ فهمها، رغم مئات الأمثلة والنصوص السابقة! فلا حيلة لنا معه.
وأمامنا أيضاً العبارة: ...أن ينقلوه إلى مقام المشاهدة مع رؤيته الخلق، وهذا...مقام البقاء.
إذن فمقام البقاء -ونعرفه سابقاً- هو المشاهدة يضاف إليها رؤية الخلق. وبالرغم من أننا الأن نعرف معنى مصطلح (المشاهدة) ولكن النص يزيدنا إيضاحاً، فالمشاهدة هي رؤية الحق بدون خلق، أي: رؤية الله، جل وعلا، في كل شيء، بحيث لا يرى الواصل خلقاً، بل يرى كل شيء هو الحق، وهذا هو مقام الفناء في الذات، لكن الشيخ ينقله إلى مقام (المشاهدة مع رؤيته الخلق)، وهو مقام (البقاء) أو الفرق الثاني، أو صحو الجمع...أو...وهو المقام الذي يقول فيه أبو الحسن الشاذلي: اجعل الفرق في لسانك موجوداً، والجمع في جنانك مشهوداً. ويقول فيه الجنيد: لا بد من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه. ويقول فيه ابن عجيبة: إياك أن تقول أناه، واحذر أن تكون سواه، وهو المقام الذي يتواصون به منذ مقتل الحلاج وغيره.
وأترك للقارئ تحليل قوله: (ثم يبدأ السائر يستشعر ما سوى ذلك) ليزداد تمرساً بفهم النصوص الصوفية.
ويقول سعيد حوى أيضاً:
ولئن كان جزء السير التحقق بأسماء الله، ولئن كانت مراحل السير تتم بالانتقال من فناء إلى فناء، فإن الذكر هو وسيلة ذلك كله(1).
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:303).(78/232)
- معنى (التحقق بأسماء الله) واضح، ومر كثيراً في النصوص السابقة، ومع ذلك أورد أمثلة تساعد على التوضيح أكثر:
لو قال قائل: فلان متحقق باسم الشجاع فإن كل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً شجاع بكل معنى الشجاعة.
ولو قال: فلان متحقق باسم الفيلسوف، لفُهم مباشرة أن فلاناً فيلسوف ضالع.
ولو قال القائل: فلان متحقق باسم الصوفي لعُرف دون تردد أن فلاناً صوفي. وهكذا.. عندما يقول القائل: إن السائر إلى الله، تحقق باسم من أسماء الله، وليكن مثلاً: الرب، فكل من يسمع هذا القول يعرف أن فلاناً تحقق بالربوبية، أي: صار رباً.
وهكذا بالنسبة للاسم (الرحمن)، وفي آخر الطريق بالنسبة للاسم (الله). ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول سعيد حوى أيضاً:
...ومع أنني في سيري إلى الله أذاقني الله من فضله مِن معاني اسمِهِ الصمد جل جلاله وهو المقام الذي زل به هؤلاء(1).
- لو سمعت قائلاً يقول: فلان ذاق معنى الوزارة فماذا تفهم من ذلك؟ إن أي إنسان يسمع هذا الكلام يفهم منه بدهياً أن فلاناً صار وزيراً، فذاق معنى الوزارة. وكذلك قول الشيخ هنا: أذاقني...مِن معاني اسمه الصمد، أي مرت به حال صار فيها صمداً، أو استشعر من الألوهية الاسم الصمد.
وقد رأينا فيما سبق من نصوص أن الواصل يذوق معنى الأسماء الإلهية، أو يتحقق بها بالتدريج، اسماً بعد اسم، حتى يصل إلى الاسم (الرب)، ثم يصل إلى الاسم الأعظم (الله) حيث يصير هو هو، ويقول حينئذ: أنا أنا أو كما قال ابن البنا السرقسطي في المباحث الأصلية:
ثم امتحى في غيبةِ الشهود ……فاطلق القولَ أنا معبودي
ويقول سعيد حوى أيضاً:
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:317).(78/233)
نحن نعلم أن هناك حالات للسالك يحس فيها بأحدية الذات الإلهية، ويستشعر فيها اسم الله الصمد، وهي حالة يستشعر فيها السالك فناء كل شيء، ولكن هذا الشعور لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الله خالق، وأن هناك مخلوقاً، وأن الخالق غير المخلوق(1).
- إذن فالسالك يحس بأحدية الذات الإلهية، وقد مر معنا ماذا يعنون بعبارة أحدية الذات الإلهية، مرت في نصوص يمكن أن يقال عنها: كثيرة، وكذلك يستشعر السالك أيضاً في تلك الحالات اسم الله الصمد، أي يستشعر الصمدانية، أو الألوهية، فالمدلول الأخير للصمدانية والألوهية واحد، ويفسر استشعار الاسم الصمد، باستشعار فناء كل شيء، أي لا يشعر إلا بالله وحده في كل شيء ومع كل شيء وبكل شيء، وهذه هي وحدة الوجود.
ولكنه يقرر بأن هذا هو إحساس واستشعار، وذوق كما يقول في مكان آخر: ولكن لا بد أن يرافقه الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق.
وهكذا أوصلنا إلى مقام الفرق الثاني، الذي هو مقام الكمَّل من الرجال (الإنسان الكامل)، مع ملحوظة نبهنا إليها، كانوا فيما سلف من القرون يطلبون من الواصل أن يقول بلسانه: إن الخالق غير المخلوق، بينما في قلبه، يجب أن يعتقد بأنه هو هو، أما الآن فالشيخ يطلب من الواصل الاعتقاد- المرافق للشعور بالوحدة- أن الخالق غير المخلوق، وهذا تطور في التقية، على أننا لو تفحصنا الكلام بهدوء، لرأينا أن النتيجة واحدة.
لنأت إلى مَثَل (الماء والثلج)، فالذائق لكليهما يحس ويستشعر ويذوق أن الثلج هو نفس الماء تكثف عنه، فهو هو، ولكن لا بد أن يعتقد أن الماء غير الثلج، فمظهرهما مختلف، ودرجة حرارتهما مختلفة، وهذا مائع وهذا جامد، إذن، فالاعتقاد بأن هذا غير هذا تؤكده عدة ظواهر، وكذلك الوجود، فالملكوت غير الجبروت وبينهما عدة فروق في المظاهر، لكن الحقيقة واحدة، هي أحدية الذات الإلهية، وهي هي وحدة الوجود. وقد يقول قائل: إن هذا الاستنتاج فيه توجيه معين!
__________
(1) تربيتنا الروحية، (ص:79).(78/234)
لكن لو نظرنا في كلام الشيخ لرأينا الأمر واضحاً، فهو يقول: يحس أحدية الذات الإلهية، ويستشعر الاسم الصمد، ويذوق معنى الاسم الصمد، وهذا التصريح واضح بأن الواصل يستشعر وحدة الوجود، حيث لا شيء إلا الله، ثم يقول: لا بد من الاعتقاد بأن الخالق غير المخلوق! فكيف التوفيق بين المتناقضين؟ مع العلم أن الوحدة شيء يحسه ويستشعره ويذوقه ويتحقق به، وهذا ما يسمونه حق اليقين، بينما اعتقاد الغيرية هو شيء مفروض فرضاً (لا بد منه)! كيف التوفيق؟؟! نترك الأمر للقارئ.
ثم لننتبه إلى قول الشيخ: وهو المقام الذي زل به هؤلاء...وماذا تعني هذه العبارة؟ وأترك تحليلها للقارئ الكريم ليتسلى بها، وهي سهلة المتناول.
* وأخيراً، هذه نصوص دامغة من أقوالهم من كتبهم المعتمدة لديهم، بدءاً من الجنيد وعصره، حتى يومنا هذا، وهي غيض من فيض، فلو حاولنا جمع أقوال عارفيهم ومحققيهم في (وحدة الوجود) لاحتجنا إلى ألوف الصفحات، على أن في ما أوردناه كفاية وأكثر من كفاية.
إذن، فالصوفية كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، مع العلم أن بعضهم لم يسمعوا بعبارة: وحدة الوجود، وإنما يعرفون أن المخلوقات هي الله، وأنه يجب كتم هذه المعرفة عن العامة، ولا تقال إلا للخاصة.
ونحن، في عرضنا للصوفية، نواجه نوعين من الناس: خبثاء وبسطاء.
والبسطاء يرددون أقوال الخبثاء بسلامة صدرٍ وحسن نية.
ومن جملة ما سيقوله لنا كلا النوعين في هذا المقام: إن الصوفيين الحاليين لا يعرفون هذه الأمور! أو: إنهم الآن لا يفهمون ذلك! أو: إن هذا شيء انتهى! أو.. أو.. وما أكثر ما عندهم من اعتراضات كلها باردة وليس فيها شيء من الحق.
فسداً لذرائع أمثال هؤلاء، نورد نصوصاً معتمدة لدى الطرق الصوفية، من أورادهم وصلواتهم التي يتعبدون بها في خلواتهم واجتماعاتهم، يطبعونها في كتب يوزعونها، ويحفظون نصوصها:
* من أوراد الطريقة القادرية وقد يستعملها الآخرون:(78/235)
...الاسم الثالث (هو)، عدد تلاوته أربعة وأربعون ألفاً وستمائة مرة، وتوجهه: يا من هو الله لا إله إلا أنت هو هو هو، إلهي حقق باطني بسر هويتك، وأفن مني أنانيتي إلى أن تصل إلى هوية ذاتك العلية، يا من ليس كمثله شيء، أفنِ عني كل شيء غيرك، وخفف عني ثقل كثائف الموجودات، وامحُ عني نقطة الغيرية لأشاهدك ولا أدري غيرك، يا هو يا هو يا هو، لا سواك موجود، لا سواك مقصود، يا وجود الوجود(1)...
* ومن أوراد الطريقة القادرية أيضاً:
الحمد لله الذي كيَّف الكيْف، وتنزه عن الكيفية، وأيَّن الأيْن وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية(2)...
* ومنها:..يا أول كل شيء، ويا آخر كل شيء، ويا ظاهر كل شيء، ويا باطن كل شيء(3)..
- أقول: هذا مثل قولهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، و(ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية)، وغيرها.
* ومنها:..إلهنا فطهر قلوبنا من الدنس لنكون محلاً لمنازلات وجودك، وخلصنا من لوث الأغيار لخالص توحيدك، حتى لا نشهد لغير أفعالك وصفاتك وتجلي عظيم ذاتك(4)...
* ومنها:..رباه رباه غوثاه، يا خفياً لا يظهر، يا ظاهراً لا يخفى، لطُفَتْ أسرار وجودك الأعلى فتُرى في كل موجود، وعلت أنوار ظهورك الأقدس فبدت في كل مشهود(5)...
- وهذا أيضاً مثل قولهم: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدوسية) وما شابهها.
__________
(1) الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية، (ص:16).
(2) الفيوضات الربانية (عقيدة الغوث الأعظم)، (ص:41).
(3) الفيوضات (ورد الصبح)، (ص:115).
(4) الفيوضات (ورد العشاء)، (ص:138).
(5) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:143).(78/236)
* ومنها: ..رب أشهدني مطلق فاعليتك في كل مفعول حتى لا أرى فاعلاً غيرك، لأكون مطمئناً تحت جريان أقدارك، منقاداً لكل حكم ووجود عيني وغيبي وبرزخي، يا نافخاً روح أمره في كل عين، اجعلني منفعلاً فى كل حال لما يحولني عن ظلمات تكويناتي، وألحق فعلي وفعل الفاعلين في أحدية فعلك(1)...
* ومن أوراد القادرية أيضاً:
إلهي عم قِدَمُك حَدَثي ولا أنا، وأشرق سلطان نور وجهك فأضاء هيكل بشريتي فلا سواك، فما دام مني فبدوامك، وما فني مني فبرؤيتي إليك، وأنت الدائم لا إله إلا أنت، أسألك بالألف إذا تقدَّمَتْ، وبالهاء إذا تأخرت، وبالهاء مني إذا انقلبت لاماً، أن تفنيني بك عني، حتى تلتحق الصفة بالصفة، وتقع الرابطة بالذات(2)...
- أقول: (الألف إذا تقدَّمَتْ، والهاء إذا تأخرت، والهاء مني إذا انقلبت لاماً)، هذا لغز أرجو من لقارئ أن يتسلى بحله قبل قراءة هذا الحل في السطور التالية.
الحل: أمامنا في هذا اللغز ثلاثة عناصر: الألف المتقدمة، والهاء المتأخرة، واللام (المنقلبة عن الهاء منه)؟
بما أن الألف متقدمة والهاء متأخرة، إذن، فاللام متوسطة بينهما، ويكون اللغز هو كلمة (إله).
ويحوي هذا اللغز لغزاً آخر هو قوله: (والهاء مني)، التي يعني بها: الهاء من الضمير (هو) العائد عليه. وأترك للقارئ التسلي بتحليله وإلى ماذا يشير؟
* ومن أورادهم: ...يا هو يا الله (ثلاثاً) لا إله غيرك، أسقنا من شراب محبتك، وأغمسنا في بحار أحديتك، حتى نرتع في بحبوحة حضرتك، وتقطع عنا أوهام خليقتك(3)...
* ومنها: اللهم صل وسلم على من له الأخلاق الراضية...الأنيس بك والمستوحش من غيرك، حتى تمتع من نور ذاتك، ورجع بك لا بغيرك، وشهد وحدتك في كثرتك(4)...
__________
(1) الفيوضات (ورد الاثنين)، (ص:144).
(2) الفيوضات (ورد الأربعاء)، (ص:145).
(3) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).
(4) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:158).(78/237)
* ومنها: ...وطهِّرنا من قاذورات البشرية، وصفّنا بصفاء المحبة الصديقية من صدأ الغفلة ووهم الجهل، حتى تضمحل رسومنا بفناء الأنانية ومعاينة الطمسة الإنسانية في حضرة الجمع، والتحلية، والتحلي بألوهية الأحدية، والتجلي بالحقائق الصمدانية في شهود الوحدانية، حيث لا حيث ولا أين ولا كيف، ويبقى الكل لله وبالله ومن الله وإلى الله ومع الله غرقاً بنعمة الله في بحر منة الله(1)...
* ومنها: ...صلاةً هو لها أهل، صلاة تفرّج بها عنا هموم حوادث عوارض الاختيار، تمحو بها عنا ذنوب وجودنا بماء سماء القربة، حيث لا بين ولا أين ولا جهة ولا قرار، وتفنينا بها عنا في غياهب غيوب أنوار أحديتك، فلا نشعر بتعاقب الليل والنهار، وتحولنا بها سماح رياح فتوح حقائق بدائع جمال نبيك المختار، وتلحقنا بها أسرار ربوبيتك في مشكاة الزجاجة المحمدية، فتضاعف أنوارنا بلا أمد ولا حد ولا إحصار(2).
* ومن أورادهم:
...وأيدني اللهم عند شهود الواردات بالاستعداد والاستبصار، وأفض علي من بحار العناية المحمدية والمحبة الصديقية ما أندرج به في ظُلَم غياهب عيون الأنوار، واجمعني واجعل لي بين سرِّك المكنون الخفي والاستظهار، واكشف لي عن سر أسرار أفلاك التدوير في حواشي التصوير، لأدبركل فلك بما أقمته من الأسرار، واجعل لي الحظ الخطير الممدود القائم بالعدل بين الحرف والاسم، فأحيط ولا أُحاط، بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16](3).
- الرجاء الانتباه بإمعان إلى الجملة (فأحيط ولا أُحاط..)! وبأي إحاطة؟! بإحاطة: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) [غافر:16]!! وفهمكم كفاية.
__________
(1) الفيوضات (ورد صلاة الكبرى)، (ص:167).
(2) الفيوضات، (ص:177).
(3) الفيوضات، (حزب الحفظ)، (ص:183، 184).(78/238)
- ومن الجدير بالملحوظةأن الطريقة القادرية (بل كل الطرق الصوفية) تتبنى عينية عبد الكريم الجيلي، التي مر أبيات كثيرة منها، يتبنونها على أنها من نظم عبد القادر الجيلاني. ولا يهمنا نسبتها لهذا أو لذاك، وإنما الذي يهمنا هو تبنيهم لها، ويستطيع القارئ الرجوع إليها في صفحات سابقة، ولا بأس من إيراد بيتين منها:
وما الخلق في التمثال إلا كثلجة ……وأنت لها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ……وغيران في حكمٍ دعته الشرائع
* ومن أوراد الطريقة الرفاعية (ويستعملها غيرهم):
...فكفى به برهان عين علمك المكنون، ببحر سر معنى (ن)، ودقيقة أمرك المصون، بتجلي بهاء إشارة كُن فيكون، واسطة الكل في مقام الجمع، ووسيلة الجمع في تجلي الفرق، رحمة للعالمين قبل العالمين(1)..
* ومن أوراد الرفاعية من (صلاة الأنس):
...اللهم صل على ألف إنس إنسان الأزل، بحكمة باء برهان من لم يزل، أصل الأشياء الكلية، آدم في حقيقة البداية، أثر السر في آثار خفايا المظاهر الخفية، أول الكل في أول الأولوية...المتجلّي في سماء المعرفة بظهور مظهر شهادة الرحمن، محمدي الذات، المدلي إلى قاب الوحدة بتجلي موكبَي العناية والإحسان...أصل السبب في الإيجاد، فالكل منه والكل إليه، خزانة الأسرار، فالوارد والذاهب عنه وإليه(2)...
* ومن أورادهم:
اللهم صل على المتخلق بصفاتك، المستغرق في مشاهدة ذاتك، رسول الحق، المتخلق بالحق، حقيقة مدد الحق: ((أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [يونس:53]...وقد جعلت كلامك خلقه، وأسماءك مظهره، ومنشأ كونك منه(3)...
* ومنها: اللهم اجمعنا بك عليك، واردُدْنا منك إليك، وأرشدنا في حضرة جمع الجمع، حيث لا فرقة ولا منع(4)...
__________
(1) قلادة الجواهر، (ص:251).
(2) قلادة الجواهر، (ص:263).
(3) بوارق الحقائق، (ص:326).
(4) بوارق الحقائق، (ص:328).(78/239)
* ومنها: اللهم بك توسلت.. أن تصلي عليه صلاة أبدية ديمومية قيومية إلهية ربانية، تصفينا بها من شوائب الطبيعة الآدمية بالسحق والمحق، وتطمس بها آثار وجودنا الغيرية عنا في غيب غيب الهوية، فيبقى الكل للحق في الحق بالحق(1)...
* ومن الأدعية التيجانية (ويستعملها غيرهم):
اللهم حققني بك تحقيقاً يسقط النسب والرتب والتعيينات والتعلقات والاعتبارات والتوهمات والتخيلات، حيث لا أين ولا كيف ولا رسم ولا علم ولا وصف ولا مساكنة ولا ملاحظ، مستغرقاً فيك بمحو الغير والغيرة بتحقيقي بك من حيث أنت كما أنت وكيف أنت، حيث لا حس ولا اعتبار إلا أنت بك لك عنك منك، لأكون لك خالصاً وبك قائماً وإليك آيباً وفيك ذاهباً بإسقاط الضمائر والإضافات(2)...
* ومن أدعيتهم (ياقوتة الحقائق):
الله الله الله، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديتك. التي شئت فيها بوجود شئونك، وأنشأت من نورك الكامل نشأة الحق، وأنطقتها وجعلتها صورة كاملة تامة تجد منها بسبب وجودها من انفراد أحديتك قبل نشر أشباحها، وجعلت منها فيها بسببها انبساط العلم، وجعلت من أثر هذه العظمة ومن بركاتها شبحة الصور كلها، جامدها ومتحركها، وأنطتها بإقبال التحريك والتسكين، وجعلتها في إحاطة العزة من كونها قبلت منها وفيها ولها، وتشعشعت الصورُ البارزة بإقبال الوجود، وقدرت لها وفيها ومنها ما يماثلها مما يطابق أرقام صورها، وحكمت عليها بالبروز لتأدية ما قدرته عليها، وجعلتها منقوشة في لوحها المحفوظ الذي خلقت منه ببركته، وحكمت عليها بما أردت لها وبما تريد بها، وجعلت كل الكل في كلك، وجعلت هذا الكل من كلك، وجعلت الكل قبضة من نور عظمتك روحاً لما أنت أهل له(3)...
* وفي الطريقة النقشبندية:
__________
(1) بوارق الحقائق، (ص:340).
(2) ميزاب الرحمة الربانية، (ص:23).
(3) الميزاب، (ص:25).(78/240)
مر معنا قول الشيخ سلامة العزامي(1) واصفاً شيخه أمين الكردي:
...وكان يرى أن القول بوحدة الوجود من سُكر الوقت وغلبة الحال، يعذر صاحبه إذا كان مغلوباً، ولا يصح تقليد غيره له(2)...
ويقول محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي(3):
...الإسراف السابق لا ينافي الجذب اللاحق، لأن كثيراً من الأولياء الأكابر جذبتهم الواردات الإلهية وهم في الإسراف والمعصية، وأما الإسراف اللاحق، إذا لم يغلب على الخير، بل كان الأمر بالعكس، فلا يُحْكَم به على هلاك صاحبه جزماً والطعن في حاله...واعلم أن الجذب وحده من غير سلوك في الطريق المستقيم بامتثال أوامر الحق تعالى والاجتناب عن نواهيه لا نتيجة له أصلاً...وكذلك السلوك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي من غير جذب إلهي لا نتيجة له غير الدخول في حيز العلماء والعباد من أهل الظاهر(4)...
- وطبعاً، الجذبة هي التجلي الإلهي، وفيها يحصل التحقيق بالأسماء الإلهية، والاستشعار بالاسم الصمد، أو بالألوهية.
* ومن أذكار النقشبندية (ذكر النفي والإثبات) أي: (لا إله إلا الله) جاء في آدابه:
__________
(1) أحد علماء الأزهر، عاش إلى ما بعد سنة (1343هـ)، ولم أقف على أكثر من هذه المعلومات، إلا أنه كان خليفة الشيخ أمين الكردي.
(2) تنوير القلوب، ترجمة المؤلف، (ص:42).
(3) بغدادي، من خلفاء الخالدية، نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي، توفي سنة (1234هـ).
(4) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية، (ص:107).(78/241)
...ضارباً بلفظ الجلالة على القلب منفذاً إلى قعره، بقوةٍ يتأثر بحرارتها جميع البدن، مع ملحوظة معنى هذه الجملة، وهو أنه لا مقصود إلا ذات الله تعالى، وينفي بشق النفي (لا إله) جميع المحدثات الإلهية، وينظرها بنظر الفناء، ويثبت بشق الإثبات (إلا الله) ذات الحق تعالى، وينظره بنظر البقاء...ويقول بقلبه قبل إطلاق كل نَفَس: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي،... فإذا انتهى العدد إلى أحد وعشرين، تظهر له نتيجة هذا الذكر المبارك، وهي النسبة المعهودة عند سادتنا النقشبندية من الذهول والاضمحلال والاستغراق في شهود المذكور تبارك وتعالى(1)...
- والنقشبندية ينبهون إلى ما يلي: مَن كان مستعداً لتقدم الجذبة على السلوك، لقنه الشيخ الذكر الأول (الله الله..)، ومَن كان مستعداً لتقدم السلوك على الجذبة، لقنه الذكر الثاني (لا إله إلا الله)(2)...ومن أصولهم: (الأصل الرابع: المراقبة):
اعلم أيها الأخ أن المراقبة هي عِلمُ المريد وتحققه باطلاع الله عليه، واستغراقه بمشاهدة الحق، واستهلاكه بالحضور الإلهي، وملازمة القلب لذلك، فإذا انتهى أمر السالك في المراقبة إلى انتفاء علمه بنفسه وبالأكوان، حصل له مبادي الفناء، وحينئذ يليق له أن يذكر باللسان: لا إله إلا الله، مع التدبر الحقيقي، وأقله خمسة آلاف في اليوم والليلة، فإذا فني عن فنائه، وهو المسمى: بالفناء التام، أو مبادي البقاء، حصل له أول درجة من درجات الولاية الصغرى، فإذا تم له البقاء تشرف بالولاية الكبرى(3)...
- نصوص النقشبندية هذه توضح لنا معنى الولاية، وعلاقة (ذوق معنى الأسماء الإلهية) بالجذبة، وعدم علاقة الجذبة بالأعمال الصالحة ولا بالسلوك.
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية، (ص:34).
(2) السعادة، (ص:34، 35).
(3) السعادة، (ص:35).(78/242)
* ومن الأوراد الشاذلية (وغيرهم يستعملها): مر معنا قولهم في الصلاة البشيشية- أو المشيشية-: وزج بي في بحار الأحدية وانشلْني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس الا بها(1)...
* ومما جاء في الوظيفة الشاذلية (الممزوجة بصلاة سيدي عبد السلام بن بشيش، وتقرأ صباحاً ومساءً):
...اللهم صل وسلم بجميع الشئون، في الظهور والبطون، على مَن منه انشقت الأسرار الكائنة في ذاته العلية ظهوراً.. وفيه ارتقت الحقائق منه إليه، وتنزلت علوم آدم به فيه عليه.. ولا شيء إلا وهو به منوط، وبسره الساري محوط.. اللهم إنه سرك الجامع لكل الأسرار، ونورك الواسع لجميع الأنوار...اللهم ألحقني بنسبه الروحي.. وعرفني إياه معرفة أشهد بها محياه وأصير بها مجلاه...وسر بي في سبيله القويم وصراطه المستقيم إلى حضرته المتصلة بحضرتك القدسية...وزج بي في بحار الأحدية المحيطة بكل مركبة وبسيطة، وانشلني من أوحال التوحيد إلى فضاء التفريد المنزه على الإطلاق والتقييد، وأغرقني في عين بحر الوحدة شهوداً، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها نزولاً وصعوداً، كما هو كذلك لن يزال وجوداً...وأيدني بك لك بتأييد من سَلَك فملك، ومن ملك فسلك، واجمع بيني وبينك، وأزل عن العين غينك، وحل بيني وبين غيرك.. الله، منه بدأ الأمر، الله، الأمر إليه يعود، الله، واجب الوجود وما سواه مفقود(2)...
* ومن أورادهم (مناجاة ابن عطاء الله وتُقرأ وقت السحر):
__________
(1) النفخة العلية في الأوراد الشاذلية، (ص:16).
(2) النفحة العلية، (ص:18).(78/243)
...إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما أيأستني أوصافي أطمعتني منتك.. وتردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك...أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك...وحققني بحقائق أهل القرب واسلك بي في مسالك أهل الجذب.. أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك، وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك...يا من أذاق أحبّاه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه مؤتلفين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيأته فقاموا بعزته مستعزين...فاطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أُقْبلَ عليك...وأنت تعرفت لي في كل شيء فرأيتك ظاهراً في كل شيء...ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار(1)...
* ومن حزب الفتح لسيدي أبي الحسن الشاذلي:
.. ونسألك الإحاطة بالأسرار.. وجلّت إرادتك أن يوافقها أو يخالفها شيء من الكائنات، حسبي الله (ثلاثاً) وأنا بريء مما سوى الله..(2).
- يُرجى من القارئ أن ينتبه لقوله: (وأنا بريء مما سوى الله) في معنييها، الظاهر والصوفي، وأن يلاحظ مدى شمول البراءة في المعنى الظاهر!!
* ومن حزب اللطيف لسيدي أبي الحسن الشاذلي قدس سره:
...إلهي لطفك الخفي ألطف من أن يُرى، وأنت اللطيف الذي لطفت بجميع الورى، حجبت من سريان سرك في الأكوان فلا يشهده إلا أهل المعرفة والعيان، فلما شهدوا سر لطفك بكل شيء أَمنوا به من سوء كل شيء..(3).
* ومن الأوراد الخلوتية من (الدرة الشريفة) للعارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشريف:
__________
(1) النفحة العلية، (ص:24، 25، 26).
(2) النفحة العلية، (ص:144).
(3) النفحة العلية، (ص:155).(78/244)
...صل اللهم عليه أكمل صلوات بدوام التنزيلات العارية عن السوى، وأَبْدِا التنقلات المخبآت عن من التوى، ما بَطَنَ الباطنُ بانطوائه في الوجود، وبدأ الظهور فعم بصائرأهل الشهود...وبجلال صولة عنايتك القهرموتية، صفِّ بواطننا من الأغيار، وظواهرنا من الأكدار، صفاءً صفّته يدُ جذباتك، ففاز بمعالي قرباتك، حتى نخرج من وبال عضال أطوار البشرية، ونراقبك من دون غيرية، ونشهد حضرتك من غير معية...(1).
* ومن أورادهم من الصلوات الدرديرية:
...وأنعم علينا بتجلي الأسماء والصفات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأغرقنا في عين بحر الوحدة السارية في جميع الموجودات، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأبقنا بك لا بنا في جميع اللحظات، وأذقنا لذة تجلي الذات، وأدمها علينا ما دامت الأرض والسماوات(2). للعلم: الصلوات الدرديرية هي صلوات (بشكل أوراد) متفرقة لمتصوفة سابقين، جمعها أحمد الدردير وتبناها وأضاف إليها؟ وهي بذلك مثل دلائل الخيرات..
* ومن ورد السحر، للعارف بالله الشيخ مصطفى البكري: اللهم رقق حجاب بشريتي بلطائف إسعاف من عندك، لأشهد ما انطوت عليه من عجائب قدسك...(3).
* ومنه: إلهي! صرِّفنا في عوالم الملك والملكوت، وهيئنا لقبول أسرار الجبروت، وأفض علينا من رقائق دقائق اللاهوت(4).
* ومنه: إلهي! نحن الأسارى فمن قيودنا فأطلقنا...نسألك بأهل عنايتك الذين اختطفتهم يد جذباتك، وأدهشتهم سناء تجلياتك، فتاهوا بعجيب كمالاتك...(5).
* ومن أورادهم (الخلوتية):
__________
(1) مجموع أوراد الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، (ص:3).
(2) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف التاء).
(3) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الراء).
(4) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الصاد).
(5) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف النون).(78/245)
"...اللهم افتح لنا أقفال قلوبنا بمفاتيح عنايتك...اللهم جذبة من جذباتك تكشف حجات الوهم عن عين اليقين، ونفحة من نفحاتك نلتمس بها مراتب أهل الرسوخ والتمكين...(1).
* ومنها:
ندعوك يا الله بالآيات والذ……كر الحكيم بمظهر الأسماء
بالسكر بالغيبات من صحوٍ ……كذا بالشرب والري العلي ثناء
بالزاجرات وأهلها ومقامهم ……وبسيرهم من عالم الأشياء
وبوحدة الذات العلي ووصفها ……وبوحدة الأفعال يا مولائي
وبوحدة الأسما الكثيرة خصنا ……بالجمع ثم بجمعه الأسماء
بالفرق رب وفرقه زل غيننا ……عن عين حقك يا بديع سماء
وأنلنا معرفة اليقين وعينه ……بالحق وامح الغير من أحشائي
بالرؤية اللاتي بكم منكم لكم ……وبوجد أهل الله دم لي هنائي
بفنائهم وصفائهم أفنِ الفؤاد ……عن السوى واجعلنا أهل صفاء
واجعلنا من أهل الرسوخ بجمعنا ……وأدم سلوك عبيدك الضعفاء
بهوية السريان في كل الورى ……بالمحق امحق يا إلهي شقائي
بالهو والتجريد جردنا عن الـ ……أغيار وأفردنا بكل علاء
بالهوت واللاهوت والملكوت والـ ……ـجبروت صف السير من وعثائي
بالجذب ثم بأهله اشقِ الفتى ……من فيض سر قد سما ببهاء
بالصحو أرجعنا إلى الإحساس من ……بعد الهباء وغيبة النزلاء(2)
- تبلغ القصيدة اثنين وأربعين بيتاً، تحتوي اصطلاحات الصوفية، أو أهمها، وهي أدعية، كما نرى، يطلب بها الوصول إلى الجذب وما يستشعره المجذوب ويذوقه من الوحدة. والشاعر الذي قال هذه القصيدة ضعيف باللغة والشعر! فكشفه لم يسعفه!
* ومن أورادهم:
وهب لي أيا رباه كشفاً مقدساً ……لأدري به سر البقاء مع الفنا
وجد لي بجمع الجمع فضلاً ومنة ……وداوِ بوصل الوصل روحي من الضنا
وسر بي على النهج القويم موحداً ……وفي حضرة القدس المنيع أحلنا
ومن علينا يا ودود بجذبة ……بها نلحق الأقوام من سار قبلنا(3)
__________
(1) مجموع أوراد الخلوتية، (حزب السين).
(2) مجموع أوراد الخلوتية، (حرف الهمزة).
(3) مجموع أوراد الخلوتية (منظومة أسماء الله الحسنى).(78/246)
* ومن أوراد الطريقة الرشيدية (الصلوات الإدريسية): ...وتجل لي يا إلهي باسم الذات، الاسم الله، مرجع الصفات والأسماء الحفية توحيداً صرفاً، تجلياً ينسف بصرصر عظمته وكبريائه جبال الخيالات الخَلْقية في نظري نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً، فتزول غشاوة عمش الأغيار عن بصري وبصيرتي، بل وعن ذاتي كلها، حتى تكون ذاتي كلها عيناً ذاتية إلهية من جميع الوجوه، وأكون كلي وجهاً واحداً إلهياً لا أعلم من جميع جهاتي ولا أشهد ولا أرى في (إياي) وفي كل شيء وفي لا شيء إلا إياك..(1).
* ومنها: اللهم صل على مظهر العظمة الإلهية(2)، جمعية عيون الحقائق الرحموتية(3)، سر ملكوت الأسماء المعبر عنه بالعماء قبل خلق أرض وسماء(4)، ساذج الذات الإحاطية الوجود، نقطة دائرة الكمال الإلهي في الغيب والشهود السذاجة الصرافة(5)، غيب هو(6)، فصل اللهم عليه بهُوَ، في هُوَ، كله هُوَ..(7).
* ومن الصلوات الإدريسية (الرشيدية) أيضاً:
...أن تصلي على النور الذاتي، والمنظر الصفاتي، مجلِّي الحقائق القرآنية، صورة مادة التجليات الفرقانية(8)، الحاجز بين خلقك وسبحات وجهك، كل الكل، في سر تجلي كل الكل(9)، حيث الكل للكل فيوض الجمال والجلال والكمال، من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث، فصل اللهم عليه وسلم من حيث لا حيث إلى حيث لا حيث في حيث لا حيث كما أنت حيث لا حيث...(10).
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:16، 17).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:58).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:61).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:62).
(5) النفحات الأقدسية، (ص:63).
(6) النفحات الأقدسية، (ص:66).
(7) النفحات الأقدسية، (ص:69).
(8) النفحات الأقدسية، (ص:76).
(9) النفحات الأقدسية، (ص:79).
(10) النفحات الأقدسية، (ص:80).(78/247)
* ومنها: اللهم صل على الذات الكنه، قبلة وجوه تجليات الكنه(1)، عين الكنه في الكنه، الجامع لحقائق كمال كنه الكنه، القائم بالكنه في الكنه للكنه، صلاةً لا غاية لكنهها دون الكنه، وعلى آله وصحبه وسلم، كما ينبغي من الكنه للكنه، اللهم إني أسألك بنور الأنوار الذي هو عينك لا غيرك(2)..
* ومنها الصلاة السادسة:
اللهم صل على أم الكتاب، كمالات كنه الذات، عين الوجود المطلق، الجامع لسائر التقييدات(3)، صورة ناسوت الخلق، معاني لاهوت الحق، الناظر بالكل في الكل من الكل للكليات والجزئيات، كوثر سلسبيل منهل حوض مشارب جميع التجليات(4)، الملتذ بصورة نفسه في جنة فردوس ذاته بنظره به منه إليه فيه(5)....روح ذات الوجود، مجمع حقائق اللاهوت المشهود(6)...مبدأ الكل ومرجع الكل وهو الكل في الكل بلا بعض ولا كل..(7).
* ومنها الصلاة العاشرة:
اللهم صل على سلطان حضرة الذات(8)، مالك أزمة تجليات الصفات، قطب رحا عوالم الألوهية(9)...جمع الجمع وفرق الفرق من حيث لا جمع ولا فرق(10)...
- الصلوات الإدريسية هذه هي من أوراد الطريقة الرشيدية، وتظهر فيها وحدة الوجود مع الحقيقة المحمدية بوضوح تام، والحقيقة المحمدية هي الجزء الأهم في عقيدة وحدة الوجود.
* وفي الطريقة الأويسية (منتشرة في إيران):
يقول الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، مخاطباً شيخ الطريقة مولانا محمد صادق عنقا(11):
__________
(1) النفحات الأقدسية، (ص:102).
(2) النفحات الأقدسية، (ص:104).
(3) النفحات الأقدسية، (ص:106).
(4) النفحات الأقدسية، (ص:107).
(5) النفحات الأقدسية، (ص:109).
(6) النفحات الأقدسية، (ص:118).
(7) النفحات الأقدسية، (ص:125).
(8) النفحات الأقدسية، (ص:227).
(9) النفحات الأقدسية، (ص:231).
(10) النفحات الأقدسية، (ص:281).
(11) كان هذا في لقاء بينهما عام 1974م في قرية (صوفي آباد) وهي لا تبعد كثيراً عن طهران.(78/248)
...ومن ناحية أخرى، فإني أدركت من خلال دراسة كتبكم وتفحيصها، وأيقنت من ثنايا تتبع خطكم الفكري، أنكم تؤمنون بأن الحقيقة واحدة، ولكنها تنطق في كل زمان بلسان مختلف، وأن الله واحد والوجود كله ناطق بكلماته، وأن ذات الموجودات هي ذات الحق، وأن الشيء الذي كان يظن أولاً أنه ذات مغايرة لذات الحق، ليس شيئاً في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق كما يقول ابن طفيل(1).
أخيراً..
إن في هذه النصوص الوحدوية المقدمة حتى الآن، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية، للدلالة على أن وحدة الوجود هي عقيدة القوم التي تقوم عليها الصوفية، فالصوفية هي وحدة الوجود مغلفة بالتقية، ووحدة الوجود المغلفة بالتقية هي الصوفية.
وهناك كتاب لا يكاد يخلو منه مسجد ولا بيت، يكاد يكون مقدساً لدى كل الطرق الصوفية، إنه كتاب: دلائل الخيرات، لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن سليمان الجزولي السملالي.
إن كتاب (دلائل الخيرات) معتبر لدى كل الطرق الصوفية، يقرأ صباحاً ومساءً كل يوم، بل هو معتبر عند كثير ممن لا ينتمون إلى الصوفية. ومما جاء فيه:
...وفقني لاتباعه والقيام بآدابه وسننه، واجمعني عليه، ومتعني برؤيته، وأسعدني بمكالمته، وارفع عني العلائق والعوائق والوسائط والحجاب، وشنِّف سمعي معه بلذيذ الخطاب(2)...
- أنبه هنا إلى أن الذي يحتاج إلى توضيح معاني هذه العبارات، بعد مئات الصفحات السابقة، مثل هذا الإنسان عليه أن يشكو حاله إلى الله جل شأنه.
ومما جاء فيه:
...الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو(3)...
ومما جاء فيه أيضاً (صلوات الذات):
__________
(1) من الفكر الصوفي الإيراني المعاصر، (ص:68). وابن طفيل فيلسوف أندلسي مشهور، وهو مؤلف كتاب: حي بن يقظان.
(2) دلائل الخيرات، (ص:15).
(3) دلائل الخيرات، (ص:223).(78/249)
اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات، وسره الساري في جميع الأسماء والصفات(1)...
- نكتفي بهذا القدر من النصوص الوحدوية، ففيه، كما قلنا، كفاية وكفاية، وأكثر من الكفاية.
وهذه النصوص، رغم كثرتها، ما هي إلا جزء ضئيل من عباراتهم المشيرة إلى وحدة الوجود، والتي لو جمعت لملأت ألوفاً من الصفحات.
وكثير من أقوالهم ونصوصهم الوحدوية التي أهملتُها، هي أكثر وضوحاً من بعض ما أوردته على صفحات هذا الكتاب؛ لكني أهملت تلك، وأوردت هذه، لأقدم للقارئ أكثر ما يمكن من أنواع عباراتهم ورموزهم وإشاراتهم وألغازهم.
البحر لا شك عندي في توحده ……وإن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغزنك ما شاهدت من صور……فالواحد الرب ساري العين بالعدد
(التلمساني)
النتيجة:
من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
- الصوفية هي وحدة الوجود والطريقة التي توصل السالك إلى ذوقها واستشعارها.
- يعلمون أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، لذلك يتواصلون بكتمانها عن غير أهلها.
- كلهم يؤمنون بها من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، عارفهم وأميهم، مشهورهم ومجهولهم، لكنهم يكتمونها عن المبتدئين حتى يتأكدوا من إخلاصهم.
- عندما نسمع بعبارة (الصوفية الحقة)، فهي تعني شيئاً واحداً ليس غير، إنها تعني (وحدة الوجود)، والطريق المؤدية إليها، ثم كتمانها عن غير أهلها.
- من أجل التعمية على أهل الظاهر -أهل الشريعة- أوجد لهم سيدهم الجنيد مصطلحات خاصة بهم، يسجلون بها أوهامهم في كتبهم وينقلونها إلى مريديهم.
- وزيادة في التزوير والخداع، اخترعوا أحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بها عقيدتهم.
- وزيادة في التزوير والخداع، أولوا بالباطل آيات القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤيدوا بالتأويل الباطل عقيدتهم.
__________
(1) دلائل الخيرات، (ص:233).(78/250)
- وزيادة في التزوير والخداع، ومن أجل التلبيس على البسطاء والسذج نشروا بين الناس أن عقيدتهم تعتمد على القرآن والسنة، وأنها لا تناقض القرآن والسنة، وأنها مؤيدة بالقرآن والسنة؟
- وزيادة في التزوير والخداع الذي لا حدود له، قالوا: إن طريقتهم هي الزهد وتربية النفس، وأنها السير إلى الله والعروج إليه.
- وبإيحاء شياطينهم وأوهامهم، سموا أنفسهم بأسماء فيها من الجرأة على الله سبحانه، وتحدي قرآنه وسنة رسوله ما تجاوز كل حد وكل ذوق، حتى جعلوا أنفسهم يتصرفون في الكون، وحتى جعلوا أنفسهم أو جعلوا الواصلين منهم، متحققين بالاسم الأعظم (الله) أي: أن الواصل هو الله.
فهم العارفون الصديقون الصادقون المقربون الأولياء الصالحون الأتقياء الأنقياء، رغم جهلهم وضلالهم وكذبهم وبعدهم عن الشريعة الإسلامية، وتوليهم الشيطان وممارستهم طقوساً لا تمت إلى الإسلام بصلة، وتأليههم البشر والقبور والحجارة والشجر، وهم يطبقون هذا التأليه عملياً وينكرونه نظرياً أمام أهل الظاهر (أهل الشريعة)، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وللحقيقة. إنهم كلهم مشايخهم ومريديهم (إلا النادر من المبتدئين) يؤمنون بأنهم على حق فيما هم عليه، وأنه هو ما يسمونه: مقام الإحسان، وعندما يكذبون ويتاقون فهم يرون أن هذا هو الحكمة الإلهية، التي أرادها الله لعباده!
ومن العجب أن هذه الحكمة مفروضة فقط على متصوفة المسلمين، أما الهندوس والبوذيون والطاويون والجينيون فليست مفروضة عليهم، لأنهم يقولون بوحدة الوجود بكل صراحة، والفرق بين المتصوفة وبين أهل تلك الأديان، أن المتصوفة يكذبون ويجعلون الله سبحانه وتعالى مثلهم، بحجة أنه يغار على السر (جل وعلا علواً كبيراً).
* لا حلول ولا اتحاد:(78/251)
يتردد بين كثير من العلماء، وفي بعض الكتب، أن المتصوفة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم يؤمنون بالحلول، وقسم يؤمنون بالاتحاد، وقسم يؤمنون بوحدة الوجود. ويجعلون الحلاج مثلاً للحلوليين، وعمر بن الفارض مثلاً للاتحاديين.
* ومعنى الحلول: أن الله سبحانه وتعالى عما يصفون خلق الخلق، وحل فيه، كما يحل الإنسان في الثوب الذي يلبسه، أو كما يحل الماء في التراب عند مزجه، فيكونان بذلك اثنين متماسَّين تعالى الله.
* ومعنى الاتحاد: أنه سبحانه خلق الخلق واتحد به، وضرب بعضهم مثلاً لذلك: اتحاد الماء بالخمر، مع أن هذا هو حلول في حقيقته وليس اتحاداً، وأصح منه مثلاً: اتحاد الكلور مع الصوديوم حيث يشكلان ملح الطعام. فيكونان بذلك متحدين، أومتماسَّين بالاتحاد.
* أما وحدة الوجود: فقد عرفناها جيداً من النصوص السابقة، إنها تعني أنه ليس في الوجود إلا واحد هو الله، وكل ما نرى هو أجزاء منه تتعين بأشكال مختلفة، بما في ذلك أنا وأنت وهو وهي وهما وهم وهن، والأرض والشمس والقمر والنجوم والملائكة والجن، بما في ذلك الشياطين والحيوانات والحشرات.
والحقيقة، أن هذا التقسيم وهم لا حقيقة له في الواقع، فجميع متصوفة المسلمين من أولهم إلى آخرهم هم على مذهب (وحدة الوجود)، وكل ما مر هو براهين على ذلك، نضيف إليه قولاً للحلاج ينفي الاثنينية، وآخر لعمر بن الفارض ينفي به الاثنينية أيضاً، وأقوالاً لبعضهم تنفي الحلول والاتحاد.
يروى عن عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد قال:
...قلتُ له (أي: للحلاج): كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين، وليس مع الله أحد. فقلت: بيِّن! قال: مَن لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا، ثم قال:
أأنت أم أنا هذا في إلهين ……حاشاك حاشاك من إثبات اثنين(1)
ويقول عمر بن الفارض:
وما شانَ هذا الشأْنَ منك سوى السوى ……ودعواه حقاً عنك إن تُمْحَ تثبت
__________
(1) أخبار الحلاج، (ص:57).(78/252)
كذا كنت(1) قبل أن يُكشف الغطا ……من اللبس لا أنفك عن ثنوية
متى حلتُ عن قولي (أنا هي) أو أقل ……-وحاشا لمثلي- (أنها فيَّ حلَّت)
وسرُّ (بلى)(2) لله مرآةُ كشفها ………وإثباتُ معنى الجمع نفيُ المعية(3)
وأقوالهم في استنكار الحلول والاتحاد ونفي وجود من يؤمن بهما كثيرة، نكتفي منها برشفات:
يقول الطوسي، صاحب اللمع (عنواناً لباب في كتابه): باب في ذكر غلط الحلولية وأقاويلهم، على ما بلغني، فلم أعرف منهم أحداً، ولم يصح عندي شيء غير البلاغ(4).
ويقول محمود أبو الفيض المنوفي:
...فمَنْ مِن الصوفية يا ترى يعتقد أن الذات الإلهي العظيم المقدس المنزه الذي لا يحيط به شيء، ولا يحتويه شيء من المكان على سعته، ولا الزمان على امتداده، يتحد أو يحل بشيء من مخلوقاته، إلا أن يكون جاهلاً بالتصوف وبالإسلام، أومدعياً أو متطفلاً على التصوف والإسلام، وإذن فلْيَكُفَّ المتخرصون الجاهلون عن تخرصهم بغير علم عن التصوف الحق وأهل التصوف، وليدعوا أمر الخالق الذي له في خلقه الكثير من الشئون(5).
* ملحوظة: لقد أحسن عندما فرق بين التصوف والإسلام.
ويقول ابن عجيبة:
...فلا وجود للأشياء مع وجوده، فانتفى القول بالحلول، إذ الحلول يقتضي وجود السوى حتى يحل فيه معنى الربوبية، والفرض أن السوى عدم محض فلا يُتصور الحلول..:
ونزهه في حكم الحلول فما له ……سوى وإلى توحيده الأمر راجع
__________
(1) ليستقيم الوزن يجب أن تكون (كذا كنت قدماً أو حيناً)...
(2) كلمة (بلى) يشير بها إلى الآية: ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى...)) [الأعراف:172].
(3) الأبيات، التائية الكبرى.
(4) اللمع، (ص:541).
(5) معالم الطريق إلى الله، (ص:410).(78/253)
فقد تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد هو اقتران القديم مع الحادث، فيتحدان حتى يكونا شيئاً واحداً، وهو محال، إذ هو مبني أيضاً على وجود السوى، ولا سوى، وقد يطلقون الاتحاد على الوحدة كقول ابن الفارض:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا ……اتحاداً ولا جرم تخلله جرم(1)
ويقول محمد بهاء الدين البيطار:
...فالمظاهر عين الظاهر، فليس إلا الله بلا مزج ولا حلول ولا اتحاد، بل القوم بريئون من جميع ذلك والله على ما نقول وكيل(2).
الملحوظات:
نلاحظ في هذه النصوص (وكثير غيرها) ما يلي:
1- ينفون وجود من يؤمن بالحلول أو بالاتحاد، لأن ذلك يقتضي أن في الوجود موجودين، خالقاً ومخلوقاً، أو حسب تعبيرهم، الحق والسوى، وبما أنهم كلهم يؤمنون أن السوى لا وجود له، إذن فلا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول أو الاتحاد.
2- الحلاج يتبرأ من الاثنينية وينزه الخالق عن إثبات اثنين، إذن فهو لا يقول بالحلول.
3- ينفي ابن الفارض الاثنينية(3)، وينفي وجود المعية مع الحق، إذن فهو لا يقول بالاتحاد، وفي شعره يردد كلمة (الاتحاد) وهو يعني بها وحدة الوجود، ولا شيء غير ذلك.
* الخلاصة:
الصوفية مذهب واحد، لا يوجد فيهم من يؤمن بالحلول ولا الاتحاد ولا المزج ولا الوصل ولا الفصل، بل كلهم كلهم يؤمنون بوحدة الوجود، وقد غلط العلماء الذين قالوا: إن في الصوفية حلوليين واتحاديين، وكانوا واهمين.
جملة يتسلى القارئ بتحليلها:
يقول أحدهم: ...وفي الحقيقة، لا فصل ولا وصل، ولذلك قيل:
ولا عن قلىً كان القطيعة بيننا ……كنه دهرٌ يُشتّ ويَجْمع
الفصل الرابع
الحقيقة المحمدية
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ……لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
من النصوص التالية سنعرف ماذا تعني: الحقيقة المحمدية، وسنعرف أن الصوفية كلهم يؤمنون بها.
__________
(1) إيقاظ الهمم، (ص:45، 46).
(2) مرت في صفحة سابقة.
(3) مر هذا في الأبيات المنقولة من تائيته في صفحة سابقة.(78/254)
يقول الحلاج:
طس، سراجٌ من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد...ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حَضَرَ فأحضر، وأبصر فخبّر.. أنوار النبوة من نوره برزتْ، وأنوارهم من نوره ظهرتْ، وليس في الأنوار نورٌ أنْوَرُ، وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم...همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم، ما كان في الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق، أظرف وأشرف وأعرف وأنصف وأرأف وأخوف وأعطف من صاحب هذه القضية، وهو سيد البرية، الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمته أفرد...يا عجباً ما أظهره وأنظره وأكبره وأشهره وأنوره وأقدره وأبصره، لم يزل، كان مشهوراً قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل، كان مذكوراً قبل القبل وبعد البعد والجواهر والألوان...هو الدليل وهو المدلول... بالحق موصول غير مفصول، ولا خارج عن المعقول...العلوم كلها قطرة من بحره.. الأزمان كلها ساعة من دهره، هو الحق وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، وهو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة...الحق ما أسلمه إلى خلقه، لأنه هو، وإني هو، وهو هو(1)...
* الملحوظات:
نرى في هذا النص ما يلي:
1- ينكر الوحي، ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالرسالة من ذاته وبصيرته، ونرى هذا في الجمل (ما أخبر إلا عن بصيرته...حتى: وأبصر فخبر).
2- يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله، وله جميع صفاته الحسنى.
ويقول محيي الدين ابن عربي:
...ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن الحق، بأنه عين السمع والبصر واليد(2)..
- قول ابن عربي هنا مختصر مفيد، فمحمد صلى الله عليه وسلم جامع للكل...
ويقول أبو طالب المكي:
__________
(1) أخبار الحلاج (طاسين السراج)، (ص:82، وما بعدها).
(2) فصوص الحكم، (ص:110).(78/255)
قال بعض أهل المعرفة: خلق الله الجنة بما فيها من نور المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما اشتاقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان شوقها إلى المعدن والأصل، وصار شوق المشتاقين إلى الجنة شوقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها من نوره خُلقت(1).
ويقول البوصيري في البردة:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ مَن ………لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ……واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن مِن جودك الدنيا وضرَّتَها ……ومِن علومك علمَ اللوحِ والقلم
- أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي أوجد الدنيا والآخرة.
ويقول محمد بن سليمان الجزولي في كتابه الذائع الصيت: دلائل الخيرات، وفيه الكفاية عن غيره:
اللهم صل على سيدنا محمد بحرِ أنوارك...إنسانِ عين الوجود، والسبب في كل موجود، عين أعيان خلقك المتقدم من نور ضيائك(2)...
- اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة(3)...
- اللهم صل على سيدنا محمد نور الذات وسرِّه الساري في جميع الأسماء والصفات(4).
ويقول عبد السلام بن بشيش:
...اللهم صل على مَن منه انشقَّت الأسرار وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق...وحياضُ الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط...اللهم إنه سرك الجامعُ الدال عليك، وحجابُك الأعظم القائم لك بين يديك(5)...
ويقول سيدي محمد الفاسي الشاذلي:
__________
(1) علم القلوب، (ص:30، 31).
(2) دلائل الخيرات، (ص:100).
(3) دلائل الخيرات، (ص:214).
(4) دلائل الخيرات، (ص:233).
(5) النفحة العلية، (ص:15، 16).(78/256)
فهو الياقوتة المنطوية عليها أصداف مكنوناتك، والغيهوبة المنْتَخَبُ منها معلوماتُك، فكان غيباً من غيبك، وبدلاً من سر ربوبيتك، حتى صار بذلك مَظْهراً نستدل به عليك، فكيف لا يكون كذلك، وقد أخبرتنا بذلك في محكم كتابك بقولك: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)) [الفتح:10]، فقد زال عنا بذلك الريب، وحصل الانتباه(1)...
- إذن، فمعلومات الله، جل وعلا، منتخبة من غيهوبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بدل سر ربوبية الله، وهو مظهره، وقد أخبرنا الله تعالى في محكم كتابه أن محمداً هو الله، بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)) [الفتح:10].
ويقول عبد الكريم الجيلي:
أوجُ التعاظم مركزُ العز الذي ……لِرحى العلا من حوله دورانه
مَلِكٌ وفوق الحضرة العليا على الـ ……ـعرش المكين مثبَّتٌ إمكانه
ليس الوجود بأسره إن حققوا ……إلا حباباً طفّحته دنانه
الكل فيه ومنه كان وعنده ……تفنى الدهور ولم تزل أزمانه
فالخلق تحت سما علاه كخردلٍ ……والأمرُ يُبْرمُه هناك لسانه
والكون أجمعه لديه كخاتم ……في إصبع منه، أجل أكوانه
والملك والملكوت في تياره ……كالقطر بل من فوق ذاك مكانه
وتُطيعُه الأملاك من فوق السما ……واللوح يُنْفِذُ ما قضاه بنانه
__________
(1) النفحة العلية، (ص:33).(78/257)
اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوعٌ في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى به باعتبار لباسٍ، ولا يسمَّى به باعتبار لباسٍ آخر، فاسمُه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين....واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته.. ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقْتَضَى الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات، والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات، ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه إلا بمرآة الاسم (الله) فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضاً مرآته(1)...
- ومن صلواتهم عليه صلى الله عليه وسلم في أورادهم:
* صلاة الإمام الغزالي، وقيل: إنها لعبد القادر الجيلاني:
اللهم اجعل أفضل صلواتك أبداً...على أشرف الخلائق الإنسانية، ومجمع الحقائق الإيمانية، وطور التجليات الإحسانية، ومهبط الأسرار الرحمانية...ومالك أزمة المجد الأسنى، شاهد أسرار الأزل، ومشاهد أنوار السوابق الأول، وترجمان لسان القدم...مظهر سر الجود الجزئي والكلي، وإنسان عين الوجود العلوي والسفلي، روح جسد الكونين، وعين حياة الدارين(2)...
- يقول العارف يوسف النبهاني، معلقاً على هذه الصلوات: قال سيدي أحمد الصاوي في شرح ورد الدردير: إن هذه الصلاة نقلها حجة الإسلام الغزالي عن القطب العيدروس...
__________
(1) الإنسان الكامل: (2/73، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات على سيد السادات، (ص:83).(78/258)
وبالرجوع إلى كتاب: الأسرار الربانية والفيوضات الرحمانية على الصلوات الدرديرية، للإمام الهمام...أحمد الصاوي، نقرأ الجملة: هذه الصلاة نقلها...إلخ بحرفيتها(1). ولم أقف على قطب معاصر للغزالي أو سابق له يعرف بالعيدروس، وأول قطب من عائلة العيدروس هو عبد الله بن أبي بكر المار ذكره، وقد وجد بعد الغزالي بثلاثة قرون.
وطبعاً نحن أمام الكشف الذي يعرضون عليه السمع والألفاظ الواردة، كما يقول الغزالي، فما شأننا؟!
* من صلاة لأحمد الرفاعي (جوهرة الأسرار):
اللهم صل وسلم وبارك على نورك الأسبق... الذي أبرزته رحمة شاملة لوجودك...نقطة مركز الباء الدائرة الأولية، وسر أسرار الألف القطبانية، الذي فتقت به رتق الوجود...فهو سرك القديم الساري، وماء جوهر الجوهرية الجاري، الذي أحييت به الموجودات، من معدن وحيوان ونبات، قلب القلوب، وروح الأرواح، وإعلام الكلمات الطيبات، القلم الأعلى، والعرش المحيط، روح جسد الكونين، وبرزخ البحرين(2)...
* صلاة لأحمد البدوي:
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد شجرة الأصل النورانية، ولمعة القبضة الرحمانية...ومعدن الأسرار الربانية، وخزائن العلوم الاصطفائية، صاحب القبض الأصلية...مَن اندرجت النبيون تحت لوائه، فهم منه وإليه(3)...
- لننتبه إلى عبارة: القبضة الأصلية، التي تعني: القبضة التي قبضها الله سبحانه من نور وجهه، وقال لها: كوني محمداً (كما يفترون).
* وصلاة ثانية له:
اللهم صل على نور الأنوار، وسر الأسرار، وترياق الأغيار(4).
* صلاة إبراهيم الدسوقي:
اللهم صل على الذات المحمدية، اللطيفة الأحدية، شمس سماء الأسرار، ومظهر الأنوار، ومركز مدار الجلال، وقطب فلك الجمال(5).
* صلاة لمحيي الدين بن عربي:
__________
(1) الأسرار الربانية، (ص:25).
(2) أفضل الصلوات، (ص:84)، وقلادة الجواهر، (ص:249).
(3) أفضل الصلوات، (ص:85).
(4) أفضل الصلوات، (ص:86).
(5) أفضل الصلوات، (ص:88).(78/259)
اللهم أفض صلة صلواتك...على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني، وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكة (كان الله ولم يكن معه شيء ثان)، إلى مدينة (وهو الآن على ما عليه كان)، مُحْصي عوالم الحضرات الإلهية الخمس في وجوده: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)) [يس:12]...نقطة البسملة الجامعة لما يكون ولما كان، ونقطة الأمر الجوالة بدوائر الأكوان، سر الهوية التي في كل شيء سارية، وعن كل شيء مجردة وعارية...كلمة الاسم الأعظم، وفاتحة الكنز المطلسم، المظهر الأتم الجامع بين العبودية والربوبية، والنفس الرحماني الساري بمواد الكلمات التامات، الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها، والفيض المقدس الصفاتي الذي تكوتت به الأكوان واستمداداتها، مطع شمس الذات في سماء الأسماء والصفات...خط الوحدة بين قوسي الأحدية والواحدية...ومركز إحاطة الباطن والظاهر...اللهم يا رب يا من ليس حجابه إلا النور، ولا خفاؤه إلا شدة الظهور، أسألك بك...أن تصلي على سيدنا محمد صلاة تكمل بها بصيرتي...لأشهد فناء ما لم يكن وبقاء ما لم يزل، وأرى الأشياء كما هي في أصلها معدومة مفقودة، وكونها لم تشم رائحة الوجود فضلاً عن كونها موجودة(1)...
* صلاة لفخر الدين الرازي:
اللهم حيد وجرد في هذا الوقت وفي هذه الساعة من صلواتك التامات، وتحياتك الزاكيات...إلى أكمل عبد لك في هذا العالم، من بني آدم، الذي جعلته لك ظلاً، ولحوائج خلقك قبلة ومحلاً...وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجليك، ومنزلاً لتنفيذ أوامرك ونواهيك، في أرضك وسماواتك، وواسطة بينك وبين مكوناتك(2).
* صلاة النور الذاتي لأبي الحسن الشاذلي:
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات(3).
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:89، وما بعدها).
(2) أفضل الصلوات، (ص:97).
(3) أفضل الصلوات، (ص:113).(78/260)
* صلاة الشيخ محمد أبي المواهب الشاذلي:
اللهم صل على هذه الحضرة النبوية...يا سيدنا يا رسول الله أنت المقصود من الوجود.. وأنت الجوهرة اليتيمة التي دارت على أصناف المكونات، وأنت النور الذي ملأ إشراقه الأرضين والسماوات...يا أول يا آخر يا باطن يا ظاهر...الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، الأملاك تشفعت بك عند الله، الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، الأنبياء والرسل ممدودون من مددك الذي خصصت به من الله...قد نزلنا بحيك واستجرنا بجنابك وأقسمنا بحياتك على الله(1)...
* صلاة محمد بن أبي الحسن البكري:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:118، وما بعدها).(78/261)
اللهم صل وسلم على نورك الأسنى، وسرك الأبهى...روح المشاهد الملكوتية، ولوح الأسرار القيومية، ترجمان الأزل والأبد، لسان الغيب الذي لا يحيط به أحد، صورة الحقيقة الفردانية...محمد الباطن والظاهر بتفعيل التكميل الذاتي في مراتب قربه...بداية نقطة الانفعال الوجودي إرشاداً وإسعاداً، أمين الله على سر الألوهية المطلسم، وحفيظه على غيب اللاهوتية المكتم، مَن لا تدرك العقول الكاملة منه إلا مقدار ما تقوم عليها به حجته الباهرة، ولا تعرف النفوس العرشية من حقيقته إلا ما يتعرف لها به من لوامع أنواره الزاهرة، منتهى همم القدسيين وقد بدوا مما فوق عالم الطبائع، مرمى أبصار الموحدين وقد طمحت لمشاهدة السر الجامع، من لا تجلى أشعة الله لقلب إلا من مرآة سره، وهي النور المطلق...وهو الوتر الشفعي المحقق...الفرع الجدثاني المترعرع في نمائه بما يُمد به كل أصل أبدي، جني شجرة القدم، خلاصة نسختي الوجود والعدم...وعابد الله بالله بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال ولا انفصال...اللهم صل وسلم على جمال التجليات الاختصاصية، وجلال التدليات الاصطفائية، الباطن بك في غيابات العز الأكبر، الظاهر بنورك في مشارق المجد الأفخر، عزيز الحضرة الصمدية، وسلطان المملكة الأحدية...مستوى تجلي عظمتك ورحمتك وحكمك في جميع مخلوقاتك، وخلقت بكلمة خصوصيته المحمدية بحار الجمع...وجعلته بحكم أحديتك وِتْر العدد...اللهم صل وسلم على دائرة الإحاطة العظمى، ومركز محيط الفلك الأسمى...بحر أنوارك الذي تلاطمت برياح التعين الصمداني أمواجه...خليفتك على كافة خليقتك(1)...
* الصلاة المعروفة بالصلوات البكرية:
__________
(1) أفضل الصلوات، (ص:127، وما بعدها).(78/262)