المجد التالد نسخة من رسالة "المجد التالد في مناقب الشيخ خالد" موجودة في المكتبة السليمانية بإسطنبول؛ مسجّلة تحت رقم: 1161/4، بخزانة إسماعيل حقي إزميرلي. كتبه إبراهيم الفصيح. و هو من خلفاء خالد البغداديّ. قامت مكتبة الحقيقة بنشرها ضمن مجموعة من رسائل المتأخرين من شيوخ النقشبنديّة في مجلّد واحد تحت عنوان "مكاتيب شريفة" عام 1992م. وقد ورد أيضًا اسم هذه الرسالة في بحوث عباس العزّاويّ ضمن مجلّة المجمع العلمي الكرديّ ص/ 725. كما تطرّق العزّاويّ إلى رسالة تحفة العشّاق في الصفحة: 718 من نفس المصدر. وهي أيضًا من تأليف إبراهيم الفصيح. لهذه الرسالة نسخة أخرى في المكتبة السليمانية مسجّلة تحت رقم/896 بخزانة إزمير. كتبها بالعربية إبراهيم الفصيح، وله تحفة العشاق في إثبات الرابطة أيضًا. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. فقد تحمّس الفصيح في هذه المحاولة فقال:
كتبتُها في إثبات الرابطة الّتي هي من أعظم أركان الطريقة الصوفيّة ومدار أمرهم. (...) مقتصرًا فيها على بيان الأدلة الشرعية الدالة على وجودها في السنّة النبوية«؛
جامع الأصول، كتبها بالعربية أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ وهو خليفة أحمد بن سليمان الأرواديِّ من خلفاء خالد البغداديّ. أكثرُ عباراتِهِ خالصةٌ من آثار العجمة. ورد البحث عن كتاب جامع الأصول في دراسة ضخمة حول شخصية الْكُمُوشْخَانَوِي أعدّها الدكتور عرفان جندوز. و تمّ طبعها ونشرها من قِبَلِ دار السخاء للنشر عام 1984م. في إسطنبول.
رسالة المشغولية. نسخة من هذه الرسالة موجودة في مكتبة جامعة إسطنبول تحت رقم/85253 كتبه شخص اسمه أحمد سعيد المجدّدي. لكنه غير معروف في الأوساط العلمية وحتّى بين الصوفيّة. ترجم هذه الرسالة إلى العربية رجل من مدينة مغنيسيا التركية اسمه علي نائلي. غير أنها أيضًا شبه مجهول، وحتّى لغة التأليف مجهولة.(66/119)
تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب. كتبه باللّغة العربية محمّد أمين الكرديّ الأربليّ. ألّفه من قسمين. الأوّل في فقه الشافعية، والثاني في مسائل التصوف، والطريقة النقشبنديّة. إنّ النقشبنديّين الأتراك لا يهتمّون بهذا الكتاب؛ وهو شبه مرفوض عندهم. مع أنه أفضل الكتب صياغةً؛ وعباراته سلسة مستساغة. أمّا هذا الموقفُ السلبِيُّ للنقشبنديّين الأتراك، فانّ له سببين: أحدهما أنّ المؤلّف كرديّ الأصل وعربي النشأة؛ وهم يكرهون الأكراد والعرب (إلاّ قليل منهم، و هم أهل التوحيد الخالص). وسوف نشرح أسباب هذه الكراهية في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى. والسبب الثاني لهذا الموقف السلبي، هو أنّ المؤلّف شافعيُّ المذهب؛ علمًا بأنّ الأتراك يتعصّبون لمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، إلى حد جعلوا من هذا المذهب دينًا مستقلا عندهم. يعتزون به تمايزًا عن العرب خاصّة.
إرغام المريد. قامت بطبع هذه الرسالة و نشرها مؤسّسة وقفية للنقشبنديّين في إسطنبول عام 1996م. يشرف عليها عقيد متقاعد. وهي مع كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ، ضمن مجلّد واحد .تقوم بتوزيعها مكتبة الحقيقة. كتبه زاهدُ الكوثريّ المشهورُ بتصانيفه وهجماته على العلماء؛ كتبه شرحًا على النظم الّذي أنشأه سابقًا بعنوان »النظم العتيد لتوسّل المريد«. تطرّق المؤلّف إلى موضوع الرابطة في الصفحة 65 من كتابه المذكور.
مقاصد الطالبين. كتبه شخص اسمه محمّد رائف عام 1888 م. باللّهجة العثمانيّة، وقد تمّ نقله أخيرًا إلى اللّهجة التركية المعاصرة. وله نُسَخٌ مطبوعةٌ بالحروف اللاتنية.
الرسالة الأسعدية للشّيخ أسعد الأربليّ. وهو مأذون من طه الحريريّ خليفة طه الهكّاريّ. كتب شطرًا منها بالعربية، وشطرًا بالتركية. نسخة من هذه الرسالة موجودة في مكتبة جامعة إسطنبول، مسجّلة تحت رقم 438/13.(66/120)
مكتوبات أسعد الأربليّ. هي مراسلاتُهُ وخطاباته الكتابية الّتي بعث بها إلى أتباعه. يبلغ عددها 156 رسالة، تتبلور من خلالها العقلية المتخلّفة لهذا الشيخ النقشبنديّ؛ إذ لم يهتم بقضية من قضايا المسلمين في كل هذه الرسائل. وبلغت الغفلة منه عما كان يجري في أيّامه إلى حدٍّ لم يشعر بصراخ الداهية الّتي كانت وشيكة الوقوع، حتّى ذهب هو أيضًا مع الطليعة الأولى ضَحِيَّتَهَا، كما سنشرح عاقبتَهُ في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
جاءت في بعض هذه الرسائل توضيحات له حول آداب الطريقة النقشبنديّة؛ كالرابطة واللّطائف والذكر وما إليها؛ وجاء في عدد منها تفسيراته لرؤيا بعض مريديه.
الأخلاق التصوفية. تطرّق المؤلّف إلى موضوع الرابطة في المجلّد الثاني ص/ 271-275 من هذه السلسلة. تقوم بطبع ونشر هذه الكتب مؤسّسة للنشر بعنوان:دار السخاء في إسطنبول. سلسلة أعدّها محمّد زاهد كوتكو باللّغة التركية، وهي مطبوعة بالحروف اللاّتنية.
ترجمة أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ دراسة أعدّها الدكتور عرفان جندوز باللّغة التركية.
كتاب مدوّن باللّغة التركية اسمه Tarikat-i Nak?ibendiyye Prensipleri. ورد على الغلاف أنّه نُقل إلى التركية بقلم مفتي متقاعد اسمه رحمي سرين؛ وأنّ الاسم الأصليّ للكتاب Risâle-i Bahâiyye. ومؤلّفه علي قدري. غير أن مسألة الترجمة غامضة. لأنّ عملية إجراء التعديل على اللّهجة العثمانيّة أيضًا تعتبر عند بعض الأتراك المعاصرين نوعًا من الترجمة. ولذلك لم نتأكّد عما إذا دوّنه المؤلّف باللّغة العربية (وهذا بعيد الاحتمال)؛ أم كتبه باللّهجة العثمانيّة.
قد طُبع هذا الكتاب في إسطنبول عام 1994م. يتألّف من 293 صفحة، وقد رتّبه المؤلّف على مقدّمة وخمسة فصول. ورد في الصفحات 54-56 شرح في مسألة الرابطة.(66/121)
روح الفرقان. كتاب غريب أقدم على صياغته عدد من النقشبنديّين وعلى رأسهم رجل اسمه محمود أسطى عثمان أوغلو. تصدّوا فيه لتفسير القرآن بأسلوب باطنيٍّ جرئٍ وتأويلاتٍ أثارتْ جمهورَ المسلمين في تركيا عام 1992م. دوّنوه باللّغة. التركية لأنّ معرفتهم بالعربية قاصرة على قراءة نصوص معينة فحسب. أمّا التعبير فانّهم عاجزون عنه تمامّا.
لقد استدلّوا في هذا التفسير الغريب بآيات كريمة على إثبات رابطة النقشبنديّة. وتصرّفوا في تأويل كلام الله حسبما بدا لهم في مواطن كثيرة من هذا الكتاب الخطير الّذي يُتَوَقَّعُ أن يثيرَ ضجةً في صفوف عامّة المسلين إذا ما تُرجم إلى العربية أو شاع ما فيه.
إنّ هذه الرسائل والكتب ليست مما يُلفِت نظرَ العلماء والمثقَّفين؛ ولا لمحتوياتها قيمة في ديوان العلم أو في ميزان العقل، بل ذكرنا أسماءها بالاختصار علي سبيل المساعدة للباحثين. وثمّة موسوعات أخرى غيرها، وردت في سطور قليلة منها تعريفات وجيزة للرّابطة، مع الإشارة إلى أنّها من كلام الصوفيّة وآرائهم، وتأويلاتهم.
***
من الآداب عند النقشبنديّة: الذكر على أساس اللّطائف الخمس.
لقد سبق توضيحٌ ملخّصٌ في آداب الذكر عند النقشبنديّة مع التنبيه في البداية بأنّها أمور يستغربها كلّ من له علم بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويفزع من خطورتها ومن جرأة من استقاها من مستنقعات الشرك وألصقها بعقائد المسلمين.
إلى جانب هذه الآداب، فقد اختلق كبراؤهم مصطلحاتٍ أخرى غريبةً أطلقوها على مُسَمَّيَاتٍ باللّطائف. زعموا أنّها موجودة وموزَّعة في بنية البشر وحمّلوها معانٍ لم نعثر على قرينة تبرهن على وجودها في جسد الإنسان، إلاّ القلب. كما لم نجد لها قرينة بالذكر في الكتاب والسنّة سوى القلب أيضًا. وهذه اللّطائف خمسٌ في اعتقادهم كما جاء في عدد من كتبهم، منها تنوير القلوب لمحمد أمين الكرديّ إذ يقول.(66/122)
»وأوّل تلك اللّطائف، القلبُ. وهو تحت الثدي الأيسر بقدر إصبعين مائلاً إلى الجنب على شكل الصنوبر. وهو تحت قدم آدم عليه السلام؛ ونوره أصفر. فإذا خرج نور تلك اللّطيفة من حذاء كتفه وعلا، أو حصل فيه اختلاج، أو حركة قوية فيلقّن بلطيفة الروح وهي تحت الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم نوح وإبراهيم عليهما السلام. ونورهما أحمر. فالذكر في الروح والوقوف في القلب. فإذا وقعت الحركة فيها واشتعلت، فيلقّن بلطيفة السر، وهي فوق الثدي الأيسر بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم موسى عليه السلام، ونورهما أبيض. ويكون الذكر فيها، والوقوف في القلب فإذا اشتعلت أيضًا فليلقّن بلطيفة الخفيّ، وهي فوق الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم عيسى عليه السلام، ونورها أسود. فإذا اشتعلت أيضًا فليلقّن بلطيفة الأخفى. وهي في وسط الصدر؛ وهي تحت قدم نبينا محمّد - صلى الله عليه وسلم -. ونورها أخضر. فليشتغل بها كما تقدم« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 513-514. طبعة مصر – 1384. لمزيد من المعرفة حول مسألة اللطائف عند النقشبنديّين راجع المصادر التالية:Dr. ?rfan Gündüz, Gümü?hanevî Ahmed Ziyaüddin Pg. 183-205
Muhammed Es’ad Erbilî, Mektubât 257-403 Erkam Publishing, ?stanbul-1993
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 37. إسطنبول-1994م.(66/123)
إن من يطّلع على هذه الكلمات ويتأمّل فيها، لابد أن يتساءل عن مصدر هذه الأقاويل إذا كان يشعر بمسئولية ما يترتب عليه في وجه كل من يريد أن يعبث بالكتاب والسنّة، ويأتي ما شاء من تلقاء نفسه أو ينقل رواسب الشرك من الديانات والفلسفات فينسبها إلى الإسلام باسم الدين، ثم يدرّب الناس على فعلها زعمًا منه أنها ذكر الله! أليس اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والهندوس وسائر المشركين يعبدون الله ؟ إذن ما الفرق بين المسلم والمشرك إذا أراد المسلم أن يعبد الله كما شاءت له نفسه، وليس كما رسمه الله له وفَعَلَهُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! ألاَ يكون المسلم قد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه إذا سنّ لنفسه عبادةً لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
خاصّة الذكر عند النقشبنديّة على أساس هذه اللّطائف الخمس، فانّ الإنسان يتعجّب عندما يطّلع على صورة أدائها.
أما خطورة هذه البدعة فإنها لا شكّ تزداد عندما نجدها ممزوجة بكلمة التوحيد ومقصودًا بها ذكر الله تعالى كما تظهر فيما ورد ضمنَ رسائلهم.
هل يُعقل أن النقشبنديّين أنفسهم يستطيعون حلّ هذه الألغاز فضلاً عن غيرهم؟ ولعلّ السر في اشتهار بعض السحرة والمشعوذين منهم بصفة أولياء الله بين عوام الناس يكمن في مثل هذه الألفاظ الخرافية المختلقة.(66/124)
ولا يفوتنا الإشارة هنا بالمناسبة إلى أن الإقدام على التصرُّف في مبادئ الطريقة أمر لا يملكه أيُّ شيخ من شيوخ هذه الفرقة إلاّ من غلبت شهرته على أمثاله. كخالد البغداديّ والطبقة الأولى من خلفائه. وإنّما الكلمة النافذة للشّيخ المشتَهَرِ بين عامّتهم. لأنّه بمنزلة المجتهد عندهم. ولهذا نكتشف أن مصدر الشرف والمكانة والكرامة والبركات إنّما هي الشهرة الغالبة في هذه الطريقة. فمن ملكها ملك أمر الطائفة كلّه. وإلاّ ليس بإمكان أيّ شيخ من شيوخ النقشبنديّة أن يقوم بوضع مثل هذه الألفاظ من تلقاء نفسه إلا أن يكون قد سيطر على دماغه أحد من أباطرة هذه الفرقة الّذين نسجوا لهم ألوانًا من الأساطير بأمثال تلك الحيل نفسها على يد من سبقهم. وهكذا بالتسلسل خضع الخلف للسّلف بالطاعة العمياء. واعتقد اللاحقون بالسابقين ما يعتقد النصارى في رهبانهم أنّهم ينوبون عن الله في مغفرة الآثام. بل ازدادوا على النصارى أنّ شيوخهم يتصرفون في ملك الله وملكوته وكتابه وكلامه.
إنّ هذه العقيدة تنبت في قلب كل نقشبندي نحو شيخه وتتحول إلى إيمان راسخ لا يشوبه وَهْمٌ ولا شكٌّ. ولهذا لا يستغرب ما يأمره به شيخه إطلاقًا ولواستبدل دينه كل يوم بدين جديد!
***
الختم الخواجكاني
وكذلك من طقوس هذه الطائفة أنّهم يقيمون حلقةً سريّةً في أوقات معيّنة يسمّونها »خَتْمِ خُوَاجَكَان« وكلمة »خُوَاجَكَان«: -كما يترجمها محمّد أمين الكرديّ- »جمع فارسيّ لِ "خُوَاجَهْ" بواوٍ ثم ألفٍ. ولا تُقرأ الواو، وإنّما أوتي بها لتفخيم المدّ. والخواجه بمعنى الشيخ« المصدر السابق ص/ 520.(66/125)
وأما رأيهم واعتقادهم المتعلّقان بهذه الحفلة وآدابها على لسانهم، فيقول في ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ »اعلم أنّ لهذ الختم المبارك شرطين : الأوّل أنْ لا يحضر فيه أَمْرَدٌ ولا أجنبيٌّ، ليس داخلاً في طريقتنا لأَلاّ يُخِلّ نِظَامَهُ. الثاني: أنْ يغلق الباب. وله آدابها. منها تغميض العينين؛ والاستغفار خمسًا وعشرين مرةً؛ والجلوس متورِّكًا عكس تورّك الصلاة كما تقدّم؛ وملاحظة الرابطة الشريفة الآتي بيانها. وأركانه قراءة الفاتحة سبع مرات؛ ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة مرة؛ ثم قراءة "ألم نشرح" تسعًا وسبعين مرةً؛ ثم سورة الإخلاص ألف مرة وواحدة؛ ثم الفاتحة أيضًا؛ ثم يهدي ثواب ذلك إلى صحيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى آله وأصحابه والأولياء والمشائخ الكرام« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 15
كذلك ورد مثل هذا الكلام في بعض وريقات لمتأخّري هذه الطائفة ممّن عاشوا بعد خالد البغداديّ فاقتبس بعضهم من بعض كما يبدو. ويستدلّون على شرعية هذه الحفلة بحديث كما مر في باب الرابطة.(66/126)
إلاّ أنّ حقيقة هذه الحفلة ليست كما يشرحها النقشبنديّون في مثل ما سجلناه آنفا من عباراتهم. بل هي شكل من تقاليد الباطنيّة، بَقِيَتْ بظاهرها في حدود هذا الرمز. إذ من الواضح البيّن أن إغلاقَهم للباب راجع الهامش رقم/89. عادةٌ استورثوها من قدمائهم من رؤوس الباطنية الّذين كانوا يقومون بعقد اجتماعات سريّة لضرب المسلمين وإفساد عقيدتهم، وهدم دولتهم ولكنّهم وضعوا لها آدابًا من الذكر والتلاوة والصلوات، تقيّة وحذرًا من أن تفتضح أسرارهم إثر مداهمةٍ قد تقوم بها سلطات المسلمين. ثم شاء الله أنْ اختفت المقاصد مع الزمان، وبقيت الآداب على هيئتها بعد أن تعرضت الطريقة النقشبنديّة لاستحالات وتغيّرات عديدة على حسب اتجاه الروحانييّن الّذين آلت إليهم أخيرا أَزِمَّةُ الطريقة، وهم من أهل التقشّف والعزلة والرهبنة. يجهلون ما مرّت بها طريقتهم عَبْرَ القرون من ألوانِ التبدّلات. إنّما هذا الجهل هو الّذي يؤدّي بهم حتّى يدّعي المعاصرون من أئمتهم، أنّ عقائدهم وعاداتهم وحفلاتهم متواترة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم غافلون بذلك عن أنّ طريقتهم تتميّز عن الإسلام حتّى بِلُغَتِهَا.
يذكر الكرديّ في مقالته السابقة آنفًا أنّ كلمة "خواجه" فارسيّة. وهذا يُْنِبِئُنَا مرةً أخرى بأنّ للفرقة النقشبنديّة لُغَتُهَا الخاصّة في مناسكها، ودعائها، وطقوسِها... تختلف عمّا للمسلمين كما سَبَقَتْ الإشارة إليها في بداية الفصل الثاني. إذ يعترف بهذه الحقيقة كثير من رجالهم. ومنهم محمّد بن عبد الله الخانيّ، يتطرّق إلى هذه المسألة في فصلٍ خاصٍّ فيقول:
»إن للقوم مصطلحات لابدّ لسالكي طريقتهم من ضبطها ومعرفتها والعملِ بمضمونها. ولما كانت هذه الطريقة الشريفة قد ظهرت في بلاد ماوراءالنهر واشتهرت فيها، وكان أعزّة تلك البلاد يتكلّمون بالفارسيّة جرى أكثر تلك المصطلحات على لسانهم بتلك اللّغة.«
***(66/127)
المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة وأسرارها.
ثم يشرع الخانيّ في سرد هذه المصطلحات المُخْتَلَقَةِ والموضوعةِ باللّغة الفارسيّة، وهي مبنىَ طريقتهم. وقبل أن ندخل في بيان المقاصد الحقيقية للنقشبنديّين من هذه المصطلحات، وإفشاءِ ما أكنّه صناديدُ الطائفة في بطونهم من أغراضٍ، وما يتربّصون من وراء الرابطة خاصّة، يجب أن نؤكّد على أنّ جميعَ ما أحدثه النقشبنديّون باسم الذكر وما أقرّوه من أورادٍ وآدابٍ وشرائطَ في السير والسلوك الروحانيِّ، كلّها تختلف إختلافًا كبيرًا عن أذكار النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ونوافله الشريفة ومناسكه الطيّبة الطاهرة. إذ لم يكن بين دعائِهِ وأذكارِهِ وأشكالِ تَعَبُّدِهِ شيءٌ مّمّا اخْتلقتهُ النقشبنديّة من الرابطة، والختم الخواجكانية، والاستمدادِ من أرواح الموتى وأمثالِها. وإنّما حياته الروحية عليه الصلاة والسلام مشرقة، واضحة، وبيّنة؛ كحياته في أمور دنياه، مضبوطة في كتب الرجال بروايات الثقاة، ومتواترة عَبْرَ الأجيال بين المسلمين.(66/128)
على سبيل المثال فان كتابَ "الأذكار" للإمام الجليل محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، حافلةٌ بباقاتٍ من أزاهير دعائه الطيّبةِ وأذكاره العاطرةِ ونوافلهِ ومناسكهِ الشريفةِ المنسجمةِ مع روح القرآن الكريم؛. فإننا لا نجد في هذا الكتاب القيّم ولا فيما سبقه كـ» عمل اليوم والليلة« للإمام أبي عبد الرحمن النسّائي وكتاب »عمل اليوم والليلة« للإمام أبي بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق السني. لا نجد في هذه المصادر شيئًا اسمه الرابطة. ولا نجد فيها ما تفعله الفرقة النقشبنديّة من الحفلات السرية المعروفة بينهم بـ »الختم الخواجكانية« ولا ما تعتقده من »الاستمداد بالروحانية« و»الإستغاثة بالموتى« والتعبّد على أسلوب الهنادك بالتقشّف والرهبنة. فحاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد عمل شيئّا مّمّا كان يعمله رهبان المجوس والنصارى من أشكال العبادات والنسك.
***
مباني الطريقة النقشبنديّة.
إن كثيًرا من الناس يعتقدون أن الطريقة النقشبنديّة طريقة سُنِّيَّةٌ؛ ولكن "السنِّيَّةَ" المعروفة والمنتشرَة الّتي جعل بعضُ الكلاميّين منها مصطلحًا أطلقوه على السواد الإسلاميّ الأعظم ليميّزوه عن بقيّة الفرق الّتي تدّعي الإسلام؛ نعم هذه السنِّية التقليديّة نفسّها لا تمثّل السنّة في الحقيقة، ولا توافق الإسلام الخالص؛ بل تختلف عنه بكثير من جوانبها؛ وتتضارب مع روح الكتاب والسنّة، فضلاّ عن أنّ بين الطريقة النقشبنديّة والإسلام مقارعة شديدة تتراءى بوضوح إذا ما تمّت أدنى مقارنة بينهما.
هذا بالرغم من أن بعض الروحانيين قد أصرّوا على أنّ الطريقة النقشبنديّة هي الإسلام نفسه، وفي هذا يقول محمّد بن عبد لله الخانيّ:(66/129)
»اعلم أيّها الطالب لمعرفة الله تعال - وفّقنا الله وإياك - أنّ معتقَدَ ساداتِنَا النقشبنديّة قدّس الله أسرارهم الزكية، هو معتقَدُ أهل السنّة والجماعة. ومبنى طريقتهم على حفظ أحكام الشريعة المطهّرة« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 3 طبعة مصر - 1319هـ. بينما هذه الكلمات عينُها تكذّب الناطقَ بها، وتفضحه فيما يدّعيه باشدّ ما يقوم الدليل على صاحبه. ذلك أنّه قد أتى بصيغة غريبة من الدعاء في عباراته. وهي »قدّس الله أسرارهم« إذ لا نعثر على أدنى شئٍ يبرهن على أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه قد نطق بمثل هذه الصيغة في دعائه. بل هذا من أسلوب الغلاة والباطنية. فإنّهم يعظّمون مشائخهم. وربما تكون هذه العادة قد شاعت بين خاصّتهم مع الزمان بتأثير النصارى. لأنّ المسيحيّين يقدّسون رهبانهم ويصفونهم بالقداسة.
وما أدلّ على أنَّ الطريقة النقشبنديّة تتعارض مع الإسلام بكل مُقَوِّمَاتِها ومفاهيمها؛ من اعترافاتهم الّتي تتمثّل في كل كلمة سجّلوها على سبيل التعريف والتوضيح لمصطلحاتهم. منها مثلاً قول بعضهم: »ومبنى هذه الطريقة العليّة على العمل بإحدى عشرة كلمة فارسيّة: ثمانية منها مأثورة عن حضرة الشيخ عبد الخالق الغجدوانيّ. وهي: هُوشْ دَرْدَمْ، نَظَرْ بَرْقَدَمْ، سَفَرْ دَرْ وَطَنْ، خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ، يَادْ كَرْدْ، بَازْ كَشْتْ، نِكَاهْ دَاشْتْ، يَادْ دَاشْتْ« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506-507. طبعة مصر - 1384 هـ. ورد تعداد هذه المباني الأحد عشر في المصادر التالية من كتبهم بما فيها المصدر السابق:
* علي بن الحسين الواعظ، رشحات عين الحيات ص/ 32-41؛
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 50-54 طبعة مصر - 1319هـ؛(66/130)
*عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 112-117؛
Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Z?yâüddîn, Hayat? ve Eserleri. Pg. 234-236 Seha Publishing Istanbul-1984 *
Dr. Selcuk Eraydin, Tasavvuf ve Tarikatlar, Pg. 376-380. Istanbul-1994
Faruk Meyan, Sah-i Naksibend Pg. 69-78 Cile Publishing Istanbul
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 77-93. إسطنبول-1994م.
نعم هكذا يظهر بإقرار أئمّتهم أنّ مبادئ طريقتهم كانت في البداية ثمانية. ثم أضاف إليه محمّد بهاء الدين البُخَاريّ ثلاثةً أخرى فصار بعدها أحد عشر مصطلحًا. وهي تركيبات فارسيّة، فيها أجزاء عربيّة للضّرورة.
فقد ذكر بعضهم هذه المصطلحات على غير الترتيب الّذي جاء في تنوير القلوب، ومنهم محمّد بن عبد لله الخانيّ وحفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ ولكن ترتيب الحفيد أيضًا لم يأت موافقا تمامًا لترتيب جدّه. إذ أورد الحفيد كلمة »نَظَرْ بَرْقَدَم« في المرتبة الرابعة؛ و»هُوشْ دَرْدَمْ« في المرتبة الخامسة في تعداد المصطلحات المذكورة. بينما كان جده قد جعل »هُوشْ دَرْدَمْ« هي الرابعة. و»نَظَرْ بَرْقَدَمْ« هي الخامسة. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 50-52. طبعة مصر - 1319هـ.؛ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 112-117.
ولا نقصد الاستدلال بهذا الخلاف البسيط علي بطلان دعواهم ما دام كلّهم يتّفقون في أصلٍ باطلٍ بُنِيَتْ طريقتهم على أساسه. كما تظهر هذه الحقيقة إلى العيان بوضوح بعد استكشاف المقاصد البعيدة الّتي أكنّها قدماء الطائفة في طيّ شروحهم لهذه المصطلحات.
***
يقول الكرديّ في شرح الكلمة الأولى منها:(66/131)
»أمّا "هُوشْ دَرْدَمْ": فمعناه حفظُ النفَسِ عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما. ليكون قلبه حاضرًا مع الله في جميع الأنفاس. لأَنَّ كلَّ نَفَسٍ يدخل ويخرج بالحضور فهو حيٌّ موصول. وكلّ نَفَسٍ يدخل ويخرج بالغفلة فهو ميّت مقطوع عن الله« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.
لقد يبدو من ظاهر هذه الكلمات أنّها موافقة للحق في الوهلة الأولى؛ إذ فيها حثّ على صحوة القلب، ونكير على الغفلة إلى حدّ يستطيبه المؤمن. ولكن بعد إمعان الفكر في شكل هذا التركيب وأسلوب تفسيره، لا يخفى على العالم الماهر بروح الكلمات أنّ هذه الصيغة ماكرةٌ تُنْبئُ عن ضلالاتٍ دسّتْها الزنادقةُ في ثنايا تلك الألفاظ، مع احتفاظها بمخلّفاتٍ من عقائد البراهمةِ والبوذية. والحال هذه، فقد أنذرنا الله تعالى عن الغفلة بأشدّ وأبلغ ما يتّعظ به الإنسان، فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فيِ نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخيِفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَلِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِنَ} سورة الأعراف/205. كما نهانا سبحانه عن طاعة صاحب القلب الغافل، فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.} سورة الكهف/28. وفي مواطن أخرى كثيرة من كتاب الله ورد التشنيع بالغافلين، مما يؤكّد أنّ المؤمنَ بالقرآن، والمحظوظَ بمعرفة معانيه، والمواظبَ على تلاوته، والمستنيرَ بهديه، لن يفتقر إلى كلمة »هُوشْ دَرْدَمْ«، ليكون حاضر القلب مع الله؛ ولن يلتفت إلى هذه الكلمة الّتي ظاهرها خير من باطنها لأسباب:(66/132)
منها: أنّ واضع هذا المصطلح (حسب إسنادهم) ليس من علماء المسلمين الّذين أعلنتْ الأمةُ عن ثقتها بهم. كالأئمّة الأربعة المجتهدين ومن جاء مِنْ بعدهم من المتقدّمين والمتأخّرين؛ من أمثال محمّد بن إسماعيل البُخَاريّ، ومسلم بن الحجاج القشيريّ النيسابوريّ، ومحمد بن الطيب الباقلانيّ، والإمام النوويّ وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين؛ بل كان صوفيًّا مات في بُخَارَى عام 575 من الهجرة. وقد يكون شخصيّةً خياليّةً لا حقيقةَ لوجوده.
ومن هذه الأسباب: الانحراف عن مسلك السلف الصالح في الأصول. ذلك أنّ جميع العلماء سواءً الفقهاءَ منهم والمحدّثين، حتّى المدلّسين والزهّاد والمعاصرين لهم، لم يختاروا وضعَ مصطلحاتِهم إلاّ باللّغة العربية، بخلاف النقشبنديّين الّذين يدّعون السير علي نهجهم.
فالقشيريّ مثلاً، مع أنّ الطائفة النقشبنديّة تَعُدُّهُ من كبار الصوفيّة وتبالغ في تعظيمه، وتستقي من آثاره في كثير من المناسبات، نعم هذا القشيريّ لم نعثر على شئ في رسالته من هذه المصطلحات الفارسيّة الغريبة. فقد ورد في رسالته الشهيرة من شتّى مصطلحات الصوفيّة كالقبض، والبسط، والجمع، والفرق، والفناء، والبقاء، والغيبة، والحضور، والصحو، والسكر، والذوق، والشرب، والسر والتجلّي، والمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، وللّوائح، والطوالع، واللّوامع، والمجاهدة، والخلوة، والعزلة، والفتوّة، والولاية، والمعرفة، والمحبّة، والشوق وغيرها مما يضيق المكان عن استيعابها، ولكن لا نجد فيها حتّى مصطلحًا واحدًا من تلك الّتي وضعتها زنادقة العجم كقولهم: »هُوشْ دَرْدَمْ، نَظَرْ بَرْقَدَمْ، سَفَرْ دَرْ وَطَنْ، خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ...إلخ.«(66/133)
وكذلك من الأسباب المثيرة للشّكّ فيما يحتويه مصطلح »هُوشْ دَرْدَمْ«، بل وما تبدو من علامات الخطورة فيما يُقْصَدُ من هذا التركيب، أنّه رمز لمرحلة من مراحل الرياضة النفسية والوجدانيّة على طريقة المجوس البرهمية والبوذية؛ يقتنع السالك بعد كمال هذه الرياضة بالاتحاد، وينسلخ من التوحيد تمامًا كما ستبدو هذه الحقيقةُ بعد دراسة البقيّة من هذه المصطلحات، وإظهار ما تتواري خلفها من أغراض مدسوسة.
أمّا خلاصة ما يُقصد من هذه الرياضة الخاصّة (وإنْ كذّبها النقشبنديّون وردّوها بعنفٍ)، فما هي في الحقيقة إلاّ محاولةٌ لتمهيدِ السبيلِ حتّى يَقِرَّ السالكُ في نفسِهِ عند نهاية المطاف: أنّ الله قد حلّ فيه، أو هو حلّ في الله -سبحانه عمّا يصفه الفاسقون- وذلك ليس إلاّ مقدّمة لعقيدة وحدة الوجود كما يبرهن على هذه الخطّةِ إدماج الباطل في قلب الحق ضمنَ مزيجٍ من ألفاظٍ واردةٍ في شرح هذا المصطلح بأسلوبٍ ماكرٍ قلّ من ينتبه إلى الخطورة الكامنةِ فيها، وهي عقيدة »الفناء في الله«
إذًا فلنعد مرةً أخرى إلى ما سجّله الكرديّ من تفسيرٍ لهذا المصطلح تمحيصًا لما نتوقّع فيه من مقاصد خفية تتعارض مع ظاهره.
يقول الكرديّ، »فمعناه: حفظُ النفَسِ عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما، ليكون قلبُهُ حاضرًا مع الله.«
حقًّا، إنّ الغفلة عن الله مقبوحة، وقد سبقت الإشارة إليها آنفًا بشهادة الآيات البيّنات من كتاب الله عزّ وجلّ؛ ولكن الاجتناب عنها، هل ينبغي أن يكون بهذه الطريقة، أم للإسلام في ذلك طريقته الخاصّة؟
فإذا طلبنا الجواب عن هذا السؤال وجدناه بصراحةٍ وجزالةٍ في مواطن كثيرة من كتاب الله العزيز.
منها على سبيل المثال قوله تعالى {فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ إنّ ذَلِكَ لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شئٍ قَدِيرٌ} سورة الروم/50(66/134)
قد أمر الله في هذه الآية الكريمة بالنظر إلى آثار رحمته تحذيرًا عن الغفلة، وترغيبًا في حضور القلب؛ وحثَّ الإنسانَ على ذلك ليعتبر بما خلقه الله وأبدعه، وأنّه كيف يحيي الأرض بعد موتها بقدرته تعالى حتّى يلين قلبه، وتتأثر عاطفته، وليثبت على إيمانه بأنّه الخالق البارئُ الواحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئٌ.
ولكنّ الغاية من كلمة »هُوشْ دَرْدَمْ«، ومتمّماتها ليست هذه بتاتًا. بل الغرض الحقيقي المكنون في عمق هذه الكلمة إنّما هي ترسيخ عقيدة »وحدة الوجود« في قلب سالك الطريقة بترويضه من خلال تمرينات جوكية. وهي كثيرة مشروحة في كتبٍ عديدةٍ بلغاتٍ مختلفةٍ، أقدمها كتاب »السطْرَايَات« للرّاهب الهنديّ باتانجالي (Patanjali). لأنّه لم يرد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله صلى لله عليه وسلّم أمرٌ مفروض بمراقبة كلّ نَفَس، ولا بيانٌ فيما أنّ حضور القلب مع الله موقوف على مثل هذه المراقبةِ
وبالخلاصة فمن أرهق نفسه بمقارنة آداب النقشبنديّة مع أمثالها الموجودة في الديانات الهندية، وجد المطابقة التامّة بينهما »وكفى الله المؤمنين القتال.«
» أمّا "نَظَرْ بَرْقَدَم": فمعناه أنّ السالك، يجب عليه أن لا ينظر في حال مشيه إلاّ إلى قدميه؛ ولا في حال قعوده إلاّ بين يديه. فانّ النظرَ إلى النقوشِ والألوانِ يُفْسِدُ عليه حالَهُ ويمنعه مما هو بسبيله. لأنّ الذاكر المبتدئ إذا تعلّق نظرُه بالمبصَرات اشتغل قلبه بالتفرقة الحاصلة من النظر إلى المبصَرات لعدم قوّته على حفظ القلب.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.(66/135)
كانت هذه ألفاظ محمّد أمين الكرديّ الأربليّ أحد رؤوس النقشبنديّة وهي واضحةٌ إلى حدّ لا يقبل التأويل، إلاّ أنَّ مِنْ وراء هذه الألفاظ غاياتٍ مشبوهةً، ودسائسَ خطيرةً لا يتمكّن من كشف الستار عنها إلاّ مَنْ أنار الله قلبَه بهدي القرآن والسنّة. ذلك أنّ ما جاء في هذه العبارات مِنْ نصيحة المريد المبتدئ »أنْ لا ينظر في حال مشيه إلاّ إلى قدميه ولا في حال قعوده إلاّ بين يديه« لا يتضمّن شيئًا مما جاء في قوله تعالى {وَاقْصِدْ فيِ مَشْيِكَ} سورة لقمان/19. بل لا علاقة بين الأمرين. إذ أنّ القصد في هذه الآية الكريمة، هو الاقتصاد. قال ابن كثير: {وَاقْصِدْ فيِ مَشْيِكَ}: »أي امش مشيًا مقتصدًا ليس بالبطيء المتبثّط، ولا بالسريع المفرط؛ بل عدلاً وسطًا بين بين.«
إنّما قدّمنا هذه المقارنةَ، إحباطًا لما قد يتعمّد أحدهم فيسرعُ إلى الاستدلال بهذه الآية الكريمة لتبرير باطله بالحقّ كما هو دأبهم.
أمّا الغرض الأصليُّ مِنْ هذا المصطلح ليس إلاّ ترويض السالك المبتدئِ على الخنوع والذلّ والمسكنة؛ حتّى يَنْسَدَّ عليه أبواب اليقظة والوعي، فيتقبّل كلَّ ما يأمره شيخُهُ دون اعتراضٍ؛ فيُصْبِحَ في النهاية عبدًا مطيعاً لا يخالفه أبدًا؛ وإنْ كلّفه باقتحام حرمةٍ، أو اقترافِ جريمةٍ؛ كما سبق الحديث عنه في باب آداب المريد مع شيخه.(66/136)
وبجانب هذا، فإنّ إصرار الإنسان على إثبات نظره أمامه، لم يرد إلاّ في الصلاة. وهو مطلوبٌ أيضًا أثناء الدعاء. أمّا في غيرهما من حالات الإنسان، وخاصّة إذا كان مشغولاً بأمرٍ من أمور دنياه فلا. لأنّ الإنسان إمّا يكون في حال السير يتنقّل من مكانٍ إلى آخر لغايةٍ يريد تحقيقها؛ أو يكون جالسًا مع أصحابه أو شركائه أو أهله في غالب الأوقات. و في كلتا الحالّتين ينبغي للإنسان أنْ يلتفتَ إلى جهاتٍ مختلفةٍ عند كلِّ حدثٍ جديدٍ، من صوتٍ أو حركةٍ أو ضوءٍ؛ ليتأكّد ممّا يجرى حوله؛ وليتّخذ الموقفَ اللاّزم مِنْ حيطةٍ أو استعدادٍ على حسب ما يقتضي. ولكنّ الّذي يخفى على غالبية الناس هنا، أنّ إثبات النظرِ إلى أقرب مكان من الأرض نحو الأمام في حالّتي المشي والقعود بصورة متواصلة، لهي من أهمّ الشروط لصلاة اليوغا في الديانات الهندية. وفي ذلك مقاصد: منها ترويض الإنسان على الذلّة والمسكنة. وهما من الفضائل في الديانة البوذية الّتي تستمدُّ من حياةِ بوذا الحكيم Buddha. و»يُقال إنّه رأى وهو في التاسعةِ والعشرين، ولأوّلِ مرّة، عجوزًا خرفًا، ورجلاً مريضًا، وناسكًا مترحِّلاً، وجثّةَ مَيْت. فهالَتْهُ مظاهر الحياة هذه الّتي لم تقع عليها عيناه من قبل، فانسلخ عن ماضيه وتنسّك. ولكنّه ما لبث أن اطّرح، بعد ستّ سنوات، حياة التنسّك الصارم، واستغرق في التأمّل العميق المُفضي إلى التنوّر. وسرعان ما اجتمع حوله عددٌ من المريدين كانوا نواة جماعة "الرهبان المتسوّلين" الّتي أسّسها«(66/137)
إنّ هذه العبارات المنقولة من موسوعة المورد لمنير البعلبكي، تدلّنا إلى طبيعة الرهبنة الهندية على تمامِ حقيقتِها، وما لِسَالِكيِهَا من الإهمال، وإسقاط التدبيرِ، والتأمّل العميق الذي يقتضي إثبات النظر على نقطةٍ معيَّنَةٍ طوال ساعات مديدة... وهذا لاشكّ استخفافٌ ظاهرٌ بسنّةِ اللهِ تعالى. علمًا بأنّ الرهبنة والتسوّل هما الذلّة والمسكنة بعينهما، وهما من العقوبات الّتي أخذ الله بها بني إسرائيل عند ما استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.} سورة البقرة،/61.
هذا، ومن المعجزات الكامنة في هذه الآية الكريمة، أنّ المجتمع الهنديّ-البرهميَّ قد حكم بالذات على نفسه بالذلة والمسكنة جزاءً بما وقع فيه من الشرك البواح. لأنّ هذا المجتمع يتميّز من جميع أصناف المشركين في العالم بتقاليده الّتي تُعَدُّ من أشد مظاهر المقاومة للفطرة الإنسانيّة السليمة. إذن فأولى بمن تشبّه بهم، أن يأحذهم الله تعالى بنفس العقوبة.
كذلك من المقاصد الّتي تكمُنُ من وراء هذه الرياضة الهندية المتمثّلة في إثبات النظر، هو "التركيز". ومؤدّاه: الانصراف من هموم الدنيا والآخرة، تخلُّصًا من متاعبها ومشاقّها؛ وفقًا لتعاليم »بوذا الراهب الّذي صدمته مشكلة آلام البشريّة، فقرّر أن يقطع صلتَه بالماضي ويبحث عن الحقيقة السامية في التأمُّل." موسوعة بهجة المعرفة، المجموعة الثانية، 3/135. للإطلاع على أقوالهم الواردة حول مفهوم العزلة عند النقشبنديّين راجع المصادر التالية:
أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 54. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 110. ط. 1276 هـ.(66/138)
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة إلى اللّغة التركية: رحمي سرين) ص/ 22. إسطنبول-1994م. " وكان بوذا يعتقد أنّ الألم ينجم عن الرغبة. وأنّ التخلّص من الرغبة يأتي بانتهاج (الطريق الثمانيّ النبيل) الّذي يتمثّل بالسيرة الحسنة، والفعل الحسن، وأنّه من الممكن نتيجةً لذلك بلوغ النرْفاَنَاNirvana . وهي حال من السعادة القصوى.« المصدر السابق ص/ 136.
وأمّا السعادة القصوى (أي النيرْفاَنَا) تلك الّتي طالما تتحدّث عنها البوذيُّون ويسعون من وراءها؛ إنّما هو "الفناء في الله" بعينه عند الصوفيّة.
إذًا يتّضح لنا بصورةٍ جليّةٍ أنّ مصطلحَ "نَظَرْبَرْقَدَمْ" وما يشتمل عليها من المعاني الفلسفية، هو مُقْتَبَسٌ من البوذية دون شكّ. وأنّ الإسلام بريءٌ من هذه الهرطقة؛ كما يبرهن على ذلك حياة النبيّ عليه الصلاة والسلام، وحياة أصحابه عليهم الرضوان. إذ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قام بمهامّ وأعمال عجز العلماء والمؤرِّخون عن حصرها. فقد قاد الجيوشَ، واحتلّ منصبَ أوّلِ رئيسٍ للدولة الإسلامية، وراسل الملوكَ، وهادن العدوَّ، وأبرم العقودَ والمعاهداتِ، وقضى بين الناس، وحكم بالعقوبات، وأمر بتنفيذها إلى غير ذلك من الأمور الّتي تستوجب الحركة والانتباه والالتفات إلى حيث يقتضي. كلّ ذلك يبرهن على أنّ مقولة "نَظَرْبَرْقَدَمْ" بدعةٌ دخيلةٌ استقوها من رهبان البوذية والبرهمية. "ومن تشبّه بقوم فهو منهم«. أبو داود-لباس- رقم الحديث: 3512؛ مسند الكثيرين من الصحابى، رقم الحديث: 4868.
***
"أمّا "سَفَرْدَرْوَطَنْ"، -وهو المبدأ الثالث للطّريقة النقشبنديّة- فيقول محمّد بن عبد الله الخانيّ في تفسير هذا المصطلح: »فالمعنى المراد بها أنه ينبغي أنْ يكون سفر السالك من عالم الخلق إلى جناب الحقّ سبحانه وتعالى« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 52. طبعة مصر - 1319هـ.(66/139)
لقد سلك الخانيّ طريقًا ملتويًا باختيار هذه الكلمات ليستعرض بها من فنون لباقته في التعمية. بيد أنه لا يعزب عن العقول النيّرة »أن السفر من عالم الخلق إلى جناب الحق« عقيدة باطلة، »ما أنزل الله بها من سلطان«. لأنّ قولهم »السفر من عالم الخلق« يعني الخروج والنزوح والتطهّر من الطبيعة المخلوقية، والتدرّج إلى مقام الخالقية، والاندماج في الله! وهذا هو المقصود بعينه من كلمتهم »الفناء في الله«. ولكن جاءت هذه الكلمة في صيغة جديدة كما هو دأبهم.
هذا وقد تناول محمّد أمين الكرديّ كلمة "سَفَرْدَرْوَطَنْ"، وفسّرها بصيغة أكثر مرونةً؛ وربما تفاديًا لأيّ ردٍّ قد يواجهون من جرّاء ما يحتمله تفسير الخانيّ لهذه الكلمة من عقيدة وحدة الوجود، والوصول إلى الله، و»الفناء في الله«.
فقال الكرديّ »فمعناه الانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة.«
غير أنّ هذه الكلمات جاءت على خلاف ما ذهب إليه الخانيّ؛ وهذه من تناقضات النقشبنديّة. وما أكثر من تكذيب أحدهم للآخر. وهي من أعظم الحجج القائمة عليهم.
***(66/140)
وأمّا "خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ": فمعناه "الخلوة في الجلوة" على حسب تعبيرهم. وهو المبدأ الرابع للطريقة النقشبنديّة. فقد راوغ الخانيّ في تفسير هذا المصطلح المشبوه، وتفنّن في تحميل المعاني السامية عليه. فقد جاء في مقطع من كلامه »أنّ الخلوة نوعان: الأوّل؛ الخلوة من حيث الظاهر. وهي اختلاء السالك في بيتٍ خالٍ عن الناس، وقعوده فيه؛ ليحصل له الإطّلاعُ في عالم الملكوت، والشهودُ في عالم الجبروت. لأنّ الحواسّ الظاهرة إنْ احتبستْ عن أحكامها؛ انطلقت الحواسُّ الباطنةُ لمطالعةِ آيات الملكوت، ومكاشفة أسرار الجبروت. والنوع الثاني؛ الخلوة من حيث الباطن. وهي كون الباطن في مشاهدة أسرار الحقّ، والظاهر في معاملة الخلق بحيث لا تُشغِلُهُ معاملة الظاهر عن مشاهدة الباطن. فيكون الكائن البائن. وهذه هي الخلوة في الحقيقة كما أشار إليه تعالى في قوله: { رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.}« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 53. طبعة مصر - 1319هـ.
هكذا استدلّ الخانيّ في النهاية بكلام الله تعالى في غير مورده. لأنّ الآية المذكورة لا علاقة لها إطلاقًا »بمن يختلي في بيت خال عن الناس ويقعد فيه ليحصل له الإطلاع في عالم الملكوت«. واللهُ تعالى يقول، { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ.} سورة الجن/26، 27. وقد خُتِمتْ الرسالة في جنس البشر بمحمّد - صلى الله عليه وسلم -
أمّا الّذين أشار الله إليهم في الآية المذكورة فإنما هم رُسُلُ اللهِ الأمناءُ على سرّهِ المكلّفون بتبليغ رسالاته، وليس أولئك الكهنة الّذين تَنْسُبُ إليهم الصوفيّةُ أنواعَ الكرامات والخوارق.
***(66/141)
وأمّا لفظ "يَادْكَرْدْ": وهو خامس المباني للطريقة النقشبنديّة. فيقول محمّد أمين الكرديّ في تفسيره لهذا المصطلح: »فمعناه تكرار الذكر على الدوام، سواء باسم الذات أو النفي والإثبات« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ. لا شكّ فيما أنّ ذكر الله أفضل الأعمال. وقد قال تعالى: { فَاذْكُروُنيِ أَذْكُرْكُمْ.} سورة البقرة/152. وقال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثيِرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكارْ.} سورة البقرة/152. وقال تعالى: { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتيِلاً.} سورة مزمّل/8 وقال تعالى: { أَلاَ بِذِكْرِْ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوُبُ.} سورة الرعد/78 وجاءت في القرآن الكريم آيات أخرى تحثّ على ذكر الله.
إلاّ أنّ الغرض من الذكر في الطريقة النقشبنديّة يختلف عمّا هو المقصود في القرآن اختلافًا كبيرًا. ولا يَفْطَنُ إلى هذا الاختلاف إلاّ من رزقه الله المعرفة الواسعة بعقائد مجوس الهند، وبِمَدَى تأثيره على الطريقة النقشبنديّة في مسألة الذكر.
لأنّ الذكر في الإسلام بكلّ معناه اللغويِّ والاصطلاحيِّ، ليس هو الذكر الّذي يَقْصُدُ به واضعُ مصطلَحِ "يَادْكَرْدْ". فانّ الذكر في الإسلام هو الصلاة المفروضة والمسنونة، وتلاوة القرآن، والدعاء المأثور عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد يُطلق على أوراد معروفة بترديد أسمائه تعالى الواردة في القرآن الكريم وغيرها من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وما إلى ذلك. ولكن بالأعداد الّتي وردت في السنّة الصحيحة.
فالمقصود بهذا الذكر، ليس إلاّ توحيد الله تبارك وتعالى وتنزيهه من كلّ مالا يليق بشأنه سبحانه، والإقرار بالعبودية له وحده.(66/142)
أمّا الذكر في الطريقة النقشبنديّة بمعناه الحقيقي، فليس هذا الّذي عددناه، ولا الغرض الحقيقي هو توحيد الله أو العبودية له؛ بل المقصودُ الأصليُّ الّذي لا يعرفه إلاّ الروحانيّون منهم، هو طلب "المعرفة بالله" ومحاولة الوصول إليه، كما هو في الديانة البوذية. تعالى ربُّنا عن ذلك علوًّا كبيرًا. ذلك أنّ المعتنقين لشعبة من هذا الدين الوثنيِّ يعتقدون »أنّ الله يحلّ في أيّ صورةٍ يختارها من صور أفراد الإنسان ليكمِّلها ويطهّرها« عبد القادر شيبة الحمد، الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، ص/ 76. ولهم أوراد وأذكار يردّدونها بأعداد كبيرة تُقَدَّرُ بالآلف طلبًا لتلك الغاية مع القيام بعمل التركيز على شئٍ معيَّنٍ.(66/143)
فقد اطّلع بعض رجال الدراسة والبحث على هذه الرياضة البوذية-البرهمية. يقول أحدهم: »أمّا عن ترويض نفوسهم، والتحكّم بقواهم العقليّة، فهم يمارسون بالإضافة إلى تلك الرياضات طرقًا شتّى مثل قطع العلائق والروابط المجتمعيِّ، والخلوة الطويلة في مكان مقفر، وحبس الشهيق في الصدر وتحديق النظر في شئٍ ثابت لا تبارحه العين، وترديد كلمة معيّنة على نغم واحدٍ، وحصر الذهن في موضوع معيّن لا يتعدّاه الفكر... إلى غير ذلك من الممارسات والتجارب الّتي يتوصّلون بها إلى طرد كافّة المؤثّرات والمشاغل عن الأذهان، وإخراج الطاقات البدنية والعقلية عن وظائفها الأساسيّة وتجميعها لحساب غرض واحد: وهو الخروج عن المظهر العامِّ للناس في كلّ شئٍ، واختراق القوانين المألوفة للحياة الطبيعية؛ والعجيب في أمر هؤلاء السحرة الّذين يتّبعون تلك الرياضات البدنية الشاقة والإنتحارات الذهنية المتكررة، أنّ أحدهم يصير بعدها وكأنه قد تلاشت فيه حدود الأشياء، وتساوت في نظره الأضداد؛ فهو لا يحبّ ولا يكره، ولا يعرف ولا ينكر، ولا يسرُّ ولا يحزن، وهو يذهل عن نفسه حتّى لا يشعر بما يصدر عنه من انفعالات أو يدخل عليه من مؤثّرات؛ ولعلّ بفعل ذلك تتولّد عنده القدرة على الإتيان بأعمال السحر أو التخييل أو التنويم، فيراه الناس قادرًا على أن يهدّئ الأسد الغاضب بنظره، ويلاعب النمر الجائع فلا يأكله، ويختفي عن أنظار المشاهدين وهو في وسطهم يحادثهم ويسائلهم، ويقرأ الأفكار في الأذهان حتّى يتوهّم البسطاء أنّه يرى البعيد ويعلم الغيب...« سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام، ص/ 155.(66/144)
فقد اقتبس قدماء النقشبنديّة هذه الظاهرة من البوذية، وقمّصوها مصطلح "يَادْكَرْدْ" وحمّلوها معنى الذكر، وجعلوها ركنًا من أركان طريقتهم. لذا يستحيل على الجهلة بطبائع الأديان منهم أن يكتشفوا سرّ هذا الإقتباس، وخاصّةً الشيوخ المعاصرين من الأتراك والأكراد لهذه الطائفة أغلبهم جهلة لا ثقافة لهم، فلا يتأتّى لأحدهم أنْ يقارن بين الأديان والمعتقدات، فيكشف ما تسرّب من بعضها إلى بعض، وما طغى بعضها على بعض، تجلّى بمعتقداتٍ متباينةٍ وأشكال مختلفة عبر القرون. ومع ذلك لا يُفرّق شيوخهم بين "العبادة لله" و"المعرفة بالله". بينما الأوّل منهما، هو مراد اللهِ الّذي خلق الإنس والجنّ لأجله. أمّا الثاني فهو مستحيل بمعنى التوصّل إلى المعرفة بذات الله.
***
إنّ من الأوراد المعروفة في الديانة الهندية أربع كلمات مقدّسة في اعتقاد الهنادكةِ، وهي: Om, mani, padme, hum. يردّدها دراويشهم ورُهْبانهم بأعداد كبيرة ومحددة تقدّر بالآلاف، بحيث يغيبون عن أنفسهم بتأثير التكرار. وأحيانًا تظهر منهم أفعال غريبة وأطوار عجيبة وخوارق للعادة يتأثّر بها الناظرون ويندهش منها المشاهدون. كالمشي على الجمرِ، وسحق الزجاج بالأسنان وابتلاع مكسّراتها، وطعن الجسمِ بِرُمحٍ أوغيره... فقد شاعت هذه الأشكال من الشعوذة بين الصوفيّة أيضًا، وبخاصّةٍ المنتسبين منهم إلى الطريقة القادريّة والرفاعيّة.
أمّا حال الغياب، فإنها كذلك تعرض لبسطاء النقشبنديّة بعد تكرارهم للأوراد الّتي يكلّفهم بها شيخُهم فيغيبون عن أنفسهم مدّةً ويظنّون بعد الصحوة أن الله قد حلّ فيهم، ويسمّون هذه الحالة »الفناء في الله«. فتتمثّل هذه البدع بكلّ ما سبق الحديث عنه في كلمة "يَادْكَرْدْ".
***(66/145)
أمّا لفظ "بَازْكَشْتْ": فمعناه في اللّغة الفارسيّة، الرجوع. فهو من متمّمات "يَادْكَرْدْ". يقصد النقشبنديّون بهذا المصطلح رجوع الذاكر إلى المناجاة بعد إطلاق النفَسِ. لأنّهم يحبسون النفَسَ أثناء رياضة اليوغا كما تفعله اليوغيّة اثناء صلاة اليوغا. إلاّ أنّ من حِيَلِ رؤوس هذه الطائفة، أنّهم قد سنّوا نداءً يستأنف بها الذاكر رياضته من جديد. وهي قولهم: »إلَهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي«. فقد مزجوا هذه الصيغة في آدابهم، تحسينًا لها، وليجعلوا منها سببًا بين بدعتهم والإسلام؛ وليضفوا عليها سربال الأوراد الشرعيةِ، تعمية على المغفّلين.
أما في الحقيقة، أنّ جميع المصطلحات بما فيها "بَازْكَشْتْ"، لا تمتّ إلى الإسلام بصلة؛ لا لفظًا ولا معنىً. كما يتبيّن ذلك من الأغراض المقصودة من هذه الألفاظ والمعاني الكامنة فيها؛ خاصّة إذا نُزعت منها المفاهيم المُقْتَبَسَةُ من الإسلام.
***
أمّا لفظ "نِكَاهْدَاشْت": فمعناه اللّغويُّ في القاموس الفارسي: الحراسة والحفظ. وعند النقشبنديّين: هو »أن يحفظ المريد قلبه من الخواطر ولو لحظةً«. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ. يقصدون بذلك في ظاهر كلامهم الاحتراز من الغفلة. والحقيقة غير ذلك. فانّ كلمة "نِكَاهْدَاشْت" مبدأٌ هامٌّ في العقيدة النقشبنديّة. وفي الوقت ذاته هو من الشروط المهمّة الّتي يتوقّف عليها "التركيز" لأداء رياضة اليوغا. إذ لا يمكن إطلاقًا أنْ يحقّق الإنسانُ حالة التركيز التامّ إلاَّ بمراعاة خمسة أمور، وبالتزامٍ دقيق.
الأول منها: الجلوس على هيئة معيّنة، وهو الشكل المعروف بـ"اللّوطوس Lotus" عند الجوكية (اليوغية). في مقابلة »الجلوس على عكس التورّك في الصلاة« راجع المصادر التالية لمزيد من المعرفة حول هذا الشكل من الجلوس:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 38.(66/146)
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 42.
* سليمان زهدي، المجموعة الخالدية ص/ 4.
*سليمان زهدي، نهجة السالكين ص/ 30.
* عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 12.
* أحمد ضياء الدين الكموشخانوي، جامع الأصول ص/ 146. عند النقشبنديّة.
والثاني: النفَسُ الموزونُ بإيقاعٍ طبيعيٍّ.
والثالث: تثبيت الفكر على شئٍ بعينه.
والرابع: الاسترخاءُ التامُّ.
والخامس: منع الحواسِّ من التذبذب. وذلك بالابتعادِ إلى مكانٍ لا حركةَ فيه ولا صوتَ ولا ضياءَ.
وقد استوحى النقشبنديّونَ الشروط السالفة من اليوغا، وعليها بنوا أسس طريقتهم، ومنها "نِكَاهْدَاشْت"؛ وهو في مقابلة الشرط الثالث المذكور آنفًا. أي "تثبيت الفكر على شئٍ معيّنٍ" حتّى تتحقّقَ بذلك حالةُ التركيز ومنها تتطوّر إلى حالة أخرى تسمّى »الغيبوبة الواقعة وراء الخبرة البشرية = Transcendental absence.« وهي "الجذبة" عند النقشبنديّة.
أمّا لفظ "يَادْدَاشْتْ": وهو المبدأ الثامن للطريقة النقشبنديّة وآخر الكلمات الثمانية الّتي وضعها عبد الخالق الغجدوانيّ؛ فمعناه على لسان محمّد أمين الكرديّ: هو »التوجّه الصرف المجرّد عن الألفاظ إلى مشاهدة أنوار الذات الأحديّة، والحقّ أنّه لا يستقيم إلاّ بعد الفناء التامّ والبقاء السابغ«
إذًا - بعد هذا القدر من الإطّلاع على الجانب المستور لهذه الطريقة -، من البساطة جدًّا أن يظلَّ الإنسانُ متسائلاً عما إذا كان النقشبنديّون يريدون بهذه الرياضة عبادةَ لله: إقرارًا بأنّه الواحد الأحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئٌ؛ وحاشاه أن يحلّ في شئٍ من خلقه؛ أم يسعون للفناء فيه، والوصول إليه، والانصهار في ذاته، والاتحاد معه؟!!(66/147)
إنّما هذه العقيدة هي خلاصة ما جاء به الْحُلُولِيُّونَ الزنادقةُ من أمثال حسين بن منصور الحلاّج، وفريد الدين العطار، ومحي الدين بن عربي، وعبد الحق بن إبراهيم بن سبعين المرسي، وسليمان بن على بن عبد الله التلمساني، والحسين بن علي بن هود، وعبد الكريم الجيليّ ومَنْ على شاكلتهم من زنادقة العرب والعجم. فقد زعموا أنّ الله عين كلّ شئٍ؛ وهو هذه المخلوقات على كثرتها واختلاف أنواعها وأجناسها وألوانها وأحجامها ومعانيها ومبانيها وأصولها وفروعها من إنسٍ وجنٍّ وملائكةٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وكبيرٍ وصغيرٍ ورطبٍ ويابسٍ وطاهرٍ ونجسٍ.
إنّ قدماء النقشبنديّين وخاصّتهم لا يختلفون عن هؤلاء في هذا الاعتقاد. ولكن لا يصل إلى ذلك المستوى أحدٌ (في رأيهم) إلاّ إذا التزم آدابَ السير والسلوك وفق المصطلحات الأحد عشر. فمتى تدرّج المريدُ في هذه المراتب وبلغ إلى منتهى المنازل وتحقّقت فيه حالة "يَادْ دَاشْتْ"، أصبح فانيًا في الله وتأكد من أنّ اللهَ قد حلّ فيه، وأنّه جزءٌ منه، وأنّه كلّ شئٍ. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
نعم هذه هي حقيقة مرادهم، وإنْ دافع المتأخّرون المعاصرون من شيوخ النقشبنديّة عن ساداتهم بأنّهم لم يقصدوا ذلك. بلى، إنّهم على هذا الاعتقاد؛ وتشهد عليهم مراسلاتهم الخاصّة وأخبارهم الّتي سجّلها أسلافهم بالذات، ونقلوها عنهم صراحةً. منها ما قد فشت أسرارُها وافتضح، ومنها ما لم تزل تحت ستار الكتمان في ذمّة خواصّهم. أمّا جهل عامّتهم بهذه الحقائق فله أسبابٌ سوف نشرحها في الفصل الرابع إنْ شاء الله تعالى.
***(66/148)
أمّا المباني الثلاثة الأخيرة الّتي وضعها مؤسّسُ هذه الطريقة محمّد بهاء الدين نقشبند؛ فالأوّل منها: هو "الوقوفُ الزمانيُّ". وجاء تفسيره على لسان محمّد أمين الكرديّ »أنّه ينبغي للسّالك بعد مُضِيِّ كلِّ ساعتين أو ثلاث، أن يلتفتَ إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ.
لاشك أنّ هذه المراقبة النفسيّة امتداد للحالات الّتي يمرّ بها السالك (أي المريدُ النقشبنديّ) عبر الرياضه الصوفية وسلوكها وفقًا لما سبق شرحُهُ من آداب هذه الطريقة كما يُفْهَمُ من تعريف الكرديّ لهذا المصطلح. ويعني هذا أنّه لابدّ للدرويش القائم بهذه الرياضة أنْ يتأكّد من نفسه في نهاية كلّ ساعتين أو ثلاثِ ساعاتٍ، هل تحقّق له الفناء في الله والبقاء بالله، أم لا يزال في ريب من ذلك. فإذا وجد أنّه لم يقتنع بعد، وجب عليه أن يواصل رياضته حتّى يَقِرَّ في نفسه أن الله موجود في كلّ ذرّة من الكائنات، وبالتالي فيكون قد حلّ فيه وأصبح السالكُ هو الفاني في الله والباقي به. هذا من أصول اعتقادهم وإنْ كتموا ذلك عند غيرهم واحتاطوا عند العوامّ منهم.
أمّا "الْوُقُوفُ الْعَدَدِيُّ" و "الْوُقُوفُ الْقَلْبِيُّ"، فانّهما من متمّمات "الْوقُوف الزمَنِيِّ". إذ على السالك أن يحافظ على عدد الوتر في الذكر بالنفي والإثبات عَبْرَ مراحل الرياضة. علمًا بأنّ الغرض الأصليَّ من هذا الذكر ليس إلاّ تحقيق حالات نفسية معيّنة. وهي "التركيز الفزيولوجيConsantration physiologic = " ومنه التطوّر إلى حالة "الغيبوبةTranscendental absance = ". لأنّ السالك إنّما يتطبّع تمامًا بالصبغة الّتي يريدها شيخُهُ عندما يكون قد تدرّج إلى هذه الحالة النفسية في نهاية المطاف.(66/149)
كلّ هذه المقولات مشبوهةٌ، مؤدّاها إذلالُ كرامة الإنسانِ، وإلحاق الضمور بغزّته، وتحويله إلى بهيمةٍ مُدَرَّبَةٍ على الطاعة العمياء. وليس فيها شيءٌ ممّا أمر به الإسلامُ من التّواضعِ والإطمئنان والسكينة. وإذا تأمّلنا غاية ما في هذه المقولات من التوجيه على لسان شيوخ النقشبنديةِ، وجدنا الصواب منها ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأفصحِ عبارة وأفضلها وأوجزها، وفي أساليب القرآن من تمام البيان والتحقيق ما ليس في هذه المقولات وغيرها مثله. قال تعالى: وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. سورة الفرقان/33
***
الفصل الثالث
مفاهيم، ومصطلحات، ومعتقدات أخرى عند هذه الطائفة.
* التصوّف....................................................................................................
* السير والسلوك...................................................................................................
* العشق الإلهي.......................................................................................................
* المعرفة بالله.........................................................................................................
* الفناء والبقاء......................................................................................................
* وحدة الوجود.....................................................................................................
* وحدة الشهود.....................................................................................................
* الولاية، والولي، وتصرّف الميّت.......................................................................................................(66/150)
* المُّكاشفة والإلهام، وعلم الغيب......................................................................................................
* الأويسيّة....................................................................................................
* الكرامة، والمناقب....................................................................................................
* مفهوم التوسّل في معتقد النقشبنديّة وما ركّبوا عليه من أمور...................................................
الفصل الثالث
مفاهيم ومصطلحات ومعتَقَداتٌ أخرى عند هذه الطائفة.
إنّ الطرقَ الصوفيّةَ عامّةً، (بما فيها الطريقة النقشبنديّة) هنّ أصلاً منظّماتٌ شبهُ سرّيّةٍ، بل هنّ أديانٌ مشبوهةٌ نشأتْ - في حقيقة الأمر - لضرب الإسلام من الداخل على يد زنادقة متنكّرين بلباس الزهد والعفّة والإخلاص.
لهذا، كلّما تعمّقنا في البحث من وراء حقيقة الطرق الصوفيّة نجد أنفسنا أمامَ رُكامٍ من مخلّفات الأديان والفلسفات تتمثّل في مفهوم التصوف.
***
* التصوّف:
أمّا التصوّف، فانّه نفقٌ مظلمٌ تتزاحم فيه أفكارٌ غامضةٌ وعقائدُ غريبةٌ وتأويلاتٌ خطيرةٌ وفلسفاتٌ دخيلةٌ وألفاظٌ مُعَقَّدَةٌ وأساطيرُ عجيبةٌ وحكاياتٌ رهيبةٌ تراكمتْ في مجَلَّدَاتٍ من كتب الصوفيّةِ وانتشرتْ بين آلافٍ مؤَلّفَةٍ من أصحاب النفوس الضعيفةِ والمغفّلين الّذين لم يفطنوا إلى ما فيه من أخطار على الإسلام والمسلمين ضمنَ ذلك المزيج الباطني المُخْتَلَقِ.(66/151)
»ينبغي أنْ يُفْهَمَ جيّدًا أنّ التصوّف لا يعني الزهد في الدنيا أو تزكية النفس وتصفيتها، وإنّما هو فلسفة كاملة شاملة وعقيدة لها معالمها الخاصّة بها. ولم يكن المتصوّفة هم أوّل من ابتدعوا التصوّفَ واخترعوه، بل هو فكرة فلسفيّة قديمة جدًّا، كان لها أتباعها في اليونان والهند والصين والفارس. وكان في البوذيةِ والهندوسيّةِ واليهوديَّةِ والنصرانيّةِ متصوّفتها الخاصّة بها. ولم يوجد التصوّف بين المسلمين إلاّ بعد ترجمة كتب الفرس واليونان والهنود إلى العربيّةِ. والدارسُ لعقائد الصوفيّة يجد لها أصلا في الديانات السماويّة والوضعيّة الأخرى. فوحدة الوجود عند المتصوّفة مستمدّة من الهندوسيةِ، والحلولُ والفناءُ في ذات الله مستمدٌّ من النصرانيّة الّتي تُؤمن بحلول ذات عيسى البشريّة بالذات الإلهية. وكذلك عقيدةُ الحقيقةِ المحمّديةِ مأخوذةٌ من تصوّرٍ مشابهٍ للنّصرانيّةِ حول عيسى ومكانته في الدنيا...« الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 65، 66؛ الدكتور إسماعيل العربي، معجم الفرق والمذاهي الإسىمية. ص/88
لقد اختلف الباحثون في ردِّ كلمةِ التصوّفِ إلى أصولٍ متباينةٍ، وكلٌّ حمَّلَها معنىً على حسبِ رأيِهِ وظنِّهِ؛ وغَفَلَ جميعُهُمْ عن أصلِها الحقيقيِّ كما سنفضحهم بالدليل القاطعِ في نهاية البحث إن شاء الله تعالى.
زعم فريقٌ منهم: أنّ التصوّفَ مشتقٌّ من الصفاءِ أو الصفوِ. فقد وقعوا بهذا الزعمِ في ورطةٍ كشفتْ عن جهلهم باللّغة العربيةِ؛ إذ أنّ الأصلَ الثلاثيَّ للتّصوّفِ يتركّبُ من الصادِ والواوِ والفاءِ (صَوَفَ)، بينما الأصلُ الثلاثيُّ للصّفاءِ أو الصفوِ يتركّبُ من الصادِ والفاءِ والواوِ (صَفَوَ). وبهذا قد افتضحوا إلى حدٍّ لا مجال للاعتبارِ برأيهم وهم أصحابُ هذا المستوى من السطحيةِ والجهلِ.(66/152)
وقال فريقٌ منهم: إنّ كلمة »التصوّفِ« تعودُ إلى »الصُّفَّةِ« الّتي كانت جماعةٌ من فقراءِ الصحابةِ يأوون إليها؛ بينما الربطُ بين هاتين الكلمتين غيرُ جائزٍ بوجهٍ من الوجوهِ. فالمناسبةُ الاشتقاقيةُ ممنوعةٌ. لأنّ »التصوّفَ« (إذا فرضناه كلمةً عربيةً وهي غيرُ عربيةٍ إطلاقًا كما سيتّضحُ في نهاية البحثِ بالدليل القاطعٍ)، فأصلُهُ الثلاثِيُّ يتركّبُ من الصادِ والواوِ والفاءِ (صَوَفَ). أمّا الأصل الثلاثِيُّ لكلمة »الصُّفَّةِ«، فإنّه يتركّبُ من الصادِ والفاءِ مضعّفًا (صَفَفَ). فالخلافُ بين الكلمتين ظاهرٌ لا يترك المجالَ لأيِ مناقشةِ.
ثم المناسبةُ بين المفهومين من حيث المعنى، ممنوعةٌ أيضًا. لأنّ »التصوّفَ« مصطلحٌ اختلفت الآراءُ في تعريفِهِ وشرحِهِ، وعجز الناسُ عن فهمِ حقيقتِهِ حتّى اليوم. أمّا »الصُّفَّةُ«، فإنّها كانت بيتًا بسيطًا مسقوفًا بقضبان النخلِ يسكن فيه الضعفاءُ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ثم المناسبةُ بين الصوفيّةِ وأهلِ الصُّفّةِ ممنوعةٌ أيضًا. لأنّ الصوفيّةَ يعيشون ويتعبّدون على أساس قهر النفسِ بالجوعِ، والرهبنةِ، ولبس المسوحِ، وترديد الأورادِ على الطريقة البوذيةِ، ورابطةِ الشيخِ، وحلقات الذكر، والسماعِ والرقصِ... لا يعتدّون في كلِّ ذلك بمبدأ »التوقيفيةِ« في الأسلام. بينما كان أصحابُ الصُّفّةِ كلّهم يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرهم وسلوكهم وكلامهم، وتعبّدهم وأخلاقهم وتعاملهم.
وقال فريقٌ آخرُ: إنّ أصل التصوّفِ مشتقٌّ من الصوفِ الّذي كان منه لباس رجالٍ رفضوا زينةَ الدنيا وملذّاتِها، وعرفهم الناسُ بالتواضُعِ والقناعةِ والاستقامةِ في أمر الآخرةِ.(66/153)
إنّ الربطَ بين كلمتَيِ الصوفِ والتصوُّفِ بهذه المناسبةِ واهيةٌ جدًّا. لأنّ التواضُعَ والقناعةَ والاستقامةَ لا يتوقّفُ على لبس الصوفِ، ولا على لبس القطنِ؛ بل الأخلاقُ في الإسلامِ سلوكٌ متكاملٌ قد حدّده الكتابُ والسنّة.
أمّا كلمة التصوّفِ، فإنّها في الحقيقةِ منقولةٌ من اللّغة اليونانيةِ. وضبطُها: الثيوصوفيةُ (Theosophy)، على غرارِ كلمة الفلسفةِ. لأنّها أيضًا يونانيةٌ، وضبطُها: الفيلسوفيةُ (Philosophy)، كما جاء في موسوعة المورد لمؤلّفه منير البعلبكي. يقول المؤلّفُ:
"يُقصَدُ بالثيوصوفيةِ بالمعنى العامِّ: معرفة الله من طريق الكشف الصوفيّ أو التأمّل الفلسفيِّ، أو من طريق الكشف الصوفيّ والتأمّلِ الفلسفيِّ معًا. وهي بهذا المعنى ظاهرةٌ قديمةٌ عرفتها الأديانُ على اختلافِها."
هكذا افتضح أصحاب الأسانيد الواهية الّذين بنوا آراءَهم في مسألةِ أصل التصوّفِ، على اجتهاداتٍ ونظرياتٍ وفرضياتٍ لا تقوم على برهان من الكتابِ والسنّة، ولا على دليلِ علميٍّ ثابتٍ؛ ربما لقلة علمهم بالأديان، والفِرَقِ والعقائد وتطوّراتِها، وجهلهم بظاهرة الاستحالة وما يتعرض له المعتقدات من التحريف مع الزمان.
لقد نشأت الطريقة النقشبنديّة كسائر الطرق الصوفيّة في هذا الدهليز وتغذّت من مستنقعات التصوف فتطوّرت عَبْرَ القرون من شكلٍ إلى شكلٍ، وتغيّرت من لونٍ إلى لونٍ؛ كلّما زيد فيها أو أُلْغِيَ منها. فحملت من غُثَاءِ عددٍ من الأديان، وجرفت من قاذوراتِها على امتداد مجراها في تاريخ الشعب التركيّ بعد إسلامهم إلى أنْ امتلأت حاويتُها بأصنافٍ من عقائد الهنود والنصارى واليهود؛ وإن استنكر هذه الحقيقةَ صناديدُ الطائفةِ وعفاريتُها بملامة ومعاتبة وعنفٍ وردود. وما أدلّ على تحريفهم للإسلام ما قد نسبوا إليه من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ ومُعْتَقَدَاتٍ دخيلةٍ لا تمتُّ بصلةٍ إلى الإسلام في واقع الأمر.(66/154)
وقد حان الوقت وناسب المقام لشرح ما تبنّتْهُ النقشبنديّة من أغراضٍ وما اختلقَتْهُ من مفاهيمَ باطنيةٍ أخرى، فأقامتْ على أساسِها سلسلةً من آدابٍ وأركانٍ تعتمد على تلك المفاهيم، وهي: السير والسلوك، والعشق الإلهيّ، والمعرفة بالله، والفناء والبقاء، و وحدة الوجود، و وحدة الشهود، والولاية، والوليّ، وتصرّف الميّت، والإلهام، والأويسية، والكرامة، والمناقب، والاستغاثة بالموتى، وتقديس قبورهم، وزيارتها، والتبرك بها، والتوسّل بها.
***
* السيرُ والسلوك.
أمّا السير والسلوك، فهو مصطلح هامٌّ عند النقشبنديّة. وقد يذكرون واحدًا منهما بقصد الجمع بينهما كما اختاره أحمد ضياء الدين الكُمُشْخَانَويّ. أحمد ضياء الدين كموشخانوي، جامع الأصول ص/ 107.
قال السيد محمود أبو الفيض المنوفي - وهو أحد أدباء المتصوّفة وأعلامهم في عصرنا - قال في كتابه المعروف بعنوان »معالم الطريق إلى الله«:
»معنى سلوك الطريق، التحقّق بمقامات اليقين وأحوال القرب من الله عزّ وجلّ بالعلم والعمل والمقام والحال سلوكًا على يد شيخٍ عارف بمعالم الطريق ومفاوزه، فيدلّ السالك على السبيل الأقرب إلى الله بما يرشده إليه من أنواع الرياضة والذكر والخلوة وغير ذلك.« السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله ص/ 299. دار النهضة-القاهرة.
هذا هو المراد العامّ الظاهر من السير والسلوك في التصوف. أمّا عند النقشبنديّة فينحصر السلوك في الخلوة. وقد أفردها بعضهم في فصلٍ مستقلٍّ كمحمد أمين الكرديّ، إذ يقول:
»اعلم أنّه لا يمكن الوصول إلى معرفة الأصول وتنوير القلوب لمشاهدة المحبوب إلاّ بالخلوة خصوصًا لمن أراد إرشادَ عبادِ الله إلى المقصود.«(66/155)
يتبيّن من كلام الكرديّ هنا مرة أخرى أنهم يختلفون مع جمهور المسلمين في معاملة ربّ العالمين. ذلك أنهم لا يقصدون عبادةَ الله بشهادة هذا الإقرار. وإنما يريدون الوصولَ إليه ويبتغون مشاهدتَهُ. وعلى الرغم من هذا التصريح فانّ فريقًا منهم يُخفون ما في صدورهم، وفريقًا يجهلون الغرض الحقيقيَّ الّذي يُضْمِرُهُ قُدَمَاؤُهُمْ الّذين لهم الهيمنة على نفوس عامّة النقشبنديّين. ألا وهو الحلول والاتحاد.
ولهم في هذه المسيرة طرقٌ ملتويةٌ وآدابٌ مشبوهةٌ تتمثّل في رياضاتٍ هنديةٍ، أحدثوا لها أغلفةً من مفاهيم الإسلام وقِيَمِهِ، بحيث لا ينتبه إلى مقاصدهم مَنْ قَصُرَ علمُهُ أو غلبتْ عليه الثقة فيهم بما يشاهد في مظاهرهم من السكينة والوقار والورع والصلاح.
وهذه الرياضة الّتي يسموّنها (خلوة) يدّعون أنّهم إنّما يمارسونها أسوةً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحواله قُبيل بِعثته. ويقولون: »وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخلو بغار حراء حتّى جاءه الأمر بالدعوة« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 493. ويتناسون أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك بعد البعثة، ولا أمر أحدًا من أصحابه بالخلوة (الّتي تختلف عن الإعتكاف). وإنما كانت خَلَوَاتُهُ قبل البعثة اندفاعًا وُجدانيًّا ينساق معه بتوفيقٍ من الله واستعدادًا لما سوف يتحمّله من أعباء النبوّة؛ وأنّها كانت حالةً استثنائيةً خاصّة به دون غيره، اقتضت في بداية أمره.
أمّا الّذي يريده النقشبنديّون، فليس إلاّ استغلال مفهوم الخلوة بهذه الذريعة، ليتمكّنوا بها من ضمّ شعارات هندية إلى شعائر الإسلام تحت ستار العبادة والتقرّب إلى الله بتقليد السحرة والمشعوذين من الجوكية (اليوغية) والفقراء الهنود.(66/156)
وللخلوة عندهم عشرون شرطًا مشروحةً في كتبهم. المصدر السابق ص/ 493. لا حجّة لهم في إثباتها بشيءٍ من كتاب الله، ولا من سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد باح بالسر المقصود من السير والسلوك بعض المعاصرين منهم، وخاصة جماعة غالية من هذه الطائفة في إسطنبول. وذلك لما وجدوا عامّة المسلمين في شغل عنهم فتصدّوا لتفسير كتاب الله بأسلوبٍ باطنيٍّ، أصدروه باللّغة التركية تحت عنوان »روح الفرقان« عام 1992م.، وتطرّقوا فيه إلى السير والسلوك.
ومن جملة ما جرت به أقلامهم بهذا التفسير الشاذِّ، قولهم (مُعَرَّبًا):
»إنه بعد ما يضمحلّ جميع ما سوى الله من نظر السالك بفضل المولى وكرمه بحيث لا يكاد يرى غير الله شيئًا أجنبيًّا - اسًما كان أو صورةً - تحقق له الفناء في الله، أي الانصهار في ذاته. وحصلت بذلك الدولة، وانتهت الطريقة، واكتمل السير إلى الله (أي المِشْيَةُ المعنوية نحو المولى)« روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/63. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. وهذا نص عبارتهم باللّغة التركية:
Mevlan?n fazl-u keremiyle masiva (Allah Teala’n?n d???ndaki her ?ey) salikin nazar?ndan tamamen kalk?p gayriyi (yabanc?lar?) g?rmekten isim ve resim kalmay?nca muhakkak fenafillâh (Allah-u Teala’da eriyip gitmek) tabir edilen devlet has?l olmu? ve tarikat hali sona ermi? olur. Ve b?ylece seyr-i ilallah , mevlaya do?ru olan manevi yürüyü? tamamlanm?? olur.
كانت هذه ترجمة حرفية لنبذة من كلامهم في تفسير السير والسلوك، ولا يحتاج إلى تعليق. وخلاصة ما ينبغي أن يؤكَّد في النهاية عما يتعلّق بهذا التفسير الجريء، أنهم يختلفون عن المسلمين بعقيدتهم في ذات الله أكثر من اختلاف النصارى عن المسلمين في هذه العقيدة.
***
* العشقُ الإلهيُّ(66/157)
أمّا العشق الإلهيُّ، فهو من أهمّ مباحث الصوفيّة. فقد جرى كلامُهم حوله نثرًا ونظمًا كما في تائيّة عمر بن الفارض، راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/568. بيروت – 1993م. وديوان المُلاّ أحمد الجزري الكرديّ، وأشعار رابعة العدوية. راجع ترجمتها في الأعلام، خير الدين زركلي، الطبعة 11. ص/ 3/10. دار العلم للملايين. كذلك فيه أسماء مصادر ورد فيها ترجمتها. وقد كثرت في هذه المسألة هذياناتهم قديمًا وحديثًا. غير أنّ هذا التعبير لم يكن شيئًا مُتَدَاوَلاً بين قدماء النقشبنديّة، فانتشرت هذه الفكرةُ في أوساطهم منذ أَمَدٍ غير بعيد، وربما بتأثير بعض الشيوخ منهم. إذ أنّ كلّ ما يقوله شيخ الطريقة، ويختلقه من تلقاء نفسه لا يُعدُّ بدعةً عندهم، وإن تعارضت أقواله مع نصوص الكتاب والسنّة؛ ولأنّ شيخ الطريقة لا ينحصر مجاله في حدود اختصاص معيّن، ولا تقتصر مهمّتُهُ في نطاق الاجتهاد والتفسير والتأويل فحسب. بل هو في اعتقاد الطائفة »وكيل الله ونائبه« تفسير "روح الفرقان" باللّغة التركية لجماعة من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/74. إسطنبوا ـ 1992م. يتصرّف كيف يشاء، ويتفوّه بما يبدو له. إذن فله أن يضيفَ إلى مبادئِ الطريقة وآدابِها وأركانِها وطقوسِها ما يشاء، أو أنْ يُلْغِيَ منها ما يشاء. وهذا ما جعل الطريقة تتغيّر فيها أمور بين الفينة والأخرى.
فقد أفرد محمّد أمين الكرديّ فصلاً في المحبة والشوق والوجد. وقال في مقطعٍ منه:
»اعلم أنّ المحبّين على ثلاثة أقسام: عوامٌّ وخواصٌّ، وخواصُّ الخواصِّ. فأما العوامُّ فمحبتهم له تعالى لوفور إحسانه، وأما الخواصّ فمحبتهم خالصة عن الشوائب. وأمّا خواصّ الخواصّ، فمحبتهم عبارة عن التعشّق الّذي به ينمحي العاشق عند تجلّي نور معشوقه.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/487.(66/158)
لقد يظهر من خلال هذه الكلمات أنّ النقشبنديّين اكتشفوا أخيرًا أسلوبًا ثانيًا لتفسير ما يعتقدونه من وحدة الوجود والحلول والاتحاد. ألا وهو "العشق الإلهيُّ". لأنهم يقصدون بذلك الانصهار في ذاته تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
إنّ تشبّثهم بمثل هذه الفكرة تطوّرٌ جديد وغريب. لأنّ النقشبنديّين، من أهمّ مزاياهم الصمت والتأمّل والذكر القلبيّ بالتركيز على أسلوب الجوكية (اليوغية) في الديانة البوذية - البرهمية. وأنهم لم يلتفتوا منذ القديم إلى الأشعار والغزل كما قد اتخذوا موقفًا معارضًا للرقص والسماع عَبْرَ تاريخهم. لأنّ الحركة من أكبر موانع التركيز. وإلاّ ليست معارضتهم للرقص والسماع من منطَلَقٍ إسلاميٍّ صحيح في حقيقة الأمر.
أمّا تعبير العشق في كون الإنسان أن يعشق الله، فقد كان من ضلالات الأقدمين من متصوفة العراق. كانوا يتفوّهون به في غزلهم. ولم يعبأ بهم علماء الإسلام يومئذ لخسة شأنهم وقلة عددهم. ولكن هذه الفكرة قد أصبحت اليوم خطرًا على العقيدة الإسلامية بعد أن تَبَنَّاها النقشبنديّون. علمًا بأن العشق في اللّغة يفيد معنى الاشتياق إلى الجنس المقابل بقصد النكاح والجماع. ولم يرد في الكتاب والسنّة ما يفيد أن العبد يجوز له أن يعشق الله. بل ورد فيهما الترغيب في محبة الله ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إذ قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونيِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.} سورة آل عمرن/31.(66/159)
ورغم السبيل الذي طرقه النقشبنديّون في تأويلهم لمفهمو "العشق الإلهيّ"، فانّه لم يغن عنهم في الوقوع فيما يكتمه خاصّتُهم ويجهله عامّتُهم من نزعات باطنيةٍ بهذا التأويل الشاذّ لمفهوم العشق. لأنّ كلمة العشق تختلف اختلافًا كبيراً عمّا تفيد كلمةُ المحبّةِ في التعبير عن عواطف الإنسان. فانّ المحبّةَ بمعناها المتعارَف هو إحساس عاطفيٌّ نبيل، لا يشوبه ميل شهويٌّ وابتذالٌ جسديٌّ. وأمّا مفهوم العشق، فانه ينبئ عن نزعاتٍ آثمةٍ وهَوَاجِسَ شهويةٍ تثور في النفوس المتلهّفةِ بالغرام والهيام، والمشتاقةِ إلى إشباع الرغبات الجنسية وما يتصل بها.
ولقد دأب شعراءُ الصوفيّة دائمًا على وصف الله بصفات المرأة الجميلة الفتّانة؛ يحملونها عليه أنه يتجلّى في جمالٍ غزليٍّ خلاّب، يفتتن به العاشقون؛ ويتخيّلونه في صورة من الأنوثة بشعور تتلظّى إليها نفوسهم وهي تراودهم عن نفسها. حاشا لله!!!
بينما نجد النقشبنديّين على درجة من الإفراط والمبالغة بأولئك الشعراء المبتذلين من الصوفيّة ويشاركونهم في العقيدة والموقف بإقرارهم لمفهوم العشق الإلهيِّ على غرار ابن الفارض والمُلاّ الجزري وأمثالهما.
***
* المعرفة باللهِ
وأمّا فكرة "المعرفة بالله" عند الصوفيّة، فهي عقيدة خطيرة تبنّاها الأقدمون منهم؛ ثم تطوّرت منها سائر عقائد القوم. إذًا فهي بمنزلة القاعدة الأساسية لها.
فقد أفرد القشيريّ في هذه المسألة بابًا وهو من قدماءِ الصوفيّةِ وأعلامِهم. قال في رسالته المشهورة:
»وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفةُ مَنْ عَرَفَ الحقَّ سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدّق الله في معاملاته. ثم تنقّى عن أخلاقه الرديئة وآفاته...« أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 154. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.(66/160)
من الأهمية بمكان، أنّ هذا التعريف لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية لو لا أنّ القشيريّ تحيّل في إيراد هذه العبارة أنْ جعلها تعريفًا لمفهوم "المعرفة بالله". بل كان أولى به أن يقول
»الإيمان: صفةُ مَنْ أيقن بالحق سبحانه وعَرَفَ أسماءه وصفاته، ثم صدّق الله في معاملاته.«
هكذا يتبيّن بوضوحٍ أنّ الصوفيّة قد حرّفوا عقائد الإسلام بِحِيَلٍ دقيقةٍ قلّ من انتبه إليها في أيامها. وبذلك سنحت لهم الفرصة فطوّروها بتدرّج عبر القرون حتّى التبستْ المفاهيم الدخيلة والعقائد الخطيرة بالمفاهيم القرآنية على عوامّ المسلمين فانحدر من هذا الالتباسِ ركامُ البدعِ والأباطيلِ على كرِّ الزمانِ فتكوّنتْ منها جبالٌ عجز المسلمون في هذا العصر عن التخلّص منها.
أمّا في الحقيقة، فانّ مقولة "المعرفة بالله" ليست من الإسلام في شئٍ، ولا ورد في الكتاب والسنّة ما يؤكّد ذلك. بل دعا اللهُ عبادَه أن يؤمنوا به قبل كلّ شئ. والآياتُ في ذلك كثيرةٌ. ثم أمرهم بالعمل الصالح والتقوى. إذ لم يرد في القرآن أمر بـ "المعرفة بالله" على الإطلاق. بينما الأمر بالإيمان ورد فيه أكثر من أن يُحصى. كقوله تعالى {فآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنوُرِ الّذي أَنْزَلْنَاهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.} سورة التغابن/8. ولم يقتصر الأمر في توجيه الدعوة للكافرين إلى الإيمان فحسب، بل قد أمر الله المؤمنين كذلك أن يؤمنوا به (وإن كان ذلك من باب تكميل الكامل وليس من باب تحصيل الحاصل) فقد قال سبحانه: {يَأَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل،ُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعيِدًا.} سورة النساء/136.(66/161)
هكذا فالآيات في الدّعوةِ إلى الإيمان كثيرةٌ وفي هذا القدر كفايةٌ. كذلك وردت آيات بيناتٌ في الدّعوة إلى عبادةِ اللهِ سبحانه.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدوُا رَبَّكُمُ الّذيِ خَلَقَكُمْ وَالّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقوُنَ. (بقرة/21)
وقال تعالى:
وَاعْبُدوُا اللهَ وَلاَ تُشْرِكوُا بِهِ شَيْئًا... (نساء/36)
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الّذيِنَ آمَنوُا ارْكعوُا وَاسْجُدوُا وَاعْبُدوُا رَبَّكُمْ وَافْعَلوُا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحوُنَ. (الحج/77)
وقد رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ (رواه البُخَاريّ)
أمّا قوله عليه السلام »فَإِذَا عَرَفوُا اللهَ«، معناه فإذا عرفوه بصفاته التي جاءت في كتابه العزيز، وهو الإيمانُ بهِ، وليس التّعرُّف إلى كنهِ ذاتِهِ.
وهنا يتبادر إلى الذهن أن يُطرَح سؤالٌ هامٌّ، وهو: لماذا دعا اللهُ عبادَهُ للإيمان به عن طريق النظر إلى آثاره والمعرفة بصفاته والعبادةِ له فحسب، ولم يكلّفهم بالتعرّف إلى ذاته ؟(66/162)
لو أنّ المسلمين استيقظوا من غفلتهم واستطاعوا أن يُدْرِكُوا ما لم يدركه أسلافهم في عصور الظلام من أسباب الانحراف، وطرحوا حتّى هذا السؤال البسيط مرة واحدة فحسب؛ لاصطدموا بحقائق مدهشة اختفت عنهم؛ أدناها أنهم قد أصبحوا اليوم قلّةً حتّى بين صفوف المصلّين في مساجدهم. لأنهم إنما يعبدون الله تصديقاً لما جاء من عنده وإقرارًا بالعبودية له؛ بينما تختلف الغاية في محاولة الآخرين من العبادة تمام الاختلاف. لأنهم لا يعبدون الله إلاّ ليتعرّفوا على ذاته وليحلّوا فيه. تعالى رَبُّنَا عن ذلك علوًّا كبيرًا.(66/163)
نعم كيف تجوز المعرفة بذات الله؟ كيف يجوز للإنسان أن يحيط الله الخالق الأزليَّ الأبديَّ، والإنسانُ بِكَامِلِ وجوده حادثٌ ومخلوق؟... هل يجوز أن يتّسع عقل الإنسان المخلوق العاجز المحدود حتّى يستوعب ربّ العزّة بذاته؟ وما دليل من يدّعي ذلك من المنقول والمعقول؟ ألم يَنْهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التفكّر في ذات الله تبارك وتعالى؟ روى أحمد مرفوعًا والطبرانيّ وأبو نعيم عن عبد الله بن سلام. قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أناس من أصحابه وهم يتفكّرون في خلق الله. فقال لهم فيم كنتم تتفكّرون؟ قالوا نتفكّر في خلق الله. قال لا تتفكّروا في الله، وتفكّروا في خلق الله. لأنّ الإنسان عاجزٌ عن الإحاطة بكنه ذاته عزّ وجلّ. وإنما هذا العجز هو ذلك الحاجز الرهيب الّذي يعترض سبيل الإنسان التعيس، ويقف في وجهه على مدى حياته، لا يبرح أمامه في كلّ لحظة. تلك هي المشكلة العظمى الّتي تكمُنُ فيها أسرار الكفر والإيمان، بل وأسرار الكون والحياة بتمامها. ذلك أن الإنسان لو استطاع أن يجد أدنى سبيلٍ للتّحقُّقِ من ذات الله سبحانه عن طريق المشاهدة أو التجربة، لما اضطرّ أن يواجه أعباء الحياة والممات بكلّ مرارتها. ولكن الله تعالى يقول { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاَة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا.ً} سورة الملك/2. وإنما يتوقف حسن العمل ـ أوّلاً وقبل كلّ شئٍ ـ على الإيمان بالغيب. وهو الإيمان بذات الله تعالى في حدود المعرفة بصفاته، وبالنظر إلى خلقه وآثاره دون أن يتعدّى الأمرُ إلى المعرفة بذاته، وهي محال. كذلك قال الله تعالى: { وَلاَ يُحِيطُوَن بشيءٍْ مِنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ.} سورة البقرة/255. إذًا فكيف بالإنسان أن يتمكّن من الإحاطة بذات الله وهو لا يحيط بشيءٍ من علمه إلاّ بما شاء! لأنّ علاقة المؤمن بالله لا تعدو عن التسليم المحض له تعالى؛ وهي منحصرة في حدود اليقين التامّ به(66/164)
والعبادة الخالصة له فحسب.
هذا ويتبيّن جليًّا بأنّ الّذين يرون معرفة الله من الأمور الجائزة والممكنة، يدّعون أنّها قد تحققت لبعض ساداتهم. إذ يخلعون عليهم صفة العارف بالله { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا.} سورة الكهف/5. يتبيّن أنه قد بلغ الحمق والغباء بهم إلى درجة، أنهم يدرسون عقائد المسلمين في مدارسهم ويتداولون كُتُبَ أعلامنا؛ كشرح العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزديّ، وكتاب التوحيد للإمام أبي منصور محمّد بن محمّد الماتريديّ، وكتاب التمهيد من تصانيف أبي بكر محمّد بن الطيب الباقلانيّ ورسالة العقائد النسفية لأبي حفص عمر بن محمّد النسفيّ، وشرح العقائد النسفية للعلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانيّ. ومع هذا، لا ينتبهون إلى أنّ الإيمان ينافي عقيدة "المعرفة بذات الله". إذ أنّ الله سبحانه وتعالى »ليس بِعَرَضٍ ولا جِسْمٍ ولا جَوْهَرٍ ولا مصوَّر ولا محدود.« كما ورد في العقائد النسفية. وخلاصة هذا: أن الإنسان المخلوق الحادث العاجز والمحدودَ، يستحيل عليه أن يحيط بالله، ويتعرّفَ إلى ذاته الأزليّ الأبديّ الّذي ليس بمحدود.
إنّ الصوفيّة قد خبطوا في تناقض شديد إلى درجة أنهم يدرسون كتب المسلمين ويدرِّسونها ويحفظون منها، ثم يعتقدون ما يجعلهم في مقامٍ بين الصدق والكذب، بحيث إذا صدّقوا ما قد درسوا من كتب المسلمين، شهدوا على أنفسهم بالكذب في مصطلحهم ومعتقدهم بما سمّوه "المعرف بالله"؛ وإذا صدّقوا هذه الفريةَ، أصبحوا من المكذّبين لِماَ درسوا من عقائد المسلمين.
هكذا فان النقشبنديّين أيضًا قد تورّطوا في هذا المأزق تبعًا لبقية الصوفيّة. والدليل عليهم، أنهم يُكْثِرُونَ من وصف ساداتهم بـ" العارف بالله."
***
* الفناءُ والبقاءُ.(66/165)
وأمّا "الفناء والبقاء" في عقيدة الخاصّة منهم دون عامّتهم، فإنها بمنزلة الحلقة الأخيرة بعد "المعرفة بالله". ويتصوّرون أنّهم يلتقون فيها بذات الله »لأنهم قد عرفوا الله حق معرفته، فاستحقّوا بذلك أن ينصهروا فيه فيتحقّق البقاء«، حاشا لله!!! وذلك بعد المرور بجميع مراحل السير والسلوك؛ من البيعة والخلوة وممارسة الذكر الخفيِّ والرابطة ومراعاة "المباني الأحد عشر" وما يتصل بها من آدابٍ وأركانٍ سبق شرحها في الفصل الثاني.
إلاّ أنّهم لا يُفشون سِرَّ عقيدةِ الفناءِ بهذا الوضوح تحفُّظًا من استنكار المسلمين وردود فعلهم. بل يمضغون الكلام في هذه المسألةِ وأمثالها احتياطًا وتقيّةً، ويُخفون ما في صدورهم حتّى عن عوامّهم فضلاً عن المسلمين.
إنّ فكرة "الفناءِ في الله والبقاءِ بالله" ليس أمرًا حديثًا عند الصوفيّة. بل تكلّم به الأقدمون منهم كالقشيريّ. إلاّ أنّ عقيدة الفناءِ قد تطوّرتْ عند هؤلاء خاصّة. فانّ النقشبنديّين قد أوّلوها بل حرّفوها عن معناها الّذي أراده السابقون.
وعلى سبيل المثال فقد قال القشيريّ »أشار القوم بالفناءِ إلى سقوط الأوصاف المذمومة، وأشاروا بالبقاءِ إلى قيام الأوصاف المحمودة« أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 39. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.(66/166)
إنّ هذه كلمة حقٍّ أرادوا به باطلاً. إذ أنّ إسقاط الأوصاف المذمومة وإبقاء الأوصاف المحمودة قد وصّى بهما الإسلام، ولكنهم لجأوا إلى الإلتواءِ والتلبيسِ عند ما أطلقوا اسم "الفناءِ" على إسقاط الأوصاف المذمومة؛ وأطلقوا كذلك اسم "البقاءِ" على إبقاءِ الأوصاف المحمودةِ. لأنّهم فتحوا بهذا المصطلح المبتَدَعِ بابًا، استغلّه أخلافُهم فأدخلوا منه سيلاً من رموز الزندقةِ والضلالِ كما مرّت الإشارةُ إليها، وهى تنحصر في عقيدة الاتحاد مع الله عند خاصّتهم. والدليل على ذلك نعتهم لساداتهم بصفة »الفاني في الله والباقي بالله«. بينما لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أنه وصف شخصًا بهذا النعت.
لقد تظهر أمارات التطوّر والتحريف في هذا المفهوم أيضًا بعد أن اختلقها قدماؤهم الأوّلون؛ كما قد حرّفوا وطوّروا الكثيرَ مما وضعها ساداتُهم على مدى تاريخ النقشبنديّة. ذلك أنّ الأقدمين منهم عند ما جاؤوا بهذه الزندقة لم يزيدوا على أنها تركُ الأوصاف الذميمة والبقاءُ على الأوصاف الحميدة. علمًا بأنّ هذا البيان لم يكن حافزًا مثيرًا لانتباه المسلمين يومئذٍ. لأنّ الاجتنابَ عن الأوصاف الزميمة والبقاءَ على الأوصاف الحميدة شئ مرغوب فيه، وإن سُمِّيَ بالفناء والبقاء. غير أنّ المسلمين لما سكتوا عن هذه التسمية الشاذة؛ ولم يتوقعوا أنّ من ورائها حيلة سوف تعود بعواقب وخيمة، يتخذها المتأخّرون ذريعة لبناءِ عقائد أخرى باطلة على أساس مفهوم الفناءِ، فتطوّر الأمر حتّى زعم بعضهم »أنّ الفناء هو أن يتخلّص العبد من غائلة ما سوى الله. ومعنى ذلك : أن الفناء هو غياب الصفات البشرية في صفات الحق، كما أنّ الفناء في الرسول، هو غياب الصفات الإنسانية في صفات الرسول.« Dr. Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar Pg. 197 ?stanbul-1994……………………………………………………………
وهذا نص كلامه حرفيًا:(66/167)
Allah’ta fani olmak: be?eri s?fatlar?n, Hakk’?n s?fatlar?nda kaybollmas?;
Resul’de fani olmak ise insanî s?fatlar?n peygamber’in s?fatlar?nda kaybolmas? demektir.
لمزيد من المعرفة حول مفهوم الفناء في اعتقاد النقشبنديّة راجع المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 43. مخطوطة دمشق - 1213 هـ. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") TDV. ?SAM. 297. 7
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 51. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") 46644. TDV. ?SAM. 297. 7
* روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/63. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. لأنّ صفات الرسول أيضًا صفات إلهية عندهم.
إنّ هذه الكلمات في الحقيقة لا تحتاج إلى أيّ تعليق ولا توضيح ولا تفسير. ولقد زاد المتأخرون من تطوير هذه الزندقة حتّى قسموها على ثلاث مراتب: الفناء في الشيخ، والفناء في الرسول، والفناء في الله.
قال نعمة الله بن عمر حول هذه الهرطقة، وهو من معاصري خالد البغداديّ. قال في كتابه "الرسالة المدنية" أصدر كتابه بهذه التسمية على سبيل الانتقاد لأبن عربي في تسميته كتابًا له بعنوان "الفتوحات المكية". فثبت بهذا مرة أخرى أن النقشبنديّين على اختلاف في كثير من حديثهم، وعباراته، ومواقفهم؛ وأنهم في دوّامة خطيرة من التعارض والتناقض والتلفيق والتضارب. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى. في باب الرابطة:
»وإذا تأمّلتَ مجرّدَ ذكر القلب، لا يعدل عليه شئٌ. فهذه النعمة تحصل بالمحبة بين المريد وشيخه من الجانبين. لأنّ الفناء في الشيخ مقدّمة الفناءِ في الرسول؛ والفناء في الرسول مقدمة الفناء في الله والبقاء بالله.« نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 43. (الزمرد العنقاء) TDV. ?SAM. 297. 7 46644(66/168)
هكذا تطوّرت الطريقة النقشبنديّة واستمرّت في مسيرتها بين تبديل وتحريف وزيادة ونقصان واقتباس وتكييف وتأويل وتقليد وتعطيل على يد شيوخ هذه الطائفة إلى أن ألبسوها كسوة من هذا التأويل الخطير للفناءِ والبقاءِ خلافاً لمن وضعهما من قدماءِ الصوفيّة. وبهذا الأسلوب الّذي يدلّ على عدم استقرار الطريقة النقشبنديّة، كتموا تارةً مقصودَهم الحقيقيَّ من هذين المفهومين، وتارةً بَاحوُا به كما جاء في المواهب السرمدية لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ نقلاً عن أحمد الفاروقيّ، وهذا نصُّ كلامهِ:
»وجدتُ الله عين الأشياءِ كما قال أرباب التوحيد الوجوديِّ من متأخري الصوفيّة. ثم وجدتُ الله في الأشياء من غير حلول ولا سريان. ثم ترقيت في البقاءِ. وهو ثاني قدم في الولاية. فوجدتُ الأشياءَ ثانيًا. فوجدتُ اللهَ عينها، بل عين نفسي. ثم وجدتُهُ تعالى في الأشياءِ بل في نفسي؛ ثم مع الأشياءِ بل مع نفسي.« محمّد أمين الكرديّ الأربلى، المواهب السرمدية ص/ 182.
كذلك جاء من نحو هذا في كتاب خطير دوّنته جماعة من النفشبنديين باللّغة التركية تحت عنوان "تفسير روح الفرقان". التفسير المذكور ص/ 2/63.
* وحدة الوجودِ.
أمّا فكرة "وحدة الوجود" فإنها مذهب فلسفيٌّ قديم. قالت بها جماعة من قدماء فلاسفة اليونان. وهم؛ بارمينيديس، وزنون، وأفلطون، وبلوتينوس، وطائفة الرواقيين. ثم اغترّ بهذه الفكرة واعتنقها بعض المتصوّفة؛ كحسين بن منصور الحلاّج، ومحي الدين بن عربي، وسليمان بن على بن عبد الله التلمساني، وفريد الدين العطار، وعبد الكريم الجيليّ، ويونس أمراه التركماني ومَنْ على شاكلتهم.(66/169)
تتمثّل فكرة وحدة الوجود في القول بأنّ كلَّ شئٍ موجودٍ في الكون ليس إلاّ أجزاءً من الله. يستدلّ أصحاب هذه العقيدة من المتصوّفةِ بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلّوُا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.} سورة البقرة/115 يعنون بذلك أنّ كلَّ شئٍ في السماوات والأرض من صغيرٍ وكبيرٍ، وإنسيٍّ وجنِّيٍّ وملائكةٍ ودوابٍّ ونباتٍ وجمادٍ ورطبٍ ويابسٍ وطاهرٍ ونجسٍ، إنّما هي جميعاً أجزاءٌ متفرِّقةٌ من الذات الإلهية؛ وأنواعٌ وألوانٌ وعكوسٌ من سحرهِ وجلالهِ وجمالهِ؛ وهو عينها وحقيقتها؛ وليس في الوجود إلا الله. بهذه العقيدة يتناولون قولَهُ تعالى{ هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظاهِرُ وَالْبَاطِنُ.} سورة الحديد/3. ويتأوَّلونها ويقصدون بهذا في مُعْتَقَدِهِمْ : أنّ الله هو هذه الأشياء والأعيان والكائنات بتمامِها، وهيئاتِها وأشكالِها وأبعادِها وأجسامِها وأحجامِها وهي كثرةٌ في وحدةٍ و وحدةٌ في كثرةٍ. ومن ذلك قول عمر بن الفارض:
وجهٌ تعدّد في المرائي * وبه تحيّر كلّ رائي
فالكائنات بأمره * موج على صفحات ماء
فالأمر أمر واحد * فيه التقارب والتنائي.
ويقول محي الدين بن عربي » ألا ترى الحقّ يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذمّ؛ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أوّلها إلى آخرها، كلّها حقّ له كما هي صفات المحدثات حق للحق«. محي الدين بن عربي، فصوص الحكم ص/ 80.(66/170)
كانت هذه خلاصةٌ لما سبق. وقد عُنِيَ بالموضوع أهل البحث واختلفوا فيه بين رادٍّ ومدافع. ففي مقدّمةِ مَنْ ردّ عليهم، العلاّمة علي القاري. له رسالة قيّمة بعنوان »الردّ علي القائلين بوحدة الوجود«. تحقيق على رضا بن عبد الله بن علي رضا، مكتبة مركز البحوث الإسلامية ـ إسطنبول. TDV. ?SAM.297.7 AL?-R وممن تناول هذا الموضوعَ على سبيل الدفاع عنه، شخصٌ اسمه عمر فريد كام. له »رسالة وحدة الوجود« باللّغة التركية تحقيق الأستاذ المساعد أدهم جبه جي أغلو، منشورات رئاسة الشؤون الدينية رقم: 324/91. أنقره-1994م. تناول المؤلّف هذه العقيدة مقارنًا بين تعريف الصوفيّة وتعريف الفلاسفة لعقيدة وحدة الوجود المعبَّر عنها بكلمةPantheisme. بيد أنه تبنّى في النهاية رأي الصوفيّة فيها ووصفهم بأهل العرفان فأصبح هو الآخر مدافعا من وراء عقيدة وحدة الوجود، ولكن بصيغة تنزيهية لجنابه تعالى. (ص/ 115-121). . وقد تطرّق إلى هذا البحث أبو الحسن الندويّ في المجلّد الثاني من كتابه المعروف »رجال الفكر والدعوة في الإسلام« دار القلم، الطبعة الثانية، الكويت-1994م. ص/ 30، 31، 118، 170، 217، 239، 248، 251، 258.
أمّا موقف النقشبنديّين من هذه المسألة، فانّ تعظيمَهم وإجلالَهم للوجوديين والحلوليين يدل على استحسانهم لفكرة وحدة الوجود والحلول والإتحاد. إذ لا يكاد أحد منهم يرضى بما ورد عن العلماءِ من الطعن في الحلاّج، وابن عربي وغيرهما من الوجوديين والحلوليين. بل يتعاطون حديثَهم في مجالسهم مع الاحترام والتوقير لشأنهم، ويطالعون كتبَهم، ويعدّونهم من أهل الفيوضات الربّانيّة والكرامة والبركة؛ ويقولون عن الحلاّج أنه شهيد، ويصفون ابن عربي بـ"الشيخ الأكبر".(66/171)
والأغلب أنّ ذلك ناشئٌ عن جهلهم بما تتضمّنه عقيدةُ وحدة الوجود من زندقةٍ وإلحاد في صفات الحق سبحانه بما يستحيل عليه، إلى سخافات يتجافى لسان المؤمن عن النطق بها. لأن شيوخ النقشبنديّة - في حقيقة الأمر- هم أبعد الناس من ساحة العلم والمعرفة، وأكثرهم خمولاً، وأشدهم تعصُّبًا، كما سنشرح أحوالهم، ونبيّن سلوكهم، وننقل معلوماتٍ شافيةً عن مستوياتهم وشخصيّاتهم في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
هذا، وإن لم يكن للنقشبنديّين إلمام كبير بعقيدة وحدة الوجود مباشرةً، ولكنّهم يدخلون في عداد مَنْ يُقِرُّ بهذه العقيدة على أقلّ تقدير؛ وذلك لأسباب ثلاثة:
أوّلها: أنّهم يُوَقِّرون مَنْ ذهب هذا المذهب كما سبق الحديث عنه آنفا.
وثانيها: أنّ كثيرًا من عقائدهم منبثقة من الديانة البوذية الّتي تعتمد على عبادة المخلوقات. فالبوذيُّ يعبد الشجر والحجر والقرد والبقر. وكذلك النقشبنديّ يؤلّه الشيخ ويقدّسه في حياته وبعد مماته إلى درجة لا يراه محتاجًا إلى رحمة الله؛ بل يراه مستغنيًا عنها ومُنَزَّهًا من أن يقول في حقه "رحمه الله" أو "رحمة الله عليه" إن كان قد مات. ولكن يقول "قدّس الله سرّه". إذ يعدّه جزءً من الله. يدلّ على اعتقادهم هذا، ما نقله إبراهيم الفصيح في مستهل كتابه "تحفة العشاق" أنه »قال القاضي عياض في الباب الرابع من القسم الثاني في الشفاء نقلاً عن أبي بكر القشيريّ: أن الصلاة من الله لمن دون النبيِّ رحمةٌ؛ وقال الشارح الشهاب: أي طلب أن يرحمه الله. وأما النبيُّ فمرحوم بأعلى أنواع الرحمة، فهو غير محتاج لأن يُدعى له بها.«(66/172)
وقد جاءت عباراتٌ في موسوعةٍ للنقشبنديّين ضمن ترجمة طه الهكّاريّ تفيد أنهم يترحمون على من لا يزال في قيود نفسه، ويقدسون من كان قد حظي بالنجاة من قيودها على حسب زعمهم. كذلك كل شئٍ يتّصل به فهو مقدّس عندهم؛ حتّى كلبه وقطّه، بل حتّى مخاطه وبوله وفضلاته! وكثيرًا مّا يعبّر المريد عن محبّته وصداقته وتفانيه لشيخه بقوله »أنا من كلاب السادات« محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز (ابن عابدين)، "سل الحسا الهنديّ في نصرة مولانا خالد النقشبنديّ" ص/ 37 هذا لفظ خالد البغداديّ بالذات. فما بالك بالمريد البدوي البدائيّ!!
كذلك يعتقد النقشبنديّون بالفناءِ والانصهار في الذات الإلهية. ومعنى ذلك أنّ المخلوق يحلّ فيه، أو هو يحل في المخلوق. إذًا يجوز عندهم أن تكون الأشياء أجزاءً منه؛ أو أن يكون هو هذه الأجزاء المتفرّقة في الكون. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وثالثها، سبب تاريخيٌّ وعصبيٌّ. وهي أنّ الحلاّج كان فارسيَّ الأصل يكره العربَ، ويرى أنَّ دولةَ آبائِهِ انقرضتْ على أيديهم. فكان شعوبيًّا يتعصّب لقومه المجوس، حتّى دفعته أغراضُهُ النفسيةُ وحقدُهُ على إشعال ثورةٍ على الدولة العبّاسية، إستعدادًا للإطاحةِ بها، إلى أن كُشِفَتْ أسرارُهُ ومؤامراتُهُ التى كان يحيكها ويُخفيها من وراء حياةٍ صوفيةٍ متصنَّعةٍ، فقُتل.(66/173)
كذلك النقشبنديّون (الأتراك على وجه الخصوص) يكرهون العربَ، ويعتقدون أنّ جميع العرب وهّابيون وعصاةٌ خارجون على الدولة العثمانيّة "المقدّسة" في اعتقادهم. ذلك لتعصّبهم القومي الّذي أدى إلى نتائج خطيرة. منها أن الأغلبية من العنصر التركيّ اليوم قد أصيبت بمركّب النقص، لغلبة اللّغة العربية على لغتهم عبر حُقبةٍ تقرب من ألف سنة. وهم يبحثون في الآونة الأخيرة عن سبيل التخلّص من هذا التأثير. ويرى الكثير من المارقين من أبناء هذا الشعب »أنّ الخروج من هذا المأزق لا يمكن إلاّ أن يحلَّ المجتمعُ التركيّ ربقة الإسلام من عنقه تمامًا«. وإذا كان اليوم تتحدّى جموع غفيرة من ملاحدة الأتراك بهذه الفكرة الخطيرة عن جدٍّ، واستعدادٍ، فان للتعصّب القوميّ الّذي أثاره النقشبنديّون تأثيرًا كبيرًا في إبداءِ هذه الجرأة والغطرسة. وهذا التعصّب هو القاسم المشترك بينهم وبين الحلاّج. وفي هذا دلائل كثيرة. فقد أفتى شيخ لهم أخيرًا »بأنّ الصلاة باطلةٌ عند الإقتداءِ بإمام وهّابيّ، ولا يجوز الإقتداء بأئمة الحرمين؛ لأنّهم وهّابيّون!« فزجر مريديه عن ذلك وألزمهم بإعادة الصلاة إذا اضطرّ أحدهم أن يقتدي بإمامٍ عربيٍّ في ديار الحجاز.(66/174)
وقد أثّر موقفهم السلبيُّ هذا على معظم الشعب التركيّ، بحيث لا يكاد أحد منهم يشعر في نفسه بمحبّة العرب إلاّ قلّة، ولا يدور حديث العرب في مجلس من مجالس النقشبنديّة الأتراك إلاّ وضربوا مثالاً من قذارتهم وخيانتهم للدولة العثمانيّة. لأنهم يقدّسونها ويعدّونها صانعة أمجادهم على أنهم وَرَثَتُهَا دون بقية العناصر من المسلمين. ولهذا يحمّلون قسطًا كبيرًا من مسؤولية سقوطها على العرب الّذين عملوا على استقلالهم وانفصلوا عن الدولة العثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى؛ كما يقدّسون أضرحة سلاطينها، ويعدّون زيارة قبورهم من القُرُبَات. إذ يعتبرونهم جميعًا من أولياء الله الصالحين. (أى من أولئك الأولياء الموصوفين في عقيدتهم الخاصّة.)
كذلك يوقّرون ابن عربي بسبب المصاهرة. لأنّه أقام في مدينة قونية. وهي من كبريات مدن تركيا منذ القديم. وتزوّج من والدة صدر الدين القُنَوِي الّتي كانت أرملة. والصدر القُنَوِيُّ، من مشاهير متصوّفة الأتراك، الّذين تفخر بهم النقشبنديّة. وهو ممن شرح فصوص الحكم، ونحى منحى مؤلّفه.
تتاكّد الإشارة هنا إلى أنّ الّذين يتعصّبون للحلاّج وابن عربي وابن عطاء الله الإسكندريّ وأمثالهم، إنما يدافعون عنهم وعن أفكارهم لسببين رئيسيّين.(66/175)
أوّلهما، أن فريقًا من المتبحّرين في اللّغة العربية وآدابها الّذين أصبحوا من فحولها، قد غبطوا طائفةً من أُدباء الصوفيّة وشعرائَهم، وافتتنوا بسحر ما نسجته أقلامهم، وأحسّوا بتأثير بالغ في نفوسهم، فانهمكوا في مطالعة تصانيف هؤلاءِ الصوفيّة حتّى خطفت أبصارَهم لمعةُ جمالها الأدبيّ البارع، وحارت عقولهم في عمق معانيها النابعة من حكمة فلاسفة الأغريق، فاهتزّت نفوسهم لهديرها ونبراتها، وحنّّتْ عواطفهم وفارت لاطّراد أبوابها وحسن تراكيبها الموزونة المرصوفة في بناءِ عباراتها وهم قلّة. كجلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ، وعبد الوهّاب الشعراني، وعبد الغني النابلسيّ. إنّ هؤلاء الثلاثة الّذين غلبتهم العاطفة في مدح ابن عربي، فقد تحمّسوا في الدفاع عنه، فصنّف السيوطيُّ كتابًا في ذلك تحت عنوان "تبرئة الغبي عن طعن ابن عربي"، ولكن يبدو أنّه قد رجع من رأيه في هذا الدفاع حسبما أثبته بعض المعاصرين من أهل البحث والتحقيق. أمّا الشعرانيُّ فقد أطنب في مدحه لابن عربي بذكر مآثره ما يقوم مقام الدفاع عن عقيدته ضمن كتابه الّذي سماه "الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". وكذلك عبد الغني النابلسي، قد تصدّى بحماس بالغ للدفاع عنه في كتابه الّذي سماه "الراد المتين على منتقض العارف بالله محي الدين " وثم عدد آخر من أمثال هؤلاءِ الثلاثة الّذين جرفتهم العاطفة إلى هذه الساحة، فقد جمع أسمائهم بعض المتصدّرين من الأتراك في عجالة له.(66/176)
ذلك أن مشاهيرَ صوفيّةِ العرب، وعلى رأسهم ابن عربي، قد انتقوا ألفاظًا من قاموس هذه اللّغة كأنّهم استخرجوا الجواهر من بحورها. فكتبوا ببيانٍ زاخرٍ، وأسلوبٍ خلاّب فاخرٍ، نظموا يواقيت الكلام في جيد السطور، ونثروا من درر الكلمات على الصفحات؛ فجاء تعبيرهم ناطقًا عن أروع تصوّرات النفس البشريِّةِ وخيالاتها. فاستطاعوا بذلك أن يدسّوا السمَ في العسلِ، كما سوّلت لهم أنفسهم؛ فنفذوا إلى أعماق قلوبٍ مريضةٍ، وتسرّبوا إلى قرارة نفوسٍ ضعيفةٍ حتّى شاعَ صيتُهم، وبلغتْ شهرتُهم الآفاقَ، فظنّ جمهورٌ من الناس أنّ هؤلاء الصوفيّة هم أحبّاء الله وخاصّته، آتاهم الله الحكمة بهذه البلاغة الّتي تبهر العقول. فلم يكد أحدٌ قادرًا بعد ذلك على إحباط ما أذاعوا من الباطل المنوَّه في صورة الحقّ المشوَّه، فغدا هذا الإعجاب والاعتقاد بهم أمرًا متصلّبًا في ضمير معشرٍ من أُناسٍ عاطفيّين في كل عصرٍ تسلسل عَبْرَ الأجيال حتّى اليوم.
وثاني هذين السببين، أنّ فريقًا آخر من بُسَطَاءِ المتعلّمين المتطبّعين بالتقليد المحض والمحرومين من الذوق والنظر والاعتبار، انخدعوا بما حاكتْ أقلامُ الفريق الأوّل من عبارات الدفاع عن الزنادقة، وما تفوّهوا به من مدائحَ لهم، وما أطنبوا في مناقبهم ومآثرهم المختَلَقَةِ، وما بالغوا في الثناءِ عليهم والإعجاب بهم. فاستيقنتْ أنفسُهم وصاروا لهم من التابعين. وغالب هؤلاء المقلّدين هم الشيوخ الجهلة للطائفة النقشبنديّة.(66/177)
بالإضافة إلى هذا، فانّ فكرة "وحدة الوجود" لها جاذبيّة شديدة في سحر العقول وتشويش العواطف وتخدير الأدمغة فينساق من وراء أحلامها التائهون في دياجي الشبهات، ويلهث المتحيّرون نحو سرابها فيحسبون أنّ هذه الفكرة حكمة منبثقة من الوحي الإلهيِّ انصبّت على قلوب هؤلاء الصوفيّة من ملكوت الله. فلا يتوقَّعون منهم أن كانوا قد نطقوا بشيءٍ فيه معصية اللهِ، لما في قلوبهم من عظمة أولئك الزنادقة، حتّى لو وجدوا في عباراتهم من ألفاظ الكفر والإلحاد، ترى المنبهرين بهم من النقشبنديّين يدافعون عنهم أنّ هذه الألفاظ فيها حِكَمٌ ومعانٍ لا يدركها إلاّ أهلُهُ، أو صدرتْ منهم في حالةٍ من السكر لا يفهمها ولا يقدّرُها غيرهم!
ولكن بالرغم من هذا الدفاع الواله، فانَّ ألفاظَهم مفهومةٌ ومقاصدَهم واضحةٌ كلّ الوضوح كقول الحلاّج:
أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا.
فإذا أبصرتَني أبصرتَهُ * وإذا أبصرتَهُ أبصرتَنا. الحسين بن منصور الحلاج، طواسين ص/ 34. (نقلاً من كتاب اسمه "هذه هي الصوفيّة"، للشيخ عبد الرحمن الوكيل ص/ 53. دار الكتب العلمية، بيروت-1984م.)(66/178)
ومنها ما قال ابن عربي؛ »فانّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شئٍ؛ بل يراه عين كلِّ شئٍ.« محي الدين بن عربي فصوص الحكم ص/ 192. (نقلا من كتاب؛ "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 75. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية) وقد فرّط في جنب الله بكلام صريح لا مجال للتأويل فيه. فقال »فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وعين ما بطن في حال ظهوره، وما ثمّ من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه؛ فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه. وهو المسمّى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماءِ المحدثات.« المصدر السابق ص/ 76، 77. (نقلا من كتاب؛ "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 83. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية)
ولما عرض كتاب "فصوص الحكم" على سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفيّ وقيل له:
»- كلّ ما في هذا الكتاب يخالف القرآن!«
أجاب بقوله:
»- القرآن كلّه شرك، وإنما التوحيد في قولنا.«
هكذا دافع التلمسانيّ عن ابن عربى وعن فكرة وحدة الوجود في الوقت ذاته. ولمّا قيل له:
»- فما الفرق بين أختي وزوجتي؟«. قال:
»- لا فرق عندنا، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام، قلنا حرام عليكم.« صالح المقبلى، العَلَم الشامخ ص/ 569. نقلاً من كتاب "التصوّف في ميزان البحث والتحقيق" للمؤلّف عبد القادر سندي ص/439.)
كانت هذه عدد من الدلائل الواضحات على عقيدة وحدة الوجود. وهي قطرة من بحر. وما من شخصٍ رزقه الله العقل والبصيرة والمعرفة باللّغة العربية إذ يطّلع على هذه العبارات، فلا يشكّ في أنّ عقيدة وحدة الوجود ليست إلاّ كما قال بعضهم:(66/179)
»وما الكلب والخنزير إلاّ إلهنا * وما الله إلاّ راهب في كنيسة« محمّد بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار. تكملة النفحات الأقدسية في شرح الصلوات العظيمة الإدريسية؛ نقلا من كتاب "هذه هي الصوفيّة" للشيخ عبد الرحمن الوكيل ص/ 64؛ وكتاب "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة"، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 153؛ (على أنه من كلام فريد الدين العطار)؛ وكتاب: معالم الهدى إلى فهم الإسلام، للدكتور مروان إبراهيم القيسي. ص/ 69.
لذا من زعم أنّ ما جاء في كتب الصوفيّة من أمثال هذه العبارات، إنّما هي كلمات صدرت منهم في حالة سكرٍ وغلبةٍ من العشقِ الإلهيِّ، لا يقف على حقيقتها إلاّ أهلها؛ فقد شهد على نفسه أنّه كاتم لما يُضْمِرُهُ من الحرب على الله كما يفعله قدماء الروحانيّين من النقشبنديّة عن قصدٍ، فيتبعهم بقية الشيوخ وآلاف من المريدين الجهلة تقليدًا بهم في هذا الاعتذار.
لهذا، فانّ النقشبنديّين أيضًا يدخلون في عداد الوجوديّين بالتأكيد؛ لحسن ظنّهم بابن عربي وأمثاله. يدلّ على ذلك تعظيمهم لهذه الطائفة وثناؤهم عليها في مواطن كثيرة من حديثهم، خاصّة مَنْ اشتهر منهم بالعلم والثقافة - وقليلٌ مّاهم –(66/180)
لم ينج أحد منهم من هذا التأثير، لرسوخ نزعة التقليد الأعمى فيهم، فلم تكن محبّتهم أو كراهيتهم لشيءٍ إلاّ تقليدًا بمن اعتقدوا فيه. لذلك تجدهم دائمًا يبالغون في إظهار أحاسيسهم سواء في محبتهم أو في بغضهم وكراهيتهم. كزاهد الكوثريّ. وهو من متعصّبي هذه النحلة كما يبدو ذلك واضحًا من عباراته في كلّ ما قد دوّنه وصنّفه. فقد انعكس إعجابُهُ بنفسه واغترارُهُ بعلمهِ في مواطن كثيرة من كلماتِهِ اللاذعةِ ولهجته القاسيةِ وتحدّياتهِ وهجماتهِ على أهل العلم واحتقاره لهم. لا يخلو كتاب من كتبه إلاّ وفيه استخفافٌ بعالمٍ، أو طعن في رجلٍ من أهل المعرفة والإجتهادِ. وربما كان اتخاذه الموقف المتنافر من أهل التوحيد في كلّ مناسبةٍ، إنتقاماً منهم، ليشفي بذلك غليله وليستريح من كبته بسبب كتمانه لما كان يعتقده من فكرة وحدة الوجود. يبرهن على هذه الحقيقة ما قد سجّله أبو الفضل بن عبد الله القُنويُّ في مقدّمته لكتاب »الردّ على القائلين بوحدة الوجود« تأليف علي بن سلطان القاري. فقال:
»ويحسن بي قبل أن أُنْهِيَ هذا التقديمَ أن أُشِيرَ إلى شيءٍ يهمّ الباحث في ترجمةِ جهميِّ عصرِهِ وسوءِ علماءِ بلدِهِ الكوثريّ وقصته مع مصطفى صبري، وذلك أنه جرت بينهما من الخصومة العلمية ما يجدر أن يُكتَب في كتاب مستقل، ولكني سأذكر من ذلك نبذًا لعلّه لم يشر إليها كاتب قبلي ما علمت:«(66/181)
»فقد أخبرني الأستاذ أمين القدسيّ، وهو كاتب وباحث قونويّ يتقن العربية أنّ الكوثريّ يُبطن اعتقادَ مذهب أهل وحدة الوجود، وبخاصّةٍ يوم هاجر إلى مصر، فبلغ بي العجب يومئذ غايته؛ إذ المعروف عن الكوثريّ أنه حامل لواء التنزيه بزعمه، فكيف يقول بمذهب الوحدة وهو أشنع التجسيم، وأخبث التمثيل؟! وقال لي: إنه سمع ذلك من خاله علي القدسيّ، وهو من علماء الترك الّذين هاجروا إلى دمشق، وإنه جرت مناظرة بين الكوثريّ وعلي القدسيّ في وحدة الوجود، الكوثريّ يؤيّدها والقدسيّ ينكرها، حتّى كان من آخر ما قاله القدسيّ للكوثريّ في المجلس: أنت تقول بقول أهل الوحدة، فأنا أستأذنك لأذهب إلى بيت الخلاء لأقضي حاجتي، فغضب الكوثريّ وعرف مقصده، وقال أمين: إن من أدلة اعتناقه هذا المذهب كتابه (إرغام المريد) في التصوف، فطلبت الكتاب وقرأته، فرأيت من الطامة ما ينضم إلى سجله المحترق تجهمًا فيه من تصديق بدع المتصوّفة وخرافاتهم وتقديس مشائخهم ما شئت.«
***
* وحدة الشهودِ(66/182)
وأمّا فكرة "وحدة الشهود"، فهي أيضًا بدعة فلسفيّة مماثلة لهرطقة "وحدة الوجود". أوّل مَنْ قال بها مِنْ قدماء النقشبنديّة، هو أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بين أتباعه بـ "الإمام الربّانيّ". أثار هذه الفكرة فتذرّع بها للرّدِّ على عقيدة "وحدة الوجود" على حسب ما ادّعى المفتتنون به. يبدو أنّهم قد حاولوا بذلك أن يُبْرِؤُا سَاحَتَهُ ممّا أصاب ابنَ عربي وأمثَالَهُ من الوجوديّين من الطعن بالتكفير والإلحاد، حتّى لا يتعرّض هو الآخر لتشنيغ أهل التوحيد. بينما الفاروقيّ أيضًا تخبّط في متاهاتٍ أخرى لا تقل خطراً عما وقع فيه الوجوديّون قبله. إذ أنّ رسائلَهُ الشهيرةَ المتداولةَ بين المغترّين به، والمعروفةَ بعنوان "المكتوبات" شاهدةٌ على ما قد بثّ ودسّ من أنواع البدع في عقائد المسلمين بهذه الرسائل، وهي أصلاً مستوحاة من ديانات مجوس الهند، كما سنشرحها في ترجمته إنْ شاء الله تعالى.
والغريب، أنّ بعض المغفّلين قد انخدعوا بِدِعَايَةِ: أنّ "وحدةَ الشهود" صيغةٌ دفاعيةٌ عن العقيدة الحنيفة ضدّ هرطقة "وحدة الوجود". بينما هي نفسها هرطقة أخرى وبدعة غالية ليست من الإسلام في شئٍ. إذ أنّ كلمة "وحدةِ الشهود" تعبيٌر غامضٌ، حتّى لو كان المراد به "وحدةَ المشهود"؛ ولكن بأيّ صفة؟ فانّ النقشبنديّين لم يذكروا شيئًا بوضوح يُبيّن لنا أنّ وحدة الشهود يعني: وحدة جميع الأشياءِ المشهودةِ على صفة المخلوقية لله الخالق الواحد المنزّه عن المشابهة بالمشهود.(66/183)
فقد قال رجل من كبرائهم في صدد هذه العقيدة »أنّ الممكن في التوحيد الشهوديِّ، مرآةٌ لشهود ذات الحقّ سبحانه«. غلام علي عبد الله الدهلويّ، مكاتيب شريفه (باللّغة الفارسيّة) ص/ 174. مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. وهذا نص كلامه بالفارسيّة: "در توحيد شهودي، وجود ممكن آينهء شهود حق سبحانه مي شود". ولكن إذا كان مراده من هذه الصيغة: أنّ وجود المخلوق يدلّ على وجود الخالق، فلماذا لم يعبّر عن مقصوده هكذا بوضوح على طريقة علماء الإسلام، ولم يقتبس آية مناسبة للموضوع، مثلا كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...إلخ.}؛ ولكن صاغ عبارتَهُ بذلك الأسلوب الدسّاس الغامض على طريقة الروحانيّين؟!!!
لأنّ عقيدة "وحدة الشهود" في حقيقة الأمر ليستْ إلاّ نسخة أخرى من عقيدة "وحدة الوجود". ولكنهم جاؤا بها في لباسٍ جديدٍ، وتكلّفوا أخيرًا هذه الصيغة الماكرة في الدعاية لها بعد أن فشلوا في محاولة دعوتهم لعقيدة "وحدة الوجود". وذلك ليُلبِسوا الحقَّ بالباطل على البُسِطَاءِ بحيلةٍ أخري في بداية الأمر، إلى حينٍ تتحقّق لهم الهيمنة على دماغ من ينخرط في سلكهم ويعتنق عقيدتهم بعد مرحلة من الرياضة. وهذا دأبهم في الاصطياد الباطني
يشرح السرهنديّ هذه العقيدة الّتي ابتدعها بقوله: »إنّما يتحقّق التوحيد الشهوديُّ بالفناءِ وبنسيان ما سوى الله، فيستطيع السالك أن يتقدّم من البداية إلى النهاية دون أن يظهر له شئٌ من العلوم والمعارف المتعلّقة بالتوحيد الوجودِّ؛ بل يحتمل أن يُنكر هذه العلوم«. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المكتوبات (الرسالة رقم/272.) ص/ 505. باكستان-1392هـ. النسخة الفارسيّة الّتي أعيدت طبعها في تركيا. مكتبة إيشك. إسطنبول-1977م. راجع المصادر الآتية لمزيد من المعرفة حول عقيدة السرهنديّ فيما اختلقه باسم "التوحيد الشهوديّ":
Dr. Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar Pg. 295. ?stanbul-1994(66/184)
A. F. Serhindi, Mektubât (Translation: Abdulkadir Akçiçek) ; V/2. Letter No. 314.
إنّ هذه العبارة المنقولة من إحدى رسائل الفاروقيّ الّتي يردّ بها على عقيدة "وحدة الوجود"، فيها كفاية عن حقيقة وحدة الشهود في الوقت ذاته، وكذلك عن معتقدات الفاروقيّ جملةً وتفصيلاً. إذ يبدو فيها واضحًا أنّه مقرّ بعقيدة الفناءِ في الله ثمّ بالسلوك. وهو فنٌّ ماكر وأسلوب خطير من أساليب المتصوّفة لترويض المبتدئِ على أفكارهم واتجاهاتهم..(66/185)
إنّ مقولة "وحدة الشهود"، في الحقيقة تعبير دخيل مثل كلمة "وحدة الوجود". لا صلة لها الإسلام. إذ لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان؛ أنّهم نطقوا بمثل هذا التعبير. ثم إنّ الغرض الحقيقيَّ من هذا التعبير لا يبدو بسهولة. وهو كلام غامض. يتشوّش فيه المتأمل. بينما الإسلام ومفاهيمه واضحة جليّة، تتبدّى حتّى للأميِّ فضلاً عن العالم؛ كما قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلوُنَ.}؛ سورة أل عمران/118. وقال تعالى، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلوُن.َ}؛ سورة الحديد/17. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلوُن.}؛ سورة البقرة/242. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ اْلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّروُن.َ}؛ سورة البقرة/266. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تهْتَدوُنَ.}؛ سورة آل عمران/.103 وقال تعالى، {هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظةٌ للمتّقين.}؛ سورة آل عمران/138. وقال تعالى، {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَئٍْ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرىَ لِلْمُسْلِميِنَ.}؛ سورة النحل/89 وقال تعالى، {كَذَلِكَ نُفَصِّل اْلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّروُن.َ}؛ سورة يونس/24 وقال تعالى، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.} سورة القمر/17، 22، 32، 40.(66/186)
أمّا بُسَطَاءُ النقشبنديّة فانهم على نقيضٍ من هذه الصراحة اللاّئحة في كلّ آيةٍ من القرآن الكريم. يأتون بكلام غامض ربما لا يفهمونه بالذات. لأنّهم لا يدرون ماذا يقصدون به؛ ولأنّهم كثيرًا ما يطلقون الكلمة من غير تعقّل إمّا لجهلٍ مزدوج: وهو الجهل المركب الّذي لا علمَ لصاحبه بجهل نفسه، أو إمّا بسبب التقليد الأعمى الّذي قد يتعرّض له حتّى الرجل العالم لثقته الشديدة بمن يقلّده كموقفهم من الوجوديين. نراهم يبتدعون فكرة "وحدة الشهود" لكي لا يتورّطوا فيما وقع فيه ابن عربي وأمثالُهُ من الوجوديّين؛ ثم نراهم على أشدّ هيئةٍ من الإجلال والتعظيم لهم.
في الحقيقة، إنّ جميع النقشبنديّين هم بسطاء الصوفيّة وحثالتهم. لذا، هم أقلّ الفرق الباطنية مرونةً، وأشدّهم تقليدًا وتعصّبًا. يبهرون بأخسّ كلمة ينطق بها متحزلقٌ من صناديدهم. فيتأوّلونها، ويشرحونها، ويحشدون في بطنها تفسيرات غريبة يتعجّب الإنسان من محاولتهم.(66/187)
هذه التبعيّة هي الّتي دفعتهم من وراءِ كاهنٍ هنديّ، فظنّوا أنّ بدعته الّتي زيّنها لهم باسم "وحدة الشهود" تعني تنزيهَ الخالق عن صفات المخلوق. بينما هذه التبعية تتجاوز حدودَ حسنِ الظنّ إلى تقليدٍ لا مبرِّرَ له. إذ أنّ الوجوديين والشهوديين لو أخلصوا لله في تنزيهه سبحانه عما يصفون، لتقيّدوا بحدودِ ما قال تعالى عن نفسه، وما ذكر من صفاته؛ كقوله جلّت عظمتُهُ {اللهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيّوُمُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ...}. سورة البقرة/255. وقوله تعالى {وَهَوَ الّذي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكوُنُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فيِ الصورِ عاَلِمُ الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ وَهُوَ الْحَكيِمُ الْخَبيِرُ.}. سورة الأنعام/73 وقوله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقْ أَفَلاَ تَذَكَّرَونَ.}. سورة النحل/17. وقوله تعالى {فَاطِرُ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌْ، وَهُوَ السميِعُ الْبَصيِرُ* له مَقَاليِدُ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَليِمٌ.}. سورة الشورى/11، 12.(66/188)
نعم لو أنّ النقشبنديّين اقتنعوا بهذه الآيات البيّنات - وما أكثرها في كتاب الله - لكفتهم مؤنة القول بـ "وحدة الشهود" في محاولاتهم لتنزيه الخالق عن صفات المخلوق. ولكن غرضهم في حقيقة الأمر ليس تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بشأنه تعالى. ولأنّهم لو كانوا صادقين في ادّعائهم: أنّ أحمد الفاروقيّ إنما تصدّى بهذه المقولة، ليردّ على ابن عربي؛ لما ثبتوا على تعظيمهم للوجوديين بعد ذلك ومنهم ابن عربي، ولنبذوا ما أضلّهم به سادتهم وكبراؤهم من عقائد البراهمة وتقاليد اليوغيّين؛ ولدخلوا صفوف أهل التوحيد وأخلصوا لهم، وساندوهم في جهادهم ضدّ الفرق الضالّة والمتطرّفين والزنادقة والمشركين.
***
الولايةُ والوليُّ في معتقد النقشبنديّين.
إنّ مفهوم الولاية والوليِّ - بالوصف الصوفيّ - مسألة خطيرة جدًّا؛ أثارها الروحانيّون منذ عصور. وقد نسجوا حولها ما نسجوا من أنواع الأساطير في بطون الكتب مالا يتمكّن الإنسان من إحصائها.
فقد تشبّثوا بآيةٍ من كتاب الله العزيز بالتحديد، فتناولوها بالتأويل على سبيل الإثبات لما أرادوا من وراء هذا المفهوم. وهي قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوَفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنوُنَ.}. سورة يونس/62. إنّ معنى هذه الآية الكريمة واضحة جلية في الحقيقة؛ لا يحتاج إلى أيِّ شرح أو تفسير. فقد بيّن الله سبحانه صفات الوليِّ في آيتين بعدها. قال تعالى {الّذينَ آمَنوُا وَكَانوُا يَتَّقوُنَ* لَهُمُ الْبُشْرىَ فيِ الْحَيَاةِ الدنْيَا وَفيِ الآخِرَةِ لاَ تَبْديِلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ، ذَلِكَ هَوَ الْفَوْزُ الْعَظيِمُ.}. سورة يونس/63، 64.(66/189)
لذا لم يجد علماء الإسلام ضرورة أيّ تفسيرٍ آخرَ بعد هاتين الآيتين غالبًا، لكمال وضوحها وتبادرها إلى الذهن بسهولةٍ. أمّا من أبى منهم إلاّ ليقول شيئًا، فقد اضطر أنْ يُعيدَ الآيةَ نفسها، أو جزءً منها؛ - كما فعل ابن كثير رحمه الله - ولكن ليس ذلك مساعدةً منه للقارئِ على فهم معنى الآيةِ؛ بل تأكيدًا لشأنها، وردعًا لمن قد يهمس إليه الشيطان ليوقعه في العبث بها وتأويلها بما لا تتحمّل. {فَأَمَّا الّذينَ فيِ قُلُوِبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعوُنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيِلِهِ.}. سورة آل عمران/7
لذا قال ابن كثير - رحمه الله - وربما ليس بقصد التفسير، بل تفادياً لأيِّ لبسٍ قد يتورّط فيه قاصر الفهم، وتنبيهًا على تأويلات المشعوذين من الصوفيّة قال:
»يخبر تعالى أولياءَهُ - وهم الّذين آمنوا وكانوا يتّقون - كما فسّر ربُّهم؛ فكُلُّ مَنْ كان تقيًّا، كان وليًّا؛ وأنّه لا خوفٌ عليهم فيما يستقبلون من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما ورائهم في الدنيا.« أبو الفداء إسماعيل عماد الدين بن عمر بن كثير القرشي، تفسير القرآن العظيم 4/213. دار قهرمان إسطنبول-1984م.
نعم كان هذ معنى الآية في حقيقة الأمر. غير أنّ عامّة الصوفيّة وخاصّةً النقشبنديّين لم يتورّعوا عن تحريف معنى هذه الآية الجليلة على الرغم من وضوحها. بل تصوّروا للوليِّ شخصيةً أسطوريةً كما سنشرحها في باب الكرامة عندهم.(66/190)
إنّ الأولياء في اعتقاد النقشبنديّين ليسوا هم الّذين وصفهم الله بأربعة نعوت فحسب، في تلك الآيات الآنفة الذكر. بل هم رجالٌ عمالقةٌ لا تُدرِكُ عقول البشر أسرارهم وجلالة شأنهم. الكائناتُ بأسرها مسخّرةٌ لمشيئتهم. »فالملائكة تهبط إليهم بالطعام والشراب؛ والوحوشُ والكواسرُ تخافهم وتُطَأْطِيءُ رؤوسها لهم، والأرضُ تُطْوىَ لهم، فيطوفون في أرجائها بمثل لمح البصر.« سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 157.(إنما وَصَفَ المؤلّفُ شخصيةَ الوليّ على حسب عقيدة الصوفيّة، أراد أن يفضحهم بالكشف عن عقيدتهم حول هذا المفهوم.)
هكذا، فإنّ تصوّر المتصوّفة للوليِّ أقرب إلى الخيال المحلّق، بل قد يتجاوزه. فلا حقيقة لهذا التصور طبعًا. لأن الخيالَ لا حدودَ له. يسرح الإنسانُ فيه ويحلمُ ما يحلوُ له، وقد يعتادُ على ذلك، وعندها يغدو رهين المرض النفسي الذي يهيمن عليه، فيصدّق كلّ ما يجول في خاطره من وساوس النفس ووحي الشياطين. ومتى بلغ هذا المرضُ فيه مبلغَهُ، صار لايشكّ في صحة شئٍ من تلك الأساطير الّتي نسجتها الصوفيّة؛ بطلت عندئذ سنّةُ الله في نظره. فانه في هذه الحالة سواء زعم أنه مؤمن بالله أو كافر أو مشرك، يعاني ازدواجيةً غريبةً في عقيدته وسلوكه وآرائه وأعماله. وبالتالي لا يكاد يعبأ بالإنسان المتّصف بمجرّد الإيمان والتقوى. وهما من صفات أولياء الله. لأنّ الإيمان والتقوى - بالمنظور القرآنيِّ - لا يكاد يمثّل شيئًا في اعتباره. خاصّة فانّ الإيمان بالله يستوجب القيام بأمور ينافي إيمان الصوفيّ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله على أرضه، والجهاد في سبيله... أمّا الصوفيّ، فانّ إيمانه يأمره بالسير والسلوك اليوغي-البرهميِّ، والعزلة والتقشف، والغياب والتعطيل الّذي يسمونه الفناء والبقاء إلى غير ذلك مما لا مساس له بالإسلام.(66/191)
لهذا، فانّ شخصية الوليّ الّذي وصفه الله بالإيمان والتقوى، وأنه لا يخاف ولا يحزن؛ تختلف اختلافًا كبيرًا عن تلك الشخصية الّتي تتصف بالولاية في عقيدة الصوفيّةِ عامةً والنقشبنديّة خاصّة. لأنه يستحيل في عقيدتهم المزدوجةِ أن يكونَ اللهُ هو المُسَيِّرَ الوحيدَ للكائنات بأجمعها؛ وإنْ هم ينطقون بكلمة التوحيد. فانَّ هذا النطق عادةٌ تقليدية في خاصّتهم وكبرائهم. وربما هي وسيلة للتّقية. والبرهان القاطع على ازدواجية العقيدة خاصّة عند النقشبنديّين أنهم لايشكّون من استقلال أوليائهم عن الله قيد نملةٍ، ولا من استغنائهم عنه بتصرّفاتهم في الكون. يعتقدون »أنّ كلاًّ منهم يُحيي ويُميت ويرزق ويحرّم ويغفر ويعذِّب وهو على كلّ شئٍ قدير!«. لذا لم ترضَ أنفُسهم بأن تقتصر صفات الوليِّ على عدم الخوف والحزن وعلى كونه مؤمنًا تقيّا فحسب، بل تَعَدَّوْها بخلع صفاتٍ ذاتيّةٍ إلهيةٍ على أوليائهم، ونسبة القدرة الخارقة إليهم. ومعنى ذلك أن الوليَّ عند النقشبنديّة »هو وكيلُ الله في أرضه، وخليفتُهُ القائمُ بالتصرّف عنه.« محمود أسطى عثمان أوغلو وعدد من بطانته، تفسير "روح الفرقان (باللّغة التركية) " ص/ 2/74. مكتبة سراج، إسطنبول-1992م. كما جاء في تفسيرٍ لجماعةٍ منهم في إسطنبول. وإنما أرادوا بهذه المقولة: أنّ الوليَّ يتصرّفُ في مُلْكِ الله كما يشاء. وقد أنشد بعضهم باللّغة التركية أبياتًا لا تترك مجالاً للشّكِّ فيما يقصدونه من وراءِ مفهوم الوليِّ. وهذا ما تيسّر لنا تعريبهُ:
إنّ الوليَّ له التصرُّفُ في الحياةِ وبعدها؛
إيّاك قولَ مُعَنِّدِ الْمُغترِّ: - أنّه ميّتٌ.
الروح سيف الله والبدن الْمُكَثَّفُ غِمْدُهُ؛
فالصارم المسلول أنشطُ، والمُغَمَّدُ بيِّتٌ. هذا هو النصّ الأصليُّ باللّغة التركية للأبيات المذكورة المعرّبة:
?ki cihanda tasarruf ehlidir çünkü veli
Deme kim bu mürdedir bunda nice derman ola(66/192)
Rûh ?em?îr-i Hudâd?r ten ?ilâf olmu? ona
Ta ki a'lâ kâr eder bir tî? kim üryan ola
Ahmet Yasar Ocak, Menâkibnâmeler Pg. 7 . Ankara-1992
نعم لا يشُكُّون قيدَ نملةٍ فيما جاء ضمنَ هذه الأبيات. ذلك أنّ الوليَّ في معتقدهم إذا مات خلصتْ روحُهُ من كُدُرات الجسم الكثيف، وتحررتْ من قيودها، وغدت أكثرَ استعدادًا وقدرةً على تنفيذ ما تريده. لذلك يضربون لها المثال بالسيف المسلول.
ولهم عباراتٌ ملفّقةٌ في هذه المسألة. قد مزّجوا فيها بين الحقّ والباطل. يقول بعضهم »فمذهب أهل الحق أنّه تبقى الكرامة بعد الموت كما أنّ النبوة لا تنقطع بعد الموت.« حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر ص/ 15. فشاور/1965م. أعيد طبعه من قِبَل مكتبة الحقيقة في إسطنبول- 1989م.
لقد نَسِيَ المتنطّعُ بهذه الألفاظ أو جَهِلَ، أنه لا وجهَ للتشبيه بين الكرامةِ والنبوّةِ؛ ولا بين الكرامة والإيمان إطلاقًا. وإنّما للتّشبيه وجه بين الولاية والنبّوّة، وكذلك بين الكرامة والمعجزة. لأنّ النبوّة صفة ذاتية كالولاية؛ وليست صفةً فعليةً كالمعجزة (وهي من براهين النبوّة). أمّا الكرامة (بمعنى الخوارق حسب اعتقاد الصوفيّة)، فإنها صفة فعليّة كالمعجزة، وليست صفةً ذاتيّةً كالولايةِ (وهي سبب الكرامة، أي سبب حدوث الخوارق على يد الوليّ في معتقدهم أيضًا). ولأنّ مفهوم الكرامة في مصطلحهم يشتمل على الخوارق الّتي تُمَثِّلُ الصفة الفعلية وليست الصفةَ الذاتيّةَ. فهي بالنسبة للوليِّ عندهم كالمعجزة للنّبيِّ، وكالسحر بالنسبة للساحر. إذًا فكيف يجوز التشبيه بين الكرامة والنبّوّةِ؟!(66/193)
لا شكّ يظهر مستوى هذا الصوفيّ ونصيبُهُ من العلم بوضوح، من خلال تلك المقارنة الواهية. لهذا، فإنّ جماهير أهل العلم والمعرفة لو اجتمعوا ليقيموا الحجّة على كلّ ما ادّعاه الصوفيّة، لعجزوا عن إحصائها، فضلاً عن دحضها وإحباطها. وهذا من أكبر الأسباب الّتي تفسح لهم المجال وتُنْبِتُ في نفوسهم الجُرأة فتُردِيهم في الغيِّ والتمادي.
إنّ الصوفيّة عامّةً والنقشبنديّين خاصّة يُدافعون عن عقيدتهم في مسألة الوليِّ والولاية بإصرار، ويلجأون إلى تأويل الآيات والأحاديث كي تستقيم لإستدلالهم وحجاجهم. فقد أظهر بعضُهم عقيدتَهُ في الولاية بجرأةٍ حيث ادّعى أنّ الولاية أفضل من النبوّة. لمزيدٍ من المعرفةِ حول اعتقادهم في مسألة الوليِّ والولاية، راجع المصادر الآتية:
Hasan Lutfi Sususd, Menâkib-i Evliya Pg. 163 (Terms part) Ist.-195
Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 90-95 Istanbul-1994
Grogp Of Naacshabandis, Ruh’ul-Furkan 2/63 Istanbul-1992
Ali Kadri, Tarikat-i Kaksebekdiyye 154-159 Pamuk Publis. Istanbul-1994 إنهم لا يختلفون أصلاً في هذه العقيدة. ولكنّ شيوخهم يحتاطون في إظهار هذا المعتقد الخطير، خاصّة إذا كان عندهم أحد من المسلمين!(66/194)
ربما لجأ النقشبنديّون الأتراك إلى هذا التصوّر الرهيب، ليتمكّنوا بذلك من التحدّي على أنَّ منهم أولياء، يفوقون الأنبياء بدرجاتٍ؛ ليتخلّصوا بذلك من تبعية العرب في الدين والثقافة. وليبرّروا حجّتّهم في تعظيم كبرائهم والدعاية لهم، ولتستطيعَ كلُّ جماعةٍ منهم العملَ على تصعيد شيخِها وتفخيمهِ إلى أن تعترفَ بقيةُ الْفِرَقِ الباطنية به، فيدخلَ اسمُه في قائمة أولياء الصوفيّة. ولهذا ليس من الأمور الخفيّة (كما ورد بقلم بعضهم)، »أنّ كلَّ مريدٍ لابد يعتقد الولاية في شيخه«. مقتَبَسٌ ومعرّبٌ من الكتاب الصادر بعنوان: Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 93 Istanbul-199 رجمًا بالغيب؛ وبالرغم من أنّ عدمَ إمكان الإطلاع على وجود صفة الوليِّ في شخصٍ بعينه، متَّفَقٌ عليه عند قدمائهم. المصدر السابق والصفحة المذكورة. وهذا برهان أخر على تخبُّطهم جميعًا في عمياءَ، وتقلُّبهم في أمواج من التلفيق والتناقض والتضارب مع أنفسهم.
يتكلّفون كلَّ هذه المحاولة مع ما فيها من المسؤولية العظيمة، ليدّعوا في النهاية أنّ شيخهم قطب الفرد، وغوث الزمان، وغياث الخلائق، تظهر على يده ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت من الخوارق، وأنّه لو أراد أن يقلّب الجبال ذهبًا لفعل، وأنّه إن مشى على البحر لما أصاب نعلَهُ شئٌ من البلل، وأنّه لو دعى على قومٍ لجعل الله عاليهم سافلهم. وأنّه يحضر الصلاة في الأوقات الخمس بالمسجد الحرام في الحين الّذي هو في بلده، ولو كان بينه وبين الحرم بُعْدُ المشرق والمغرب، وأنه يحضر جبهة القتال في طليعة جيوش الإسلام ينصرهم على عدوّهم، وكيت وكيت!(66/195)
يبرهن على هذه الحقيقة ما يُرَدِّدُهُ عوامُّ النقشبنديّة من الأكراد بلغتهم »شَيْخيِ مَهْ دِكَارَهْ صُولِيِ جَنَّتيِ وُ جَهَنَّمِيَانْ زِهَفْ فَرْقْ بِكَهْ.«؛ ذلك يعني: أنّه باستطاعة شيخنا أن يميّز بين نعال أهل الجنّةِ وأهل النارِ. أي له علم بالغيب في هذا التمييز حتّى ولو لم يعاين أصحاب النعال.
إنّ المفتتنين بكلّ شيخ من شيوخ النقشبنديّة يحاولون بمثل هذا التعبير ليذكروا من صفاته الّتي لا يمتاز بها شيخ آخر، اعتزازًا به. وهكذا تجري المنافسة، وأحيانًا يتطوّر الحديث بين الجماعات التابعة لشيوخ هذه الطائفة بالأسلوب نفسه، فيؤدّي إلى مضاعفات من الخصومة والبغض والشحناءِ..
إن هذه المنافسة قد أورثت النقشبنديّين معتقداتٍ غريبةً ومتنوّعةً حول مفهومَيِ الوليِّ والولاية، وفي النظر إلى شخصية شيخ الطريقة. فانهم مختلفون في فهم هذه المسائل، وكذلك مواقفهم وتعاملهم مع مشائخهم بهذا السبب يختلف اختلافًا بارزًا من جماعةٍ إلى أخرى؛ بعضهم يقدّسون مشائخهم ويعظمونهم تعظيم العبد لربِّهِ، وربما يعتقدون فيهم جزءًا من الإلهيةِ؛ وبخاصّةٍ الأكراد من هذه النحلةِ يحلفون برؤوس مشائخهم وبقبورهم وكذلك بأنسابهم. فيقولون:(66/196)
"بِسَريِ شَيْخْ". أي أُقسِمُ بِهامةِ مولانا الشيخ. ويقولون "بِجَديِّ شيخ". أي أقسم بنسب مولانا الشيخ؛ أو أقسم بآبائهِ. ويقولون "بِكُمْبَتَا شَيْخْ". أي أقسم بالقبّةِ الّتي على ضريح مولانا الشيخ. ذلك من عاداتهم الشائعةِ أنّه إذا مات شيخ من مشائخهم أقاموا على قبره قُبّةً - إلاّ من أوصى بخلافه، وقليل مّا هم - ثمّ ركّبوا على لحده صندوقًا من الخشب، فزيّنوه بالأقمشة، وجعلوه مزاراً يشدّون إليه الرحال، ويتبرّكون به، ويحملون إليه مجانينهم ومرضاهم استشفاءً به، كبقية الطوائف من الصوفيّة. ولبعض جماعاتٍ منهم عاداتٌ أخرى؛ كالضرب على الدفوف، والتغنّي بمناقب الشيخ أمام الموكب أثناءَ تشييع جِنازتهِ من المصلّى إلى المقبرةِ. وهي بدعة اعتادها النقشبنديّون من سكّان مدينة سِعِردْ الواقعة بأقصى جنوب شرقي تركيا.(66/197)
وكذلك من صيغ القسم عند الأكراد النقشبنديّين قولهم "بِأُوْجَاخَا شَيخْ" إنّ كلمة (أوجاخ، أو أوجاق) معناها في اللّغة التركية: موقد النار. وهو مصطلح هامٌّ، في معتقد الأتراك وعاداتهم وتقاليدهم. جاءت في ذلك شروح للباحثين وأهل الدراسة. منها ما ورد في موسوعة Meydan Larousseالمجلّد التاسع ص/ 458-462. ورد فيها شرح طويل باللّغة التركية حول هذا المصطلح. وهذا تعريب عباراتٍ يسيرةٍ منها: "الموقد يحتلّ مكانًا هامًّا في معتقد العامّةِ. وهو ملجأ منيع، لاتقترب منه الأرواح المتمرّدة والأجنّةُ والقوى الخبيثةُ الّتي يُفْزَعُ من سوئها، على حسب معتقد الناس. أمّا هذا المعتقد، فهو امتداد لعهد العبادة للنار.". من هذه العبارات أيضًا: "يعتقد أهل الطرق الصوفيّة بأجمعها، وبخاصّةٍ الطريقة البكتاشيةِ والمولويةِ يعتقدون بأنّ الموقد رمز للميمنة والبركة. ويُعتبر جانب الموقد مقام الوليِّ المنعوت "آتش باشي" أي رئيس النار. وإنّما تتم مباشرة العمل في التكيّةِ كل يومٍ بالابتهال إلى الموقد. ويُعتبر حجرُ الموقد أساسًا للتكيّةِ والمكانَ الأقدسَ منها. ويُقَبَّلُ هذا الحجر إذا كان خاليًا من الغبار. أو يُقَبَّلُ اليد عنها بعد مسها إذا كان مغبَّرًا". كما لا يخفى على من له إلمام بالتاريخ، أنّ الجيش في العهد العثمانيّ حتّى زمن السلطان محمود الثاني كان يسمّى "ينكي جري أوجاغي" أى "موقد جيش الإنكشارية" نسبةً إلى الطريقة البكتاشية الّتي يُعتَبَر موقد النار عند أهلها مكانًا مقدّسًا كما مرّ. أي أُقسم بموقده، (كناية عن أسرته). وربما يستمدُّ هذا القَسَمُ من عقائد أسلافهم الّذين كانوا عليها في العهد الوثنيِّ. لأنّ الأكراد كانوا مجوسًا، يعبدون النار ويقدّسون مواقدها قبل الإسلام تبعًا للفرس؛ فتسرّبتْ عكوسُها إلى ما بعد الإسلام، وأخذتْ طابعاً دسّاسًا لا يفطن لحقيقته إلاّ قليل من أهل العلم والبحث.(66/198)
كانت هذه نبذة من ميّزات الوليِّ وصفاته والخوارق المزعومة عن أولياء الصوفيّة وموقفهم من شيوخهم. وليت شعري من راى بعينه ولو شخصًا واحدًا، لعلّ ظهر منه مرّةً واحدةً شئٌ من هذه المزاعم!
وعند ما نتساءل، فنقول:
ـ هل الأولياء، هم الّذين {لاَ خَوَفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنوُنَ * الّذينَ آمَنوُا وَكَانوُا يَتَّقوُن.َ}. كما وصفهم الله تعالى في كتابه؛ أم هم الّذين تُنسَبُ إليهم إظهار الخوارق كأنّهم خُلِقُوا لذلك! كما وصفهم أتباعهم؟!
تختلف إجابةُ كلّ فردٍ من هذه الطائفة عن إجابة الآخر عند مثل هذا السؤال، بحيث يدهش الإنسان من أمرهم ولا يستطيع أن يجدَ الاتفاقَ بين ما يقول اثنان منهم فضلاً عن الاتفاق بين هذه الفِرَقِ المتشابهة في الظاهر. وهذا ما جعل الإثباتَ والتحقّقَ من معتقدات الصوفيّة أمرًا مستحيلاً على الباحثين وأهل الدراسة والتنقيب. ولعلّ اختلاف رجال البحث في تحليل قضايا الصوفيّة. ناشئٌ عن هذه الفوضى السائدة في عالم المتصوّفة.
وبالخلاصة، يبدو وبكلِّ وضوح أنّ الولاية في اعتقاد الصوفيّة ليستْ هي الصفةَ الذاتيةَ الّتي يُكرم الله بها عبدَه المؤمن التقيَّ بما أنه لا يخاف ولا يحزن. بل الولايةُ عندهم هي صفةٌ يكتسبها الإنسانُ بعد مجاهداتٍ ورياضاتٍ شاقّةٍ بتعذيب النفس والجوع والسهر والصمت والعزلة إلى أن يتحقّق له الفناء ثم البقاء، فيكون بذلك من أصحاب النفوس الفاضلة حتّى إذا نُزِعَتْ روحُهُ من بدنه صار من "المدبّرات أمرًا" أي »ملحقة بالملائكة، أو تصلح هي لتكون مدبّرة« حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر ص/ 43. فشاور-1965م. أعيد طبعه من قِبَل مكتبة الحقيقة في إسطنبول-1989م.(66/199)
»فقد ظهر من هذه العبارات أنّ للأولياء بعد الوفاة مدد روحانيٌّ« المصدر السابق ص/ 16. (قد أخطأ المؤلّفُ في إعراب هذه الكلمات، فقد جاء إسم أنّ مرفوعًا بدل أن يكون منصوبًا. والصحيح هو: أنّ للأولياء بعد الوفاة مددًا روحانيًّا ) عند الصوفيّة.
لم تكتف الطائفة بهذا القدر، بل أفرط بعضهم في جنب الله وفي جنب رسوله عليه الصلاة والسلام، حتّى تَقَوَّلَ على لسانه بأنّه قال » إذا تحيّرتم في الأمور، فاستعينوا بأهل القبور«. المصدر السابق ص/ 15. (نقل أحمد الداجوي عن الآلوسيّي كلامًا يُنكر فيه على المستدلّ بالحديث المفترى، ثمّ قال الداجوي: هذا الكلام يشير إلى ضلالة الآلوسيّ) نقلوه على أنّه حديثٌ، كما وردتْ في الصفحة الثانية والثمانين من تفسير "روح الفرقان" بينما يُنكر بعضهم الآخر على من أسندها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرميه بسخافة العقل. ومن جملة ما سفّه بعضهم بعضًا: محاولةُ حمدِ الله الداجويِّ وهو من متصوّفة بلاد الهند. نقل الداجويُّ عن شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي مقطعاً في هذا الصدد. قال فيه »وكذا في حملها على النفوس الفاضلة إيهامُ صحّةِ ما يزعمه سخفة العقول من أنّ الأولياء يتصرّفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أنّه تعالى فوّض إليهم ذلك. ومنهم مَنْ خصّ ذلك بخمسة من الأولياءِ والكلّ جهل، وإن كان الثاني أشدَّ جهلاً.« المصدر السابق ص/ 44.
هكذا أقوالهم وحكاياتهم ونقولاتهم تتناقض وتتضارب وتتذبذب في اضطراب بين الإفراط والتفريط، في كثير من المواطن وإن ظهرت في صورة الحق في بعض الأحيان لقصور النظر فيها؛ كما في مسألة الوليِّ والولاية.
***
المكاشفة والإلهام وعلم الغيب في اعتقاد النقشبنديّين.
إنّ من جملة الصفات التى يعتقدها النقشبنديّون في شيوخهم على سيبل تمييزهم من العامةِ، علمُ الغيب.(66/200)
فقد أفردوا في كتبهم أبوابًا بعنوان الكرامات؛ وذكروا ضمنَ مناقب شيوخهم ما لا يُحصى من قصص المكاشفات والإلهامات وعلم الغيب، تحار منها العقول. منها كتاب »الحدائق الوردية في حقائق أجلاّءِ النقشبنديّة« لرجل من متأخري هذه الزمرة. اسمه عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ. لقد نقل في ثنايا كتابه أفظع ما يمكن أن يتصوّره الإنسانُ من أساطيرَ اختلقها النقشبنديّون عَبْرَ تاريخهم.
يقول في صدد كرامات أحمد الفاروقيّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "الإمام الربّانيّ":
»لقد خصّه الله تعالى بفضيلة نشر العلوم الدينية، والكشف عن أسرار العلوم اللدنّيّةِ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/181.
العلوم اللدنّية هي الّتي يقصد بها الصوفيّة علمَ الغيب. لذا، ميّز الخانيّ بينها وبين العلوم الدينية. وهي العلومُ الإسلاميةُ النابعةُ من قلب القرآن العظيم، المستمدّةُ من الوحي الإلهيِّ، والمعروفةُ بمقدِّماتِها وتفاصيلِها: من توحيدٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وما يتعلّقُ بها.(66/201)
إنّ النقشبنديّين يحتقرون هذه العلوم الشريفةَ كسائر الصوفيّة؛ ويفضّلون عليها ما سمّوهُ بالعلوم اللّدنّية. وهي في اعتقادهم إشراقٌ روحانيٌّ، وعرفانٌ وجدانيٌّ يُفيض على قلب السالك من عند الله بإلقاءٍ ربّانيّ عن طريق الإلهام. ويتفلسفون في تحقير العلوم الدينية المعتمِدة - بجانبها الكسبيِّ - على الحسّ والعقل والتجربة والنظر والقياس. يزعمون أنّ مجرّد المعرفة عن طريق هذه المسمَّيَات لا تؤدّي إلى كنه أسرار الكون والحياةِ وإدراك الحقيقةِ الخفيةِ من وراء الطبيعةِ. فيبلغ تحقيرهم للعلوم القرآنية إلى حدود السخرية بها؛ كما جاء في نفس المصدر المذكور آنفًا ضمنَ ترجمة محمّد زاهد السمرقنديّ أحدِ شيوخِ هذه الطائفةِ في قصةِ اتصاله بعبيد الله الأحرار الّذي نصبه شيخًا على أن يكون خلفًا من بعده على أتباعه. يقول الخانيّ نقلاً عنهُ:
»فلمّا وصلنا إلى قرية شَادْمَانْ، أقمنا فيها أيّامًا من شدّة الحرِّ. فبينما نحن كذلك إذ حضر إلينا سيدُنا الشيخ رضي الله عنه وقتَ العصر فذهبنا لزيارته. فسألني من أين أنت؟ فقلتُ من سمرقند. فطفق يحدّثنا أجمل الحديث. وذكر خلالَ كلامِهِ جميعَ ما أكننتُهُ في سرّي فردًا فردًا. حتّى أخبرني عن سبب سفري إلى هراة. فلمّا وجدتُ ذلك تعلّق قلبي به كلَّ تعلُّقٍ. ثمّ قال لي: إن كان مقصودك طلب العلم فهو متيسّر هنا. فتيقّنتُ أنه ما من خاطرٍ إلاّ وقد اطّلع عليه هذا ولم يخرج من قلبي محبّة السفر إلى هراة. فلمّا كوشِفَ بذلك قال لي أحد أتباعه إنّه مشغول بالكتابة، فتربص قليلاً. فلمّا فرغ قام من مقامه وأقبل نحوي ثمّ قال: - أخبرني بجلية أمرك، هل مرادك من هراة تحصيل الطريق أو العلم ؟ فدهشتُ من جلالته وسكتُّ. فقال له رفيقي: - بل الغالب عليه الطريق، وإنّما جعل العلم تستُّرًا. فتبسّم وقال: - إن كان كذلك فهو أفضل وأحسن.« المصدر السابق ص/175.(66/202)
إنّ هذه العبارات، مَنْ أمعنَ النظرَ فيها، وجد أنّها تُغنيِهِ عن مجلّداتٍ من أساطير هذه الطائفةِ وخرافاتها؛ واحتقارِ شيوخِها للعقل، وسخريتهم من العلم والشريعة المطهّرة. ولا يعزب عن الباحث المحنّك، أنّ غايةَ كبرائهم من مدحهم للشريعة المحمّدية في بعض المواطن من كلامهم، ليست إلاّ وسيلة دعائيّة يلجؤون إليها على سبيل الحيطة، تفاديًا لما يتوقّعون من ردودٍ داخلَ الطائفة وخارجَها. خاصّة فانهم يحذرون انتفاضةَ العلماءِ الّذين تورّطوا بالإنخراط في صفوفهم دون علمٍ بحقيقة تعاليم هذه الطريقة وفلسفتها!
لقد بلغت مجازفات الخانيّيِّ في مسألة الإلهام وعلم الغيب والمكاشفة إلى حدود الازدراءِ بالعقل، فاسترسل في سرد »كرامات مشائخه« ليخلع بها أنماطًا من آيات الثناءِ والمدح على رجلٍ اسمه محمّد زاهد السمرقنديّ. وهو أحد رؤوس هذه الطائفة. ثم استخدم الخانيّ قدرتَهُ الأدبيةَ في تنميق عباراته وتنسيق كلماته فقال:
»فهو المفرد العلم في العلم والقلم الّذي قام بأعباءِ الأسرار والإمداد، وتدبير دولة إرشاد العباد. فتبارك من شيّد بالإلهامات الصادقةِ قدرَهُ، وسدّدَ بالكرامات الخارقةِ أمرَهُ«. المصدر السابق ص/174.
هكذا في اعتقادهم أنّ جميع شيوخهم يطّلعون على الغيب، ويعلمون ما في الصدور بالكشف والإلهام.
أمّا الإلهام، فهو في الحقيقة مفهوم غامض، احتاط العلماءُ في إبداءِ الرأيِ حوله؛ وامتنع الكثير منهم عن الخوض فيه. جاء تعريفه في المعاجم بخلاصةٍ يمكن الجمع بينها تقريبًا: أنّه إلقاءٌ من الله في نفس الإنسانِ أمرًا يبعثه على فعلِ الشيءِ أو تركهِ. كأنه أُلْقِيَ شئٌ في روعه فالتهمه. وكلمة "ألهمه الله" أي لقّنه إيّاه؛ و"ألهمه شيئًا" أي أوعزه إليه وأوحاه.(66/203)
قال مصطفى بن محمّد الكستلّي في حاشيته على شرح العقائد للعلاّمة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني تفسيرًا لقول النسفيِّ »والإلهام عند أهل الحقّ؛ قال إحترازًا عمّا نقل عن بعض المتصوّفة وبعض الرافضة أنّه من أسباب العلم مستدلّين بقوله تعالى {فَأَلْهَمَهَا فَجوُرَهَا وَ تَقْوَاهَا} سورة الشمس/8. والجواب، أنّ المراد إعلامها بإرسال الرسُلِ وإنزال الكُتُبِ، أو بدلالة العقل«.
فقد اتّضح من هذه العبارات مرةً أخرى أنّ علماء الإسلام في كلِّ عصرٍ قد حذّروا المسلمين عن الاغترار بتأويلات المتصوفةِ والرافضة.
***
الأويسيّةُ
أمّا الأويسية: فإنّها مصطلحٌ غريبٌ ومثيرٌ، اختلقها النقشبنديّون ليتّخذوه ضربًا آخر من دعوى علم الغيب لشيوخهم. يزعمون أنّ عددًا من قدمائهم تلقّوا علومَهم من روحانيةِ مَنْ ماتوا قبلهم؛ ويصفونهم بـ "الأويسيّة" فيقولون لكلٍّ منهم "شيخٌ أويسيٌّ" نسبةً إلى أويس القرني. وهو »أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرنيّ، من بني قرن بن ردمان بن ناجية ابن مراد، أحد النسّاك العبّاد المقدّمين من سادات التابعين. أصله من اليمن يسكن القفار والرمال، وأدرك حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. فوفد على عمر بن الخطّاب؛ ثم سكن الكوفة وشهد وقعة صفين مع عليّ رضي الله عنه. ويرجِّح الكثيرون أنّه قُتِلَ فيها." خير الدين زركلي، الأعلام 2/32 قيل أنّه كان يتشوّق لزيارة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فلم يستطع إليه سبيلا. وعلى هذا، زعم النقشبنديّون أنّه تلقّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علومًا بظهر الغيب. فاتّخذوا من هذه المزعمة ذريعةً ليختلقوا بها ما اشتهته نفوسهم بوضع هذه الأسطورة المتمثّلة في كلمة "الأويسيّة«.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في هذا الصدد:(66/204)
»اعلم أنّ الإمام بهاء الدين الشاه نقشبند أخذ الذكر الخفيَّ عن روحانيّة الشيخ عبد الخالق الغجدوانيّ (...) ولم يجتمع معه في عالم الأجسام. لأنّ بين الإمام بهاء الدين والإمام عبد الخالق الغجدوانيّ (...) خمس وسائط من رجال السلسلة العليّة كما مرّ آنفًا. وكذلك الشيخ أبو الحسن الخرقانيّ المتقدّم ذكره أخذ الطريقة المرضية عن روحانيّةِ الإمام أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطاميّ (...)؛ وذلك في ظهوره له في عالم السير إلى الله تعالى. فانّ الروحانيّات تجتمع في ذلك كاجتماعهم في المنام، وبعد الممات. وهو عالَمُ اللاّهوت الخارج من عالم الأجسام والأرواح. الخلقُ كلّهم - الأحياء والأموات - في ذلك العالم. منهم مَنْ يدبّر الله له جسمًا في عالَمِ الأجسام وهم الأحياء؛ ومنهم من لا يدبّر الله له شيئًا من الأجسام، وهم الأموات. ومن لم يُنفَخ فيه الروح مما لم يُسَوَّ جسمُهُ. ولمّا كان هذا الأحذ من الروحانيّات، نبّهنا عليه. لأنّ أبا الحسن الخرقانيّ لم يجتمع بجسمانية أبي يزيد البسطاميّ (...). لأنّ بينه وبينه زمنًا بعيدًا. فانّ أبا يزيد توفّي سنة إحدى وستّين ومائتين. وقيل أربع وستّين ومائتين. وأبوالحسن ولد بعده بكثير. وأبو يزيد (...) أيضًا لَبِسَ خرقة الطريق ظاهرًا وباطنًا من روحانية الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه كما تقدّم في الشيخ أبي الحسن. وما اشتهر بين بعض أهل الطريق من خدمةِ الشيخِ أبي يزيدٍ (...) للإمام جعفرَ عليه السلام وصحبتِهِ له، غير صحيح. لأنّ وفاة الإمامِ جعفرِ الصادقِ رضي الله عنه، قبل ولادة الشيخ أبي يزيد (...) وكلّ مَنْ أخذ من الروحانيّات، يسمّى أويسيًّا في اصطلاح ساداتنا النقشبنديّة.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 9؛ كذلك راجع الصفحة 128 من نفس المصدر.(66/205)
من أنعم النظر في هذه العبارات، وفي ضوء الإيمان والعلم بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حار لجرأة شيوخ هذه الزمرة على الله تعالى، كيف يَتَقَوَّلُونَ على الدين بهذا القدر من التحرّر من ضوابط الكتاب والسنّة وهما بين أيدينا. ليت شعري إنْ كانوا صادقين مع أنفسهم في القول بهذه المعتقدات الغريبة؛ وهل يتمتّع أحدهم بالفطرة السليمة أو يملك عقلَهُ ووعيَهُ في تلك اللحظة الّتي يتفوّه بمثل هذه الكلمات؟ أليس من العجيب أنهم لا يدّخرون وسعًا في إشعار الناس بتمسّكهم بكتاب الله وسنّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتفكّرون لحظةً عما إذا صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى الأحياءَ بأن يتلقّوا علومهم من الأموات؟ ومن ذا الّذي يعلم شيئًا من أحوالهم سوى الله؟
قال الله تبارك وتعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فيِ الْقُبوُرِ.}. سورة الفاطر/22. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثةٍ: إلاّ من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفَعُ بِهِ, أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.« مسلم ـ الوصية. فإذا كان عمل الإنسان ينقطع بموته تمامًا إلاّ من هذه الأشياء الثلاثة الّتي ليستْ من نتيجة فعله المباشر، وإنّما هي بالواسطةِ؛ فكيف به أنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ بعد موته كما في حياتِهِ(
ولكنّ النقشبنديّين لم يتوقّفوا عند هذه الحدود، بل لا حدود لتصوّراتهم وخيالاتهم، كما سوف تتبلور أمام عيوننا أكثر وضوحًا عَبْرَ متابعتنا لدراسة بقيّةِ معتقداتهم حول مفهوم الكرامةِ والتوسّلِ والتبرّك بالقبور والاستمداد من الموتى. لمزيد من المعرفة حول هذا الاعتقاد راجع المصادر الآتية:
* خالد البغداديّ، رسالة في تحقيق الرابطة (آخر رسالة من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") ص/ 3، 6، 11. مكتبة إيشك طباعات متكررة. إسطنبول.(66/206)
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 10. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") TDV. ?SAM. 297.7 NIM.Z 46644
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة. ص/ 14، 23.
* حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بأهل المقابر. (الكتاب بعموم مضمونه)
***
مفهوم الكرامة في معتقد النقشبنديّين.
إن قسطًا كبيراً من نشاطات الطريقة النقشبنديّة يتمثّل في اختلاقِ حكاياتٍ بهلوانيةٍ وأساطيرَ عجيبةٍ دوّنوها بعنوان الكرامات ضمنَ مناقب أوليائهم. وهي مشحونةٌ في بطون كُتُبِهِمْ، لم يطّلع عليها كثير من علماء المسلمين الّذين لم يعاصروهم أو لم يجاوروهم. أمّا المتأخّرون من أهل العلم، فانّ كثيرًا منهم أيضًا لا علمَ لهم بهذا الجانب من الطريقة النقشبنديّة. ذلك لأنّهم لم يعبؤا بهذه الطائفة ولم يخالطوا شيوخها أَنَفَةً واستنكافًا. فَخَلاَ الجوُّ بذلك لأصحاب الأقلام من هذه النحلة وسنحتْ لهم الفرصةُ حتّى نسجوا ما طاب لهم من أفانين القصص الأسطورية، وحشدوا ما استطاعوا منها في طيّات كتبهم على سبيل التنويه بعظمة أسلافهم ومكانتهم عند الله. وقد تأثّر بهذه الكتب كثير من المتعلمين والملالي وجماهير من العوام الّذين وجدوا في حكايات الشيوخ ما تنبهر بها عقولهم البسيطة الساذجة. ولربما سرى ذلك التأثير إلى عدد من متأخري الفقهاء فأظهروا حسنَ ظنِّهم بهذه الطريقة مثل ابن حجر الهيتميّ، وعلي القاري، وغيرهما، لما خفي عليهم من أمورٍ يكتمها كبار زعماء النقشبنديّة ولا يُبْدوُنَها حتّى لمن يليهم من شيوخ الطائفة الّذين هم من الدرجة الثانية؛ خاصّة التطوّرات والتغيّرات الّتي حدثت في عقائدها وآدابها عَبْرَ المرحلة الأخيرة على يد خالد البغداديّ وبطانته، لم يعلمها السابقون. ثم اتّخذ شيوخُ النقشبنديّة أقوالَ بعض أولئك السابقين حجّةً في الدفاع عن طريقتهم؛ ومنهم محمّد بن عبد الله(66/207)
الخانيّ، فقد نقل عبارةً من فتاوي ابن حجر الهيتميّ في الصفحة الثامنة من كتابه البهجة السنيّة جاء فيها: »الطريقة العلية السالمة من كدورات جهلة الصوفيّة، وهي الطريقة النقشبنديّة.«
من كتبهم الّتي حشدوا بين طيّاتها أنواعَ الأساطير باسم الكرامات: »الحدائق الوردية في حقائق الأجلاّء النقشبنديّة«، لعبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ وكتاب »المواهب السرمدية في مناقب السادات النقشبنديّة«، لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ؛ و»جامع كرامات الأولياء«ِ، ليوسف بن إسماعيل النبهانيّ؛ و»الأنوار القدسية في مناقب النقشبنديّة« لمؤلّفه ياسين بن إبراهيم السنهوتي وغيرها. فقد نسجوا على صفحات هذه الكتب ما يُثير غيرةَ كلِّ مؤْمنٍ بالله واليوم الآخر، ولا يُستَبْعَدُ أن يتّخذ نفسَ الموقف منها مَنْ يحترم العقل من غير المسلمين أيضًا.
أمّا الكرامة في حقيقتها، فهي كلّ مِنْحَةٍ يُكرِمُ اللهُ بها عبدَهُ المؤمن التقيَّ ليكافئه بها على سعيه المقبول؛ أو ليجعلها وسيلة الهداية لبعض عباده وعبرةً لأولي الألباب. غير أنّ الكرامة، يستحيل أنْ تكون مخلّةً بسنّة الله، كما لم تكن معجزات الأنبياءِ مخلّةً ومبطلةً لها. لأنّ نواميس الكون والحياة كلَّها جارية على نسق واطّراد وضعها الله سبحانه على شكل مترابط ومتكامل لايتم نظامها وبقاوها إلاّ بهذا الترابط والتكامل؛ بحيث إذا بطل قانون واحد من تلك القوانين اختلّ نظامُ العالمين وسَادَ الفوضى على الكائنات بأسرها وقامت الساعة. كما أنّ المعجزةَ والكرامةَ من تقديره تعالى، وبتدبيرٍ منه تتحقّقان، وبقدرته وهيمنته تتأثران على نفوس مَنْ كُتِبَتْ له الهداية إلى الصراط المستقيم؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديِلاً.}. سورة الأحزاب/62؛ سورة الفتح/23(66/208)
إنّ الكرامة مع ندرة وقوعها في صورة حدثٍ خارقٍ للعادةِ قد يستعرضها الوليُّ ليتحدّى بها المنكرين والملحدين على أنّه صادقٌ في دعوته إلى شريعة النبيِّ الّذي يتبعه ما عسى أن يهتدوا للإيمان بالله واليوم الآخر وما جاء به النبيُّ من عند الله. وهذا يبرهن على أنّ الكرامة لا ينبغي إظهارُها للمؤمنين؛ كما لا مساغ للاحتجاج بها في وجههم؛ لأنّهم مؤمنون بجميع ما يؤمن به صاحبُ الكرامة؛ ولأنّ القصدَ لتحصيل الحاصل لغو.
إنّ الكرامة في اعتقاد النقشبنديّين ليست هي مِنْحَةُ الله الّتي يُكرِمُ بها عبدَهُ المؤمنَ التقيَّ ليكافئه على سعيه المقبول، أو ليجعلها وسيلة الهداية لبعض عباده الضالين. بل هي عندهم أنماطٌ من الخوارق وألوانٌ من قبيل السحر؛ يدّعون أنّ شيوخ الطريقة يُظهرونها، فيتميّزون بها عن سائر الناسِ على أنّهم من أولياء الله، ومن خاصّة عبادهِ المصطفين. كما يعتقدون أنّ شيوخهم يتصرّفون بها في ملك الله، تؤيّدهم على دعواهم تلك الأعمال الخارقة الّتي تصدر عنهم. كالمشي على الماءِ، والطيران في الهواءِ، وقطع المسافات الشاسعةِ في لمح البصرِ، وتحقيق النصر للجيوش وغيرها مما لا يمكن حصره.
ولكنّ هذه الأقاويل، لم تتعدّ حدودَ الزعم المحض، ولم يتحوّل شئٌ منها إلى واقعٍ مشاهد حتّى الآن. وذلك حجّةٌ دامغة على كلّ من تورّط فاستسلم لهذا الاعتقاد الباطل؛ سواء أكانت الحجة تتّسم بقيمةٍ في اعتبارهم أم لا. فليس وراء بيان الله ورسوله بيان، ولا قرية بعد عبادان.
لقد دعتْ المناسبةُ هنا أن ننقل من كُتُبِ النقشبنديّين أمثلةً مما كتبوه بعنوان الكرامات وأسندوها إلى شيوخهم؛ ننقلها ليتأكّدَ القارئُ من مدى خيالاتهم وتصوّراتهم، وموقفهم المستخفّ من العقل والحقائق العلمية، واستهزائهم بسنّة الله الّتي خلق الحياة والممات والكون والفساد على أساسها.(66/209)
يقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ - وهو أديب النقشبنديّين وداهيتهم - إذ يترنّم بمدائحه المسجّعةِ لإمام طريقتهم محمّد بهاء الدين المعروف بينهم بـ" شاه نقشبند". يقول »لم يدع نَفْسًا إلاّ بأنفاسه القُدسية زكّاها، ولا نارَ هِمّةٍ إلاّ بأسراره المحمّديةِ أذكاها، ولا ظلمةَ جهلٍ إلاّ بأنواره البهائيّةِ أخفاها، ولا شبهةَ خاطرٍ إلاّ ببراهينه الجليّةِ نفاها، إلى كراماتٍ كريماتٍ وآياتٍ عظيماتٍ طالما أحيتْ من القلوب مواتَها وآتتْ الأرواحَ أقواتَها، ارتضع ثديَ التصرّفاتِ الغوثيةِ وهو في المهد صبيًّا، وتضلّع من رحيقِ مختومِ العلومِ الْختمية بأكواب الإرثية، فلولم تُخْتَمِ النبُوَّةُ لكان نبيًّأ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 125.
هكذا يقول الخانيّ في معرض ترجمته لمؤسّس طريقتهم، وهكذا يعتقد في هذا الشخص الّذي ربما ليس لوجوده أثر من الحقيقة؛ أو قد يكون درويشًا بسيطًا لم يلتفت إليه أحد في حياته أصلا؛ ثم حظي من الشهرة مع الزمان بعد أن اتخذه بعض المتحذلقين رمزًا لِبَثِّ معتقداته بين السفلة والرعاع، فنُسِجَتْ حوله سجلاّتٌ من الأساطير حتّى عظّمَتْهُ آلاف من الناس بالتقليد الصرف، لم يكن عبد المجيد الخانيّ آخرهم.
يواصل الخانيّ في سرد مناقبه فيقول:(66/210)
»وحكى سيّدنا علاء الدين، أنّ الشيخ تاج الدين أحد أصحاب الحضرة البهائية، كان إذا أرسله الشيخ إلى حاجة من قصر العرفان قصر العرفان، اسم للقرية الّتي ولد فيها محمّد بهاء الدين البُخَاريّ على ما يزعمه النقشبنديّون؛ وهي على مقربة من مدينة بُخَارَى، لاتتعدى المسافة بينهما عن حمس كيلومترات؛ وليس قصرًا بمعنى البناية الفخمة كما ظنّه عبد الرحمن دمشقية. فقد أخطأ فيما سجّله في الصفحة 34. زيل رقم/1 من دراسته "النقشبنديّة". دار طيبة، الرياض-1984م. إلى بُخَارَى، يعود ببرهةٍ قليلة. وذلك أنّه كان إذا غاب عن أعين المريدين يطير في الهواءِ. قال وأرسلني يومًا في أمرٍ إلى بُخَارَى، فذهبتُ على هذه الكيفية فوجدتُ الشيخ في طريقي. فرآني على هذه الحالة، فسلبها منّي؛ فلم أقدر بعد ذلك أن أفعلها أبدًا« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 139.
يستطرد الخانيّ في صدد كرامات هذا الشيخ قائلاً:
»ثم إنّ الشيخ سافر إلى خوارزم، وفي خدمته الشيخ شادي. فلمّا بلغا نهر حرام، أمره أن يمشي على الماءِ؛ فخاف الشيخ شادي. فأمره غير مرّةٍ، فلم يفعل. فنظر إليه نظرةً عظيمةً، غاب بها عن نفسه بُرْهَةً. فلمّا أفاق وضع قدمه على وجه الماءِ ومشي والشيخ خلفه. فلمّا جاوزاه، قال انظر هل ابتلّ شئٌ من خفّك أو لا؟ فنظر، فلم يجد فيه بللاً أصلا بقدرة الله تعالى.« المصدر السابق/140.
وينقل الخانيّ عن أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المشهور بين النقشبنديّين بـ"الإمام الربّانيّ" أنّه قال »أطلعني الله على أسماءِ مَنْ يدخلون في سلسلتنا من الرجال والنساءِ إلى يوم القيامة؛ وأنّ نسبتي هذه تبقى بوساطة أولادي إلى يوم القيامة حتّى أنّ الإمامَ المهديَّ سيكون على هذه النسبة الشريفة.« المصدر السابق/182.(66/211)
وقال أيضًا »أطلعني الله على قبور الأنبياءِ المبعوثين إلى أرض الهند بحيث أرى أنوارًا ساطعةً من قبورهم.« المصدر السابق/182.
ويُسجّل الخانيّ أنّ هذا الشيخ »نظر مرةً إلى السماءِ وهي تمطر، فقال لها أقلعيِ إلى وقت كذا، فحبس المطر إلى ذلك الوقت.« المصدر السابق/182
وينقل المؤلّف أيضًا عن الابن الأكبر للسرهندي، محمّد سعيد أنّه قال، »كثيرًا ما كان يخبرني الشيخ بالأمر، خيرًا كان أو شرًّا قبل وقوعه، فيقع كما يقول، بلا تفاوت أصلا.« المصدر السابق/182. لمزيد من الإطلاع على أقوالهم حول مفهوم الكرامة، راجع المصادر التالية:
* أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 173. الطبعة الثانية. القاهرة ـ 1959م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 166. ط. 1276 هـ.
* داوود بن سليمالن البغداديّ، المنحة الوهبية في رد الوهابية ص/ 32. الطبعة الثالثة، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1994م.
* يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياءِ (الكتاب بتمامه).
* مصطفى أبو سيف الحمامي، غوث العباد ببيان الرشاد ص/ 289-296. بشاور-1385 هـ. (مطبوع مع كتاب البصائر لمؤلفه حمد الله الداجوي، ضمن مجلد واحد.)
* خالد البغداديّ، الرسالة الخالدية ص/ 75. (ترجمة: شريف أحمد بن علي؛ النسخة المتداولة بين أتباع محمود أسطى عثمان أوغلوفي إسطنبول.
إنّ هذا الشيخ الّذي كان مطّلعًا على السرائر، وعالمًا بمغيبات الأمور، والّذي »كان يخبر ابنه بالأمر خيرًا كان أو شرًّا قبل وقوعه فيقع«، كما ينقل الخانيّ؛ ليت شعري لماذا لم يهتم بمستقبل المسلمين، ولم يُخبرهم بما سوف يلاقون على أيدي الظلمةِ من الاضطهاد والإرهاب والقمع والإبادة؟! فهلاّ أخبر أمّة الإسلام بالحروب الّتي اندلعت بعده، حتّى يأخذوا حذرهم ولا يذهبوا ضحية ما دارت عليهم رحاها وأُزهقت الملايين من الأرواح البريئة!(66/212)
إنّهم بحكم طبيعتهم لن يسكتوا عن هذه المحاجّةِ، ولربما تراهم يلجؤن إلى الكتاب والسنّة في الحين الّذي يضربونهما بعرض الحائط، وهم يردّون في محاولة المتَّهَم البريء: أنّ الغيبَ لله. ويتناسون بذلك جميعَ ما قاله إمامهم السرهنديّ وغيره من شيوخهم من دعوى علم الغيب!
***
حقيقة مفهوم الغيب.
أما الغيب، فانّه مفهوم هامّ ومعقّد، ومشكلة عظيمة أشغلتْ عقولَ البشر منذ القديم. لقد دار الجدال حول الغيبيّات بمختلف أساليبه بين العلماء والفلاسفة والكلاميين والمتصوّفة، فأعيت فيها مذاهبهم.
الغيب في اللّغة هو عكس الشهادة؛ وهو الأمر الخفيّ وليس العدم. فانّ العدم مفهوم فلسفيّ أخر.
ويختلف الغيب إلى قسمين رئيسيّين باختلاف ماهيته. الأوّل منهما، الغيب الممتنع أو المطلق. وهو ما يستحيل إدراكه على العقل البشرىِّ تمامًا، وإن سُمّيَ، أو أُخْبِرَ عن قرائنه. كالروح، وأحوال ما بعد الموت، وأشراط الساعة وقيامها، وحياة الآخرة؛ بالإضافة إلى كلّ ما هو مستغرق في علم الله وحده على انفراد. وتسمّى هذه الأمور بـ "حقائق ما وراء الطبيعة = Metaphysic". تلك الّتي لا سبيل إلى الإيمان بها إلاّ عن طريق ما أنزل الله على رسله من الوحي. ولا يُدرك الإنسان شيئًا من حقيقة هذه المسمّيات الغيبية في هذه الحياة الدنيا إلاّ ما شاء الله أنْ يُظْهِرَ عليها طائفةً من عباده. وهو{عاَلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضىَ مِنْ رَسوُلٍ.} سورة الجن/26. وهم المكلّفون من الملائكة والبشر خاصّة دون غيرهم من بقية الإنس والملائكة وعموم الجنِّ.(66/213)
أمّا النوع الثاني من الأمور الغيبية، فهو الّذي يجوز إدراكه ببداهة العقل البشريِّ، ولكن بوسائلها الخاصّةِ الّتي لها ضوابطها. إلاّ ما تُكِنُّهُ الصدور {وَاللهُ عَليِمٌ بِذَاتِ الصدوُرِ.}؛ سورة التغابن/4.؛ سورة الملك/13. وكذلك ما هو آتٍ؛ فانّ علمه عند الله {وَيَقوُلوُنَ مَتىَ هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ.} سورة النمل/71.؛ سورة سبأ/29.؛ سورة ياسين/48.؛ سورة الملك/25. {وَيَقوُلوُنَ مَتىَ هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ.} سورة السجدة/28. {وَلاَ تَقوُلَنَّ لِشَيْءٍْ إِنّيِ فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ...} سورة الكهف/23، 24. {وَمَا تَدْرىِ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْريِ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَموُتُ إِنَّ اللهَ عَليِمٌ خَبيِرٌ.} سورة لقمان/34. ويمكن أنْ نسمّي بقية الغيبيّات في هذا الكون المادّيِّ بـ "الحقائق الطبيعية المجهولة" إذ هي خاضعة لنواميس الكون وما يتبعها من قوانين المنطق والعلوم التجربية، دون أية علاقة للكَهَانَةِ بها. وإنّما يتمكّن الإنسان من إدراكِ شئٍ على حقيقته إذا ملك الوسيلة الّتي تُقَرِّبُ ذلك الشيءَ إلى ذهنه؛ فيتحوّلُ من مجهولٍ إلى معلوم. ولكن ليست كلّ هذه الوسائل ميسورةً، مع أنّها ممكنةٌ. بل كثير منها صعب المنال، وبعضها داخل في المجهولات أيضًا. فيتعقّد الأمر هنا، وتشتدُّ الأزمة على بعض الناس عندما تتعرّضُ أموالُهم للسرقةِ وأمثالها وهم يجهلون الفاعل، فيلجؤن إلى السحرة والمشعوذين وشيوخ الطرق الصوفيّة للكشف عن ضالّتهم. فيكلّفهم ذلك مالاً ووقتًا، ويُرهِقُهم. وأحيانًا يضيق الأمر ذرعًا برجال الأمن في إثبات الجرائم والجنايات، فلا تكاد تُسْعِفُهم تلك الأجهزة الفنّية الّتي يستخدمونها للكشف عن أسرار المجرمين؛ فيندفع بعضهم بضغوطِ غرائزهِ الوحشيةِ إلى استعمال العنف والتعذيب لانتشال الاعترافات من المتّهمين بطرقٍ قسريّةٍ.(66/214)
كلّ ذلك ناشئٌ عن جهلهم بأساليب الوصول إلى المجهول الّذي يطاردونه. وقد يكون بسبب عجزهم عن العلم بشيءٍ ممكن في حد ذاته، مستعصٍ عليهم. وكلّما دام العجز عن اكتشاف الوسائل، امتنع العلم بالمجهول. وهذه القضايا مرتبطة أصلاً بقانون السببية؛ وهو في تسلسل دائم ومعقَّدٍ. لأنّ كلّ شئٍ في هذا الكون قائم بشيءٍ آخر، محتاج إليه. فالمحتاج إليه هو السبب؛ - وقد يسمّى علةً في اصطلاح الكلاميين - وأمّا المحتاج فهو المعلول.
وعلى هذا النسق والنظام تجري الأحداث وتتفاعل الأشياء بين تناقضٍ، وتناسبٍ، وتوالدٍ، وتكاثرٍ، وتناقصٍ؛ إلى غير ذلك من التقلّبِ والتغيُّر والتجدُّد والتقادُم والتطوُّر. وهي آيات في آياتٍ دالّةٍ على قدرة الخالق البارئ العظيم، وعجائب تجلّياته، وحسن إبداعه {صُنْعَ اللهِ الّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَئٍْ إِنَّهُ خَبيِرٌ بِمَا تَفْعَلوُنَ.} سورة النمل/88.
ولكنّ النقشبنديّين نراهم غير مقتنعين، لا بِسنُّةِ اللهِ الّتي أقامها سبحانه على أساس الْعِلِّيَّةِ، ولا بالنصوص القرآنية الّتي تُنْبِؤُنا بقانون السببية راجع الآيات الآتية:
* سورة يوسف/68
* سورة الكهف/65، 84، 85، 89، 92.
* سورة الأنبياء 8.(66/215)
* سورة العلق/5. في الحين الّذي تؤكّد على أن الغيب لله وحده. فانّ الأساطير الّتي حشدوها في طيّات كتبهم على سبيل الكرامة لشيوخهم ونسبةِ عِلْمِ الغيب إليهم، شاهدة على موقفهم المتناقض مع ما جاء في كتاب الله من انفراده تعالى وحده بعلم الغيب كقوله سبحانه {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلىَ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبيِ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاء.} سورة أل عمران/179. وقوله تعالى {قُلْ لاَ أَقوُلُ لَكَمْ عِنْديِ خَزَائِنُ اللهِ، وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلاَ أَقوُلُ لَكُمْ إِنّيِ مَلَكٌ؛ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوُحىَ إِلَيَّ.} سورة الأنعام/50. وقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ...} سورة الأنعام/59. وقوله تعالى{قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسيِ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شاء الله، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنيِ السوُءُ، إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذيِرٌ وَبَشيِرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنوَنَ.} سورة الأعراف/188. وقوله تعالى {وَيَقوُلوُنَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ، فَقُلْ إِنَّماَ الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِروُا إِنّيِ مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِريِنَ.} سورة يونس/20. وقوله تعالى{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فيِ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللهُ، وَمَا يَشْعُروُنَ أَيَّانَ يُبْعَثوُنَ.} سورة النمل/65.
لابد وأنّ عددًا من أهل العلم والبحث يتساءلون في أنفسهم عن الحكمة المكنونة في الغيب؛ أي ما هو القصد الحقيقيُّ من وجود عَقَبَةِ الغيب أمام الإنسان تمنعه من العلم بواقعِ كثيرٍ من الأشياءِ والأحداث لا يكاد يتجاوزها، وهو في تساؤلٍ وقلقٍ وجهلٍ وحيرةٍ على كرّ العصور إلى هذا اليوم الّذي يتمتّع فيه باستخدام آلاتٍ وأجهزةٍ رهيبة السرعة في الاتصال والمواصلات؛ ولا يكاد يتمكّن من أن يزعزع هذه العقبة من مكانها بعدُ.(66/216)
لقد فات هؤلاءِ أن يلاحظوا برهةً قليلةً: لو كُشِفَ لهم ما سيلاقونه في مستقبلهم من جميع الأحداث، حلوِها ومرِّها على هيئة شريطٍ سينمائيٍّ. فما عسى كان أمرهم وهم يشاهدون فيها أنفسهم تتقلّب من نعيمٍ إلى عذابٍ وبالعكس! وما رأيُكَ فيما لو كان قد رُفِعَ الحجابُ عنكَ وأنت مراهق، فشاهدتَ يومئذٍ مسبقًا جميع ما سوف يمرّ بك في حياتِكَ من الوقائع حتّى آخر لحظةٍ أنتَ فيها؟!
هل تريد أن تختبر نفسك كما لو اطّلعتَ إلى مُستقبلك بتمامه، فعلمتَ بالتأكيد مثلاً أنّك بعد عشرين سنةً سوف تحتلّ منصبَ رئيس الدولة ثم لم تلبث تتعرض لمؤامرة اغتيالٍ فتذهب ضحيتها بعد أن تقضي أعوامًا في المعتقل، وأيّامًا تحت التعذيب؛ هل تتمكّن بعد العلم بهذا المستقبل الغريب الّذي ينتظرك، أن تملك شعورَك فتستمرّ في مسيرة حياتك بصورة عاديةٍ؟ فما بالك بالناس لو علم كلهم جميعًا بما سوف يلقونه من نعيم وعذاب، ومكاسب وخسارات، وسعادة وشقاءِ! ألا يقتضي ذلك أن يعيش كل فرد من بني البشر بعد العلم بمستقبله في ارتباك وخوف وذعر وفزع؟.. وهل يشهد بعد ذلك عالم البشر إلا الفوضى والجنون والخراب والدمار؟!
إنّ هذه الفرضيّات تقودنا إلى فهم شئٍ من الحكمة المكنونة من حقيقة الغيب. وذلك برهان عظيم على أنّ الغيب لله وحده دون غيره؛ كما هي حجّة دامغة على كلّ من اعتقد علم الغيب في أولياء الصوفيّةِ.
***
مفهوم التوَسُّلِ في معتَقَدِ النقشبنديّين وما ركّبوا عليه من أُمور.
التوسّل لغةً: هو أن يتمسّك الإنسان بشيءٍ يبتغي به الوصول إلى غايتهِ؛ فيكون ذلك الشيءُ هو الّذي يسمّى الوسيلة.
وفي اصطلاح علماء التوحيد والتفسير: هي القربةُ إلى الله. وهو الإيمان الصادق والعمل الصالح. هذا هو المراد من لفظ الوسيلة، كما أثبتنا ذلك بأدلّةٍ واضحةٍ في بابه. راجع الهوامش من رقم/ 104 إلى 115. من خلال تفسيرات منقولة لعدد من مشاهير العلماءِ.(66/217)
يمكن إضافة أضعاف هذه النماذج الّتي تبرهن على اتفاق العلماءِ على تفسير مفهوم الوسيلة والتوسّل في الآيتين المذكورتين كما تبرهن على حصر معنى الوسيلة في القربة والزلفىَ، وأنّ التوسّل منحصر في التقرّب إلى الله بالإيمان الصادق والعمل الصالح فحسب.
غير أنّ النقشبنديّين لا يقتنعون بهذه البراهين؛ لاستخفافهم بعلماءِ الإسلام وعلومهم. وتشهد على ذلك هفواتهم في احتقار العلماءِ؛ كقول محمّد بن سليمان البغداديّ:
»وهؤلاءِ العلماء الّذين تَرْكُ مُخَاَلَطَةِ بعضهم موجبٌ للفتح على القلب في طريق الله تعالى، هم المتفقّهة الّذين قدّمنا ذكرهم قبل ذكر الفقهاءِ. وهم موجودون في كلّ زمان من عصر الإمام الشافعيِّ، بل من قبله إلى يوم القيامة. خذلهم الله تعالى وأذلّهم، إنْ لم يكن لهم نصيب في الْهداية والتوبةِ.« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية ص/ 96، 97. (أعيد طبعه من قِبَلِ مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992.
هكذا يصبُّ جام غضبه على "المتفقّهة". يقصد بهم الّذين لا يوافقونهم، ويستثني طائفةً أخرى يسمّيها "الفقهاء" وهم المتواطؤن معهم على تأويلاتهم الشاذّةِ، وتحريفهم للمفاهيم القرآنية. لعلّ سببَ هذه العداوةِ، هو أنّ النقشبنديّين يجدون في تمسّك العلماءِ بالفقه الإسلاميِّ وبنصوص الكتاب والسنّة، عقبةً كبيرةً أمام محاولاتهم في العبث بِقِيَمِ الدين الحنيف ومفاهيمه. إذ لا يتناولون آيات الله ليتّبعوا ما تشابه منها، إلاّ اصطدموا بهذه العقبةِ كما مرّ في تفسير العلماءِ لكلمة "الوسيلة".(66/218)
يبدو أنّهم سوف يصرّون في عنادهم كسائر أتباع الفرق الباطنية، على الرغم من أنّهم سيلاقون معارضةً شديدةً من علماءِ الإسلام دائمًا ما داموا يتشبّثون بكلّ ما قد وضعها أسلافهم من أشكالٍ غريبة للتّعبُّد. مثل "الرابطة"، و"الختم الخواجكانيّةِ"، وممارسة "الأركان الأحد عشر" وغيرها من أوراد مزخرفةٍ، وأدعيةٍ منفوخةٍ مستحدثةٍ، وأذكارٍ مبتدَعَةٍ؛ يدندنون بها على غرار "المانترا mantra" في الديانات الهندية. بل وقد يتشبّثون بوسائل أخرى على هذا الأسلوب العناديِّ الّذي أبعد الكثيرَ من الناسِ عن ساحةِ الإسلام، كما شرعوا لأنفسهم التوسّلَ بالأمواتِ وقبورِهم، والتبَرُّكَ بها، فزعموا أنّهم لم يقصدوا بكلّ ما ذُكِرَ إلاّ وجهَ اللهِ. مع أنّ طلبَ وجهِ الله لا يجوز إلاّ باتباع ما قد رسمه الله ورسوله من أشكال السعى والعمل، دون غيرها من صُوَرِ التعبُّد والتنسُّك والرهبانية الّتي ابتدعها اليهود والنصارى والمجوس.
هذا وجدير بالإشارةِ إلى أنّ عموم الضلالة - خاصّة في المسائل الإعتقاديّة - ينشأ من التأويل أكثر من التعطيل. وهما من أسباب التحريف. وأثر الجهل فيهما أكثر بأضعاف من أثر القصد والتعمُّد. وأنّ الجاهلَ تابعٌ للمتعمّدِ وبطانتهِ وعملائهِ بالتقليد الأعمى عادةً. وما أكثر أبناء الجهل في كلّ أرض! بذلك يستفحل الأمر. لأنّ الدجاجلةَ يصطادونهم بكلّ سهولةٍ. فيتفاقم الشرّ بسبب انسحاب جماهير البسطاء من ورائهم؛ فيزدادون بهم قوّةً وجُرأةً.
ومن العواقب الوخيمة لجهل الإنسان، وتبعيّته بالتقليد الأعمى فيما يتعلّق بموقفه من الله. إنّه يشعر بضعفٍ بالغٍ أمام مخلوقٍ عَظَّمَهُ الناسُ حتّى جعلوا منه إلهًا؛ فيراه ملاذًا يلجا إليه لِيُنَفِّسَ عنه كربَهُ؛ وليجيره من عدوّه؛ وليفرَّ إليه كلّما استوحش، ويطلب منه الفرج كلما ضاق به الأمر ذرعًا، ويشكو إليه كلّما اشتدّ حزنهُ وآلامُهُ، ليتسلّى به نفسُهُ التعيسة المسكينة.(66/219)
وإنّما فشتْ بين الناس فتنةُ هذا الاعتقاد الفاسد بسبب ذلك الضعف الناشئِ من الجهل بحقيقة ما أنزل الله على سيدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - من آياتٍ عديدةٍ في المشركين كقوله تعالى { قُل أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُم عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، أَغَيْرَ اللهِ تَدْعوُنَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ * بل إيَّاهُ تَدْعوُنَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعوُنَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكوُنَ.} سورة الأنعام/40، 41. وقوله تعالى {أَيُشْرِكوُنَ ماَ لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْْ يُخْلَقوُنَ * وَلاَ يَسْتَطيِعوُنَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُروُنَ.} سورة الأعراف/191، 192. وقوله تعالى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فيِ الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعوُنَ إِلاَّ إِيّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلىَ الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفوُرًا.} سورة الإسراء/67. وقوله تعالى { يَا أَيّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعوُا له: إِنَّ الّذينَ تَدْعوُنَ مِنْ دوُنِ اللهِ لَنْ يَخْلُقوُا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعوُا له؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذوُهُ مِنْهُ؛ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلوُبُ.} سورة الحج/73. وقوله تعالى {وَالّذينَ تَدْعوُنَ مِنْ دوُنِهِ مَا يَمْلِكوُنَ مِنْ قِطْميِرٍ * إِنْ تَدْعوُهُمْ لاَ يَسْمَعوُنَ دُعَائَكُمْ، وَلَوْ سَمِعوُا مَا اسْتَجَابوُا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُروُنَ بِشِرْكِكُمْ، وَلاَ يُنَبِّؤُكَ مِثْلُ خَبيِرٍ.} سورة الفاطر/14.(66/220)
يدافع النقشبنديّون عن أنفسهم بشدّةٍ عند ما تُتلى هذه الآيات على مسامعهم، فيثورون غضبًا واستنكارًا بأنّها نزلت في المشركين. نعم، ولكن ألا يعلمون أنّه لا يَدْعوُ أحدًا مِنْ دون الله إلاّ مشرك؟! أفلا يكونون قد شهدوا على أنفسهم بهذا الذنب العظيم؛ إذ يصدّقون من تعمّد الكذبَ على لسان النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فزعم أنّه قال »إذا تحيّرتم في الأمور، فاستعينوا بأهل القبور.«
وردت هذه الكلمات في كتابٍ ألّفه محمّد زاهد كوتكو، شيخ جماعةٍ من النقشبنديّين في إسطنبول. M. Zahid Kotku, Tasavvufi Ahlak 2/277.Seha Pub. Ist-1982. فما دامت هذه الطائفة تعتقد أنّ شيخ الطريقة وكيل عن الله، كما ورد ذلك في تفسير "روح الفرقان" لجماعةٍ أخرى منهم؛ روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/74. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. ما دام هذا اعتقادهم في شيوخهم، وأنَّ جميعَ شيوخهم أولياء الله وخاصّتُهُ - رجمًا بالغيب - إذن فلا مانع عندهم من أن يطلب المريدُ قضاءَ حاجتهِ، ومغفرةَ ذنوبِهِ من شيخه فضلاً عن أن يتوسّلَ به إلى الله في كلّ سؤاله.(66/221)
أمّا موقف بعضهم في الدفاع عن النقشبنديّة في هذا المعتقد كما نقل يوسف بن إسماعيل النبهانيّ راجع ترجمته في الأعلام، خير الدين زركلي 8/218. دار العلم للملايين طبعة 11. بيروت-1995م. عن شيخ آخر على شاكلته »أنّه يجوز التوسّل بأهل الخير والصلاح« يوسف بن إسماعيل النبهاني، شواهد الحق ص/ 142. (الرسالة الثانية من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") مكتبة إيشك طباعات متكررة. إسطنبول. فإنما هو محاولة يمهِّدُ بها السبيل ليقول في النهايةِ »ولا يظنّ عامّيٌّ من العوامِّ فضلاً عن الخواصّ، أنَّ نحو سيّدي أحمد البدوي يُحْدِثُ شيئًا في الكون، وإنّما يرون أنّ رتبتهم تقصر عن السؤال من الله تعالى فيتوسّلون بمن ذكر تبرُّكًا بهم كما لا يخفى.« المصدر السابق/142
هكذا يقولون. لأنّ كلاًّ من أحمد البدوي وأمثاله من الشيوخ مستجاب الدعوةِ عندهم؛ لايشكّ في ذلك أحد منهم؛ ولأنّ كلَّ مَنْ اشتهر بينهم بالولاية - مهما كانت طريقة هذا الاشتهار - حتّى ولو بوساطة المافيا، أو باستغلال رجال السياسة والتجارة - لابد وأنّ الله يستجيب دعوته في اعتقادهم.
أمّا إذا قيل لهم: - أنّ الفلان الّذي تعدّونه من أولياء الله، وتعظّمونه، وتتوسّلون بجاهه، فما دليلكم على صحّة اعتقادكم هذا فيه، وكيف تعلمون أنّ الله لا يردّ دعوته؟ فيكون ردّهم عنيفًا وبلهجة مَنْ رَكِبَ رأسه؛ كقول الخليليِّ:
»ولا يُنكر ذلك إلاّ من ابتلى بالحرمان، أو سوء العقيدة نعوذ بالله!« المصدر السابق 142.
هذا هو المنطق الصوفيّ والمنهج النقشبنديّ عند كلّ موقفٍ. ومن هذا المُنْطَلَقِ فقد خاضَ أديبهم يوسف بن إسماعيل النبهانيّ مثار الدفاع عن التوسّل الفاسد والاستغاثة والتبرّك بالمخلوق حيًّا وميّتًا، وذلك بكتابَيْهِ: شواهد الحق، وجامع كرامات الأولياء. فحشد فيهما ما زيّنت له نفسه من الغثّ والسمين حتّى اشتهر بالشعوذة والتنطّع وإثارة الخرافات.
***(66/222)
الفصل الرابع
حقيقة ما تُسمّيهِ النقشبنديّة »سلسلة خواجكان«، وأسماءُ الّذين هم بمنزلة حلقاتها المقدّسة في اعتقاد هذه الطائفة.
* مزعمة "سلسلة السادات".
* الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة".
* شخصياتهم، ومستوياتهم العلمية والاجتماعية، وترجمة أحوالهم بالتفصيل.
ـــــــــــــــــــــــــ
1.أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه..................................................................................................................
2.سلمان الفارسي رضي الله عنه..................................................................................................................
3.قاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم.....................................................................
4.جعفر الصادق بن محمّد الباقر رضي الله عنهما...............................................................................
5.أبو يزيد البسطاميّ..........................................................................................................................................
6.أبو الحسن الخرقانيّ....................................................................................................................................
7.أبو علي الفارمديّ...........................................................................................................................................
8.أبو يعقوب يوسف الهمدانيّ.........................................................................................................................(66/223)
9.عبد الخالق الغجدوانيّ....................................................................................................................................
10.عارف الريوكريّ.........................................................................................................................................
11.محمود الإنجيرفغنويّ.....................................................................................................................................
12.علي الرامتنيّ............................................................................................................................................
13.محمّد بابا السماسيّ.....................................................................................................................................
14.أمير كلال بن حمزة.......................................................................................................................................
15. محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف بـ "شاه نقشبند".............................................................
16. محمّد علاء الدين العطّار.........................................................................................................................
17. يعقوب الجرخيّ...........................................................................................................................................
18. ناصر الدين عبيد الله الأحرار...............................................................................................................(66/224)
19. محمّد زاهد البدخشيّ...............................................................................................................................
20. درويش محمّد السمرقنديّ......................................................................................................................
21. محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ..................................................................................................................
22. محمّد باقي بالله الكابُليّ.............................................................................................................................
23. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بـ "الإمام الربّانيّ"........................................................
24. محمّد معصوم الفاروقيّ.............................................................................................................................
25. محمّد سيف الدين الفاروقيّ...................................................................................................................
26. نور محمّد البدوانيّ.....................................................................................................................................
27. شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان..........................................................................
28. غلام علي عبد الله الدهلويّ.................................................................................................................
29. خالد البغداديّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "ذي الجناحين"............................................(66/225)
خالد البغداديّ ومعارضوه.........................................................................................................................
خلفاء البغداديّ وأسلوب تعامله معهم...............................................................................................
الفصل الرابع
حقيقة ما تسمّيه النقشبنديّة "سلسلة خواجكان" وأسماء رجالها
مزعمة "سلسلة السادات"؛
الروحانيّون في هذه الطريقة؛ أسماؤهم، وشخصيّاتهم، ومستوياتهم العلمية والإجتماعية.
ـــــــــــــــــ
حقيقة ما تسمّيه النقشبنديّة "سلسلة خواجكان"، أو"السلسلة الذهبية"
يزعم النقشبنديّون أنّ جميعَ معتقداتِهم وأساليبَ تعبّدِهم مأثورةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه والسلف الصالح عليهم الرضوان. كما يدّعي ذلك محمّد أمين الكرديّ الأربليّ - أحدُ رؤوسِ هذهِ الطائفةِ - فيقول »إنّ طريقة السادة النقشبنديّة هو معتقد أهل السنّة والجماعة. وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم على أصلها، لم يزيدوا فيها، ولم ينقصوا منها.« تجد نفس العبارة في المصادر التالية:
* خالد البغدادي، رسالة في تحقيق الرابطة، ص/13 (راجع: عباس العزّاوي، مولانا خالد النقشبندي، مجلّة المجمع العلمي الكرديّ، ص/708)
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، المواهب السرمدية ص/ 3.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/3 .
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ .3 .(66/226)
هكذا يقولون ليتذرّعوا بهذا الإدّعاء أنّ شيوخهم إنّما تلقّوا هذه الأصناف الدخيلة من المعتقدات والأشكال الغريبة من الطقوس والعبادات؛ إنّما تلقوها بعضًا عن بعض، وطبقةً عن طبقةٍ، متسلسلاً بالتصاعد إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام (على زعمهم) هو الّذي لقّن الطريقة أبا بكر رضي الله عنه لأوّل مرّةٍ! ثمّ تسلسلت منه بالتدريج - كما سننقل من مصادرهم - حتّى وصلت إلى شيخهم الّذي يلازمونه في الوقت الحاضر.
إنّ هذه الدعوى الّتي لا حقيقة لها في ميزان العلم ولا في ميزان الإسلام، يعتقدها كلُّ موُلِعٍ بتعاليم هذه الطريقة اعتقادًا أكيدًا. وكثير منهم يحفظون أسماء كبرائهم بالتسلسل المذكور في مصادر هذه الطائفة، ويسمّونها بـ "سلسلة السادات"؛ وكذلك بـ "السلسلة الذهبية".
***
مزعمة "سلسلة السادات"
يقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، »سمعتُ أسماء سادات سلسلة الطريقة الجليلة؛ جعلتُ أتشوّقُ للوقوف على تراجم أحوالهم المقدّسة مدّةً غيرَ قليلةٍ. وإذ لم أرها مجتمعةً باللّغة العربيةِ في كتاب واحد. لأنّ أكثرهم من بلاد الفرس والهند وتلك المعاهد. عزمْتُ وأنا للعزم بِأَلِفٍ، سنة ثلاث وثلاثمائة وألفٍ. على أن أجمعَ أحوالَ مَنْ ترجموه؛ وأخدمَ بالترجمة مَنْ لم يخدموه، بادئًا بالمبدأ الفياض، وخاتمًا بسيّدي الوالد.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 2.
إنّ من يُلقيِ نظرةً على هذه العبارات، لا يخفى عليه ما قد اعترف صاحبُها، وما أقرّ وشهد على نفسه بالذات وبلسانه وقلمه، حتّى قال أنّه سمع »أسماء ساداته ولم يرها مجتمعةً باللّغة العربية في كتابٍ واحد، لأنّ أكثرهم من بلاد الفرس والهند«. علمًا بأنّ هذا الرجل من أكبر شيوخ النقشبنديّة في أيّامه الّتي عاشها ما بين 1847-1900م. من الميلاد. وهذا مع أنّه من أسرةٍ نقشبنديةٍ شهيرةٍ في بلاد الشام.(66/227)
ألا يبرهنُ هذا الاعترافُ الرهيبُ من رجلٍ بارزٍ بين أساطين هذه النحلة، على »أنّ هذه الأسماء مازالت غريبةً عليه - وعلى النقشبنديّين بأسرهم فضلا عن جمهور المسلمين-؛ وغيرَ مجتمعةٍ باللّغة العربية في كتابٍ واحدٍ«؟! إذًا فكيف بهذه العُصْبَةِ من الصوفيّة المجهولين الخاملين أن يكونوا قد لبسوا الخرقة، وأخذوا العهد خلفًا عن سلف؛ وما عسى دليل النقشبنديّين بعد هذا الاعتراف الصريح أن يكون هؤلاءِ قد نقلوا تلك المعتقدات الدخيلة، والمبادئ والآداب المختلَقَة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَبْرَ هذه السلسلة المزعومة؟! ثم كيف بهؤلاء الدراويش المساكين أن يكونوا بمنزلة أولئك العلماء من سائر الطبقات؛ من المحدّثين والفقهاء والمفسّرين واللغويين والأطباء والرياضيين والأدباء والحكماء الّذين شاع صيتهم، وبلغت الآفاقَ شهرتُهم، بما كتبوا وصنفوا وألّفوا ودرسوا وارشدوا حتّى امتلأت مكتبات العالم بآثارهم القيّمةِ، وانتشرت معارفهم في أرجاء المعمورة، كما تبرهن على هذه الحقيقة ما نشهده اليوم من تطوّراتٍ هائلةٍ في حضارة العصر الحاضر الّتي هي من امتداد علومهم وتأثير جهودهم. وعكوسٍ لامعةٍ من أشعّةِ ذكائهم ودهائهم. فأين أولئك الّذين يتشوّف الخانيّ »للوقوف على تراجم أحوالهم المقدّسة«! أين بهم من هؤلاء الفحول، ومن الأئمة المجتهدين أعاظم الأمّة؟ وما عساها قد عملت تلك الشرذمة العاطلة من صوفية الفرس والهند لأجل أمة الإسلام ومستقبلها ياترى؟!(66/228)
سوف نطّلع إن شاء الله على قائمة أسماء هؤلاء الشيوخ الّذين تُعظّمهم النقشبنديّة، وتَعُدُّهُمْ من الّذين اصطفاهم الله على العالمين حتّى »استطاع بعضهم أن يتّصل بأرواح البعض الآخر في عالم اللاّهوت، ويتلقىَّ منه العلوم والأوامر« (على حدِّ قولهم)؛ فينصبَ نفسَهُ شيخًا على النقشبنديّة. سوف نطّلع على أسمائهم وصفاتهم وشخصيّاتهم وصراعهم مع منافسيهم، ونصيبهم من العلم والهداية؛ كما سوف نطّلع على تصرّفات كلٍّ منهم في هذه الطريقة، وذلك في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.
يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ، »ينبغي للمريدين أن يعرفوا نسبةَ شيخِهم ورجالَ السلسلةِ كلّها من مرشدهم إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. لأنّهم إذا أرادوا أن يطلبوا المدد من روحانيتهم، وكان انتسابهم إليهم صحيحًا حصل لهم المدد من روحانيتهم. فمن لم تتّصل سلسلتُهُ إلى الحضرة النبوية، فإنّه مقطوع الفيض، ولم يكن وارثًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 500. طبعة مصر-1384هـ.
كان هذا هو نموذجًا آخر للمنطق الصوفيّ النقشبنديّ الغريب الّذي لا يحتاج إلى أيِّ تعليق، والّذي تبدو من خلاله نظرتهم إلى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقسطاسهم في تحديد الوراثة له.
أمّا أسماء رجال هذه السلسلة المزعومة، فقد ذكرها عبد المجيد بن محمّد الخانيّ على سبيل الإجمال فقال:(66/229)
»وهي السلسلة المتّصلة من أبي الأرواح الأكبر، الرؤوف الرحيم الأبرّ، سيّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى حضرة الصديق الأعظم؛ إلى سيّدنا سلمان الفارسيِّ؛ إلى سيّدنا القاسم حفيد أبي بكر الصدّيق؛ إلى سيّدنا جعفر الصادق؛ إلى سيّدنا أبي يزيد البسطاميّ؛ إلى سيّدنا أبي الحسن الخرقانيّ؛ إلى سيّدنا أبي علي الفارمديّ؛ إلى سيّدنا يوسف الهمدانيّ؛ إلى سيّدنا عبد الخالق الغجدوانيّ؛ إلى سيّدنا عارف الريوكريّ؛ إلى سيّدنا محمود الإنجيرفغنويّ؛ إلى سيّدنا عليّ الرامتنيّ؛ إلى سيّدنا المير كلال؛ إلى سيّدنا محمّد بابا سماسيّ؛ إنّ هذا الترتيب فيه خطأ بسيط. وهو أنّ محمدا البابا السماسيّ، يجب ذكره قبل المير كلال. ويغلب أن هذا الخطأ جاء في الطباعة وليس من المؤلّف. إلى سيّدنا محمّد بهاء الدين ـ الشاه النقشبند؛ إلى سيّدنا علاء الدين العطار؛ إلى سيّدنا يعقوب الجرخيّ؛ إلى سيّدنا عبيد الله الأحرار؛ إلى سيّدنا محمّد الزاهد؛ إلى سيّدنا الدرويش محمّد؛ إلى سيّدنا الخواجكيّ محمّد الأمكنكيّ؛ إلى سيّدنا محمّد الباقي بالله؛ إلى سيّدنا أحمد الفاروقيّ السرهنديّ؛ إلى سيّدنا محمّد المعصوم؛ إلى سيّدنا سيف الدين؛ إلى سيّدنا نور محمّد البدوانيّ؛ إلى سيّدنا حبيب الله مظهر؛ إلى سيّدنا عبد الله الدهلويّ؛ إلى سيّدنا خالد العثمانيّ؛ إلى سيّدنا الجد محمّد الخانيّ؛ إلى سيّدنا الوالد محمّد الخانيّ«. هذه السلسلة واردة في عدد من كتب الفرقة الخالدية من النقشبنديّين. نقلناها مما عثرنا عليها من تلك الكتب؛ وهذه أسماؤها، مع أرقام الصحف الّتي وردت فيها "السلسلة":
* خالد البغداديّ، ديوان شعره؛ الأبيات: 703-707؛ 1153-1205.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 7-9.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 6.(66/230)
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 3-6.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 500.-502.
* زاهد الكوثريّ، إرغام المريد (بتمامه). هذه الرساله، منضمّةٌ إلى كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ في مجلّد واحد؛ تمّ استنساخهما وطبعهما بين دفتين من قِبَلِ مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992م.
أمّا زَعْمُ النقشبنديّين بأنّ طريقتَهم هكذا تسلسلتْ إليهم من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر شيوخهم في كلّ عصر، فانّه كلام باطل لا يُعتدّ به، ولا يستحقّ النظر فيه. فقد وردت على لسان بعض شيوخهم بالذات كلماتٌ شبه اعتراف بهذه المزعمة. ألا وهو الشيخ قسيم الكُفْرَويّ، الّذي احتلّ مكانًا مرموقًا بين جموعٍ كبيرةٍ من النقشبنديّين، ونال شهرةً واسعةً، وقضى حياته في دراساتٍ وبحوثٍ علميّةٍ بجانب ما حَظِيَ من المكانة بين رجالات السياسة والثقافة طوال خمسين عاماً في تركيا.
يقول الكُفْرَويّ في رسالته الّتي حصل بها على شهادة الدكتوراه عام 1949م. بجامعة إسطنبول، يقول، » إنّ أقدمَ الأسانيدِ للسّلسلةِ بين الصوفيّة، هو إسنادُ جعفر الخلدي.« هذا نصّ مقاله باللّغة التركية على حسب ما نقله من محمّد بن إسحاق بن محمّد بن إسحاق النديم، الفهرست ص/ 183.
Sufiler aras?nda g?rülen en eski isnad (silsile) Cafer el-Huldî (?l.348)’nin isnad?d?r.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???. Postscript.
?stanbul-1949Türkiyat Enstitüsü No. 337. ذلك يعني أنّ سلسلتهم منقطعة الأسانيد قبله. هذا، إذا كان الغرض من إسناد الخلديِّ هو السلسلةَ النقشبنديّة خاصّة بغضّ النظر عن سلاسل بقية الطرق الصوفيّةِ. وقد يكون الغرض عامًّا. فيتّفق إذًا جميعهم على هذه المزعمةِ.(66/231)
وعلى الرغم من هذا الاعتراف، فانّه لا يستقيم مع الواقع التاريخيِّ. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة لم تكن قد تكوّنتْ بعدُ في أيّام جعفر الخلديِّ. وذلك أيضًا بإقرارٍ صريحٍ من قسيم الكُفْرَويّ نفسِهِ إذ يقول:
»بما أنّ تاريخَ التأسيس للطريقة النقشبنديّة قد تمّ إثباتُهُ بالاعتماد على المصادر الموجودةِ، أنها قد تكوّنت في عهد الغزنويّين؛ الدولة الغزنوية أسّسها محمود بن سبوك تكين (970-1030م.). كان جريئًا ناجحًا في سياسته. بايع الخليفة العبّاسيَّ القادر بالله، فأقرّه على ملكه. انتصر على ملوك الهند (986م.)؛ ثم على ملك الدولة السامانية؛ فوسّع نطاق بلاده. اهتمّ بحماية السنّية التقليدية في مواجهة نشاطات الشيعة؛ فأتاحت الفرصة بذلك لتطوّر الحركات الصوفيّة الّتي هي الجانب الروحيّ للسّنّية التقليديّةِ. وطغت اللّغة الفارسيّة في عهده على اللّغة التركية حتّى تدهورت هذه الثانية، على الرغم من أنّ محمودًا الغزنويَّ كان تركيّ الأصلِ. راجع ترجمته في المصادر الآتي ذكرها:
* موسوعة ميدان لاروس التركية (مادة محمود غزنلى) 8/242.
* محمود شاكر، التاريخ الإسلامي 6/190.؛ ترجمة فريد الدين آيدن 5/154. فقد ثبت أنّ الطريقة إنّما اكتسبتْ طابِعَها الحقيقيَّ منذ حكم هذه السلالة. ولذا أصبحتْ التطوّرات الّتي مرّتْ بها الطريقة منذ البداية حتّى عهد يوسف الهمدانيّ هي الموضوع الأساسيُّ للدراسة.« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???. (?ntroduction)...................................................................................
Türkiyat Enstitüsü No. 337. ?stanbul-19449
هكذا انقشع الظلام عن أسرارهم بإقرارهم واعترافهم على لسان شخصيةٍ من أعلم رجالاتهم المشهورين في العصر الحاضر، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
***
الروحانيّون.(66/232)
الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة"؛ شخصيّاتُهم، ومستوياتُهم العلميةُ والاجتماعيةُ، ومعتقَداتُهم، واتجاهاتُهم، وترجمةُ أحوالِهم بالتفصيل.
إنّ من أصول الطريقة النقشبنديّة، أخذُ العهد على المريد؛ أى إدخالُه في سلك هذه المنظمة الصوفيّة. وهو من أكبر مهامّ شيخ الطريقة في كلّ بقعةٍ ينشرون فيها دعوتَهم منذ أن شرعوا هذا المبدأ لمذهبهم. وعلى هذا الأساس يدّعي كلُّ مَنْ تصدّى لمشيخة هذه الطريقة أنّه أخذ الإجازة والرخصة للقيام بهذه المهمّةِ كما يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ:
»قد تشرّفتُ بأخذ العهد والإجازة بالتوجّه ثم بالإرشاد وتلقين الذكر بعد السلوك أعوامًا في الطريقة النقشبنديّة عن القطب الأرشد والغوث الأمجد شيخنا وأستاذنا الشيخ عمر... إلخ«؛ ويعدّد أسماء رجال السلسلة الّذين ذكرناهم أنفاً؛ يعدّدهم واحدًا بعد واحدٍ بالتصعيد على غرار سلسلة الرواة عند المحدّثين، حتّى ينتهي إلى اسم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فيقول، »وهو عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/501-502؛ كذا محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 7-9. «
يظهر اعتقادهم من خلال هذه الصيغة بصورة واضحة، أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام، هو الّذي بنى أساس طريقتهم، ونفخ سرّها في روع أبي بكر {إِذْ هُمَا فيِ الْغَارِ، إِذْ يَقوُلُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} سورة التوبة/40. كما يؤكّد ما جاء في الحدائق الورديّة لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ، أنّهم على هذا المعتقد من غير شك. إذ يقول الخانيّ:(66/233)
»ثم سرى هذا السر، وتحوّل من إمام الأمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خليفته الأوّل، ومَنْ عليه في الدين والدنيا المعوَّل، سيّد سادات الطريقة الإمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 88.
لابد وأن نتساءل هنا: أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، ما دام هو الّذي قد بنى أساس الطريقة النقشبنديّة، ووضع اللّبنة الأولى لتكوينها - على حدّ زعمهم واعتقادهم - فهل ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قد نطق حتّى بكلمة التصوّف ولو مرةً واحدةً في حياته الشريفةِ، بغضّ النظر عن أن يكون قد تحدّثَ عمّا ابتدعتْهُ الصوفيّةُ عامةً والنقشبنديّة خاصّة من رموزٍ ومصطلحاتٍ ومبادئَ وآدابٍ وأذكارٍ ومفاهيمَ، حشوا بها بطونَ ركامٍ من الكتب! وهل شهد شاهدٌ من أهل العلم والثقة والإيمان والأخلاق والإخلاص، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكلّم عن الطريقة النقشبنديّة أو عن أدنى شئٍ من أصولها وآدابها؛ كالرابطة، والختم الخواجكانيّةِ، وعدّ الأوراد بالحصى، والجلوس عكس التورّك في الصلاة، والاستمداد من روحانية الموتى، والتبرك بقبورهم؛ وهل ورد شئٌ من مصطلحاتهم الفارسيّة ولو في حديث واحد من تلك الأحاديث الموضوعة المكذوبة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن الصحاح؟!
إذًا فما حجّة النقشبنديّين فيما يدّعون – بدون تأمّل -: أنّ سرَّ طريقتهم قد انتقل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خليفته أبي بكر الصديق؟ ولماذا يجعلون أبا بكر هو الحلقة الأولى من سلسلتهم، فيحتاطون أن يبدأوا بالنبيّ عليه السلام؟ أم يحذرون من أن ينزلوا به منزلة صوفيٍّ خاملٍ متزمّت!(66/234)
حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوصَفَ بما ينافي جلالةَ قدرهِ؛ بل »كان خلقه القرآن.« عن عائشة رضي الله عنها، رواه مسلم. رقم الحديث/1233. وقد خاطبه الله تعالى بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظيِمٍ.} سورة القلم/4. وكتاب الله بين أيدينا؛ وهو العروة الوثقى، والحبل المتين، والبرهان المؤيّد، والشاهد المجسّد الّذي يخبرنا من خلال إعجازه وتصويره وإيجازه وتفصيله وعكوسه النورانيِّ على مدى كرامة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وشرفه العظيم ومهمّته العالية، ورسالته الخالدة، وقلبه الطاهر وسلوكه الربّانيّ الرفيع، وشخصيته الفذة الّتي ملأت العالمين بأخبارٍ وآثارٍ وأنوارٍ وأطوارٍ لا تسعها كتب الصوفيّةِ؛ ولا تدنو من ساحل بحره المحيط عقولهم. {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيِلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدىَ.} سورة النجم/30.
فهو - عليه أفضل صلوات الله وأتمّ تسليماته - في الحقيقة برئٌ كلّ البراءة من أنه نفخ سرَّ الطريقة النقشبنديّة في روع أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. ولا يكاد يصدّق هذه المقولة أحد اطّلع على شئٍ من سيرته الطيبةِ وعرف مضمونَ النبوة ومفهومَ الرسالة؛ خاصّة فانّ سيّدنا محمّدًا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل النوع البشريِّ وأعظمه وأكرمه؛ اصطفاه الله لحمل آخر رسالاته فقال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلىَ شَريِعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الّذينَ لاَ يَعْلَموُنَ.} سورة الجاثية/18. فهو - لا شك - أجلُّ من أن يفهمه الطائشون المفتتنون بعقائد الهنود، المتربصون في كلّ مُعترك بذريعة الانتساب إليه.
***
سلسلة أسماء الّذين يزعم النقشبنديّون أنّ طريقتهم انحدرت بوساطتهم.
* الحلقة الأولى من هذه السلسلة:(66/235)
يتشبّث النقشبنديّون بأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، على أنّه هو الحلقة الأولى من سلسلة رجالهم؛ ويزعمون » أنّ أَلْقَابَ السلسلة تختلف باختلاف القرون« راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 12. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 21. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 8. وأنّ طريقتَهم كانت تسمّى "الطريقة الصديقية" في مرحلتها الأولى، بدايةً من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى عهد أبي يزيد البسطاميّ. وهو الحلقة الخامسة من هذه السلسلة عندهم.(66/236)
أمّا هذه التسمية، لا شك من أنّها وضعٌ محضٌ؛ لا برهان لهم في إسنادها إلى أبي بكر الصدّيق. ولا في نسبتها إليه قيمةٌ علميةٌ أو دينيةٌ. لأنّ التصوّف لم يكن له أيّ أثرٍ في حياة الصحابةِ رضوان الله عليهم أجمعين. وإنّما كانوا في سلوكهم وتعبُّدهم، وسعيهم ومعاشهم في جميع مجالات الحياة يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ويسيرون على هديه لا محالة. وكانوا كما وصفهم الله في آخر سورة الفتح بقوله تعالى {وَالّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلىَ الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجَّدًا، يَبْتَغوُنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً، سيِمَاهُمْ فيِ وُجوُهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السجوُدِ.} سورة الفتح/29. ويقول سبحانه فيهم أيضًا {فَالّذينَ آمَنوُا بِهِ وَعَزَّروُهُ وَنَصَروُهُ وَاتَّبَعوُا النوُرَ الّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أوُلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحوُنَ.} سورة الأعراف/157. ويقول تعالى فيهم أيضًا {وَالّذينَ تَبَوّؤوُا الدارَ وَالإيِمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّوُنَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدوُنَ فيِ صُدوُرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتوُا، وَيُؤْثِروُنَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.} سورة الحشر/9. كانت حياتهم الروحيّة محدّدةً بضوابط الوحي وإرشادات الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم يكن من شأنِ أحدِهم أن يزيدَ في دين الله شيئًا، أو يُلغِيَ منه شيئًا أصلا. فقد مُثِّلَ التزامهم التامُّ في بيتٍ من تلك القصيدة المشهورة الّتي تَغَنَّى بها أهلُ المدينة يوم طَلَعَ الْبَدْرُ عليهم من ثنيّات الوداع. وهذا قولهم:
وَتَعَاهَدْنَا جَمِيعًا يَوْمَ أَقْسَمْنَا الْيَمِين،
لَنْ نَخُونَ الْعَهْدَ يَوْمًا وَاتَّخَذْنَا الصدْقَ دِين.(66/237)
ومن الحجج الدامغة على النقشبنديّين، عجزُهم عن إقامة أدنى دليلٍ على أنّ أبا بكر الصدّيق قد نطق بكلمة "التصوّف" ولو مرةً واحدةً على مدى حياته؛ فضلاً عما إذا كان له علم بالنقشبنديّة وعقائدها وتعاليمها وطقوسها.
أمّا حياة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنها غنيّةٌ عن الشرح لكثرة ما في بطون الكتب من سيرته الطيّبة الحسنة، وشهرته الواسعة بزهده وتقواه وبطولاته الخالدةِ وشجاعته وافتدائه في سبيل الله، وعقله الراجح في السياسة والتعامل. وهو من السابقين الأوّلين في الإسلام. صَحِبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقٍ وأمانةٍ في جميع المواقف، وآزره ونصره وذاقَ ألوانًا من العذاب على ذلك، وشهد معه المشاهد كلَّها، وثبت في صفوف القتال بجانبه، واحتلَّ مقامَه في القيادة والرياسة للأمة بعد وفاته. هذا هو أبو بكر الصدّيق الصحابيُّ الجليل رضي الله تعالى عنه.
فإنّه برئٌ من أن يتصوّره الإنسان على هيئة صوفِيٍّ جامدٍ صامتٍ مُطَأْطِئٍ ومقبّعٍ على نفسه. بل إنّه بصفته رئيس الدولة الإسلامية بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كان في حركةٍ دائبةٍ ونشاطٍ مستمرٍّ. حملَتْهُ مهمَّتُهُ العاليةُ ومسؤوليّتُهُ العظيمةُ أن يخوضَ مثار الأحداث، وأن يكون على أُهْبَةِ الاستقبال لأيِّ تطوُّرٍ قد يحدث. لذا فهو بعيد كلّ البعد عما يتصوّره النقشبنديّون من الشخصية الصوفيّة فيه. في الحقيقة ليس بينه وبين تلك الشخصية المختلَقَةِ وجه من المشابهة؛ ولا وجود لصلةٍ تربط بينه وبين النقشبنديّين؛ ولا يتعدّى زعمُ شيوخِ هذه الطائفةِ في نسبتهم إليه عن زعم الرافضة في نسبتهم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله تعالى وجهه. ومثلهم في هذا الإنتماء المزعوم كمثل الوهّابيّين في انتمائهم إلى الأمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه وإلى العلاّمةِ ابن تيمية الحرانيِّ عليه الرحمة والرضوان، وهم في الحقيقةِ أبعد الناس عنها((66/238)
* الحلقة الثانية من سلسلتهم.
يَعُدُّ النقشبنديّون سلمانَ الفارسيَّ رضي الله عنه هو الحلقةَ الثانيةَ من سلسلة ساداتهم. وهذه من ميّزات الفرق الباطنية. فكلّ فرقةٍ منها إمّا تدّعي النسبةَ إلى شخصيةٍ بارزةٍ من الصحابة، أو إلى آل بيت النبيّ الطاهرين، لتخفي بهذه النسبةِ الزائفةِ حقيقتها ومكائدها.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في الحدائق الوردية »ثمّ تلقّى سرّ هذه النسبة الشريفة منه (أي من أبي بكر الصدّيق ) سيّدنا سلمان الفارسيّ رضي الله عنه.«(66/239)
استرسل الخانيّ في قصّة حياته العجيبة وما كان عليه قبل الإسلام وكيف اعتنق المسيحية بعد أن كان مجوسيًّا في شبابه. وذكر ما ذكر من أيام إقامته عند عددٍ من القساوسة في الشام والموصل ونصيبين والعمّورية؛ ثم قصَّ إسلامَه وبقيةَ حياته في الإسلام بالتفصيل؛ نقلا من رواية أبي الفرج »بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 94. حتّى إذا أقترب من نهاية كلامه قال »ثم توفّي رضي الله عنه، وذلك سنة ستٍّ وثلاثين، أو أربعٍ وثلاثين في داء البطن في المدائن في خلافة عثمان رضي الله عنه؛ وعمره مائتان أو ثلاثمائة وخمسون سنةً. أمّا الأوّل، فعليه عند المؤرّخين المعوّل.« المصدر السابق/96. ولم يذكر لنا أسماء هؤلاء المؤرّخين. ولا شك في أنّ هذا القول لا يستقيم، إذ فيه مبالغة يستغربها أهل العلم والخبرة، كما نستغرب نحن : أنّ الخانيّ لم يذكر شيئًا حول تلقّي هذا السر الّذي سرى إلى سلمان الفارسيّ من أبي بكر الصدّيق، وكيف أصبح نقشبنديًّا أو صوفيًّا؛ بعد أن كان صحابيًّا جليلاً، وربما لم يسمع في كلّ حياته الطويلة من أحدٍ نَطَقَ بكلمة التصوّف، فضلاً عن النقشبنديّة ومصطلحاتها الفارسيّة على الرغم من أنه كان فارسيَّ الأصل! وهل كان يتعبّد على أساس الرابطة، والختم الخواجكانية، وعدِّ الأوراد بالحصى؛ وهل كان يعلم شيئًا حول عقيدة الفناء والبقاء والأويسية وما إلى ذلك من تعاليم النقشبنديّة وفلسفتها وطقوسها...
يتبيّن من هذا أيضًا، أنّ نسبة سلمان الفارسيِّ إلى هذه السلسلة باطلة؛ لا برهان لهم في إثباتها بصورة قطعية.
* الحلقة الثالثة من سلسلتهم.(66/240)
ورد في عددٍ من كتابات النقشبنديّين أنّ القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق، هو الحلقة الثالثة من سلسلة ساداتهم. ويعتقدون »أنّه تلقّى سرّ هذه النسبة« من سلمان الفارسيِّ. وهذا يعني بتعبيرٍ آخر: أنّ القاسم رضي الله عنه يُعَدّ من الصوفيّة. بينما تشهد الوثائق أنه كان فقيهًا جليلاً من أولئك السبعة المشهورين بالعلم والفضل. الفقهاء السبعة المشهورون بين سادات التابعين هم: القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق؛ وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري؛ وسعيد بن المسيّب؛ وعروة بن الزبير؛ وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود (وعتبة هو أخو عبد الله بن مسعود الصحابي)؛ وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ( والحرث بن هشام، أخو أبي جهل. هو صحابي أيضًا)؛ وسليمان بن يسار.ولم يتمكّن النقشبنديّون من الاستناد إلى أيّ دليل على أنْ يكون القاسم قد انخرط في صفوف منظّمةٍ باطنيّةٍ سرّيةٍ، كما لم تكن الطريقة النقشبنديّة قد خرجت في عهده إلى حَيِّزِ الوجود بعدُ. ولا نجد في كتبهم أنّه أقرّ شيئًا من تعاليمهم ومصطلحاتهم وطقوسهم بما فيها "السلسلة". وهذا أمر في منتهى الغرابة. لذا تعمّد النقشبنديّون الإغضاء عن نسبة شئٍ من تعاليمهم إليه. بل اقتصروا على مدحه أنّه »العالم المفتيُّ الفقيه الورع الزاهد الحجّة النبيه...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 96. وهذا لا يختلف فيه معهم أحد من أرباب البحث والخبرة بين أهل السنّة والجماعة.(66/241)
وردت ترجمة القاسم بن محمّد في وفيات الأعيان لابن خلّكان أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 4/59. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م. كذلك وردت ترجمته في المصادر التالية: طبقات ابن سعد، 5/187. بيروت-1963م.؛ أبو نعيم الإصفهاني، حلّية الأولياء/183. بيروت-1967م.؛ أبن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 8/333. حيدرآباد-1325هـ.؛ ابن العماد، شذرات الذهب، 1/135. بيروت-1979م.؛ خير الدين زركلى، الأعلام، 5/181. بيروت-1995م. كما وردت في مصادر أخرى، وهي خالية تمام الخلوّ من كلّ ما أُسندَ إليه من أنّه تلقّى سرّ الطريقة أو التصوّف من سلمان الفارسيّ وما يتبع هذا الإسناد من احتمالات أخرى؛ كالتعبّد على أساس الرابطة، والختم الخواجكانية، والتمرينات اليوغية وما إليها.
***
* الحلقة الرابعة من سلسلتهم.
يعتقد النقشبنديّون أنّ الإمام جعفر الصادق بن محمّد الباقر هو الحلقة الرابعة من سلسلتهم؛ كما أشار إلى ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بقوله »ثم سرى سرُّ هذه النسبة الشريفة - أي من القاسم بن محمّد - إلى شبله سيّدنا جعفر الصادق.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 37. ويبالغون في تعظيمه بأوصافٍ يستبشعها أهل المروءةِ والإيمان.
لقد وردت هذه الصفات على لسان عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في قوله »ناهيك بإمامٍ ورث مقام النبُوَّةِ والصدّيقية، فازدهرت في طلعته أنوار العلوم والمعارف الحقيقية.« المصدر السابق، ص/ 37.(66/242)
لا شكّ من أنّ عامّةَ أهل الإسلام يذكرون هذه الشخصيّة الكريمة بالثناء عليه والرحمة له من الله، وينظرون إليه بعين التوقير والإجلال. ولكنّ أهلَ العلم والبحث لم يعثروا على أدنى شئٍ يبرهن على إنتمائه إلى فرقةٍ من الفرَقِ الصوفيّةِ. ولا أثبتَ أحدٌ أنّه تكلّم في التصوّف ومصطلحاته؛ أو تعبّدَ على نحو ما يتعبّد النقشبنديّون. كاستعمال الحصى في تعداد ألفاظ الذكر والتركيز على جسمٍ أو صورةٍ...إلخ.
في الحقيقة أن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، لم يرد في ترجمته أنّه كان يعلم شيئًا عمّا يمارس النقشبنديّون من الرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجّه؛ وما اختلقوها من المفاهيم؛ كالأويسية، والفناء، والبقاء، والاستمداد من روحانيّةِ الشيوخ، وما إلى ذلك من أمورٍ أخرى على كثرة ما قد ترجم له. المصادر الّتي وردت فيها ترجمة الإمام جعفر الصادق: أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3/192. بيروت-1967م.؛ شمس الدين سامي، قاموس الأعلام 3/820. إسطنبول-1306هـ.؛ محمّد بن سعد، طبقات 5/187. بيروت-1960م.؛ الحافظ الذهبي، تذكرة الحفّاظ 1/166. حيدرآباد-1956م.؛ مؤمن الشبلنجي، نور الأبصار ص/ 60. القاهرة-1948م.؛ ابن خلّكان، وفيات الأعيان 1/327. بيروت-1978م.؛ ابن عماد شذرات الذهب 1/220. بيروت-1979م.؛ عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين 3/145. بيروت-1957م.؛ خير الدين زركلي، الأعلام 2/126. بيروت-1995.
***
* الحلقة الخامسة من سلسلتهم.(66/243)
يزعم النقشبنديّون أنّ أبا يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان البسطاميّ هو الرجل الخامس من سلسلتهم. وبسطام، »يقال انها أوّل بلاد خراسان من جهة العراق وقومس." عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 105. "كان جدّه مجوسيًّا ثم أسلم« أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/531. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م. ويغلب أنّ الخلط والتذبذب الّذي يظهر في مقاطع من كلامه يبرهن على تأثير أسلافه المجوس. لأنّ تأثير المعتقدات والعادات والتقاليد قد يستمرّ عبر حياة الأسرة ويتسرّب إلى طبقاتٍ من أجيالها؛ ولو اعتنق الأحفادُ معتقداتٍ جديدةً تختلف عما كان عليه آباؤهم الأولّون.
وقد يكون أستاذه أبو علي السندي أبو علي السندي رجل لا ذكر له في الأوساط العلمية. ورد اسمه في المراجع التالية ضمن كلمات عابرة: الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة-عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ص/ 101.؛ موسوعة ميدان لا روس التركية، مادة: بايزيد البسطاميّ.؛ 2/219
Ferit Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendilik Edition II. Pg. 148 Süleymaniye Fondation ?st,-2000(66/244)
Ya?ar Nuri ?ztürk, Tasavvuf ve Ruhi Hayat. Pg.44 ?stanbul-1989 هو الّذي أوقعه فيما جعل بعضُ الباحثين يرمونه بالزندقة. ومن هؤلاء الباحثين، عبد القادر بن حبيب الله السنديّ. فقد نقل عن طبقات الأولياء لابن ملقّن مقاطع من مقولات البسطاميّ؛ ينتقده تارةً بالمخالفة الصريحة لسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وتارة يشنّع عليه تمسّكه بالرهبنةِ؛ عبد القادر بن حبيب الله السندي، التصوّف في ميزان البحث والتحقيق ص/224. وتارةً يحمل قوله على الكفر والإلحاد والزندقة؛ واستقى من »البداية إلى النهاية« للإمام ابن كثير، ومن »الميزان« للإمام الذهبي. حيث ينقل بعضهم عن بعضهم في هذه المصادر أنّه »حكي عن البسطاميّ شطحات ناقصات. وقد تأوّلها كثير من الفقهاء والصوفيّة، وحملوها على محامل بعيدةٍ. وقال بعضهم: إنّه قال ذلك في حال الإصطلام والغيبة. ومن العلماء مَنْ بدّعه وخطّأه، وجعل ذلك من أكبر البدع، أنّه تدلّ على اعتقاد فاسد، كامن في القلب، ظهر في أوقاته والله أعلم.« المصدر السابق ص/232.
يعتقد النقشبنديّون فيه أنّه سلطان العارفين، وينقلون عنه أنّه قال: »سبحاني ما أعظم شاْني.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/99.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ »كان أبو يزيد البسطاميّ يشير عن نفسه أنّه قطب الوقت.« المصدر السابق، ص/98. غير أنّ له مقولة تبرهن على حسن اعتقاده وكمال معرفته ومتانة أسلوبه على طريقة أهل العلم في توضيحه لمعنى التكبير. فقد قيل عنه - إذا صحّ - »أنّه سمع رجلاً يكبّر. فقال:
»- ما معنى الله أكبر؟
قال:
- الله أكبر من كلّ مَنْ سواه.
فقال أبو يزيد:
- ليس معه شئٌ فيكون أكبر منه!
قال:
- فما معناه؟
قال:
- معناه: الله أكبر من أن يقاس بالناس، أو يدخل تحت القياس، أو يدركه الحواسّ.« المصدر السابق ص/100.(66/245)
لعلّ أقواله الموافقة لحدود الكتاب والسنّة وَرَدَتْ عنه قبل أن يفارق العلماء ويتّصل بالصوفيّة. وعلى الرغم من كلّ ما أُسْنِدَ إليه من الحقّ والباطل لم يثبت عنه بدليلٍ قاطعٍ أنّه ادّعى الأويسيّة، ولا أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّة؛ كالعمل بالرابطة، والختم الخواجكانية، وتعداد الذكر بالحصى وأمثالها... ولو كان قد عمل ذلك، وثبت عنه، لذكروه في كتبهم بالذات على سبيل الحجّة. كما لم يثبت عنه شئٌ يدلّ على أنّه أقرّ سلسلة الطريقة. ولكن المؤلّف يقول »وهو أويسي التربية. فانّه ربّته روحانية سيّدنا جعفر الصادق. ووصل إليه هذا السرّ الجليل منه بالروحانية - كما قدّمنا - لأنّ سيّدنا جعفر، كانت وفاته سنة ثمانٍ وأربعين ومائة. وهي قبل ولادة أبي يزيد بنحو أربعين سنةً كما رأيتَ. ثمّ إنّ كلَّ مَنْ ربّته روحانية أحد السادات، يقال له أويسيٌّ؛ نسبةً لسيّدنا أويس القرني، سّيد التابعين. فانّه على القول بوجوده وهو الصحيح المؤيّد بالأدلة المعتبرة والكشف الصريح؛ ربّته روحانية سيّد العالمين بالخصوص.« المصدر السابق ص/ 105. وردت ترجمة أبي يزيد البسطاميّ في المصادر الآتي ذكرها: أبو عبد الرحمن السلّمي، طبقات الصوفيّة ص/ 67. القاهرة-1969م.؛ أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء. 10/33. بيروت-1967م.؛ أبو القاسم القشيريّ، الرسالة القشيريّة ص/14. القاهرة-1959م.؛ أبو الفرج إبن الجوزي، صفات الصفوة 4/89. حيدرآباد-1355هـ.؛ أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/531. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م.؛ محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، ميزان الإعتدال في نقد الرجال/481. القاهرة-1963م.؛ عبد الله بن أسعد اليافعي، مرآت الجنان وعبرة اليقظان 2/173. حيدرآباد-1339هـ. يبدو أنّ هذا الرأْيَ اختلقه بعض النقشبنديّين على حساب الآخرين دون علمهم، فتقوَّلَ على لسان كلٍ من(66/246)
جعفر الصادق وأبي يزيد البسطاميّ في دعوى هذه النسبة بينهما. وهذا برهانٌ قاطعٌ على المستوى الأخلاقيّ الّذي يتميّز به أفراد هذه الطائفه، حتّى المتعلّمون منهم.
يزعم النقشبنديّون أنّ طريقتهم تسمّتْ بـ"الطيفورية" بداية من عهد أبي يزيد البسطاميّ إلى زمن عبد الخالق الغجدوانيّ؛ نسبةً إلى اسمه (طيفور). بيد أنّ هذه التسميةَ غير موثوقةٍ. إذْ أنّ كلاًّ من هذين اللّقبين: الصدّيقيّة والطيفورية، لم يرد ضمنَ تراجم الشخصيتين المقصودتين بهما على الإطلاق. أمّا التقدير، بأنّهما كانا على أدنى شئٍ من العلم بنسبة الطريقة النقشبنديّة إليهما أو نطقا بهذين اللقبين، أو حتّى سمعا بهما، فانّ ذلك باطل إطلاقاً؛ لن يملكَ أحدٌ من عقلاء النقشبنديّة الجرأةَ على الدفاع عن هذه الدعوى الواهية إلاّ الجاهل منهم !
لقد ثبت هكذا واتّضح مرةً أخرى وبهذه الصراحة، أنّهم قد أضافوا إلى تعاليم الدين مالا يُحصى من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ وعقائدَ اقتبسوها من دياناتٍ مختلفةٍ لا صلة لها بالإسلام؛ كما قد ألغوا مبادئ هامةً من أصوله وأبطلوها؛ وخالفوا مبدأ التوقيفية في الإسلام، وتصرّفوا فيه بدون حدود. كذلك ابتدعوا أسماء جديدةً، ومصطلحاتٍ غريبةً كلما وجدوا لذلك مساغًا من تلقاءِ أنفسهم. وتقوّلوا على بعضهم البعض؛ بل وحتّى على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن يليه من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين؛ كإسنادهم الطريقة النقشبنديّة إلى الصحابة والتابعين؛ وادّعائهم: »إنّ طريقة السادة النقشبنديّة هو معتقد أهل السنّة والجماعة. وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم على أصلها، لم يزيدوا فيها، ولم ينقصوا منها.« راجع الهامش رقم/301.
هكذا فقد دخل النقشبنديّون في دوّامة خطيرة حارت العقول من أمرهم.
***
* الحلقة السادسة من سلسلتهم.(66/247)
تزعم النقشبنديّة أنّ أبا الحسن على بن أبي جعفر الخرقانيّ هو الحلقة السادسة من سلسلتهم. يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، »ثمّ تلقّىَ سرَّ هذه النسبة الشريفة من سيدِنا أبي يزيد أيضًا بالروحانية، سيدُنا أبو الحسن الخرقانيّ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/105. »وهو أويسيُّ التربية، رَبَّتْهُ روحانيةُ سيّدَنا أبي يزيد البسطاميّ« المصدر السابق ص/106.
ينقلون عنه أنّه قال: »أطلب القصّةَ لتظهر الدموع. فإن ّالله يحب الباكين.« المصدر السابق ص/105. هذه الكلمة تُذَكِّرُنا بقوله تعالى {فَلْيَضْحَكوُا قَليِلاً وَلْيَبْكوُا كَثيِرًا جَزَاءً بِمَا كَانوُا يَكْسِبوُنَ.} سورة التوبة/82. وذلك إذا كان غرضه من القصّة ما لا يتعارض مع الروح القرآنيِّ.
وينقلون عنه أيضًا أنّه قال »كلّ شئٍ يطلب العبدُ به اللهَ، فالقرآن أحسن منه؛ فلا تطلبوا الله إلا به«. وهذه كلمة حق. فيبدو من هذه المقولات، أنّ الشيخ أبا الحسن الخرقانيّ كان رجلاً من الصالحين بخلاف مَنْ تصفه النقشبنديّة من الشيوخ الروحانيّين. ويحتمل أنهم قد طمعوا في استغلال شهرته فأضافوا اسمَه إلى أسماء مشائخهم دون أن تكون له علاقة بهذه الطريقة. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة لم يكن لها وجود في زمانه. ويغلب أنّه من أصلٍ فارسيٍّ كأبي يزيد البسطاميّ.
قيل أنّه عاصر السلطان الغزنويّ محمود بن سبكتكين، ونال محبّتَه وتوقيرَه. إلاّ أنّه غير مذكور في المصادر الْمُعتَبَرَةِ لِسِيَر الأعلام وتراجم الرجال. ولم يذكره القشيريّ في رسالته ضمنَ الأعلام وهو معاصره. وقد ذكر البسطاميّ؛ (وهو شيخ الخرقانيّ في اعتقاد النقشبنديّين). وبخاصّةٍ فإنّ أبا القاسم القشيريّ هو أستاذ أبي علي الفضل محمّد الفارمديّ الّذي يدّعي النقشبنديّون أنّه تتلمذ على أبي الحسن الخرقانيّ في الوقت ذاته، وصار خليفتَهُ في الطريقة!(66/248)
كلّ هذه المُعطيَات الّتي تبرهن على تعارضٍ رهيبٍ في أقوال النقشبنديّين ودعواهم في نسبة طريقتهم إلى أشخاص، لم تكن فكرةُ النقشبنديّة ولا شئٌ من تعاليمها موجودةً في عهدهم، تدل في الوقت ذاته على أنّه لو كان لأبي الحسن الخرقانيّ وجودٌ حقيقيٌّ، لذكره المصنّفون ضمنَ تراجم الأعلام، وعلى رأسهم القشيريّ.
لذا قد يكون هذا اسمًا مُخْتَلَقًا لشخصيّةٍ خياليّةٍ لا حقيقة لها. وهذا يؤكّد أيضًا على مدى زعم النقشبنديّين في دعواهم عن صحّةِ هذه السلسلةِ.
***
* الحلقة السابعة من سلسلتهم.
يزعم النقشبنديّون أنّ أبا عليّ الفضل بن محمّد الفارمديّ هو الحلقة السابعة من سلسلتهم، وأنّه »تلقّىَ سرَّ هذه النسبة من أبي الحسن الخرقانيّ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/106.
ورد في بعض المصادر »أنّه صَحِبَ القشيريّ، وأخذ عنه حجةُ الإسلام الغزاليّ« المصدر السابق ص/71. ترجمت له جماعة من المصنّفين. منهم؛ تاج الدين السبكي، تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية 5/304. القاهرة-1964. وعبد الحي بن أحمد بن محمّد بن العماد العكبري الحنبلي، إبن العماد، شذرات الذهب في اخبار من ذهب 3/355. بيروت-1969م. وياقوت الحموي، ياقوت الحموي، معجم البلدان 3/829. القاهرة-1325هـ. وعلي بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري المعروف بابن الأثير. إبن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب 2/191. القاهرة-1359 هـ.(66/249)
يغلب الظن أنّ أبا عليّ الفارمديّ هو عربي الأصل كأستاذه أبي القاسم القشيريّ. بيد أنّه تشرّب العقيدة الصوفيّة بدافع نشأته في منطقة خراسان الّتي كانت ملتقى الجموع للعقائد الوثنية منذ القديم. إلاّ أنّنا لا نعثر على أيّ دليلٍ يبرهن على إقراره بهذه السلسلةِ وعن تعبّده على غِرَارِ النقشبنديّة. قيل إنه كان وجيهًا عند الوزير السلجوقيّ حسن بن على المعروف بـ"نظام الملك"، ولكن ابن خلّكان لا يذكره حيث يذكر مكانةَ شيخه أبي القاسم القشيريّ عند نظام الملك. أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/129. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م.
***
* الحلقة الثامنة من سلسلتهم.
هذه الحلقةُ يمثّلها في اعتقاد النقشبنديّين رجلٌ إسمه أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين الهمدانيّ. يزعمون أنه أخذ سِرَّ هذه الطريقة من أبي عليّ الفضل بن محمّد الفارمديّ. فيكون بذلك معاصرًا لمحمد بن محمّد الغزاليّ، ومصاحبًا لنفس الأستاذ الّذي أخذ عنه الغزاليّ، مع ذلك لا نعثر على ما يُثبت اجتماعَهما.. وهذا أمرٌ غريبٌ يبعث الشكوكَ فيما أورده بعض النقشبنديّين من ترجمة هذا الرجل. ذلك من شأنهم أنّهم يحرصون على إشاعة فضائل مشائخهم بكل وسيلة. ولا يألون جهدًا في إسناد ما ليس فيهم من صفات عاليات، ويبحثون عن أدنى قرينة تجمع بين شيوخهم وبين مشاهير العلماءِ. ولا يقصدون من ذلك إلاّ العملَ على توسيعِ نطاقِ الشهرةِ لرجالهم.
هذا، فلو كان الهمدانيّ قد إجتمع بالغزاليّ لظهر ذلك بوضوح من خلال التراجم. - لأنّ الهمدانيّ أيضًا من تلامذة الفارمديّ على حدِّ قول النقشبنديّة - ولكان ذلك وسيلةً لمباهاتهم. لأنهم يملكون الفرصةَ بذلك ليزيدوا من مبالغتهم في المدح والثناء على هذا الرجل بمجرّد صِلَتِهِ بالغزاليّ الّذي ملأ الآفاقَ بشهرته((66/250)
وقيل أنّ الشيخ عبد القادر الجيليّ قد إجتمع به وهو شابٌّ يدرس في النظامية. إنّ هذا الإحتمال يُنبؤنا عن ضعف ما قد نسجه النقشبنديّة حول الهمدانيّ من حكاياتٍ وأقاصيصَ خياليةٍ لا يمكن أن تظهرَ الحقيقةُ من خلالها. كما جاءت تلفيقات بين كلمات المترجمين للهمدانيِّ. فقد ورد في الحدائق الوردية »أنّه تفقّه علي مذهب الإمام الشافعيّ«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 107. مع هذا يدّعي شخصٌ أرّخ لرجال هذه الطريقة »أنّه كان على مذهب الإمام الأعظم«. حسن لطفي ششود، مناقب الأولياء (باللّغة التركية) ص/ 7. مكتبة صلاح بيليجي. إسطنبول-1958م. أي على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. إنّ معظم الأتراك يعتقدون أنّ أبا حنيفة أفضل الأئمة، كما سوف نشرح هذا الإعتقاد في بداية الفصل الخامس إن شاء الله تعالى. ويدّعي الكثير منهم: أنّه تركيّ الأصل رجمًا بالغيب، ولا برهان لهم في ذلك. لأنّه لم يرد عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنّه تكلّم بكلمة تركيّة، أو كتب لفظًا بهذه اللّغة. بل الشائع أنّه فارسي الأصل. و لا نتعجّب مِنْ إدّعاءٍ أشدّ غرابةً منه، عثرنا عليه ، فرأينا بحكم المناسبة أن نذكره. وذلك: أنّ ضابطًا عسكريًّا في الجيش التركيّ برتبة جنرال يُدعى فاروق جوانترك، يقول في كتاب له: "إنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ينحدر من سلالة إبراهيم النبي عليه السلام. أمّا إبراهيم الخليل، فانّه تركيّ الأصل. هاجر من مدينة أورفا (الواقعة بجنوب تركيا) إلى بلاد العرب هاربًا من ظلم نمرود. وبنى الكعبة مع ولده إسماعيل. هذه حقيقة تاريخية. ولهذا فانّ الرسول عليه السلام ينتمي إلى أصل تركيّ." وفيما يلي نص هذه الترجمة باللّغة التركية:(66/251)
Hz. Muhammed, Hz. ?brahim’in neslinden gelir. Hz. ?brahim ise Urfa’dan Zalim Nemrud Elinden kaç?p Arabistan’a yerle?ir. O?lu ?smail ile Mekke ?ehrini kuran bir Türk oldu?u tarihi hakikatlardand?r. Orgeneral Faruk Güventürk, Din D?d?? Alt?nda Nurculu?un ?çyüzü Pg. 69 Ankara-1993
يقول الأستاذ فؤاد كوبرولو (باللغة التركية وقد عرّبناه كما يلي): »أمّا الهمدانيّ، فانّه كان طويل القامةِ، أزهري اللّون، أشقر اللحية، رجلاً نحيفًا، يكتسي ثوبًا من صوفٍ مرقّعٍ. لا يهتمّ بأمور الدنيا ولم يتردّد على الملوك. ينفق كلّ ما يصيب من مالٍ. لم يقبل من أحدٍ شيئًا، ولم تكن له معرفة باللّغة التركية. (...) يصنع العقاقير لتهدئة الآلام ومعالجة الجراح، ويكتب التمائم للشّفاء من الحمّى.« ...........................................Prof. Dr. Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda ?Lk Mutasavv?flar, Pg. 69 Ankara-1993 ويقول المؤلّف أيضًا:
»إنّ الشيخ يوسف الهمدانيّ، الّذي ينتمي إلى أسرةٍ همدانيّةٍ مجوسيةٍ اعتنقت الإسلام منذ ثلاثة أجيال، لم يكن من أولئك المتصوّفة الأعاجم الّذين عملوا على تأليف العقائد الهندية مع العقائد الإسلامية بتصوّراتهم المطلقة من العنان. ولكنّه كان متعمّقًا في العلوم الشرعية، وكان عالمًا بالحديث. ولهذا كان يفضّل الكتاب والسنّة على كلّ شئ.« المصدر السابق ص/115.(66/252)
هذه النقولات تبرهن على شخصية الهمدانيّ من كلِّ وجهٍ وبكلِّ وضوحٍ حيث لا يحتاج إلى أيّ تعليق آخر. وعلى الرغم من كثرة الحكايات المنسوجة حول هذا الرجل، فانّه لم يرد عنه أنّه تكلّم بشئٍ يوهم أساليب التعبُّد المبتدَعَةِ من قِبَلِ الطائفة النقشبنديّة. وجاءت ترجمتُهُ في عدد من المصنّفات. المراجع الّتي وردت فيها ترجمة الهمدانيّ: خير الدين زركلي، الأعلام 8/220.؛ إبن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب 4/110.؛ يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياء 2/289.؛ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ً. 106.؛ علي بن حسين الواعظ.؛ رشحات (باللّغة العثمانيّة) ص/ 17
***
* الحلقة التاسعة من السلسلة النقشبنديّة
ورد في مصادر المتاخّرين من النقشبنديّة أنّ الحلقة التاسعة من سلسلتهم هو عبد الخالق الغجدوانيّ. وهو أوّل رجل تركيّ النَشأة بين قدماء هذه السلسلة. وهو الّذي أحدث ثمانية أركانٍ للطريقة كما مرّ في باب »مبادئ الطريقة النقشبنديّة« من الفصل الثاني.
قال محمّد بن عبد الله الخانيّ في هذا الصدد:
»ومن تلك المصطلحات: الكلمات القدسية المأثورة من حضرة الخواجة عبد الخالق الغجدوانيّ، وهي إحدى عشرة كلمة. وعليها مبنى طريقة السادات النقشبنديّة«. * محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/50. وعدّ كلاًّ على حدة كما نقلناها من مصادرهم فيما سبق.(66/253)
جاء في تراجم النقشبنديّين لعبد الخالق الغجدوانيّ أنه ولد في قرية غجدوان - وهي على مقربة من مدينة بُخَارَى - وأنَّ نسبه يتّصل بالإمام مالك بن أنس رضي الله عنه؛ وأنّ والده الشيخ عبد الجميل كان من سكّان مدينة ملاطية (الواقعة اليوم في شرقي تركيا).ثم سافر إلى بُخَارَى. بينما نحن لا نعثر على ترجمة له في التصانيف المعتبرة. وهذا ما يزيد من الشكوك حول كلّ ما قيل عنه خاصّة فيما ورد أنه درس تفسير القرآن العظيم عند الشيخ صدر الدين البُخَاريّ. لأنّ ما ورد عنه من البدع يثير الوهم حول جهله بالإسلام إذا صحّ قول من زعم أنّه الّذي وضع المصطلحات الثمانية. وتؤكّد ذلك روايات غريبة أخرى وردت عنه.
منها »أنّه قال: لمّا بلغتُ اثنين وعشرين سنة أوصى الخضر عليه السلام الغوث الهمدانيّ بتربيتي.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.(66/254)
إن "أسطورة الخضر" الّتي وردت على لسانه ضمن مناقبه المنقولة بقلم عبد المجيد الخانيّ، تبرهن على مدى خرافية ما اختلقه القصاصون من شيوخ النقشبنديّة حول اسم هذا الرجل ليجعلوه حلقةً هامةً من حلقات سلسلتهم. أما هذه الأسطورة، فهي مشهورة و متكررة في كتب الصوفيّة. يقول عبد الرحمن عبد الخالق: "يبدو أنّ أوّل من افترى القصة الصوفيّة للخضر هو محمّد بن على بن الحسين الترمزي المسمى بالحكيم والمتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري ( الفكر الصوفيّ/134). ويقول أيضًا: "لقد تحوّل الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمّونه بالسوبرمان الّذي يطير في كلّ مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخلان في كلّ البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربات، ويلقّن الأذكار و ينشيء الطرق الصوفيّة، ويعمد الأولياء والأقطاب، ويولي من يشاء ويعزل من يشاء". (المصدر السابق). ويقول سميح عاطف الزين: "الخضر، فهو عندهم إمام الأولياء والسالكين، يلتقي به الشيوخ عيانًا كما يزعمون، ويتلقّون عنه الأسرار، لأنّه لم يمت، ولن يموت إلى آخر الزمان؛ وهو يقيم بالمسجد الأقصى، ويطوف بالأكوان، ويحضر في كلّ مكان، ولذلك فهو يلقى الصوفيّة عند ذكره: عليه السلام!!" (الصوفيّة في نظر الإسلام/169). كذلك قد أشار الباحث التركيّ أحمد ياشار أوجاك إلى أنّ هذه الأسطورة مستوحاة من المسيحية. Menâkibnâmeler/ 73. 74.
ورد في مواطن أخرى من تراجم النقشبنديّين له أنّه »جاء الخضر عليه السلام إليه، فقال له أنت ولدي، ولقّنه الوقوف العدديَّ وعلّمه الذكر الخفيَّ؛ وهو أنّه أمره أن يغمس في الماء ويذكر بقلبه لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله. ففعل كما أمره. ودام عليه فحصل له الفتح العظيم، والجذبة القيّومية«. المصدر السابق.(66/255)
لا شك من أنّ الإسلام بعيد كلَّ البُعدِ عن مثل هذه الهرطقة اليوغية؛ كما لا شك من أنّها شعبذة من تمرينات رهبان البرهمية، أثارها الرجل كخطوةٍ أولى لتمهيد السبيل إلى وضع ما أشارت له نفسه من تلك المصطلحات البرهمية، ودسّها في عقائد الإسلام إذا صحّت الروايات أنه الّذي وضعها. وقد تعاقبت بعدها ألوان متباينة من أفانين الشعبذة لرجال هذه الطائفة من أمثاله. فامتلأت كتبهم بها إلى أن وجد المسلمون اليوم هذه الطائفة عقبةً خطيرةً في وجه الإسلام، خاصّة على الساحة التركية حيث لا قبل لهم بها!
يطلَق على هذا الرجل أسم "رئيس الخواجكان" محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 50. أي رئيس شيوخ هذه الطريقة. ويقول النقشبنديّون أنّ طريقتهم أَخَذَتْ اسمَ "الخواجكانية" بدايةً من عهده حتّى زمن محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف عندهم بـ "شاه نقشبند". وكلمة "الخواجكان" فارسية. وهي جمع خواجه »بتفخيم الخاء المفتوحة. وتُرْسَمُ بالواو ولا تُقْرأْ، وإنّما هي علامة التفخيم«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.
ومن الحكايات الأسطورية الّتي نسجتها النقشبنديّة: ما جاء في موسوعة أعدّتها طائفةٌ تركيةٌ من هذه النحلة يطلق عليهم اسم "The Modernist Naacshabandis" أى النقشبنديّين العصرانيّين. ورد في موضع من موسوعتهم »أنّ عبد الخالق الغجدوانيّ كان يصلّي الصلوات الخمس في المسجد الحرام، ويرجع في لمح البصر إلى مدينة بُخَارَى.« ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 5/344
يبدو أنّ عدّة مصطلحات فارسية أخرى قد دخلت في قاموس النقشبنديّة بجهود هذا الرجل. منها كلمة "خانقاه". يقول في ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ضمنَ ترجمة عبد الخالق الغجدوانيّ:(66/256)
»ثمّ سافر إلى الشام، وأقام بها مدّة أعوام، وبنى ثَمَّ خانقاه. وهي كلمة فارسية بسكون النون بمعنى الزاوية«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.
هذا على الرغم من كلّ ما أُسند إليه من حقّ وباطل فانّ عبد الخالق الغجدوانيّ لم تثبت عنه أدنى إشارة توهم الرابطة والختم الخواجكانيّة، وتعداد الذكر بالحصى، والقول بسلسلة الروحانيّين؛ عدا ما أحدث في الطريقة من مصطلحات فارسية ترمز إلى الأركان الّتي أقامها لأوّل مرة.
إلاّ أنّ إحداثَهُ لهذه المصطلحات الغريبة في لباسِ مناسكَ دينيةٍ يبرهن بكلّ وضوح على أنّ الطريقة النقشبنديّة قد أخذتْ من البداية تستقي من فلسفاتٍ ودياناتٍ وعقائدَ شتّى، وأنّها قد استمرت عَبْرَ تاريخها على هذا المنوال.
***
* الحلقة العاشرة من سلسلتهم.(66/257)
جاء في موسوعةٍ النقشبنديّين العصرانيّين، أنّ عارفًا الريوكريّ هو الحلقة العاشرة من سلسلتهم. إلاّ أنّ التصانيف المعتبرة لتراجم الرجال خاليةٌ عن هذا الاسم. وقد لا يتجاوز هذا الاسم عن شخصية خيالية. لأنّ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ الّذي أفرغ طاقته في جمع معلومات حول رجال السلسلة، حتّى هو بالذات عجز عن المعرفة بتاريخ ولادة هذا الرجل وتاريخ وفاته. فسطورُهُ شاهدةٌ على هذا العجز. لأنّه لَمّا استهلّ بخلع آيات الثناء والمدح على هذه الشخصية الغامضة فقال: »عارفٌ ظهر أنوارُ صادقِ فجرِهِ. فأشرقت بعد الغروب شمس المعارف في عصره« ثمّ قال »ولد سنة...« المصدر السابق ص/ 119. ولم يذكر شيئًا بعده؛ فلم يؤرّخ لولادته ولا لموته. كما تؤكّد كلماته الأخيرة على هذا الغموض؛ إذ يقول: »وله عدّة خلفاء. ولم أقف لهم على أسماء«. المصدر السابق ص/119. فكيف به أن يقف على مناقبه وأحواله وأطوار حياته بالتفصيل إذا صح له وجود حقيقي ما دام لم يقف حتّى على اسم من أسماء خلفائه! فعلى الرغم من هذه المناقضة والتعارض، ومن هذا العجز الّذي نلمسه من خلال كلمات الخانيّ وما تتوارى فيه هذه الشخصيةُ من غموض، يحاول المؤلّف ليجعل منه شخصيةً حقيقيةً فيقول: »أصله من بُخَارَى. وكان مستغرقًا في تحصيل علم الظاهر. يطلقون إسم "علم الظاهر " على العلوم المنبثقة من القرآن الكريم والسنّة النبوية. وإنما يستعملون هذه التسمية على سبيل الإستحقار لهذه العلوم الشريفة وأهلها. وتبرهن على هذا، تسميتهم للفقهاء والمحدّثين والمفسّرين بـ"علماء الرسوم". لأنّهم يدّعون علمًا آخر يسمّونه "علم الباطن" أو "العلم اللّدنّيّ". ولهذا تدخل الطريقة النقشبنديّة في عداد "الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ". فلقي الشيخ مرة في السوق، قد اشترى لحمًا وحمله من غرائب هذه الطريقة أنْ يُرْوىَ "أنّ شيخًا من شيوخهم خرج إلى السوق واشترى لحمًا وحمله..." لأنّ كلّ شيخٍ من شيوخهم(66/258)
اليوم يتمتّع بشهرة وجاه يحسده الملوك عليهما. وهذا إلى درجة: أنّه لو أراد أنْ يخرج بمثل هذه الحاجة إلى السوق لاصطدم بمقاومةٍ عنيفةٍ من رجال حاشيته المقربين. ولربما هدّدته بطانته دون أنْ يشعر بهذا النزاع أحدٌ من مريديه العاديّين فضلاً عن غيرهم. وذلك خوفًا على زوال جاهه وشهرته. لأنّ عظمة شيخهم ضمانٌ لمصالحهم، يوفّر لهم إمكانات يستحيل عليهم أنّ يحظوا شئًا منها بطرقٍ عاديةٍ. وهذا يجعلهم أن يحرصوا على محافظة هذه العظمة؛ بل وأن يبذلوا ما لديهم من كلّ وسيلةٍ لإشاعة صيته. لأنّ مصالحهم تنمو وتزداد كلما يتّسع نطاق هيمنته، وتتقلص بتقلّصه. أمّا إذا كان قُدَمَاؤُهم الأوّلون من أهل التواضع، كما ينقلون في تراجمهم؛ فقد أصبح المعاصرون منهم على خلاف أسلافهم بما يتمتّعون من الرخاء والعيش الرغيد؛ وما يملكون من ثروات طائلة، وأموال مدخّرة وقصور وحشم وخدم وشهرة يغتبطها الملوك. وهذا من أكبر البراهين على تناقضهم مع أنفسهم. فقال له أنا أحمل عنك. فأعطاه إيّاه. فلمّا وصل إلى بيته، التَفَتَ إليه وقال له تأتي بعد ساعةٍ حتّى آكل الطعام معك. فلما انصرف، لم يجد في قلبه ميلاً للعلم. بل وجد متصرّفًا لخدمة الشيخ. فعاد إليه في الوقت، فتقبّله. وقال له أنت ولدي. وعلّمه الطريق. فاشتغل به وترك الذهاب إلى أستاذه. فكان كلّما رآه أستاذه عنّفه وشتمه على ترك العلم، وأمره بالحضور إلى المدرسة وهو يُقبِل ولا يجيبه بشيءٍ. فاتّفق أنْ اقترف أستاذُهُ ذات ليلةٍ كبيرةً من الكبائر. فلمّا التقيا في النهار أطال لسانه عليه على العادة. فقال له: - يا سيّدي كنتَ في الليلة كذا وكذا من الفسق، والآن تمنعني عن طريق الحقّ. فخجل الأستاذ خجلاً عظيمًا؛ وعلم مراتب الصوفيّة وأحوالهم. وحضر عند الشيخ عبد الخالق في الحال وتاب وأخذ طريقته وصار من المقبولين لديه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة(66/259)
ص/118.
يحاول الخانيّ بهذه الكلمات ليؤكّد على أنّ هذا الرجل كان يعلم الغيب ويطّلع على عورات الناس في ظلمات الليل ويعلم ما يصنعون وهم في بيوتهم. غير أنّ الخانيّ غفل عمّا حطّ من شأن هذا الرجل عند ما قال: »فلمّا انصرف لم يجد في قلبه ميلاً للعلم (...) وترك الذهاب إلى أستاذه«. المصدر السابق. أى أعرض عن دراسة العلم وانهمك في تقليد الصوفيّة.
كانت هذه خلاصة من قصة الحلقة العاشرة من سلسلة النقشبنديّين على لسانهم بالذات!
***
* الحلقة الحادية عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
ورد في مصادرهم أنّ الحلقة الحادية عشرة من سلسلتهم هو محمود الإنجيرفغنويّ. و إنجيرفغنىَ قرية من ضواحي مدينة بُخَارَى.
يستهلّ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ترجمته بالمدائح كعادته في ترجمة سائر شيوخ الطريقة. وهذه صيغةٌ من كلماته المسجّعة:
»مرشد تفجّرت من بين أصابعه مياه الحكمة، أنعم الله تعالى بوجوده على قلوب هذه الأمّة (...) فهو أعظم نعمة وأعمّ رحمة«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/119.
ثم يقول »كان مع جلالة قدره يشتغل بصنعة البناء. فلما أقيم مقام سيّدنا الشيخ عارف، انقطع لهداية الخلق إلى الحق، وقد عدل إلى الذكر الجهريِّ منذ مرض أستاذه لمقتضى خُلُقِ الوقت والخلق«. المصدر السابق ص/ 119.
فعلى الرغم من هذا التنطّع الّذي استعرضه الخانيّ لينوّه بمدى تواضع هذا الشيخ الّذي »كان مع جلالة قدره يشتغل بصنعة البناء«؛ على الرغم من هذه المحاولة، لا يكاد يقتنع أيُّ ذي عقلٍ، أنّ الفغنويّ كانت له مكانة مرموقة، وأنّه كان من العلماء فترك مِنَصّة العلم واشتغل بصنعة البناء تواضعًا، أو لأيّ سبب معقول!(66/260)
أمّا الذكر الجهري الّذي يجهله كثير من الناس، فيناسب هنا وبهذا المقتضى أنْ يُسَلَّطَ الضوءُ على هذا النوع من الذكر بأنّه مخالف للكتاب والسنّة. لأنّهم يجتمعون في أوقات معيّنة، ويقيمون حلقاتٍ استعراضيةً في التكايا، يرفعون أصواتهم ويترنّمون بترديد لفظة الجلال أو كلمة التوحيد بإيقاعات ونغمات خاصّة؛ يُشرِفُ عليهم شيخهم أو من ينوب عنه، فيوجّههم بالانتقال من صيغة إلى أخرى، فيستمرّ الذكر على هذا المنوال مدّةً غير قصيرة؛ وقد يُغشىَ على بعضهم بدافع ثوران العاطفة، أو بسبب تراكم مادّة الأُكسيجين في الأوعية الدموية نتيجة السرعة في توالي الشهيق والزفير.
ينحدر الفغنويّ من أصلٍ تركيّ كسائر شيوخ هذه الطريقة الّذين برزوا في منطقة ماوراء النهر المعروفة بـ "بلاد تركستان".
قيل أنه عاش في مدينة بُخَارَى وضواحيها؛ ومات عام 715 من الهجرة. لم يؤرّخ له أحد من مشاهير المترجمين وعلماء التاريخ والأنساب. وإنّما وردت كلمات وجيزة حوله ضمنَ تراجم النقشبنديّين.
***
* الحلقة الثانية عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هو عليّ الرامتنيّ المعروف بـ "خواجه عزيزان". ولد في قرية رامتن الّتي هي على بُعد فرسخين من مدينة بُخَارَى. يدلّ ذلك على أنّه تركيّ الأصل. لم يقف الباحثون على تاريخ ولادته، ولا على معلومات واسعةٍ عن حياته؛ سوى ما قال بعضهم أنّه كان نسّاجًا، عاش مدةً طويلة في هذه المنطقة ومات فيها عام 721 أو 728 من الهجرة. قيل وافته المنية وهو ابن مائة وثلاثين سنةً.
اختلفت الآراءُ فيما إذا كان عليُّ الرامتني من أهل التصوّفِ أم من أهل العلمِ. يبدو هذا الخلاف من مقولةٍ شعريةٍ يردّدها النقشبنديّونَ، وهي قولهم: لَوْ لِحَالٍ لَمْ يَكُنْ فَضْلٌ عَلَى قَالٍ لَمَا * كَاَن أعْيَانُ بُخَارَى عَبْدَ نَسَّاجٍ عَلِي.(66/261)
وعلى الرغم من الغموض الّذي يواري حياة هذا الرجل، فقد وردت مقولات عنه مضيئة تبرهن على سلامة اعتقاده، وعسى أن تكون الرواية صحيحةً.
تُنسَبُ إليه رسالةٌ مسجّلةٌ تحت رقم 265/2 بمكتبة السليمانية - خزانة طاهر آغا - في إسطنبول. ربما ليس من كلامه جميع ما نُقِلَ عنه، ما دامت شخصيّته لا تتبلور بالدلائل القاطعة. كما يغلب أن يكون النقشبنديّون قد طمعوا في نسبته إلى قائمة الروحانيّين بسبب ما كان له من السمعة الحسنة في عهده مع عدم علاقته بهم؛ والله أعلم بالصواب.
هذا ولم يرد عنه أنّه تكلّم بأدنى شئٍ عن الرابطة، ولا عن الختم الخواجكانية، ولا عن تعداد الذكر بالحَصىَ، ولا عن السلسلة النقشبنديّة.
***
* الحلقة الثالثة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
كان للرّامتنيِّ خلفاء أربعة. اسم كلٍّ منهم محمّد. وكان أشهرهم محمّد بابا الّذي حلّ مكان شيخه وأصبح هو الحلقة الثالثة عشرة لهذه السلسلة على ما جاء في الحدائق الوردية لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ.
ولد ونشأ محمّد بابا في نفس المنطقة وهو أيضًا تركيّ الأصل، من سكّان قرية سمّاس الواقعة بقرب مدينة بُخَارَى. وهي على مسافة ثلاثة أميال منها، وعلى ميل واحد من قرية رَامِتَنْ الّتي كانت مقرّ شيخه. ولهذا يسمّى صاحب الترجمة محمدًا بابا السماسيّ.(66/262)
وكلمة "بابا" يعني "الأب" في اللّغة التركية. ومن عادة الأتراك أنّهم ينادون كبار السن بهذه الكلمة على سبيل الاحترام. كما يُطلقونها على بعض رجال الصوفيّة، وعلى بعض أصحاب القبور الّذين تقدّسُهم العامّة، ويتبرّك غالبُ الناس بأضرحتهم في تركيا؛ لاعتقادهم أنّهم أولياء الله وخاصّتُهُ. فيبدو أنّ الشيخ محمدًا، هذا الّذي يعدّه النثشبنديُّون الحلقةَ الثالثةَ عشرة لسلسلتهم هو أيضًا من أولئك الباباوات القدّيسين على غرار عادة النصارى الّذين ينادون أوليائهم بهذا العنوان مما يؤكّد أنّ الطريقة النقشبنديّة قد اقتبست أيضًا من المسيحية قليلاً أو كثيرً؛ وإن لم يكن ذلك بقدر ما استقت من البرهمية والبوذية من أشكال المناسك والتعبُّد.
هذا ومن الغريب أن عبد المجيد بن محمّد الخانيّ قد أراد أن يؤرّخ لولادة محمّد بابا ولوفاته، فقال، »ولد سنة...«؛ ثم قال »توفي سنة...« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/122-123. ولم يسجّل بعدهما شيئا، مما يدلّ على أنّه لم يتمكّن من الوقوف على تفاصيل حياته، وأنّ هذا الاسم قد يكون عَلَمًا على شخصية خيالية لا حقيقةَ لها. لأنّ وثائقهم وحتّى كتاب الرشحات الّذي هو أقدم مصادر النقشبنديّين لا يشتمل على شئٍ يستحق الذكر من أخباره. كما لم يرد عنه أيضًا أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّة، أو تكلّم بشيءٍ عن أشكال عباداتهم كالرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجه، وتعداد ألفاظ الورد بالحصى. قيل توفّي السماسيّ عام 755 من الهجرة بالقرية نفسها.
***
* الحلقة الرابعة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.(66/263)
ورد فيما كتبه النقشبنديّون أنّ الحلقة الرابعة عشرة من سلسلتهم هو رجلٌ اسمه كُلال بن حمزة. ويزعمون أنّه ينحدر من سلالة الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ وأنّ أباه حمزة هو الّذي غادر موطنَه الأصليَّ؛ إذ كان مقيمًا بالمدينة المنوّرة؛ فقصد بلادَ ماوراء النهر، حتّى وصل منطقةَ بُخَارَى، فأقام هناك بقريةٍ اسمها أفْشَنَهْ.
إلاّ أنّ الغموض الّذي يواري حياة رجال هذه السلسلة في تلك الحقبة، يُخَيِّمُ على هذه الأسرة أيضًا؛ فلم تكد تتبلور صورته. فالّذي يتناقله أتباعُ هذه الطائفة عن كُلال بن حمزة، ليس إلاّ لفيفًا من الأساطير. ومن جملة هذه الأقاصيص الّتي وردت في موسوعةٍ لهم باللّغة التركية، حكاية غريبة حول تسمية هذا الشيخ؛ وهي: » أنّ رجلاً من الصالحين نزل ضيفًا عند أبيه حمزة، إذ هو في بطن أمه. فبشّره بغلام ينال شهرةً عظيمةً، وأوصاه أن يسمّيه كُلالاً«.
غير أنّ هذه الكلمة عجميّة تقابل "صانع القُحُف الخزفية" في اللّغة العربية. وهذا الأمر يثير الشكوك في جلّ ما نُقِلَ عن صاحب الترجمة. منها، أنّه اشتغل بصناعة القِحْفِ. وهذا استدلال باطل. لأنّه سُمّيَ بهذا الاسم وهو وليد لا يعلم شيئا من هذه الدنيا؛ لا من قحوفها ولا من تُحَفِهَا. ومنها، أنّ شيوخ النقشبنديّة يأنفون أن يمارسوا حرفةً من حرف العامّة استنكافًا. وذلك للحفاظ على مكانتهم، وشهرتهم، وهيبتهم بين الناس.
إنّ النقشبنديّين إنّما يقصدون بمثل هذه الأقصوصة أن يروّجوا الاعتقاد بين الناس بعلم الغيب لساداتهم، فلا يكادون ينفكّون من هذه النزعة كأنّهم جبلوا على ذلك. ويتورّطون هكذا في تناقضاتٍ كثيرة. منها أنَّ مفهوم الكرامة تكاد تنحصر عندهم في خرق العادة. كالعلم بالغيب، وطيّ الزمان والمكان، والهيمنة على نظام الكون.(66/264)
ينسب النقشبنديّون صفة "الأمير" إلى كُلال بن حمزة في مصادرهم. ولا نجد لهذا الوصف مناسبةً مُلحّةً. إذ لم يسبق أنّه تولّى إمارةً أو مهمّةً سياسيةً أو إداريةً. سوى أنّه كان في شبابه »اشتغل بفنّ المصارعة فكان يجتمع عليه أرباب الشجاعة وأولو المعاركة والنظارة. فاتّفق ذات يوم أنّ رجلاً من الواقفين خطر بباله أنّ هذا سيّدٌ شريفٌ. فكيف يشتغل بالمصارعة، ويسلك سبيل أهل البطالة! فلم يلبث أنْ غلب عليه النوم؛ فرأى في منامه أنّ القيامة قد قامت، وأنّه وقع في وحلٍ عظيمٍ؛ فغرق فيه إلى صدره، واضطرب اضطرابًا عظيمًا؛ وفزع فزعًا كبيرًا. فأتى إليه السيّد الأمير وأنقذه من هذه الورطة. ثمّ أفاق؛ فالْتَفَتَ إليه السيّدُ الأميرُ وقال له:«
»- أرأيتَ همّتي وعلمتَ ما معنى المصارعة؟! « عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/123.
هكذا قد الْتَفَّتْ حول الأمير كُلال بن حمزة أحابيلُ من غرائب الحكايات والأقاويل، ولا يمكن تمييز صحيحها من باطلها.
وقد تكون تسميته بـ »الأمير" بسبب العلاقات الّتي جرت بينه وبين تيمورلنك. إذ ورد في موسوعة النقشبنديّين "أن الأمير كُلالَ بنَ حمزةَ، بعث رسولَه الشيخ منصورًا إلى الملك تيمورلنك، يحرّضه على استيلاء بلاد خوارزم. فامتثل تيمور لأمره فورًا؛ فانطلق زاحفًا بجيشه على منطقة خوارزم. ونجا بذلك من خطّةِ اغتيالٍ كان قد دبّرها أعداؤه. إذ أنّهم وصلوا إلى معسكره وقد غادره. فلم يتمكّنوا منه«. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi, vol.11 Pg.28.
يستدلّ النقشبنديّون الأتراك بهذه القصّة أنّ الملك تيمور عرف أنّه كانت نجاته بفضل كُلال بن حمزة، فيعدّونها من جملة كراماته. ويزعمون أنّ الملك تيمور قد أراد أن ينصبه أميرًا؛ فلم يوافقه استعفافًا وزهدًا في الدنيا وحطامها.(66/265)
وعلى الرغم من كلّ هذه الحكايات، فإنّ كُلالَ بنَ حمزةَ لم يرد عنه أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّين؛ أو تكلّم عن آدابهم ومصطلحاتهم؛ لم يرد عنه ذلك حتّى في الوثائق الّتي خلّفها شيوخ هذه الطائفة.
***
* الحلقة الخامسة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
إنّ هذه الحلقة يمثّلها شخص يعظّمه النقشبنديّون، ويصفونه بأسمى درجات الكمال؛ ويعتقدون فيه أنّه ترقّى إلى أعلى مدارج الولاية وكاد أن يكون نبيًّا! وينسبون إليه طريقتهم ويتسابقون في الثناء عليه.
هذا الرجل هو محمّد بهاء الدين بن محمّد بن محمّد البُخَاريّ المعروف بين هذه الجماعة بلقب "شاه نقشبند" أو "خواجه نقشبند".
يتفنّن عبد المجيد الخانيّ في مدحه وتعظيمه بعباراته المسجّعة، فيقول:
»بحر من العرفان لا ساحل له؛ نسجت أمواج أمواه العلوم الربّانيّة حلله؛ وفاض على العالمين بحر برّه؛ فأروى بأرواح إمداده جميع الكون بحره وبرّه«.
يسترسل المؤلف على هذا النمط إلى أن يقول:
»إرتضع ثدي التصرّفات الغوثية وهو في المهد صبيًّا؛ وتضلّع من رحيق مختوم العلوم الختميّة بأكواب الإرثية؛ فلو لم تُختَم النبوّةُ لكان نبيًّا«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 125.
إنّ هذا الأسلوب الغريب المتكلّف، لغنيٌّ عن أيّ تفسير أو تعليق يُراد به تعريفُ ما يعتقده الشخص النقشبنديّ في هذا الرجل خاصّة، وفي جميع مشائخه عامّةً. وهذا من أقوى البراهين في الوقت ذاته على موقف النقشبنديّين من مفهوم الدين والإيمان والإسلام.(66/266)
على الرغم من أنّ النقشبنديّين قد بالغوا في وصفه ومدحه وكراماته ومناقبه بأقصى جهودهم، فانّ ترجمة هذا الرجل لم يرد في المصادر المعتبرة وكتب ثقاة الباحثين والمؤرّخين. وهذا يثير الشكوك في صحّة ما نُقِلَ حول شخصيته من كلّ الوجوه. وإنّما جميع ما نُقِلَ إلينا عن حياته من الأقاويل والأقاصيص فهو مقتَبَسٌ من كتاب الرشحات لرجلٍ حشويٍّ منهم لم يعاصره.
لا يخفى أنّ مشاهير الرجال من سائر طبقات البشر على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ومُعْتَقَداتهم وثقافاتهم، قد وردت أسماؤهم في كتب الوفيات والتراجم والأنساب والتواريخ. ولم يخلُ عصرٌ ممن أرّخ لأصحاب الشهرة مهما كانت اتجاهاتهم ومُعتقداتهم ومَواقفهم. لذا من الغريب أن يضيق تاريخُ البشر الّذي قد حوى آلافًا مؤلَّفةً من أسماء الأنبياء والعلماء والأُدباء والفاتحين والرواد والمصلحين والعباقرة والثوّار والطغاة؛ وحتّى المشهورين من أهل السفهِ والمجون والخلاعة والبخل والتطفّلِ؛ من الغريب جدًّا أن يضيق تاريخ البشر عن استيعاب مناقب هذا الرجل الّذي بذل النقشبنديّون ما عندهم من طاقات وجهود في الحديث عن عظمته وجلالة قدره. وذلك لإذاعة صيته وإشاعة اسمه وشهرته.
فقد قال عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في علوّ منزلته وشأنه ومكانته:
»فأعظم به من مجدّدٍ خفق قلب الخافقين فرحًا به؛ وأصبحت أكاسرة الملوك وقوفًا في رحابه؛ وملأ صيت إرشاده الملا؛ فلا وربّك لا يبقى أحد إلاّ استمدّ من إمداده حتّى وحوش الفَلا. فهو الغوث الأعظم، وعقد جيد المعارف الأنظم، انزاحت بأنوار هدايته أعيان الأغيار، وعادت الأشرار ببركة أسراره من أخيار الأعيان وأعيان الخيار« المصدر السابق.(66/267)
إلى هذه الدرجة يبالغ الخانيّ في إجلاله، ويتكلّف بهذا الأسلوب المزخرف لغرضٍ لا سند له في إثباته، إذ لا تقوم دعايته هذه على أساس من الحقيقة؛ ولا أصل لما يدّعيه بملءِ شدقيه؛ ولا حتّى لكلمةٍ من مقاله. لأن خواجه نقشبند، لا ذكر له في طبقات رجال العلم. ويُسْتَبْعَدُ أنْ يكون قد اشتهر في حياته. ولربما كان درويشًا مسكينًا يتصدّق عليه الناس؛ فعاش زمنًا في تلك المناطقِ بين قبائل الأتراك يتكفّف من هذا وذاك؛ ثمّ راجت حول اسمه حكاياتٌ نسجها القصّاصون من أمثال الأسرة الخانيّة للوصول إلى مآربهم من جمع المال والثروات، وازدياد الشهرة والجاه، واستغلال الضمائر؛ واستمالة القلوب؛ فتطوّرت الأقاويل؛ وتضخّمت الروايات مع الزمان؛ إلى أن تكوّنت من هذه الحكايات قاعدةٌ بُنِيَ عليها اختلاقُ شخصياتٍ أسطوريةٍ وأشكالٌ من عقائدَ غريبةٍ، ومناسكَ متباينةٍ تختلف عن شعائر الإسلام، سُمِّيَتْ أخيرًا بـ "الطريقة النقشبنديّة". كما يعترف معتنقوها بالذات أنّ هذه التسميةّ وقعت بعد محمّد البُخَاريّ المعروف بـ"شاه نقشبند". راجع المصادر التالية:
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 22.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة صز 12.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 8-9.
إنّ شخصية محمّد بهاء الدين البُخَاريّ أيضًا من خلال ما ورد عنه بقلم أتباعه لهي من أقوى الدلائل على مدى بُعد هذه الطريقة عن حدود الإسلام.
وربما كان خواجه نقشبند رجلاً تقيًا صالحًا ولكنّ أتباعه اختلقوا له صورة غير الّتي كان عليها، فأشاعوها بين جموع البسطاء لإكثار العدد - وهو مطلب كلّ منظّمة -؛ فظهرت شخصيته في صفات رجلٍ مشعوذٍ، مبتدعٍ ومتوغّلٍ في أنواع الضلالات. إذ ينقل عنه الخانيّ أنّه قال:(66/268)
»أمرني (أي أمرني شيخي) أن أشتغل بخدمةِ كلاب هذه الحضرة بالصدق والخضوع، وأطلب منهم الإمداد. وقال لي إنّك ستصل إلى كلب منهم تنال بخدمته سعادةً عظيمةً، فاغتنمتُ نعمة هذه الخدمة ولم آل جهدًا بأدائها حسب إشارته، ورغبةً ببشارته؛ حتّى وصلتُ مرّةً إلى كلبٍ، فحصل لي من لقائه أعظم حال، فوقفتُ بين يديه واستولى علىّ بكاءٌ شديدٌ، فاستلقى في الحال على ظهره، ورفع قوائمه الأربع نحو السماء. فسمعتُ له صوتًا حزينًا، وتأوّهًا وحنينًا؛ فرفعتُ يدي تواضعًا وانكسارًا، وجعلتُ أقول آمين، حتّى سكت وانقلب«. المصدر السابق ص/ 129، 130.
إنّ هذه القصة إذا صحّتْ عنه فلا تدلّ إلا على ضلالته وفرط شقاوته وخروجه عن جادّة الحق. لأنّ موقفه من الكلب بالصورة المذكورة لا تدلّ على امتثاله بما ورد في السنّة النبوية من الشفقة على خلق الله؛ بل كان موقفَ احترامٍ وتوقيرٍ للكلب واستمدادٍ منه. وهذا لا يتّفق مع روح الإسلام. بل هو من تقاليد مجوس الهند. فانّهم يعبدون الدوابّ. ولذلك قد حرّموا أكل اللحم على أنفسهم. فاقتصر النقشبنديّون الأوّلون على تعظيم الكلاب أسوة بهم دون تحريم اللحم. إلاّ أنّ المتأخرين من هذه الطائفة قد تصرّفوا في تعاليم أسلافهم فغيّروا منها الكثير
أمّا الإمداد والاستمداد، فإنّهما من جملة معتقداتهم الهامة وحلقة من الحلقات الأساسية لضوابط الإيمان في الديانة النقشبنديّة. يتمثل هذا المبدأ الروحانيُّ في مفهومهم بوجود قدرةٍ إلهيةٍ فائقةٍ يمتاز بها أولياؤهم؛ يفرّجون بها عن المغمومين والمكروبين والمقهورين بنوائب الدهر من مريديهم؛ ويتصرّفون بها في حكم الله وملكه - على حدّ اعتقادهم -.(66/269)
إذًا فكيف برجلٍ يطلب الإمداد من كلبٍ وقد يراه وليًّا من أولياء الله نائبًّا عنه بالتصرّف؛ أو حتّى مخلوقًا في منزلة الإنسان الّذي كرّمه الله وفضّله على جميع الخلائق، وأنعم عليه بالإيمان والعلم والعمل الصالح؛ فكيف برجلٍ هذه حاله حتّى يستحقّ الثناء أو يدخل في عداد المؤمنين؟!
ثم ينقل الخانيّ في موضع آخر من ترجمته أنّه »دعاه بعضُ أصحابه في بُخَارَى. فلمّا أُذّن للمغرب قال للمولى نجم الدين دادَروُكْ:
- أتتمثل كلّ ما آمرك؟
قال: نعم.
قال: فان أمرتُكَ بالسرقة تفعلها؟
قال: لا.
قال: ولم؟!
قال: لأنّ حقوق الله تكفّرها التوبة، وهذه من حقوق العباد.
فقال: إن لم تتمثّل أمرَنا فلا تصحبنا!
ففزع المولى نجم الدين فزعًا شديدًا، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأظهر التوبةَ والندم، وعزم على أن لا يعصيه أمرًا«. المصدر السابق ص/ 139.
هذا هو "الغوث الأعظم" عند النقشبنديّين؛ »فلولم تُخْتَمِ النبُوَّةُ لكان نبيًّأ« (في اعتقادهم). يفرض على مريده أن لا يعصيه أمرًا، وإن أمره بالسرقة! وهنا يتبيّن بكمال الوضوح أنّ شيخ الطريقة عند هذه الطائفة »هو وكيل الله ونائبه في ملكه«؛ له أن يتصرّف بما يشاء، وله أن يُحلَّ الحرام ويُحرِّم الحلال. لا يشكّون من ذلك قيد نملةٍ وإن كتموه ظاهرًا. فانّ التقيّةَ عند خاصّتهم أشد من تقية الرافضة!.(66/270)
ولا يُسْتَغرَبُ كما لو يتأوّلَ النقشبنديّون مفهومَ السرقة في هذه القصّة، فيقولون قيلاً: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا صدر منه أن تصدّى بجماعةٍ من أصحابه للاستيلاء على قافلة أبي سفيان التجارية. وذلك محاولة لصوصية من قبيل السرقة لولا أن كانت بوحي من الله تصديقًا لقوله تعالى {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم...} سورة الأنفال/7 إذن فهي بادرة تحوّلت من عملية غصب إلى عمليةٍ جهاديةٍ؛ أى من معصيةٍ إلى طاعةٍ بمجرد توجيه من الله! فالشيوخ أيضًا لا يتصرّفون إلاّ بتوجيه من الله.
ليس من الغريب أصلاً لو تصدّى أحدهم بمثل هذا الدفاع المفتَرَضِ. إذ أنّ باب التأويل عندهم مفتوح على مصراعيه، وأنّ تأويلاتهم لا تقلّ عن هذه الفرضية الواهية بطلانًا.
ورد في مصادر النقشبنديّة أنّ أركان طريقتهم الثمانية الّتي كان قد وضعها عبد الخالق الغجدوانيّ، أضاف إليها خواجه نقشبند ثلاثةً أخرى فغدت بذلك أحد عشر ركنًا.
كانت هذه خلاصةٌ لما سجّله النقشبنديّون حول هذا الرجل وما اعتقدوا فيه وما قالوا عنه بروايات أتباعه. فالذنب على من نقل واعتقد، إذا كان هو بريئًا عما نُسب إليه {إِنّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيِمَا كَانُوا فيَهِ يَخْتَلِفوُنَ.} سورة السجدة/25.(66/271)
أمّا وضعه الاجتماعيُّ فقد ورد في موسوعةٍ للنقشبنديّن أنه من أبناء الأسرة الهاشمية؛ وأنّه يتّصل نسبُهُ بالحسين بن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنهما. فقد يكون هذا من أهمّ الأسباب الّتي استغلها دعاةُ النقشبنديّة في نشر مذهبهم بين الناس. سواء أكانت هذه النسبةُ صحيحةً أم لا، فانّ كثيرًا من الناس طالما اتخذوا الإنتسابَ إلى البيت الهاشميِّ وسيلةً لاستغلال ضمائر الناس في تحقيق المصالح عَبْرَ القرون؛ وخاصّةً في المناطق الّتي عمّ فيها الجهل والبدع وانتشر فيها المغرضون وأربابُ الحِيَلِ يدَّعون الإنتسابَ إلى الأسرة الهاشمية لاستمالة قلوب البُسطاءِ والرعاع. يبدو أنّ نزعة الإنتساب إلى الهاشميّين قد شاعت بعد أن عُرِفتْ هذه الأسرة بالسيادة الخاصّةِ وأصبح الإعتزاز بالآباء المشهورين من العادة. ويشير إلى ذلك ما ورد في مقدمة الناشر للكتاب المعروف »أنساب الأشراف" تأليف أحمد بن يحيى البلاذري أنه »يطلق الشريف في اللّغة على الرجل الماجد، أو من كان كريم الآباء. ثم أُطلِقَ لقب الشريف على من كان من آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاملاً العلويّين والجعفريّين والعباسيّين. ومن الناس مَنْ قصّره على ذرية الحسن والحسين على أنّ التخصيصَ بآل البيت وبخاصّةٍ نسل علي، لم يشتهر إلاّ في القرن الرابع الهجريِّ؛ ويغلب أنه كان في أواخره«.
فما أكثر الأدعياء من أمثال ميمون بن ديصان القدّاح اليهوديّ الّذي كان يدّعي أنه هاشميٌّ، فما أكثر أمثالُهُ بين الأعجام وفي البلاد الّتي انتشرت فيها الطرقُ الصوفيّةُ، وازدادت فيها نشاطاتُ السحرة والمشعوذين((66/272)
أمّا جميع ما نُقل إلينا من مناقب خواجه نقشبند وأقوالِهِ، فانه لا يخلو عن الشكّ في النسبة إليه. ولم يثبت منه شئٌ بالدليل القاطع أنّه من كلامه، مما يغلب أنّه كان أمّيًّا. يدلّ على ذلك قيامه بخدمة أميرٍ اسمه خليل آتا مدةَ ستِّ سنين بعيدًا عن العلم وأهله؛ حتّى آل ملكُهُ إلى الزوال.
أمّا نسبته إلى البيت الهاشميّ، فمشكوك فيه أيضًا. لأنّ أبناء هذه الأسرة، قلّ من يجهل منهم اللّغة العربيةَ. بينما بَلَغَنَا »أنّ جدَّتَهُ قد بشّرته بنصيبٍ يناله من شيوخ التُّرْكِ«، حين فسّرت له ما قصّ عليها من منامه. وهذا من قبيل الاعتزاز بالعشيرة. ولا يعتز الإنسان إلاّ بقومه؛ كما ينطبق نفس الأمر على شيخه كُلال بن حمزة أيضًا.
وهنا تعترضنا عَبْرَ هذا التحليل موجةٌ من التعارض بين مواقف النقشبنديّين وأقوالهم ورواياتهم، سوف نتطرّق إليها في بابها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
هذا، ومع أنّ النقشبنديّين لم يتوانوا عن نقلِ كثيرٍ من حكاياتٍ أسطوريةٍ بعنوان الكرامات ضمنَ ترجمة خواجه محمّد البُخَاريّ، ولكنهم قد أمسكوا عن تسجيل أدنى إشارةٍ تدل على أنّه تكلّم عن الرابطة، أو الختم الخواجكانية، أو السلسلة، أو عدِّ ألفاظِ الوردِ بالحُصِيِّ, إلاّ ما سبق إليه الكلام أنّ المصطلحات الثلاثة الّتي أضيفت إلى أركان الطريقة النقشبنديّة، هو الّذي وضعها على ما ورد في مصادرهم. وهي "الوقوف الزمانيُّ" و"الوقوف العدديُّ" و "الوقوف القلبيُّ" راجع الفصل الثاني/ آداب الطريقة النقشبنديّة، باب "المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة وأسرارها".
***
* الحلقة السادسة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
جاء فيما كتبه النقشبنديّون، أنّ هذه الحلقة يمثّلها رجل خوارزميٌّ من سكّان بُخَاريّ أسمه علاء الدين العطّار.(66/273)
يغلب أنه تركيّ الأصل كسائر الروحانيّين الّذين ظهروا في هذه المنطقة. إلاّ أنّ حياته وشخصيته الحقيقية غير مذكورة في تراجم الرجال. وعلى الرغم مما يزعمه المتأخرون من شيوخ هذه الطائفة أنّه »اختار التجرّدَ لتحصيل العلوم في مدارس بُخَارَى حتّى نبغ في جميع الفنون وبلغ منها فوق ما تتعلّق به الظنون...«؛ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 144. إلاّ أنّ هذه الرواية لا سند لها، كما تبدو في الوقت ذاته أنّها بعيدة عن الحقيقة. لأنّ علاء الدين العطّار، لو كان له أقلّ نصيب من العلم لظهرت ثمراته، وَلَوَصَلَتْ إلينا ضمنَ إنتاجِ مَنْ عاصره من العلماء كالشريف الجرجانيِّ الّذي نقل عنه نور الدين عبد الرحمن الجامي أنّه قال:
»لمّا اتصلتُ بالشيخ زين الدين علي كُلال، خلصتُ من الرفض؛ و لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين العطّار عرفتُ الله تعالى«. المصدر السابق ص/150.
وقد يسأل سائل: بأنّ عالمًا مثل الجرجانيِّ يعترف بقدر هذا الرجل، ويقول » لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين العطّار عرفتُ الله«، مع أنّ هذه الكلمة لا يجرؤُ على التّفوّهِ بها إلاّ الزنادقةُ؛ لأنّهم يعنون بها التعرّف إلى ذات الله؛ فكيف يجوز لنا أن لا نشكّ في أمر الجرجانيِّ؟(66/274)
قلتُ: أقرّ الجرجانيُّ أوّلاً على نفسه بهذه الكلمات الواردة عنه بالذات أنّه إنّما خلص من الرفض لمّا اتّصل بالشيخ زين الدين عليِ كُلال. ومعنى ذلك أن غزارةَ علمه - الّتي تشهد عليها تصانيفُهُ القيمةُ -، خيرالدين زركلي، الأعلام، ج. 5/ص/ 7. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م. لم تُغن عنه شيئّا، فلم تخلص به من ضلالة الرفض، ولكنّه خلص بعد ما اتّصل بالشيخ زين الدين! لقد تظهر عقليةُ الجرجانيِّ وطبيعتُهُ العاطفيةُ بكمال الوضوح من خلال هذا التحليل. فهو كما قيل »علمه أكثر من عقله« فكيف إذن نضعه موضعَ ثقةٍ وهو يأتي باعتراف أشد وبالاً عليه إذ يقول »لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين عرفتُ الله تعالى. وقد مرّ أنْ شَرَحْنَا مفهومَ "المعرفة بالله" في عقيدة الصوفيّة. راجع مفهوم "المعرفة بالله" في باب "مفاهيم ومصطلحات ومعتقدات أخرى عند هذه الطائفة" من الفصل الثالث.
كان علاء الدين العطّار من أبناء رجلً غنيٍّ في مدينة بُخَارَى. »لمّا توفّي والده ترك ثلاثة أنجال. خرج من ميراثه لأخويه.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 150. واختار أن يدخل غمار التصوّف بإيعاز من محمّد بهاء الدين البُخَاريّ. وأعرض عن ملازمة العلم كَعَدِيدٍ من رجال هذه السلسلة.(66/275)
طالما بذل النقشبنديّون جهودَهم ليحشدوا من أخبار قدمائهم في طيّات ما قد صنّفوه. ولكنهم لم يتوصلوا إلى معرفةٍ تفصيليةٍ عن حياةِ عددٍ كبيرٍ منهم. لأنّ شيوخهم الّذين عاشوا قبل أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، في الحقيقة لم يكونوا من ذوي الجاه والشهرة في العهد والمنطقة اللّتين قضوا فيهما حياتهم. بل كل ما نُسب إليهم من الفضل والكرامة والعلم والزهد، إنّما افترضه واختلقه ذوو الأهواء من أخلافهم الّذين طمعوا في الاشتهار بعد ما علموا أنهم لن يتمكّنوا من ذلك إلاّ بالانتساب إلى من يُوَقِّرُهُ الناسُ. فنسجوا حكاياتٍ أسطوريةً حول أسماء بعض الدراويش الّذين كانوا قد ذهبوا مع الريح، ولم يعلم أحد أين وقعت عظامهم ورفاتهم. ثم افترضوا لهم أضرحةً فبنوا علها قِبَابًا ضخمةً هابت منها الناس وعظَّمَتْهَا وقدَّسَتْهَا.
ومن جملة هؤلاء الدراويش، علاء الدين العطّار. فانّ الحكايات المنسوجة حوله، لا يتسلى بها العاقل ولا يقتنع بها العالم. ومع ذلك لم يرد ضمنَ هذه الترجمة أدنى إشارة إلى أنّ علاء الدين العطّار قد تعبّد على أسلوبهم أو تكلّم عن مصطلحالتهم وتعاليمهم وآدابهم.
***
* الحلقة السابعة عشرة من سلسلتهم.
هذه الحلقة يمثّلها رجل اسمه يعقوب بن عثمان بن محمود الجرخيّ.
ولد الجرخيّ بقرب غزنين. وهي مدينة من مدن أفغانستان. تقع بين قندهار وكابول. وتوفّي في قرية هلفتو في تلك المناطق عام 851. من الهجرة. وأمّا تاريخ ولادته، فلم يتمكّن أحد من إثباته حتّى النقشبنديّون أنفسهم. إلاّ أنّ من بين رجال هذه الطائفة في تلك الحقبة لعلّ أبرز شخصية جرى قلمُ البحث في أحواله هي شخصية يعقوب الجرخيّ لأسباب هامّةٍ.
منها، قيل إنّه درس وتعلّم »ورحل لتحصيل العلوم إلى هراة، ثمّ إلى مصر المحروسة، وتلقّى العلوم الشرعية والعقلية عن علمائها. ومن أعظمهم علاّمة عصره الشيخ شهاب الدين الشيرواني.« المصدر السابق ص/155.(66/276)
هكذا ينقل عبد المجيد الخانيّ في ترجمته. ومهما كانت هذه الأقوال بعيده الاحتمال فقد نُسبت إلى يعقوب الجرخيّ رسالة عنوانها "الرسالة الأُنسية"، تدلّ على أنّه كان يحسن القراءة والكتابة ولو بالفارسيّة، - إذا صحّ إسنادها إليه -. لأنّه لو صحّ ذلك، لكان ورد اسمه ضمنَ تراجم الرجال في تصانيف الباحثين غير النقشبنديّين. وعلى اقل تقدير، فانّ أوّل باحثٍ منهم عليّ بن الحسين الواعظ قد اهتمّ بهذا الرجل، وأولاه شأنًا في كتابه "الرشحات" وهو أقدم مصدر يعتمد عليه النقشبنديّون.
جاءت في كشف الظنون عباراتٌ يقول فيها المصنّف »رشحات عين الحياة - فارسيّ - في مناقبِ النقشبنديّةِ ورسومِ طريقتِهِمْ ضمناً. لحسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ البيهقيّ المشتهر بالصفيِّ. قال "ولمّا شُرّفْتُ بصحبة الشيخ ناصر الدين خواجه عبيد الله مرة سنة 889 (تسع وثمانين وثمانمائة)، وأخرى في سنة 893 (ثلاث وتسعين وثمانمائة)، وكتبتُ ما استفدتُ في مجلسه الشريف، أردتُ أن أجمع في ضمن مناقبهم العلية."« مصطفى بن عبد الله (حاجي خليفه)، كشف الظنون 1/903. وزارة المعارف. تركيا-1941.
ثبت بهذا أنّ باحثًا مؤرّخًا يخبر أنه اجتمع بشيخٍ من قدماء هذه الطائفة مرّتين. وهو عبيد الله الأحرار الّذي حلّ مقام يعقوب الجرخيّ شيخًا للطائفة النقشبنديّة. وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. يدلّ هذا على شأن الجرخيّ في الوقت ذاته.
ومن الأسباب الّتي تُثير الاهتمامَ بهذه الشخصية، هو أنه معاصرٌ لخواجه نقشبند - الّذي تُنسَب إليه الطريقة النقشبنديّة-؛ وأنه صاحبه وتلقّى منه آدابَ هذه الطريقة.
فانّ اعتقادَه العميقَ بأستاذ أستاذه خواجه نقشبند، يبدو من خلال ما ينقل عنه بالذات، فيقول:(66/277)
»أقبل عليَّ بوجهه الكريم؛ فوجدتُ له هيبةً في نفسي وعظمةً في قلبي، وجلالةً في نظري حتّى لم أطق الكلامَ في حضوره. فقال لي قُدّس سرُّهُ؛ ورد في الأخبار: العلم علمان؛ علم القلب وذلك العلم النافع، عَلِمَهُ الأنبياءُ والمرسلون؛ وعلم اللسان، وذلك حجة الله على خلقه. وأرجو الله تعالى أن يكون لك نصيب من علم الباطن. ثمّ قال ورد في الخبر إذا جالستم أهلَ الصدق فجالسوهم بالصدق فانّهم جواسيس القلوب يدخلونها وينظرون إلى قلوبكم.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 155.
إنّ نسبة هذه العبارات إلى خواجه نقشبند، وإن كانت لا تقوم على برهان قاطع، ولكنها تدل على معرفةٍ دقيقة للنّاقل، على أنه يمتاز بمهارة في فنون الأدب والبلاغة والإنشاء، - طبعًا إذا كانت هذه الترجمة العربية مطابقةً للنّص الفارسي من كلام يعقوب الجرخيّ –
ولعلّ أهمّ الأسباب الّتي تُثير الاهتمامَ بشخصية يعقوب الجرخيّ، هو أنه أوّل من نطق بكلمة "الرابطة" وإنْ ظلّت الرابطة محصورةً في نطاق تصوّرٍ محدودٍ في عهده.
كلّ هذه المُعطيات نستدلّ بها على أنّ لهذا الرجل دورًا هامًّا في بناء هذه الطريقة الصوفيّة. لأنّه قد رأى في نفسه حقَّ التصرُّفِ، فأضاف إليها مبدءًا أصبح فيما بعد من أهمّ أركان العقيدة النقشبندية.
***
* الحلقة الثامنة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة لا تقلّ شأنًا عن الحلقة السابقة للسلسلة بدءًا من خواجه نقشبند. يمثّلها رجل اسمه ناصر الدين عبيد الله الأحرار بن محمود بن شهاب الدين.(66/278)
ولد خواجه أحرار عام 806 من الهجرة الموافق 1403 من الميلاد بمدينة طاشكند في غضون الحروب الّتي نشبت بين تيمورلنك وبين أبي يزيد يلدرم بن مراد العثمانيّ. وتوفي عام 895 هـ. الموافق 1490م. بمدينة سمرقند. وهو تركيّ الأصل كسائر رجال السلسلة الّذين ظهروا في تلك المنطقة. ويزعم بعضهم أنّ أمّه تتصل بعُمر بن الخطاب نسبًا.
يمتاز الأحرار بمكانته الاجتماعية وقدرته المالية على الرغم من إعراضه عن الدراسة والتعلم. جاء في ترجمته أنّه تَرَبَّى في حجر خاله الشيخ إبراهيم الشاشي. ويقول الأحرار عن خاله هذا:
»لم يألُ جهدًا في أن أتعلّم حتّى أرسلني من طاشكند إلى سمرقند رجاء ذلك. فكنتُ كلما ذهبتُ إلى الدرس أصابني مرض يمنعني عنه. فذكرتُ له حالي، وإنّك إن كلّفتني بالتحصيل ربما أموت. فتوقّفَ، وقال يا ولدي أنا لم أعلم حقيقة حالك، فاذهب وافعل ما تريد. وأردتُ أن أقرأ يومًا فرمدتْ عيناي؛ ولم أزل كذلك خمسة وأربعين يومًا. فحينئذ تركتُ، ولم أصل في القراءة إلاّ إلى المصباح في النحو.« المصدر السابق ص/157.؛ علي بن الحسين الواظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/ 424. ولعلّ الكتاب المذكور هو المصباح للإمام ناصر الدين عبد السيد المطرزي المتوفى سنة 610 هـ.
بهذا نهتدي إلى أنّ شيوخ النقشبنديّة قد ألمّوا بالدراسة والتعلّم بدءًا من عبيد الله الأحرار على الرغم من احتقارهم للعلوم العقلية واكتفائهم بقليل منها. ورد في مكتوبات الربّانيّ أنّ له رسالة فارسية بعنوان "الفقرات" أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المكتوبات. 187.
يمتاز عبيد الله الأحرار خاصّة بعلاقاته مع ملوك عصره، وبتداخُله في مناسباتهم وخلافاتهم. يقول في ذلك عن نفسه:(66/279)
»لو أنِّي تصدّرتُ للمشيخة ما أبقيتُ لأحد من مشائخ العصر مريدًا؛ ولكنّ الله أمرني بأمر آخر. وهو إنقاذ المسلمين من شرّ الظلمة وأيدي المخالفين. ولهذا خالطتُ السلاطين ابتغاء تسخيرهم لنفع المسلمين.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 166.
حقًا ليس للإنكار على هذا القول من سبيل، لولا قال »ولكن الله أمرني«. إلاّ أنّ الأحرار لم يتوقّف عند هذا الحدّ؛ بل تجاوزه بادّعاء غريب، قال فيه:
»أعطاني الحقُّ تعالى في التصرّف قوةً عظيمةً بحيث لو أرسلتُ ورقةً إلى ملك الخطى وهو يدّعي الألوهية، لجاء حافيًا بلا توقّف. ومع هذا لا أتصرّف في ملكه تعالى بقدر ذرة؛ بل أقف عند حدّ أمره عزّ وجلّ. فانّ من آداب هذا المقام أن تكون إرادتُكَ تابعةً لإرادته جلّ وعلا، لا العكس.« المصدر السابق ص/ 166.
يتظاهر الأحرار في نهاية هذه العبارات باعتقادٍ لا يخالفه مسلم. وهو الّذي أظهر في قوله »أن تكون إرادتك تابعةً لإرادته جلّ وعلا.« ولكنّ هذا الاعتقاد يتعارض مع ما أفصح به في مستهلّ كلامه »أعطاني الحقُّ تعالى في التصرّف قوةً عظيمةً...«!(66/280)
انتقلت إلينا جلّ المعلومات الخاصّة بالأحرار عن طريق عليّ بن الحسين الواعظ صاحب كتاب الرشحات وهو عديل نور الدين عبد الرحمن الجامي، أى زوج أخت امرأته. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 13/263 ومرّ ضمنَ ترجمة يعقوب الجرخيّ، أنه زار عبيد الله الأحرار مرّتين كما ورد في موسوعةٍ للنقشبنديّين، أنه أقام سنين في مجالس الأحرار. المصدر السابق 13/123؛ راجع ترجمة عبد الرحمن الجامي، خير الدين زركلي، الأعلام 3/296. ولا غرو أن من أسباب شهرة الأحرار، احتفاء العلماء به؛ وعلى رأسهم نور الدين عبد الرحمن الجاميّ. ورد في الرشحات أنه اجتمع به أربع مرّات وراسله مرارًا. علي بن الحسين الواعظ، رشحات عين الحياة ص/ 213-215. وما قيل عنه أنّه تدخّلَ في مصالحة الملوك، يغلب أنّ له أساسًا من الصحة. حيث جاء ذلك في كتاب الرشحات بصراحةٍ وتفصيل. المصدر السابق ص/ 425، 426.
إنّ عبيد الله الأحرار هو ثاني من أقرّ الرابطة من رجال هذه الطائفة؛ وزادها شأنًا في الطريقة. لأنّه بدأ يلقّنُها المريدين كما يشهد على ذلك قول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ إذ يقول:
»المير عبد الأول هو صهره الأطهر، والوارث لسرّه الأنور؛ اشتغل برابطته سبع سنين.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 169. ولكن لا نعتقد أن تكون الرابطة قد تحولت إلى ركن للطريقة في تلك الحقبة على خلاف ما يدّعيه النقشبنديّون. ويزعمون أنّ الطريقة تسمّت بالأحرارية بدايةً من عهده إلى زمن أحمد الفاروقيّ السرهنديّ.
كل هذه المعطيات تبرهن على أنّ عبيد الله الأحرار كان رجلاً مرموقًا، ذا شأنٍ ومكانة في بلاد ماوراءالنهر؛ وكان أوسع شهرةً من أسلافه؛ بحيث قفزت الطريقة النقشبنديّة إلى إسطنبول بجهود تلميذٍ له يُدعى عبد الله الإلهي.(66/281)
ورد في رسالة للشيخ قسيم الكُفْرَويّ: أنّ ملوك المغول الّذين ظفروا بإقامة دولةٍ لهم في الهند، كانوا على صلةٍ قويّةٍ بأبناء عبيد الله الأحرار وخلفائه، أسوةً بسيرة آبائهم مع الأحرار. Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? Pg. 82 Türkiyat Enstitüsü No. 337 ?st.-1949
***
* الحلقة التاسعة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة هو القاضي محمّد زاهد البدخشيّ. استخلفه الأحرار لمكانته عنده؛ وربما لقرابته إلى يعقوب الجرخيّ (شيخ الأحرار). لأنّ قاضي محمّد زاهد هو ابن أخت يعقوب الجرخيّ.
توفي البدخشيُّ سنة 936. من الهجرة، الموافق لعام 1529 من الميلاد بقرية الوحش من ضواحي قصبة الحصار على مقربة من مدينة سمرقند. أمّا تاريخ ولادته، فانّه مجهول.
صحب عبيدَ الله الأحرار اثنى عشر عامًا و»صنّف كتابًا في فضائله وشمائله سمّاه سلسلة العارفين وتذكرة الصدّيقين.« * عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 175. وينسب إليه كتاب آخر بعنوان "المسموعات" ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 14/149 جمع فيه ما سمع من شيخه عبيد الله الأحرار.
يبدو من عبارات مَنْ ترجم له أنه قد درس وتعلّم، ولكنه أعرض عن دراسة العلم بعد أن التقى بخواجه أحرار؛ فانثنى إلى التصوّف والسلوك في الطريقة النقشبنديّة.
هذا ومع أنّه معروف بالقاضي، لا نعلم ما إذا تولّى منصبَ القضاء في حياته، أم كان ذلك مجرّد لقبٍ أُطلقَ عليه لمناسبة ما. إنّ البدخشيَّ والحلقتين بعده، لم يتمتّعوا بالشهرة المتعارفة لشيوخ النقشبنديّة بدءًا من الأحرار حتّى يومنا هذا؛ وربما لعدم توغّلهم في التصوّف والشعوذة.
***
* الحلقة العشرون من السلسلة النقشبنديّة.(66/282)
يلوح لنا من خلال متابعتنا لسلسلة الروحانيّين في هذه الطريقة، أنّ القرابة الصهرية والنسبية بدأت تؤثّر على رأيهم بعد إمامهم خواجه نقشبند وأصبح استخلاف الأقارب من العادة الشائعة عندهم. بينما كانوا سابقًا يتلقّون عقائدهم من أبعد الناس إليهم، وحتّى من الأموات - على حدّ قولهم -.
إذ نكتشف أنّ محمدًا البدخشيَّ قد حلّ مكان عبيد الله الأحرار. ولعلّه أحرز هذا المقام لقرابته ممن استخلف الأحرار كما ذكرنا آنفًا. ثمّ نكتشف أن محمدًا البدخشيَّ هو الآخر قد استخلف الدرويش محمدًا السمرقنديّ، وهو ابن أخته. فصار الدرويش بهذا الاستخلاف هو الحلقة العشرين للسلسلة النقشبنديّة.
إنّ هذا الرجل لا نجد له ولا لشيخه ذكرًا في تراجم الرجال. وهو تركيّ الأصل كسائر أسلافه الّذين ظهروا في هذه المنطقة.
مات الدرويش محمّد السمرقنديّ عام 970 من الهجرة الموافق لسنة 1562 من الميلاد. أمّا تاريخ ولادته، فلم يقف عليه أحد حتّى النقشبنديّون أنفسهم.
***
* الحلقة الحادية والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
جرت العادة نفسها في استخلاف هذا الرجل أيضًا إذ هو ابن درويش محمّد السمرقنديّ؛ ولا ذكر له في التراجم، سوى ما جاء في بعض وريقات النقشبنديّين أنّ اسمه محمّد الخواجكيّ - بالكاف الفارسيّة -، وأنّه ولد عام 918 من الهجرة الموافق لسنة 1512 من الميلاد؛ ومات عام 1008 هـ. الموافق لـ 1599 من الميلاد.
يبدو أنه قد قضى جميعَ حياتهِ في قريةِ أَمْكَنَهْ بضواحي مدينة بُخَارَى؛ وعاش تسعين عامًا معزولاً عن الدنيا وخاملاً في هذه القرية.
***
* الحلقة الثانية والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
قفزت الطريقة النقشبنديّة من بلاد التُّرْكِ إلى الساحة الهندية بوساطة هذه الحلقة. وهو الباقي بالله الكابُلى، خليفة محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ.(66/283)
ولد الباقي بالله سنة 971 من الهجرة (1563م.) بمدينة كابُل عاصمة أفغانستان اليوم. ومات عام 1012 هـ. الموافق 1603 م. بمدينة دلهي (جهانآباد) الهندية.
ورد في مصادر النقشبنديّين أنّه سافر إلى سمرقند، وتعلّم على الشيخ صادق الحلوائيّ. ولكن لا ذكر له ولا لهذا الشيخ في تراجم الرجال. وأعرض عن الدراسة استخفافاً بالعلم كعامّة أسلافه بإقرار مَن ترجم له من أعيان هذه الطائفة. مع ذلك يحاول النقشبنديّون أنْ يُفَخِّموُهُ ويجعلوه من ذوي الشأن والمكانة في عصره كعادتهم في مدح سائر مشائخهم.
ورد في موسوعةٍ لهم »أنّ شخصيةً اسمه عبد الرحمن خان المشتهر بـ (خانِ خانان)، كان على كمال المحبّةِ له وعالقًا به.« المصدر السابق 16/75. وكلمة "خان خانان" فارسية معناها ملك الملوك. غير أننا لا نعثر على شئٍ من الاشتهار لهذا الاسم في تلك الحقبة والمنطقة. بل كانت مقاليد الأمور يومئذ في الساحة الهندية بيد الطاغية المغول جلال الدين محمود المشتهر بـ "أكبر شاه"، ملك الدولة الّتيمورية. ومعلوم أنّ الملك المذكور كان شديد العداوة للمسلمين من جراء ما وجد في شيوخ الصوفيّة من التعصب والتطرّف. فدفعه الأمر إلى قهر المسلمين وإذلالهم واضطهادهم، ومساندة المشركين الهندوس.
ومن جملة هذه المبالغات في تفخيمه والدعاية له قول عبد المجيد الخانيّ: »فأقبلَتْ إليه الأمم بما جذبهم من علوّ الهمم وقوّة التصرّفات الإلهية.«. ويدّعي أنّ قبره على غربي مدينة دلهي عند أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 178. والحقيقة أنّ النبيّ عليه السلام لم تطأ قدمُه الأراضي الهندية أصلا!
كان الباقي بالله على طبيعةٍ لا يأنِسُ إلاّ في الخرائب، يبحث عن أهل المسكنة من الدراويش والكسالى باعتراف من ترجم له من مفتتني هذه النحلة ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/67(66/284)
أمره شيخه الأمكنكيّ بالرجوع إلى بلاد الهند. فرجع وزاول نشاطه في بثِّ عقائد النقشبنديّة حتّى اتصل به رجل سرهنديٌّ اسمه أحمد الفاروقيّ. كان ذلك من أكبر حظوظه. لأنّه إنّما اشتهر بجهود السرهنديّ الّذي لعب دورًا هامًّا في استمالة قلوب الناس إليه بأسلوبه الخاصّ. ولمّا اشتهر مريده السرهنديّ، اشتهر هو الآخر بدوره.
وما قيل أنّ الشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ "شاه ولي الله الدهلويّ" قد مدحه في كتابه "الانتباه في سلاسل الأولياء" المصدر السابق 16/80. لا عبرة به، ولا ذكر لهذا الكتاب ضمن قائمة مصنّفات أحمد بن عبد الرحيم الواردة في كُتُب التراجم المعتبرة. راجع ترجمته: خير الدين زركلي، الأعلام 1/149. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛ * عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين: 1/169، 809. مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى، بيروت - 1993م. كما أنّ الدهلويّ هذا، هو أيضًا لم ينجُ من التأثّر بالعقائد الهندية على ما يبدو من محبّته لشيوخ الصوفيّة رغم باعه الطويل في علوم الحديث. وربما رجع عن رأيه فيهم.
وقد جاء في الحدائق الوردية لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ أن خالدًا البغداديّ قد زار ابنَهُ عبد العزيز الدهلويّ، أيامَ إقامته بالهند، فاستقبله بحفاوة. وَرَدَ ذلك ضمنَ ترجمة خالد البغداديّ في الكتاب المذكور. من الجدير بالإشارة هنا، إلى أنّ هذه النزعة هي القاسم المشترك بين غالب علماء الهند، حتّى السلفيّين منهم. ولهذا نلمس من آثار التسامح مع الصوفيّة فيما كتبه أبو الحسن الندويّ وغيره من النابغين على الساحة الهندية.(66/285)
أمّا قيام الباقي بالله بدعوة الناس إلى الطريقة النقشبنديّة في بلاد الهند، فغير واضحة المعالم، على خلاف ما يدّعيه النقشبنديّون. وربما كانت دعوته على غير الأسس الّتي وضعها رجال هذه الطائفة. لأنّ النقشبنديّين أنفُسَهم لم يذكروا: هل أنّه كان يمارس الرهبنة على أساس المبادئ الأحد عشر، وهل كان يأمر بإقامة حفلة "ختم الخواجكان" سوى ما ورد في الموسوعة المذكورة: أنّه كان يأمر مريديه بملاحظة صورته في ذهنهم فحسب. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/72
***
* الحلقة الثالثة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة
لقد بذل النقشبنديّون قصارى جهودهم في تفخيم مَنْ جعلوه رمزًا لهذه الحلقة من سلسلتهم حتّى سمّوه "الإمام الربّانيّ". ولا يجوز عرفًا أنْ يكون هو الّذي عظّم نفسَه بهذا العنوان على الرغم مما نُقل عنه وعن غيره من شيوخ هذه الطائفة من مدائحَ ذاتيةٍ لا تُسْتَحْسَنُ من أهل العلم والشأن بحجة التحدّث بنعمة الله. وهذا يدلّ على المستوى الأخلاقيّ لأرباب هذه النحلة، وأنّهم كيف يتصرّفون بالمدح والذم..
أمّا اسمه الّذي لم يشتهر به بعد أن طغى عليه عنوانه الشائع المذكور آنفًا، فهو أحمد بن عبد الأحد الفاروقيّ السرهنديّ. يزعم النقشبنديّون أنّه ينحدر من سلالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 179.(66/286)
ولد السرهنديّ عام 971 من الهجرة الموافق لسنة 1563 من الميلاد؛ وذلك في عهد "أكبر شاه" هو محمود جلال الدين أكبر شاه بن همايون بن ظهير الدين محمّد بابر شاه. ولد عام 1542م. وتولّى السلطنة عام 1556م. وهو ابن 14 عامًا. و مات في سنة 1605م. راجع ترجمته في كتاب "رجال الفكر والدعوة في الإسلام"، الجزء الثالث ص/ 63-111. لأبي الحسن الندويّ؛ دار القلم؛ الكويت-1994م.؛ التاريخ الإسلامي، لمؤلّفه محمود شاكر، الجزء الثامن ص/422-424. ثالث ملولك الدولة الّتيمورية المغولية في الهند. شاهد تلك الأحداث الرهيبة الّتي أقدم على إجرائها "الملك أكبر" للقضاء على الإسلام. غير أنّنا لا نعثر على مقاومةٍ أكيدةٍ وجادّةٍ للسرهنديِّ في وجهه إلاّ القدر اليسير الّذي جاء في سطور ضمنَ مقدّمة كتابه "إثبات النبوّة" كتبه عام 989هـ. نشرته مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1994م. وعلى أيّ حال فانّ دفاعه عن نبوّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - في وجه سلطان جائر ومارق، لا شكّ يُعَدُّ مثالاً من البطولة والغيرة الإيمانية الصادقة لولا أنّه عبث بالقِيَمِ وأطال واسترسل في مسائلَ فلسفيةٍ كلامية أَرْبَكَ بها كثيرًا من الناس حتّى التبس عليهم الحق بالباطل.
يتنافس النقشبنديّون في مدحه وإجلاله وتقديسه بأساليب غريبة على الإسلام. منهم محمّد مراد بن عبد الله القازاني راجع ترجمته: خير الدين زركلي، الأعلام 7/95. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛ وهو معرِّب الرشحات أيصًا. الّذي عرّب مكتوباته.
يقول القازانيُّ:(66/287)
»فهذه درر مكنونات منيفة برزت من أصداف عبارات المكتوبات الشريفة للإمام الربّانيّ، والغوث الصمدانيّ، والقطب السبحانيّ، والعارف الرحمانيّ، نقطة دائرة الإرشاد، رحلة الأبدال والأوتاد، قدوة الكمالات الأفراد، واقف الأسرار الإلهية، كاشف الدقائق المتشابهات القرآنية، برهان الولاية الخاصّة المحمّدية.« محمّد مراد القازاني’ المنتخبات، الديباجة ص/ 2. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1994م.
هذا الأسلوب، قد اعتاده النقشبنديّون في حديثهم عن كلّ من اتفقت كلمتهم على تعظيمه خاصّة بعد موته. ذلك أنّ المشهورين من شيوخهم، لم يكن أحدهم قد ذاع اسمه في حياته بالوجه الّذي يذكره ملايين النقشبنديّين بعد موته بهذا الأسلوب إلا قليل. كعبيد الله الأحرار وخالد البغداديّ. لا شكّ تُنبؤنا عادتهم هذه، عن العقلية الّتي تسود على اتجاههم وتفكيرهم في الإنسان وقيمته الشخصية. ولكن الّذي لابد هنا أن نتساءل عنه، هو قسطاسهم في تعظيم الإنسان وتبجيله بأوصاف لا يقره الإسلام بوجه من الوجوه. فليت شعري كيف عرف القازانيُّ أنّ أحمد السرهنديّ "واقف على الأسرار الإلهية"؛ وما عسى هي تلك الأسرار؟!
هذا، وحتّى ربّ العزة جلّ سلطانُهُ لم يمدح الّذين اصطفاهم على العالمين من عباده المرسلين بأمثال هذه الألفاظ مع جلالة قدرهم ومكانتهم عنده. وعلى سبيل المثال، فقد قال سبحانه في خطابه لنبينا محمّد صلّ الله عليه وسلّم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.} سورة القلم/4 ولم يقل له إنّك واقف على أسراري.
ويقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ في مدح السرهنديّ أيضًا:
»دُرَّةُ إكليل الأولياء العارفين، وغُرَّةُ جبين الأصفياء الغُرِّ الْمُحَجَّلين، كنز فضائل السلف والخلف، وجامع فرقان المحامد والمكارم والشرف، طور التجلّيات الذاتية، وسدرة منتهى العلوم الأحدية، ومنهل معارف الوراثة المحمّدية، ومظهر إرشاد الحقائق الأحمدية...«(66/288)
ولكن الخانيّ لم يتوقّف عند هذا الحدّ؛ بل ازداد تكلّفًا وتنطّعًا فقال:
»أخبر بوجوده رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال، يكون في أمتي رجل يقال له صلة. يدخل بشفاعته كذا وكذا...« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 178-179.
على الرغم من إطناب النقشبنديّين في مدح هذا الرجل وتعظيمه وإجلاله، وما حشو في بطون كتاباتهم من قصصٍ أسطوريةٍ بعنوان مناقبه وكراماته، فإننا لم نجد في كتب أرباب الدراسة والبحوث التاريخية شيئًا يبرهن على صدق هؤلاء الدراويش المتنطّعين، سوى سطورٍ يسيرةٍ لِباحثَيْن خير الدين زركلي و عمر رضاء كحالة. لا تعدو عن ذكر مولده وموته وأسماء مؤلّفاته فحسب.
أما أبو الحسن الندويّ الّذي أفرد مجلّدًا خاصّا في ترجمته، فلا عبرة به.
أولاً، لأنّه معروف بموقفه الحياديّ، وإعجابه بكل من اشتهر، سواء أكان على الحق أم على الباطل؛
ثانيًا، إنّه من أبناء وطن السرهنديّ، فلا غرابة إذن في إلمامه بصاحب الترجمة أكثر من أي باحث أجنبي، خاصّة فانّ الطبيعة المضطربة للعنصر الهنديّ لابد وأنْ يكون للندويّ أيضًا منها نصيب ولو بأقلّ نسبةٍ.
فقد شرح الندويّ أوضاعَ المرحلة الّتي عاش فيها السرهنديّ، وذكر المشاكل بالتفصيل، والمرارة الّتي ذاقها المسلمون يومئذ على يد الطاغية "أكبر شاه" المغولي ضمن الجزء الثالث من سلسلة "رجال الفكر والدعوة في الإسلام". إلاّ أنّه استقى أكثر معلوماته الخاصّة بالسرهنديّ من مصادر النقشبنديّين الحشويّين المتوغّلين في السجع والأساطير. وبالخلاصة يظهر أنّ الندويّ ليس من عادته الانتقاد، ولو على سبيل التنبيه والتصحيح.(66/289)
أمّا السرهنديّ، فقد ترك ورائه أكداسًا من رسائل متفرّقةٍ، بعثها إلى هذا وذك؛ لم يستقر في جميعها بجانب الصواب دائمًا. بل تذبذبت أقواله بين الحقّ والباطل كما سيشهد القارئ هذه الحقيقة في نماذج مختلفة منها أوردناها فيما يلي للمقارنة.
كتب السرهنديّ جميع رسائله باللّغة الفارسيّة سوى عدد قليل منها جدًّا. وعرّبها رجل اسمه محمّد مراد القازانيّ.
إنّ هذه الرسائل في الواقع لا تمثّل أيةَ قيمةٍ علميةٍ أو ثقافيةٍ أو أدبيةٍ بمحتوياتها. لأنها لا تأتي بشيءٍ جديدٍ، ولا تنحلُّ بها مشكلةٌ من مشاكلِ المسلمين؛ ولا تظهر المقاصد فيها بوضوح. يؤكد على هذه الحقيقة استغناء رجال العلم عنها. فلا تكاد تجد عالمًا من علماء المسلمين يعتدّ بها أو يستدلّ بشيءٍ من مضامينها. وإذا كان بعض الناس يتدارسونها، فانّهم جموع من البسطاء والنقشبنديّين الّذين لا يدخلون ضمنَ أهل العلم في حقيقة الأمر.
يتبيّن بوضوح أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ لم يبال بما سيُسْفِرُ عن كلماته وعباراته الّتي ألقاها على عواهنها وسجّلها بين الفينة والأخرى على هيئة رسائل وجّهها للنّاسِ. فجاءت آراؤه متضاربةً في الغايةِ. وعلى سبيل المثال، يقول في رسالةٍ بعثها إلى شخصٍ اسمه نظام التهانيسري:
»اعلم أنّ مقرّبات الأعمال إمّا فرائض، وإمّا نوافل. فالنوافل لا اعتبار لها في جنب الفرائض أصلاً. فانّ أداء فرض من الفرائض في وقت من الأوقات أفضل من أداء النوافل ألف سنة.« محمّد مراد القازاني، المنتخبات، مكتوبات الربّانيّ، الرسالة رقم/29.؛ أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام الجزء الثالث ص/220.
هذه كلمة حقٍّ ربما لا يختلف فيها أحد من المسلمين معه. ولكن يناسب هنا أن ننتقل إلى رسالة أخرى من مكتوباته الّتي وجّهها إلى شخصٍ اسمه محمود. يقول فيها:(66/290)
» فاعلم أيها المخدوم كلمة "المخدوم" عربية. إصطلحها الأتراك والفرس بمعنى الولد. وقولهم أيّها المخدوم! أي يا ولدي، أو يا بنيَّ. ولابد للإنسان من ثلاثة أشياء حتّى تتيسّر النجاة الأبدية: العلم، والعمل، والإخلاص. والعلم على قسمين: قسم المقصود منه العمل. وقد تكفّل بيانَه علم الفقه؛ وقسم، المقصود منه مجرّد الاعتقاد واليقين القلبيِّ. وذُكر هذا القسمُ في علم الكلام بالتفصيل على مقتضى آراء أهل السنّة والجماعة الّذين هم الفرقة الناجية. ولا إمكان للنّجاة ولا مطمع لأحد فيها بدون إتّباع هؤلاء الأكابر. فان وقعت المخالفة لهم مقدار شعرة، فالأمر في خطر أي خطر! وهذا الكلام قد بلغ من الصحّة مرتبة اليقين بالكشف الصحيح والإلهام الصريح«. محمّد مراد القازاني، المنتخبات، من مكتوبات الربّانيّ الرسالة رقم/59.(66/291)
لقد ظهر في سطوره الأخيرة من هذا التفسير الصوفيّ أنّ غرضه الحقيقيَّ لم يكن التأكيد على تلك الأشياء الثلاثة الهامّة، وإنّما كان همه وقصده أن يجلب الانتباه إلى الكشف والإلهام ليس إلا! ذلك لأنّ عامة الصوفيّة، والنقشبنديّين على وجه الخصوص، لا يتكلّمون عن شئٍ إلاّ ويربطونه بعلم الغيب، ولا يتصدّون للحديث في أمر إلاّ ويجعلون له قرينةً بعلمٍ سابقٍ، ولا ينقلون من قولٍ أو عملٍ عن شيوخهم إلاّ ويحملونه على إشارات ورموز منهم لما سوف يقع في مستقبلٍ من الزمان على أنّها من كراماتهم. وهكذا لو نطق أحدهم بكلمةِ حقٍّ لا يبرح حتّى يعبث بها فيجعلها مما ثبت بشهادة أهل الكشف والإلهام؛ كما سبق في عبارات السرهنديّ آنفًا؛ في الحين الّذي لم تكن هناك أدنى مناسبة بين الموضوع الّذي طرق إليه السرهنديّ، وبين الكشف والإلهام على الإطلاق. وهذه الحقيقة ثابتة بإقراره في كلامه المنقول بالذات. إذ قال بعد ما قسم العلوم إلى شطرين: »قِسْمٌ، المقصود منه العمل، وقد تكفّل بيانَهُ علمُ الفقهِ؛ وقسم، المقصود منه مجرّد الاعتقاد واليقين القلبيِّ. وذُكر هذا القسم في علم الكلام بالتفصيل.«
إذًا، فما الّذي يحتاج هنا إلى الكشف والإلهام؛ وما هي العلاقة بين هذه الألفاظ، وبين قوله »وهذا كلام قد بلغ من الصحّة مرتبة اليقين بالكشف الصحيح والإلهام الصريح«؟!!
ولهذا السبب، من نظر في دفاع أبي الحسن الندويّ عنه بأنّه »أثبت عَجْزَ العقلِ والكشفِ وقصورَهما في إدراك الأمور الغيبية« أبوالحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/171. دار القلم الكويت-1994م. اطّلعَ بالتأكيد، على مدى ارتباك السرهنديّ والاضطراب الّذي في كلامه، وتناقضاته مع نفسه؛ وأدرك أيضًا أنّ أبا الحسن الندويّ قد أحسن الظنّ بهذا الرجل دون رويّةٍ وبلا اعتماد على أي حجةٍ، بل قد باء بفشل ذريع في هذا الدفاع العاطفيّ الرخيص.(66/292)
لقد بلغ عددُ مكتوباته ستًّا وثلاثين وخمسمائة رسالة تشمل على ما سجّل من الغث والسمين؛ ووجّهها إلى ناسٍ أكثرهم الملالي والدراويش وأبناء الخانقاهات المُقَبِّعُونَ على أنفسهم في جوٍّ من الرهبنة، ومبتعدون عن الحياة الاجتماعية والسعي والإنتاج. وله عُجالاتٌ وكُتيباتٌ ورد أسماؤها في ترجمته، وهي:
رسالة المبدأ والمعاد، وإثبات النبوّة، والمعارف اللدنّية، وردّ الشيعة.
عاش السرهنديّ في عهد الطاغية المغول عدوّ الإسلام والمسلمين محمود جلال الدين المعروف بـ "أكبر شاه" الّذي كان متأثّرًا بالديانة البرهمية والزرادشتية، حتّى خلع ربقة الإسلام من عنقه واختلق دينًا شيطانيًّا على أساس الكفر بالوحي والنبوّات. فدعا الناس إليه؛ فلم يستجب له إلا ثمانية عشر رجلاً؛ على الرغم من إمكاناته الواسعة للدعاية والدعوة وتسحير العقول. فزاده ذلك غضبًا على الإسلام. فأوقع بالمسلمين وأرهبهم بأبشع مظاهر القهر و أشدّ أساليب الإذلال والتنكيل.(66/293)
من الجدير بالإشارة هنا للمناسبة إلى أنّ هذا الملك الدمويَّ الجاهل الزنديق إنما وقع في أحابيل الشيطان بتأثير مَنْ كانوا حوله يومئذ من علماء السوء وشيوخ الصوفيّة المتنافسين في احتلال المناصب والمتنازعين على المصالح؛ و بسبب ما كان يشهد من الخلاف والصراعِ بينهم؛ والابتذال في سلوكهم؛ والانحراف في عقائدهم وأفكارهم؛ مما جعله يفقد ثقته بهم. هذا على كثرة شيوخ الطرق الصوفيّة في الساحة الهندية؛ وعلى الرغم من اشتهار عدد منهم بالغوثية والقطبية في تلك المناطق؛ ومع هيبتهم على الناس وقدرتهم في توجيه المجتمع؛ بحيث لو اتّفقت كلمتهم لأرغموه على أن يمصَّ بَظْرَ أُمِّهِ! لأنّه كان يعظّمهم ويقف منهم موقف الإجلال والتوقير في المرحلة الأولى من حكمه. وليس معنى هذا أنّ السرهنديّ لم يعارضه. ولكنّ مشائخ الطرق الصوفيّة عامّةً، والسرهنديّ خاصّة لم يكونوا على شئٍ من صفات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ من أخذ الأمور بالحكمة والحيطة؛ وبذل المال والمُهْجَةِ في ساعة الكفاح؛ والوقوف في وجه العدوّ بروح البسالة والبطولة؛ والمعرفة بفنون الجهاد والقتال حتّى يتمكّنوا من ردّ الأمور إلى نصابها.
لأنّ حياة الروحانيين تتميّز بالعزلة والصمت والمسكنة والرهبانية؛ فهي تختلف عن حياة الأنبياء والمرسلين، والتابعين لهم في سنّتهم وسلوكهم الّذين لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله عند ما يترتّب عليهم البذل بمقتضى الحال والظروف. فإنّهم أولياء الله {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.} سورة يونس/63.(66/294)
أمّا أولياء الصوفيّة، فلم يَسمع أحد من المؤمنين أنّهم دخلوا معركةً وقاتلوا لحظةً في سبيل الله. فهذا الغزاليّ ـ على سبيل المثال ـ الّذي تُعظّمه الصوفيّة بعنوان "حجة الإسلام"، وتبالغ في تفخيمه والثناء عليه، وتُشيد بذكر تصانيفه؛ »إنّه كان خلال الحروب الصليبية مشغولاً في خلوته تارةً في منارة دمشق وتارة في صخرة القدس، يغلق بابهما عليه في مدةٍ تزيد على سنتين. بل إنّ الغزاليّ شهد سقوط القدس في أيدي الصليبيّين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إليه في كُتُبه.« الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 91. الطبعة الثالثة. إسطنبول-1992م.
***
فلمّا تولّى نور الدين جهانكير بن أكبر شاه السلطنة فور موت أبيه لم يكن يومئذ للسّرهنديِّ شخصية بارزة في أوساط العلماء بالساحة الهندية، ولا كان يمتاز بشهرةٍ لدى علماء البلاط الملكيِّ. أقرَّ الندويّ بالذات عن هذه الحقيقة، في كتابٍ أفردَهُ لذكر حياة السرهنديّ ومع أنّه لم يدخل في هذا الموضوع إلاّ ليعظِّمَ من شأنه، وليؤكِّد أنّه "الإمام الربّانيّ"! اعترفَ بالواقع فقال: »إنّه لم يتوصّل إلى نقطة البداية للتأثير على أصحاب السلطة، وسياسة الدولة فيما يتعلّق بالإسلام والمسلمين، وتوجيه الميول والنزعات إلى الإسلام.« أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/139. دار القلم. الكويت-1994م.(66/295)
فمادام السرهنديّ لم يتوصّل إلى نقطة البداية للتأثير على أصحاب السلطة يومئذ ولم يستطع أنْ يحرّك ساكنًا؛ بإقرار هذا الباحثِ الهنديّ الْمُعْجِبِ به، والمؤكِّد على وصفه بـ »مجدّد الألف الثاني«؛ فما عسى إذن هي الأعمالُ التجديديةُ الّتي قام بها السرهنديّ؛ و ما هي آثارُهُ و إنجازاتُهُ - وقد بلغ من العمر اثنين وأربعين عامًا يوم تربّع جهانكير على عرش المملكة - ؟!! هذا بالإضافة إلى أنّ الملك جهانكير إنّما أمر باعتقاله بعد مضيِّ أربعة عشر عامًا على تولّيه السلطنة. وذلك سنة 1028 من الهجرة؛ وقد بلغ السرهنديّ يومئذ من العمر سبعًا وخمسين عامًا. زد على ذلك أنّ السبب الحقيقيَّ لاعتقاله ليس كما قيل هي مضامينُ رسالته الموجَّهة إلى شيخه، ومحتوياتُهَا الخطيرةُ الّتي أثار غضبَ الملك لما فيها مخالفة صريحة لروح الكتاب والسنّة، كما ليس رفضُهُ سجدةَ التحيّةِ للسّلطان هو السببَ الأصليَّ لاعتقاله بخلاف ما يزعمه النقشبنديّون. بل الذريعة الّتي اتخذها الملك لإصدار الأمر باعتقاله، هو ما كان يجري بينه وبين رجال البلاط من علاقات خاصّة، وما كان من حبّهم وإجلالهم له، كما يقول الندويّ أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/144. دار القلم. الكويت-1994م. » وما زال سلاطين المغول يتوجّسون خيفةً من مغالاة الناس في اعتقادهم وحبّهم وإجلالهم للمشائخ، والْتفافهم حولهم، وتهافُتهم عليهم تهافت الفراش على النور«.(66/296)
كل هذه الحقائق تدلّ على أنّ السرهنديّ لم يستحق ذلك الشأن العظيم الّذي يُعزىَ إليه بصفة »المجدّد لألف الثاني«. في الحقيقة إنّ النقشبنديّين وحدهم، هم الّذين خلعوا هذا العنوان عليه ليستفيدوا من طنينه وليواصلوا مسيرتهم بهذا الأسلوب من الاستغلال. ولو كان السرهنديّ مجدِّدًا بالمعنى الحقيقيِّ لحرّر الإسلامَ عما أُلصِق به من بدع البرهمية والبوذية؛ ولحارب شيوخَ الصوفيّة الّذين كانوا يدسّون تعاليم اليوغا في العقائد الإسلامية، كما يبرهن على هذه الحقيقة ما جاء في كلام أبي الحسن الندويّ بالنسبة للطريقة الشطّارية. إنّه يقول:
»وقد مزّجتْ هذه الطريقة لأوّل مرةٍ تعاليم اليوكا بالتعاليم الصوفيّة، واختارت من الأولى بعضَ الرياضيّات، والأورادَ، وحبسَ النفَسِ؛ ولقّنَتْ هذه التعاليمَ المريدين والسالكين؛ كما ضمّتْ إلى الطريقة علمَ السيمياءِ. وقد جاءت تفاصيل هذه الأوراد وشروح الرياضيات الخاصّة في الرسالة الشطّارية الّتي ألّفَها الشيخ بهاء الدين إبراهيم الأنصاري القادري، وتوجد قصيدة للشيخ محمّد الشطّاري في كتابه (كليد مخازن) - مفتاح الخزائن - تفيد عقيدة وحدة الوجود، وعدم التفريق بين المسجد والبيعة، والمسلم والبرهميِّ« المصدر السابق، 3/26، 27.(66/297)
أمّا ربّانية السرهنديّ، فهي أيضًا صفة لا نجد لها وجهًا من وجوه المشابهة بالربّانيّة الجامعة لصفات المؤمنين في كتاب الله العزيز. وإنّما الربّانيّون هم {الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الّذينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.} سورة الأنفال/2، 3. هم {الّذينَ قَالَ لَهُمْ الناسُ إِنَّ الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل.ُ} سورة آل عمران/173. هم الّذين يعترفون بذنوبهم، ويقرّون بالعجز والتقصير، ويرفضون الشهرة والسمعة والأبّهة والخدم والحشم، ولا يطمعون في الثراء والمكانة عند الناس؛ بل يحرصون ليحظوا بما عند ربهم؛ و{لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا.} سورة القصص/83. هم الّذين قال الله تعالى فيهم {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.} سورة الأحزاب/23.
أمّا الّذين بدّلوا دين الله بفكرة "وحدة الوجود" و "وحدة الشهود" و "الكشف" و "الإلهام" و "الأويسية"؛ وحرّفوه بممارسة أشكالٍ من مناسك مجوس الهند؛ كصلاة اليوغا الّتي سموها "الرابطة"، و "الختم الخواجكانية"، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على صورة شيخ الطريقة وما إليها من تقاليد عبدة الأوثان وطقوسهم؛ فكيف بنا أن نَعُدَّهُمْ من أبناء الأمّة المحمّدية والملّة الإبراهيمية الحنفاء؛ فضلاً عن أن يستحقّ أحدُهم صفة المجدّد لهذا الدين وهو غارق في عالم التصوّف والشعوذة والوهم والخيال!!(66/298)
إنّ هذا العالَمَ الغامض الوعر المشبوه الّذي نصطدم ببعض معالمه من خلال رسائل السرهنديّ، يثير انتباهنا نحو بلاد الهند الشهيرة بمجتمعاتها المتباينة، ولغاتها وعاداتها المتنوّعة، وتقاليدها الغريبة، وعقائدها الخليطة، وفلسفاتها المعقَّدَة، ورهبانها ومتصوِّفتها وسَحَرَتِهَا الطائشة المتزاحمة، وما إلى ذلك من مظاهرَ عجيبةٍ لا تتّصف بها بلدٌ آخرُ في بقية أنحاء العالم. وكذلك هذه الحقائق تفتح لنا نافذةً هامّةً إذا أطللنا منها على العالَمِ الهنديّ بكلِّ مظاهره، وبحثنا في طيّات تاريخه بِعُمْقٍ وإمعانٍ اصطدمنا بحقيقةٍ رهيبة أخرى. وهي أن الأكثرية من المجتمع الإسلاميِّ في تلك المناطق، قد تأثّروا قليلاً أو كثيرًا بالأفكار والديانات والعقائد والعادات والتقاليد الغريبة المتباينة والمتزاحمة على امتداد ساحاتٍ شاسعةٍ في الديار الهندية. وإذا كان "الملك أكبر" قد انبهر بالديانة البرهمية والزرادشتية تمامًا، فانّ ذلك لا يعني أنّ السرهنديّ لم يتأثر بشيءٍ منها وعلى الرّغم من دفاعه عن الشريعة المحمّدية وتحريضه على متابعة السنّة النبويّة من خلال رسائله المذكورة، إلاّ أنّنا نعثر في الوقت ذاته على مقالاتٍ له تستمدّ من لبِّ تلك العقائد الوثنية. وكأنّها تتسرّبُ من قلوب الفلاسفة والرهبان. يقول في إحدى هذه المقالات:(66/299)
»اعلم أنّ العناية الإلهية جذبتني جذب المرادين أوّلاً، ثم يسّرت لي طيَّ منازل السلوك ثانيًا؛ فوجدتُ الله سبحانه أوّلاً عين الأشياء؛ كما قال أرباب التوحيد الوجوديِّ من متأخّري الصوفيّة؛ ثم وجدتُ الله في الأشياء من غير حلولٍ ولا سريانٍ؛ ثم وجدتُ سبحانه معها بمعيّة ذاته؛ ثم رأيتُهُ بعدها؛ ثم قبلها. ثم رأيتُهُ سبحانه وما رأيتُ شيئًا. وهو المعنى بالتوحيد الشهوديِّ المعبَّرِ عنه بالفناء. وهو أوّل قدمٍ توضَع في الولاية، وأسبق كمالٍ في البداية. وهذه الرؤية في أيّ مرتبةٍ من المراتب المذكورة تحصل أوّلاً في الآفاق، ثم ثانيًا في الأنفس. ثم ترقيتُ في البقاء. وهو ثاني قدمٍ في الولاية. فرأيت الأشياء ثانيًا. فوجدتُ اللهَ عينَها بل عينَ نفسي. ثم وجدتُهُ تعالى في الأشياء، بل في نفسي؛ ثم مع الأشياء بل مع نفسي. ثم قبل الأشياء بل قبل نفسي. ثم بعد الأشياء بل بعد نفسي. ثم رأيتُ الأشياء وما رأيتُ الله تعالى أصلا. وهي النهاية الّتي هي الرجوع إلى البداية والعود إلى مرتبة العوام. وهذا المقامُ هو أتمُّ مقامِ دعوةِ الخلقِ إلى الحقِّ، وأكمل منازل التكميل والإرشاد لتمام المناسبة للخلق المقتضية لكمال الإفادة والاستفادة. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 180.(66/300)
هل يجد من ذاق حلاوةَ الإيمانِ بالله واليوم الآخر، هل يجد مَسْحةً من كلام أهل اليقين الصادق في هذه العبارات الخطيرة الّتي تُنبئ عن غطرسة قائلِها وتطاوله في وجه الحق سبحانه؟! تُرى ما الّذي جعله يتحدّى بهذا الادعاء الجريء؛ و ما الّذي دفعه ليتمرّد على الله بهذه الكلمات الّتي لا تدلّ بوجه من الوجوه على إيمانه بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئ؛ وما الّذي أغراه حتّى وجد نفسَه مضطرةً لتزخرف له ما لم يقل به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولا أحدٌ من العلماء المحقّقين الّذين لم يخرجوا عن جادّة الحق!
لعلّ السبب - على حسب رأيه - أنّ الّذي خُيِّل إليه هو نعمة من الله (!) لأنّه يذكر في مستهل مقال آخر له، الآيةَ الكريمةَ {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث.ْ} سورة الضحى/11. ثمّ يستطرد قائلاً: »كنتُ في حلقة الذكر مع أصحابي فخطر لي أنّي في قصور ونقص. فأُلْقِيَ إليَّ في الحال: أنّي قد غفرتُ لك ولمن توسّل بك بوساطة أو بغير واسطةٍ إلى يوم القيامة. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، رسالة المبدأ والمعاد ص/11.
يبدو بوضوح من هذه العبارات أنّ السرهنديّ كان يعاني حالاتٍ نفسيةً خطيرةً، إذ بلغت به المعاناة حتّى ادّعى أنّ الله أوحى إليه وقال له »إنّي غفرتُ لك ولمن توسّل بك بوساطة أو بغير واسطةٍ إلى يوم القيامة«.(66/301)
هذه الألفاظ الجريئة لا شك قد أحبط أعمالَ الباحثين الّذين شمّروا عن ساق الجدّ ليدافعوا عن السرهنديّ بأنّه لم يخرج من دائرة الكتاب والسنّة؛ خاصّة الّذين شاركوا النقشبنديّين في خلع العناوين المصطَنَعَةِ عليه، ووصفوه بالقطبية والغوثية، بل و بالمجدّدية؛ كما يبرهن على سطحية البحث الّذي تناول فيه أبو الحسن الندويّ حياة السرهنديّ، وعمّا كتبَ في الجزءَ الثالثَ من سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام. فإنّ الندويَّ -على الأقل- قد ألّفَ هذا الكتابَ بدون رويةٍ وتعمُّق.
***
يزعم النقشبنديّون، أنّ السرهنديّ جاء ليجدّدَ الإسلامَ؛ ولِيُعيد له طراوته وحيويته. ولهذا يعظّمونه بعنوان »المجدّد الألف الثاني«. كما يُطلِقون بهذه المناسبة اسمَ "المجدّدية" على الطريقة النقشبنديّة، بدايةً من عهده إلى زمن خالد البغداديّ. ولكنَّ التاريخَ يشهد على ما قد ذهب من جمال الإسلام وصفائه على يد السرهنديّ وخلفائه ربما أكثر مما أذهب به الطغاة الّذين أنزلوا ضربات قاصمة بالإسلام والمسلمين من أمثال الملوك الأمويين، والعبيديين، وهولاكو، وتيمورلنك، وأكبر شاه، وموشي غوميل السالونيكي!
وبالخلاصة فانّ رسائلَ السرهنديّ وعُجَالاَتِهِ تشتمل على أفكارٍ غريبةٍ، وعقائدَ خطيرةٍ، وآراءَ متناقضةٍ، وأساليبَ فلسفيةٍ وكلاميةٍ؛ يرتبك بها الجاهل ويتعجّب منها العالم وتستشكل على المخلص في حياده، فلا يكاد يستخلص صحيحَها من سقيمِها ليبرهن به على ما يعتقد في قائله من الاستقامة وحسن الالتزام بالكتاب والسنّة. وبالتالي فانّ حسن الظن به لايُغْنِي عن الباحث المحايد في محاولته لإبراء ساحة السرهنديّ مهما تأوّل أقوالَهُ.(66/302)
لاجرم أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ كان ذا شأن، ولكن ليس بعلمه؛ بل بِالْتفافِ جمهورٍ من حثالة الناس حوله؛ كغالب شيوخ هذه الطائفة. وربما لهذا السبب كان له تأثير على بعض الملوك ورجال السلطة. فقد جاء في موسوعةٍ للنقشبنديّين أنّه أرسل كتابًا كان قد ألّفه بعنوان "رد الروافض"، أرسله إلى عبد الله خان، ملك الأُزبك؛ يندّد فيه بالشيعة، ويرميهم بالحمق والسخافة؛ ويطلب من الملك المذكور أن يرسل كتابه هذا إلى العبّاس الصفوي شاه إيران. فإذا اعترف بما فيه وتاب، فبها. وإلاّ وجب قتاله. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/325 فامتثل الملك عبد الله خان لأمره وعرض الكتابَ على شاه إيران؛ ولكنّ الشاه رفض المطلوب منه بحكم الطبع. إذ ليس من السهل أن يتخلّى الإنسانُ عن عقيدةٍ تشرّبَها إلى أعماق ضميره منذ نعومة أظفاره، فيتبرّأ منها في لحظةٍ مهما كانت باطلة، ليعتنق عقيدة جديدة؛ وبخاصّة إذا اصطدم بإكراه على ذلك. ولا يخفى أنّ أعمال الإرشاد والدعوة لا تنتهي بالنجاح إلاّ بأسلوبه الخاص الّذي أوضحه الله تعالى في كتابه العزيز بقوله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين.َ} سورة النحل/125. ولكن يبدو أنّ الملك عبد الله خان قد اختار أسلوبَ الملوك على الأسلوب القرآنيِّ الحكيم بتأثير السرهنديّ. ذلك {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.} سورة النمل/34. فما كان من الطرفين إلاّ وحَمِيَ الوطيسُ بينهما ذهبت في غمرته ألاف من الضحايا!(66/303)
تأصّل بُغض الرافضة في قلوب النقشبنديّين بعد هذه الواقعة وأصبح ميّزة تتّصف بها السنيّة التقليدية وانتشر بانتشار الطريقة النقشبنديّة. وهو السبب الرئيس للخلاف والصراع والحروب المستمرة بين الأتراك والفرس عبر العصور. ولكنّ كثيرًا من الناس يجهلون أنّ هذه العداوة الّتي بثها السرهنديّ بين أتباع هذه النحلة، لم تنبت في قلبه لما كان يرى في عقيدة الشيعة من الخروج على الإسلام؛ بل نشأت بسببِ منافسِتِه لبعضِ رجالِ الْبلاطِ الملكيِّ الّذين كانوا من الشيعة. لقد كان بين السرهنديّ وبينهم صراع شديد على المصالح. فغلب تأثير الفريق الشيعي منهم على الملك جهانكير حتّى أوعزوا إليه بتنكيله؛ فأمر باعتقاله في قلعة "كُوَالْيَارْ"، دام فيها ثلاث سنين.
لابد وأن نشير أخيراً إلى أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ هو رجلٌ وجوديٌّ بشهادته على نفسه وإطرائه على كبير الوجوديّين محي الدين بن عربي؛ إذ يقول:
»قد كُشِفَ لي التوحيد الوجوديُّ وأُلْقِىَ إلىَّ علوم كثيرة ومعارف جمّة ورقائق وافية من هذا المقام؛ ولاحت لي معارفُ مُظهِرِ الصفة العلمية الشيخ الأكبر... وتشرّفتُ بالتجلّي الذاتيِّ الّذي بيّنه الشيخ وجعله نهاية العروج وخصّه بخاتم الولاية مفصّلاً وموضّحًا«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 181.
هكذا يبدو جليًّا أنّه قائلٌ بوحدة الوجود، وواقف موقفَ الإجلال من محي الدين بن عربي، بخلاف ما ادّعىَ البعضُ من هذه الطائفة: »أنّه برئٌ من تلك العقيدة، وأنّه إنّما قال بوحدة الشهود ليبرهن به عن بطلان وحدة الوجود«. ومهما كان، فانّ فكرة "وحدة الشهود" أيضا عقيدة غامضة.(66/304)
وإنْ فَرَضْنا أنّ غرَضَه من "وحدة الشهود" هو وحدة المشهود، أي هو إقرارٌ بوحدة الموجودات القابلة للشهود بصفة المخلوقية على سبيل تنزيه الخالق الباري عن إحاطة العبد به في نطاق ما يُبصره؛ فان هذا الغرض، بل هذا الإقرار لا يقوم مقام حدّ جامع لكافة المخلوقات. وإنما يشتمل على كلّ ما يدخل في نطاق البصر فحسب، ويخرج من هذا الحدّ بقية المخلوقات من المحسوسات وغيرها؛ فضلاً عن أنّ كلمة "وحدة الشهود" تعبير كلاميّ غريب ومعقّد، لم يرد في الكتاب والسنّة، ولم يتكلّم به أحد من السلف الصالح.
إنّ هذه الأفكار الدخيلة، وأنماطًا أخرى من أمثالها إنّما تسرّبت إلى الطريقة النقشبنديّة في عهد أحمد الفاروقيّ وخلفائه، فتحوّلت هذه الطريقة إلى دينٍ مستقلٍّ برسومها وطقوسها وآدابها وأركانها، خاصّة بحكم كون هؤلاء الرجال من عناصر هنديةٍ مجبولة على التقليد بسبب صلتهم الدائمة مع البراهمة والسيخ والبوذيّين في الهند. وهي ساحة نائية عن قلب بلاد الإسلام. وأنّ الإسلام إنّما انتشرت في تلك المناطق عن طريق الوفود من رجال التجارة والسياحة الّذين لم يكونوا أصلاً من أهل العلم والإختصاص في الدعوة والإرشاد؛ ولم تكتمل فيهم الكفاءة في توجيه المشركين إلى الدين الحنيف بالوجه الصحيح؛ وإن فرضنا أنّ عددًا كبيرًا من تجّار المسلمين قد احتسبوا لله في نشر الرسالة المحمدية بين مجوس الهند عبر العصور.
هكذا تغذّت الطريقة النقشبنديّة بالعقائد المحلّية في ديار الهند ونمتْ على قاعدةٍ من تعاليمها مدة مائتين وخمسين عامًا منذ عهد السرهنديّ حتّى وجدتْ مَنْ يقفزُ بها إلى الساحة العراقيّة عام 1811م.؛ ويَبُثُّهَا في ربوع المملكة العثمانيّة. ألا وهو خالد البغداديّ الّذي طوّرها وصبّها في قالب آخر مع خلفائه كما سنشرح أحوالَهم فيما يلي كلاًّ على حدة إن شاء الله تعالى.
***
* الحلقة الرابعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.(66/305)
استخلف أحمد الفاروقيّ ابنه محمدًا المعصوم؛ فأصبح هذا الخلف بذلك هو الحلقة الرابعة والعشرين من سلسلة الروحانيّين للطّريقة النقشبنديّة. وصار استخلافُ الأولاد والأقارب بعد الفاروقيّ من العادة الشايعة بين كبراء هذه الطائفة؛ كما تحوّلتْ عائلاتُ شيوخِ النقشبنديّة إلى سلالاتٍ مقدّسةٍ، ذاتِ مكانةٍ مرموقةٍ ومتفوّقةٍ على طبقات الناس في المجتمعات العجمية الخليطة من التُّرْكِ والكرد والفرس والهنود والمغول والأقلّيات القوقازية نتيجة هذه العادة.
ولد المعصوم عام 1007 من الهجرة الموافق لسنة 1599 من الميلاد بقرية "مُلْكِ حيدر" التابعة لمدينة سرهند، ومات في هذه المدينة عام 1079 من الهجرة الموافق لسنة 1668 من الميلاد.
كان محمّد المعصوم أيضًا على عقيدة الوجوديّة كوالده. ولكنه جاء بتفسير باطنيٍّ جديدٍ لهذه العقيدة فطوّرها بإضافة مفهوم "القيّومية" إليها. إلاّ أن هذا التفسير لم يحظ بشيءٍ من الاهتمام والشيوع بين الصوفيّة. بل ظل مهمَلاً في تضاعيف ما كتبه وخلّفه من رسائلَ غيِر ذاتِ قيمةٍ لا يلتفت إليها اليومَ أحدٌ حتّى النقشبنديّون. ذلك أنّ مفهوم "القيّوُمية" فكرةٌ غامضةٌ معقَّدَةٌ جدًّا؛ يأبى التصوّر البشريُّ أنْ يستوعبها، لصياغتها بنسيجٍ من هفواتٍ غريبة وعبارات متشابكةٍ بأسلوبٍ صوفيٍّ صلبٍ ومركَّز.
ومن جملة ما سجّله محمّد المعصوم في هذا الصدد - على ما نقله عبد المجيد بن محمّد الخانيّ -، قوله: »القيّوم في هذا العالم، خليفة الله تعالى ونائب منابه؛ والأقطاب والأوتاد والأبدال والأفراد مندرجون تحت ظلاله«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/192.
هكذا قال بصراحة، وهذا يدل على عقيدته بالاختصار.(66/306)
وما رُوِيَ عنه في تراجمه على سبيل الكرامات والخوارق الظاهرة على يده، كتحويل الورق إلى الذهب والفضة و ما أشبه’ ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/96 يبرهن على أنه كان يتعاطى السحر والشعوذة. وذلك ليس ببعيد عن الشيوخ ذوي الأصول الهندية.
***
* الحلقة الخامسة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
عاد الاستخلاف في الأسرة الربّانيّة ثانية فأنتجت لهذه الطريقة شيخًا ثالثًا، وهو سيف الدين بن محمّد المعصوم الفاروقيّ الّذي يُعَدُّ هو الحلقةَ الخامسةَ والعشرين من سلسلتهم.
ولد سيف الدين عام 1049 من الهجرة الموافق لسنة 1630 من الميلاد بمدينة سرهند؛ ومات بها سنة 1098 الموافقة لعام 1696 من الميلاد.
تعلّم سيف الدين على عمِّهِ محمّد سعيد الفاروقيّ. وتولىّ تربية الملك أَوْرَنْكْزِيبْ عَلَمْكِيْر بن شهاب الدين محمّد شاه جِهَانْ، ملك الدولة المغولية الهندية. ثم تربّع على عرش النقشبنديّة بعد أبيه، واتّخذ أسلوب جدِّهِ في بَثِّ عقيدته عن طريق المراسلة. بلغ عدد رسائله مائة وتسعين مكتوبًا جمعها ابنه محمّد الأعظم.
يغلب أنّ الشهرة الّتي امتاز بها سيف الدين، لم تكن بسبب تفوّقه في العلم والمعرفة؛ وإنّما كانت وراثيةً. لأنّه لم يتغيّر به شئٌ في الطريقة النقشبنديّة ولا حدث أيّ تطوّر وازدهار في الدولة المغولية الهندية في عهده.
***
* الحلقة السادسة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة يمثّلها رجل اسمه نور محمّد البدوانيّ.
لم يتّصل ذكره بأيّ إنجاز أو نجاح أو بطولة حظي المسلمون بشيءٍ من آثارها. أمّا ما قَصَّتْهُ النقشبنديّة من حكايات أسطورية على سبيل الكرامة له، فإنها ليست مما يُعتدُّ بها.(66/307)
يبدو أنّه كان رجلاً خاملاً، مغمورًا، نازعًا إلى التطرّف والشعوذة. حُكِىَ أنّه »أَدخل مرةً رجلَه اليمنى إلى بيت الخلاء، فانقبض ثلاثة أيّام من مخالفته للسّنّة« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/201. كما حُكِيَ أنّه »لكثرة ما كان يُطَأْطِئُُ رأسَهُ ويُقَبِّعُ، تقوّس ظهره«. المصدر السابق.
يبالغ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في مدحه بأسلوبه المسجّع، فيقول: »وافتخر به فريق الطريق شرقًا وغربًا، فانظُرْ كيف سلّم نفسَه للسيف لينال شهادة السعادة وسعادة الشهادة ويحيا الحياة الأبديةَ (من قَتَلْتُهُ فأنا ديتُهُ)« المصدر السابق ص/ 200.
تفنّن الخانيّ هنا في استعراض بلاغته - إذ هو أديب النقشبنديّين -؛ فاستعمل كلمة "السيف" على سبيل المجاز في قوله »فانظر كيف سلّم نفسه للسيف...« وهو في الحقيقة ليس إلا الشيخ سيف الدين الفاروقيّ. ولكن الخانيّ استعار منه معنى السيف الّذي هو السلاح التقليدي المعروف.
هذه الصيغة المنسوجة بلهجة المكر ولغة الحيلة، قد يرمز إلى حقيقة رتّبها الخانيّ في صورة لُغْزٍ لكي لا يتبلور الأمر أمام كلّ الناّس فيُصبِحَ موضوعَ النقاش والتحليل والتأويل، حفظًا على سُمعة الروحانيّين في المجتَمَع، وخشية أن تسقط هيبتهم من قلوب الناس.
ذلك أنّ قوله »فانظر كيف سلّم نفسه للسيف...« يحتمل معنيين: أحدهما حقيقيٌّ. وهو أنّ نور محمدًا البدوانيّ قد قُتل بصورةٍ فعليةٍ. وهذا قد يكون له أساس من الصحّة. لأنّ الربّانيّ كان قد شدّد النكير على الرافضة. فأدّى ذلك إلى عدائهم على خلفائه. كما قيل أنّ شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان قد قُتِلَ على أيديهم؛ وهو من خلفاء نور محمّد البدوانيّ.(66/308)
وثاني المعنيين مجازيٌّ، سبقت إليه الإشارة آنفًا. يعني ذلك: أنّ نور محمدًا البدوانيّ سلّم نفسَهُ للشيخ سيف الدين الفاروقيّ، فنال بذلك مرتبة الشهادة. لأنّ ما تكابده في سلوكه تحت إشراف الشيخ سيف الدين يُعَدُّ نوعًا من الفداء بالنفس.
هذا الرجل الّذي تكلّف النقشبنديّون في تبجيله وتعظيمه بأساليبَ مزخرفةٍ، لا علم لأحد بتاريخ ميلاده على الرغم من زعمهم بـ »أنّ كشفَ حضرة السيد كان على غايةٍ من الصحّةِ«. المصدر السابق ص/ 201. فلم يسبق منه أن ذكر شيئًا فيه تصريح بتاريخ ميلاده. وقيل مات البدوانيّ عام 1135 من الهجرة الموافق لسنة 1722 من الميلاد.
***
* الحلقة السابعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة
يحمل سمة هذه الحلقة رجل اسمه شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان. وهو هنديّ الأصل كمشائخه الأربعة الّذين قبله. ويبرهن هذا الاسم الموزون على حقائقَ هامّةٍ تتميّز بها شخصيتُهُ وحياتُهُ؛ كما وردت في عبارات سجّلها الشيخ قسيم الكُفْرَويّ، أحد البارزين بين شيوخ هذه الطائفة في عصرنا.
يقول الكُفْرَويّ عنه:
»انتسب إلى البدوانيّ ولم يتجاوز عمره الثامنة عشرة. كان يرتدي بأدنى ما يستر به عورته، يجول في الصحاري ويأكل من ورق الشجر. وهكذا أمضى أربع سنين حياة الدراويش، فأذاق أربابَ الطريقة ألوانًا من الحُبّ الأفلاطونيِّ«. وهذا النصّ الأصليُّ لكلمات الكفراويِّ باللّغة التركية:
Onsekiz ya??nda Muhammed Bedevani’ye intisap eden bu zat, yaln?z avreti setredecek kadar giyinerek ç?llerde a?aç yapraklar? yemek suretiyle d?rt sene tam bir kalender hayat? ya?am?? ve tarikat ehline eflatunî bir a?k?n cilvelerini tatt?rm??t?r.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu? ve Yay?l??? Pg. 91. ?stanbul-1949 يبدو من هذه العبارات أنه لم يأكل اللّحم لما تأثّرَ بعادات البوذيين ومعتقداتهم.(66/309)
إذا تأمّلنا في هذه الشخصيّةَ، بِعُمْقٍ وإمعان؛ لا نكاد نجد وجهًا من وجوه الشبه بينها وبين شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما فيها ملامح ظاهرة من شخصية بوذا الراهب الّذي تُنسَبُ إليه الديانة البوذية. وهذه من البراهين الّتي تؤكّد على أنّ الطريقة النقشبنديّة قد تأثّرت بتعاليم البوذية إلى أبعد الحدود؛ وأخذت منها روحًا جديدةً بعد قفزها من بلاد ماوراءالنهر إلى الساحة الهندية منذ عهد الباقي بالله الكابُليِّ إلى زمن خالد البغداديّ الّذي حملها من بلاد الهند إلى الشرق الأوسط وطوّرها إلى شكلها الّذي هي عليه اليوم.
ولد جان جانان عام 1111 من الهجرة الموافق لسنة 1699 من الميلاد. وقُتِلَ غيلةً بمدينة دلهي عام 1195 من الهجرة الموافق لسنة 1781 من الميلاد. وذلك على يد نفر من الشيعة. وقيل كانوا من مجوس المغول. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 17/49............
يزعم النقشبنديّون أنّه من البطن الثامن والعشرين من سلالة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وأنّ المتأخّرين من آبائه كانوا أمراء. إلاّ أنّ أباه ترك منصبه زهدًا، وأنفق أمواله الطائلة على الفقراء تصدُّقًا.
كلّ هذه المُعْطَيات تبرهن أيضًا على التغيُّر الّذي دبّت أماراتُهُ في أسرة جان حانان، والاتجاه الّذي نزعت إليها أسوةً بحياة الرهبان الهندوس.(66/310)
وأمّا جميع ما قصّه النقشبنديّون من حكايات أسطورية على سبيل الكرامة له، فهي لا تتجاوز مزاعم غريبة عدّوها من علامات الصالحين ونسبوها إليه؛ كما قد نسجوا من أمثالها لبقية الروحانيّين. وهي في الحقيقة واردة في سِيَرِ الرهبان والعابدين من أهل العزلة في سائر الأديان. ولم يكن الرهبان يومًا من الأيام ورثةً للأنبياء والصالحين الّذين أناروا طُرُقَ الحياة السعيدة للنّاس في هذه الدنيا، ودلّوهم على العمل الصالح، وسلوك سُبُل السلام إلى النجاة الأبديّة. بل كان شأن الرهبان ومن على شاكلتهم من شيوخ الطرق الصوفيّة؛ كان شأنهم العزلةَ، والتقَشُّفَ، ولبسَ المسوح، وكراهيةَ الحياة، ورفضَ نعم الله، وتعذيبَ الجسد بأنواعٍ من الرياضيات الشاقة.
إنّ هذا الشيخ الهنديّ، لا أثر له يُذْكَر. ولهذا لا نعثر على اسمه في مصنَّفات أهل البحث والدراسة، سوى كلماتٍ قليلةٍ سجّلها أبو الحسن الندويّ في الجزء الرابع من كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام". أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص/ 149، 225، 278.
أمّا قصّة حياته الّتي دوّنها تلميذه غلام على عبد الله الدهلويّ بعنوان "المقامات المظهرية"، فانّ العقل الراجح غنيٌّ عن الاشتغال به.
***
* الحلقة الثامنة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة(66/311)
يستحق الإلمام بشخصية الرمز الّذي يُمَثِّلُ هذه الحلقةَ؛ وهو غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ. وذلك لسببٍ هامٍّ، يمكن تلخيصه بأنّه استطاع أن يُنهض بالطريقة النقشبنديّة في مرحلة حسّاسة من الزمن لم يكن القيام فيها من السهل بنشاطاتٍ روحانيةٍ. وبخاصّةٍ فانّ الطريقة النقشبنديّة كانت قد بلغت الغاية من التوسّع والانتشار. فالمعقول، أن يكون نهايةُ الكمالِ بدابة الزوال لكلِّ شيءٍ سوى اللهِ، وكان الملحوظ أن يبدأ الإنحطاط في الطريقة النقشبنديّة فتتقلُّص، لظروف الوقت والمنطقة. فانّ الأوضاع لم تكن تسمح لقيام أيّ فكرة تتعارض مع روح النزاع، أو تتّسم بالسلمية والهدوء والحياد. إذ أنّ الوضع كان على أشدِّ حالٍ من الفوضى بين الجموع المتباينة في الساحة الهندية يومئذ. أمّا الدين والنشاطات الروحية والفلسفية والعلمية والفنية، فإنها تختفي غالبًا في مثل هذه الظروف، لشغل الناس بالدفاع عن حياتهم وعِرْضِهِمْ وأموالهم. ولكنّ الدّهلويَّ على الرغم من ذلك تمكّن من استمالة القلوب بدعاياته المتواصلة الّتي قام بها عن طريق المراسلات على غِرَارِ أحمد الفاروقيّ وابنه محمّد المعصوم؛ كما تبرهن على ذلك رسائله الّتي بلغ عددها مائة وخمسًا وعشرين قطعةً، جمعها شاه رؤف أحمد (وهو أحد خلفائه) بعنوان "المكاتيب الشريفة"
ولد غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ عام 1158 من الهجرة الموافق لسنة 1745 من الميلاد، في خضم الحركات الثورية والفتن المتفاقمة والحروب الدائرة بين ملوك الطوائف على الساحة الهندية وعلى حين من احتضار الدولة المغولية الّتيمورية. وكان من أشدّ هذه الفتن زحف المراهتة المجوس على مدينة دلهي عام 1760م. كان غُلاَمْ على يومئذ شابًّا مراهقًا.(66/312)
قضى غُلاَمْ علي مرحلة شبابه في عهد خمسة من ملوك الدولة الّتيمورية هؤلاء الملوك هم: محمّد شاه (1331-1161هـ.)؛ أحمد شاه (1161-1167هـ.)؛ عزيز الدين علمكير الثاني (1167-1172 هـ.)؛ شاه عالم محمّد أكبر الثاني (1172-1221هـ.)؛ بهادر شاه آخر الملوك الّتيموري (1221-1278هـ.)؛ الّذين بلغت القلاقل والاضطرابات والأحداث الدامية غايتها عبر حكمهم. ولم تتمتّع البلاد بشيء من الهدوء والاستقرار إِبَّانَ هذه المرحلة حتّى فرض الإنجليز سيطرتَهُم على البلاد الهندية بصورة نهائية؛ وذلك سنة 1214 من الهجرة الموافقة لعام 1799 من الميلاد، إِثْرَ معركةِ سَرَنْكَابْتِنْ و استشهاد سلطان تيبو.
على الرغم من هذا الجوّ الخانق، استطاع غُلاَمْ علي أن يُثير اهتمامَ جمهورٍ من الناس من أولئك الّذين لم ينبض في أحدهم عرق الحمية والإيمان أمام الكارثة الّتي حلت بالمجتمع الإسلامي يومئذ في الهند. كان يبث الدهلويّ عقائد الأسرة السرهنديّة بحماسة وجلد، ويعمل على إشاعة صيتها. يدلّ على نجاحه في مهمّتهِ اجتذابُهُ رجلاً من أكراد العراق، لينفث في روعه من هذه العقيدة، ولِيُلْقِيَ على كاهله مسئوليةَ القيام بنشرها. ألاَ وهو خالد البغداديّ الّذي سوف نركّز على أحواله وأطواره وتلوّنه إن شاء الله تعالى.
إنّ تأثير الديانات الوثنية يظهر بوضوح في عقيدة غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ أيضًا من خلال ما جاء في رسائله.
أولاً، إنه قائل بوحدة الوجود، ووحدة الشهود. فقد كتب بِجُرْأَةٍ واستمرارٍ وإصرارٍ؛ وأسهبَ واسترسلَ في هذه المسألة أكثر ممن تكلّم فيها. هذه رسائله الّتي شرح فيها تفسيره لعقيد وحدة الوجود:
الرقم المسلسل رقم الرسالة رقم الصفحة الرقم المسلسل رقم الرسالة رقم الصفحة
1 18 36 6 69 78
2 26 46 7 70 80
3 61 67 8 75 94
4 64 69 9 89 132
5 68 76 10 90 151-152
مكاتيب الشريفة، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. 11 121 242-243(66/313)
ثانيًا، تطرّق إلى آدابِ الطريقة النقشبنديّة وأركانِها ومبادئِها في عدّةٍ من رسائله بمرونةٍ و مراوغةٍ، أَوْهَمَ فيها القارئ أنها منبَثَقَةٌ من روح الكتاب والسنّة. وبخاصّةٍ ذكر في الرسالة التسعين من أهمّ مصطلحات هذه الطريقة. تلك المصطلحات الدخيلة المشبوهة. كالشهود، والوجود، والمشاهدة، واللطائف، والكشف، والأسرار، وحبس النفَسِ أثناء الذكر، والرابطة، والجذبة، وخرق الحجب، والفناء، والبقاء، والوحدة، والكثرة، والأنس، والوحشة، والاستغراق، والسكر، والولاية الصغرى والكبرى، والسير، والسلوك، والقيومية، والحقيقة المحمدية والأحمدية، والذوق، والشوق، والتجلّي، والمقامات العشر، والأركان الأحد عشر، وغيرها.(66/314)
إنّ موقفه المتجاهل للواقع الّذي كان يعيش في غِمَارِهِ، يبرهن على تأثُّره البالغ بتعاليم الأديان والعقائد السائدة في مجتمعه من البرهمية والبوذية. فانّ رسائلَهُ شاهدةٌ على ما يتميّز به من روح الاستسلام والسبات والغفلة عمّا كان يجري حوله يومئذ. وهي من نتائج هذه العقائد الهندية الوثنية الّتي تُفَضِّلُ الخضوعَ والاستسلامَ على المقاومة والدفاع. ذلك أنّنا لا نعثر في مضمون جميع رسائله على كلمة واحدة فما فوقها، تُنْبِؤُنَا عن ردّ فعله ضدّ الغُزَاةِ الإنجليز المستعمرين الّذين ارتكبوا المجازر الوحشية ضدّ سكّان الهند، خاصّة المسلمين منهم؛ وانتهكوا الحرمات، وانقضّوا على البقاع الآمنة فأهلكوا فيها الحرث والنسل. كان موقف غُلاَمْ علي الدهلويّ عكس موقف علماء الإسلام من هذه الحملات. وعلى سبيل المثال، فانّ الشيخ احمد بن عبد الرحيم المعروف بشاه وليّ الله الدهلويّ - وهو من معاصري غُلاَمْ علي ومن الأعلام الّذين نبغوا في تلك المناطق -، نجده على منتهى درجات الوعي والحماسة للدفاع عن دماء المسلمين وعرضهم، أنظر رسالته الّتي وجّهها إلى أحمد شاه الدراني، والي قندهار، يلتمس منه حماية بلاده. راجع كتاب "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" لأبي الحسن الندويّ 4/246. و يتحمّل المسئولية، ويخاطب الملوك والأمراء بحميةٍ إسلاميةٍ، وهِمَّةٍ عاليةٍ، ويستنجد بهم لإيقاف أسباب الفساد، ويحاول بجهودٍ متواصلةٍ، وإيمانٍ صادقٍ، لتوفير الأمن والحرية في ربوع المجتمع الإسلاميِّ. بينما نطلّع على ما ورد عن غُلاَمْ علي أنّه يتهافت ويتخبّط ويعبث بالمفاهيم والقِيَمِ، ويتكلّم بلغةٍ لم يتكلّم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابَتُهُ مع أنّه يُتقن لغة القرآن، ويعدّه أتباعُهُ من ورثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هذا إلى جانب ما يتخطّى الواقعَ بأسلوبٍ متجاهلٍ، ويتبنّى أمورًا لا تعود بخير على مجتمعه الّذي يعاني الفسادَ(66/315)
والانحالَ؛ ولا تُخرجهم من المأزق الّذي تورّط فيه أبناء أمّته.
***
* الحلقة التاسعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة يمثّلها رجل من أهم الشخصيّات البارزين في تاريخ الطريقة النقشبنديّة، وأكثرهم معرفة بالعلوم العقلية والنقلية، وأوسعهم شهرة بين الخاصّة والعامّة، وانجحهم تلوّنًا في استمالة قلوب الناس والاستيلاء على ضمائرهم وإلقاء هيبته عليهم.
هذه الشخصية هو أبو البهاء، ضياء الدين خالد بن أحمد بن الحسين الشهرزوري البغداديّ المعروف بين أتباعه بعنوان »مولانا خالد ذو الجناحين« راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 298-335. دار الفكر-دمشق. وبهامشه (ص/298) قائمة بالمصادر الّتي تناولت حياة صاحب الترجمة. كذلك راجع مجلة المجمع العلمي الكرديّ، العدد الأوّل. بغداد-1973م. ص/ 697-727.
ولد البغداديّ عام 1192 من الهجرة الموافق لسنة 1778 من الميلاد بمحل اسمه »قره طاغ« على مقربة من مدينة السليمانية العراقيّة. ومات بالطاعون في مدينة دمشق عام 1242 من الهجرة الموافق لسنة 1826 من الميلاد.
نشأ وتربّى ودرس مقدّمات العلوم التقليدية في المنطقة الّتي ولد فيها. ثم خرج منها لطلب المزيد من المعرفة. فقرأ على بعض الْمَلاَليِ في تلك النواحي، أخذ عن الشيخ عبد الكريم وأخيه الشيخ عبد الرحيم البرزنجيّ، والشيخ محمّد الكرديّ، والشيخ إبراهيم البياريّ، والشيخ عبد الله الخربانيّ، حتّى أكمل دراسته التقليدية حسب العرف المتّبَع في تلك المرحلة من العهد العثمانيّ. إذ لم تكن يومئذ مقررات تعليمية معتمَدة من قِبَل الدولة للمدارس الشعبية. ثم واصل دراستَه في فنونٍ أخرى كالحساب والهندسة والهيئة زيادةً على أمثاله. وذلك تحت إشراف الشيخ قسيم السنَنْدَجيِّ.(66/316)
يدّعي بعض المترجمين له، أنّه من سلاسة عثمان بن عفان رضي الله عنه. محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/42. ويقولون في الوقت ذاته إنه من أبناء العشيرة الميكائيلية الكرديّة محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظه، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري، الجزء الأول، ص/ 298. دار الفكر المعاصر- بيروت وهذا كلام متناقض كما يبدو. لأنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، هو ثالث الخلفاء الراشدين، عربيّ الأصل من بني أمية، وهم بطن من بطون قريش. أمّا العشيرة الميكائيلية، فهي قبيلة كردية لا صلة لها بِقُرَيْشٍ ولا بشخصية عربية.
اشتغل خالد بالتدريس مدةً في السليمانية وبغداد. بيد أنّ الباحث الحاذق الدقيق إذا اطّلع على ما قد خلّف هذا الشيخ من رسائلَ وحواشٍ وملاحظاتٍ، وما تناقلته اللُّسُنُ عنه من صفاتٍ، وسلوكٍ، وأقوالٍ، وتعليماتٍ موجّهَةٍ منه إلى مريديه وخلفائه؛ وإذا أنعم النظرَ في عباراته وعلاقاته؛ اصطدم بحقائقَ رهيبةٍ، وعَلِمَ بالتأكيد أنه كان يمتاز بمزاج متوتّر، ونفس مترقّبة مُتَجَسِّسَةٍ، وطبيعة نشيطة دسّاسة.
كان خالدٌ ذا طموح وعزيمة لا حدود لهما. أثارتْهُ آمالُهُ إلى المغامرة بما لم يتجرّأ على اقتحامه أحد من رجال الدين في عصره ولا بعده! هذه الطبيعة المستفحلة هي الّتي دفعَتْهُ ليكون دائمّا هو في الصورة. لذلك لم يتّسم بالاستقرار، فلم يصبر على مواصلة البقاء في الأجواء العلمية. بل تلاطمت به الأفكار والتصوّرات، فجعلته يتطلّع إلى عالَمٍ لا يحيط به الزمان والآفاق، ولا يسعه نطاق الكلمات للتّعبير عن حدوده المترامية وجماله البارع؛ اشتاقت نفسه إلى مثل هذا العالم ليرفرف سرمدًا بجناحين من نورٍ في مقدّمةِ موكبٍ من الملائكة فوق جنانه!(66/317)
ربما كانت هذه النفسية الفعّالة المتناشطة هي الّتي حالت بينه وبين الحياة العلمية، وأضرمت في قلبه النيران إلى طلب مَنْ يُصَدِّقه و يبشّره بقرب سعادته وتحقيق آماله الأبدية وأحلامه وتصوّراته الّتي لا نهاية ولا حدود لها؛ وأهدافه الّتي لم يظفر بها صناديد الرجال من الرواد والحكماء والأباطرة، ولا حتّى الأنبياء والمرسلون! لم يزل خالدٌ يجوب ويتجوّل في هيام واشتياق إلى هذا المطلب الموهوم، ويتكهّن بتفسيرِ أدنى حدثٍ يجري حوله بهذه النفسية الغريبة، إلى أن أدركه رجل من أهل الهند؛ ثم لم يلبث الهنديّ حتّى أحسّ بما يخامره، فأوعز إليه أن يرافقه إلى مَنْ سوف تتحقق على يده أمالُهُ في عاصمة الهند.
نقتطف الآنَ مقاطعَ من قصّة دخوله في هذه المغامرة؛ فيقول وهو في المدينة المنوّرة يتأهّب للحج:(66/318)
»وكنتُ أفتّش على أحد من الصالحين لأتبرّك ببعض نصائحه لعلّي أعمل بها كل حينٍ، فلقيتُ شيخًا يمنيًّا متريضًا عالمًا عاملاً صاحب استقامة وارتضاء، فاستنصحتُهُ استنصاح الجاهل المقصّر من العالم المتبصّر فنصحني بأمورٍ منها: لا تبادر في مكة بالإنكار على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة. فلما وصلت إلى الحرم وأنا مصرٌّ على العمل بتلك النصيحة البديعة بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قرَّبَ بدنة من النعم فجلست إلى الكعبة الشريفة لأقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوامّ قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلىّ من غير حائل فحدَّثَتْنِي نفسي أنّ هذا الرجل لا يتأدّب مع الكعبة ولم أظهر عيبه فقال لي: أما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة! فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجّهي إليك؟ أما سمعت نصيحة من في المدينة وتأكيده عليك؟! فلم أشك أنه من أكابر الأولياء وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو، وأن يرشدني بدلالته إلى الحق فقال لي: فتوحك لا يكون في هذه الديار. وأشار إلى الديار الهندية، وقال: تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في تلك الأقطار. فأيست من تحصيل شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء النسك إلى الشام«. المصدر السابق، ص/ 299-300
يستطرد المترجم قائلاً:(66/319)
»وكان متشوّقًا بعد رجوعه من الشام إلى مرشدٍ من فحول الرجال حتّى جاء إلى السليمانية رجلٌ هنديّ يسمى مِرْزَا رحيم الله بِكْ المعروف بمحمد درويش العظيم آبادي. هذه القصَّةَ نقلها عدةُ رجالٍ من النقشبنديّين الّذين تصدّوا لترجمة خالد البغداديّ، منهم قسيم الكُفْرَويّ في تركيا. سجل هذه الحكاية في الصفحة الثالثة بعد المائة من كتابه: Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???.حصل المؤلّف بهذا الكتاب على شهادة الدكتوراه من جامعة إسطنبول-كلية الآداب عام 1949م. وهذا الكتاب المدوَّن باللّغة التركية، أعدّه المؤلّفُ على الآلة الكاتبة. وهي نسخة واحدة لا ثانية لها حتّى الآن، مودعة في خزانة معهد التركيات بمدينة إسطنبول، ومسجّلة تحت رقم/337. أحد خلفاء الشيخ الدهلويّ، فاجتمع به وعرض عليه مطلبه. فقال له: »إنّ لي شيخًا كاملاً مرشدًا عالمًا عارفًا بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيرًا بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبنديّ الطريقة، محمديّ الأخلاق، علماً في علم الحقيقة. فَسِرْ معي حتّى نرحل إلى خدمته في جِهَانْ آبَادْ، وقد سمعتُ منه إشارةً بوصول مثلك ثم إلى المراد«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/226.
إنّ هذه العبارات فحسب تدلّ على شخصية خالد بكلِّ ميّزاتها دلالةً كافيةً - وإن أهملنا جميع ما نُقل عنه وعن غيره حول صفاته وأخلاقه ومواقفه - يتضح لنا من خلال هذه الكلمات مدى جانبه العاطفيِّ وميله إلى الكهنة وحرصه في طلب مَنْ ينفخ فيه الروح ليتأكّد من أنّه على حقّ في كلّ ما يحلم ويتصوّر ويصبو إليه. فكان بحاجةٍ إلى من يحرّك فيه النقطةَ الحسّاسةَ بحذاقة ويُطلقه من عنانه ليكون هو مقصود العالمين على وجه البسيطة.(66/320)
لسنا بحاجة هنا إلى نقل ما ذكر هو وغيره من صفحات رحلته إلى الهند، وأخذِهِ رخصةَ المشيخةِ والخلافة المطلقة للطريقة النقشبنديّة من غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ؛ ولكننا بحاجة إلى طرحِ أسئلة عدّة والبحثِ عن معلوماتٍ صحيحةٍ تكون بمنزلة الإجابة عليها، لتتبلور من خلالها شخصية هذا الرجل وأسرار رحلته إلى الهند.
نتساءل أوّلاً عمّا أطمع خالدًا في الاتصال بشيخٍ من صوفية الهند حتّى غادر وطنه وتكبّدَ ألوانًا من المشاقّ، وعرض نفسَهُ لأخطار رهيبة مدةَ سنةٍ كاملةٍ حتّى وصل مدينة دلهي عاصمة الهند عام 1810م.
فما عسى كان يأمل أن يناله هناك من علم وفضل ومعرفة بقضايا جديدة؟ هذا مع أنّ المحيط الّذي تركه وراء ظهره والمناطق المجاورة له في الشرق الأوسط، تمتاز بأصالتها التاريخية، وتراثها العلميّ والثقافيّ الزاخر. وهي أرض الأنبياء والمرسلين والصحابة والحواريّين، ومشاهير العلماء والصالحين. طالما يقصدها الباحثون ورجالُ العلم، والمستشرقون، وتتوافد إليها الطلبةُ دائمًا من بقية العالم الإسلاميِّ.
أمّا بلاد الهند، فإنها على نقيضِ هذه المزايا والصفات. وهي أرضُ مجوسِ البرهمية، عبدةِ الشجر والبقر والقرد والحجر؛ وطنُ أهلِ الرهبنة والبطالة والمسكنة؛ مسرحُ المشعوذين اليوغيّين والسحرة والكهنة والعرّافين؛ نائيةٌ عن قلب بلاد الإسلام ومهبط الوحي والإلهام. وإن كان في بعض نواحيها نشاطات علمية ولكنها لا تداني المدنَ الشهيرةَ بمكتباتها الغنية، ومدارسها العامرة مثل القاهرة وبغداد والقدس ودمشق. كما يقرّ بهذه الحقيقة علاّمة بلاد الهند الشيخ أبو الحسن الندويّ بالذّات فيقول:(66/321)
»ولقد تضافرت عوامل كثيرة؛ من أهمّها بُعْدُ الهند عن مراكز الإسلام الدينيِّ والثقافيِّ - بلاد الحجاز ومصر والشام والعراق -؛ ووصول الإسلام إلى الهند بعد تعرّجه على تركستان وإيران، وقلّة شيوع اللّغة العربية فيها؛ وعدم الاعتناء بنشر علم الحديث الّذي لا يزال يَبُثُّ روح الدين الصحيح ويميّز السنّة عن البدعة ويقوّي الشعور بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ويوجد ملكة الاحتساب الديني الصحيح؛ ومنها صعوبة السفر للحجّ والرحلة في طلب العلم إلى البلدان الأخرى؛ وبقاء أقلية المسلمين مغمورة في أكثرية غير مسلمين الّذين كانوا متشبّثين بعقائدهم، متمسّكين بتقاليدهم وعاداتهم غير الإسلامية، وغارقين في الخرافات والأوهام. وتضافرت هذه العوامل كلُّها على تحويل المسلمين مرتعًا خصبًا للدعوات المضطّربة والفِرَقِ الضالة والمحترفين بالدين؛ خرجوا يمثّلون دورَهم ويجرِّبون حظَّهم في إضلال المسلمين«. أبوالحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/37-38. دار القلم الكويت-1994م. راجع الهامش/445.
نعم، إذًا ما الّذي دفع خالدًا إلى هذه المغامرة الّتي لم يجنِ من ورائها شيئًا انتفع به المسلمون من علمٍ أو قوةٍ أو أخلاقٍ أو رُقيٍّ وازدهار غير تلك الرياضيات والتأمّلات الّتي رَكِبَ ذنبَ الريح إلى الديار الهندية لأجلها واستغرق فيها عامًا، والّتي مهّدت له طريق الشهرة والهيمنة على قلوب مئات آلاف الناس حسبما تفوّه به بعض معارضيه كما سنشرحه إن شاء الله تعالى.(66/322)
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر. وهو أنّ غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ كيف عَلِمَ بوجود خالد البغداديّ حتّى أشار بوصوله كما نفهم من كلام رسوله مرزا رحيم الله بِكْ، ذلك الرجل الهنديّ الّذي زار خالدًا في السليمانية وأخبره بذلك حسبما يسجّله الخانيّ في حدائقه على سبيل الكشف والكرامة لِغُلاَمْ علي الدهلويّ. هذا، على الرغم من تلك المسافة الهائلة بين الهند والعراق، بالإضافة إلى الظروف الّتي كانت تحيط بقارّة أسيا، والقلاقلِ والفتنِ والحروبِ الّتي كانت تجري على ساحات كبيرة منها يومئذ. ثم أيُّ غبيٍّ يصدّق بمثل هذه الكرامة المختَلَقَة على حساب هذا الصوفيّ الهنديّ الّذي داهمت القوّات الإنجليزية بلاده أمام عينيه وهو لا يهمّه إلاّ»وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والفناء، والبقاء، والسكر، والعشق الإلهي، والتركيز، وحبس النفَسِ« وما إلى ذلك من عقائد البرهمية وتعاليم البوذية ورياضيات اليوغيّين! ثم مَنْ يَضمَنُ أنّه لم يكن على صلةٍ برؤوس قوات الاحتلال، ما دام لم ينله منهم سوء، بل كان هو وأصحابه في أمان منهم دون غيرهم من سكان البلاد!
لابد وأنّ هذا السؤال الهامّ سوف يُشغل بالَ رجالِ البحث والدراسة إلى أن تظهر الحقيقة بكمال الوضوح إلى العيان إن شاء الله.
نتساءل ثانيًا، ما الّذي أنجزه خالدٌ في سبيل النهوض بالمجتمع الإسلاميِّ الّذي كان يعاني أرذلَ درجاتِ الجهلِ والتخلُّفِ والعمى. وهل أقدمَ - ولو بخطوة - على تخفيف بلايا عظيمة داهمت المسلمين من الداخل والخارج في أيامه على كثرة أتباعه المستعدّين للفداء بأموالهم وأنفسهم في سبيله بأدنى إشارة منه؟!
و يناسب هنا أنْ نتطرّق إلى بعض المشاكل العظيمة الّتي كان المسلمون يقاسونها في تلك المرحلة الزمنية، على سبيل المثال:(66/323)
لقد كانت المنظمات السرية، وعلى رأسها الحركة الفرمسونية الّتي جنّدتها دول الغرب، وبدأت في تأسيس محافلها في المدن الكبيرة بالعالم الإسلاميِّ في تلك الفترة، كمدينة سالونيك، والقسطنطنية، وقونيا، وقيروان، وإسكندرية، ودمشق، وبغداد، وإصفهان، وتبريز، وبومباي، ودلهي؛ كانت هذه المنظمة الخطيرة تحاول اصطياد الرجال البارزين في المجتمع الإسلاميِّ من العلماء والسياسيّين والأثرياء، وذلك لهدم القِيَمِ السامية بأيدي هؤلاء، وتشكيك المسلمين في دينهم وعقائدهم، بالإضافة إلى أنّ هذه الدول اتّفقت على تمزيق الوطن الإسلاميِّ، فزحفت على بلاد المسلمين، وارتكبت فيها مالا يمكن حصره من الجنايات والمجازر والاستهتار بحرماتهم، بل استعبدتهم بعد أن احتلّت أراضيهم.
وعلى رأس هذه الدول المتغلّبة كانت بريطانيا قد استولت على الديار الهندية في الفترة الّتي سافر إليها خالدٌ ليُصبح نقشبنديًّا فيرجع إلى بلاده بأسرار هذه الطريقة ويبثها بين الناس.
نتساءل ثالثًا، إذا كان خالدٌ رجلاً صوفيًّا - و مادام الإنسانُ الصوفيّ مغمورًا في حياة من العزلة والتقشّف والرهبنة، تنحصر مهامّه في رياضات نفسية، وتأمّلات عميقة ذهنية، وتركيز واستغراق - إذن فلماذا كان يكتم ما الله مبديه على لسان خليفته محمّد بن عبد الله الخانيّ في قوله:
»إنّ هذه الطريقة هي الملامية المناسبة لما يكون عليه من الصحو الصدّيقيِّ، والرجوع إلى البقاء الأتمّ الحقيقيِّ بدعوة الخلق وهدايتهم إلى الحق برئاستي الظاهر والباطن وفتح القلاع والمواطن«. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، (النسخة القديمة: ص/12.)؛ (النسخة الجديدة: ص/13). مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1996م. لقد نقل حفيدُه عبد المجيد بن محمّد الخانيّ هذه العبارات بضبطها، ولكنه سجّل كلمة "الملامية" على شكل "الملايمة". الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة، ص. 9)(66/324)
هذه العبارات، لا يردّدها إلاّ الملوك وقادة الجيوش؛ وليست من كلمات شيوخ الصوفيّة. وربما يبرهن على هذه النيّة المُبْطَنَةِ ما قد سجّله الباحثُ العراقيّ عباس العزّاويّ في ترجمة خالد، بعد أن خلع عليه من المدح والإطراء فقال:
»وكان حكيمًا قادرًا على إحياء الدولة العثمانيّة من جديد، وإفراغها في قالب آخر، خصوصًا في حالتها البالغة من الوهن والفتور في جوارحها والعلل والأمراض الطارئة عليها، ولكن لم يركن إلى الدنيا وما فيها ولم يتدخّل في شئون الدولة«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 704.) بغداد-1973م.
هذه الكلمات الّتي تبدو وكأنّها قد طارت من بين شفتي العزّاويّ دون أن يشعر بما قد أفشى من خلالها عن أسرارِ لُغزٍ هامٍّ جدًّا، لقد يكمُنُ فيها جانب خطير من شخصية خالد البغداديّ وما كان يتّصف به من التلوّن وانتهاز الفُرَصِ! تشهد على هذه الحقيقية ما نقلناه آنفا من كلماتٍ فيها شبه اعتراف قالها خليفته محمّد بن عبد الله الخانيّ، وهي بمنزلة الإجابة عن كلّ التساؤلات في هذا الصدد. ولعلّ ما قاله بعض معارضيه على سبيل الطعن فيه، يوضّح لنا ما يغيب عن إدراكِنا من خفايا هذه الشخصية. ذلك هو الشيخ معروف البرزنجيّ العراقيّ الّذي ألّف رسالة بعنوان »تحرير الخطاب في الرد على خالد الكذّاب«. المصدر السابق ص/ 710. بعث بها إلى والي بغداد سعيد باشا. قال فيها بعد أن اتّهم خالدًا بالكفر والزندقة:
»إنّ الأكراد كلّهم قد اتبعوه. وملأ ببدعته الآفاق، وإنّه يدّعي التصرّف في الكائنات، ويدّعي علم الغيب، وإنّه ذهب إلى الهند فتعلّم من السحرة الجُوكِيّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم«. * محمّد امين السويدي، دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم (ديباجة)؛ مكتبة السليمانية، خزانة أسعد افندي رقم/1404. إسطنبول.(66/325)
* محمّد مطيع الحافظ - نزار أباظه، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 1/304.
نحن لسنا بصدد استغلال هذه الكلمات لنُقيمَها حجّةً على خالد البغداديّ. لأنّ الاستدلالَ بطعنِ المعارض يُبَرِّرُ المعارضةَ ضدَّ الاستدلال، وقد يتسلسل منه الخلاف، ويتمخّض عنه الفساد. هذا من الجانب المنطقيِّ والأخلاقيِّ، وكذلك من الجانب الواقعيِّ. لأنّ البرزنجيّ كان شيخًا من روؤس الطريقة القادرية، ذا شهرة في المنطقة العراقيّة، وربما خاف منافسةَ خالد البغداديّ له و توقّع أنّ دائرة محيطه سوف تتقلّص باشتهار منافسه، فقاومه بالسعاية والشكاية والطعن فيه كما مرّ. وإلاّ فإنّ معارضتَه لم تكن حميَةً اسلاميةً وحمايةً لأصالة الإسلام خشية أن تتعرّض قِيَمُ الدين الحنيف للاستحالة والفساد بانتشار بدع النقشبنديّة. لأنّه أيضًا كان صوفيًّا من أمثالهم، بل كان أقدمهم في نشر البدع وإفساد تعاليم الدين الحنيف بوساطة الطريقة القادرية.
ولكن هذا الصوفيّ الخامل، كيف اهتدى إلى المعرفة بـ »السحرة الجُوكِيّةِ« وعَلِمَ أنّهم من أهل الهند، وأنّ "الجُوكِيّةَ" (أي اليوغا) نوع من السحر - كما يظنّه بعض الناس -، مع أنه في حقيقته شكلٌ من عبادة مجوس البرهمية؛ قوامها التأمّل، والتركيز والاستغراق وحبس النفَسِ. فقد اصطلحها النقشبنديّون بعنوان الرابطة، كما سبق شرحها في بابها.
نعم، مَنْ أخبر البرزنجيَّ عن كلِّ هذه الحقائق الّتي يجهلها شيوخ الطرق الصوفيّة في الشرق الأوسط، لسطحية مستواهم الثقافيِّ وغفلة أكثرهم عن واقع المجتمعات؟!(66/326)
زد على ذلك أنّ خالدًا البغداديَّ بالذّات، يُقِرُّ في مقطعٍ من ديوانه: أنّ الناسَ أنكروا عليه عزمه السفر إلى الهند محتجّين على مغادرتِهِ بلادَ الإسلام إلى ديار الكفر، يقصدون بذلك السلطة الإنجليزية. راجع ديوان خالد البغداديّ، (وهو باللّغة الفارسيّة)؛ البيتين: 46-47. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/3700. إسطنبول. وهذا نصّهما:
"بسي توبيخ كردند أهل توران و خراسانم * بدار الكفر رفتن جون بسندي كر مسلماني؛
بدهلي ظلمتي كفرست كفتند و بدل كفتم * بظلمت رو أكر در جستجوي آب حيواني."
معناهما باللّغة العربية: عاتبني أهل طوران و خراسان، فقالو: "ما بك ترحل إلى ديار الكفر إن كنتَ لمسلمًا! ثم قالوا: إنّ مدينة دلهي قد غشيتها ظلمة الكفر؛ فقلتُ بدلاً عن ذلك (أو قلتُ في نفسي): إن كنتَ تبحثُ عن عين الحياة فعليك بطلبها تحت جنح الظلام."
هذا بالإضافة إلى ما جاء في ثنايا كتابٍ ألّفه محمّد أمين بن عليّ السويديّ بعنوان »دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم« ردًّا على أبي سعيد عثمان الجليليِّ الموصليّ؛ جاء في ثنايا كتابه كلامٌ منقولٌ عن الجليليِّ يذمّ فيه خالدًا ويطعن فيه »أنّه ذهب إلى الهند وتعلّم من الجُوكِيّةِ ونصارى الإنجليز، ظهر عليهم؛ وظهوره صار سببًا لإزالة ملوك الهند المسلمين عن كراسيّهم وتملّكها النصارى...« محمّد امين السويدي، دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم (ديباجة)؛ مكتبة السليمانية، خزانة أسعد افندي رقم/1404. إسطنبول.
هذه الكلمات، ولو فرضنا أنّ فيها مبالغة، ولكن يُستَبْعَدُ أن تكون كلها بهتانًا محضًا على خالد البغداديّ لأسبابٍ هامّةٍ جدًّا.(66/327)
منها: أنّ الطاعن أبا سعيد عثمان بن سليمان باشا الجليليّ كان من أمراء الموصل. وهذا يبرهن منطقيًّا ـ على اقل تقدير ـ أنّه كان رجلاً متفتّحًا خبيرًا بما كان يجري داخل البلاد وخارجها من أمور وأحداث بحكم منصبه ومسئوليته. وبالتالي فانّه لابد وقد استند إلى مبرّر تجرّأ بحكمه على هذا الإسناد الخطير.
ومنها: أنّ ما نسبه الجليليُّ إلى خالد البغداديّ من علاقته بالإنجليز، ومشاركته معهم ضد ملوك المسلمين في الهند؛ فانّه أمر في منتهى الخطورة، يستوجب الاعتماد على ما يستحيل إحباطه من أقوى الدلائل والبراهين. لأنّه يُستَبْعَدُ أن يقوم رجل صوفيٌ عراقيٌّ غريبٌ في ديار الهند بمشاركة الإنجليز في القضاء على حكم المسلمين في تلك الديار؛ كما يُستَبْعَدُ في الوقت ذاته أن يبادر هذا الأمير العالم المرموق بشخصيته العلمية ومكانته الاجتماعية فيخسر كرامته بمثل هذا الإسناد الواهي الّذي يجعل من خالد الصوفيّ الغريب المسكين بطلاً يزيل الملوك عن كراسيّهم، وهو في أرض من أبعد المناطق على وطنه وعشيرته، معزولاً عن السلاح والعتاد!
ولكنّ خالدًا البغداديّ يمتاز بشخصيةٍ رهيبةٍ كلما انكشف للباحث منها جانبٌ أثاره البحثُ ليتابع فيه سيرَه، فلا يكاد ينتهي منه.
ومن ميّزات البغداديّ أنّه لم تسنح له فرصةٌ إلاّ وقد استغلّها ليزداد بها شهرةً إلى شهرته. و من دلائل هذه النفسية الحريصة، أنه اقتبس ثلاثَ كلماتٍ من لهجة سكان الهند فاستخدمها في إشباع أغراضه وتحقيق طموحاته.(66/328)
الأولى منها: هي كلمة "مولانا" الّتي اتّصف بها، ولم يكن من العادة استعمال هذه الصفة للعلماء أو الروحانيّين في المجتمع العثمانيّ؛ بل كان من عادة الفرس والهند. كما عُرف بهذا اللقب جلالُ الدين الروميِّ الّذي هاجر إلى مدينة قونية من خراسان في العهد السلجوقي. فلم يتلقب بهذا العنوان أحد من علماء آناضول تقليدًا به، على الرغم من شهرته البالغة. وقد انتقد خالدًا عددٌ من خصومه على اتصافه بهذا العنوان وعلى رأسهم العثمان الجليليُّ.
وثانيها: هي كلمة "صاحب". كان استعمالها شائعًا بمعنى الصديق على لسان المنتسبين إلى الإسلام في الساحة الهندية. فأطلَقَ خالدٌ هذه الصفةَ على أخيه محمود بعد عودته من الديار الهندية، فاشتهر أخوه بها.؛ ثم انتقل إلى أسعد بن محمود حتّى عُرف هو الآخر بهذا اللقب وناداه الناس بـ"الشيخ أسعد صاحب ذاده"
ثالثها: هي كلمة "ميان" (بكسر الميم وفتحها). استعملها طائفة من مريديه بتأثيره. وهي أيضًا بمعنى الصاحب والصديق.
يبرهن حتّى هذا التقليد الطفيليُّ التافه على نفسية خالد البغداديّ وطبيعته. والله وحده يعلم كم بذل خالدٌ من الجهود وما همس إلى أمناء سره ودعاته وبطانتِهِ من أوامر وتعليمات لاستمالة الناس إليه وإلقاء هيبته ومحبته في قلوبهم بكلّ طريقةٍ ووسيلةٍ أجادوها. إذ أن أيَّ فردٍ ذاع صيته في حياته، يستحيل أن يكون قد نال ما نال من الشهرة دونما رغبة منه واشتياق، ومن غير تحبّبٍ منه وتصنُّعٍ إلى الناس، ما عدا أهل الإيمان الصادق والإخلاص من أولئك الّذين يمتاز دعواهم بالشمول والعالمية؛ وهم الأنبياءُ والمرسلون وأنصارُهم من الحواريين والصحابة والصديقين والتابعين لهم بإحسان.(66/329)
إذًا فانّ أسرار شخصية خالد البغداديّ قضيةٌ مهمّةٌ مرهونة بالإطلاع على واقعها من خلال بحثٍ مستقلٍّ يستوعب جوانِبَها الخفيةَ بتمامها. ولا نبالغ إذا قلنا: أن هذه السلسلة من التوضيحات الّتي ما زلنا في متابعتها، لا تبخل بكشف القناع عن قسط كبير من هذه الشخصية وإزالة ما تتوارى وراءها من سرابيل الزهد والإخلاص والعبادة والتقوى؛ وذلك بأقصى قدر من التفصيل بدقائقها على حقيقتها؛ لتكون وثيقةً تاريخيةً، وعبرةً لأولي الألباب!
مكث خالدٌ البغداديّ في مدينة جهان آباد (دلهي) مدة عام كامل. عدا ما أمضى من الوقت في السفر ذهاباً وإياباً. لأنّه بدأ رحلته عام 1224 من الهجرة وعاد سنة 1226هـ. يُقِرُّ بهذه الحقيقة من أرّخ له من النقشبنديّين أيضًا. ولكنه ماذا عمل وما ذا تعلّم في هذه المدة؟ على أي حال، فقد أجاب النقشبنديّون عن هذا السؤال حسبما قصّ عليهم البغداديّ من ذكرياته. ولكنّنا لا نعثر على كلمة واحدة ما عسى يكون قد صرفها دفاعًا عن دماء المسلمين من سكّان الهند وحمايةً لعرضهم وكرامتهم ضدّ السلطة الإنجليزية الّتي لم تعرف الأمان ولا الاحترام لحقوق أهل الإسلام في تلك الديار. بينما نعثر على عبارات له في رسالته الّتي وجّهها إلى عبد القادر الحيدريّ ردًّا على كتابه، يعبّر فيها عن ابتهاجه بغلبة الجيش العثمانيّ على العرب الوهّابيّين، وهذه كلماته:
»ثمّ بشّرتُمْ فيها دَاعِيَكُمْ ببعض الأخبار السارّة من جهة الحرمين الشريفين وغلبة عساكر الإسلام وانتظام أمرهم، وذلّة الفرقة المخذولة الوهّابية وقربهم على الدمار والبوار، ووقوفهم على شفا جرف هار«. راجع المصادر التالي:
* محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد ص/ 172: الرقعة الثالثة والأربعون من مكتوبات خالد البغداديّ؛ كتبها إلى خليفته عبد القادر الحيدريّ؛
* المصدر السابق، ص/ 183: الرقعة الخمسون من مكتوبات خالد البغداديّ؛ كتبها أيضًا إلى خليفته عبد القادر الحيدريّ؛(66/330)
* عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، (تذكار الرجال)، الرقعة السادسة والثلاثون. مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)
من عجائب قدر الله وآثار قدرته أنّ الغلبة صارت في النهاية لجيش الوهّابيّين، وانتظم أمرهم حتّى أعلنوا عن قيام دولتهم. أمّا عساكر النقشبنديّين، فانّهم باؤوا بفشل ذريع وأصبحوا هم الفرقة المخذولة، بخلاف ما كان يتوقّعه غوثهم الّذي يعظمونه بصفات لا يعتقدونها في أحد من الأنبياء والمرسلين. فلم يتحقّق لهم النصر ليباهوا بذلك خصومَهم على أنّه من كراماته ولكن هذه الفتنة الّتي اشترك في إضرام نيرانها الجانبان، غدت من الأسباب الهامّة لسقوط دولة المسلمين (الإمبراطورية العثمانيّة العظيمة) الّتي كانت محط آمال المسلمين، ومصدر فخرهم واعتزازهم وذخر أمنهم وأمانهم.. {وَمَا النصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. سورة آل عمرن/126.
اشتهر خالدٌ البغداديّ بعد عودته من الهند بصورة غير معهودة، وذهب صيته إلى أقصى بقاع المملكة العثمانيّة مما أثار الشكوكَ حوله في نفس الخليفة العثمانيّ السلطان محمود الثاني بالذات وفي أوساط حكومته. لأنّ أتباعَ خالدٍ البغداديّ كانوا يسعون بحماسة شديدة لنشر طريقتهم في جميع أنحاء المملكة، وكانت لهم نشاطات كثيفة حتّى في مدينة إسطنبول عاصمة الدولة.
فقد ورد على لسان أحد المؤرّخين العثمانيّين ما قد عرّبه عباس العزّاويّ كما يلي:(66/331)
»منذ خمسة أشهر مضت، ورد إلى إسطنبول بعضُ خلفاءِ الشيخ خالد المتوطّن في الشام، وهو من علماء السليمانية، وانتشروا في مساجد إسطنبول وجوامعها، وبثّوا الدعوةَ إلى طريقتهم، فانتسب إليها جماعةٌ من أكابر إسطنبول وعلمائها، ونالوا شهرةً في بلاد العربِ والتُّرْكِ، وصاروا يسمّون دعاتهم (الخلفاء)؛ فأذاعوا هذه الطريقة، وسعوا سعيًا حثيثًا في ترويجها وكسب المريدين لها.
وهى وإن كانت لا ضرر منها في الظاهر، فالأَولى أن لا يُتْرَكَ المجالُ لتكثير (سواد الصوفيّة) وإقرارهم على هذا. والواجب يقتضي مراعاة الأحوال الموجودة والمعهودة في الإسلام.(66/332)
وعلى هذا نُفي من إسطنبول مشاهيُر الطريقة النقشبنديّة وأعوانُهم في 21 من شهر رمضان سنة 1234هـ. 1817م. ليلاً. وجيء بهم إلى الميناء، وأُركِبوا في زورق إلى (قارتال) منطقة وميناء داخلي في الناحية الشرقية من مدينة إسطنبول ومحطة هامّة بينها وبين مدينة يالوا. ومنها إلى سيواس سيواس (السبطية القديمة) مدينة عريقة في أواسط آناضول، ومحطة هامة بين شرق البلاد وغربها. فأحلّوهم فيها. وفي اليوم التالي نُفِيَ من مشاهيرهم علي أفندي أُرْكُبِي من علماء إسطنبول إلى (جَرْكَشْ) داخل مدينة أنقره. وصالح أفندي، وأحمد أفندي إلى (سيواس). ثم أُرْسِلَ خليفةُ الشيخ خالد وأَعْوَانُهُ إلى أنحاء السليمانية على أن لا يعودوا إلى إسطنبول«. تاريخ لطفي 1/287. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/4755. فأدّى هذا التطوّر إلى إصدار الأوامر بالبحث والتحقيق مع خالد البغداديّ، رئيس الطائفة. وذلك بإيعاز من أحد رجال الدولة يُدْعَى حَالَتْ أفندي. حالت أفندي (السيد محمود سعيد 1766-1823م.) كان رجلاً وجيهًا عالمًا بارزًا بين رجال الدولة العثمانيّة في عهد السلطان محمود الثاني. تولىَّ مناصب هامّةً وأقام سفيرًا في العاصمة الفرنسية (1802-1806م.) على الرغم من أنه لم يتعلّم اللّغة الفرنسية. شخصيتُهُ جديرةٌ بالإهتمام. لأنّه كان حريصًا مغامرًا خطيرً لم يستعظم أيّ عقبةٍ على طريقه في التوصّل إلى مآربه. كان له تأثير في تنفيذ حكم الإعدام في كلٍّ من علي باشا وأبنائه المعروفين بأسرة (تبه دلنلي)؛ وكذلك في إعدام سليمان باشا والي بغداد، وإقالةِ صالح باشا، وثورة المورة. ثم في النهاية تم تنفيذ حكم الإعدام فيه أيضًا بتأثير مسيو صابستيان سفير الدولة الفرنسية في إسطنبول. فأمر به السلطان، فقُتل في مدبنة قونيا خنقًا.يَعُدّ النقشبنديّون هذا الحدثَ من كرامات الشيخ خالد البغداديّ، وتحقيقًا لدعائه على حالت أفندي الّذي كان قد سعي لدى السلطان(66/333)
محمود الثاني، وأشار عليه بأخذ الإحتياطات ضد خالد وبطانته. فقام بهذه المهمّة داود باشا والي بغداد. إلاّ أنّه أعرب في التقرير الّذي أعدّه؛ »أنّ خالدًا لا قصد له إلاّ إحياء السنّة السنية، وأنّه مشغول بإرشاد مريديه، غير ساع بذلك إلى تحقيق أيّ مصلحة له. وأنّه بعيد كلّ البُعد عن الشئون السياسية«. وتعهّد الوالي داود باشا في نهاية التقرير »أنّ خالدًا لن يتدخّل في أيِّ شئٍ من شئون الدولة أبدًا«. سليمان فائق، مرآت الزوراء ص/ 68.
اطمأنتْ السلطةُ لا شك بعد هذا التحقيق الّذي أثبتَ ولاءَ خالدٍ للخليفة. إلاّ أنّ في هذا الحدثِ مسألة هامّة. تلك أنّ نشاطات خالد البغداديّ بما فيها رحلته إلى الهند، والتطوّرات الّتي تعاقبتْها؛ كانتشارِ صيته إلى الآفاق بسرعةٍ، وإقبالِ الأعيان عليه، إذا لم يكن ذلك كلّه خطّةً قد أعدّتْها أيادي السلطة العثمانيّة بالذات في وقت سابق لاستخدامها في أَوَانِهِ لجمعِ شملِ الدولةِ، فانّ وجودَ خالدٍ صدفةً وبغتةً بهذه الشهرة المتزايدة أصبح فرصةً ذهبيةً للتوصّل إلى الغرض المنشود، وبخاصّة لما اتّفق مع هذه المرحلة الخطيرة الّتي تزاحمت فيها الويلات على الدولة العثمانيّة، والتفّتْ بخناقها حتّى كادت تُشرف على الدمار.(66/334)
وعلى سبيل المثال فانّ الوهّابيّين أعلنوا الثورةَ على السلطة العثمانيّة في جزيرة العرب. فأرسلتْ الدولةُ إليهم محمّد علي باشا عام 1812م. كذلك وقعت ثورات عديدة في منطقة البلقان؛ من أشدّها ثورة الصرب في بلغراد الّتي أُرسِلَ خرشيد باشا لإخمادها عام 1813م. ثم انعقدت جمعيةٌ سريةٌ يونانيةٌ باسم: أتنيكي أترياEthniki Etaireia عام 1814م. لفصل المنطقة اليونانية عن الدولة العثمانيّة وإعلان استقلالها. وكانت الدول الأوربية قد اتّفقت في خضم هذه الثورات على إجبار الدولة العثمانيّة للاعتراف بالوجود السياسي للأقليّات. ولم يكن الغرض الحقيقيّ للدّول المتحالفة من هذا الإجبار إلاّ تمهيد الوسط لاقتسام الأراضي العثمانيّة فيما بينها.
كانت هذه نُبذةً يسيرةً عن مشاكل الدولة العثمانيّة في الخارج. أمّا في الداخل، فانّ الدولة كانت قد فقدت الهيمنة على المنطقة الكرديّة. وعندما كلّف السلطانُ عشائرَ الأكراد بحمل السلاح والالتحاق إلى معسكرات الدولة لتغطية الفراغ الّذي بقي بعد القضاء على الجيوش الإنكشارية، رفضوا أمرَهُ، وأعلن بدرخان باشا (أميرُ كردستان) الثورةَ عام 1831م. وكانت الطائفة اليزيدية القاطنة بجبال سنجار بقرب مدينة الموصل، كانوا قد أعلنوا العصيان منذ عام 1830م. إنّ الدولة العثمانيّة لم تكن قد تعرّضت إلى هذا القدر من المخاطر عبر تاريخها المديد.(66/335)
إذًا فلم تكن مضايقة خالد البغداديّ في مثل هذه الظروف من مصلحة الدولة بحكم الطبع. بل كانت الحكمة في استغلاله، وتجنيد أتباعه المنتشرين في أنحاء المملكة، واستخدامهم بجانب قوات الدولة، مما دفعت السلطةَ إلى التعاون معه؛ كما تبرهن على هذه الحقيقة كلمات الباحث العراقيّ، عباس العزّاويّ بالنسبة لداود باشا والى بغداد، فيقول العزّاويّ »وبعد أن استولى على بغدادا وصار واليا عليها، استغلّهم سياسيًّا وجلب رضاهم...« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 718. بغداد - 1973. خاصّة وأنّ عقائد النقشبنديّين لما كانت تختلف عن عقائد السلفيّين اختلافًا كبيرًا - والوهابيّون يعدّون أنفسَهم من السلفيّين - استغلّتْ السلطةُ العثمانيّةُ هذا التنافرَ أكبر فرصة في تحريض خالد البغداديّ وأتباعه على الوهّابيّين الثوّار، وكانت الأسباب متاحة لهذا الاستغلال.
إذ أنّ الموقع الجغرافيَّ الّذي اتخذته الفرقة الخالدية مركزًا لها يومئذ - وهو بلاد الشام والعراق - كان على تخوم منطقة الوهّابيّين، خاصّة و أنّ هذا الموقع كان بمنزلة الدرع لمنطقة آناضول التركية ضد انتشار عقيدة التوحيد بدافع نشاطات النقشبنديّين على امتداد هذه الساحات الشاسعة.
إنّ هذه الحقيقة ما زالت خافية على المثقّفين العرب حتّى الآن، و أنّ البحوث العلمية الّتي قد خاض فيها علماء العرب منذ بداية النهضة الحديثة لم تتناول هذا الجانب من التطوّرات في أبعادها الواقعية والموضوعية، ذلك لأنّ الطريقة النقشبنديّة لم تنتشر في صفوف العناصر العربية بشكل ملحوظ. ولذلك لم ينتبه الباحثون العرب إلى مدى علاقات النقشبنديّين بالسياسة وأهلها في الداخل والخارج، ولا إلى دورهم في محاربة الوهّابيّين، سواء في العهد العثمانيّ وفي العهد الجمهوريّ. كما سنشرحه في بابه إن شاء الله.(66/336)
إنّ الّذين يدّعون أنّ خالدًا جاء بتربية جديدة ونفخ في الناس روحَ الزهد والعفّة والقناعة بفضل طريقته وآدابه الخاصّة، فأدّى ذلك إلى هبوطٍ ملحوظٍ في أحداث النهب والسلب والقتل، وسَادَ الهدوءُ والأمنُ والطمأنينةُ في المنطقة الكرديّة بتأثير هذه الطريقة؛ فانّ هذا الادّعاء قد يكون له أساس من الصحة. إلاّ أنّ هذا الدفاع الحماسيَّ العاطفيَّ لا يبرهن على مشروعية الأساليب المخالفة لروح الإسلام بتاتًا؛ مهما كانت هذه الأساليب تتبنّى ما يُرْشِدُ إليه الإسلام من الفضائل والأخلاق السامية. فإنها لا تعدو الإقرارِ بالإسلامِ وآدابهِ الأصيلةِ وعظمتهِ وحّقَّانِيَّتِهِ وَرَبَّانِيَّتِهِ الّتي استوحتْ منه النقشبنديّة أمورًا كما استوحتْ من أديان أخرى وعلى رأسها الهندوكية، إذن تسقط هذه الأساليب من الاعتبار تلقائيّا في ميزان العقلِ والقساس المنطقيّ لأنّها تبقى زائدة على الإسلام وتفضله بدون حكمة؛ وتقع تلك الأساليبُ موقعَ دينٍ مستقلٍّ. لأنه قد تكون ثمّة طرق لتدريب الإنسان على الصدق والقناعة والعفّة وصفاء السريرة مع الشرك بالله. كما في الأديان الباطلة المحرَّفة. فانّ ذلك ليس من الحكمة في شيءٍ. إذ لا يخفى أنّ اليهودية، والمسيحية، والبرهمية، والبوذية، والزرادشتية وغيرها من الأديان؛ كلها تحرّم الكذب، والغش، والسرقة، والإيذاء والقتل، والزنا؛ مع أنّها أديان محرَّفة باطلة بحكم الله القاطع في كتابه العزيز. {إِنَّ الدين عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ.}. سورة آل عمران/19. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلآمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ.}. سورة آل عمران/85.(66/337)
أما اختفاء الوقائع الإجرامية بتأثير خالد البغداديّ وطريقته، فإنه أمرٌ ثانويٌّ أسفر عن الطاعة المطلقة الّتي أظهرتْها جماهيُر النقشبنديّين له ولِخلفائه؛ والّتي أثّرتْ على نفوس الآلاف من غيرهم. وله سبب غريب جدًّا. يكمُنُ سرُهُ في صلاةٍ خاصّة بهم تسميَّ "الرابطة" عندهم. وهي "التركيز" على صورة الشيخ بشروطٍ معيّنةٍ سبق شرحها بالتفصيل في باب آداب الذكر عند النقشبنديّة من الفصل الثاني. ذلك لما انتشرت هذه العقيدة بجهود خلفاء البغداديّ ودِعَايَاتِهِمْ الكثيفة على الساحة الكرديّة الّتي كانت يومئذٍ مهدّدَةً بأخطار اللصوص وقطّاع الطرق والحراميّين، وانجذب غالبُ الأكراد بهذا الّتيار الصوفيّ إلى صفوف النقشبنديّين؛ لوحظ - بحكم الطبع - انحطاطٌ بالغٌ في أحداث النزاع والجنايات في المنطقة. لأنّ هذه الصلاةَ السحريةّ لها تأثير عظيم في تهدئة الأعصاب وإماتة الشعور والقضاء على البطر والميول الشهوانية.
وقد أثبتتْ التطوّرات الّتي شاهدها محيط النقشبنديّين في تركيا، أنّه ما من شيخٍ من مشائخ هذه الطائفة اهتمّ بتطبيق الرابطة وشدّد على مريديه بملازمتها، إلاّ وقد انتشر صيتُهُ و تهافت الناسُ عليه تهافت الفراش على النار، ودامت المشيخة في أسرته جيلاً بعد جيلٍ، كالأرواسيّين وأتباعهم من شيوخ الأكراد والتُّرْكِ. وما من شيخ منهم استخفّ بأمر الرابطة ولم يشدد على مريديه بملازمتها، إلاّ انتهت أعماله بالفشل، وخسر أبناؤه من شهرتهم وسقطوا إلى منزلة عوامّ الناس في مدةً قصيرة، كعائلات الشيوخ ذات الأصول العربية من النقشبنديّين في جنوبي تركيا.
أمّا الغاية الحقيقية والنهائية من هذه الصلاة، إنّما هي ترويض المريد على تبعيّة الشيخ و الاستسلام له بكل ما يملك من مال وجاه وروح؛ بكمال الرضىَ، وعن طيبِ نفسٍ وفداءٍ وإخلاصٍ، كما سبق شرحه بالتفصيل.
***(66/338)
كلّ هذه المُعطَيات الهامّة الّتي نُثْبِتُهَا ونَتَحَقَّقُهَا من خلال ميّزات خالد البغداديّ وتأثير آدابه الّتي فرضها على أتباعه، تقودنا إلى التأكُّد بأنّ السلطة العثمانيّة كانت في تلك المرحلة بحاجةٍ مُلحّةٍ إلى هذا الرجل الفريد في مكره ودهائه وذكائه ولباقته ومرونته وحذاقته في جذب الناس والاستيلاء على عقولهم، والتحكّم في إرادتهم. هذا الرجل الّذي أصبح شيخًا روحانيًّا عملاقًا، استهوتْهُ قلوبُ مئاتِ آلاف الناس وتعلّقت به الضمائر، ومع ذلك ارتجفت من بطشه الفرائص، واقشعرّت من هيبته الجلود، وافتتنت بشهرته النفوس، وثارت لاستغلال جاهه ومكانته الأطماع.
ولهذا لم تَدَّخِرِ السلطةُ وُسْعًا في تأييد خالد البغداديّ، والدعاية له، والقيام بنشر صيته سرًّا وعلنًا؛ ذلك لكسب تأييده بمقابلة المثل في إخماد الثورات الّتي انفجرت في المناطق الكرديّة والعربية يومئذ؛ ولتوفير الأمن والهدوء في ربوع البلاد.
إنّ هذا الموقف الّذي قامت على أساسه العلاقات بين السلطة العثمانيّة وبين خالد البغداديّ، يُعْتَبَرُ هو العاملَ الأساسيَّ لانتشار الطريقة النقشبنديّة الخالدية في صفوف الأتراك والأكراد عَبْرَ المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ والعهد الجمهوريّ على السواء؛ والّذي جعل من هذه الطائفة اليوم جمهورًا في تركيا، تحسب الحكومات حسابها في كلّ تقلّبٍ وقرار لكسبها.
***
* خالدُ البغداديّ ومعارضوه.
تفيد أخبار النقشبنديّين أنّ خالدًا لقي معارضةً شديدةً من رجالٍ بارزين في العراق فور عودته من الهند. هذه المعارضة، على الرغم من أنّ النقشبنديّين يحملونها على الحسد المحض من هؤلاء الأشخاص، لها سببان مهمّان، كما سنطرقهما بالإيجاز، بعد أن نُلقي نظرة سريعة على شئٍ من كلمات مَنْ ندّد بالمعارضين ورماهم بالحسد؛(66/339)
يتحمّس عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بخلع صفات الإجلال على خالد مدافعًا عنه بأسلوبه المسجّع الخاصّ وعلى سبيل التشنيع والإدانة لخصومه فيقول:
»لمّا اطّردت سنة الله في الّذين خلوا من قبل، أن يجعل حُسّادًا لكلّ من تفرّد بالفضل، وكلّما كان الكمال والمحبوبية الإلهية أشدّ، كان الإنكار والحسد أشدّ؛ هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعدوان والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو برئٌ منها كلّها بشهادة البداهة والعيان«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/231.
ثم يستطرد الخانيّ بقوله:
»فألّف أحد المعروفين من المنكرين الّذي تولّى البهتان كبرًا وغرورّا، رسالةً مُلِئَتْ منكَرًا من القول وزورًا، وأرسلها مع سُعاة الفساد إلى سعيد باشا والى بغداد، متّخذين الجرأة فيها على نكيره لتنفيره منه سببًا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلاّ كذبًا«. المصدر السابق.
هذه العبارات الّتي استعرض فيها الخانيّ تفوّقه الأدبيَّ، لا تُنبئ عن تمام الحقيقة لذلك الحدث. وإنّما الواقع، هو الّذي أثاره »أَحَدُ الْمَعْرُوفَيْنِ مِنَ الْمُنْكِرِينَ« بتعبير الخانيّ -، (وهو معروفٌ البرزنجيُّ، والثاني لم نعثر على شيءٍ من أخبارِهِ). فالواقع الّذي أثاره البرزنجيُّ، هو مقالُهُ عن خالدٍ (وما جاء في خلالِهِ: أنَّ خالدًا حمل من الهند إلى العراق من عادات البراهِمَةِ وعقائدهم، فجعلها أساسًا لطريقته فجذب قلوبَ الناسِ بها.)(66/340)
يبدو من ظاهر طعن البرزنجيِّ في خالد البغداديّ، أنّ السبب لهذه المعارضة، هو ما يقصده بقوله: »إنه ذهب إلى الهند، فتعلّم من السحرة الجُوكِيَّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم« خشية أن يدسَّهُ في عقائد المسلمين (() إلاَ أنّ السبب الحقيقيَّ هو مخافةُ معروفِ البرزنجيِّ من أن يخسرَ أتباعَهُ وشهرتَه، فيُصبِحَ مهجورًا وحيدًا بعد أن رأى خالدًا ينافسه بنجمه الّذي بدأ يلمع في الآفاق ويتألق.
من الجدير بالإشارة هنا، أنّ محاولة البرزنجيّ في هذه المعارضة، تبرهن بكافّة جوانبها على قلّةِ حظِّهِ من العلم والمعرفة والسموّ الأخلاقيِّ؛ و على عدم كفاءته ومروءته وإخلاصه. ولكن تدلّ على أنّه كان هو الآخر صوفيًّا متطرِّفًا بعيدًا من الفضائل والكمالات الّتي يتميّز بها علماء الإسلام من الصلابةِ في وجه الدجاجلة المحرِّفين؛ جبانًا، لا يملك الجرأةَ على أهل الأهواء والبدع والفاسقين؛ جاهلاّ بفنون المجادلة وأساليب إفحام المتنطّعين.
لذا وجد نفسَه في النهاية مضطرًّا للاستسلام تحت ضغط النقشبنديّين، ورضي بالذلّة والمهانة أمام زعيمهم، فاعتذر كما يذكره الخانيّ في حدائقه ويشرحه بحماسة ورغبة ابتهاجا بانتصار خالد البغداديّ عليه، فيقول:
»ثم اعترف معروفٌ بافترائه، وتشفّع إليه (...) مع جملةٍ من أحبّائه، فقبل به شفاعتهم، وكتب له ما أوجب مسرّتهم. ونصّه:«(66/341)
»من العبد المسكين والفقير المستكين إلى جناب سيّدي الجامع لشرف العلم والأدب الحائز لكرامتي الحسب والنسب، سيدنا ومولانا السيد معروف، سامحه بفضله الكريم الرؤوف. وبعد؛ فقد بلغني ما وصّيتم به أخي ملاّ حسين القاضي وأمرتموه بتبليغه إلينا من حسن العبارات ولطائف الإشارات؛ ثم ما ألقيتموه مع قرة عيني العالم العامل السيد إسماعيل من مكارم الأخلاق، والاشتياق إلى التلاق، وإظهار الأسف على ما صدر منكم في حق الفقير على سبيل الاتّفاق، بسعاية أرباب الأغراض وأهل الشقاق؛ والاعتذار عن جميع ما جرى به اليراع، في رسالتكم المعهودة الناشئة عن تقليد الوشاة وعن عدم الإطّلاع، المهيّجة عند بعض عوام المريدين لفرط الوحشة وشدة النزاع، الحاكمة على هذا المسكين بأمور تنبو عن استماعها الأسماع؛ من استحلال المحرّم، والكلمات الدالة على الكفر، وداعية الاستيلاء على البقاع، وغير ذلك مما لا يليق بشأن الأوغاد والرعاع. وتفصيله لا يخفى على ذهنكم الوقّاد وطبعكم النقاد. و إني لبرئٌ عما نسبتم إلىَّ من فنون المثالب والفساد والإفساد. وأمرتم السيد المذكور أن يستكتب مِنِّي أُلوُكَةً تنطق ببراءة الذمّة من جميع ما صدر وغبر وجرى به القلم بمقتضى القضاء والقدر، لتصير مفتاحًا لأبواب الائتلاف ومصباحًا لِدَيَاجِيرِ المراء والخلاف.وبلغني من السفيرين تصميمكم على الإمساك فيما بعد أمثال ما مضى من النزاع والمناحرة، وملافاة ما فات بطيب التحابّ وحسن المعاشرة وتبديل المعارضة والمنافرة بالفكاهة والمسامرة؛ فسرّتني هذه الحكاية غاية المسرة؛ وحمدتُ الله على هذه النعمة مرةً بعد مرةٍ، شكرًا لمن بدّل الشقاق بالاتّفاق، وهيّأ أسباب الوصول بعد طول الفراق. أدامنا الله على هذه النية، وأتمّ لنا بمنّه هاتيك الأمنيّة؛ ثم الأمر بإرسال المكتوب، امتثلنا وهو أحسن المطلوب، ونريد جوابه على أبلغ أسلوب.و أمّا الإبراء، فهو يصدر منّي ليلاً ونهارًا، وأفصحتُ به في(66/342)
المحافل جهارًا، كما قرع سمعكم مرارًا.وأمّا حب الإلتآم وترك الاختلاف، فأمرٌ يَشتاق إليه أهل الإنصاف. فكيف بمن يدعى له قدم في طريق التصوّف ولو بالجذاف. ولا يخفى عليكم أنّ السبب الأصليَّ لهذه الوحشة إنّما هو ترك التردد، وتقليد أقوال الناس.فانْ صحّ ما بلغني عنكم، فعليكم بالإعراض عن الكلمات المؤدّية إلى الشكّ والوسواس. فانّ أحوال أهل الفقر وراء العقل، والعلم يدرك بالقياس. وبعد اللتيا والّتي، يضمن لك هذا المسكين - إن ثبت قدمك، وما طغى قلمك بعد اليوم - أن ترى نتائج لا يحمل أكثرها السفير، وتزيد على حوصلة التقرير والتحرير.
ومن بعد هذا ما تدقّ صفاته * وما كتمه أحظى لديّ وأجمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/231-232.
إنّ في هذا الخطاب لعبرة لأولى الألباب! نلمس من خلال مضمونه ما يمتاز به خالد من لباقةٍ وتلوّنٍ ومهارةٍ بفنونِ التفنيدِ ولو كان مُنَاظِرُهُ على حقّ. ونجده في انتقاء الكلمات بارعًا محنَّكًا، يُتقن أساليب حرب الجدال، ويعلن انتصاره بجمال التعبير، وكمال النطق والتقرير، ونظام الإنشاء والتحرير، بحيث يضطرّ المخاطب أن يُرخِيَ له جناحَ الذلّ من الهيبة فيعلنَ الاستسلامَ والخنوع أمامه، ويكتم الحقَّ والواقعَ، ويعترفَ بغلبته وعظمته.
هذا ما وقع لمعروف البرزنجيّ. فتهيّب ظلّ خالدٍ واستعظمه، ودبّ الذُعر في قلبه حتّى أظهر الندامة؛ وكأنّه لم يكن هو الّذي طعن في خالد بقوله: »إنّه ذهب إلى الهند، فتعلّم من السحرة الجُوكِيَّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم«. راجع الهامش رقم/ 457.
***
وهنا يتبادر إلى الذهن بهذه المناسبة أنْ نتساءل عن السر الحقيقي الّذي يَكْمُنُ في رحلة عددٍ من رجال الصوفيّة إلى بلاد الهند بما فيهم خالد البغداديّ؛ وذلك لسببٍ غير شديد.
يقول الباحث سميح عاطف الزين في هذا الصدد:(66/343)
»ومنهم من سافر إلى بلاد الهند كي يلتقي المهرة ممن يمارسون فنون السحر؛ فيأخذ عنهم ما يحقّق له غايته. ومن هؤلاء، كان الحسين بن منصور الحلاّج الّذي سافر إلى الهند أكثر من مرة، وقضى فيها بضع سنوات، حيث تعلّم وتدرّب وعاد يُظهر للناس ما يبهر العيون، ويجمع الأتباع والمريدين. فمن الأعمال الّتي كان يقوم بها: أنّه كان يدخل تنّورًا يضطرم بالنار فيجلس في ناحية منه، والخباز يخبز في ناحية أخرى. ثم يخرج دون أن يمس جسمه النار. أما في الواقع، فانه كان يَعْمِدُ قبل دخوله التنّورَ إلى دهن جسمه بمادّة الطلق الّتي لا تؤثر فيها النار. وهي مادّة الأسبستوس المعروفة اليوم، والّتي تُصنَع منها الملابسُ خاصّة لرجال الإطفاء يرتدون عند مكافحة الحرائق«. سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 157، 158.
هذا ومن الأمور الشائعة بين الطائفة الرفاعية والجراحية والقادرية - خاصّة في تركيا والعراق - أنّهم يقومون بطعن الأسياخ من الحديد في مختلف البقاع من أجسامهم؛ يدخل السيخ مثلاّ في ناحية من البطن، ويخرج من العَجُزِ وهو يرقص في حالة من الاستغراق.(66/344)
كذلك يدخلون النار فلا تحرقهم، ويقرِضون الزجاجَ فيسحقونه بأسنانهم ثم يبتلعونه على رؤوس الأشهاد. وهذه الاستعراضات كثيرةُ الوقوعِ، يشهدها جماهيرُ من الناس الّذين يحضرون حفلاتهم بعيونٍ شاخصةٍ، واستفهامٍ في أذهانهم، لا يجدون له ردًّا، ولا لمشكلتِهم حلاًّ. فيظنُّ غالبهم أنّها كراماتٌ، ويحسب بعضهم أنها أشكال من السحر. والحقيقة أنها ليست من الكرامة في شيءٍ ولا هي معدودة من السحر؛ وإنما هي طبائعُ مكتسبةٌ نتيجةَ رياضاتٍ يوغيةٍ شاقةٍ من تقاليد الهنود، قلّ من يتحمّل ثقلها وآلامها والحرمان الّذي يعرض له جسمه. يمارسونها مدة طويلة حتّى يصلون إلى هذا الحدّ من قوة التحكم في الأجهزة الدقيقة من البنية البشرية ووظائفها؛ وهي حالة خطيرة تسمّى بالتعبير العلميِّ Concentration Physiologic أي "التركُّز الفزيولوجي".
وقبل أن نخرج من بحثِ معارضةِ البرزنجيّ، ينبغي أن نتطرّق بإجمالٍ إلى المهاجمة والردود الّتي تعرّض لها في مقابلة عتابه على خالد البغداديّ.
يقول الباحث العراقيّ عباس العزّاويّ:
»إنّ الشيخ معروفًا النودهيّ البرزنجيّ (وهو العلاّمة الشيخ محمّد بن الشيخ مصطفى.) فقد نظم رسالة بعنوان: تحرير الخطاب في الردّ على خالد الكذّاب. وأرسلها في سنة 1228 هـ./1813م. إلى الوزير سعيد باشا والي بغداد في ذمّ الشيخ خالد، ولم يكتف بذلك حتّى أسند إليه الكفر. وناصر الشيخ معروفًا كثيرٌ من الأهليّين في السليمانية. كانوا يعتقدون بسادات بَرْزَنْجَة وطريقتهم (قادرية)؛ فثقل عليهم أمر الشيخ خالد؛ وحاولوا إخمادَ شهرته فلم يفلحوا«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 710.) بغداد-1973م.(66/345)
يمكن اختصار ما جاء بعد هذا المقطع ضمن كلام العزّاويّ في هذا الصدد: أنّ تلك المعارضة لقيتْ ردًّا عنيفًا من بطانة خالد ومناصريه بما فيهم والى بغداد سعيد باشا بن سليمان باشا؛ فتصدّى للردّ على البرزنجيّ كلٌّ من الشيخ محمّد أمين بن محمّد صالح الطبقجليّ، مفتي الحلّة؛ والشيخ يحيى المزوريّ؛ والشيخ عبيد الله الحيدريّ؛ والشيخ محمّد أمين السويديّ.
أمّا الشيخ محمّد أمين بن محمّد صالح الطبقجليّ، فانّه ردّ على البرزنجيّ بعجالة سمّاها "القول الصواب، بردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب"؛
وأمّا الشيخ يحيى المزوريّ، فرسائله الّتي نصح فيها البرزنجيّ وهي سبعة رسائل، يضمُّها كتاب "بغية الواجد" محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/261-284. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م. للشيخ محمّد أسعد الصاحب، جمع فيه مكتوبات عَمِّهِ خالد البغداديّ.
ومن جملة هذه الردود »صكٌّ« مُوَقَّعٌ عليه من ملالي السليمانية الّذين كانوا تحت تأثير خالد البغداديّ بحكم الجوار. يفخر النقشبنديّون بهذا الصكِّ على لسان ناقله إذ يقول بعد ما يعدُّ أسماءَ هؤلاء الخواجوات المتواطئين على إصداره بتوقيعاتهم »هم من العلماء الأفاضل والسادات الأماثل. ومضمون الصكِّ المذكور: الثناء على حضرة مولانا خالد، والحطّ على رسالة الشيخ معروف وتكذيبها؛ مع أن أغلب العلماء المذكورين أبناء عَمِّهِ.« المصدر السابق ص/ 213. الصكّ المذكور، فقد أورده أسعد الصاحب بكامل نَصِّهِ في بغية الواجد بعد هذا التوضيح مباشرةً. أوّله »الحمد لله الّذي أراح الفقراء مع كثرة تعرّض الظالمين...«(66/346)
كذلك تصدّى الشيخ محمّد أمين السويديّ للرّدّ على رسالةٍ كان قد كتبها الحاج أبو سعيد عثمان بك بن سليمان باشا الجليليّ بعنوان »دين الله الغالب على كلّ منكر مبتدع كاذب«. كان شَرَحَ بها رسالةَ "تحرير الخطاب" للشيخ معروف البرزنجيّ؛ ردّ عليهما السويديُّ بكتابه الّذي سمّاه تارةً »دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم«؛ ثم قال »ويناسب أن يسمّى القول الصواب في ردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب«؛ ثم قال »والأنسب أن يسمّى السهم الصائب لمن سمّى الصالح بالمبتدع الكاذب« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 712.) بغداد-1973م.
نقل أسعدُ الصاحب ترجمةَ محمّد أمين السويديّ وامتدحه بقوله »إنّ هذا الجهبذ المفضال قد قام في الانتصار لحضرة مولانا العم حق القيام؛ يتحتّم عليَّ أنْ أذكرَ نُبذةً من ترجمته أداءً بحق خدمته«. محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/ 292. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م. إلاّ أنّ الشيخ أسعد هذا، لم يملك نفسه في الوقت ذاته من مهاجمة الجليليّ بلهجة قاسية يتحاشى من أمثالها أهلُ العلم، فقال في ثنايا عباراته »فلما اطّلع العلماء الأعلام، في العراق والشام، على تحاملهم على هذا القطب الكامل، طفقتْ تترى ردودُهم على رسالة الشيخ معروف وشرحها الشنيع الّذي سوّدَه عثمان بك الجليليّ، سوّد الله وجهَهُ يوم تسودُّ وجوهٌ وتبيضُّ وجوهٌ«. المصدر السابق. نستحسُّ من هذا الغيظ الّذي يفور من كلمات الشيخ أسعد الصاحب، أن يكون الشيخ عثمان الجليليّ قد قُتِلَ على يد النقشبنديّين أثناء فتنة وقعت في الموصل عام 1829م. والله أعلم بالصواب.(66/347)
وعلى أيِّ تقدير، فانّ النزاع الّذي اندلعت نيرانُهُ بين النقشبنديّين ومُعَارِضِيهِمْ بعد انتشار نشاطاتهم في الشرق الأوسط، يبدو مدى نطاقِ خطورتهِ بمجرّد ما قد سجّلَهُ أسعد الصاحب فحسب، فضلاً عمّا قد كتبه قدماء الفرقة الخالدية وما تناقله الناس من أخبار هذا النزاع؛ كما يظهر ما قد بعثت تلك الحرب الشعواء من هولٍ ودهشة وشغب في أوساط المجتمع يومئذ. ومن أهمّ أحداث هذه الحرب وأخطرها، قيام النقشبنديّين بإحراق الكتب والرسائل الّتي أُعِدَّتْ للرّدّ عليهم. من جملتها كتابٌ بعنوان »البدور الجلية في الردّ على النقشبنديّة« ألّفه الشيخ محمود بن الشيخ عبد الجليل الموصليّ. فقد اختفت نُسَخُ هذا الكتاب بتمامها إلاّ ثنتان منها نجتْ من بطشهم. قيل نسخة منها بحوزة الشيخ جميل الطالقانيّ، فلم نتعرّف عليه؛ أمّا النسخة الثانية فإنها في قرية "بريفكان" بالمنطقة الكرديّة من العراق، وليس الوصول إلى هذه المنطقة من الأمور السهلة كما هو معلوم!(66/348)
هذا، فلم تقتصر محاولة إفحام النقشبنديّين وإحباط أعمالهم في الساحة العراقيّة فحسب، بل تصدّى لهم آخرون في بقاعٍ مختلفةٍ من أرض الإسلام. منهم محمّد صديق حسن خان القنوجيّ البُخَاريّ أمير مملكة بهوبال في الهند. تصدّى للرّد عليه محمّد أسعد الصاحب في كتابه »نور الهداية والعرفان في سرّ الرابطة والتوجّه التوجّه: شكل من طقوس النقشبنديّة. يتم إجراؤه في ليالي الجمعة بعد صلاة العشاء في القرى الّتي تسكنها المنتسبون إلى هذه الفرقة دون المدن؛ حذرًا من أي تطوّر قد يتعرّضون بسببه لتحقيقات أمنية. ذلك لأنّ شيخ الطائفة يقوم أثناء هذه الحفلة بتَجْوالٍ بين صفوف المريدين، وكأنّه يتباحث عما في قلوبهم ويُلقي عليهم من روحانيته. فيتأثر المريدون عند اقترابه منهم لشده اعتقادهم به؛ وأحيانًا يجيش عواطف الكثير منهم؛ فتنطلق من حناجرهم أصوات غريبة، وترتعش معها أبدانهم؛ فيختل بذلك الهدوء والسكينة، ويتحوّل الوسط إلى معترك من الإضطراب والجلبة.
وختم الخواجكان« قال في أوائله:(66/349)
»وقفتُ على التاريخ المسمّى بالتاج المكلَّل تأليف الفاضل المشهور (صديق حسن خان) البُخَاريّ القنوجيّ نوّاب بهوبال؛ فرأيتُ فيه سؤالاً واردًا عليه من الأديب الفاضل السيّد نعمان بن الإمام العلاّمة الكبير والحجّة المفسّر الشهير السيّد محمود الآلوسي مفتي بغداد، عن الرابطة الشريفة الّتي تستعملها ساداتنا الأئمة النقشبنديّة زبدة القادة الصوفيّة (...). وملخّص ذلك السؤال: ما قولكم في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبنديّة (...)؛ وهل لها أصل من السنّة والكتاب، أم هي اختراع واجتهاد؟ فان كان لها أصل فما هو؟ وإلاّ فهل ذلك شرك أصغر وتضليل؟ لأنّها تصوّر المريد شيخه الغائب؛ وكلّما ذكر الله تصوّر صورته في سويداه. أم ليس في ذلك بأس، حيث قال بها جمع من الأواخر؟ وهل يعارض ما استدلّوا به من قصّةِ يوسفَ عند ما همَّ، ورأَى يعقوب عليهما السلام (...). فأميطوا عنّا غبار الشكّ والترديد. إلخ«.
قد جاءت هذه العبارات في كتاب التاج المكلّل بصيغة تختلف بعضُ ألفاظها عما نقله أسعد الصاحب في السطور المذكورة آنفًا؛ وهذه نصها على لسان مؤلف التاج بالذات وهو صديق بن حسن خان البُخَاريّ القنوجيّ، فقال:(66/350)
»ومما كتبه إلينا صاحب الترجمة هذه ما نصه: ما يقول مولانا الأمير السيد النحرير النوّاب المفسر الشهير مقتدى الأعاظم ومن لا تأخذه في الله لومة لائم متّع الله سبحانه المسلمين بطول بقائه، وقمع به البدع، وأناله في الدارين مناه، في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبنديّة - أفاض الله عز شأنه علينا من علومهم المرضية - وهل لها أصل قويّ من الكتاب والسنّة، أم هي اختراع واجتهاد من بعض ذوي الألباب؟ فان كان لها أصل، فما ذلك عند أرباب العقد والحلّ، وإن لم يكن لها دليل، فهل في ذلك شرك أصغر و تضليل؟ لأنها كما هو المشهور: تصوير المريد شيخه الغائب وكأنه في الحضور، وكلما ذكر الله تصوّر صورة شيخه في سويداه، أم ليس في ذلك بأس لدى الأكابر؟ حيث قال بها جمع من الأواخر؛ وهل يعارض ما استدلّوا به من قصة يوسف عليه السلام - عند ما همّ، ورأى يعقوب النبيّ النبيل؟ قوله عليه الصلاة والسلام: أعبد الله كأنك تراه، الحديث الطويل. فأميطوا عنّا غُبارَ الشكّ والترديد بأبين جواب، وميّزوا الخطأ عن الصواب، فإنكم من فضله عزّ وجلّ من الوافين بالعهد والميثاق لتبيين الكتاب، جعلكم الله للسلفيّين وكافّة الموحّدين حصنًا حصينًا، وأنالكم وسائر العلماء مزيد الثواب آمين. سنة 1198 هـ. شعبان«(66/351)
»فأجبتُهُ - عافاه الله وعن المكاره وقاه - مرتجلاً بما هذا لفظه: أمّا مسألة المرابطة، فلا يخفى على شريف علمكم أنّها من البدع المنكَرة. وقد صرّح بالنهي عنها الشيخ أحمد وليّ الله المحدّث الدهلويّ إمام هذه الطبقة وزعيمها، ومسند وقته ومجدِّدِ عصره وفرد الملّة المحمدية وحكيمها في كتابه (القول الجميل في بيان سواء السبيل)، وهذه عبارته: قالوا والركن الأعظم، ربط القلب بالشيخ على وصف المحبّة والتعظيم، وملاحظة صورته. قلتُ: إنّ للهِ تعالى مظاهرَ كثيرةً؛ فما من عابد ـ غبيًّا كان أو ذكيًّا ـ إلاّ وقد ظهر بحذائه شئٌ صار معبودًا له في مرتبته. ولهذا السر نزل الشرع باستقبال القبلة والاستواء على العرش. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم فلا يبصق قبل وجهه. فان الله بينه وبين قبلته. وسأل جاريةً سوداءَ، فقال: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. (الحديث). فلا عليك أن لا تتوجّه إلاّ إلى الله، ولا تربط قلبك إلاّ به ولو بالتوجّه إلى العرش، وتصوّر النوّر الّذي وضعه عليه. -وهو أزهر اللون كمثل نور القمر-، أو بالتوجه إلى القبلة: كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون كالمراقبة لهذا الحديث.«(66/352)
»وقد أفاد الشيخ العلامة محمّد إسماعيل الشهيد الدهلويّ في كتابه "الصراط المستقيم" بالفارسيّة: أنّ هذه الرابطة من الشرك بمكانٍ لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلوم الكتاب والسنّة. وأقول: ما لنا ولقلبنا، وربطه بالشيخ كائنًا مَنْ كان، وإنما تُربط قلوب العباد إلى بارئها. (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وبالجملة، هذه المسألة وإنْ فاه بها جمع من المشائخ قديمًا وحديثًا، فهي من البدع بلا مرية، وحكمها حكم سائر البدع وسائر الأشياء الّتي أحدثها المتصوّفة من غير أساس على دليل من كتاب وسنة. ويكفي في ردِّ مثل هذه البدعة قوله - صلى الله عليه وسلم - المستفيض المشهور: كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد. وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.«. صديق بن الحسن بن علي بن لطف الله الحسيني البُخَاريّ القنوجيّ، التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأوّل ص/ 521-522. مكتبة دار السلام، الرياض-1995م.؛ محمّد أسعد الصاحب، نور الهداية والعرفان في سرّ الرابطة والتوجُّه وختم الخواجكان، ص/3. المطبعة العلمية القاهرة-1311. هـ.؛
من الجدير بالذّكرِ، أنّ هذه العبارات التي اقتبسها السيّد محمد صدّيق خانْ بن الحسن القنوجي البخاري، من الكتاب المسمّى (القول الجميل)، للشّيخ أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله الدهلوي)، قد تمَّ حذفُها تمامًا من الكتاب المذكورِ في طبعه الّذي أعدَّهُ رَجلٌ مُتُطَرِّفٌ اِسْمُهُ محمد صالح بن أحمد الغرسي؛ ولم يكتفِ الرَّجل بالحذفِ فحسب، بل حّرَّفَ الكتابَ تحريفًا شَنيعُا. وقد استبدل العبارات المذكورةَ بكلماتٍ لاَ يجوزُ أن يَكونَ الشَّاهُ وليُّ اللهِ الدهلويُّ قَد قالَهَا أَبَدًا. فَنَسُوقُ لَكَ الآَنَ تلكَ الألفاظَ الموضوعةَ علىَ لسانِ الشَّاهُ وليُّ اللهِ الدهلويُّ لِتتأكّدَ من خطورةِ ما يقترفه النّقشبنديُّونَ من الكذِبِ والبهتانِ علىَ العلماءِ.(66/353)
وَرَدَتْ في الصّفحةِ الحادية والثمانينَ بعد المائِةِ في النسخة الْمُحُرَّفَةِ من الكتاب المسمّىَّ: (القول الجميل في بيانِ سواءِ السّبيل)، ألْفاظٌ، وهذه نصُّهَّا حرفيًّا:
»وثالثها الرابطة بشيخه: وشرطها أن يكون الشيخ قويّ التوجّه، دائم (الياد داشت)، فإذا صحبه خلى نفسه عن كلّ شيءٍ إلاَّ محبّته، وينظر لما يفيض منه. ويغمض عينيه أو يفتحهما، وينظر عيني الشيخ، فإذا أفاض شيءٌ فليتبعه بمجامع قلبه وليحافظ عليهِ. وإذا غاب عنه الشيخ، يخيّل صورته بين عينيهِ بوصف المحبَّةِ والتعظيمِ، فتفيد صورته ما تفيد صحبته.« النسخة المُحَرَّفَةُ من الكتاب المسمىَّ (القول الجميل في بيان سواء السبيل) للشَّاه ولي الله الدهلوي إعداد: محمد صالح بن أحمد الغرسي. قد طُبِعَ هذا الكتاب في مدينة قونيا التركية إلاَّ أن اسم المطبعة واسم دار النشر مجهولانِ.
أثْبَتْنَا هذه الحقيقةَ أثناءَ الْمُقَارنةِ بين نُسخةٍ من (القول الجميل) وبين (التاج المُكلّل)، فوجدنا المقطعَ المُقتَبَسَ مُحَرَّفًا تمامًا. إذْ أنّ المُؤَلِّفَ الذي ذَمَّ الرابطَة وعَدَّهَا من علامات الشِّرْكِ، يُسْتَبْعَدُ أنْ يَكونَ قَدْ عادَ بعد ذلكَ فَمَدَحَهَا. إنّه أمرٌ لا يستقيم مع العقل السليم. وَلِخُطُورَةِ الأمرِ، يجب على القرَّاءِ أن يلتزموا جانبَ الحيطةِ في مطالعةِ هذه النسخةِ المُحَرَّفَةِ الّتي تولّىَ طبعَهَا محمد صالح بن أحمد الغرسي بِالتعاون مع بَعضِ الناسِ من الأتراك في مدينة قونيا التُركِية حديثًا.(66/354)
لقد اقتبس محمّد أسعد الصاحب كلمات الشاه ولي الله الدّهلويّ الْمُتُعَلِّقَةِ بمسألة (الرّابطة) من التاج المكلَّلِ، بشكلها الصحيح، ولكنه تصرّف فيها قليلاً عند نقلها إلى كتابه (نور الهداية والعرفان/ص:3) وبذل جهدًا بالغًا بعد هذه النقولات وأفرغ ما لديه من الطاقة في الردّ على هؤلاء العلماء الّذين عدّوا الرابطة من الشرك بحكم صريح. فاسترسل الصاحب وأسهب ونقل وكتب ما كتب حتّى فرغ من كتابه المذكور. وقال في كلمته الأخيرة »ولنكتف في هذا الباب بهذا المقدار من العبارة. فانّ المنصف الموفَّقَ تكفيه الإشارة، والبليد لا ينفعه التطويل؛ ولو تُلِيتْ عليه التوراة والإنجيل« المصدر السابق (نور الهداية والعرفان) ص/ 92.
نلمس حَالَتَهُ النَّفْسِيَّةَ وَمَوْقِفَهُ الْمَرَضِيَّةَ مِنْ خلالِ هَذَا السَّجْعِ المتكلّفِ في الحين الّذي يسجّل هذه الألفاظَ، كأنّه غاصٌّ بالغضب على منكري رابطة النقشبنديّة. وَإلاَّ فَما علاَقةُ التّوراةِ والإنجيل بِمسْأَلَةِ الرَّابِطَةِ؟! هذا، على الرّغم من مركزه ومكانته المرموقة بين الطائفة النقشبنديّة في بلاد الشام والعراق، بالإضافة إلى غزارة علمه وثقافته الّتي كان يَمتاز بهما عن سائر شيوخ الصوفيّة. وربما كان بسبب هذه المزايا محسودًا فيهم.
كان هذا شطرًا من الصراع الّذي جرى بين خالد البغداديّ وبين بعض خصومه في العراق؛ إذ لم تقتصر المعارضة على ردودِ فعلٍ من البرزنجيّ والجليليِّ فحسب، بل كان هناك أناس آخرون ضده في البداية، فلما رجحت إحدى كفتي الميزان لمصلحة خالد البغداديّ لكثرة أنصاره والدعم الّذي كان يتلقاه من السلطة العليا للدولة العثمانيّة، باءت محاولات المعارضين بالفشل وانتهى أمرهم بالخزلان.(66/355)
ولكن خالدًا اصطدم بخصوم آخرين بعد انتقاله إلى دمشق عام 1238هـ. كان في مقدّمتهم رجل اسمه عبد الوهّاب السوسيّ. ورد ذكره في الحديقة الندية لمحمد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيديّ البغداديّ الّذي كان أحد المقرّبين إلى خالد البغداديّ. يذكره في سياق التعداد للخلفاء البارزين المأذونين على يد مرشده. يعدّهم ويصف كلاًّ منهم بنعوت الإجلال؛ فيقول عند ذكر السوسيّ:
»ومنهم العالم ابن العالم الفطن الملازم لأمر الطريقة بالعلم والعمل والذكر الدائم؛ المحقّق الذكيّ، المدقّق الألمعيُّ الشيخ عبد الوهّاب السوسيّ المتفرّع من أصل شجرة العالم الشهير، المحشّي المدقّق بأوجز التحرير، محمّد بن عمر السوسيّ رحمه الله تعالى. وقد كان خليفة مرشد السالكين في الطريقة النقشبنديّة مقيمًا في بلدة العمادية«. محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية ص/ 67،68. كذلك وردت قصة السوسيّ في عدد من كتب ملالي صوفية الأتراك والأكراد منها كتاب أسمه "الشيخ نور الدين البريفكاني" ص/ 28. ألفه محمّد أحمد مصطفى الكزني الأربليّ. 1983-القاهرة.
من الغريب أنّ »هذا الشيخ الفطن الملازم لأمر الطريقة بالعلم والعمل والذكر الدائم« على لسان رفيقه وصديقه في المشرب والمعتقد (الشيخ محمّد بن سليمان البغداديّ)؛ من الغريب أن يعود هذا الشيخ الممدوح (أي عبد الوهّاب السوسيّ) بعد مدّة رجلاً مطرودًا من باب خالد البغداديّ، ومقبوحًا من طرف جميع أتباعه!
- ولكن لماذا؟!(66/356)
لأنّ خالدًا البغداديّ -كان - ولا يزال في معتقد أتباعه الّذين يعظّمونه تعظيم نبيٍّ مرسَل-، كان لابدّ أنْ يطّلعَ على سريرة هذا الرجل فيتحقّقَ من أمره قبل أن يفوض إليه مهمَّةَ بثِّ الطريقة وينصبَه على مِنَصَّةِ الإرشاد، تفاديًا لكل ما قد حدث من مشاحناتٍ وفتنٍ عقب ذلك التفويض، وأشغل أذهان الناس إلى يومنا هذا! نعم، مادام خالدٌ لم يعزب عن علمه مثقالُ ذرةٍ وكان عليماً بذات الصدور (على حسب اعتقاد النقشبنديّين كما سنتأكّد من هذا الواقع على لسان عبد المجيد الخانيّ)؛ فلماذا أَذِنَ للسّوسيِّ أن ينوب عنه حتّى يناهضه بأعمالٍ تطوّرتْ إلى فتنة لن يبرح الناس فيها فريقين يتخاصمان، ربما إلى يوم القيامة؟! ولأنّ خالدا البغداديّ، يستحيل عليه (في تصوّر النقشبنديّين) أن يجهل شيئًا ما دامتْ الحجب قد كُشِفَتْ عن بصره وهو مطَّلِعٌ على أسرار الكائنات، يعلم كلّ شئٍ قد جرى عَبْرَ الماضي السحيق، وما سوف يجري في المستقبل المغيب البعيد.
ولكن أغرب من ذلك أنّ هذا الحدث، ليس هو المثال الوحيد للغرائب الّتي يعتقده النقشبنديّون؛ بل ثَمَّ أمورٌ متناقضةٌ، وتأويلاتٌ معقّدةٌ، ومعتقَداتٌ ملفّقةٌ لهذه الطائفة سوف نطرقها في بابها إن شاء الله.
أمّا عبد الوهّاب السوسيّ ومسألة طرده من الطريقة، فقد وردت قصّتُه مطوَّلةً في كُتَيْبَاتِ النقشبنديّين. منها، "الحدائق الوردية". يقول مؤلّفه عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ:(66/357)
»أخبرني الوالد الماجد، أنه وقع لحضرة مولانا - وهو في دمشق الشام - تطيّر ما وقع له في بغداد من بعض الفئام. وذلك أنه كان أرسل من أتباعه رجلاً اسمه عبد الوهّاب السوسيّ ليبثّ الطريقة العليّة في دار السلطنة السنيّة. فما لبث أنْ اعتقد فيه شيخ الإسلام وجمهور علمائها ووزرائها العظام. فزاغ بصره ومال إلى حبّ الشهرة، فبلغ الشيخَ أمرُهُ، فاستحضره، واستخلف غيرَه، واستتابه. فأضمر المكرَ وأظهر الإنابةَ. فأطلعه الله على جلية أمره، بأنْ وصل إليه مراسلات بخطّه إلى أتباعه في القسطنطنية، تُنبئُ عن مكره. فطرده طردًا عامًّا من طريقته«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 232.
أيُّ مؤمنٍ بالله وملائكته وكتبه ورسل واليوم الآخر يقرأ هذه العبارات فحسب، -وهو على علمٍ تامٍّ بحقيقة الإسلام وعالميّتهِ وشمولهِ وعظمتهِ-؛ لا يملك نفسَه من الدهشة في أمر هذه الطريقة الصوفيّة حتّى يعيد النظر فيها ويتباحث عما إذا كانت لها أدنى علاقة بهذا الدين العظيم الّذي جاء به محمّد - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن يطَّلِعَ على صفحات تلك الحرب الّتي جرت بين خالد ونائبه عبد الوهّاب السوسيّ؛ كما أنّ الطريقة المذكورة ليست هي المسألة الوحيدة الّتي تتبلور حقيقتها من خلال هذه الكلمات؛ بل وأن المجتمع الّذي كان يستقطبُ اهْتِمَامُهُ يومئذ على هذه المهزلة، هو الآخر يستحقّ أن يتدارسه الباحثون اليوم بقسطاس العقل السليم ومِحَكِّ القرآن الكريم، ليتمكّنوا من الإطلاع على مدى حظّه من الإسلام الّذي عاشه الصحابة والتابعون والسلف الصالح وطبّقوه في حياتهم.(66/358)
لأنّ هؤلاء الشيوخ والصوفيّة والدراويش، كانوا قد أَلْهَوُا الناس عن الإسلام وسحروا عقولَهم بهذا الدين المستحدث، فلم تتمكّن العامّة من الانتباه إلى الإسلام ولا إلى شئٍ من أمور دنياهم في خضم الأحداث الّتي كان قد أثارها النقشبنديّون بطقوسهم ورسومهم ورياضاتهم ومناسكهم ونشاطاتهم الدائبة ومراسلاتهم ودِعَايَاتِهِم الكثيفة وخلافاتهم والفتن الّتي كانت تتصاعد نيرانها في صفوفهم بين الفينة والأخرى إلى حدٍّ أصبح الناس في غِمَارِهَا كقطاعان الغنم وهم حيارى وسُكارى وما هم بِسُكارى؛ فلم يملك أحد منهم عقلَه يومًا من الأيّام حتّى يتساءل - على الأقل - فيقول:
- من يكون خالد، هذا الّذي استعلى على الناس حتّى اختلقوا له جناحين ياترى!!! وما هي طريقته الّتي أكمل بها ما نقص عن الإسلام، وأرسل نائبة إلى إسطنبول ليبثّها بين سكان العاصمة - ولم تكن غايته في الحقيقة غير التسلُّل إلى أوساط رجال الدولة، والسيطرةِ على ضمائرهم - في الحين الّذي كانت الويلاتُ تنصبُّ على المسلمين من كلّ صوبٍ، ودولتُهم على شفا جرف هار. نعم من يكون هذا الصوفيّ الكرديّ الّذي »اعتقد في نائبه شيخُ الإسلام وجمهورُ علماءِ العاصمة و وزراء حكومة الإمبراطورية العثمانيّة«، حتّى أذعن له خليفة المسلمين بالذات، فأصدر (الفرمانَ) أي الرسم الملكيَّ بشأن معاقبة نائبه الّذي عصاه؟!
في الحقيقة كانت المأساةُ بموتِ القلوب وغيابِ الشعورِ يومئذ قد غلبت الناسَ إلى حدود رهيبة، بحيث لم يكن أحد ينتبه إلى الفرق بين الإسلام وبين هذا الدين الجديد الّذي اتّخذ من الإسلام غلافًا يصطاد به على أرضه بكلِّ سهولة وفي أمان.(66/359)
سوف نتساءل طبعًا فيما بعد، عن سبب سقوط المسلمين إلى هذا الدرك الرهيب من الظلمة والتخلّف والجهل والعمى، حتّى أصبح مجتمعٌ بأسره يتلهّى بالحرب المتصاعدة بين رجلين من الصوفيّة. ولكن ما الّذي كان يجري بينهما، وما قيمة هذا الحدث في ميزان الإسلام والعقل والعلم؛ وماذا استفاد المسلمون من وراء هذه الحرب التي اندلعت نيرانُها بين خالد وقرينِهِ عبر حقبة تزيد عن قرن من الزمن؟
إنّ أيّة محاولة جادّة للإجابة عن هذا السؤال، لن تتعدّى السخرية بعقول الناس، والاستهانة بالوقت. ولكنّ هذا الحدث في ذات الأمر الّذي أقلق جماهير المجتمع العثمانيّ في وقت مّا، يستحق - من جانب خاصّ - أن يُتطرَّقَ له بإيجاز ومن خلال وثائق النقشبنديّين، حتّى تتضح أمام القارئ الكريم عقليةُ أولئك الناس، وتظهر بها تلك الهوة الّتي كانت بينهم وبين الإسلام يومئذ.
هذه الوثائق - المنقولة فيما يلي - هي الرسائل الثلاث الّتي بعث بها خالد البغداديّ إلى أتباعه في إسطنبول. يقول في الأولى منها:(66/360)
»بعد السلام، من العام الأول، الفقير تبرّأتُ من عبد الوهّاب لما ظهر منه من الأمور المخالفة للطريقة والشريعة، وأنه صار سببًا للدّسائس الّتي اختلقها المتشيّخون حتّى توهّم كثير من الناس في حقّنا أموراً لا تليق بأراذل العوامّ، وأردتُ أن أكتب هذا إلى الآستانة العلية - صينت عن البلية - ليعلم الناس أنّه مطرود عن الطريق، فلا يلتفت إليه أحدٌ لئلاّ يصير مظهرًا لجلال سادات الطريقة البهية البهائية. فتوسّل بي وجعل روحانية مشائخ السلسلة شفيعًا أن لا أكتُب هذا. وحلف الأيمان المؤكّدة أنّه يكتب هذا المضمون بخطه. ثم ظهر أنه بلّغ تقريرًا مع بعض المرسِلين من طرفه وتحريرًا إلى بعض المخلصين: أنه كان بعض إخوانه في الطريقة افتروا عليه عندي، ثم ظهر افتراؤهم لديَّ، وأنّه صار مثل الأوّل وأكثر، حتّى أنّ بعضكم ترك طلب الدعاء والمكاتبة إلى بعض أهل الطريقة رعاية لجانبه. والمرء يُعذَرُ لجهله.
فالآن أخبركم بأنّي وجميع رجال السلسلة تبرأنا من عبد الوهّاب. فهو مطرود عن الطريقة. فكل من تصادق معه لأجل الطريقة فليترك مصادقته ومكاتبته، وإلاّ فهو برئٌ من إمداد هذا الفقير وإمداد السادات الكرام. ولا أرضى أن يكاتبني؛ ولا أن يستمدّ همتي بعد وصول هذا المكتوب إليه. وأنت مأمور بإيصاله إلى كلّ مُخلصٍ. فمن كان مريدَ الطريقة فليُظهِرِ الْبَرَاءَةَ منه، ومن كان مريدَ نفسهِ فلا يلومنّ إلاّ نفسَه إذا هلك مع الهالكين«. المصدر السابق.
إنّ هذه الرسالة الّتي لا يكاد الإنسان (المؤمن بالله واليوم الآخر) يفهم شيئًا منها، كأنّها قد كُتِبتْ بلغةٍ غريبةٍ على المسلمين. إلاّ أنّها في الحقيقة وثيقة رهيبة تتضمن ما يخفى على أهل العلم والبصيرة من شخصية خالد البغداديّ ومُعتقَداته وأسرار طريقته وتَعَامُلِهِ مع الناس.
لعلّ سائلاً يسأل عما يخالف الإسلام من مضمون هذه الرسالة وربما يقول:
ـ ما الّذي يستوجب هذا القدر من الاستغراب والتعجُّب؟(66/361)
إنّ الإنسان المتمتّعَ بنعمة العلم والمعرفة بحقيقة الإسلام، لا ينبغي له أصلاً أن يلتفت إلى مثل هذه التساؤلات، ولكن - لإظهار الحقّ فحسب- نحن نتساءل عمّا إذا كان أدنى شئٍ يوافق روح الإسلام في هذه الرسالة المحرّرة؟
- ما الّذي ارتكب عبد الوهّاب السوسيّ إهانةً بحق خالد، حتّى اضطرّ خالدٌ أنْ يفضّحه أمام مريديه الّذين كان السوسيّ قد اسطادهم في إسطنبول نيابةً عنه؟!! هل كان وراء كل هذه الجلبة والضوضاء العمياء أيّ مصلحة للمسلمين المغلوبين على أمرهم يومئذ أمام عالم الكفر، سوى التهارش على جيفة الدنيا وكسب الشهرة والسمعة؟ وإلاّ فما كانت علاقة المسلمين بالرابطة الّتي هي من أهم طقوس اليوغية، سواء أكان السوسيّ أمرَ الناسَ بها لنفسه أو للبغداديِّ.
يقول الشيخ قسيم الكُفْرَويّ في صدد هذه المشكلة:
»كان مولانا خالد قد أرسل في بداية أمره عبدَ الوهّاب السوسيّ إلى إسطنبول. ولكنّه تولّى كبره، ولقّن المريدين رابطة نفسه؛ فعند ذلك بعث مولانا خالد من خلفائه عبد الفتّاح العقريَّ للبحث عن أمره. وبعد طرده عبدَ الوهّاب السوسيّ من طريقته جزاءً بما ارتكب، تمّ نصبُ الشيخ أحمد الأغريبوزي مكانه«. وهذا النصً الأصليُّ باللّغة التركية للعبارات المعرّبة والمنقولة من كلام الشخ قسيم الكفراوي:
Mevlânâ Halid, ?stanbul'a evvelâ Abdulvahhab Al-Susî’yi g?ndermi?ti. Bu zat?n kibir ve enaniyete kap?larak kendisini saliklere rab?ta ettirmesi üzerine meselenin tahkiki için Abdulfettah Al-Akari’yi g?nderdi. Bu hareketlerinden dolay? tarikattan tard adilen Al-Susi'nin yerine Al-?eyh Ahmed Al-Agribuzî halife nasb edildi.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? Pg. 185. Türkiyat Enstitüsü No. 337 ?stanbul-1949(66/362)
هكذا اتّضحت الجريمة (!) الّتي ارتكبها عبد الوهّاب السوسيّ! حسب نظام هذه الطريقة وضوابطها. وهي أنّ السوسيّ كان قد لقّن المريدين رابطة نفسه. ومعنى ذلك أنّه أمرهم أنْ يُحضِروا صورتَهُ في خيالهم، بدل أنْ يأمرهم برابطة مرشده خالد البغداديّ. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة تحّرّم الرابطة للنائب مادام شيخه على قيد الحياة. ولا نعلم من أي دين استوحت هذا الضابط!
كان هذا هو السبب لانفجار قنبلة النقشبنديّين الّتي ظلّ المجتمعُ العثمانيّ التعيسُ ينشغل بصداها مدةَ قرنٍ كامل والناس في غفلتهم يعمهون - في الوقت الّذي كانت القُوىَ اليهوديةُ-الصليبية تتداعى على الأمّة المسلمة-. ولا تزال بقيةٌ من شيوخهم وممّن حولهم من العوامِّ يردّدون هذه الحكاية ويعدّنها من أمجاد مرشدهم البغداديّ الّذي ربما تتألّم رفاته اليوم بسبب هذه الزندقة!
إن هذا القدر من تفاصيل الخلاف الواقع بين البغداديّ والسوسيِّ، إنما تحصّلناه من خلال كلماتٍ يسيرةٍ للبغداديِّ ضمنَ رسالته المنقولةِ آنفًا. وكأنّ السبب الحقيقيَّ لم يظهر بصورة جلية بعدُ. لأنّ البحوث الّتي أجريناها بأمل الحصول على كلماتٍ أو سطورٍ يمكن أن يكون السوسيّ قد خلّفها، لم تُجد شئًا، مما يدلّ على أنّ الخالديّين قد محوا جميعَ ما تبقّى من آثار هذا الرجل، سوى كلماتٍ يسيرة نقلها ابن عابدين في رسالة له. يبرهن ذلك على شدة الهجمات الّتي شنّها الخالديّون على السوسيّ. ومن وثائق تلك الحرب الشعواء، رسالة »سلّ الحسام الهنديّ في نصرة مولانا خالد النقشبنديّ« للفقيه ابن عابدين الدمشقيّ الّتي ردّ بها على رسالة كتبها عبد الوهّاب السوسيّ؛ يتّهم فيها خالدًا بالسحر والكفر والزندقةِ.(66/363)
يقول السوسيُّ في هذه الرسالة: »إنّ الشيخ خالدًا يقوم بتسخير الجنّ ويستعين بالأرواح الأرضية الخبيثة، ويدّعي علمَ الغيبِ عن إخبار الجانّ له، ويدّعي أنّه قد قتل وربط كثيرًا من العفاريت والجانّ، كلّ ذلك بإقراره، مع أنّه يدّعي الولايةَ والارشادَ في نفس الوقت«.
من الغريب جدًّا أنّنا لم نعثر في عجالة ابن عابدين المذكورة على قولٍ للسوسيّ غير هذه الكلمات الوجيزة! وحتّى اسم عبد الوهّاب لم يذكره المؤلّف إلاّ مرة واحدة، وذلك من خلال عبارة منقولة. يدل أسلوب ابن عابدين على مدى استحقاره عبدَ الوهّاب السوسيّ!
أمّا السبب الحقيقي لهذا النزاع، فكأنّه ظهر إلى العيان بعد أن عثرنا على كلمات للباحث عباس العزّاويّ إذ يقول:
»إنّ الشيخ عبد الوهّاب البغداديّ كان قد تلقّى إرشادَهُ من الشيخ عبد الله الدهلويّ، كما تلقّاه الشيخ خالد. فصار من مشاهير خلفائه. فأقام الشيخ خالد في الشام، وأمّا الشيخ عبد الوهّاب، فاستقرّ في المدينة المنوّرة، فحدثت بين الاثنين مشادّة حادّة، ونفرة شديدة.
كان الشيخ عبد الوهّاب ورفيقه العلاَّمة الحاج حمدي الداغستاني قد خرجا على مولانا خالد، ونسبا إليه أمورًا مخالفةً للواقع. فانتصر له مفتي دمشق وعلماؤها. فأصدروا فتاوى، وأودعوها رسالة، والْتَمَسُوا من الباب العالي لزومَ تأديبهما، وكفّ لسانهما.
فلمّا عُرضت على السلطان وعلى المشيخة، وبعد استطلاع آراء العلماء في إسطنبول، صدر الأمر بأنّ أعمال المومى إليهما مخالفة للشرع، ويجب نفيهما. ولكنّ النفي من المدينة المنوّرة يستدعي إثبات أنّهما قاما بما يخالف الأدب. ولذا عُدِلَ عن ذلك و نُبِّها أن يكونا مشغولَيْنِ بأحوالهما. فصدر الفرمان بذلك وبُلِّغا بموجبه من شيخ الحرم النبويِّ«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 719-720.) بغداد-1973م.(66/364)
يتبيّن من هذه الكلمات بشكل لا يقبل الشكّ: أنّ السبب الحقيقيَّ لهذا الخلاف، إنما كانت المنافسة ليس إلاّ. إذ أنّ عبد الوهّاب السوسيّ لم يكن أصلاً من خلفاء خالد، وإنّما كان من خلفاء شيخه. ويعني ذلك أنّه كان من طبقة خالد في السلسلة النقشبنديّة. وهذا لا يسمح لعبد الوهّاب السوسيّ أن يدخل تحت طاعة خالد إلاّ بأمر من شيخه. ولو فرضنا أنّ عبد الله الدهلويّ قد أمره أن يتبع خالدًا، وهذا شيءٌ مجهولٌ حتّى الآن - ذلك مِنْ عُرْفِ النقشبنديّين، أن شيخَ العصرِ يختار من بين خلفائه شخصًا واحدًا للنّيابة عنه، خاصّة في المناطق النائية عن مقره؛ على ان يتبعه بقية خلفائه-. فانّ المسافة الشاسعة الّتي بين الديار الهندية والشرق الأوسط، لا بدّ وقد شجّعت عبدَ الوهّاب للخروج على خالد لصعوبة الرقابة عليه من مقام أعلى. كما وقع شبه هذا الحدث بنفس السبب لعدّة من شيوخ هذه الطريقة.
***
* خلفاء خالد البغداديّ وتعامله معهم
إنّ خالدًا هو ذا الرجل الحاذقُ بإلقاء تأثيره في نفوس الناس، وبالاستيلاء على ضمائرهم؛ المتلوّنُ اللّبقُ القلِقُ المترقّبُ في تعامله مع خلفائه وتلامذته. كما كان شأنه مع خصومه ومعارضيه. يتبيّن موقفهُ المتعاظمُ المتغلّبُ الحذرُ من خروجهم عليه في كلّ كلمة وجّهها إليهم.
نجده تارة يخاطب أحدَ خلفائه بكمال التواضع والتذلّل، كأنّه هو تلميذه. لم يفعل ذلك في الحقيقة إلاّ لِيَجُسَّ نبضه، وليختبر صِدْقَهُ في الانتماءِ والاستسلام، ومن إيمانهِ التامِّ بتعاليمهِ، وهل يتحرك فيه عرق التمرُّد عند ما يُرخىَ له العنان، حتّى يحتاط في أمره ويكبح جماحه في الوقت اللاّزم، كما فعل بخليفته إسماعيل الشيرواني؛ وستأتي قصّتُهُ. ونجده تارةً أخرى يخاطب أحدَهم بلهجةٍ قاسيةٍ، وغضبٍ واستنكارٍ وتعاظُمٍ في أدائه، لا يتساهل معه، فلا يُظهر تمام الثقة فيه؛ ولا يقبضه بأسنّة مخالبه.(66/365)
وكمثالٍ على رِقَّتِهِ وتواضعه، سطورُهُ من كتابه الّذي بعث به إلى نائبه الملاّ رسول في مهاباد، يقول فيه:
»بسم الله الرحمن الرحيم، أخصّ بالسلام التامِّ، المقرون بمزيد العزّ والإكرام جناب سيّدي وسندي العالمَ الفاضلَ والنحريرَ الكاملَ مولانا الملاّ رسول، حصّله الله كلّ مأمول«. محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/ 118. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م.؛ عبد الكريم المدرس، تذكار الرجال ص/61. وهو مع كتاب لمجد التالد لإبراهيم الفصيح، والمكاتيب الشريفة لغلام على عبد الله الدهلويّ ضمن مجلّد واحد نشرته مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1992م.
وأمّا شدّته على من أحسّ منه أدنى شمة من الاستخفاف بتعاليمه، أو أدنى إهمال لتعليماته، فإنها ربما يضيق عن وصفها كلام غيره.
وكمثال على هذا الجانب الّذي طالما ظلّ خافيًا على الناس من صفات خالد البغداديّ. أوردنا فيما يلي، رسالتَهُ الّتي وجّهها إلى خليفته الشيخ إسماعيل الشيروانيِّ.
إنّ نائِبَهُ هذا الّذي تمّ نصبه ليبثَّ الطريقةَ النقشبنديّةَ في بلاد القوقاز يومئذ، يبدو أنّه لم يعد يشعر بهيبة شيخه بعد أن وصل إلى تلك المنطقة النائية، وحال بينهما المسافاتُ البعيدةُ، و أحسّ في نفسه بالجرأة أن يقول لمريديه:
- رابطوني. أي أحضروا صورتي في خيالكم أثناء صلاة الرابطة بدلاً من إحضار صورة الشيخ خالد.
هذه لا شكَّ إهانة بسلطان شيخ الجماعة، وخروج عليه في نظر خالد وحسب تعاليم طريقته. لذا وما أنْ قرع سمعَهُ طنينُ هذا الحدث حتّى نهض من مكانه ونفخ في الصور، فقامت القيامة في المملكة العثمانيّة، بل واجتازت جلجلتُهُ حدودَ المملكة إلى ما وراء جبال القوقاز. هذا نصّ كتابه الّذي وجّهه إلى الشيخ إسماعيل الشيرواني:
»بسم الله الرحمن الرحيم(66/366)
من العبد الذليل، الأقل من القليل، إلى خادم بابه وقدوة أحبابه الشيخ إسماعيل، عصمه الله عما وصمه، وصانه عمّا شانه، آمين.
أمّا بعد فقد قال كثير من نجوم الاهتداء ومصابيح الإقتداء بأنّ الكفران هو نسيان المنعم بسبب الاشتغال بنعمته. وصرح محقّقو طريقتنا بأنّ رابطة من لم يفْنَ عن وجوده لا يورث الفناء للسالك، بل قد تورّطه في المهالك.
وأنتم ما كان المأمول منكم أن تقطعوا عناّ السلامَ والكلامَ، بل كمال المروءة والوفاء كان مقتضيًا أن تواجهونا أحيانًا بأنفسكم وإلاّ فتراجعونا في النقير والقطمير، وتذكرونا دائمًا بالتحرير مع السفير. ومن خدّامنا من هو أبعد شقةً منكم، وأقدم صحبةً، وأكثر خدمةً لا يتحرّك بدون إشاراتنا. ولا تقس هذه الطريقة بخزعبلات متشيِّخي العصر، وتُرّهات أرباب الخداع والمكر. فالشيخ المحقِق واسطة بين المريد وربّه. والإعراض عنه إعراضٌ عنه.
فلا تعلّموا رابطةَ صورتِكم لأحدٍ، ولو ظهرت له فانّه من تلبيس إبليس. ولا تستخلفوا أحدًا منهم إلاّ بأمري، فضلاً عن مزاحمتهم لخلفاء الأطراف من نحو (أرزنجان) و (بدليس).
ولئن تماديتم في هذا التغافل الّذي تستعملونه لنعرضنّ عنكم بالكليّة، وخرط القتاد دونه. ومن أُنذِر فقد أُعذِر. والسلام«. خالد البغداديّ، رسالته هذه إلى إسماعيل الشيرواني، وردت في المصادر التالية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيه في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/42.
* محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد ص/ 174.
* عبد الكريم المدرس، تذكار الرجال ص/ 64، 65.(66/367)
هكذا تمكّنّا من المعرفة بشخصية خالد البغداديّ من خلال ما قد جرى به قلمه بالذات، وما نَقَلَ إلينا خلفاؤه من الوثائق. ومن وقف على قصّةِ حياتهِ بتمامها وأمعن النظر بإنصاف وحياد فيما قد حدث بينه وبين أصناف الناس من علاقات طارئة وغريبة، أيقن بلا مرية أنّ ما حظي هذا الرجل من الشهرة والعزِّ والإقبال بصورة غير متوقعة، إنما هو مثال رهيب من الاستدراج! ولكن مهما عثرنا في كلّ تلك المخلّفات الكتابية الّتي تركها هو وخلفاؤه وراءهم مما لا يسهل ضبطه وإحصاؤه من أمور خارجة عن رحاب كتاب الله ونطاق السنّة النبوية؛ فانّ لهذا الرجل كلمات تنبئُ عن ندمه وهو في آخر عهده من هذه الدنيا؛ كترديده للآية الكريمة {يَا حَسْررَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فيِ جَنْبِ اللهِ...} سورة الزمر/56. وكقوله في وصيته: »لا تزيدوا التكايا عما في عهدي. و من أراد الإحداث فليعمّر جامع العدّاس«. راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 311. دار الفكر-دمشق.
فعسى أن يكون قد تاب في آخر أنفاسه من جميع ما قد أحدث في الدين الحنيف من بدع مجوس الهند، وما أحيا من أساطير الشامان وهرطقات جاهلية الأتراك. والله سبحانه وتعالى غني عن عذابنا جميعًا، ورحمته وسعت كلّ شئٍ لعلّه يغمرنا وإياه بغفرانه وهو الغفور الرحيم.
إذا كان خالد البغداديّ قد استطاع أن يثير اهتمام المجتمع العثمانيّ في جميع أنحاء آناضول والمشرق العربي، - وذلك في ظروفٍ غير عاديةٍ - فأصبح محطّ آمال الرجال حتّى اعتنى به خليفة المسلمين بالذات وأولاه اهتماما كبيرًا وأصدر الفرمان بمعاقبة خصومه وتأديبهم؛ فلا يُعقل أن ترجع هذه الشهرة العظيمة إلى غزارة علمه، ولا إلى جزالة نطقه وبلاغته فحسب؛ بل لخلفائه دور كبير في إذاعة صيته، وإلقاء هيبته ومحبّته في قلوب ملايين الناس.(66/368)
إذن يناسب هنا أن نعدّ أسماء مشاهيرهم بالإضافة إلى ذكر شئٍ من أعمال من سعى منهم لترسيخ تعاليم خالد البغداديّ واستمر في الصورة الأمامية باستغلال شهرته.
كذلك سوف نتعرّض إلى ذكر بعض أخلافهم الّذين لا يزالون يعملون على نهج خالد، وعلى تخليد ذكره في عصرنا، وبخاصة منهم البارزون في الساحة التركية.
يزعم النقشبنديّون أنّ خالدًا البغداديّ كان »له خلفاء حنفاء، أولياء صلحاء، علماء عظماء، سائحون عابدون، لا يدرِك كثرتَهم العادّون«.
كانت هذه الكلماتُ المسجّعةُ لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ. ثم يقول:
»ولكن أذكر فئةً منهم مقتصرًا على من توفي وهو راض عنهم غير جانح إلى عدّ خلفائهم. فانّهم يبلغون إلى مائة ألفٍ أو يزيدون«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 258.
عثرنا على أسماء واحد وأربعين شخصًا من مشاهير خلفاء خالد البغداديّ في حدائق الخانيّ وهم:
محمّد البغداديّ الإمام
عبد الله القادريّ الشمزينيّ الهكّاريّ،
عبد الرحمن الكرديّ العقريّ،
عبد الفتاح الكرديّ العقريّ،
مصطفى الكُلعنبريّ،
عبد الله الجليّ،
الملا عباس الكوكيّ،
عبد القادر البرزنجيّ،
الملا هداية الله الأربليّ،
إسماعيل البرزنجيّ،
أبو بكر البغداديّ،
طاهر العقريّ،
معروف التكريتيّ،
أحمد القسطمونيّ،
محمّد بن سليمان البغداديّ،.
محمّد عاشق،
موسى الجبوريّ،
عبد الغفور الكرديّ الكركوكيّ،
أحمد الأربليّ الخطيب،
عثمان الكرديّ الطويليّ،
عبد الله الأرزنجانيّ،
خالد الكرديّ،
إسماعيل الشيروانيّ،
أحمد الأغربوزيّ،
أحمد البرزنجيّ،
عبيد الله الحيدريّ،
عبد الغفور المشاهديّ،
محمّد الجديد البغداديّ،
عبد القادر الديملانيّ،
محمّد الناصح،
حسن القوزانيّ،
محمّد المجذوب العماديّ،
خالد الجزريّ،
طه الكيلانيّ الهكّاريّ،
إسماعيل البصريّ،
محمّد الفراقيّ الكرديّ،
الملا خالد الكرديّ،
عبد الله الفرديّ،
إسماعيل الأنارانيّ،(66/369)
عبد الله الهرويّ،
محمّد بن عبد الله الخانيّ.
هذه القائمة لا نجد فيها أسماءَ عددٍ آخر من مشاهير خلفاء خالد، كأحمد بن سليمان الطرابلسيّ الأرواديّ، وحسين الدوسريّ، وإسماعيل الزلزلويّ، ومحمود الصاحب (شقيق خالد البغداديّ). وهذا يثير الشكَّ فيما إذا كان بين هؤلاء وبين الباقين من الفرقة الخالدية نزاع وتنافر؛ كما لو كان المؤلّف مناوئًا لهم. في الحقيقة لم يهتم النقشبنديّون الأتراك أيضًا بهؤلاء الأشخاص، ليس ذلك إلاّ لأنّهم من أصولٍ عربيةٍ وعاشوا في المناطق العربية حتّى اختفت أسماؤهم وغدوا نسيًا منسيًّا.
ولا يخفى على الباحث المدقّق، أنّ النزاع دائمًا سجال بين أهل التصوّف عمومًا وبين شيوخ النقشبنديّة على وجه الخصوص؛ وإنْ غابت هذه الحقيقة عن كثير من الناس، وذلك لسرّيّة أمورهم، وصمتهم وكتمانهم. وأحياناً تفتضح أسرار الخلاف بين أشخاص وجماعات منهم؛ سوف نشرحه في بابه إن شاء الله.
هذا وجدير بالتنويه، أنّ الأسرة الخانيّة كانت قد حظيت بشهرةٍ بالغةٍ، ولمع نجمها بعد موت خالد البغداديّ بسرعةٍ. وذلك أنّ وصيَّه الأوّلَ والثانيَ لم يلبثا حتّى أدركتهما المنية بعد موته بمدة قليلة. المصدر السابق ص/ 260-261. فأتاحت الفرصة بذلك لخليفته الثالث محمّد بن عبد الله الخانيّ؛ فحلّت أسرته بسبب هذا التطوّر محلّ أسرة البغداديّ. ولكن دبّ القلق في صفوفِ ورثةِ خالدٍ، واستمرّ الأمر كذلك حتّى بلغ التنافس والتنافر بين الأسرتين شأوَ المعاداة والتباغض في عهد الجيل الثالث للطرفين.
إن الشيخ محمدًا أسعداً الصاحب ابن شقيق خالد البغداديّ كان ساخطاً على الخانيّين وبينهما هجران. ويدلّ على ذلك بصراحةٍ: أنّ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ لم يذكر اسم والد محمّد أسعد ضمن قائمة الخلفاء في كتابه (الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة) وهو محمود الصاحب شقيق خالد البغداديّ. فقد تناساه الخانيّ لهذا السبب.(66/370)
ظلّت الأسرة الخانيّة هكذا في الصورة، فالتفّتْ جموع النقشبنديّين حولها في بلاد الشام، وتقلّصت شهرة أسعد الصاحب. لذا، كانت كُتُبُ الخانيّين ( البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ؛ والحدائق الوردية، والسعادة الأبدية لحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ) كانت رائجة بين ملالي الطائفة النقشبنديّة عمومّا. بينما كُتُبُ أسعد الصاحب (بغية الواجد، ونور الهداية والعرفان، و الجوهر المكنون، والفيوضات الخالدية، ورجال الطريقة النقشبنديّة) مهجورة، لا تتداولها الأيدي؛ بل بعضها غير معروفة من قبل النقشبنديّين وغير موجودة، خاصّة في مكتبات إسطنبول.
كان محمّد بن عبد الله الخانيّ ثالث أوصياء البغداديّ؛ رجلاً ماهرًا في الرياسة، ناجحًا في قيادة أتباع خالد. مارس سياسةً حكيمةً في التعامل مع الخاصّة والعامّةِ منهم. ظلّ مهيبًا وموقّرًا فيهم. لذلك استمرّت الفرقة الخالدية في نشاطها وحيويتها على الرغم من مشاكل تلك المرحلة؛ وما كان يعاني المجتمع والدولة من أزمات سياسية و اجتماعية واقتصادية وأخلاقية حادّة.
استطاعت الطريقة النقشبنديّة أن تحتفظ بتأثيرها على السكّان العرب في ديار الشام كنتيجة لجهوده. مع أنّ العرب هم أقلّ استعدادًا للانفلات من ربقة الإسلام بنزعات باطنية دخيلة.
إنّ ولاة السلطة العثمانيّة على المنطقة الشامية يومئذ - ومنهم الفريق محمّد رشيد باشا، والمشير محمّد نامق باشا، و والى الأيالة السورية موسى صفوتي باشا، كانوا يستفيدون كثيرًا من شهرة محمّد بن عبد الله الخانيّ في ضبط الرعية، وتوفير الأمن في المنطقة. لأنّه كان نافذ الكلمة. و مقابل هذا، كانوا يبالغون في إجلاله، مما زاد في تقوية جاهه وتأثيره.(66/371)
كان محمّد بن عبد الله الخانيّ بجانب ذلك يتلقىَّ دعمًا مَادِّيًّا قوامه ألف وخمسمائة ليرة ذهبية من خزانة الدولة العثمانيّة سنويًّا. وذلك بوساطة والى سورية موسى صفوتي باشا الّذي سافر معه حاجًّا ورئيسًا لجماهير حجاج الأتراك عام 1846م. وعندما زار محمّد بن عبد الله الخانيّ عاصمةَ الخلافة العثمانيّة عام 1853م. استقبله جمع من أركان الدولة استقبالاً فخمًا على غرار الملوك، وأقام الخانيّ في قصر موسى صفوتي باشا بإسطنبول أربعة أشهر ضيفًا معظّمًا عنده.
ألّف محمّد بن عبد الله الخانيّ كتابًا بعنوان "البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة". وهو أوّل كتاب شامل مرتّب ترتيبًا حسنًا في آداب هذه الطريقة باللّغة العربية وبأسلوبٍ واضحٍ سَلِسٍ. إذ أنّ جميع شيوخ هذه الطريقة قبل شيخه، هم عناصرُ عجميةٌ؛ قُدَمَاؤُهُمْ من الأتراك والأكراد، وبقيَّتهم من سكّان الديار الهندية. لم يُتقنوا اللّغةَ العربيةَ، ولم يتذوّقُوا ثمارَ آدابها. ويغلب أنّهم لهذا السبب لم يتمكّنوا من فهم حقائق القرآن والسنّة فهمًا صحيحًا؛ ولا كان لهم إلمام بالعلوم. ولكن محمدًا بن عبد الله الخانيّ كان عربيَّ النشأة والقريحة؛ فأصبح التدوينُ في آداب هذه الطريقة، وتَرْجَمَةُ رِجَالِهَا من الهواية بين أبناء هذه الأسرة بعد تأليف كتاب "البهجة السنيّة". فتابعه وقلّده في هذه العادة، حفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بتأليفه كتابه المعروف: "الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة" ورسالته "السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة".
أخطأ عدد من الباحثين، فنسبوا كتاب »السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة«. نسبوه إلى جدّه محمّد بن عبد الله الخانيّ. وهذا غير صحيح. بل حفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ هو الّذي ألّف الكتابَ المذكورَ. ودلائلُ ذلك كثيرةٌ في سطوره. منها، قوله في الديباجة:(66/372)
»وبعد، فيقول أضعف النوع الإنساني، عبد المجيد بن محمّد الخانيّ الخالدي النقشبنديّ، أنقذ الله من الأوحال أحوالَه، وأنفذ له من الكمال آمالَه؛ لمّا تكرّر طلب الإخوان لرسالةٍ مختصرةٍ في طريقتنا الخالدية العلية الشأن. من خزينة المفاخر والفضائل، وزينة الأواخر والأوائل، علاّمة الزمان، وأكبريِّ العرفان، سيّدي الوالد الماجد، داماد قطب الإرشاد، حضرة مولانا خالد النقشبنديّ العثمانيّ الكرديّ... أشار إليَّ، وإشارته فرضٌ عليَّ؛ أنْ أُجيبَ سؤالَهم، ولا أنظرَ بعين السوى لهم. فاسرعتُ امتثاله، وشرعتُ بهذه الرسالة وسمّيتُها: السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة«.
والدليل الثاني في إثبات نسبة هذه الرسالة إلى عبد المجيد بن محمّد الخانيّ: كلماته في نهاية الرسالة المذكورة، وهذه نصّها:
»يقول أضعف العبيد جامعُهُ عبد المجيد: لقد جمعتُ هذه الموارد الهنية، من أنواء أنوار البهجة السنيّة، لمشيّد المجد المؤبّد، سيّدي الجدّ الأمجد... في دمشق الشام، عاشر ذي القعدة الحرام عام 1313هـ.«.
والدليل الثالث هي كلمات محمّد أبي السعود أفندي مراد، على سبيل التقريظ لهذه الرسالة في أبيات نظمها، يقول في بعضها:
سما في فضله حتّى غدا فيـ * ـه من شمس الضحى أسمى وأشهر؛
ألا وهو الملاذ الشيخ عبد ال* مجيد الخالدي الشهم الموقر.
وقد ألّفتَ فيه خير سُفرٍ * به صبح الطريقة منك أسفر.
***
مات محمّد بن عبد الله الخانيّ سنة 1862م. والطريقة الخالدية المجددية النقشبنديّة مازالت تحتفظ بقوّتها، على الرغم من مُضيّ ستة وثلاثين عامًا على موت خالد البغداديّ؛ بالإضافة إلى ما وقعت من أحداثٍ هامّةٍ غيّرتْ الأفكارَ، وزعزعتْ العقائد، وشوّشت الأذهان في تلك المرحلة.(66/373)
إلاّ أنّ هذه الأحداث لمّا أخذت تشتدُّ وتتنوّع بدافع سلسلة من تطوّرات العصر، بدأت تنعكس نتائجُها على الجيل الصاعد بما فيهم أبناء الطائفة النقشبنديّة في عهد أخلاف محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ. لذا نلمس توقّفًا ملحوظًا في نشاط هذه الطريقة على الساحة الشامية في عهد ابنه محمّد بن محمّد الخانيّ، وحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ. وإذا تأمّلنا قليلاً فيما كان يحدث يومئذ في العالم بصورة عامّةٍ، وفي المناطق العربية (سيما في منطقة الهلال الخصيب) من ثورات وحركات فكرية وعقدية و إيديولوجية، لابد أن نقدّرَ ما كان لهذه الحركات من الأثر الكبير على عقلية الناشئة في تلك المرحلة.
ثم في الحقيقة أنّ خليفة محمّد بن عبد الله الخانيّ (وهو ابنه محمّد) لم يتميّز بشخصية بارزة، خاصّة وكانت قد طغت شهرة الأمير عبد القادر الجزائري على سمعة الخانيّين بصورة طبيعية ومن غير نزاع. وهذا أيضًا له أثر بالغ على هبوط مكانة النقشبنديّين. وما أن تصاعدت التّيارات الفكرية والسياسية (الشائغة باسم اليقظة والوعي القوميِّ والنهضة الحديثة والدعوة السلفية وغيرها)، ازدادت سرعة انحطاط الطريقة الخالدية. فلم يستطع أديب النقشبنديّين عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ أن يقاوم هذه الّتيارات. على الرغم من لباقته وتحذلقه وأسلوبه الدعائيِّ المسجّع والمزخرف. ولا نَفَعَتْ جهود الباقين من رؤوس النقشبنديّة من أمثال محمّد أسعد بن محمود الصاحب و أعوانه.
وربما دبّ في قلوبهم القلق على مستقبلهم بعد هذه التطوّرات، بأن يهجرهم الناس في أمد غير بعيد، (إنْ استمرّت تلك الحركات الّتي لم تكن تعرف الهوادة في المنطقة)، حتّى غيّروا شيئًا كثيرًا من سياستهم في التعامل مع روّاد الوعي الإسلاميِّ. ويشهد على ذلك الموقف المتصالح الّذي اتخذه عبد المجيد بن محمّد الخانيّ من السلفيّين، وعلاقاته مع الشيخ محمّد عبده في منفاه بمدينة بيروت عام 1883م.(66/374)
ولكن الطريقة النقشبنديّة انزاحت منذ أوائل القرن العشرين واختفت من الساحة الشامية، إلاّ في بعض البقاع من المنطقة الشمالية الآهلة بالأكراد. الّذين تشرّبوا عقائد هذه الطريقة لانسجامها مع عقليتهم القاصرة عن فهم حقائق الكون والحياة والقرآن.
فلما بدأت علامات الاحتضار على الدولة العثمانيّة، انحصرت نشاطات الطريقة النقشبنديّة في نطاق الساحة الّتي يسكنها الأتراك والأكراد فحسب. وهي الأراضي التركية في الوقت الحاضر. إلاّ أنّ هذه النشاطات دامت واستحكمت، وإنْ اختلّت في بعض الفترات بظهور الخلاف بين رؤوس هذه الطائفة وبين الحُكّام في عهد الاتحاديين في آخر أيام الدولة العثمانيّة، وفي المرحلة الأولى من العهد الجمهوريّ. ولكنها أخذت طابعَ دينٍ مستقلٍّ تمامًا في أيّامنا، سوف نشرح هذا الجانب في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى.
في الحقيقة مئاتٌ من شيوخ الطريقة النقشبنديّة كانوا ولا يزالون يبذلون جهودًا بالغةً في نشر تعاليم الطريقة الخالدية على الساحة التركية بين العنصر التركيّ والكرديّ منذ حقبة تزيد على مائة وخمسين سنة. إلاّ أنّ نجاح الطريقة في هذه الساحة إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى شخصين منهم. وما ذلك في الحقيقة إلاّ من نتائج سعيهما المتواصل ودعاياتهما المغرية وأسلوبهما في التعامل مع الناس، وتأثيرهما في توجيههم. وإلاّ ليس بسبب إطلاع الناس على كنه هذه الطريقة وغاياتها. بل العامة تجهل حقيقتها تمامًا.
أحدهما هو الشيخ طه النهريّ الشمزينيُّ الهكّاريّ الكيلانيُّ. وهو من الطبقة الأولى بعد خالد البغداديّ كما مرّ ذكره.
والثاني هو الشيخ أحمد ضياء الدين الكُموُشْخانويُّ. الّذي أخذ الخلافة من أحمد سليمان الأروادي (خليفة خالد البغداديّ).
أمّا بقية شيوخ النقشبنديّة - مهما اشتهر بعضُهم وأصبح في الصورة، لتقادم سمعة الأوّلين - فإنهم لم يحقِّقُوا شيئًا جديدًا سوى منافسة الأمثال في اصطياد الناس.
***(66/375)
* الشيح طه بن الملا أحمد بن صالح النهريّ الهكّاريّ الكيلاني.
ينحدر طه النهريّ من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. أسرته هي من تلك العائلات المهاجرة من ذراري بني هاشم الّذين فرّوا من زحف المغول، وأقاموا في هذه المنطقة؛ ثم غلب على كثير منهم الطابعُ الكرديّ. يستثنى من هذه العائلات المهضومة في البوتقة الكرديّة: الحسينيّون من أحفاد الشيخ حامد المارديني الّذين أقاموا في مدينة ماردين وضواحيها؛ والأسرة العباسية في مدينة تِلُّو؛ التابعة لولاية سِعِرد؛ والأسرة الحزينية الحسنية في قرية فرساف، بضواحي مدينة سعرد أيضًا. إنّ هذه المنطقة قد فتحها الصحابيُّ الجليل، خالد بن الوليد القرشي المخزومي. فكان قد أقام هناك عقب الفتح جموعًا من العرب. فلمّا هاجرت العائلات المذكورة الثلاث من بغداد إلى هذه المنطقة بعد ستمائة عام من الفتوحات الإسلامية الأولى، إختارت الإقامة بين بني قومهم من سكانها الأصليّين؛ فصانتها من الإنصهار في المجتمع الكرديّ مدّةً طويلةً تزيد على سبعمائة سنةٍ، حتّى مُحي هذا الطابع على يد يهود سالونيك الّذين وثبوا على السلطة، وتحكّموا في زمام الأمر منذ بداية العهد الجمهوريّ إلى اليوم.
كان طه وعمُّهُ عبد الله من خلفاء خالد البغداديّ. إلاّ أنّ طه غلب عمَّه في الشهرة. لأنّه كان يمتاز بتسليط هيبته على الناس، والتمكٌّن منهم، والمعرفة بطرق تسخيرهم؛ بخلاف عمِّهِ الخامل المعزول عن الناس، الّذي لا ذكر له أصلاً سوى ما جاء في بعض مكتوبات البغداديّ فحسب.
أمّا طه، فان ولاة المنطقة وأعيانها كانوا ينظرون إليه بعين التوقير والإجلال لما رأوا طاعة جميع العشائر الكرديّة له. وربما هذا السبب المزدوج هو الدافع الرئيس لِتَدَرُّجِهِ في سُلّم الشهرة حتّى استطاع أن يكتسب قوةً سياسيةً في المنطقة إلى جانب مركزه المرموق عند السلطان العثمانيّ. ثم حظي من هذه الشهرة خلفاؤه أيضًا.(66/376)
إنّ أهمية دوره في نشر تعاليم الطريقة النقشبنديّة على الساحة التركية تكمُنُ في جهود أُسرتين من أتباعه. وهما الأسرة الأرواسيةُ، والأسرة الكُفْرَويّةِ. لذا من أراد البحث في سير الطريقة النقشبنديّة ومتابعة نشاطها عبر القرن الأخير في هذه البلاد، ينبغي له أنْ يتعرّف أوّلاً على كنه هاتين الأسرتين. وحتّى المعرفة بشخصية طه، تتوقّف أيضًا على المعرفة بالأسرتين المذكورتين. لأنّ أتباعه لم يدّخروا وسعًا في تعظيم شأنه إلى درجة إلهٍ لا ينبغي (في اعتقادهم) أن يتمكّن أيّ إنسان من الإطلاع على شئٍ من صفاته البشرية.
لذا وعلى الرغم من أنه كان رجلاً سياسيًّا معروفًا، بصفته في المجلس العثمانيّ، فانّ أتباعه قد بذلوا قصارى جهودهم في القضاءِ على أدنى وثيقة من دلائل حياته السياسية لما قد تُسَبِّبُ زوالَ هيبتِهِ من قلوب المريدين؛ وقد نسجوا حوله تلافيفَ من حكاياتٍ أسطورية غريبة على سبيل الذكر لما كان يتضف به من العظمة والشموخ والشأن الرفيع والكرامة والبركة؛ يتلهّى بها الغافل عن التأمُّل فيما إذا كان هذا الرجل بشرًا يأكل ويشرب ويتغوّط.
كان طه من أشهر أبناء الشرفاء النهريّين (نسبة إلى نهري). وهي قرية على مَقْرُبَةٍ من مدينة شمزينان التابعة لولاية الهكّارية. وكان في الوقت ذاته يمثّل أكبر جماعة من النقشبنديّين في المنطقة الكرديّة الشمالية من المملكة العثمانيّة.(66/377)
قام بدوره بعد وفاته، ابنُهُ عبيد الله. وكان قد أخذ الخلافة من عمه صالح بن أحمد، فاستغلّ شهرة والده في أغراض خطيرة بدرتْ منه لميّزاتٍ شخصيةٍ فيه. ذلك لأنّه كان جريئًا مقدامًا. عارض سياسة السلطان عبد الحميد الثاني ضدّ موقفه المتهاون من الأكراد. ولكنّ عقليته المتخلّفة لم تسمح له بملازمة جانب الحكمة في تعامله مع السلطة العثمانيّة. فلم ينجح في معارضته. لأنه كان مُعْجِبًا بقدرته إلى حدود الاغترار حتّى لجأ إلى استعمال العنف ضدّ جهة غير ذات علاقة بالأمر. فاتخذ العداء السافر على العشيرة المسيحية الآشورية ذريعةً لهذه المعارضة. فأنذز زعمائَهَا وطلب منهم أن يُعلنوا إسلامَهم على وجه السرعة جميعًا، وإلاّ لَيُداهمنَّم ببطشه وليحطمنّهم بجنوده! فجمع من مريديه جيشًا بمنطقة زاب، قوامه عشرون ألفَ شخصٍ، ودخل المنطقة على حين غفلة من أهلها؛ ففعل بهم ما فعل، ثم دخل الأراضي الإيرانية زاحفًا يتحدّى بذلك السلطتين العثمانيّةَ والإيرانيةَ؛ فداهمته القوات العثمانيّة، فأُلْقِيَ القبض عليه وعلى أبنه عبد القادر عام 1881م. فصدر الفرمان السلطانيُّ بنفيهما إلى مكة المكرّمة. ثمّ مات عبيد الله في منفاه بعد أن قضى هناك سبع سنين. وذلك عام 1888م.
قيل أنّ الغرض من ثورة عبيد الله بن طه النهريّ عام 1881م.، كان إقامة دولة كردية في منطقة جنوب شرقي المملكة العثمانيّة. وتبرهن على هذا، عدّةُ أحداث وقعت بعد موته.
منها، أنّ ابنه عبد القادر، قام بتأسيس جمعية كردية في 2. أكتوبر. 1908م. مقرّها الرئيس بمدينة إسطنبول. وكان لها عدّة فروع في المنطقة الكرديّة.(66/378)
ومنها، ثبتتْ علاقة عبد القادر بن عبيد الله النهريّ بالثورة الّتي قادها الزعيم الكرديّ أمين علي البدرخاني عام 1889م.؛ كذلك ثبتتْ علاقتُهُ مع زحف الأرواسيين على مدينة بدليس بقيادة الشيخ شهاب الدين بن الشيخ صبغة الله الأرواسيّ الحيزانيّ عام 1913م. كما كانت له علاقة بالثورة الّتي انفجرت أخيرًا بقيادة الشيخ سعيد البالوي عام 1924م.
جاءت معلومات مفصّلة عن القضايا المذكورة في تقاريرَ عدة ٍلجهاز المخابرات التركية فور إعلان الجمهوريّة و إثر اعتقاله مع ابنه محمّد، تُلِيَتْ هذه التقارير أمام المحكمة العرفية بمدينة دياربكر أثناء التحقيقات الّتي أُجريتْ معهما عبر الجلسات من شهر أبريل ومايو عام 1925م. وذلك بتهمةِ اشتراكهما وتعاونهما مع الثوار الأكراد النقشبنديّين. ثم نُفِذَ حكمُ الإعدام فيهما صبيحة يوم الأربعاء 17. مايو. 1925م. بمدينة دياربكر.
يبدو أنّه كان يستوحي الجرأة، ويستمد القدرة من وراثته لشيخٍ من أقوى زعماء النقشبنديّين، وهو جدّه الشيخ طه النهريّ؛ حتّى صدرت منه هذه البوادر الخطيرة، فأَوْدَتْ بحياته وحياةِ ابنهِ محمّد إلى الهلاك في سبيل هدف لا مساس له بالإسلام مباشرةً. وإن كان بعض الزعماء لهذه الثورات ينطلقون باسم الإسلام ويهتفون به. ولكنّها في الحقيقة كانت حركات نضالية وثورات كردية ضدّ الحكم الفاشي لحزب الاتحاد والترقي وامتداده الّذي تجسّد في النظام اليهودي بعد إعلان الجمهوريّة. بينما كان الشيخ المذكور عربي الأصل من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وإن كان هو كردي النشأة من حيث الذوق والعقلية والاتجاه.(66/379)
إنّ الشيخ عبد القادر بن الشيخ عبيد الله بن الشيخ طه النهريّ، هذا الّذي قام بتلك المغامرات الخطيرة، كان من أعضاء مجلس الأعيان في البرلمان العثمانيّ سابقًا، كما تقلّد منصب رياسة مجلس الشورى في حكومة داماد فريد باشا، عامي 1919-1920م. من عهد السلطان وحيد الدين. ولكن العبرة الّتي يجب استخلاصها من كلِّ هذه الوقائع، هو أنّه لم ينل هذه المناصب ولا حظي بهذه الشهرة إلاّ لأنّه كان شيخًا نقشبنديًا وابن شيخ نقشبنديٍّ شهير!
أمّا الأُسرتان المذكورتان من أتباع الشيخ طه النهريّ، فانّ قصّتهما غريبة جدًّا.
وقع التنافر بين الأسرتين فور موت الشيخ طه، ثم اشتدّ الصراع بينهما بسبب المنافسة في استغلال شهرته، حتّى بلغ ذلك إلى أبشع أشكال التباغض والشحناء. فبدأ كلٌّ من الطرفين يقابل الآخر بالسخرية والتهكُّم والسبّ والتكفير.
ذلك أنّ الشيخ صبغةَ الله الأرواسيّ والشيخ محمدًا الكُفْرَويّ، كلاً منهما كان قد حصل على الخلافة من الشيخ طه النهريّ الهكّاريّ. وهذا ليس أمرًا شاذًّا عن أصول النقشبنديّة. لأنّه قد يأذن شيخ الجماعة لأكثر من واحد بالخلافة. إلاّ أنّه يقيم لنفسه وصيًّا خاصًّا، على أن يرجع إليه بقيَّةُ خلفائه بعد موته في قراراتهم. وأن يرابطوه ويعظِّموه بصفته نائبًا عنه.
وما أنْ مات الشيخ طه النهريّ الهكّاريّ، حتّى ادّعى كلٌّ من الخليفتين أنّه الوصيُّ القائم مقام شيخه وانتصر له أتباعه بحماسة. فزاد في هذه الحملة أتباع الكُفْرَويّ، أن الشيخ صبغة الله الأرواسيّ مطرود من الطريقة زعمًا على لسان عبيد الله النهريّ. فتطوّر الأمر إلى حدّ، لم يأل أيُّ طرفٍ منهما جهدًا في التشنيع على الآخر، إلى أنْ قام أبناء صبغة الله الأرواسيّ بثورة على النظام عام 1913م.(66/380)
فلمّا زحفوا على مدينة بدليس، استغلّ أتباع الشيخ الكُفْرَويّ هذه الفرصة، فانحازوا إلى القوات العثمانيّة ضدّ الثوّار. وساعدهم رجل اسمه الشيخ محمّد الغريب من أتباع الشيخ محمّد الحزين الفرسافي الهاشمي. فاستولى على مخزن العَتَادِ والذخيرة للجنود الّذين كانوا قد هربوا من وجه الثوار. فوزّع الأسلحةَ على سكان المدينة؛ فاشتدّتْ المقاومة ضدّ الأرواسيّين حتّى عاجلتهم الهزيمة. فأُلْقِيَ القبض على قادتهم: الشيخ شهاب الدين، والسيد علي، والشيخ محمّد شيرين، كبارِ الأسرة الأرواسية؛ ونُفِذَ فيهم حكمُ الإعدام بسرعةٍ في مدينة بدليس. فزاد الطين بلّةً بين الأسرتين بعد هذا الحدث، واستمرّت العداوة بينهما إلى يومنا هذا.
كانت قد أصابت الأسرةَ الكُفْرَوِيةَ أيضًا نكبةٌ في تلك المرحلة بسبب بدعةٍ أثارها رجلٌ متطرِّفٌ من أتباعها الأكراد في مدينة آغري هذه المدينة ولاية في أقصى شرق تركيا. تقع على مسافة قريبة من الحدود الإيرانية-التركية. كانت تسمى "قره كوسه" ازداد سكانها في السنين الأخيرة وأربى على خمسمائة ألف نسمة. غالب قراها آهلة بالأكراد. تعتمد الحياة فيها على زراعة القمح وتربية المواشي. انفجرت في منطقةٍ منها ثورة ضد الطغمة اليهودية الحاكمة عام 1930م. وهي منطقة "وادي زيلان". ذهب ضحية المذابح الّتي اُرتُكِبَتْ فيها ستة عشر ألفًا من الأكراد؛ شملت الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى! اسمه "بَكّو".(66/381)
ذلك، أنّ هذا الرجلَ ظهر ينبح في الشوارع نُبَاحَ الكلاب. فزعم أنّ هذا الفعل يصدر منه تلقائيًّا وبغير إرادة، كما زعم أنّ ذلك جذبات إلهية تنتابه، فلا قدرةَ له على الامتناع عنها. بيد أنّه لم يقتصر بنفسه على ذلك؛ بل بدأ يدعو الناس أيضًا إلى النُباح بإصرار وقد يشتدّ عليهم أحيانًا إلى حدود الإجبار. فاغتر به كثير من البُسطاءِ، وأطاعه آخرون على كراهيةٍ منهم، مخافةَ أن يمسّهم بسوء. فلم يلبث أنْ تفاقمت البدعة وانتشرت الفتنة بين قبائل الأكراد الّذين كانوا ينتمون إلى الشيخ محمّد الكُفْرَويّ، ويعتقدون أنّه أعظم أولياء الله على وجه البسيطة. فتطوّر الأمر وتصاعدت أصوات العواءِ على المنطقة بتمامها وبصورة مرعبة عجزت الإدارة المحلّيّةُ عن التحكّم فيها والحيلولة دونها؛ حتّى لجأت إلى طلب المدد من العاصمة إسطنبول. فتم القضاء على هذه البدعة باتخاذ إجراءات أمنية صارمة. ثم بعد أن صدر الفرمان بتنفيذ العقوبة اللاّزمة ضد كبار الأسرة الكُفْرَوِيَةِ، بصفتهم مسئولين عن حدوث هذه الفتنة، تمّ إبعاد الشيخ عبد الهادي والشيخ عبد الباقي (ابني الشيخ محمّد الكُفْرَويّ)؛ تمّ إبعادهما إلى برية فزان. وهي منطقة نائية عن البقاع المسكونة في قلب الصحراء بليبيا. وذلك في أوائل القرن العشرين الميلادي.(66/382)
والغريب أنّ تلك التطوّرات لم تُجْدِ بأيّ سلبيةٍ على الطريقة النقشبنديّة، ولم تخفّف شيئًا من سرعة انتشارها ورسوخها، على الرغم من ابتلاء المجتمع العثمانيّ بنكبات المجاعة والهجرة بعد الحرب العالمية الأولى، وزحف جيوش روسيا القيصرية على المناطق الشرقية الّتي كانت معظمها آهلةً بالأكراد. فنفذت محبة هذه الطريقة إلى قرارة نفوسهم، فتشرّبتها دماؤهم وخلاياهم. مع أن الطريقة النقشبنديّة كانت حديثة العهد في تلك المرحلة بالإضافة إلى أنّ الأكثرية الساحقةَ منهم، ما كانوا ولا يزالون يعرفون شيئًا من تعاليمها ومبادئها الأساسية وفلسفتها. كما وأنّهم يجهلون تمامًا من أين تستوحي عقائدها. وما هو الغرض الحقيقيُّ لهذه الطريقة.
هكذا سادت العقائد النقشبنديّة ورسخت في نفوس الأكراد بالمنطقة الشرقية نتيجة جهود الشيخ طه النهريّ وخليفتيه بالرغم من النزاع الّذي دام بينهما وبين أتباعهما منذ مائة وثلاثين عامًا. وكان لعددٍ آخر من الشيوخ أيضًا أثر كبير في انتشار هذه الطريقة على المنطقة المذكورة. منهم؛ الشيخ خالد الجزري، والشيخ حامد المارديني الحسيني الهاشمي، والشيخ صالح السيِبْكيِ، والشيخ محمّد الحزين الحسني الهاشمي.
أمّا المنطقة الغربية، فانّ جهود الشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخَانَوي يغلب على جهود سائر شيوخ الأتراك في نشر هذه الطريقة. ذلك لأنّه أعلمهم باللّغة العربية، وأكثرهم ثقافةً، وأنجحهم في التعامل والتفاهم مع خاصّة المجتمع. لذا كان نافذ الكلمة عند رجال الدولة والسياسة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. جاءت ترجمتُهُ بالتفصيل في "إرغام المريد" للشيخ محمّد زاهد الكوثريّ.(66/383)
وهو من الطبقة الثانية بعد خالد البغداديّ. لذا يُعَدُّ هو الحلقةَ الحاديةَ والثلاثين من السلسلة النقشبنديّة. صَحِبَ الشيخ عبدَ الفتاحِ العقريَّ (أحدَ خلفاء البغداديّ الّذي أقام في إسطنبول لنشر الطريقة بأمرٍ من شيخه، ومات بها.) وفي تلك الفترة التقى الكُمُوشْخانَويُّ بالشيخ أحمد بن سليمان الأروادي في إسطنبول. كان الأرواديُّ أيضًا من خلفاء البغداديّ. أجاز الكُمُوشْخانَويَّ بالخلافة أثناء هذه الزيارة. ثم عاد إلى بلده طرابلس الشام بعد أن أقام في مدينة إسطنبول مدةً طويلةً.
للشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخانَويّ تصنيفات في الحديث والتصوّف والأخلاق. وردت أسماؤها في كتب الباحثين الأتراك. كلّها مدوّنة بالعربية. وذلك يبرهن على أنه كان يتقن لغة الضاد، وإن لم يكن على درجة فائقة في البلاغة. وذلك عسير جدًّا على العنصر التركيّ. إذ لم ينجح منهم أحد في استخدام هذه اللّغة على مستوى أدباء العرب و أعلامهم بعد العهد المملوكيِّ في مصر. إلاّ عدد قليل جدًّا. أشهرهم الشيخ محمّد زاهد الكوثريّ، ثم الشيخ مصطفى صبري، ثم الشيخ أبو السعود العمادي. مات الشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخانَويّ عام 1311هـ./1893م. والدولة العثمانيّة مغلوبة على أمرها، معرَّضَة لأخطارٍ وشيكة الوقوع. ولم يكن النقشبنديّون يومئذ على شعورٍ تامٍّ بما تعاني دولتهم من أزمات رهيبة في الداخل والخارج. وكان المجتمع عامّةً في ظلامٍ من الجهل والعمى. حتّى اندلعت الحرب العالمية الأولى، فحصدت مالا يُحصى من الأرواح.
وما أنْ وضعت الحربُ أوزارها، بدأ الناس يستفيقون من سباتهم، وينهضون من تحت أنقاض هذه الدولة المدمَّرة ليواصلوا مسيرة الحياة من جديد. ولكن البقية الباقية من النقشبنديّين مازالوا ينظرون إلى من يظهر فيركب على عاتقهم ويحتلّ مكان السابقين من الشيوخ لِيُعِيدَهُمْ إلى ذلك العالم المُظلم كرةً أخرى.(66/384)
فلمّا تمَّ إعلان الجمهوريّة التركية عام 1923م.، وانفجرت ثورة الشيخ سعيد البالوي الكرديّ عام 1924م. حكمت السلطة على عددٍ من مشائخ الطريقة النقشبنديّة بالإقامة الجبرية في المدن الغربية بعد أن نفّذت حكمَ الإعدام في جماعةٍ منهم عقب إخماد الثورة مباشرةً. وكان من المحكومين عليهم بالإقامة الجبرية في كلٍّ من مدينة إسطنبول، وبورسة، وإزمير، أبناء الأسرة الأرواسية والكُفْرَوِية وغيرهم.
و من غرابة الأمر، أنّ الأسرتين الأرواسية والكُفْرَوِية تعرّضتا لاستحالةٍ سريعةٍ جدًّا في منفاهما لأسبابٍ وظروفٍ اجتماعيةٍ و ثقافيةٍ، انفكّت الصلةُ على أثرها بين الأسرة الكُفْرَوِية خاصّة وبين جماعات المريدين المنتسبين إليها بدافع هذه الاستحالة. زِدْ على ذلك: أنّ قلّةَ أبناء هذه الأسرة عددًا، واخْتِلاَفَهُمْ عن أتباعهم في التعايُش والسلوك بعد المرحلة الأخيرة، يُعَدُّ أيضًا من الأسباب الرئيسة لهذا الإنحلال. وما أنْ مات الشيخ قسيم الكُفْرَويّ عام 1992م.، اندرست اسم هذه الأسرة واختفت عن ساحة النقشبنديّين تمامًا.
أمّا الأرواسيّون، فإنّهم استطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم بين الجماعات المنتسبة إليهم لأسباب:
منها، أنّ عددًا منهم استمرّوا في ممارسة مهنة الأسلاف إلى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين الميلاديّ. وعلى رأسهم الشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي أعاد للأسرة سمعتَهَا بعد تلك النكبات الّتي أصابتها قبيل الحرب العالمية الأولى. وذلك بنشاطاته في مدينة إسطنبول، خاصّة بعد إعلان الجمهوريّة، وهدوء الأوساط؛ كما سنتطرّق إلى أعماله قريبًا إن شاء الله.(66/385)
ومن هذه الأسباب: أنّ رئيس الطغمة اليهودية الحاكمة الّذي وثب على السلطة فور الإعلان للجمهورية المزيّفة؛ وغَصَبَ الحكمَ بالتواطؤِ مع "منظمة الْقَرَائِمَةِ"، في الداخل؛ و"منظمة الفرمسونية العالمية" وبدعمٍ من الحكومة البريطانية من الخارج؛ استقر أمره وبدأ يلتقط شبابًا من أفذاذ كلّ فئةٍ، يُغريهم بإمكاناتٍ واسعةٍ، وأموالٍ طائلةٍ، ومناصبَ هامّةٍ طاشت بها عقولهم واندفعوا تحت أمره إلى تحقيق كل ما يهواه. كان يروِّضُهم على شاكلته، لِيُكَوِّنَ منهم قوّةً يعزّزُ بها مركزَهُ. اختار شبابًا من هذه العائلات المحكومة عليها بالإقامة الجبرية. ومنح الناضجين منهم فرصة المشاركة معه في احتكار السلطة. وسعى إلى تربية عدد من صغارهم وفق اتجاهاته؛ فأرسل فريقًا منهم إلى سويسرا للدراسة، وليصنع منهم عملاء صادقين مخلصين يخلد بهم ذكره. فكان على رأس هؤلاء الفتية شابٌّ من الأسرة الأرواسية. اسمه كامران إينان. وهو ابن الشيخ صلاح الدين بن السيد علي بن صبغة الله الأرواسيّ الحيزانيّ، من مشاهير شيوخ النقشبنديّة في شرق البلاد.(66/386)
نشأ كامران إينان علمانيّا دهريًّا بحكمِ البيئةِ الّتي تربىَّ فيها، والثقافةِ الوضعيةِ الّتي تلقَّاها في الغرب. لذا كان ولا يزال يُضمر الحقد على الإسلام والمسلمين. ولكنَّه محنَّكٌ في فنون المسايرة، وحاذقٌ في المُداراة واللّباقة إلى حدود النفاق. يتظاهر لأتباع آبائه على عقيدتهم، ويخاطبهم بأسلوبهم. ولكن الطغمة اليهودية الحاكمة لولا تأكّدها من إخلاصه لها، لما ضمّتْهُ إلى فريقها، ولا كشفتْ له من أسرار مخططاتها، ولا منحته تلك المناصب العليا الّتي لا يزال يشغلها ويتعاون مع البقية من رجال هذه المنظمة السرية الخطيرة. إذ أنّ الحكومات اليهودية وكّلت إلى هذا الرجل وظائفَ هامةً عبر احتكارها لسلطة الجمهوريّة التركية. فمنحته مهمّة السفارة في السنين الأولى، كما أكسبت أباه العضويةَ في البرلمان التركيّ. ثم ازدادت في إسباغ نعمها على هذه الأسرة أنْ استخدمت عددًا من رجالها الآخرين، كما وكّلت أخيرًا إلى كامران إينان منصب وزارات عديدة. وهو لا يزال يتهنّأ بمكانته المرموقة بين الجيل الثاني والثالث من أفراد هذه المنظمة اليهودية حتّى الآن. على الرغم من أنّ لآبائه سوابق سياسية خطيرة كما تطرّقنا إليها بإيجاز آنفًا. فيكون استخدامه أمرًا مخالفًا للأعراف السياسية على وجه الإطلاق. يبرهن على استثنائية وجوده في المسرح السياسي، عدمُ تمكين الحكومات التركية لبقية أحفاد الثوار من تلك المناصب.
أماّ عبد الحكيم بن مصطفى الأرواسيّ، فانّه من مشاهير المتأخرين للطائفة النقشبنديّة. لم نقف على تاريخ ميلاده. انخرط في سلك هذه الطريقة وأخذ الخلافة من جدّه السيد فهيم عام 1889م. وبذلك يُعَدُّ من الطبقة الثانية والثلاثين من السلسلة النقشبنديّة.(66/387)
خرج من موطنه (قرية آرواس)؛ وهي من ضواحي مدينة وان؛ مهاجرًا إلى الموصل، هربًا من هول القوات الروسية الّتي داهمت المنطقة الشرقية عام 1914م. أقام هناك مدةَ عامين، ثم هاجر إلى مدينة أَضَنَهْ، فأَسْكِيشَهِرْ، حتّى وصل إلى إسطنبول عام 1919م. فأقام بها، وشهد التطوّرات الّتي مرّت بالدولة العثمانيّة في أيّام انهيارها. ولكنّه ظلّ يشتغل بنشر طريقته غير مبالٍ بما يجري حوله، أو ربما تلبيةً للحاجة الروحية الّتي كان الناس في مساس إليها.
ينبغي هنا أن لا ننسى الحالةَ النفسيّةَ الّتي كانت في تلك المرحلة قد سادت ضمير المجتمع العثمانيّ بكل فئاته، ذلك المجتمع الّذي لم يكد يصدّق بسقوط »دولته العملاقة الّتي كانت في ذمة أولياء الله«. إنّ هذا المجتمع كان يومئذ يبحث عمن يسليه ويكشف غمه، ويبشّره بأنّ الدولة مازالت في حماية الأولياء. فوجد ضالّتَهُ المنشودةَ في عبد الحكيم الأرواسيّ.
في الحقيقة أنّ هذا الرجل قد لعب دورًا هامًّا في تسلية الناس بتزيين أحلامهم، وتعظيم أمجادهم، واستطاع بهذا الأسلوب أن يجدّدَ عهدَهم بالطريقة النقشبنديّة و »عظمائها الّذين ظلّوا ينشرون أجنحتهم على الأمّة التركية، ويحفظونها من المصائب، ويقاتلون أعداءها أمام الصفّ الأوّل في كلّ معركةٍ«(66/388)
لقد حالفه الحظّ في هذه المحاولة أنْ تعرّف على رجلين نادرين من نوعهما في إسطنبول. وهذا يُعتَبَرُ أيضًا من الأسباب الهامّة لنجاحه في نشر طريقته واكتساب شهرته. أحدهما أديب شاعر صنديد شهير، اسمه نجيب فاضل، مات عام 1983م.؛ والثاني عقيدٌ صيدليّ متقاعدٌ؛ اسمه حسين حلمي؛ دسّته أجهزة المخابرات في صفوف أتباعه لمهمّةٍ قام بها حقَّ قيامٍ منذ ستين عامًا وهو لا يزال على قيد الحياة يواصل مهمّتَه بنجاح. تنحصر هذه المهمة أصلاً في نشر العقائد الّتي تمثّل شكلاّ مخصوصًا مختلقًا وبديلاً عن الإسلام. وهو الإسلام المتعارف من قِبَل الغالبية العظمى للمجتمع العثمانيّ منذ ستمائة عام على الأقل. بل هو الإسلام الشكليُّ المجرد عن الروح السماويِّ منذ عهد العباسيّين؛ وليس هو الإسلام الّذي يحدّده كتابُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمقوماته السماوية والعالمية.
لقد كان عبدُ الحكيم الأرواسيّ ذا حظ عظيم؛ لأنّ مشاهير شيوخ النقشبنديّة من العناصر التركية الّذين كانوا في المنطقة الغربية، حصدتْهم المنيةُ في تلك المرحلة الزمنية؛ فسرعان ما حلّ الأرواسيّ محلّهم، واستفاد من الفراغ الحاصل بموتهم. فذهب صيته بمحاولات الرجلين المذكورين من بطانته.(66/389)
فلما أوجستْ الحكومةُ خيفةً من انتعاش الطريقة النقشبنديّة بعد الثلاثينات في المنطقة الغربية، بعد أن انتهت من قمهعم في المنطقة الشرقية تطبيقاً لخطةٍ أعدّتها عام 1925م.، وهي ثورة الشيخ سعيد البالوي. في الحقيقة لم تكن هذه الثورة إلا مؤامرة دبرتها حكومة يهود سالونيك للقضاء على المسحة الإسلامية ظنًّا منها أنّ النقشبنديّين يمثلون الإسلام. دبّرت خطةً أخرى للقضاء على كبار هذه الطائفة بتجنيد عددٍ من الحشاشين في مدينة مَنَامَنْ قربَ إزمير عام 1930م. ثم حصدتهم حصاد الزرع، واعتقلت مَنْ لم تتمكّن من إيجاد ذريعة لقتله. وكان الأرواسيُّ - من حسن حظِّه - ضمنَ الفريق الثاني؛ لذا حُكِمَ عليه بالإقامة الجبرية في مدينة إزمير. ثم أُطلق سراحه عام 1943م. فانتقل إلى أنقره، ومات بحيِّ باغلوم في نفس العام.(66/390)
ومن مشاهير شيوخ الطريقة النقشبنديّة بالمنطقة الغربية في أواخر الحكم العثمانيّ الشيخ أسعد الأربليّ. كان قد حظي بشهرة واسعة في مدينة إسطنبول. نفاه السلطان عبد الحميد الثاني إلى موطنه الأول (مدينة أربل) بشمالي العراق؛ لمعارضته سياستَهُ. بل بتهمةِ تطاولِهِ على شخصية السلطان. قيل أنّ الشيخ أسعد هذا كان مُعجِبًا بنفسه مُستعليًا مُتهوّرًا لايعبأ بكرامة الناس؛ دخل في عِرضِ هذا وذاك حتّى شتم السلطان عبد الحمد، فبلغه، فأمر بنفيه إلى أربل فأقام هناك عشر سنين محكومًا عليه بالإقامة الجبرية؛ غير أنّ أتباعه يستقبحون هذا الإسناد ويدافعون بأنّ حكم النفي إنّما صدر بسبب كتاب ألّفه الشيخ أسعد، ورد فيه ما يثير إساءة السلطان، فنفاه. ولكنّهم لم يبرّروا حجّتَّهم حتّى الآن باثبات هذا الكتاب المجهول الّذي ربما لا أصل له! وما قيل أنّ هذا الكتاب هو "كنز العرفان"، -كما جاء على لسان الباحث أكرم إيشن في "موسوعة إسطنبول"، مادة النقشبنديّة - فانه لا يستقيم مع المنطق السليم. إذ أنّ هذا الكتاب لايحتوي على شيءٍ مما يكون قد أغضب السلطان. بل قد أكّد فيه المؤلّف لزومَ إطاعةِ أولي الأمرِ، كما يحتوي هذا الكتاب على موضوعاتٍ فقهيةٍ وأخلاقيةٍ واجتماعية متفرِّقةٍ؛ كآداب الوضوء وفضائل السواك والذكر والدعاء وتحسين اللحية وذمّ البخل؛ ولكن الأربليّ كان مواليًا لجمعية شبّان الأتراك الّتي شنّتْ حربًا ضاريةً على السلطان عبد الحميد وسياسته كما ورد التنويه بذلك في "موسوعة إسطنبول". Mehmed Esad Efendi'nin, Kanun-i Esasi hareketini destekleyen Tasavvuf Dergisindeyazd??? ve J?n Türk dastekçilerinden Cemiyet-i Sufiye’nin destekçisi oldu?u bilinmektedir.
Dünden Bugüne ?stanbul Ansiklopedisi, ?tem: Nak?ibendilik.(66/391)
ثم إنّ الشيخ أسعد الأربليّ لما أُفرِجَ عنه عام 1914م. باع جميعَ أملاكه في أربل واشترى بثمنها قصرًا في إسطنبول بحيِّ أَرَنْكُويْ، وهي من الأحياء الّتي يسكنها الأثرياء والطبقة الأرستوقراطية. ثمّ صار من أعضاء "مجلس مشائخ الصوفيّة" وتولىّ رئاستَهُ، ثم استقال من وظيفته عام 1915م.
تحامل الأربليّ على شخصٍ من رجال الوعظ في إسطنبول، وهاجمه في رسالته السابعة والثلاثين بعد المائة على أنه منكر للصوفية.
كان أسعد الأربليّ قد انخرط في سلك النقشبنديّين بالانتساب إلى شخص اسمه طه الحريريّ؛ وهو من خلفاء طه الشمزينانيِّ الهكّاريِّ. يدّعي الأربليُّ أنه مأذونٌ أيضًا في الطريقة القادرية من الشيخ عبد الحميد البريفكانيّ (خليفة الشيخ نور الدين البريفكانيّ). ورد إقراره بهذه التفاصيل في رسالته الرابعة والخمسين بعد المائة من جملة رسائله الّتي نشرت من قِبَل دار الأرقم في إسطنبول عام 1983م.
ظهر في الآونة الأخيرة رجلٌ اسمه عمر أُونْكُوتْ واشتهر بنشرِ رسائلَ في مثالب عدد من رؤساء النقشبنديّة؛ جاء في نهاية هذه الرسائل أنه مأذونٌ من خليل فوزي في الطريقة النقشبنديّة، وأنّ هذا الأخير كان من خلفاء الشيخ أسعد الأربليّ؛ غير أنّ عامّةَ النقشبنديّين لا يعترفون به ولا بشيخه (خليل فوزي)، بل يعتبرونه دعيًّا دجّالاً عميلاً للحكومة العلمانية!
يبدو من عبارات الشيخ أسعد الأربليّ أنه كان قد استخلف شخصًا اسمه يكتا أفندي، يرجع إليه أتباعُهُ للاستشارة والاستفتاء، وقد زكّاه الأربليّ في عدد من رسائله إلى مريديه. و لكن الّذي اشتهر بالنيابة عنه أخيرًا هو محمود سامي رمضان أوغلو. قد أجازه الأربيليُّ بالخلافة كما ينصّ على ذلك خطابه الرابع والثلاثون بعد المائة من جملة رسائله الّتي جمعها الدكتور عرفان جندوز بالمشاركة مع ح. كامل يلماز.(66/392)
قام خَلِيفَتُهُ محمود سامي ببذل جهوده في سبيل تحسين سمعة شيخه لدى الناس الّذين كانوا يبغضونه لمعارضته سياسة السلطان عبد الحميد، - لأنّ القاعدة الشعبية من الأتراك مازالوا يحتفظون بالمحبة والإنتماء إلى سلاطين بني عثمان على أنهم رموز مقدّسة لأمجاد الأمة التركية -. فأوصى بعضَ مريديه المشهورين بالثروة والجاه أن يتزوّجوا من بنات أسرة آل عثمان، في الفترة الّتي كان رجال الأسرة المالكة مُبْعَدِينَ عن البلاد، وجملةٌ من نسائهم أصبحن في حاجة إلى المساعدة بسبب ما قد تعرّضن له من الفقر والإهمال. فانتهت هذه التوصية بعقد قرانٍ بين رجلٍ ذي مكانة من مريديه وبين أميرة من بنات آل عثمان. وقُضيت بذلك على السمعة السيئة الّتي كانت قد شاعت ضد الشيخ أسعد الأربليّ من قبل.
مازالت الطريقة النقشبنديّة تواصل مسيرتَها وانتشارها على الساحة التركية بكل نشاط وحيوية؛ وبواسطة طبقاتٍ من شيوخ هذه الطائفة. تختلف نسبةُ كلٍّ منهم إلى سلسلة ساداتهم ما بين الطبقة الرابعة والثامنة بعد خالد البغداديّ. وتستعدّ هذه الطريقة في أيّامنا للقفز إلى الجمهوريّات التركية الّتي حصلت على استقلالها بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية. كما تحاول بأقصى إمكاناتها وتعمل لتجنيد كافّة رجالها على إبقاء مفهوم الإسلام محصوراً في ذلك القالب الّذي صبه فيه الروحانيّون الأتراك بخلاف ميّزاته العلمية، ومحتوياته القرآنية الأصيلة، و صورته المحمدية البراقة.
سنقوم بتحليل هذا الجانب للطريقة النقشبنديّة عبر الفصل الخامس الّذي نحن على وشكٍ الدخول في تفاصيله بعد سرد معلومات وافية حول المميّزات الشخصية لشيوخ الطرق الصوفية ومستوياتهم العلمية والثقافية إن شاء الله تعالى.
* المميّزات الشخصية لشيوخ الطريقة النقشبنديةِ ومستوياتهم العلمية والثقافية(66/393)
إن شيوخ الطرق الصوفية الأتراك اليومَ، هم في الحقيقةِ أخلافُ دراويش خرسان (Horasan Erenleri)الذين كانوا يتردَّدونَ بين قبائل التركمان الرُّحَّل في العصر الذي اعتنقوا فيه الإسلامَ. وأمّا أؤلئك الدراويش، فقد كانوا هم أيضًا أخلافَ الرهبان الهياطلةِ الذين يزعم بعض البَحَثَةِ أنّهم يلتقونَ في الأصلِ مع الأتراك. لقد كانت المجتمعات التركمانيةُ يومئذٍ تحتفل بهم وتعتقد فيهم: (أنّهم واصلون = Erenler). والواصل في مصطلح الصوفيةِ هو الذي يسلك طريقًا خاصًّا من الرياضة الذهنيةِ مدّةً ثمَّ يرتقي حتّى يتّحد مع الله. هذا هو المعتَقَدُ السائد عند الصوفية الأتراك على اختلافِ مذاهبها. راجع الهامش رقم/197، تعالى ربُّنا عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
حظيَ هؤلاءِ الدراويش نصيبًا من المعرفةِ بطرقِ جلبِ عاطفةِ الناسِ بحكم التفاعل معهم وكسب التجارب على امتداد العصور. لأنهم طالما كانوا يغتبطونَ المكانةَ التي يتمتّعُ بها علماءُ الإسلامِ في المجتمع. لقد كان الدراويش الذين يحتلّونَ مكانَ رجال الدين في المرحلة التي دخلتْ قبائل التركمان إلى حظيرة الإسلامِ، كانوا على هيئةٍ غريبةٍ في زيّهم ومنظرهم؛ يرتدون ثيابًا رثًّا لا يكادُ يتميّزُ من الرقاعِ، كما كانوا يحلقونَ حواجبهم وشواربهم، ويشدّون من شعر رؤوسهم ضفائرَ يرسلونها، ويعلّقونَ حلقاتٍ من الفضّةِ في آذانهم، لا يحترفونَ صناعةً ولا يمارسونَ مهنةً، ولا يأكلونَ من كدِّ أنفسهم إلاَّ ما يُتَصَدّقُ عليهم، ويشذّونَ في سلوكهم وتصرّفاتهم عن عامّةِ الناسِ.(66/394)
أمّا حُظْوَتُهُمْ من إقبال البسطاءِ عليهم، وما كانوا يتمتّعونَ به من الإجلالِ بينهم يومئذٍ، إنّما كان من نتائج العقلية السائدةِ للطبقة الساذجة في تلك المرحلةِ. لأنّ عموم التركمان كانوا على أشدِّ حالٍ من الجهلِ والتّخلُّفِ، بحيثُ لا ينسبونَ صفةَ الوليِّ إلى أحدٍ إلاَّ أن يكونَ مسكينًا أو غبيًّا في هيئةٍ رثَّةٍ، قَذِرَ الثيابِ والبدنِ، بعيدًا عن النّشاطِ والعملِ، يجهلُ القراءَةَ والكتابةَ، ولا يتناولُ كتابًا أبدًا... كانت هذه نظرتُهم في بداية الأمرِ إلى مَنْ يعتقدونَ فيهِ أنّهُ من أولياءِ اللهِ، وخاصَّتِهِ من عبادِهِ، غيرَ أنَّ هذه العقليةَ تغَيّرَتْ مع الزّمانِ، لأنّ أؤلئك الدراويش ما لبث حتى انتبهوا إلى أنّ لِعُلَماءِ الإسلامِ مكانةٌ مرموقةٌ عند السلطةِ والطبقة الراقيةِ، فأخذوا يقلِّدونَ العلماءَ في زيّهم، ويمارسون القراءةَ والكتابةَ طمعًا فيما ينالُهُ أهلُ العلمِ من توقير الناسِ، وما يتمتّعونَ به من الرّفاهيةِ واليسرِ والسعةِ في المعاشِ. ورغم هذا التغيُّرَ الجذريَّ في أفكارهم، إنّ العقليةَ الصوفيةَ المتطرِّفةَ لم تسمح لهم في المرحلة الأولى أن ينظروا إلى المناهج الدراسيةِ المتعارفةِ كأداةٍ للمعرفةِ والتنوُّرِ. بل قسموا العلومَ حسبَ رأيهم إلى ضربينِ: علمِ الظاهر وعلم الباطنِ. لذا لم يشتهِ أحدهم أبدًا إلى دراسة العلوم التجربيةِ كالحسابِ والهندسةِ والفزياءِ والكيمياءِ والفلك والتاريخ والجوغرافيا وأمثالِها، ولا حتّى إلى العلوم الشرعيةِ، كعلمِ التوحيدِ والفقهِ وعلومِ القرآنِ والحديثِ وأصولِها، وما يحتاج إليه الطالِبُ لِفهمِ هذه المعارِفِ من علوم الآلةِ، كالصّرفِ والنّحوِ والاشتقاقِ وفقه اللغةِ والوضعِ والمنطقِ... طالما كَرِهَ الصوفيةُ ممارسةَ هذه العلومِ، فاختلقوا لأنفسهم علمًا سمّوه عِلْمَ الباطِنِ، والْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وزعموا أنّ علمَ الظاهرِ لا يُغني عن الإنسانِ شيئًا(66/395)
في طريقِ الوصولِ إلى الله! إلاَّ أنّ هذه الطائفَةَ خاصّةً بعد انتشار الطريقة النقشبنديةِ بين الأتراك في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيِّ بجهود خالد البغداديِّ عام 1811م. اهتمّوا إلى حدٍّ بالِغٍ بالعلوم الشرعيةِ تشبُّهًا بِعلماءِ الإسلامِ. ولهذا السببِ التبسوا على الناسِ بالعلماءِ، بحيث لا يكاد أحدٌ اليومَ في تركيا يميّزُ شيوخَ الطريقةِ النقشبتديةِ من العلماءِ. بل يُفَضِّلونَهُمْ على سائر العلماءِ مع نسبةِ هذه الصفةِ إليهم بما يعتقدونَ فيهم من الكرامةِ والبركةِ وعلم الباطن. لأنّ »علماءَ الظاهر« على حدِّ قولِهم، »محجوبون عن المعرفة بالله وعن طرقِ الوصولِ إليهِ!«
أمّا شيوخُ هذه الطريقِةِ خاصّةً الذينَ سبقوا خالِدًا البغدادِيَّ وعاشوا في الحُقْبَةِ التي ظلَّ هذا التيّارُ على مداها محصورًا في مناطقِ تركستان والساحةِ الهنديةِ، كانوا أبعدَ النّاسِ من الأجواءِ العلميةِ، خاملينَ مقبّعين على أنفسهم، لم يَرِدْ لأحدِهِمْ أثرٌ في طبقاتِ الرجالِ ولا تَرْجَمَ لَهُمْ أحدٌ من الباحثينَ والمؤرّخين على امتداد العصورِ.
لقد جاءت كلماتُ أديبِ النقشبنديّينَ، عبد المجيد بن محمد الخانيِّ مِنْ أقوى الدلائِلِ على هذه الحقيقةِ، إذ يقول في مُسْتَهَلِّ كتابِهِ، (الحدائق الوردية في حقائقِ أجلاّءِ النقشبندية):(66/396)
» وسمعتُ أسماءَ ساداتِ سلسلةِ الطريقةِ الجليلةِ، جعلتُ أتشوَّفُ للوقوفِ على تراجُمِ أحوالِهم المقدّسةِ مدّةً غيرَ قليلةٍ، وإذ لم ارها مُجتَمَعةً باللغةِ العربيةِ في كتابٍ واحدٍ؛ لأنّ أكثرَهم من بلادِ الفُرسِ والهندِ وتلكَ المعاهد.« ثمَ يزعم الخاني أنه »استحضر كُتُبًا مهمّةً جمةً مدوّنةً بالفارسيةِ والتركيةِ في ترجمة شيوخه« ويعدّد اسماءَ هذه الكتب التي لم يحتفل بها أحد من العلماءِ، كما يعترف بهذه الحقيقة عندما يقول: »أنه غير معوّل على الإقتداءِ بعبارةِ المتعرّبين، لأنّ أكثرَهم من الفرسِ المتعرّبين!« كما يقول: »فقد شذَّ عنّي من رجال السلسلةِ اثنانِ وهما سيدنا الدويش محمد ونجله الشيخ محمد الخواجكي الأمكنكي، فإنّي لم أقف لهما على ترجمةٍ في مكانٍ، فأرجو ممّن ألمّ بترجمتهما أن يُلحقَها تحت اسمهما.«
لقد بذل المؤلّفُ ما بذل من جهودٍ بالغةٍ وأفرغ كُلَّ طاقتِهِ وتكلّمَ ملأ شدقيهِ ليرفع من شأنِ هذه الطائفةِ المجهولةِ، وليجعلَ كُلاًّ منهم تاجًا على رؤوسِ العالمين فيُبَرهِنَ للناسِ أنّهم أنوارُ السماواتِ والأرضينَ!(66/397)
مَن أرادَ ان يطّلِعَ على المميِّزاتِ الشخصيةَ لشيوخِ الطريقة النقشبنديةِ السابقينَ بصورتِها الحقيقيةِ، يكفيه أن يلتمسَ معلوماتٍ أثبتها بعضُ الباحثينَ. ومن مشاهيرِ هؤلاءِ الباحثينَ الأستاذ الدكتور فؤاد كوبرولو. فإنّه مثلاً يطرقُ حياةَ يوسف الهمداني الذي ورد ذكرُهُ في بعض المصادرِ واهتمَّ به بَحَثَةُ الأعجامِ أكثرَ من غيرهِ من الرروحانيّينَ لهذه الطريقةِ. فقد أثبت الدتور كوبرولو: »أنّ يوسف الهمدانيَّ رغم ما تلقّى دروسًا من العلماءِ مدّةً في بغداد وأصبح ذا وقوفٍ بالِغٍ وإحاطةٍ بالعلومِ الشرعيةِ إلاّ أنّه ما لبث حتّى تركَ طريقَ العلمِ بسبب مزاجه الصوفيةِ« Ord. Prof. Dr. Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda ?lk Mutasavv?flar s. 66 هذا هو الموقف المتَعَارَفُ لشيوخ الطريقةِ النقشبنديةِ من العلمِ والمعرفةِ طوالَ العصورِ حتّىَ عهدِ خالِدِ البغداديِّ. أمّا البغداديُّ فإنّهُ غدا مثالاً لِمَنْ بعدهُ من شيوخِ هذه الطريقةِ بدافعِ نزعتِهِ إلى الكتابةِ والقراءَةِ، وبحكمِ ما سبق له من دراسةِ بعضِ العلومِ التقليديةِ؛ بذلكَ ازداد أخلافُهُ اغتباطًا بعلماءِ الإسلامِ، فمارسوا دراسةَ بعضِ العلومِ التقليديةِ اسوةً به مع الإختصارِ على القراءةِ دون الكتابةِ. وكانت مقرّرات المدارس الداخلةِ تحت هيمنتهم محدودةً جدًّا. ومع ذلك، فإنّ الدافع الذي جعل الطريقةَ النقشبنديةَ تنتشر في أنحاءِ الشرق الأوسطِ بعد عام 1811م. ليس إلاَّ لأنَّ شيوخَ هذه النحلةِ استخدموا تكاياهم في التدريسِ وظهروا للناسِ في لباسِ العلماءِ. فاعتقد الناسُ أنّهم من أهل العلمِ بجانب ما كانوا يعتقدونَ أنّهم أصحابَ الجاهِ عند اللهِ.(66/398)
تدهور المستوىَ العلميُّ بعد عهد السّلطان محمود الثاني بشكلٍ ملحوظٍ خاصّةً في المدارس التي يرأسُها شيوخ النقشبنديةِ الأكراد، بعد سيطرتهم على القطاع العلميِّ بشرق البلاد، ثمَّ تأثّرت بهم العناصر التركيةُ من الصوفيةِ، فأدّى ذلك إلى تخلّفٍ سريعٍ في جميعِ مجالاَتِ الحياةِ وزاد من حدّةِ عوامل الإنهيارِ للدولةِ العثمانيةِ وسقوطها.
وللمعرفةِ بحقيقةِ هذه المشكلةِ وما قد أسفر عنها من مشاكلَ ثانويةٍ أخرى، يكفي الإطلاعُ على المنهج المدرسيِّ للنقشبنديةِ ومقارنتِها بالمنهج المتّفَقِ عليهِ عند علماءِ المسلمينَ عبر التاريخ.
لقد كانت النظريةُ التعليميةُ عند علماءِ الإسلامِ تقومُ على دعامتين أساسيّتينِ: التعليمُ والتّعلّم. فما لبثَ أن تعرّضَ كلاًّ من هذينِ الدعامتينِ للتشويهِ بعد هيمنةِ هذا التيار الصوفيِّ على المدرارس الكائنة بالمنطقتين الكرديةِ والتركيةِ. اقتصر التعليمُ عندهم على قيام الأستاذِ بقراءةِ متن الدرسِ وشرحه بقدرٍ محدود جدًّا. أمّا الكتابةُ والرسم والتخطيط، فإنّها أُسقِطتْ من المناهج نهائيًّا، بل اختفتْ تلقائِيًّا لجهل الأساتذةِ بالكتابةِ والنطقِ بالعربيةِ ارتجالاً. أمّا التعلُّم، فإنه اضمحلَّ تمامًا؛ لأنّ دورَ الطالِبِ اقتصر على الإستماعِ المحضِ دونَ اشتراكه في المحاضرةِ بشكلٍ من الأشكالِ؛ لا محلَّ للسؤالِ والاستفسارِ عادةً، ولا للإمتحانِ والاختبارِ اطلاقًا في هذا النّمط الدراسيِّ العقيمِ. كما لا يخضعُ هذه المدارسُ لمراقبةِ أيِّ سلطةٍ ولا لتفتيشِ أيِّ مسؤولٍ، بل شيخ الجماعةِ مطلَق العنانِ فيما يختارُ من كتابٍ، وموضوعٍ، وقبولٍ لمن شاءَ من الوافدينَ عليهِ من الطلبةِ وطردِ مَنْ شاءَ منهم.(66/399)
لقد قسم علماءُ الإسلامِ الفنونَ قديمًا إلى آليةٍ وعاليةٍ؛ فالآليةُ تشمل علومَ اللغةِ كالصرفِ والنحوِ والبلاغةِ وفروعِها، ومنها المنطقُ. وهيَ بمنزلةِ السُّلَّمِ، يتدرَّ جُ بها الطالِبُ إلى تحصيل العلومِ العاليةِ ليتخصَّصَ في بعضِها. وأمّا هذا القسمُ، فإنّهُ يشمل الحسابَ، والهندسةَ، والتاريخَ والجعرافيا، والفلكَ والطّبَّ والموسيقى والفزياءَ والكيمياءَ وعلمَ الأرضِ والزراعةَ والسياسةَ والفلسفةَ وعلم الإجتماعِ وعلومَ الدينِ. هذه القاعدة التي أثبتها علماءُ الإسلامِ كانت معمولةً بها في العالم الإسلاميِّ حتّى بداية القرن التاسع عشر الميلادي. فلمّا تدهورت الأوضاعُ وانتشر الجهلُ واحتلَّ شيوخ النقشبنديةِ مكانَ العلماءِ أُلغِيَتْ جميعُ العلومِ العقليةِ والتجربيةِ من المناهج الدراسيةِ في مدارس هذه الطائفةِ، كما أُلغِيَتِ المحاضرةُ والخطابُ بالطريق المباشرِ؛ بل اقتصر الأمرُ على تدريسِ سلسلةٍ من كُتُبٍ قديمةٍ جدًّا وبصورةٍ عشوائِيَّةٍ، يقرأ الأستاذُ كلَّ يومٍ سطورًا من كتابٍ واحدٍ يختارُهُ من بينِها إلى أن ينتهي الكتابُ، ثمّ يباشرُ قراءةَ كتابٍ آخَرَ من هذه السلسلةِ وهكذا يتابَعُ الدروسُ من خلالِ كتابٍ واحدٍ عبرَ السلسلةِ كلاًّ على حدةٍ حتّى تنتهي الدراسةُ. وتتراوح مدّتُها ما بينَ عَشْرٍ وخمسَةَ عَشَرَ عامًا، يتخرّجُ الطالِبُ في نهايتها وهو شبهُ انسانٍ أخرس، لا يتكلّمُ إلاَّ بعدَ مراجعةِ كتابٍ، ولا يخطُّ بيمينه أبدًا! فضلاً عمّا يُعاني من العيِّ والعجزِ البالِغِ في الحديثِ بالعربيةِ، فلا يكادُ يجيبُ على سؤالٍ واحدٍ حتّى لو خاطَبَهُ عربيٌّ من أجهلِ الناسِ!
هذه هي خلاصةُ الميّزاتِ الشخصيةِ والمستوى العلميِّ لشيوخ النقشبنديةِ من كلاَ العُنصرينِ التركيِّ والكرديِّ.(66/400)
أمّا الكُتُبُ المقرّرَةُ للتدريسِ عندهم، فهي تلك التي اختارها صناديدُهم منذ قرنينِ، ولم يتغيّر منها حتّى كتابٌ واحدٌ. وهي في الحقيقةِ كُتُبٌ قديمةٌ وعقيمةٌ يجهلُها العالَمُ العربيُّ تمَامًا. وهذه أسماؤُها بالتسلسلِ حسبَ المنهج الدراسيِّ المعمولِ به عند النقشبنديّينَ منذ عهدِ خالد البغداديِّ حتّى اليوم.
1) نوُبَهار: قاموسٌ عربي – كُردي، نظمهُ الشيخ أحمد الخاني (1591-1652م.) وهو من أهالي مدينةِ آغري الواقعةِ في المنطقة الشرقية بتركيا.
2) نَهْجُ الأنام: رسالةٌ في العقيدةِ، منظومةٌ باللّغةِ الكرديةِ، نظمَها المُلاَّ خليلُ العمريُّ الأسعردِيُّ (1754-1843م.)
3) غاية الإختصار (التقريب): كتابٌ صغير الحجمِ في الفقه على المذهب الشافعيِّ، مؤلِّفُهُ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن القاسم.
4) فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب: وهو شرح كتاب المذكور آنفًا، ألّفه أحمد بن الحسين.
5) التصريف: كتابٌ في الاشتقاقِ وصِيَغِ الأفعالِ، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
6) الأمثِلَةُ: جدولٌ مفصّلٌ في تصريف صِيَغِ الأفعال، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
7) البِناءُ: كتابٌ في أبوابِ التصريفِ، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
8) المقصود: كتابٌ في أبوابِ التصريفِ أيضًا، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
9) العِزِّيُّ : كتابٌ في أبوابِ التصريفِ أيضًا، ألّفه عزّ الدين عبد الوهّاب بن ابراهيم الزنجانيّ
10) عوامل الجرجانيِّ: كتابٌ صغير الحجمِ في النحو للمبتدئين، يتناول العوامل التي يتغيّر بها آخر الكلمة، ألّفه عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ (ت. 1078م.)
11) عوامل البِركِوِيِّ : كتابٌ صغير الحجمِ في النحو للمبتدئين، يتناول العوامل التي يتغيّر بها آخر الكلمة، ألّفه محمد البركوي، وهو تركي الأصلِ.
12) الظروف: كتابٌ صغير الحجمِ، يتناول الظروفَ في النحوِ العربيِّ، كتبهُ المُلاَّ يونس الأرقطيني باللّغة الكرديةِ، يدخل في عداد الكتب المتداوَلَةِ بالمنطقةِ الكرديةِ.(66/401)
13) التركيب: كتابٌ في النحو العربي، يتناول تحليل ألفاظِ العوامل للجرجانيِّ وهو من مؤَلَّفاتِ المُلاَّ يونس الأرقطيني أيضًا.
14) سعد الله الصغير: وهو كتابٌ صغير الحجمِ في النحو العربي، يشرح ألفاظَ العوامل للجرجانيّ، مؤلّفه مجهولٌ.
15) شَرْحُ المُغنِيِّ: كتابٌ متوسط الحجمِ في مختلف قواعد النحو، ألّفهُ محمد بن ابراهيم بن محمد العمري الميلاني. شَرَحَ فيه كتابَ المُغنِيِّ لأستاذه أحمد بن الحسن الجاربردي.
16) التصريف الكبير: كتاب ضخمٌ في الاشتقاق والتصريف، ألّفَهُ سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
17) حلُّ المعاقد في شرح القواعد: كتابٌ متوسط الحجمِ في النحو العربي، يتناول الجملةَ، ألّفه أبو الثناء أحمد بن محمد الزيلوي، يغلب أنه تركي الأصلِ، شَرَحَ فيه كتابَ قواعدِ الإعرابِ لابن هشام عبد الله بن يوسف الأنصاري. يزعم عمر رضاء كحالة أنّ هذا الكتابَ من مؤلَّفاتِ سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني!
18) حلُّ مشكلات الإشارات: كتابٌ في القواعد الأساسيةِ للمنطق والفلسفةِ، ألّفهُ ناصر الدين الطوسي، شَرَحَ فيه كتابَ الإشارات والتنبيهات لابن سيناء، واختصره فخر الدين الرازي، لذا يسمّيه الطلبةُ (التلخيصَ).
19) حدائق الدقائق: كتابٌ ضخم في النحو العربي، يسمّيه الطلبة في المنطقة الكردية (سعد الله كَوْرَا)، ألّفه سعد الدين سعد الله.
20) نتائح الأفكار في شرح الإظهار: كتاب ضخم في النحو العربي، ألّفه مصطفى بن حمزة الرومي، شَرَحَ فيه كتابَ الإظهار لمحمد البِركِويِ.
21) شَرْحُ ألفيةِ ابنِ مالك: كتابٌ ضخمٌ في النحو العربي، ألّفه جلال الدين عبد الرحمن السيوطي.
22) الفوائدُ الضيائية: كتاب ضخم في النحو العربي، ألّفه نور الدين عبد الرحمن الجامي، شَرَحَ فيه كافيةَ ابن الحاجب، يسمّيه الطلبة الأكراد (مُلاَّ جامي).
23) إيساغوجي: كتاب صغبر الحجمِ في المنطق، ألّفه أسير الدين المفضّل بن عمر الأبهري.(66/402)
24) حُسَمْكَاتي: كتابٌ متوسط الحجمِ، وهو شَرْحُ كتابِ المسمّى (أيساغوجي)، مؤلّفه مجهولٌ.
25) قولُ أحمد: كتاب في علم المنطق، ألّفه أحمد بن محمد بن الخضر.
26) حاشيةُ عبد الغفور: كَتَبَهُ عبد الغفور اللاّريُّ، تَنَاوَلَ فيه بعضَ المسائِلِ من كتابِ الفوائد الضيائيةِ لأستاذِهِ نور الدين عبد الرحمن الجامي لِحلِّ عويصاتِها.
27) رسالةُ الوضع: كتابُ في علم الدلالةِ، ألّفه القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفور عضد الدين الإيجي.
28) رسالة الإستعارة: مؤلِّفُهُ عصام الدين بن ابراهيم. وقد يحل محلَّ هذه الرسالةِ في بعض المدارسِ كتابُ استعارة الليس السمرقندي.
29) رسالة المناظرةِ: لمحمد بن على الاحسائي. غير أن النقشبنديين قد اسقطوا هذا الكتابَ منذ سنين من البرامج الدراسية.
30) شرح الشمسيةِ في المنطقِ: ألّفه محمود بن محمد الرازي تَنَاوَلَ فيه كتاب الشمسيةِ لنجم الدين بن على القزويني.
31) مختصر المعاني: كتابٌ في البلاغةِ من تأليفات سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
32) شرح العقائد: كتاب في العقيدة الإسلامية، وهو أيضًا من تأليفات سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
33) جمع الجوامع: كتابٌ في أصول الفقهِ، ألّفهُ تاج الدين عبد الوهّاب بن علي السُّبُكي (ت. 771هـ.)(66/403)
يبدو وبكل وضوح من هذه القائمة، أن النقشبنديينَ قد أسقطوا جميع العلوم العقلية والتجربية من المنهج الدراسي في مدارسهم، فضربوها عرض الحائط، بل كرهوا أن يَتَنَاوَلَ أحدٌ من الطلبةِ في مدارسهم كتابًا يضمُّ مادّةً من هذه العلوم، واشمئزّوا مِنْ كُلِّ مَنْ اقْتَرَحَ عليهم أن يسمحوا بتدريسِ شيءٍ من العقليات كالحسابِ والهندسةِ والتاريخِ والجعرافيا والفَلَكِ والفزياءِ والكيمياءِ والزراعةِ والطبيعةِ وغيرها من العلوم التجربية. كما نقموا ممّن اطلع على عجزهم في الكتابةِ والنطقِ بالعربية على الرغم من توغّلهم في حفظ قواعدها طوال مدةٍ لا تقلّ عن عشر سنين!
إذًا فلا يخفى أن هذه النحلةَ طائفةٌ متطرّفةٌ تخالف كلّ ما يُرْشِدُ إليهِ العلمُ والعقلُ السليمُ والكتابُ والسنةُ، يبرهن على ذلك استخفافهم بعلماء الإسلامِ، وانبهارهم بالدراويش المتزمّتين واهل الشعوذة الذين يبالغون في تعظيمهم بنعوتٍ غربيةِ وصفات ليس من الإسلامِ في شيءِ؛ كقولهم »قطب العرفين، وعوث الواصلين، وإمام المتّقين، وتاج الكاملين، ونور السماوات والأرضين!« إلى غير ذلك من الكفرياتِ والبدع والأباطيل، وهذا مبلغهم من العلم...
***
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في المناطق الّتي انتشرت فيها.
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضِدَّ الوهّابية....................................................................................................
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأَثَرُهُ الهدّامُ على الإسلام والمسلمين...................
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ..................................................................(66/404)
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم...................................................................................................
* أهمُّ الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها ..................................
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء في كلامهم من ضروب التعارض والضعف.......
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها............................................
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًا لبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيهاتضادٌّ وتناقض للقائل نفسه................................................
* أمثلة من معاداة النقشبنديّين فيما بينهم، ومناهضتهم وتباغضهم وتشنيع بعضهم على البعض...........................
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين...........................................................................................................
* الكلمة الختامية............................................................................................................................................
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في المناطق الّتي انتشرت فيها.
لقد ظهرت آثار الحركة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في جميع أنحاء تركيا تقريبًا، ولكنّها اكتسبتْ أبعادًا وأشكالاً متنوّعةً ومعقَّدَةً في مضمونها، كنتيجةٍ أسفرتْ عن علاقاتٍ مُخْتَلَقَةٍ بين مفاهيم الدين والسياسة والمصلحة.(66/405)
لا نقصد بهذا أنّ شيوخ الطريقة النقشبنديّة يتاجرون بالدين مباشرةً. بل الحقيقة عكس ذلك. وإنّما يمثّلهم بعض السماسرة في هذه الأغراض. لأنّهم لا يمتازون بلباقةٍ ومهارةٍ ودهاءٍ تُمكِّنهم من احتكار الدين في سبيل المصالح؛ ولا يسمح لإقدامهم على ذلك مركزُهُمُ المقدَّسُ في نظر المعتقدين بهم، حتّى ولو أثارهم الطّمع على احتكار الدين والاتّجار بالقِيَم المقدّسة. بل خمولهم يواريهم عن كثير من حقائق الحياة وأشكال التعامل؛ صالحها وفاسدها. ولكنّ الأحزابَ السياسيةَ جميعَها، وعددًا كبيرًا من الشركات العالمية، وكثيرًا من رجال العمل يستغلّون شهرتهم؛ فتنعكس بذلك آراء شيوخ الطريقة على أعمال تجمّعات سياسية وتجارية. بل تظهر آثارها الملفّقة على نتائج تلك الأعمال بسلبيّاتها وخطورتها على الإسلام والمسلمين.
تتأكّد الإشارة هنا إلى أنّ الروح الصوفيّ الراسخ في ضمير العنصر التركيّ، يصدّه دائمًا عن النظر إلى حقائق الكون والحياة والأحداث والتطوّرات من المنظور القرآني الواضح البرّاق والمباشر؛ فيأبى إلاّ أن تكون نظرته متلبّسةً بتعليق أو تفسير أو تأويل يحمله على التقليد ويصرفه عن إبداء الرأي النابع من الفطرة. تلك الميّزة كانت ولا تزال تلازم هذا العنصر قديمًا وحديثًا. فلمّا بدأ الّتيار النقشبنديّ يسيطر على ضمير هذا العنصر منذ بداية القرن الماضي، ازدادت تلك النزعة فيه تصلُّبًا وشدّةً، فانعكست آثارها على جميع تصوّراته وأفعاله، بحيث لو نظرتَ إلى أحد منهم قد خلع ربقةَ النقشبنديّةِ من عنقه، حتّى هو بالذّات تراه لا يزال مجبولاً عليها، لا يبرح يتصوّر كلَّ شيءٍ بدافع ما بقيتْ من تأثيرات هذه الطريقةِ في أعماقِ ضميره والمتغلّبة الدامغة على كلّ مجالٍ من حياته.(66/406)
وكمثال حيٍّ على ذلك: فانّ أعضاء منظمة النور، أكثرهم منشقّون عن الطريقة النقشبنديّة، ويدافعون عن حركة النور بأنّها ليستْ طريقةً صوفيةً كما جاء في قرارٍ صادرٍ من اللجنة الاستشارية للرقابة على الكتب الدينية التابعة لرئاسة الشئون الدينية بتاريخ 29/06/1963م. تحت رقم/326. هذا نصّه:
»إنّ حركة النور ليستْ طريقةً صوفيةً، ولا مذهبًا اجتهاديًّا. وإنما هي حركة متمثّلة في متابعةِ رسائلَ كتبها شخصٌ اسمه سعيد النورسي دفاعًا عن الإيمان من خلال آيات قرآنية في مواجهة الّتيار اللاّدينيِّ الّذي ظهر ينتشر في الآونة الأخيرة«.
على الرغم من هذه التصريحات، فان حركة النور تيّارٌ عرفانيٌّ، شبيهٌ بطريقةٍ صوفيةٍ، فضلاً عن أنّ أعضاءَ هذه الحركة - سوى عدد قليل جدًّا - لا يختلفون عن النقشبنديّين قيد شعرةٍ في الاحترام لمشائخ هذه الطريقة والاعتراف بتعاليمها.
و ما هو أشدّ غرابةً، بل أشدّ خطورةً من ذلك، أن الشيخ سعيد النورسي الّذي استطاع بدهائه أن يتخلّص من الطريقة النقشبنديّة بعد مرحلة شبابه وتبرّأ عما قاله قبل الخمسينات، فتمكّن بفضل هذه الصحوة من القيام بحركةٍ نضاليةٍ في مواجهة يهود سالونيك طوال حياته؛ لم ينجُ هو الآخر من أن يتحوّل اسمه بعد موته رمزًا يتاجر به تلاميذه في تحقيق أهداف منظمتهم (حركة النور)، إلى حد أنهم لم يتورّعوا من تحريف كلماته، والتقوّل على لسانه، وإشاعةِ ما تبرّأ عنه من رسائله الّتي أمر بإتلافها، حتّى أنزلوه منزلةَ رجلٍ من الروحانيّين! لم يفعلوا ذلك إلاّ لأنّ حركتهم امتداد للطريقة النقشبنديّة خاصّة فانّ أعضاء الطريقة "الْعَجْزمَنْدِيَّةِ" الّذين أضافوا إلى موكب الصوفيّة طريقة جديدة أخرى، وزعموا أنهم على مشرب سعيد النورسيّ، فانّهم أيضًا يقيمون طقوسًا فيها الرقص والاهتزاز والجيشان، انطلاقاً من تلك الآثار الباطنيّة المتبقّية في قرارة نفوسهم والموروثة من أسلافهم النقشبنديّين.(66/407)
إنّ القسطاس الّذي يحدّد أبعاد مفهوم الدين، ودوره، ومدى صلاحيته في مُعْتَقَدِ الأتراك، هو التصوّف. ولم يختلف هذا القسطاس عند أكثرهم منذ اعتناقهم للإسلام إلى الوقت الحاضر. لقد طبّعتهم الطرق الصوفيّة على هذه النزعة منذ القديم؛ فكانت الطريقة المولوية والقادرية والرفاعية والخلوتية والبكتاشية في مقدّمة الحركات الصوفيّة الّتي تأثّر بها الأتراك. فكان فهمهم للإسلام، وتعاملهم معه من خلال نُظُمِ هذه الطُّرُقِ وآدابها إلى أواخر العهد العثمانيّ. فلمّا قفزتْ الطريقة النقشبنديّة من الهند إلى الديار العثمانيّة وبدأت تنتشر فيها منذ عام 1811م. سادت بعد ذلك آثارُ هذه الطريقة على روح الناس وانعكستْ إلهاماتُها على فهمهم وسلوكهم وتعاملهم بصورة واضحة.
إنّ أهمَّ آثار الطريقة النقشبنديّة على عقلية المجتمع وسلوكه، وأشدَّها خطرًا على الإسلام في تركيا ينحصر في نزعة غريبة ابتلى بها أكثر الناس في هذا البلد. وأصبحت مشكلةً أخلاقيةً واجتماعيةً عويصةً جدًّا، قد يؤدّي إلى تضليلٍ شاملٍ، وإلى إفساد بقيةِ القِيَمِ، وإثارةِ فتنٍ تتعاقبها تطوّراتٌ لا إمكان لتحديدها وتقدير نطاقها ونتائجها في هذه الآونة. ألا وهي نزعةٌ تتمثّلُ في اختلاق شخصية موهومة تُنْصَبُ كأسطورة، يبدأ الناس بالطواف حولها لما يرسخ في ذهنهم أنّها محط عظمةٍ وإجلال، وينتشر ذكرها في العالمين.
لذا، فمن حظي بشيءٍ من ثناء الناس ولو بِدِعَايةٍ كاذبةٍ تواطأ قومٌ على نشرها واستغلال تلك الشهرة التي صنعوها فيما بعد، - حتّى ولو كان لصًّا أو فاجرًا – سرعان ما اجتمع الرعاع والأوغاد حول تلك الشخصية المختلقة، على أنّها من الأولياءِ المؤيَّدين بالكرامات وعلم الغيب والزلفى إلى الله تعالى، وذهب صيته وأصبح قطب الفلك في معتقد أهل البلد بأسرهم !!!(66/408)
ولهذا أول ما تتوسّلُ به الأحزابُ السياسيةُ، والجمعياتُ والشركاتُ، وحتّى العصاباتُ والمافيا في تحقيق أهدافها، هو الإقدام على خَلْقِ شخصية تُعَظِّمُهَا الناس وتبذل ما في وسعها في سبيلها.
هذه المشكلة أسفرت عن نتائج خطيرة كثيفة ومتكرّرة بطرق غير مباشرة، تنوّعت حسب الظروف والأسباب بين صراع وقتال، إلى جنايات وثورات شهدتها ساحة هذه المنطقة منذ مائة وخمسين عامًا. نقتصر على عدد منها لتظهر بها كيف تفاعلت آثار الطريقة النقشبنديّة في أشكال من أزمات اجتماعية وأخلاقية أدّتْ في النهاية إلى تدهور كبير في اقتصاد البلد، وتشوّشٍ رهيب في المجال الثقافيِّ والعلميِّ والإجتماعيِّ.
أوّل ما نلمس من هذه الحقيقة بصورة مباشرة، هو التنافس المتضاعف بين شيوخ الطريقة النقشبنديّة على توسيع نطاق الشهرة والإكثار من المريدين والبطانة والأنصار. لقد جاء هذا التنافس تارةً بمصالح كبيرة لبعضهم، وتارة أخرى بمصائب وبلايا على بعضهم الآخر؛ كما مرّ في بحث النزاع بين الأسرة الأرواسية والكُفْرَويّةِ. وما يجري الآن من التطوّرات والمنافسة بين الشيوخ في هذه المرحلة، لهو أشدّ خطورةً منه على الإسلام والمسلمين مما قد جرى في السابق.
ذلك ومن عادات مريديهم: أنّ كلّ فريق منهم يقوم بالدعاية لشيخه، ولا تدّخر طائفةٌ منهم وسعًا في هذه المحاولة؛ فتتسابق الأقلام، وتتفنّن اللّسُنُ في اختلاق الكرامات، وعدّ الفضائل، ووصف الشمائل. كلٌّ يبذل جهودَه ليُقْنِعَ الناس، حتّى يعتقدوا أنّ شيخَه »يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ ويغفر لمن يشاء ويعذّبُ من يشاء، وهو على كلِّ شئٍ قدير«!(66/409)
لقد بلغ حجم الكتب الّتي استفرغ النقشبنديّون في بطونها من صِيَغِ التعظيم والإجلال والتوقير لشيوخهم إلى حدود، يعجز الإنسان عن ضبطها واستيعابها. فلو لم يتأكّدوا من موافقة شيوخهم على ذلك، لما أقدم أحد منهم على كتابة لفظ واحد فما فوقه من هذه الصِيَغِ الّتي يقشعرُّ منها جلد المؤمن بوحدانية الربّ سبحانه، وبخسّة شأن الإنسان بالنسبة إلى عظمة الله العزيز المتعال.
وعلى سبيل المثال، جاء في دُعاءِ فريقٍ من النقشبنديّين الأكراد ألفاظٌ مقتَبَسةٌ من آيةٍ، يصفون بها شيخًا من شيوخهم؛ يردِّدونَها فيقولون »نور السماوات والأرضين« على سبيل النّعتِ له، والله تعالى قد خصها لنفسه أن توصَف هي بها على انفراد بذاته دون غيره، فقد قال سبحانه {اللهُ نُورُ السمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ.}. سورة النور/34.
هذه الغطرسة قد جعلتهم يتسابقون بأساليب فرعونية تنعكس نتائجها السلبية على المجتمع، فتسري في الناس روح التنافس على استغلال الضمائر، وتسخير بعضهم البعض لتحقيق الآمال والمصالح الشخصية؛ فيتطوّرُ النزاع بينهم ويتصاعد، وأحيانًا يتحوّل إلى فتن يذهب ضحيتها من الأموال والأرواح ما لا يحصى. كما حدثت أثناء ثورة الشيخ سعيد البالوي عام 1924م.
ذلك أنّ الشيخ سعيدًا كان قد دعا جميع شيوخ المنطقة أن يتعاونوا معه، وأن يشاركَهُ كلٌّ منهم بتجنيد مريديه، وتعزيز جيوش الثورة بإمكاناته المالية والبشرية. فلم يقم أحدٌ بتلبيته إلاّ عددًا قليلاً كانوا على مقربة من ساحته. فلم يسعهم إلاّ أن يجيبوه مع الكراهية.(66/410)
ومن الأهمّية بمكان، أنّ شيوخ الطريقة النقشبنديّة بالمنطقة الكرديّة، لم يرفضوا دعوةَ الشيخ سعيد البالوي (النقشبنديّ) إلا لأنّهم كانوا ينافسونه في توسيع نطاق شهرتهم، كما كانوا متنافسين فيما بينهم. ولهذا لم يكن أحدهم مخلصًا للآخر؛ وربما تمنّى جميعهم أن يسقط الشيخ سعيد البالوي مغلوبًا على أمره أمام يهود سالونيك لأنّ كلَّ واحدٍ منهم كان يراه عقبةً تُقَلِّصُ من ساحة نشاطه ويخسر بها من شهرته ومصالحه! وإلاّ كان جميعُ شيوخ النقشبنديّة ضدّ النظام اليهوديِّ الحاكم. ولكن الّذي كان في قلوبهم من التباغض والتنافر، اعترض سبيلَ الشيخ سعيد البالوى فحلّ دون آماله؛ كما شملتهم النكبةُ في الوقت ذاته، فتمكنتْ منهم العصابة الحاكمة من يهود سالونيك، فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فقُتِلَ منهم من قُتِلَ، وأُبْعِدَ منهم من أُبْعِدَ سنين عددًا.
ثم لم تقتصر الداهية على شيوخ النقشبنديّة وعائلاتهم فحسب، بل شملتْ قبائلَ الأكراد بأسرها؛ فنُصِبتْ المشانقُ في مدينة دياربكر فجرَ يوم 29/يونيو/1925م. وزحفت الجيوش على قرى المنطقةِ ترتكب المجازر وتستبيح الحارم مدة ستة أشهر من بداية شهر يوليو/1925م. إلى نهاية السنّة. فأسفرتْ هذه الحركةُ الإجرامية عن إزهاق ستةٍ وثلاثين ألفًا من الأرواح (تقريبًا) من سكان المنطقة بما فيهم الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى العازلين عن السلاح تمامًا. بالإضافة إلى إحراق عشرات آلافٍ من الكتب!
كانت المأساة هذه لاشكّ نتيجةً رهيبةً ومصيبةً داميةً تمخّضت عن فعل شيوخ النقشبنديّة وحرصهم على الدنيا وصراعهم على حطامها؛ كما كانت في الوقت ذاته نتيجة جهلهم بطرق التعامل السليم مع الناس؛ وعدم معرفتهم بأسرار الاستعداد لمواجهة العدوِّ؛ وأساليب التعبئة والقتال؛ فضلاً عن جهلهم بدقائق الحيل الحربية والمناورات.(66/411)
لأنّهم كانوا في الحقيقة جهلةً بأمور الدنيا والآخرة. فلم تكن مُدارستُهم لبعض العلوم عن فهمٍ واطّلاعٍ ورويّةٍ. ذلك أنّ المدارس الخالديةَ الّتي انتشرت في المنطقة الكرديّة منذ بداية القرن الماضي، كانت الدراسةُ فيها ضعيفةً جدًّا (باستثناءِ فروعها التابعة لجامعة الزهراء). كان هؤلاء الشيوخ يدرسون ركامًا من كتب التراث، معظمها شروح مطوّلة في الصرف والنحو. فكانوا يباشرون هذه الدراسة دون سابق معرفةٍ بأدنى شئٍ من اللّغة العربية، ومن غير استعداد لها بدراسة تحضيرية مثلاً تحت إشراف مدرّسٍ عربيٍّ. كانوا يحفظون المتون كما يُحفَظُ القرآن! كألفية محمّد بن عبد الله بن مالك الطائي، ومقدّمة الأجرومية لابن آجُرُّومِ الفاسي، ومتن قطر الندى لأبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام وغيرها؛ ويتخرّجون في هذه المدارس بعد مدة طويلة من الدراسة لا تقل عن خمسة عشر عامًا. ومع ذلك كانوا ولا يزال البقية منهم يجهلون الكتابةَ والنطقَ بالعربية تمامًا؛ كما أنّهم لا يدرسون أدنى شئٍ من العلوم والفنون، كالفيزياءِ والكيمياءِ والحساب والهندسة وعلم الأحياءِ والفلسفة والتاريخ والجغرافية وفروعها في مدارسهم!(66/412)
ولهذا لم يحظ أحدهم بشيءٍ من سعادة الاشتراك مع علماء الإسلام في أيّ محاضرة علمية؛ ولا حتّى ألقى السمعَ إلى أخبار ندوة من الندوات الأكاديمية الّتي تُقامُ في جامعات البلاد بين الفينة والأخرى؛ ولا حضر أحدهم مهرجانًا من المهرجانات ثقافيةً أصلا؛ ولم يشهد أحدٌ شيخًا من شيوخ النقشبنديّة (خاصّة في المنطقة الكرديّة بتُركيا) أنّه تناولَ يومًا من الأيّام صحيفةً أو مجلّةً للأنباء، فاهتمَّ بشيءٍ ورد فيها من أخبار ما يتعرّض له المسلمون من الإضطهادِ والقمعِ والإبادةِ في مختلف أنحاء العالم. بينما وجدنا منهم من أفنى عمرَهُ بحماقةٍ في محاولة تصحيح المخارج للحروف زعمًا منه أنّ غالب الناس يُخطؤون في النطق بالضاد والقاف والطاء! كلّ ذلك بسبب الفقر العلميِّ والثقافيِّ الّذي يعانون منه؛ هذا، بالإضافة إلى ما قد ابتلوا به من العزلة والخمول واحتقار أهل العلم. وهم في الحقيقة عاجزون عن الإجابة بصيغة علمية واضحة ومُقْنِعَةٍ، على سؤالٍ قد يُوَجَّهُ إليهم؛ ولا يجدون مهربًا من المواجهة إلاّ أن يزيّنوا للناس سكوتهم على أنه شعارهم. فلا يقتنع طبعًا بمثل هذا الإعتذار الواهي إلاّ الّذين حُشِروا حولهم من حثالة الناس وهوامّ العوامّ.
غير أن موقفهم هذا من العلم وأهله، وإن كان يُعَدُّ من العار في اعتبار العلماء والمتفتحين والمثقَّفين، ولكن الطبقة التابعة لهم تعدّه من علامات المروءة والفضل والوقار فيهم. و هكذا تسري سلبياتهم إلى المجتمع وتعمّ البلايا.(66/413)
إنّ السلطة لم تغفل عن أهمية القوة البشرية والمالية والإمكانات الدعائية الّتي يملكها النقشبنديّون منذ بداية انتشار هذه الطريقة إلى اليوم. لذا جعلتهم الحكومات دائمًا نصب عينها، وترقّبتها واستخدمتها لدى كلّ فرصةٍ في قضايا خطيرة جدًا، سواء في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ، وعبر العهد الجمهوريّ، خاصّة بعد العقد الثاني من القرن الجاري. فانعكست نتائج هذا الواقع الخطير على حياة المجتمع متمثّلةً في نزعاتٍ وتموّجات متعاكسة، وحركات سياسية متشاكسةٍ انتهت في الآونة الأخيرة بتمايز الفئات الاجتماعية.
وإذا أسقطنا مالا يستحقُّ ذكرُهُ من تلك القضايا الّتي لعب النقشبنديّون فيها دورهم بإيعاز من السلطة السياسية، فانّ خمسًا منها تَتَّسِمُ بأهميةٍ بالغةٍ، وهي:
الثورة الوهّابية الّتي انفجرت في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ ودامت أكثر من قرنٍ؛
النزعة الماركسية والحركات اليسارية التابعة لها من بداية العهد الجمهوريّ حتّى سقوط الإمبراطورية السوفيتية؛
الحركة الإرهابية الأرمنية الّتي نكست مجدّدًا من بداية السبعينات؛
الحركة الانفصالية الكرديّة الّتي ثارت في المرحلة نفسِها ودامت حتّى الآن؛
الصحوة الإسلامية الّتي انتشرت بدافع الثورة الإيرانية منذ عام 1979م.
كان استغلال النقشبنديّين من قِبَلِ الحكومات التركية في القضايا المذكورة بصورة مُعَقَّدَةٍ، وبطرق غير مباشرة. لذا، لا يتأتىَّ لكلِّ باحثٍ أن يطّلع على دقائق هذا التعامل الخطير! وقد جاء هذا الاستغلال في كلّ قضية من القضايا المذكورة بنتيجة متباينة عن التجارب الأخرى.
ولكي يبدو الأمر في نسبة معينة من الوضوح، يناسب هنا أنْ نتناول كلَّ قضية منها على حدة، وندرسَ ما قد أسفر عن استغلال السلطة لتلك الطائفة من تأثيرات وأحداث في كلٍّ منها.
***
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضِدَّ الوهّابية.(66/414)
لقد كان للطريقة النقشبنديّة تأثثيرٌ عميقٌ في نفوس الأتراك والأكراد السنّيّين وهم قوام المجتمع العثمانيّ يومئذٍ؛ وكان لشيوخ هذه الطريقة مكانةٌ مرموقةٌ بين الطائفتين، وهما أشدّ ثقةً بآل عثمان الأسرة المالكة، وأكثر إنتماءً للدّولة العثمانيّة. فكان من نتائج هذا الواقع أن مارست الدولة العثمانيّة سياسة الإحتكار للقوة الكامنة في التجمّعات النقشبنديّة عبر قنواتٍ خاصّة سلكتها في تأسيس العلاقة معها. فما لبث حتّى استغلّت الدولةُ هذه التجمّعات وجنّدتها في تحقيق أغراضٍ خطيرةٍ جدًّا، فأثارت النقشبنديّين ضدّ الوهّابيّين الّذين كانوا قد شقّوا عصى الطاعة وانتفضوا ضدّ السلطة العثمانيّة في الجزيرة العربية.
هذه المسألةُ في الحقيقة أمر خطير ذات وجوه متعدّدة لم يطّلع على حقيقته كثير من الباحثين لأسباب ليس هذا مقام سردها. ولكن الّذي يجب الإشارة إليه حتمًا: أنّ استخدامَ السلطاتِ العثمانيّةِ هذه الطائفةَ في مقاومةِ ثورة الوهّابيّين - لم يثبت بصورة موثّقة - أن كان استخدامًا مسلّحًا... اللهم إلاّ أن يكون بعض النقشبنديّين من الأتراك المدنيّين، أو جماعات منهم قد تطوّعوا بالانخراط في صفوف الجنود المكلَّفة بإخماد تلك الثورة، بإيعازٍ من بعض شيوخ هذه الطائفة (كما ذاع في بعض الجهات.) فانّ أمثال هذه الروايات، إسنادها منقطع.(66/415)
أمّا كون قيامها باستخدامهم في مجال الدعاية ضد الوهّابيّين، فانّ ذلك أظهر من الشمس في رابعة النهار. ولا يحتاج أمرؤٌ أن يُكلِّفَ نفسَه عناءَ البحث عن دليلٍ على ذلك لكثرتها. ومن أوائل هذه البراهين، كتاب خالد البغداديّ الّذي ردّ به على خطابٍ تلقّاه من عبد القادر الحيدريّ، إذ يعبّر البغداديّ فيه عن منتهى ابتهاجه بغلبة القوّات العثمانيّة على الثوار الوهّابيّين عام 1233هـ./1818م. كما مر ذكره راجع الهامش رقم/460. فتعبيره عن القوّات العثمانيّة بـ »عساكر الإسلام« دليل قاطع على أنّه مع الجماهير الغفيرة التابعة له من النقشبنديّين كانوا مكلّفين بنشاطات دعائية كثيفة ضد الوهّابيّين؛ وأنّ الوهّابيّين في نظرهم طائفة باغية يجب قتالهم وقمهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم!
ومن أواخر هذه البراهين وأظهرها وأشدّها تأثيرًا، وأكثرها انتشارًا: نشاطات تضليلية كثيفة يقوم بها ضابط عسكري متقاعد برتبة عقيدٍ اسمه حسين حلمي إيشيك متخصّصٌ في العلوم الصيدلية، مدعومٌ من قِبَلِ جهازٍ معيّنٍ، ومدسوسٌ في صفوف النقشبنديّين منذ بداية العهد الجمهوريّ. اتّصل هذا الرجل بالشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي كان قد هاجر إلى مدينة إسطنبول عام 1919م. فأصبح من المقرّبين إليه، وتمكّن من الإطلاع على أسرار النقشبنديّين خلال المدة الّتي قضاها في صحبته. ثم حل محلّه بعد موته عام 1943م.، فاستطاع بذلك أن يقوم بتوجيه جماهير النقشبنديّة حسب الاتجاهات الّتي حدّدها له الجهاز المعهود. فكَتَبَ رسائلَ جمةً في هذه الأغراض، كما جمع أعدادًا من كُتُبِ الخالديّين ورسائلهم فطبعها ونشرها عن طريق مكتبتين مكتبة (الحقيقةHakikat Kitabevi )، ومكتبة (سرهندSerhend Kitabevi ) في إسطنبول؛ يشرف عليهما أعوانُهُ، وتُمَوِّلُهَا شركةٌ مهيمنةٌ ضخمةٌ. ?hlâs Holding غالبها في مثالب الوهّابيّين والتشنيع عليهم وشتمهم ورميهم بالكفر والزندقة.(66/416)
ومن الأهمية بمكان، أنّ هذا الرجل استطاع أن ينجو من سلبيات التعامل مع الحكومات التركية ذات الاتجاه المزدوج عبر العهد الجمهوريّ. لأنّ الحكومات التركية تعاني دائمًا من اضطراب شديد وعجز بالغ في تحديد سياستها الداخلية والخارجية على السواء. فهي في صراع متواصل مع نفسها، بسبب اختلاف تكوُّنها من عناصر لا يشتركون إلاّ في اللّغة. »تحسبهم جميعً وقلوبهم شتّى.«
تنحصر مهمةُ هذا العسكريِّ المتشيّخِ على تأصيل مقوّمات العقيدة التقليدية للأتراك العثمانيّين، وبعث الروح (التركيّ العظيم = Megaloturc) في نفوس الناشئة، على الرغم من معارضة المافيا المتحكّم في تحديد سياسة الدولة وتوجيه الحكومة. وربما في ذلك سرٌّ لا نعلمه.
هذه المقوّمات الّتي هي بمنزلة أركان الأيمان عند النقشبنديّين الأتراك، تتمثّلُ في ستة أمورٍ أساسيةٍ (بالاختصار)، وهي:
تقديسُ الدولة العثمانيّة، وسلاطين بني عثمان، والاعتقادُ بأنّهم جميعًا أولياء الله وخاصّتُهُ؛ وعدم الخوض في نزاعهم على السلطة، وفي جناياتهم، والسفَهِ الّذي كان يتّصف به بعضهم..
الاعتقاد بأن أولياء الله ينصرون الجيوشَ التركيةَ في كلِّ معركة تخوضها، ويحضرون مع كلِّ طليعةٍ منها؛ »كما نصروهم في كوريا وقبرص« في العهد الجمهوريّ. ومعنى ذلك أنّ الجمهوريّةَ التركيةَ امتدادٌ للإمبراطورية العثمانيّة، ورمزٌ مقدَّسٌ لتاريخ الأمة التركية؛ تحمل مسئولية تمثيل الأمجاد لهذا التاريخ إلى يوم القيامة!
الاعتقاد بأن الوهّابيّين خاصّة، والعربَ جميعًا هم عصاةٌ جناةٌ، أهل البغي، خارجون على الدولة العثمانيّة - الدولة المقدّسة التي كان للعرب عامّةً وللوهّابيّين على وجه الخصوص دورٌ كبير في سقوطها-.(66/417)
الاعتقاد بأنّ الشيعة على اختلاف مذاهبهم ملحدون خارجون عن الإسلام لموقفهم السلبيِّ من الدولة العثمانيّة بعد الحرب الّتي وقعت بين السلطان سليم الأوّل والشاه إسماعيل الصفويِّ، والتي انتهت بانتصار القوات العثمانيّة على الجيش الإيراني عام 1514م.
الاعتقاد بأنّ الصوفيّة الّذين أُدرجت أسماؤهم في القائمة البيضاء، هم أولياء الله وصفوتُهُ من عباده، تُرجىَ شفاعتُهم، ويجب التوسّل بهم، والتبرّك بقبورهم. ذلك لأنّهم ينوبون عن الله بالتصرّف على الكون (في اعتقادهم). والقائمة البيضاء، هي "موسوعة مقدّسة" (في اعتقادهم أيضًا). وشهيرةٌ بينهم؛ أصدرتها مؤسّسةٌ وقفيةٌ يُشرف عليها العقيد المشار إليه آنفًا، وتُمَوِّلُها شركة عالمية عملاقةٌ للنقشبنديّين؛ تشترك في الاسم مع المؤسّسة الوقفية المذكورة، ويشرف علي هذه الشركة صهر العقيد الّذي مرّ ذكرُهُ.
الاعتقاد بأنّ المذهب الحنفيَّ (الّذي تتعصّب له الغالبية العظمى من الأتراك السنّيّين) أفضل المذاهب الإسلامية؛ وأبو حنيفة »هو الإمام الأعظم«! ذلك لأنّه غير عربيّ الأصلِ، وأنّه قتيل العرب العبّاسيّين. وعلى كلٍّ، له ولمذهبه الأفضليةُ في الفقه التطبيقيِّ؛ أدناه، أولوية الشخص الحنفيِّ بالإمامة على غيره من تابعي المذاهب الثلاثة، ولو كان هو أميًّا وغيره من أهل العلم.(66/418)
لا شك في أنّ أعدادًا كبيرةً من الناس معرَّضون لهذه الدعايات المتطرّفةِ ومتأثرون بها. ولكن يتحتّم هنا الإعلان بحقيقة أخرى. ألا وهي أنّ صفوةً من شباب الأتراك، قد استطاعوا بتوفيقٍ من الله سبحانه أنْ يهتدوا إلى التوحيد الخالص، والإيمان العميق واليقين الصادق بالكتاب والسنّة؛ وباتّباع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبمحبّة الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين. وذلك عن فهم صحيح، و وعيٍ تامٍّ؛ مستعدّين لتحقيق الهدف المنشود بالعمل الصالح والسلوك المثاليِّ الرفيع. لقد عاهدوا الله، لَيَنْصُرَنَّ دينه الّذي ارتضى لهم، ولَيَثْبُتَنَّ في نضالهم وجهادهم حتّى يعودَ لهذه الأمّةِ مجدُها إن شاء الله، آمنين متوكّلين على الله سائرين على جادة الحق بإقدامٍ جريءٍ ويقظةٍ بالغةٍ وحذرٍ دقيقٍ؛ منقادين إليه تعالى بالطاعة والإحسان والإخلاص والتقوى؛ وبالاجتناب عن كلّ ما حرّمه الله من سائر المعاصي، وكافة أنواع البدع والخرافات والتطرّف والعنف والحماقات. لا يخافون لومة لائم ولا خشية ظالم، يتقدمون في مسيرتهم بخطواتٍ هادئةٍ وصبرٍ وتبصّرٍ، ويترقّبون يومًا يهزم الله فيه الأحزاب!!! {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج/40.
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأثره الهدّام على الإسلام والمسلمين.(66/419)
كانت السلطة العثمانيّة في مرحلتها الأخيرة قد استخدمتْ الطليعةَ الأولى من الفرقة الخالدية في نشر دعايات كثيفة ضد الوهّابيّين؛ فأسفرتْ هذه الدعاياتُ عن نتائجَ غريبةٍ ربما لم تكن مما تقصده السلطة العثمانيّة. ومنها، أنّ كلمة "الوهّابيِّ" اتّسمتْ بمعانٍ أخرى فيما بعد، إلى جانب ما كانت في البداية صفةً مجرّدةً يُرادُ بها الشخصُ المعتنقُ لعقيدة محمّد بن عبد الوهّاب النجديِّ فحسب. بل أكسبتها النقشبنديّة أخيرًا معنى الزنديق المتطرّف، والكافر الحربيِّ وما أشبه!
ثم تجاوز المقصود بهذه الكلمة حدودَهُ عن الفرقة الموصوفة بها في السابق؛ فلم تقتصر التسمية بها على أتباع محمّد بن عبد الوهّاب فحسب. بل شملت كلَّ مَن دافع عن التوحيد الخالص، وناهض الشرك، وعمل على إحباط بدع القبوريّين. هكذا تطورت كلمة "الوهّابية" بالمعاني الّتي أَلصقتْ بها النقشبنديّون الأتراك. ولكن أغرب من هذا، أنّها تحوّلت في النهاية إلى شبه مصطلح يستعملها حتّى العرب أنفسهم (غير الحجازيين)، وإنْ لم يكن ذلك على سبيل التنقيص والتشنيع.
هذا، فلما انهارت الدولة العثمانيّة، كانت ثورة الوهابية قد انتهت بالانتصار، وانقلبت جحافلهم إلى دولة مستقلة إذا صح (؟) ولكن الّذي لم ينته بعد، هو النزاع الّذي أحدثته الأدمغة المغسولة في مستنقعات السنّية التركية الرجعية المنبثقة من العقلية التقليدية؛ والمتمثلة في تقديس الموتى من الروحانيين والملوك والسلاطين.(66/420)
في الحقيقة لم يكن هذا الحدث في جوهره إلاّ امتدادًا للصّراع التركيّ-العربيِّ التاريخيِّ على استغلال الإسلام في احتكار السلطة وتحقيق المصالح. لذا، يتفرّع الصراع العثمانيّ الوهّابيُّ (وبالأحرى، النزاع النقشبنديّ الوهّابيُّ) يتفرّع أصلاً من الصراع التركيّ-العربيِّ، ويختلف عنه بميّزةٍ دينية خاصّة. وهي أنّ هذا الخلاف يظهر في صورة حرب بين الشرك والتوحيد. ذلك أنّ مظاهر الشرك كانت قد سادت على أنحاء المملكة العثمانيّة جميعها بما فيها أرض الحجاز، الأرض الّتي نزلت فيها كلمات الله تعالى {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوَن ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللِه فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظيِمًا.}. سورة النساء/48. تلك المظاهر البشعة كانت تثير النفوس المؤمنة بالله وبسلطانه وهيمنته وحده على الكون؛ وتشحنها بالغيرة والتمرّد والخروج على معاقل الشرك في جميع أنحاء البلاد، وليس في الجزيرة العربية فحسب.(66/421)
ولكن الّذين نهضوا في ديار نجد، وهم يدعون إلى التوحيد الخالص ونَبْذِ العبادة لغير الله المتمثلة في تقديس القبور والاستغاثة بالموتى؛ لم يكونوا يومئذ متميّزين بالكفاءة المطلوبة لإحياء الرسالة المحمدية بكل جوانبها الإيمانية والعلمية والعملية والإصلاحية والأخلاقية. بل كانوا بدواً، أجلافًا وجُفَاةً. لجئوا في الغالب إلى العنف والجبر في كفاح البدع والشرك والخرافات. فلم يتفكروا أنّ ذلك الركام الهائل من أوساخ العقائد الوثنية الّتي تسرّبت إلى الدين الحنيف عبر عصور الظلام، لا يمكن إزالته بسرعةٍ؛ بل لم يفطنوا إلى الحقيقة المكنونة في قوله تعالى: {اُدْعُ إِلىَ سَبيِلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيِلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَديِنَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إَلاَّ بِاللِه وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فيِ ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُروُنَ * إِنَّ اللَه مَعَ الّذينَ اتَّقَوْا وَالّذينَ هُمْ مُحْسِنُون.َ} سورة النخل/125-128.
كلّ ذلك نشأ من جهلهم بمدى انتشار عقائد الشرك ورسوخها في المجتمع العثمانيّ، وأنّ القضاء عليها أمر يحتاج إلى سعىٍ دؤوبٍ وإخلاصٍ وعلمٍ وسياسةٍ ولباقةٍ وخطّةٍ ودراسةٍ وصبرٍ ومالٍ ووقتٍ وعتادٍ ورجالٍ! فضلاً عن أنّ السياسيّين من قدماء الوهّابيّين اختلفوا يومئذ فيما بينهم، ودخلوا في صراع شديد على السلطة بجانب قتالهم في مواجهة قوات الحلف المصري-العثمانيّ، أسفرت تلك الفتن عن إهدار الدماء، وتفاقم الشقاق واختفاء الظروف الملائمة لمهمة الدعوة والإرشاد والتبليغ إلى التوحيد الخالص والاتحاد والإخاء.(66/422)
هذا ومن جانب آخر، ازداد النقشبنديّون حقدًا وضغينةً وصولةً على الوهّابيّين، بحكم الدعم الّذي كانوا يتلقونه من خزانة الدولة العثمانيّة، والأهميةِ الّتي أناطتها بهم. فانعكس تأثير محاولاتهم ودعاياتهم على المجتمع بأسره. ثم استغلّ يهودسالونيك هذه الفتنة في العهد الجمهوريّ كوسيلة للدعاية ضدّ العرب جميعًا في صفوف المجتمع التركيّ؛ حتّى انتشرت الكراهية تجاه العنصر العربي، وتجاه كلّ ما يمتُّ إليه. فرسخت هذه النفرة والضغينة في نفوس الغالبية العظمى من الأتراك، وبخاصة الّذين ضعفت صلتهم بالإسلام تحت تأثير الممارسات العلمانية والإلحادية الّتي تبنّتها المؤسّسات التعليمية والتوجيهية عبر العهد الجمهوريّ في تركيا. فقد بَعُدَتْ الشقّة بذلك بين الأتراك والعرب إلى حدود بعيدة، ثبتت بالمشاهدة والعيان عندما فتحت بعضُ البلاد العربية أبوابَها لليد العاملة التركية ما بين أعوام 1975-1985م. فاتخذت الحكومة التركية إحتياطات شديدة، وأخذت المواثيق المؤكّدة سرًّا من المقاولين ورجال الأعمال أن يقيموا الحواجز بين العنصرين التركيّ والعربي بكلِّ ما في استطاعتهم تفاديًا للإختلاط والزواج؛ وتحذيرًا من تسرُّب الثقافة العربية إلى المجتمع التركيّ! وبجانب هذا، كم أعرب النقشبنديّون عن شفاء غليلهم عندما أعلنت الحكومة التركية عن حظر سفر الطلاب إلى البلاد العربية للدراسة.(66/423)
إنّ الصراع كانت قائمة بين النقشبنديين والوهّابيّن إلى الآونة الأخيرة، وإن كان الطرفان يتجاهلان الأمرَ في هذه الأيّام. ولا يكاد يظهر بصيص الأمل لسدِّ هذه الثغرة الرهيبة حتّى الآن، لو لا قلوبٌ مؤمنةٌ بالله واليوم الآخر وبالأُخُوَّةِ الإيمانية من أبناء الطرفين التركيِّ والعربيِّ، وآمالٌ تبشِّرُ بيومٍ يهزم الله فيه الأحزاب! أمّا أصحابُ هذه القلوب الطاهرةِ فهم صفوة حنفاء، قد هداهم الله ورزقهم الإخلاص والعزيمة والثقة بأنّه تعالى قادر على أن يهدي المتطرّفين من بقية الشعبين إلى نور الإيمان والتوحيد، وسعادة الشعور بضرورة الاتحاد والإخاء وترك دواعي الفرقة والمعاداة والشحناء، حتّى يحقّق الله فيهم من أسرار ما قاله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعَمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.} سورة آل عمران/103.(66/424)
واختصارًا لما سبق، نستطيع أن نقول: إنّ العلاقات بين السلطة العثمانيّة و بين النقشبنديّين كانت تتسم بالوفاق والتعاون منذ عهد السلطان محمود الثاني إلى أنْ تحكّم الاتحاديون في سياسة الدولة، فانقلب الأمر رأسًا على عقب. وفي هذا التحوّل الجذري أسرارٌ غريبةٌ، خافية على كثير من الناس حتّى الآن. سنشرح نُبذةً منها إن شاء الله تعالى في المبحث التالي تحت عنوان »العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ«. وهي في الحقيقة صفحة هامّة من صفحات تاريخ هذه الطائفة. سوف تشهد عليهم بما اقترفوا من جنايات عظيمة على الإسلام والمسلمين في مشاركتهم مع النظام اليهوديِّ وإنْ كان معظمها جهلاً وغفلةً منهم. كما نشاهدهم اليوم يتودّدون إلى الوهّابيّين. وبين الطرفين علاقات تجارية هائلة. يتجاهل كل طرفٍ منهما بما لا يزال الطرف الآخر يضمر له من العداوة والبغضاء. فنستغرب عندما نجد أسواق مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة تزدحم بالنقشبنديّين الأتراك، على امتداد السنّة؛ يتاجرون ويربحون ويمرحون ويفرحون... بل ويسبّون الوهّابيّين باللّغة التركية ويضحكون منهم في الحين الّذي يصافحونهم ويجالسونهم في عُقرِ دارهم! والمؤمن الحنيف التركيّ يعاني مشكلةَ الحصول على تأشيرة ليتمكّن بها من أداء فريضة الحج، وهو ينتظر أيامًا على باب سفارة الوهّابيّين في أنقره وإسطنبول! كذلك نستغرب جدًّا استخدام الوهّابيّين للآلاف من الموظفين النفشبنديين في بنوكهم ومؤسساتهم الموجودة في أنحاء تركيا، بينما الشباب الحنفاء الأتراك يعانون من مشاكل البطالة على أرض وطنهم بسبب مقاطعة المشركين من أصحاب السلطة والأثرياء ورجال العمل والصوفيّة جموعَ الحنفاء من أبناء الوطن التركيّ. مع أنّ الرجل الحنيف يمتاز بالذمّة والأمانة؛ وبكفاءة أعلى في الخدمة من أمثالهم من النقشبنديّين وغيرهم من سائر طوائف المشركين.
***(66/425)
قد يتساءل الباحث عما كان موضوع الخلاف بين السلطة العثمانيّة (حامية النقشبنديّين) وبين الوهّابيّين؛ فيتصوّر بأنّ المشكلةَ، لعلّها كانت عظيمةً إلى حدٍّ اندلعت بسببها حروب دامية بين الطرفين ذهبت ضحيتها أرواح وأموال، وانتهت بالخراب والدمار والشقاق والعداوة؛ بعد أن دامت طوال قرن، بل أكثر؛ وأنّ الفتنة مازالت مستمرّةً؛ ولكنها اتّخذت شكلاً آخر: فاكتسبت صورةَ حربٍ بين "القبوريين" وبين "أعداء المقدّسات"!
نعم قد يفكّر بعض الناس هكذا في أسباب هذا النزاع؛ ولا يجد ما يشرح صدره عن واقع الأمر. وقد يظن بعضهم أنّ الوهّابيّين، كان غرضهم المطالبة بالحكم الذاتي، أو الاستقلال، أو كانت ثوراتُهم ردودَ فعلٍ ضد ظلمِ ولاةِ العثمانيّين يومئذ. كلّ ذلك بعيد عن الواقع وعن القيام مقام إجابة سليمة عن هذا الاستفسار.
بل نشأت تلك الظاهرة وتطوّرت عن طبيعة سياسة الدولة العثمانيّة القائمة على تأكيد السيادة في المناطق النائية بطرقٍ خاصّة. فكانت السلطة المركزية تتعمّد في بعض الأحيان إلى إثارةِ عناصرَ مجبولةٍ على روح التمرُّد في تلك المناطق بحججٍ تافهةٍ، ثم تنقضُّ عليها بذريعة إخماد الثورة وتوفير أسباب الأمن. فيدبُّ الذعر في نفوس سكان المنطقة، فتكون السلطة بذلك قد أشعرتْهم بهيبتها مجدّدًا! وإلاّ فانّ الحركات الاستقلاليةَ في المناطق العربية لم تبدأ إلاّ بعد حكم الاتحاديين، وممارستهم التعسّفية لتتريك العرب.(66/426)
أمّا الأسباب الظاهرة،، فإنها لم تكن إلاّ تلك الحجج التافهة »لاصطياد عصفورين بطلقة واحدة«؛ كما في المثل التركيّ. وذلك يُلاحَظُ أن يكون المقصودُ في هذه الخطّةِ تحقيقَ هدفين: أحدهما إذلال رقابٍ تتهيّبها الناس فتقع في شرك سياسيٍّ. وهذا يقلّل من هيبة »ظلّ الله في الأرض« (!) وهو السلطان العثمانيّ و»بابه العالي« في إسطنبول؛ والثاني تحديد مفهوم التوحيد، وتعديله بالقسطاس السياسيِّ التركيّ العثمانيّ، وليس بالقسطاس القرآنيِّ. وهذا يقتضي تحديد علاقات الناس مع ربّهم، بأنْ لا تكون رابطتهم معه مباشرةً؛ بل »عن طريق شيخٍ من أولياء الله؛ لأنّ الاتصالَ المباشرَ يقلّل من هيبة الله في قلب العبد« (!)
كانت هذه حقيقة الأسرار الكامنة في مسألة الوهّابية، وتسليط النقشبنديّين عليهم، بعد أن عجزت السلطة عن إخماد ثوراتهم بالقهر.(66/427)
وأمّا نزاع الطرفين في مسائل الدين؛ فقد كان خلافًا همجيًّا، جاهليًّا، غير قائم على أساس من الحكمة القرآنية، والقاعدة المنطقية السليمة، ودون أدنى مراعاة لآداب المناظرة والاحترام المتبادل. فقد دافع كلُّ طرفٍ من النقشبنديّين والوهّابيين عن وجهة نظره بطريقةٍ عنجهيةٍ فظّةٍ. خاصّة فانّ النقشبنديّين، أساليبهم في الاستدلال واهية، وصادرة عن حقد سافر، وعناد، ومكابرة. جاءت ردودهم بلهجات قاسية، ومساسٍ بالكرامةٍ واقتحامٍ للحرمات، وقصف من الشتم والسبّ، والنقمة والعتاب. وعلى سبيل المثال فقد أفرد أحمد بن زيني دحلان أحمد بن زيني دحلان (1816-1886م.)، فقيهٌ صوفيُّ المشرب؛ وقد يكون من النقشبنديّين؛ لأنّ المعاصرين من شيوخ هذه الطائفة يتداولون كُتُبَهُ ويستدلّون بأقواله، خاصّة منهم رجل عسكريٌّ متشيِّخٌ في إسطنبول. اعتنى ببعض كتبه المدَوَّنَةِ في التشنيع على الوهّابيّين. راجع ترجمتَه في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/143 . بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته. كتابًا في مثالب محمّد بن عبد الوهّاب وأتباعه، سمّاه "الدرر السنية في الردّ على الوهّابية"؛ كما أفرد بابًا في كتابه "الفتوحات الإسلامية" بعنوان "ذكر فتنة الوهّابية..."، فاستعمل فيه لهجةً شديدةً في تقبيحهم. ومن جملة ما سجّل في مثالب محمّد بن عبد الوهّاب قوله: »وكان مؤسِّسُ مذهبهم الخبيث محمّد بن عبد الوهّاب، وأصله من المشرق من بني تميم. وكان من المعمَّرين؛ فكاد يُعَدُّ من المُنْظَرين. لأنّه عاش قريب مائة سنة حتّى انتشر منه ضلالهم، كانت ولادتُهُ سنة ألف و مائة و إحدى عشرة. وهلك سنة ألف ومائتين. وأرّخ بعضهم بقوله: (بدا هلاك الخبيث) 1206.« أحمد بن زيني دحلان، الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية 2/299. القاهرة-1968م.(66/428)
وأشدُّ مَنْ حَمَلَ على محمّد بن عبد الوهّاب وزمرته، عقيدٌ نقشبنديٌ متشيّخٌ في إسطنبول. شنّ عليهم حربًا شعواء بِرَسَائِلِهِ ودعاياته الكثيفة، وشنّعهم، ورماهم بالكفر والزندقة، وسَبَّهم بكلماتٍ نخجل من ذكرها! راجع كتابه المسمّى Vahhabiye Nasihat، خاصّة الفصل الثاني الطبعة/إسطنبول-1970نم. نُشر من قبل: I??k Kitabevi
أمّا الوهّابيّون، فانهم لم يجعلوا النقشبنديّين بالتحديد هدفًا خاصًا لانتقاداتهم؛ بل قد تجاهلوهم تمامًا أو كادوا. وإنّما وجّهوا نقدَهم إلى الصوفيّة على وجه العموم. كما قد دافعوا عن أنفسهم بأنّ تسميتهم من قِبَلِ المعارضين بالوهّابية تسمية خاطئة. إذ يقول في هذا أحد ملوكهم:
»يسمّوننا بالوهّابيّين، ويسمون مذهبنا بالوهّابيِّ، باعتبار أنّه مذهب خاصٌّ، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة الّتي كان يبثها أهل الأغراض.
نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، وعقيدة جديدة، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعيِّ و أحمد وأبي حنيفة، وكلّهم محترمون في نظرنا«. در. عبد الله بن عبد المحسن التركيّ- شعيب الأرنؤوط، مقدّمة شرح العقيدة الطحاوية 1/39. (نقلاً من كلمات الملك عبد العزيز آل سعود، من كتاب: الملك الراشد ص/ 369)
هذا، ولإنْ جعلْنا الشيخ عبد الرحمن دمشقية في عداد الوهّابيّين، فانّه قد تناول النقشبنديّة بهدوءٍ ولم يتوسّع فيها. بل حدد موضوعه في تحليل ثلاثة أقوالٍ، لثلاثة رجالٍ من قدمائهم فحسب. عبد الرحمن دمشقية، النقشبنديّة (تمهيد) ص/ 7. دار طيبة، الرياض-1984م.(66/429)
إنّما اختلف النقشبنديّون مع الوهّابيّين، بل اختلفوا مع جميع الموحّدين في مسائلَ جانبيةٍ ثانويةٍ غريبةٍ لا علاقة لها بلب الإسلام وأركانه. فأثاروا بها ما لا يحصى من اضطراباتٍ وفتن، وشنّوا حروبًا ضاريةً على مَنْ خالفهم فيها. وجعلوا من هذه المسائل التافهة ونقاشها عقبةً كبيرةً أمام المسلمين في مسيرة الحياة، وعرقلوهم عن التقدُّم والنهوض والازدهار. فالمصيبة الكبرى إنما داهمت المجتمع بعد أن سادت الرهبانية على الحياة الروحية في الوطن الإسلاميِّ بتأثير تعاليم النقشبنديّة وطقوسها.
ومن الجدير بالإشارة أنّ هذه الخلافات وما أسفرت عنها من مشاغبات ومشاحنات، إنما أثارها المتأخّرون من النقشبنديّين منذ حقبة لا تتجاوز عن مائة وخمسين سنة، دون قُدَمَائِهِمْ؛ مما يدلّ على حقائق أخرى لم ينتبه إليها كثير من الناس. أهمّها، أنّ قدماء النقشبنديّين كانوا أبعد الناس من ساحة العلم. فلم يلتقوا مع أهله حتّى يقع بينهم وبين العلماء خلاف على مسألة مَّا، إلاّ قليلاً. إذ كانوا دراويش لا يَعتدُّ بهم أربابُ العلم. وهذه الشهرة الّتي نراها اليوم تحفُّ بأسمائهم إنّما هيّجها المتأخرون منهم. وما أن اهتمّ مشائخهم بدراسة بعض العلوم بدايةً من خالد البغداديّ، تطوّرت المناقشات والخصومات بين العلماء والنقشبنديّين حتّى أسفرت عن هذه النتائج الّتي نحن بصددها اليوم.
تنحصر المسائل الخلافية الّتي أثارها النقشبنديّون في أربعة أمور رئيسة:
الأوّل منها، مفهوم الولاية، والوليِّ، والاستعانة بالموتى، والتبرك بقبورهم، والنذر لهم، وما تتعلّق بهذه المسألة من تفاصيلَ شتّى، شرحناها في بابها ما تيسر من أهم نقاطها. راجع باب "الولاية والوليّ في مُعتَقَد النقشبنديّين" من الفصل الثالث.
والثاني، أقوالٌ مبتدَعَةٌ تتعلّق بآباء الأنبياء وأمّهاتهم، وشدّ الرحال لزيارة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.(66/430)
والثالث، آراء متفرقة حول مفهومَيِ البدعةِ والاجتهادِ.
والرابع، تأويلات كلامية حول مسألة "الاستواء على العرش".
ثلاثة من هذه الأمور الأربعة، قد أثارها النقشبنديّون. وهي المادّة الأولى والثانية والثالثة. تجمعها نقطة مشتركة: وهي نسبة قدرة خارقة - تستحيل على البشر - إلى من يدَّعون أنّه ولىٌّ. ويدخل الأنبياء والمرسلون عليهم السلام أيضًا في اعتقادهم هذا. أمّا المسائل الأخرى فهي متفرّعة عن الاعتقاد ومرتبطة بها. كالتوسُّلِ، وطلب الشفاعة والاستغاثة بالحيِّ والميّت من الروحانيّين والأنبياء والمرسلين؛ والنذر لهم، والقسم بهم، وإقامة البناءِ على قبورهم، والتبرُّكِ بها، والزعم بصدور الخوارق من بعضهم باسم الكرامة و ما إلى ذلك...
أمّا المادة الرابعة، فهي بدعة أثارها عدد من الوهّابيّين بالتوغّل في معنى "الاستواء على العرش" ورد في سبعة مواطن من القرآن الكريم كما يلي: الأعراف/54؛ يونس/3؛ رعد/2؛ طه/5؛ فرقان/59؛ سجدة/4؛ حديد/4. و "الاستواء إلى السماء"؛ ورد في آيتين من القرآن الكريم كما يلي: البقرة/29؛ فصّلت/8. فلم يكتف بعضهم خاصّة في مناقشته الشفهية بما قاله الإمام مالك رضي الله عنه "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" لمزيد من المعرفة حول هذه المسألة راجع المصادر الآتي ذكرها:
* علي بن علي بن محمّد بن أبي العز الدمشقي، شرح العقيدة الطحاوية 1/96.
* المصدر السابق: 372-392؛
* محمّد بن سليمان الحلبي، شرح منظومة الأمالي ص/ 28. البيت: 12. مكتبة إشيك. إسطنبول-1979. فأثار أسلوبُ الوهّابيّين الاستعدادَ في نفوسِ النقشبنديّين الّذين طالما ينتهزون الفرصة ليهاجموهم بأدنى حجّةٍ، فاتّخذوها ذريعةً حتّى رموا جميعهم بالتجسيم والزندقة.(66/431)
هكذا تطوّر النزاع والخلاف بين الطرفين ودام أكثر من قرن، فارتبك به الناس الّذين كانوا في ظلمات الجهل والعمى، وتذبذبت الآراء، وتشوّشت العقول؛ فانحازت جماعات إلى النقشبنديّين، وأخرى إلى الوهّابيّين. وما زالت العداوةُ تستعر في قلوب كثير من كلا الطرفين ضدّ الآخر. ولكنّ الدائرة في الحقيقة دارت أخيراً على المسلمين. لأنّهم أصبحوا في حرج من جراء هذه الحرب الشعواء بين الطرفين، فلم يتمكّنوا من لمّ شعثهم في مثار تلك الفتن وهم يتكبّدون ألوانًا من العذاب. إذ انهارت دولتهم، وتكالبت عليهم الدنيا، فقامت على أنقاض تلك الدولة العظيمة عدة دولٍ قزمةٍ، وثب على كلّ واحدة منها طاغيةٌ بدعم من اليهود والنصارى، يستبدّ بالحكم مع بطانته ويسوم رعاياه سوء العذاب باسم الديمقراطية والحرية ولا يميز في ذلك بين المسلم والنقشبنديّ والوهابيِّ!
***
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ.
لما سقطتْ الدولةُ العثمانيّةُ، ووثبتْ على السلطة الجديدة عصابةٌ من يهود سالونيك، وسمّتها "جمهورية تركيا"؛ أيقنت أنّ أكبر عقبة تعترضها وتعرقلها من تحقيق أهدافها هو الإسلام والمسلمون. ولكنّ أفرادَ هذه العصابة كانوا - بحكم الطبع - يجهلون حقيقة الإسلام، كما كانوا يجهلون مَنْ هم المسلمون من بين الفِرَقِ الداخلة تحت شمول النسبة إلى الإسلام في واقع الأمر.(66/432)
ذلك أنهم كانوا يهودًا من عائلاتٍ ذاتِ أصولٍ تركيةٍ، انحدرتْ من سلالات تهوّدت في العهد الخزريِّ وانتشرت قديمًا في ساحات شاسعة من شرقي أوربا وشبه جزيرة البلقان. فلمّا دخل العثمانيّون تلك المناطق أيام الفتوحات وضمّوها إلى مملكتهم، وجد أولئك اليهود المشرّدون بذلك فرصةً سانحةً للاندماج في المجتمع التركيّ المسلم بقرينة الوحدة القومية الّتي كانت القاسم المشترك بين الطرفين. فتدرّجوا باحتلال المناصب الهامة في أجهزة الدولة عبر القرون، متنكّرين بالإسلام؛ حتّى شاء القدر أن يتجمّعوا في مدينو سالونيك، وأن يشكّلوا هناك منظّماتٍ سرّية بالمشاركة مع اليهود الأصليين من سلالات عبرية، والمهاجرين من إسبانيا بسبب اضطهاد محاكم التفتيش؛ إلى أن ظهروا على مسرح التاريخ قُبَيل الحرب العالمية الأولى، في صفوف حزبٍ سياسيٍّ؛ وهو حزب الاِتِّحَاِد والترقِّي. فلعبوا بالدولة وعملوا على سقوطها بدعم من الدول الأوربية.
لهذه الأسباب (ولها تفاصيل، ليس هذا مقام سردها). يغلب أن تلك القلةَ من اليهود الّذين فرضوا أنفسهم على المجتمع، كانوا متردّدين في أمر الجماعات المتباينة، والمنظمات، وطبقات الناس لدى الخطوة الأولى بعد نجاحهم بالسيطرة على أجهزة الدولة بتمامها، يتفقّدون مِنْ بينها مَنْ يمكن أن يستغلوا أفرادَها ويستعينوا بهم حتّى يشتدّ ساعدهم في الحكم؛ ويمسُّونَ الخطرَ في الوقت ذاته من أكثرهم خاصّة من جماهير النقشبنديّين الّذين كانوا يمثّلون معشر المسلمين في نظر هذه العصابة اليهودية؛ مع أنّ الحقيقة كانت خلاف ذلك. فهذا الّذي جعلهم في الوهلة الأولى يقومون بخطة إرهابية لاكتساح النقشبنديّين حتّى يتمكّنوا بعد ذلك من القيام باللّعبة الكبرى مع اليهود الأصليّين الإسبان في تحقيق الأهداف النهائية.(66/433)
هكذا بدأ الصدام بين السلطة والنقشبنديّين منذ أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني. حيث كان الاتّحاديون اليهود قد وثبوا على الحكم في تلك المرحلة. ولكن يجب هنا أن نتذكّر مرةً أخرى بأنّ هذه العصابة الحاكمة إنّما استعدّت لشنّ الحرب على النقشبنديّين بسبب إلتباسهم عليها، واعتقادها الخاطئ في نسبتهم إلى الإسلام. فقامت بتنظيم ثلاث مؤامرات ضدّهم: نُفّذتْ الأولى منها يوم 13/أبريل/1909م. قُتِلَ فيها جمهور من عوامّ النقشبنديّين ورجل صحفيٌّ منهم اسمه درويش وحدتي؛ وانتهت بخلع السلطان عبد الحميد، على أنه يساند القُوَى الرجعية ويستغلُّها في طغيانه واستبداده. والمؤامرة الثانية نُفّذتْ في المنطقة الكرديّة بعد عامٍ من إعلان النظام الجمهوريّ، ما بين مدينتي أرض الروم و دياربكر؛ وهي في ظاهرها ثورة الشيخ سعيد البالوي الّتي مر ذكرها. أما في الحقيقة فإنّهالم تكن إلاّ خطّةً مدروسةً من قِبَلِ جهاز المخابرات التابع للطغمة الحاكمة من يهود سالونيك. ثبتتْ بدلائل قاطعةٍ، أكبرها إثارة الشيخ سعيد على حين لم يفكّر إطلاقًا بأي عمل ضدّ النظام. فأثاره جهاز المخابرات بوساطة منظمةٍ سريةٍ أسّسها بإيعاز من الحكومة بالذات في المنطقة تحت إشراف الرائد قاسم أتاج. وذلك لسحب العشائر الكرديّة من النقشبنديّين إلى ساحة القتال. فإنّ اختيار جهاز المخابرات لتحميل الشيخ سعيد، قيادةَ الثورة مسبقًا، دون أن يختار لهذا الدور زعيمًا من رؤساء العشائر، يبرهن بصورة قاطعة أنّ المؤامرة لم تكن مدبَّرة لمجرد التنكيل بالأكراد، بل كان الغرضُ منها إيقاعَ النقشبنديّين في الكمين أوّلاً، فيكون الأمر ذريعة للقضاء على كل من يسوقه القدر إلى ساحة الغضب من الأكراد دون تمييز بين أن يكون نقشبنديًّا أو لا. والمؤامرة الثالة هي "وقعة مَنَامَنْ" كما سنشرحها قريبًا إن شاء الله.(66/434)
لقد اتسم موقف الحكومات التركية في إخماد تلك الثورات بأداء واجب لا مناص منه، فوقعت محاولاتُها موقعَ مُبَرِّرٍ في الرأي العامّ المحليِّ والعالميِّ. ومعنى ذلك، »أنّ النقشبنديّين قد شقُّوا عصا الطاعة وخرجوا على نظامٍ مؤسَّسٍ« فيما يبدو؛ والحكومة لم يسعها إلاّ أنْ تقوم بتأديبهم، فاضطرت إلى استعمال العنف، وهذا شئٌ طبيعيٌّ.
لقد حققت الحكومة هدفين كبيرين أثناء القضاء على هذه الثورات. ويُعتَبَرُ هذا النجاح تجربةً عظيمةً مهّدتْ البقاءَ لليهود الدونما في الحكم إلى ما شاء الله.
أحد تلكما الهدفين وأهمّهما هو التعرُّف على الطائفة النقشبنديّة وعلى جميع ما تتعلّق بهم من عقائدَ وميّزاتٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ؛ ونزعاتٍ وعلاقاتٍ واتصالاتٍ كانت تجري بين مشائخهم. تمكّنت الحكومةُ من جمع معلومات رهيبة حول هذه الطائفة أثناءَ محاكم الثورة عام 1925م.؛ كما تأكّدت من مدى قوّتهم البشرية والمالية ومدى تعاونهم فيما بينهم.(66/435)
والهدف الثاني أنّ الحكومة استطاعت أنْ تروّضَ النقشبنديّين على العمالة السياسيّة، بطمسِ الشهوة السياسية فيهم وإجهاضِها، وزرْعِ بذور الشقاق بين مشائخهم. لهذا، هناك تطابُقٌ كبيٌر بين آراء كلٍّ من الطغمة الحاكمة وبين شيوخ النقشبنديّين الأتراك في أمور خطيرة. ومن أهمّ نقاط الاتفاق بين الطرفين في الوقت الحاضر: هو موقفهما من الإسلام بأن يُجرَّدَ من الحياة الاجتماعية تمامًا؛ وأن لا يخرج مفهوم الدين من أعماق الضمائر، ولا من بين جدران المساجد أبدًا. تدل على ذلك مقولة للنقشبنديّين يردّدونها على سبيل التحذير من استغلال الدين لأغراضٍ ومصالحَ سياسيةٍ - في ظاهر الأمر -، ولكنهم في الحقيقة لا يريدون بها إلا أن يسقط الإسلامُ إلى درك المسيحية فيتحوّل إلى دينٍ يتأوَّلُهُ كلُّ شخصٍ في تحديد علاقته مع ربه على حسب فهمه ورأيه وذوقه؛ إلى دينٍ لا ضابطَ له فيما يتعلّق بالحياة الإجتماعية على الإطلاق. طالما كانت الزمرة الحاكمة ولا تزال تستخدم هذه المقولة في تخدير المشاعر من جانب، وفي تهديد المسلمين من جانب آخر! جاءت هذه المقولة بصراحة في موسوعة للنقشبنديّين. هذا نصها باللّغة التركية:
Bugün sahte, yalanc? mür?itlere, müslümanlar? s?müren tarikatç?lara, dini siyasete alet
Edenlere çok rastlanmaktad?r.
?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/329 ولكن الهدف من تلك المقولة ليس إلاّ الحيلولة بين الإسلام وبين ما جاء لأجله، وإلغاء أحكامه..(66/436)
لذا فانّ هذه الطائفة، خاصّة بعد أن تعرّضت للنّكبة الثالثة - وهي "وقعة مَنَامَنْ"، كما سنشرحها إن شاء الله -، لم تعد تمثّل قوّةً سياسيّةً مستقلّةً في تركيا، على الرغم من كثرة أفرادها؛ وهي أكبر جماعة بين سائر الفرق والأحزاب والمنظمات. بل استغلّتهم الأحزابُ السياسيةُ المُسَيَّرَةُ من قِبَلِ يهود سالونيك، الّتي تتراءى في ظاهرها مختلفة الاتجاه، ولكنّ النقشبنديّين مُبعثَرون ومتفرّقون في صفوفها منذ نصف قرنٍ، منطبعون تمامًا على التبعية والاستسلام. يتّصل رؤساء الأحزاب السياسية التابعة للنظام اليهوديِّ بمشائخهم في مواسم الانتخابات، ويأخذون تأييدهم؛ بل يكلّفونهم بتعليمات لا يخالفهم فيها الشيوخ. كما احتلّ عددٌ من أبناء شيوخ النقشبنديّة في هذه السنين الأخيرة مناصب هامة في أجهزة الدولة، ومنهم أعضاء في البرلمان.
إن النقشبنديّين اليوم يختلفون كثيرًا عن أسلافهم في موقفهم من السياسة والسياسيّين. لم تعد السلطة تَهَابُهُم، ولا تعتدّ بهم. بل ترتاح لكثرة عددهم ونشاطهم. لأنهم كلّما ازدادوا عددًا ونشاطًا، ازدادت بهم السلطة قوّةً وتحكّمًا. ذلك لأنّ نجاح الأحزاب السياسية في الانتخابات العامّة متوقّف على دعمهم. فلا يمكن لأيِّ حزب أن يفوز بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات العامّة إلاّ أن يكون قد أَقْنَعَ عددًا من شيوخ هذه الطريقة وجَذَبَهُمْ إلى صفوفه. لذا فانّ الأحزاب تتنافس في سبيل اكتسابهم؛ ولأنّ النجاح في كسب دعمهم ضرورة لا مهرب منها لإرضاء الطغمة الحاكمة من يهود سالونيك وعملائهم الّذين يملكون زمام الحكم في كلّ مرحلةٍ، ويحتكرون السلطة من خلال أيِّ حزبٍ يفوز بالانتخابات العامّةِ. فانّ الحزب السياسيَّ في تركيا بهذا الشكل من الديمقراطية المزيفة لا يعدو عن آلةٍ يستخدمها يهود سالونيك في توجيه المجتمع وترويضه على أنماطٍ غريبةٍ من الشذوذ والزندقة والإباحية والانحلال!(66/437)
ولهذا السبب، لما أظهر النقشبنديّون الجرأةَ على تشكيل حزب سياسيٍّ بعنوان "حزب النظام الوطنيِّ" بتاريخ 8/فبراير/1970م.، وبدءوا يتدرّجون إلى الحكم، دَبَّ الذعرُ في صفوف يهود سالونيك. فسرعان ما انقضّوا على هذا الحزب ببطش شديد، وأنزلوا به ضربتهم القاصمةَ وفتكوا بأوصاله أُلغي الحزب المذكور (Milli Nizam Partisi) بتاريخ 21/مايو/1971م. ثم أُعيد تشكيله بعنوان حزب السلام الوطني(Milli Selâmet Partisi) عام 1973م. ثم أُلغي هذا الحزب أيضًا مع جميع الأحزاب السياسية بعد الانقلاب العسكريّ (12/سبتمبر/1980م.) ثم أعيد تشكيله للمرة الثالثة بتاريخ 19/يوليو/1983م. وكان اسمه في هذه المرة حزب الرفاه (RefahPartisi) ثم ألغي أيضًا في الشهور الأولى من عام 1998م. فبدأت مرحلة جديدة لإعادة التجربة نفسها في حيطة وحذر بالغ، فتكرّرت إعادة تشكيل هذا الحزب أربع مرات تحت شعارات وأسماء مختلفة في كلِّ مرةٍ بعد السقوط الأوّل، ولكن باءت المحاولات بفشل ذريع في النهاية، وألغي حزب الفضيلة الّذي كان معقل النقشبنديّين يوم 22 /يونيو-حزيران/ 2001 . إلاّ أن كبار هذا الحزب مازالوا يحتفظون بالأمل كما يظهر من الحركة الّتي تدبُّ في صفوفهم. وقد أبدوا استعدادَهم أخيرًا على تجربةٍ جديدةٍ لممارسة السياسة بعد أن أقدموا على تشكيل حزبٍ جديد سمّوه "حزبَ السعادة" والعيون تترقب في تساؤل عن موقف النقشبنديّين في تعاملهم مع يهود سالونيك بعد اليوم!(66/438)
على كلٍّ، فانّ النقشبنديّين لا يعصون أمرًا ليهود سالونيك، - وإنْ كان ذلك عن كراهيةٍ، وخوفًا وتقيةً في بعض الأحيان -. يشاركونهم في طقوسهم الدينية ويحتفلون معهم عند "قبر العنيد" يُطلقون هذا الاسم باللفظ نفسه على القبر الّذي يحتفلون عنده، وإن كان المعنى في اللّغة التركية ليس هذا. ولكن "الأسماء تنزل من السماء" ويقومون بإجراء ما لا يتعارض مع أهداف اليهود وعقائدهم وأفكارهم من تخدير مشاعر الناس بنشاطاتهم الصوفيّة، وإحياء بدع أوليائهم، وتقديس قبورهم، والاستغاثة بالأموات، وتعظيم أمجاد العثمانيّين في صورة شعارات دينية. كلّ ذلك يؤدّي في الحقيقة إلى تشويش الانتباه، وصرف العقول عن فهم الحقائق القرآنية، وصدّ الناس عن القيام بمقتضيات الرسالة المحمّدية.
***
لما حصدتْ السلطةُ اليهوديةُ عام 1925م. ستةً وثلاثين ألفًا من النقشبنديّين الأكراد في المنطقة الشرقية بذريعة "الثورة الإسلامية" الّتي لم تكن في حقيقتها إلاّ خطّةً مدبَّرةً ومدروسةً أُلْصِقَتْ بهذا الشيخ النقشبنديّ على حين غَرَّةٍ منه؛ استعدّتْ العصابةُ اليهوديةُ لتنفيذ خطةٍ ثانية في المنطقة الغربية، ليتمّ بها حصاد النقشبنديّين الأتراك هذه المرة عن بكرو أبيهم، فتتخلّص اليهود بذلك من أسطورة الخوف نهائيًّا.
تَمَّ تنفيذ هذه الخطة ثانيةً في مدينة مَنَامَنْ يوم 23/ديسمبر/1930م. وهي مدينة صغيرة على مقربة من ولاية إزمير. وذلك باستخدام رجلين من اليهود الأصليين من سكّان إزمير (يودا ويقو)؛ ورجلين آخرين من الأصل التركيّ، كانا حشّاشَيْنَ من مدمني المخدّرات. اسم أحدهما: لاز إبراهيم خواجه؛ والثاني، درويش محمّد (كش مهمد، أي محمد الحشّاش).(66/439)
لقد كانت مهمةُ اليهودِيَّيْنِ - حسب الخطة - أن يحضرا صلاةَ الفجر في المسجد المركزي بالمدينة المذكورة بزيّ الصوفيّة المتنسّكين. و أن يقوما بإثارة الحاضرين بعد انتهاء الصلاة مباشرةً، وتنظيم مظاهرة ضد النظام الحاكم في شوارع المدينة بشعارات إسلامية، وإلقاء هتافات آفاقية لتنبيه مشاعر البُسَطَاءِ وجذبهم إلى صفوف المظاهرين بإشاعة »أنّ اثنين وسبعين ألفًا من جنود العرب المسلمين، معزَّزين بالملائكة قد أحاطوا بالمدينة، وهم على وشك دخولها وإعلان الدولة الإسلامية في البلاد!«. ثم عليهما أنْ ينصرفا بطريقة التسلل إلى مدينة إزمير. على أن يسلِّما الأعلامَ الخضرَ وكلَّ رموز الثورة من الأزياء واللاَّفتات والأسلحة إلى الحشاشَيْنِ المذكورين. وسيكون هناك جنود من قوات الدرك مكلَّفين بحمايتهما وتوفير الأمن لعودتهما على جناح السّرّ إلى إزمير؛ وكذلك بإلقاء القبض على أكبر عدد من النقشبنديّين في المنطقة بما فيهم جميع المظاهرين.
تمّ تنفيذ الخطة بخسارة بسيطة نتيجة خطأٍ وقعت فيه القوات الأمنية. فقُتِلَ أثناء المظاهرة رئيسُ قوات الدرك، الملازم الثاني مصطفى فهمي كوبيلاي مع أحد اليهودِيَّيْنِ (والأصح أنّه يودا). ولكن أُعْلِنَ أنّ القتيل رجلٌ من الأتراك النقشبنديّين كتمًا لسرّ الخطّةِ. أمّا الثاني منهما، فانّه هرب ونجا. ثمّ أقامته الحكومة في الخارج على سبيل المكافأة له.(66/440)
تذرّعت الحكومةُ بهذه "الفتنة" فأرسلتْ جيشًا كثيفًا إلى المنطقة بقيادة جنرال مصطفى موغلالي. فداهموا مدينة مَنَامَنْ وضواحيها بسرعة البرق، يدل ذلك على أن الأمر كان مدبَّرًا. فقتلوا كثيرًا من الأبرياءِ ظلمًا دونما أدنى سبب، ولا سمحوا لأحد منهم حتّى يدافع عن نفسه ولو بكلمةٍ واحدة. ثم قامت أجهزة الأمن باعتقالاتٍ واسعةٍ في صفوف مشائخ النقشبنديّة بالمنطقة الغربية، وعلى رأسهم عبد الحكيم الأرواسيّ؛ فنُقِل إلى مدينة أزمير كما سبق ذكره. و أما أسعد الأربليّ، فجيء به من إسطنبول إلى مدينة مَانِسا لإجراء التحقيقات معه، والبحث عما إذا كانت له علاقة بما حدث في مدينة مَنَامَنْ. فأصابته حالةٌ من هولِ ما وجد حوله من الجنود والاحتياطات الأمنية الشديدة، و ما تعرّض له من الضغوط؛ إذ كان قد عاش معزّزًا وموقّرًا؛ فلم يعهد مثل هذه المعاملة المرهبة. ثم أُحيل إلى مستشفى مدينة مانسا، فلم يلبث أن مات فيه من رعب ما لقي من الشدة. و قيل قُضي عليه بتعليماتٍ سرّيةٍ من الحكومة!
انتهت هكذا صفحة هامّة من تاريخ النقشبنديّة وبدأت مرحلة جديدة في سير العلاقات والتعامل بين الطغمة الحاكمة من يهود سالونيك وبين النقشبنديّين بعد هذه المؤامرة.(66/441)
ومن الأهمية بمكان، أنّ الخِطَّتين جاءتا بنتيجة غريبة لم تكن في الحسبان وقدلم تكن تلك هي المقصودُ بالذات من تنفيذهما. بل كانت العصابة الحاكمة في الحقيقة إنّما تريد القضاء على النقشبنديّين عن بكرة أبيهم، لأنّها ترى جميع المسلمين متجسّدين فيهم! ولكن لمّا جمع القدر بين الطرفين في جلسات محاكم الثورة - خاصّة بعد الخطّة الثانية-، وجرت بينهما سلسلة من الحوار، تأكدت الزمرة الحاكمة من أنّها خاطئة في هذه النظرة؛ و ظهرت بالتالي من خلال هذه الحوارات الطارئة مدى تطابق العقلية النقشبنديّة مع العقلية اليهودية التركية في تفسير علاقة الإنسان بربّه. إذ أنّ توجّه العبد إلى الله من غير واسطة، يراها الطرفان خروجًا على أركان الدين، وجرأةً على الله، واقتحامًا بحرمة »وكلاء الله المفوَّضين بالتصرّف عنه في الكون« (على حسب عقيدتهما)؛ تعالى الله عما يصفه الفاسقون! كذلك تأكَّدَ كلُّ طرفٍ من تعصُّبِ الطرف الآخَرِ للعنصر التركيّ وتفضيله على سائر العناصر عن طريق هذه الحوارات.
فلما ظهر هذا التطابق بين عقيدة الطرفين، وتبيّنها كلٌّ منهما، انهارت سدود العداوة بينهما شيئًا فشيئًا بعد ذلك؛ وازداد التقارب خاصّة بعد انتخابات 1950م. الّتي فاز الحزب الديمقراطي فيها بدعمٍ من النقشبنديّين. إلاّ أنّ رئيس الوزراء عدنان مندريس، لمّا علم أنّ المسلمين أيضًا سوف ينالون حظًّا كبيرًا من الحرية الّتي متّع النقشبنديّين بها، وبدأ يتوجّس خوفًا من انتشار عقيدة التوحيد، وازدياد عدد الموحّدين الحنفاء في تركيا، جاء بمشروعٍ ليوُحّدَ به صفوف جميع النقشبنديّين تحت زعامة شيخ واحدٍ حتّى تسهل مراقبتهم، والتحكّم في المسلمين بواسطتهم في الوقت ذاته.(66/442)
قيل أنّه أصدر تعليمات للمختصين من أمناء سره ليجدوا له رجلاً يكون على شيءٍ من الحماقة، كثير الصمت، كبير الهامةِ، طويل الأنف أحول... وأن يقوموا بالدعاية له بين صفوف النقشبنديّين على أنّه غوث الزمان وقطب الفلك حتّى يَلْتَفَّ حولَه رعاع الناس والبسطاء، تنفيذًا لمشروعه. فلم يلبث أن تحقّقت آمالُهُ في أمد قصير. فوجدوا له رجلاً بنفس المواصفات، وأقاموا له مقرًّا على الطريق الّذي يربط بين مدينتي بدليس و دياربكر. فجنّدتْ الحكومةُ رهطًا من رجالٍ مدرّبين على الصفة المطلوبة للدعاية له، معظمهم من ضباط الصف المتقاعدين.(66/443)
وما أن تبعثر هؤلاءِ المنتحلون بين صفوف الناس وتسلّلوا إلى المحافل والمجالس والمساجد يدعونهم للانتساب إلى هذا الشيخ، انهالت جموع غفيرة من مختلف أنحاء البلاد إلى هذه المنطقة المجهولة، يتهافتون عليه وينخرطون في سلكه. فأثاروا ضجّةً بوصف كراماته، فسُحرتْ عقول الناس بما أُقيمت من حفلاتٍ وطقوسٍ وحلقاتٍ هيّجت الملايين، فتخدّرت المشاعر، و صُدَّتْ الوجوه عن حقيقة الإسلام تمامًا. فاختلط الصوم والصلاة والحج والزكاة بالختم الخواجكانية، والحلقات اليوغية، والرابطة الهندوكية، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على الصورة الفوتوغرافية للشيخ، والتبرّك بالقبور، والاستمداد من الروحانيين؛ وتصاعدتْ أصوات غريبة - شبه الخوار والزئير والعواء - من حناجر المجذوبين في التكايا والمساجد والبيوت والشوارع ليلاً ونهارًا، أصيب آلافٌ مؤلّفةٌ من الدراويش بمرض الهيستريا، واختفت نشاطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبطلت أعمال الدعوة والإرشاد، و ماتت روح الجهاد. ولكثرة إلتفاف الناس حول هذا الشيخ، اشتدّ الحرج على المسلمين. فمن رفض منهم أن يواليه، تعرّض للسُخرية من قِبل جماهير النقشبنديّين، ورُمِيَ بالعداوة "لأولياء الله"، وأُطلق عليه صفة "المنكر" و "الوهّابي"! فلم يعد أحد يتفكّر في خاصّية حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشخصيته وسيرته. بل اعتقد الناس أنه عليه الصلاة والسلام كان على سيرة شيوخ النقشبنديّة (؟!) كما اختفت أيضًا بهذا الدافع ضجيج الفِرَق والأحزاب المتنازعة؛ فارتاحت حكومة مندريس وتمكّنت بفضل النقشبنديّين من تحديد الحركة الإسلامية في تركيا بشكل ملحوظ.(66/444)
وأدهى من ذلك وأمرّ، أنّ حكومة مندريس وافقت على مشروع القانون رقم 5816، بتاريخ 25/07/1951م. الّذي ينص على تأليه الزعيم التركيّ، كما اهتمّت بتنظيم الطقوس الّتي تُقام في معبد الدين الجديد بأنقره، ذلك الدين الّذي اعتنقه جميع الأتراك اليهود، وملايين من الأتراك المرتدّين عن الإسلام، والّذي سُمِّيَ بـ "دين الترك المعاصر". تحمّل مندريس هذه المسئولية الخطيرة إرضاءً لشهوة يهود سالونيك المتسلِّطين على الحكم. فانّ في هذا الإقدام الخطير حقائق لم ينتبه إليها كثير من الباحثين حتّى الآن. أهمّها أنّ اليهود الأتراك كانوا يشعرون بحرج بالغ أنّهم يدينون باليهودية، وجمهور عظيم من بني جلدتهم يدينون بالإسلام. ومعنى ذلك: »أنّ هؤلاء القوم خاضعون لِدِيَانَتَيْ شعبين أجنبيّين من الأصل الساميِّ، وهم من الأصل الطورانيِّ. وهذا يحط من كرامتهم القومية، ويقلّص من استقلالهم التاريخيِّ والثقافيِّ«. ويؤكّد على هذه الحقيقة ما كتبته الباحثة الإنجليزية جرايس أليسونGrace Ellison. في كتابها Turkey Today. وما تفوّه به أحد شعراء الأتراك من الجماعة اليهودية اسمه كمال الدين كامو هذه كلماته في نظمٍ له:Ne ?rümcek ne yosun * Ne mucize ne füsûn
Kâbe Arab?n olsun * Bize Cankaya yeter
معانيها باللّغة العربيية:
لا عنكبوت ولا طحلب * لا معجزة ولا تعويذة
دع الكعبة للعرب * يكفينا قصرُ شنكايا. وثمّ دلائل أخرى كثيرة.(66/445)
أما الّذي يمس موضوعنا في هذا السياق؛ أنّ هذه الفكرة الخطيرة لم تخامرهم إلاّ بعد إطلاعهم على أسرار الطريقة النقشبنديّة وحقيقة هذه الطائفة مؤخّرًا. ذلك لا يُستبعد أن يكون كثير منهم قد اعتزوا بأنّ رجالاً من قدماءِ هذا الشعب الطورانيِّ قد استطاعوا قبل سبعة قرونٍ أنْ يحدّدوا لأمّتهم اتجاهًا خاصًّا في تفسير مفهوم الإسلام بشكلٍ يفصل بينهم وبين العرب في الانتماءِ الدينيِّ باسم النقشبنديّة من منطلق الاشتياق إلى الاستقلال الذاتيِّ الّذي يُضمره العنصر التركيّ منذ القديم، كما ترمز هذه الحقيقة في حد ذاتها إلى الصراع العربي-التركيّ على احتكار الإسلام عبر التاريخ.
ولهذا يجاهر كثير من الأتراك الّذين قد خلعوا ربقة الإسلام من عنقهم، يجاهرون بكلِّ صراحةٍ: »أنّه مادام أسلافنا قد نجحوا في هذه التجربة الّتي أَكْسَبَتْنَا المناعة من الذوَبان والتحلُّلِ في بوتقة العرب، فاستطاعوا بفضلها أن يحتفظوا بالشخصية التركية المتمايزة حتّى الآن؛ فما يمنعنا إذن من أن نُعلِنَ استقلالَنا عن دين العرب تمامًا؟!«
إنّ هذه التغيُّرات السريعة الّتي ظهرت على الصعيد الفكريِّ في المجتمع التركيّ المعاصر عقب التطوّرات الطارئة على أسلوب علاقات السلطة مع النقشبنديّين، لا شكّ يبرهن على تأثير هذه الطائفة وعقائدها على أفكار الزمرة الحاكمة، وبوساطتها على قطاع كبير من الناشئة ولو بطريقة غير مباشرة.(66/446)
يبدو أنّ الزمرة اليهودية الحاكمةَ لم تقتنع بعمالة مندريس وإخلاصِهِ لها في إجهاض الحركة الإسلامية بالقدر الّذي حمل على الحركة الماركسية والانفصالية الكرديّة. بل أحست بخطر عندما وجدت النقشبنديّين قد اجتمعوا تحت زعامة شيخٍ واحدٍ في شرقي البلاد. وبخاصّةٍ فانّ النقشبنديّين الأتراك أيضًا كانت نشاطاتهم في المدن الغربية قد ازدادت في تلك المرحلة بتوجيهٍ من أحد شيوخهم البارزين اسمه سليمان حلمي طوناخان رئيس الفرقة المعروفة بـ »السليمانية «Süleymanc?lar، كما لوحظ انتعاشٌ كبيٌر في حركات جماعة النور على مستوى البلاد. فأوجست الزمرة الحاكمة خوفًا من كلِّ هذه التطوّرات، أن تتحوّل في النهاية إلى حركةٍ إسلاميةٍ صحيحةٍ، أو حركةٍ نقشبنديةٍ موحّدةٍ لا قبل لهم بها. فأطاحوا بحكومة مندريس يوم 27/مايو/1960م. ثم قتلوه شنقًا يوم 17/سبتمبر/1961م. واختطفوا جثمان سعيد النورسي (زعيم جماعة النور)، من مدينة أورفا بعد دفنه بقليلٍ. وذلك عام 1960م. كما نقلوا مقرَّ شيخ النقشبنديّين الأكراد من المنطقة الشرقية إلى قريةٍ اسمها (المنزل) بالمنطقة الجنوبية قربَ مدينةِ آديامان بعد مدّةٍ قصيرةٍ لسبب هامٍّ سوف نتطرَّقُ إليه إنْ شاء الله تعالى؛ وقضوا على مثابات جامعة الزهراء. ولكن استمرّ دعم السلطة اليهودية للشيخ المذكور ولأولاده، كما استمرّت في الوقت ذاته مطاردتهم للمسلمين إلى اليوم.
***(66/447)
على الرغم من وجود أمارات كثيرة وواضحة تبرهن على استمرار التعاون بين الزمرة الحاكمة وبين مشائخ النقشبنديّة ذوي الأصول التركية في هذه البلاد، قد يردُّ هذه الحقيقةَ بعضُ المعترضين ممن كلّت أبصارهم عن رؤية الواقع، إمّا بسبب ظلام الجهل الّذي قد أحاط بهم ولا يكادون يتخلّصون منه؛ أو لمصلحة تجعلهم يكتمون الحقّ عنادًا ومكابرةً. ويدخل في عداد أولئك الجهلة أبناءُ مشائخِ المنطقةِ الكرديّةِ المتبعثرين اليوم في إسطنبول وإزمير وأنقره، الّذين يطوفون في شوارعها للحصول على لقمة العيش ولا يكاد أحد من أبسط الناس يعبأ بهم فضلاً عن رجال السلطة. وهم بالاختصار: أحفادُ كلٍّ من الشيخ خالد الزيباري، والشيخ أسعد الخسخيري، والشيخ خالد الزيلاني، والشيخ عبد الرحمن التاغي، وأبناء الشيخ سيدا الجزري (هم من سلالات كردية)؛ وكذلك أحفاد الشيخ حامد المارديني، والشيخ محمّد الحزين الفرسافي، والشيخ عبد الله الخالدي الْمَخْزومي، والشيخ عبد القهار الذوقيدي، والشيخ فتح الله الورقانسي (وهم شخصيات عربية ومنهم مستكردة). وقد غلب الجهل على هؤلاء المساكين إلى حدٍّ لا يكاد أحدٌ منهم يفهم أنّ الزمرة الحاكمة قد أصبحت اليوم في غنى عنهم؛ ولذلك قذفتهم في سلّةِ القمامة. ولكنها تتعاون مع عدد قليل جدًّا ممن يحتفظ بمكانته وشهرته من الشيوخ النقشبنديّين الأتراك وتستغلُّ زمرةً من بينهم، لا يتجاوز عدد البارزين منهم على سبعة أشخاص فحسب. وهم بالتحديد: العقيد المتشيّخ حسين حلمي إشيك؛ ورجل يتزعم قطاعًا كبيرًا من جماعة النور اسمه فتح الله كولان؛ ورجل في المنطقة الجنوبية قرب مدينة آديامان (وهو عربي مستكرَد)، احتلّ مكان أبيه وجدّه الّذي ذاع صيته بدعم جهاز المخابرات في عهد مندريس؛ وزعيم الطائفة السليمانية؛ ورجل متشيّخٌ مدسوسٌ (مثل الضابط الّذي مرّ ذكره) يقوم بنشاطاته في منطقة ساكاريا، ورجل من بقايا الشعب البُنْطُسيّ اليوناني من أهالي مدينة(66/448)
طربزون. قد اتخذ من مسجد إسماعيل آغا بإسطنبول مقرًا ومركزًا. وثَمَّ شخص أخر، قد خلّفه شيخ الداغستانيين. وهناك عدد أقل ارتباطًا برجال السياسة وهم خلفاء محمود سامي رمضان أوغلو المعروف بـ "شيخ التجار" في إسطنبول؛ وخلفاء إسماعيل حقي أهرامجي الّذي كان يبث دعوته من مدينة سيواس في أواسط آناضول.
ربما يدافع بعض الناس: »أنّ هؤلاء الشيوخ هم أهل الزهد والنسك، معتكفين في تكاياهم، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، مشغولين عن الدنيا وملاهيها، لا يراهم أحد في الشوارع أبدًا... إذن، فهل يجوز أن يكونوا متواطئين مع رجال السياسة الّذين لا يهمهم إلاّ المصلحة، و هل يجوز أن يتعاون هذان الجمعان المختلفان في العقيدة والفكر والسلوك ياترى؛ وبخاصّةٍ ضدّ أهل التوحيد الّذين يلتقون مع النقشبنديّين صباح مساء تحت سقوف المساجد على أقل تقدير(؟!)«
إنّ الّذين يجهلون مدى حقد النقشبنديّين على أهل التوحيد الخالص، ربما يرون في مثل هذا الدفاع ضرورةً على حسب ما يتراءى لهم من الظاهر. كما يبرهن هذا الجهل منهم على جهلهم بحقيقةٍ أخرى. وهي أنّ منطقَ الإنسان النقشبنديّ يسمح له بالتعاون مع كلِّ مَنْ يصدّقه على أساطيره وعقائده إلى حدود بعيدة، ولو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، ويضيق صدره عن كلّ مَنْ يكذّب أساطيره ويرشده إلى توحيد الله وإن كان حنيفًا مسلمًا.(66/449)
لذا، يرفض الرجل النقشبنديّ على الإطلاق، أن يتعاون مع أيّ إنسانٍ لا يعتقد بمعتقداته المرسومة في طريقته؛ و إذا شاركه في عمله، لا يُخلص له أبدًا؛ بل يضمر له البغضَ ويحتقره ويستقذره، ويتربص فرصة الإيقاع به متى سنحت له، وإن كان ذلك الإنسان، من أتقى الناس و أعلمهم، وأفضلهم سلوكًا، وأحسنهم خلقًا؛ ولكن الرجل النقشبنديّ لا يقصّر في التعاون مع أيّ شخصٍ يتظاهر له بالتصديق على كرامات شيخه والتعظيم له، والموافقة على معتقداته و ممارساته لآداب طريقته، وإن كان ذلك الشخص ملحدًا، دهريًّا أو مشركًا! ولهذا لم يتخلّف النقشبنديّون - على الأقلّ - عن التحيُّز إلى الفئة المتغلّبة، واتخاذ الموقف المضادِّ من أهل التوحيد الحنفاء. بل قد شاركو الحكومات العلمانية في مواقف عديدة وبصورة فعلية ضدَّ الحنفاء المسلمين، وإن اقتصر ذلك على إبداء الرأي غالبًا.
أمّا الأمارات، فإنها أكثر من أنْ تُحصى. ومن كُبْرَيَاتِهَا: أنّ أحدًا من مشائخ الطريقة النقشبنديّة لم يَنْبِسْ ببنت شفةٍ استنكارًا لما تقوم به السلطةُ من تصرّفاتٍ ظالمةٍ بإهانة المسلمين وغصب حقوقهم، ولم يُبْدِ أحدٌ منهم إدانَتَهُ لموقفها المتسامح مع أجهزة الأعلام اليهودية التركية في حملاتها على الإسلام والمسلمين، وسخريتها بالمقدّسات الإسلامية من غير هوادةٍ. كما لم يُسمَعْ من أحدِهم أنّه دافع عن المسلمين المضطّهَدين في أنحاءِ العالمِ ولو بكلمةٍ واحدةٍ، ولا عن الفلسطينيّين المعرَّضين للقتلِ والإبادةِ من قِبَل الصهاينة.(66/450)
كذلك الاستشارات الّتي يقوم بها أعداد من رؤساء الأحزاب السياسية لدى هؤلاء الشيوخ المشهورين، واجتماعاتهم في المناسبات، تدلّ على ما هنالك من حوارٍ مستمرٍّ، وعلاقات وتعاون بين الطرفين؛ وإنْ كان لا يتمكّن أحد من الإطّلاع على أسرار هذه العلاقات غير بطانتهم. وهى في حقيقتها محاولات، يريد بها كلٌّ من الطرفين أنْ يستغلّ الآخر من غير شكٍّ. إلاّ أنّ مكتسبات السياسيّين في استغلال النقشبنديّين، يترجّح بكثير على ما ينال النقشبنديّون من مصالح بوساطة السياسيّين.
ذلك أنّ نسبة طاقة الدعم السياسيِّ الّتي يمثّلها النقشبنديّون في تركيا تفوق على خمسة وستّين في المائة. هذا بغضّ النظر عن الأعداد التي تُحرّكُها هذه الطائفة بطرقٍ غيرِ مباشرةٍ، وتجتذبها إلى صفوفها في مواسم الانتخابات، لا تقل عن سبعة في المائة. وهكذا تنجلي أمام العيون بأنّ هذه القوّة الهائلة كيف قد تحولت إلى آلةٍ خطيرةٍ بيد الأحزاب السياسية في تحريك عجلة الديمقراطية الزائفة في تركيا، وكذلك في مقاومة الحركات السياسية الّتي تحاربها الزمرة اليهودية الحاكمة!
***
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم.
بهذه المناسبة ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ النقشبنديّين اليوم في تركيا، موزَّعون في صفوف سبع جماعاتٍ رئيسةٍ تابعةٍ للأشخاص المذكورين آنفًا. إلاّ أنّ هذه الجماعات، يختلف بعضُها عن بعض من حيث التكوين الإجتماعيِّ والمستوى الثقافيِّ والنشاط السياسيِّ اختلافًا بارزًا.
يمتاز من بين هذه الْفِرق، جماعة الشيخ محمّد زاهذ كوتكو برجالها المثقَّفين؛ وكان في مقدّمتهم ترغوت أوزال الّذي استطاع أن يحتلّ منصب رياسة الجمهوريّة؛ وكذا منهم نجم الدين أرباكان (رئيس الوزراء الأسبق)، وعددٌ كبيرٌ من الأساتذة موزَّعون اليوم في جامعات تركيا.(66/451)
إنّ الشيخ محمّد زاهذ كوتكو (المعروف بشيخ الدغستانيين)، كان خالديَّ المشرب، من أتباع أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخَانَوِي. احتلّ منصبَ خلفائه في إسطنبول واستطاع أن يؤثِّرَ على طلاّب الجامعة منذ عام 1960م. فانضمَّ إلى أتباعه نخبة من الشباب المثقَّفين؛ ثم ترابطوا فيما بينهم حتّى برز منهم شخصيات تدرّجوا علىالصعيد السياسيِّ وشاركوا العلمانيّين أخيرًا في تشكيل حكوماتٍ وتنصيص قوانين وتنفيذ مشروعاتٍ هامّةٍ.
ومن هذه الفِرَقِ؛ طائفةٌ مفتتنة بعقيدٍ متشيّخ مرّ ذكره بالتفصيل. تتكوّن هذه الطائفة من طبقةٍ مثقَّفَةٍ مكلَّفَةٍ بالتوجيه، وأخرى عاميةٍ مكلَّفَةٍ بالتنفيذ. مهمّةُ هذه الطائفةِ تتعيّن في حرب السلَفِيّينَ وأهل التوحيد؛ وترسيخ "العقيدة السُّنِّيَّةِ التركية التقليدية" على أساس تقديس الملوك والسلاطين الأتراك، وتقديس العنصر التركيّ والدولة التركية. لذا تُعتَبَرُ هذه الفرقة من أهمّ الصفوف الّتي تستقوي بها الحكومات العلمانية-العنصرية، وتستخدمها في ترسيخ فكرة العصبية التركية.
لقد اتّخذ العقيد المذكور الأسرةَ الأرواسيةَ رمزًا لدعوته وتوجيهاته طمعًا في احتكار الصفة الّتي اشتهر بها الأرواسيّون بنسبتهم إلى السلالة الهاشمية؛ كما استطاع من جانب آخر أن يستخدم أبناءَ هذه الأسرة في بث "الديانة السنِّيَّةِ الأرثوذكسية التركية".(66/452)
تظهر شطارة هذا الرجل من خلال بعض محاولاته على سبيل الإحتكار. منها استجازتُهُ في العلوم الإسلامية على يد الشيخ أحمد مكي أفندي بن الشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ، وذلك بالرغم من عدم كفاءته، إذ أنه على الأصح لم يدرس هذه العلوم الشريفة. بل إنه رجل عسكري متخصّص في علوم الصيدلة والكيمياء. ثمّ قام بطبع هذه الإجازة مع عددٍ من رسائل متفرقةً ضمن مجلّد واحد لا علاقة بينها وبين هذه الرقعة. ومن تلك الرسائل »فتاوى علماء الهند على منع الخطبة بغير العربية«. تم نشرها من قِبَلِ مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1996م.
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ أيضًا "جماعة النور". وهي أصلاً منشقّةٌ من الطريقة النقشبنديّة و متفرِّقة في صفوفٍ متعاكسةٍ.
برز في الآونة الأخيرة رجلٌ من بينهم فاستعمل لباقتَهُ مع بطانته في تأسيس سلسلة من المدارس والمعاهد الخاصّة في انحاء تركيا وخارجها، امتازت بنظامها الدقيق وبرامجها الدراسية المطوّرة وطلاّبها وخرّيجيها الناجحين البارزين على أصعدة مختلفة اغتبط بهم أبناء الأثرياء والمترفين! ثم بدأ يستخدمهم في نشر "الديانة السنِّيَّةِ الأرثوذكسية التركية".
اشتهر هذا الرجل أخيرًا إلى درجةٍ أحسّ السياسيون في تركيا بحاجةٍ إلى دعمه. وقام بزيارة البابا إلى روما عام 1997م. وتَبَادَلَ العلاقاتِ مع رجال السياسة، وحضر الندوات والمؤتمرات العالمية على سبيل التحدي لمعارضيه!
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ السليمانيون. وهم طائفة من النقشبنديّين من أتباع الشيخ سليمان حلمي طوناخان المشهور بمعارضته لمعاهد الأئمة والخطباء، اعتقادًا منه أنّ الحكومات العلمانية تتعمّد الإضرارَ بالعقائد التركية التقليدية عن طريق هذه المعاهد.
اهتمّ بفتح المدارس القرآنية في أنحاء تركيّ، تمهيدًا لبث طريقته وعقيدته من خلال هذه المدارس. فانخرط كثير من الناس في صفوفه بتأثيرها.(66/453)
لقيَ طوناخان من حكومة عدنان مندريس ضغطًا شديدًا لاهتمامه بتحفيظ القرآن. وكان مندريس أيضًا تحت ضغط اليهود الدونما مرغَمًا على كفاح كلِّ حركةٍ من شأنها فتح باب الصحوة للمسلمين. لذا كان مندريس يهتمّ يومئذ بجمع النقشبنديّين حول رجلٍ أبلهَ في المنطقة الشرقية لتخدير مشاعر الناس وصدّهم عن الّتيارات الإسلامية.
أمّا سليمان حلمي طوناخان، فانّه كان رجلاً ذكيًّا جريئًا، استعمل لباقَتَهُ في توجيه الناس إلى حفظ القرآن الكريم حتّى تمكّنَ بذلك من نفخ عقائده إلى ضمائرهم!
نشأ على يده رهط من الدجاجلة تبعثروا بين الناس للدعوة إلى عقيدته وادّعوا بعد موته »أنه أويسيٌّ اتصل بروحانية السرهنديّ واستفاد منه«. فتبيّن أنّ هذا الإعتقاد البرهميَّ لا يزال يسري بين مختلف جموع النقشبنديّة، سواء الخالديّين منهم وغيرهم. لأنّ هذه الفرقة ليست خالديَّةَ المشرَبِ. ويعدّه أصحابُهُ من الطبقة الثالثة والثلاثين من سلسلتهم.
وردت قصّةُ حياته أخيرًا في رسالةٍ دوّنها الأستاذ الدكتور أحمد آقجندوز، تمّ طبعها ونشرها على نفقة مؤسّسة أوقاف البحوث العثمانيّة (أوساف) في إسطنبول عام 1997م.
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ جماعةٌ غالبُها من سُكّان سواحل البحر الأسود؛ يرأسُهم رجلٌ متزمّت من نفس المنطقة.
أقدم أخيرًا مع أشخاصٍ من بطانته على كتابة تفسيرٍ للقرآن الكريم باللّغة التركية وبأسلوبٍ صوفيّ تحت عنوان "روح الفرقان" كما مرّ ذكره. استهدف بذلك معارضةً شديدةً من جانب أهل التوحيد؛ وكاد أن يتطوّر الأمر إلى فتنة بين هذه الفرقة وبين المسلمين.(66/454)
أحسّتْ الحكومة العلمانية في الآونة الأخيرة بما اكتسبت هذه الجماعة من القوة، فدبّر جهاز المخابرات مؤامرةً لاغتيال بعض البارزين من هذه الفرقة تأديبًا لها! راح ضحيتَها ملاّ خضر أفندي صهر شيخ الجماعة. كما وضعوا تابوتًا فارغًا أمام منزل الشيخ، وعددًا آخر من التوابيت عند باب كلٍّ من نائبه وبعض رجال حاشيته على سبيل التهديد: بأنّهم معرّضون للخطر إذا ما صدر منهم أدنى حركة ضد الحكومة وسياستها.
وثَمَّ فرقتان أخريان من النقشبنديّين يتعاون النظام الحاكم معهما إلى أبعد الحدود ويستخدمهما في أغراضها وتحقيق ما يناسب من أهدافها، خاصّة ضدّ الّتيارات الإسلامية.
***
* أهم الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها.
إنّ استخدام السلطة للنقشبنديّين لم ينحصر في الحرب ضدّ الوهّابيّين فحسب، وإنّما شمل الحربَ ضدّ أحزاب، وحركات سياسية كثيرة في العهد الجمهوريّ، أهمها أربعة، مرّ ذكرها بإيجاز. إنّ الدخول في تفاصيل التعاون بين السلطة والنقشبنديّين في كلِّ هذه الحروب، ربما يتجاوز في بعض نواحيها حدود بحثنا. لذا، نقتصر على النتائج السلبية لهذا الاستغلال الّذي تمخّض عن أضرارٍ كبيرةٍ على الإسلام والمسلمين.(66/455)
استغلت السلطة النقشبنديّين في مقاومة الحركة الماركسية مدةً أكثرَ من خمسةٍ وثلاثين عامًا بعد العقد الرابع من العصر الحاضر. فجنّدتهم في صفوف "جمعية الكفاح ضدَّ الشيوعية". فأثارت بذلك فيهم نزعة الرأسمالية البحتة وروّضتهم على الانتماء إلى هذه الفكرة باسم الحرية. فأصبح مفهوم الحرية مشوّهةً بصبغتِها، وسادت في هذه الصورة على عقولهم. ولم يكن الناجح في هذا التعاون إلاّ اليهودَ الرأسماليّين. فازدادوا بذلك قوةً حتّى استغلّوا النقشبنديّين في أغراضٍ أخرى، كما تحكّموا فيهم، وقادوا كلَّ جماعةٍ منهم في وُجْهَةٍ لا تلتقي فيها بجماعةٍ أخرى من النقشبنديّين؛ فسدّوا عليهم بذلك طريق السياسة المباشرة بحيث كلّما قامت فئةٌ من النقشبنديّين بتشكيل حزب سياسيٍّ قضوا عليه قبل أن يتسلّم زمام الحكم؛ وسلّطوا بعضهم على بعضٍ، كتجربتهم في تصعيد ترغوت أوزال على منافسيه. لأنّه كان نقشبنديًّا علمانيًّا متعصّبًا لتعاليم يهود سالونيك.
دام استغلال السلطة للطائفة النقشبنديّة في مقاومة الماركسية حتّى سقطت الإمبراطورية السوفيتية وانقشعت غيوم الذعرِ فاطمأنّت الزمرة الحاكمةُ من مداهمة الروس لأراضي آناضول. فاعتاد النقشبنديّون عبر هذا التعاون على جميع تعاليم يهود سالونيك من العلمانية، وممارسة القواعد الظالمة للنظام الرأسماليِّ، وطقوس الشرك بأنواعها؛ كما تأثّرت واستورثت العداوة لأهل التوحيد الحنفاءِ الّذين يرفضون عبادة الموتى، ويتجنّبون تخليد ذكر المخلوق و الاستمداد من غير الله.
استغلّ يهود سالونيك المتغلبون على مرافق الدولة التركية بوساطة حكومات مزيّفة، استغلّوا فئاتٍ من شباب عائلاتٍ نقشبنديةٍ في القضاءِ على الحركة الإرهابية الّتي قامت بها عصابات أرمنية ضدَّ الدبلوماسيّين الأتراك في الخارج ما بين 1970-1985م. ثمّ قضوا أخيرًا على هؤلاءِ الشباب بوساطة منظمةٍ مهمّتُها اغتيال أشخاصٍ اطّلعوا على أسرارهم!(66/456)
إنّ كثيرًا من أهل الصحوة الإسلامية مهدَّدون أيضًا اليوم باعتداءات هذه المنظمّةِ الخطيرة.
ثم استغلّت السلطةُ جماعةً من أبناء النقشبنديّين الأكراد ضدّ الحركة الانفصالية الكرديّة الّتي قام بها حزب العمال الكردستاني، وذلك بتشكيل حزبٍ سرِّيٍّ آخر باسم "حزب الله" لم تثبت لهذه المنظمة أية علاقة بـ"حزب الله" الموجود في لبنان. ولكن السلطة اليهودية قد أصبحت في عجز عن ضبط هذه المنظمة. لأن عنانها قد انفلتت في الآونة الأخيرة من يد من كان يوجّهها حسب أوامر الطغمة اليهودية الحاكمة كما يبدو. وثَمَّ أشخاصٌ بارزون بثقافتهم ومكانتهم الإجتماعية من أبناء مشاهير النقشبنديّة، تطوّعوا ضدّ المنشقّين الأكراد بأقلامهم ودعاياتهم الإعلامية؛ وعلى رأسهم أحمد الأرواسيّ. أحمد بن عبد الحكيم الأرواسيّ، رجلٌ مثقَّفٌ، كاتبٌ وباحثٌ؛ نُشِرتْ مقالاتٌ له في صحف النقشبنديّين بإسطنبول، قد يلتبس أبوه على بعض الناس بسميّهِ وقريبه عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي مرّ ذكره. إلاّ أنّ عبد الحكيم هذا، كان موظَّفًا متقاعدًا من إدارة الجمارك بمدينة وان، ثم مات في إسطنبول؛ وليس هو عبد الحكيم الأواسي الّذي اشتهر بجهود عقيدٍ مدسوسٍ في صفوف النقشبنديّين، والّذي مات عام 1943م. بحيٍّ من أحياء أنقره.
إنّ أحمد الأرواسيّ الّذي شاع بين مريدي آبائه أنّ عائلتَه تنحدر من سلالة الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، من الغريب أنه يتناسى هذه النسبةَ، بل يكتمها بلباقةٍ عندما يهاجم القوميةَ الكرديّةَ ويشدّد النكيرَ على من يدّعي أنّ للأكراد لغة خاصّة باسم اللّغة الكرديّة. والّذي يُستَغْرَبُ من أحمد الأرواسيّ في هجومه الّذي نشره في كتابٍ خاصٍّ؛ هذا الكتاب نُشر عام 1992. تحت عنوان: Do?u Anadolu Garçe?i
أنّه اتخذ هذا الموقفَ الحماسيَّ من منطلَق الدفاع عن القومية التركية إرضَاءً لشهوة الزمرة الحاكمة.(66/457)
هذا، وإنّ قادة الحركة الانفصالية الكرديّة لما تأكّدوا من أنّ السلطة تستخدم النقشبنديّين في الكفاح المسلح ضدّهم من جانب، كما تستخدم رهطًا من مثقّفيهم من أمثال أحمد الأرواسيّ في تخدير مشاعر الأكراد وتعميتهم عن الصحوة القومية من جانب آخر؛ بدءوا يوجِّهون ضرباتهم إلى عائلات نقشبندية، واستعدّوا لاغتيال شيخهم الّذي كان جدُّهُ قد نُصب على هذه الطائفة كمرجعٍ أعلى بإيعاز من رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس. ولكن القوات الأمنية قامت بالقضاء عليهم في لحظته؛ وكان جدُّ هذا الشيخ قد نُقِلَ إلى ناحيةٍ بقرب مدينة أديامان النائية عن ساحة النشاطات السياسية للأكراد، لنفس الأسباب قبل انتشار الحركة الانفصالية إلى جميع أنحاء المنطقة يومئذ.
إنّ استغلالَ السلطةِ للنقشبنديّين ضدَّ كلِّ هذهِ الحركاتِ السياسيةِ والإرهابيةِ، في الحقيقة كان الهدفُ منه، ترويضَهُمْ على السيرِ طبقًا للقواعد المرسومة لهم؛ وعلى الطاعة العمياء في الخطوة الأولى؛ فاستخدمتهم بصورةٍ فعليةٍ في خلق جوٍّ مطلوبٍ لإذابة الجموع المضادَّةِ للزمرة اليهودية الحاكمة في بوتقة العلمنة والإلحاد كمرحلةٍ ثانيةٍ؛ وترسيخ قواعد الرأسمالية ضدّ المستضعفين، وسدَّ الانتباهَ ضدّ الصحوة الإسلامية الّتي بدأت منذ سنين تنتشر في أنحاء العالم كخطوة ثالثة.(66/458)
فقد تحقّقت هذه الأهداف إلى حدود بعيدة. فانّ كثيرًا من الناس الّذين ما زالوا يعتزُّون بالإسلام ويهتفون باسمه، فقد تغيّرتْ المفاهيمُ القرآنيةُ في عقليتهم، واتخذت صورةً أخرى غريبةً؛ والتبس عليهم الحقُّ بالباطلِ؛ وأصبح الإسلامُ في اعتقادهم عبارةً عن سلسلةٍ من حكايات الصالحين، وحفلات المولد النبويِّ، وزيارة القبور، وتعظيم الموتى، والاستشفاع بهم. فانّ خلاصة ما يُعرَفُ من مفهوم الإسلام اليوم في معتقد العامّةِ، أنه لا يعدو عن علاقةٍ شخصيةٍ للعبد بمعبوده فحسب؛ دون أي شيءٍ آخر من علاقاته ونشاطاته وأفعاله مع بني جنسه في بقية مجالات الحياة.
ولذا كثيرًا ما يثور المارقون على المسلمين، فيقولون لهم في استغراب وتساؤل على سبيل التحقير:
- هل منعكم أحد من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة؛ ثم ماذا تريدون بعد هذا القدر من الحرية؟! نعم هكذا يتساءلون بعُنْجُهيةٍ وحماقةٍ وغطرسة، ولا يتفكّرون أنّهم لو زحفوا بجيوش الدنيا على الرجل المسلم ليمنعوه من الصلاة ما استطاعوا ذلك رغم أنف كلٍّ منهم! لأنّ المسلم يستطيع أنْ يؤدِّيَ صلاتَهُ بشكلٍ من الأشكال ولو بإجراء أركانها على قلبه في أسوأ حالٍ. ولكنّ المصيبةَ، أنّهم لا يكادون يصطدمون بمثل هذه الإجابة الّتي هي أخطر عليهم من قنبلة ذرية! لأنّ المجتمع قد تحوّل إلى قطائع من النقشبنديّين المعتادين على الخضوع والتذلُّلِ والاستسلام ليهود سالونيك. ولأنّ الإنسان النقشبنديّ يعتقد بكل مَنْ يملك زمامَ أمرهِ، أنّه من "أولي الأمر"؛ الّذين قال تعالى فيهم { وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَاُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.}، ولو كان من يهود سالونيك! هذا ما قد حلّ بالإسلام في تركيا على يد اليهود، بالتعاون مع النقشبنديّين؛ وإن كان ذلك عن كراهية المثقفين منهم، وعن جهل شيوخهم، وحماقة الملتفّين حول هؤلاء الشيوخ من حثالة الناس.
***(66/459)
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء في كلامهم من ضروب التعارض والضعف.
إنّ الصوفيّة عمومًا طائفة انتقدهم العلماءُ قديمًا وحديثًا؛ وقد اشتدّ عليهم كثيرٌ من المحقّقين بكلامٍ لاذعٍ، ورُمِيَ غالِبُهُمْ بالزندقة والانحلال. وقالوا إنهم قومٌ تغمرهم أمواجٌ من الوهم والهواجس الغريبة، وتنتابهم تصوّراتٌ وخيالاتٌ لا يجدون لها تعريفًا وتوضيحًا؛ فتتساقط من أفواههم كلماتٌ غامضةٌ، و عبارات معقَّدَةٌ، يظنُّها الجاهل أنّها إلهامات من الله! »إذ هو الّذي أوحى إلى عباده المرسلين من آياته البينات، إذن فما المانع أن يفيض بأمثالها على أوليائه المكرَّمين من علومٍ لَدُنِّيَّةٍ و عرفان وإشراق وإلهامات؟!«
لم تختلف حالة النقشبنديّين عن حالة البقية من الصوفيّة في عباراتهم ومواقفهم؛ بل قد أطلقوا الكلمة على عواهنها في مواطن كثيرة؛ فجاءت على خلافٍ شديدٍ بأصول المنطق السليم والاستدلال؛ واهيةً ملفّقةً. لذا، من ردَّ عليهم، أو خالفهم، أو حتّى إذا اكتفى بالنصيحة لهم؛ هاجموه بلهجة قاسية، وربما رموه بالفسق والتعسّف والإنكار، وحتّى بالكفر والزندقة؛ بل لجأ بعضهم إلى استعمال الشدّة والعُنْفِ. وناهيك ما قالوه في التشنيع على الوهّابية والسلفية، وما تعرّض له أهل التوحيد من الاضطهاد على أيديهم في تركيا والعراق وأفغانستان، بالإضافة إلى ما قيل عن ارتكابهم من جنايات في مناطق نائية لم تثبت عليهم!(66/460)
سنتناول في هذا الباب شطرًا من آرائهم الّتي ادّعوا فيها ما لا حجّة لهم في إثباتها؛ ومسائلَ أخرى اختلفوا فيها اختلافًا فاحشًا. فجاء مقال بعضهم تكذيباً لبعضهم الآخر؛ كما سنتطرق إلى أمثلةٍ من الخصومة والعداوة الّتي جرت بينهم، فلا نظلمهم إذا سجّلنا ما تقوم عليهم من براهيَن قاطعةٍ على أنّ الصورة الحقيقية لهذه الطائفة تتوارى بصورة عابرة تظهر للناس لطيفةً نورانيةً مزخرفةً بالحلم والتسامح والزهد والتقوى والعفّة والقناعة والإخلاص!
***
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها.
وعلى سبيل المثال، حاول النقشبنديّون ليقيموا الصلةَ بين ما سمّوه "الرابطة" وبين الإسلام. وادّعى بعضهم أنها فريضةٌ من فرائض الله. راجع الهامش رقم/88. و قال كبيرُ متأخّريهم خالد البغداديُّ »هي أعظم أسباب الوصول بعد التمسُّك التامِّ بالكتاب العزيز وسنة الرسول«. ولكنّهم عجزوا عن إثبات ما ادّعوه بأدنى شيءٍ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ على الرغم من محاولاتهم بشكل مستميت كما مرّ في الفصل الثاني بالتفصيل.
وأغرب من ذلك أنّهم جميعًا قد تهرّبوا من إطلاق الحكم على الرابطة، هل أنّها شعيرة من شعائر الدين الإسلامي، أو منسك من مناسكه، وهل يجوز التعبّد بها؟ ويبدو أن الأمر ضاق بهم ذرعًا حتّى لجأ أربعة أشخاصٍ منهم عام 1994م. إلى فقيه في إسطنبول، اسمه خليل كوننج، يستفتونه عما إذا تَدْخُلُ "رابطة النفشبنديين" في شمول العبادة؟ فأجابهم المفتي: أنّها لا تُعَدُّ نوعًا من العبادة على الإطلاق. Râb?ta ve Tevessül, Umran Publushing Pg. 358 ?stanbul-1994(66/461)
هذا مثال هامٌّ من التناقض والتضارب والارتباك الّذي وقع فيه النقشبنديّون. إذ أنّ هؤلاء الأشخاص، وسائرَ شيوخ الطائفة الّذين يتحاكم إليهم جموع المريدين ويراجعونهم في جميع مسائلهم، لو لم تَنْتَابُهُمْ الشكوكُ في أمر الرابطة، وتردّدوا فيما إذا كانت هي شكلاً من أشكال العبادة؛ لَماَ أحسّوا بضرورة الاستفتاءِ ليتأكّدوا من حكم الإسلام في شعيرة من أهمّ شعائر طريقتهم، وقد مضى أكثر من مائة وخمسين عامًا على كون الرابطة كقاعدةٍ أساسية للطريقة النقشبنديّة. مَثَلُهُمْ في هذا الاستفتاء كمثل رجلٍ يدّعي أنه مسلم، ثم يستفتي العلماء في الصلاة المفروضة مثلاً هل تدخل فيما أمر الله به؟ و أغرب من ذلك، قيام أربعة أشخاص في استفتاء فقيه لا علاقة له بالتصوّف ولا بالطريقة النقشبنديّة. أمّا إجابة المفتي على سبيل الاحتياط بقوله »إنها أصلاً ليست من العبادة في شيءٍ«، ومُرَاوَغَتُهُ بعد ذلك بتعليق جاء فيه (أنّها مسألة اجتهادية)، أشدّ غرابة!
وحسبنا ذكر حجّتين دامغتين على النقشبنديّين بأنّ جميعَ ما قد وضعوه واختلقوه (من الرابطة، والختمِ، الخواجكانيةِ، وعدِّ ألفاظِ الوردِ بالحصى، وإحصائِها بكمياتٍ معينةٍ، وحبسِ النفَسِ أثناءَ الوُرْدِ، والارتداءِ بوشاحٍ أثناءَ الذكر أيضًا، والجلوسِ في الحلقةِ بعكسِ التورُّك في الصلاة، والأركانِ الأحد عشر...)؛ إنّها جميعًا لا تعدو كونها مستحدثات وافدة دخيلة على الإسلام الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا شكّ في أن أيًّا من هذه المستحدثات الغريبة ليس من الإسلام في شيءٍ ولا يمتّ إليه بأدنى صلةٍ.(66/462)
الحجة الأولى منهما: أنّ المعارضين للصوفية لوكانوا قد عثروا على شيءٍ من هذه المستحدثات في القرون الماضية، لما مرّوا علها مرورَ الكرام. بل إنّهم لبذلوا أقصى جهودهم في الردّ عليها، وتفنيدها. إنّ الّذين لم يتردّدوا في رمي حسين بن منصور الحلاج بالكفر والزندقة (وهو شهيد الصوفيّة)؛ هل يُعْقَلُ أنْ كانوا قد عَثَروُا على كلِّ هذه المختَلَقات وسكتوا عنها؟!!!
فهذا تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني، لم تسنح له فرصةٌ إلاّ وقد نال منهم بأدنى حجة. كما حكم على ابن عربي بالكفر (وهو الشيخ الأكبر عند الصوفيّة). فلو كان عثر على شيءٍ مما استحدثه النقشبنديّون (كالرابطة وغيرها من آدابهم ومبادئهم وطقوسهم)؛ لرماهم بالكفر البواح، ولأمطرهم بوابل من اللعن والشتم! بينما نجد آثارَهُ خاليةً عن كلِّ ما نتوقع منه. وهذا من أقوى البراهين على أنّ الأمور المذكورة حديثةٌ جدًّا، لم يعرفها قدماء النقشبنديّة (ما عدا الأركان الأحد عشر الواردة في الرشحات لأوّل مرة)؛ كما تبرهن هذه الحقيقة على مدى التعارض والتلفيق الّذي وقع فيه النقشبنديّون لما ادّعوا أنّ هذه الأمور منبثقة من الإسلام، وأنّ مصدرها الكتاب والسنّة، و أنّ أكابر النقشبنديّة قديمًا كانوا يمارسونها.(66/463)
أمّا الحجّة الثانية الّتي تقوم عليهم بأشدَّ من الأولى؛ وتُكَذِّبُهُمْ في إسنادهم تلك البدعَ إلى الكتاب والسنّة؛ هي سرّية هذه الأمور. يبرهن على هذه الحقيقة كلام أحد المؤرخين الأتراك، إذ يقول: " درون إستانبولده برقاج مسجدده كندولرينه مخصوص آيين طريقي خلقدن مستور اوله رق اجرايه مشغول اولدقلرندن..."؛ أي "حيث أنهم كانوا يشتغلون بإجراء طقوس على طريقة خاصّة بهم، مستورين عن الناس في عدة مساجد بمدينة إسطنبول…" تاريخ لطفي 1/287. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/4755. لقد أغفل العزّاويّ ترجمة هذه الكلمات ضمن المقطع الّذي قام بنقله في دراسته الّتي سماها (مولانا خالد النقشبنديّ)، ونشرها في مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 721. بغداد - 1973. راجع الهامش رقم/467. لأنّ النقشبنديّين لا يمارسونها إلاَّ في أماكنَ خاصّة ومغلقة دون غيرهم. يقومون فيها بعقد حفلاتٍ سرّيةٍ لا يحضرها إلاَّ بِطَانَتُهُمْ من المنسوبين إلى هذه الطريقة. وقد يتسلّل معهم إلى هذه الحلقات بعضُ المنتحلين. فمنهم، من يحضرها ليلتقطَ معلوماتٍ حول هذه الطائفة ومعتقداتها بغرض البحث العلميِّ، ومنهم موظّفون من جهاز المخابرات، قد كلّفت السلطة بعضَهم للدعاية، و بعضهم لأغراضٍ أمنيةٍ!
نتساءل الآن: هل فرض الله على طائفة معيَّنَةٍ من عباده أمورًا ليقوموا بأدائها تحت جناح السرّ وحرّمها على غيرهم؟! وحتّى فرضُ الكفايةِ الّذي يسقط عن كثير من المسلمين إذا قام به بعضهم، لا مانع من الاشتراك للبقية بشروطه؛ ويُثابُ عليه إذا اشترك مع المؤمنين في أدائه، كما لا سرّيةَ فيه.(66/464)
زد على ذلك أنّ هذه الطقوس والأنماط الغريبة من مناسك البرهمية الّتي يتعبّد بها النقشبنديّون، يجهلها جمهور المسلمين؛ وحتّى أحفاد الشيوخ الّذين كانوا يلقّنونها الناسَ، ويرأسون الحلقات في الماضي القريب، أبناؤهم وأحفادهم أيضًا يجهلونها اليوم تمامًا. وعلى سبيل المثال: فانّ أحفادَ كلٍّ من الشيخ طه النهريّ، والشيخ صبغة الله الحيزانيّ، والشيخ محمّد الحزين الفرسافي، والشيخ حامد المارديني، والشيخ خالد الجزري، والشيخ خالد الزيباري، وأبناءَ خلفائهم (باستثناء عددٍ قليلٍ منهم جدًّا)؛ لا يعرفون شيئًا من هذه الآداب، ولا يكادون يستحضرون في أذهانهم: ما هي الرابطة، وهل يجب حبس النفَسِ أثناء الذكر، والجلوس بعكس التورّك في الصلاة، و ما معنى »هوش دردم، ونظر برقدم، وسفر در وطن، وخلوت درأنجمن...إلخ«؛ وهل هذه أشكالٌ من العبادة في الدين الإسلاميِّ؟ بالإضافة إلى كلّ ما سبق، فانه لا يكاد أحد منهم يفتكر اليوم في اتخاذ مرشدٍ يلقّنهم الطريقة النقشبنديّة؛ مع أن آبائهم وأسلافهم كانوا يعتقدون أنه »من لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان« راجع الهامش رقم/53. على الرغم من هذه الحقيقة أنّ عددًا من هؤلاء الأخلاف، يصلّون الخمسَ، ويصومون رمضان، ويحجّون وقد يزكّون؛ ويعتقدون أنّها فرائض يحرم تركها.
إنّ هذا الواقع حُجَّةٌ دامغةٌ على النقشبنديّين، تدلّ على مدى وقوعهم في التلفيق والتعارض والتضارب في أقوالهم ومواقفهم ومزاعمهم الّتي يدّعون أنّها مستمدّة من الكتاب والسنّة.
***
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًالبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيها تضادٌّ وتناقضٌ للقائل نفسه بالذات.(66/465)
هذه أمورٌ يفتضح بها النقشبنديّون أمامَ أهل العلم والمعرفة والحذاقة من الباحثين والدارسين خاصّة. لأنّ الجاهلَ لا يتمتع بمعرفةٍ تُمَكِّنُهُ من القيام بالمقارنة بين أقوالهم ومواقفهم، حتّى يتبيّن له مدى التطابق أو الاختلاف بينها.
ومن نماذج الاختلاف بينهم في الأقوال على سبيل المثال:
إنّ مشائخ النقشبنديّة يعظّمون ابن عربي، ويستدلّون بأقواله؛ فينقلونها في كتبهم. فمنهم مثلاً محمّد بن عبد الله الخانيّ، يقول في كتابه، البهجة السنيّة: »قال سيدي الشيخ محي الدين بن عربي (...) كما نقله العارف الجيليّ في أسفاره: الكرامة حقٌّ...إلخ« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 56. ويقول حفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ في كتابه الحدائق الوردية »قال سيدنا الشيخ الأكبر: فعلماء الرسوم يأخذون خلفًا عن سلفٍ إلى يوم القيامة، فيبعد النسب؛ والأولياء يأخذون عن الله...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 99. بينما نعثر على كلامٍ لشيخٍ آخر من هذه الطائفة؛ وهو أيضًا خالدي المشرب اسمه أحمد بن أحمد بن خليل البقاعي في كتابه "رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة". يدلّ كلامه صراحة على أنّه لا يعبأ بمحي الدين بن عربي، وكأنّه يستهزيء به. فهذه كلماته بالضبط، يمدح بها مشائخ الطريقة النقشبنديّة فيقول: »ورفيع همّتهم يرفع المريدَ من حضيض الإمكان إلى ذروة الوجوب، ويجعلون الأحوال والمواجيد تابعةً لأحكام الشريعةِ، والأذواقَ والمعارفَ خادمةً للعلوم الدينية؛ و لا يستبدلون الجواهر النفيسة الشرعيةَ بجوز الوجد وزبيب الحال مثل الأطفال، و لا يغترون بترّهات الصوفيّة، ولا يفتتنون بها، و لا ينزلون بها من النصّ إلى الفصّ؛ ولا من الفتوحات المدنية إلى الفتوحات المكّية«. أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 30-31. مخطوطة(66/466)
(مصوّرة) ضمن مجموعة الزمرد العنقاء؛ إسبارطة 1249هـ./1832م. TDV. ?SAM. 297.7 N?M. Z. 46644 يشير بذلك إلى كتب ابن عربي، في الحين الّذي هو بالذات يتعارض مع نفسه بهذه العبارات!
***
ومن التعارض الشديد في معتقدات النقشبنديّين، أنهم قد سنّوا آدابًا معيّنةً فاشترطوا الوصولَ إلى الله بمراعاة تلك الآداب والسلوك على أساسها برياضاتٍ شاقّةٍ. ومع ذلك وقعوا موقع المصدّقين لمحي الدين بن عربي وأمثاله الوجوديين »بأنّ كلّ شيء جزء من الله« وحتّى »أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماءِ المحدثات.« محي الدين بن عربي فصوص الحكم ص/ 76، 77. (نقلا من كتاب؛ الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 83. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية). راجع الهامش رقم/222.
فما دام كلُّ شيءٍ في هذا الكون جزءًا من الله، ولا يحتاج الأمر للوصول إليه بأيّ محاولة، لماذا يفرضون على أنفسهم تلك الآداب والرياضات، ويتكبّدون الشدائدَ بالجوع والسهر وترديد الأوراد بأعداد هائلة، ويقضون معظم حياتهم في قيود (هوش دردم، ونظر برقدم وسفر دروطن...)؟ نعم إذا كان كلّ واحد منهم جزءًا من الله، - على حسب ما يدّعيه ابن عربي ويصدّقه النقشبنديّون -؛ لماذا يعذّبون أنفسهم بهذا القدر من مجاهداتٍ ورياضاتٍ يوغيةٍ ليتمكّنوا بها من الوصول إلى الله؟ أليس ذلك تكذيبًا لمحي الدين بن عربي وتناقضًا غريبًا يتخبّط فيه النقشبنديّون مع أنفسهم بالذات؟
كذلك من تناقضات النقشبنديّين في الوقت ذاته تشبّثهم بالرسالة النسَفِيَّةِ وشرحها للتفتازانيِّ في تدريس العقائد، وهي رسالة مقبولة مستمدّة من روح الكتاب والسنّة؛ في الحين الّذي يعظّمون محي الدين بن عربي وحسين بن منصور الحلاج وأمثالَهما من الوجوديّين والحلوليّين؛ فَشَتَّانَ ما بين عقيدة عمر النسفي وعقيدة محي الدين بن عربي!(66/467)
ومن مناقضاتهم أيضًا: قال عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في ترجمة يوسف الهمدانيّ، »أدركتْه الوفاةُ فدفن بها (يقصد مدفنَه، وهي قرية باميين في أفغانستان). ثم بعد حين نُقِلت جثّتُهُ الشريفةُ إلى مَرْو.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 108. القاهرة - 1308 هـ. وهي مدينة في تركستان.
إن كانت هذه العبارات تدلّ على حقيقة، فما أقواها برهانًا على مخالفة النقشبنديّين لأحكام الجنائز والموتى في الفقه الإسلاميِّ، وتناقضهم مع أنفسهم، إذ يدّعون في كلِّ مناسبةٍ إلتزامَهم بالشريعة الإسلامية وتمسّكَهُمْ بالعزيمة دون الرخصة؛ ولا يرون مع ذلك بأسًا من نقل رفاة ميّتٍ لهم، على الرغم من مخالفته لآراء جمهور المجتهدين.
إنّ أسلوبَ عبد المجيد الخانيّ في كلماته المنقولة آنفًا ينبئ بكلِّ صراحةٍ: أنَّ نقلَ الجثمان بعد الدفن، ونَقْلَ الرفاةِ، يجوز في اعتقاد النقشبنديّين من غير كراهةٍ، بِغضِّ النظر عما لو كان هذا الخبرُ زعمًا صرفًا لا أصل له، أو توافقًا وصدفةً ليس للواضع علمٌ بحقيقته. كذلك ثَمَّ دلائلُ قاطعةٌ أخرى على استباحة النقشبنديّين نقلَ الرفاةِ. منها، قيام الكُفْرَويّين بنقلِ رُفاةِ كبيرهم عبد الباقي أفندي من منفاه إسطنبول، إلى مدينة بدليس بعد موته بمدّةٍ تزيد على أربعين عامًا، وذلك بناءً على موافقة ابنه قسيم الكُفْرَويّ؛ ومنها، قيام الأسرة الأرواسية بنقل رفاة الشيخ شهاب الدين وأقاربة من مدينة بدليس إلى قرية غَيْدَةَ بنواحي قصبة حيزان، وذلك بعد تنفيذ حكم الإعدام فيهم بمدّةٍ تزيد على خمسة وأربعين عامًا.
ولذا، نجد مناقضةً صريحةً قد وقع فيها النقشبنديّون في كلِّ هذه الأعمال، وقد تضاعفت وتأكّدت وانحدرت عليهم بمسئوليات أخلاقية رهيبة!
***(66/468)
كذلك من مناقضاتهم مع أنفسهم، أنهم ينسبون أنواع الكرامات والعلوم والمعارف إلى شيوخهم وأوليائهم، مع ذلك لا علم لهم ولا لجميع مشائخهم المعاصرين بما استقى أسلافهم من البرهمية والشامانية وغيرهما من معتقدات شتّى، ولا حتّى يعلمون شيئًا حول هذه الأديان. ولربما لم يسمع أحد من شيوخهم المعاصرين، خاصّة الّذين في المنطقة الكرديّة اسمًا من أسماء الديانات الهندية الّتي انتقلت معظم آدابها إلى طريقتهم!
ومن هذه الأمثلة: يقول النقشبنديّون أنه »من لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان« راجع الهامش رقم/53. ولكنّهم لا يقصدون بكلمة "المرشد" في هذه المقولة الأساتذةَ الّذين يدرّسون القرآنَ والفقهَ والحديثَ؛ أو الطبَّ والحسابَ والهيئةَ والتاريخ وما إلى ذلك من علوم عقلية ونقلية بآدابها وشروطها. بل قصدهم من ذلك، هو إقناعُ كلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دعوتُهم أن يستسلم لهم مطلقًا، على أن يسلّم لأحدهم عِنانَهُ ثم يتعلّم منه آدابَ الطريقة، ويسير على نهجهم. ومع هذا، يرون من الواجب على كلِّ من يريد الانخراط في سلكهم، أن يتأكّد من أمره أوّلاً بالاستخارة عما إذا كان دخوله في الطريقة خيرًا في حقّه أم لا. لمزيد من المعرفة حول اعتقاد النقشبنديّين فيما يتعلق بالاستخارة، راجع المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 22. (مجموعة الزمرد العنقاء)؛ TDV. ?SAM. 297.7 N?M. Z. 46644
* أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المبدأ والمعاد ص/ 15؛
* عبد الله الدهلويّ، المكاتيب الشريفة، مكتوب رقم/34.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 33. إسطنبول-1994م.(66/469)
و لا شكّ أنّ تخييرهم لطالب الطريقة بهذه الصورة يتعارض (في اعتقادهم) بوجوب اتخاذ الشيخ على كلّ فرد من أفراد الناس بدون استثناء. فقد وقعوا بذلك في تلفيق شديد؛ فضلاً عن أنّهم قد حرّفوا معنى الاستخارة بعلم الله في الأمور المشروعة، و بدّلوه بالتكهُّن، مع أنّ الكَهَانَةَ محرّم في الإسلام. وهذا تلفيق آخر.
لأنّ الاستخارة، في الحقيقة هي طلب وجوه الخير والّتيسير والتوفيق من الله تعالى بالدعاء والتضرّع قبل الإقدام في الأمور المشروعة. وهو دعاء خاص كما ورد في صحيح البُخَاريّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا الاستخارةَ في الأمور كلّها كالسورة من القرآن. يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضةِ، ثم ليقل: أللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فانّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم. وأنت علام الغيوب. أللهمّ إن كنتَ تعلم أنّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري وآجله) فأقدره لي، ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه. و إن كنتَ تعلم أنّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري و آجله)؛ فاصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان. ثمّ رضّني به. قال ويسمّي حاجتَهُ.". البُخَاريّ، عن محمّد بن المنكدر عن جابر. رقم الحديث/5903 ولا يخفى أنّ المشروعية محدّدة بالمعالم والقيود المنصوصة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. و لا خيار للمسلم في أداء الفرائض. بل هو ملزَمٌ بأدائها. وأما قيامه بنافلة، فلا داعي له بالاستخارة في فعلها أو تركها. إذ أنّه يثاب على فعلها، ولأنّها أصلاً مطلوبة منه على الاستحباب وليس على الوجوب. وفي الإصرار على تركها مخالفة للرسول عليه الصلاة والسلام. فهذا أمر في منتهى البداهة. لذا خرجت أمور الصوفيّة وطقوسهم عن نطاق المشروعية. فهي ليست في حدّ ذاتها(66/470)
من الفرائض، ولا هي من السنن، ولا من المباحات. إذ لا نجد في نصوص الكتاب والسنّة أدنى إشارة إلى ما وصفه النقشبنديّون من الرابطة، والختم الخواجكانية، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على الصورة الفتوغرافية لشيخ الطريقة والتعبّد بالمصطلحات الفارسيّة (هوش دردم، و نظر برقدم، و سفر دروطن، وخلوت درأنجمن...إلخ.). بل هي أشكالٌ مختلفةٌ من التعَبُّدِ، اختلقها بعض المتحزلقة من أهل المكر والحيل، باستيحاء من الأديان الوثنية. ثم استحسنها وتقبّلها من كان قد نال محبةَ الناس وثقتَهم من جهلة النسّاك دون رويةٍ حتّى راجت وانتشرت بين طائفةٍ ممن تعلّموا شيئًا من مقدمات العلوم فاستعانوا به في الدفاع عنها بطريقة التنطّع والتشدّق، ثم تطوّر الأمر هكذا مع الزمان إلى أن اشتهر منهم شيوخ تهافتت عليهم جماهير الناس؛ فسُحِرتْ العيونُ و انبهرت العقولُ بعزّهم وإقبال الناس عليهم؛ فظنّ كل من وجدهم في تلك الأبّهة والعظمة أنه على حق في كل ما يقوله ويفعله.
وإلاَّ فانّ الأمور الّتي استحدثوها باسم الدين، فانهم بالذات يقاسون حرجًا شديدًا بسبب عجزهم عن إثباتها وإقامة أدنى دليل على الربط بينها وبين الدين الإسلاميِّ، على الرغم من محاولاتهم ودفاعهم وهجماتهم بشكل مستميت. كما أنها لا تُعَدُّ من شؤون الدنيا في الوقت ذاته. كالسفر والتجارة والبناء والزراعة والفنّ والدراسة و ما إليها. وهذا قد أوقعهم في تلفيقات، وأربكهم في مواجهة العلماء وأثارهم على أهل النصيحة والإصلاح؛ كما تشهد على ذلك مقالاتهم وكتاباتهم و حتّى أشعارهم الّتي تفور بالهجوم والاستنكار واللوم والعتاب على غيرهم.
***
ومن تلفيقات النقشبنديّين: فقد ورد في رسالة كتبها خالد البغداديّ إلى أتباعه في إسطنبول، يحذّرهم من مخالطة عبد الوهّاب السوسيّ - الّذي مر ذكره في ترجمة خالد البغداديّ - يقول فيها:(66/471)
»فالآن أخبركم بأنّي و جميع رجال السلسلة تبرّأنا من عبد الوهّاب. فهو مطرود عن الطريقة. فكلّ من تصادق معه لأجل الطريقة، فليترك مُصادقَتَهُ و مُكاتبَتَهُ. و إلاَّ فهو بريء من إمداد هذا الفقير و إمداد السادات الكرام. و لا أرضى أن يكاتبني، وأنْ يستمدَّ همّتي بعد وصول هذا المكتوب إليه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 233.
يتبرّأ البغداديّ من كلِّ من يكون على صلةٍ مع عبد الوهّاب السوسيّ بعد هذا الخطاب؛ كذلك يهدّد مريديه: بأنّ جميع رجال السلسة أيضًا يتبرّؤن ممن يخالف نهيَه فيما حذّرهم عنه. ومعنى ذلك أنه اتصل بساداته الّذين هم ثمانية وعشرون شخصًا؛ ومنهم من مات قبله بمئات السنين. وربما يصدّقه كثيرٌ من الناس في ادّعائه هذا! غير أنه لا يكتفي بالتبرّؤ؛ بل يهدّد مخاطبَهُ بأنّه بريء من إمداده وإمداد ساداته؛ أي أنّ من تمادىَ في اتصاله بعبد الوهّاب السوسيّ؛ حُرِمَ من إمداد البغداديّ وكذلك من إمداد الثمانية والعشرين شخصًا الّذين استخلف بعضهم بعضًا على منصب الرياسة للطريقة النقشبنديّة بدءًا من أبي بكر الصدّيق إلى شيخه غلام علي عبد الله الدهلويّ؛ و أنه لا يرضى من أحد أن يستمد همّتَه إذا دامت علاقته مع خصمه المذكور!
فقد يصدّقه أناس في ادعائه هذا أيضًا؛ ولكنّ خالدًا نفسَه بالذات، يقول في رسالةٍ أخرى كتبها إلى عبد الله باشا حاكم أيالة عكّا:
» أمّا بعد فقد بلغني مرسومكم الحاوي لشدّة الاعتقاد و المبالغة في الاستمداد لطلب الذرية لكم. أمّا الدعاء، فقد صدر مني مرارًا. وأمّا الهمّة، فلستُ من أهلها«.(66/472)
لا يخفى على القارئ ما يبدو من التعارض بين محتوى الرسالّتين في قضية "الهمّةِ". وهي اسم يُطْلَقُ على إسعافٍ يقوم به شيوخ الصوفيّة في لمح البصر لمن يطلب منهم المدد (حسب اعتقادهم)؛ ويقولون في هذه الفرية: أنّ الشيخ يُغيثُ مريدَهُ متى استغاثه، ولو كان بينهما بُعدَ المشرق والمغرب!
فقد وقع البغداديّ في تلفيق شديد عندما قال في آخر رسالته معتذرًا: »ولئن سُلِّمَ، فلا تُستعمل الهمّةُ إلاَّ بعد ظهور أنّ المطلوبَ قضاءٌ معَلَّقٌ، وإلى الآن ما تبيّن كون مطلوبنا كذلك، لعمى بصائرنا بسبب البدع والشبهات« أسعد الصاحب، بغية الواجد، ص/ 85، 86؛ عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، (تذكار الرجال)، ص/ 54. بغداد-1979م. مستنسخ من قِبَل مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)
يدل كلام البغداديّ على أنّه يحاول أن يتخلّص بلباقةٍ من سوء ظنّ المخاطب حتّى لا يقع موقع الرجل الكذاب عند من يعدُّه من »كبار أولياء الله«، ويعظّمه ويبجّله معتقدًا فيه أنه يعلم الغيب؛ فيتذرّع بكثرة البدع والشبهات، وأنها هي الأسباب الّتي حجبته عن الإطلاع على أسرار الله!(66/473)
لقد بلغت الجُرأةُ في هذا الرجل على رب العزّة إلى حدٍّ، يطرد من يشاء من رحمة الله؛ ويهدّد الناسَ أنّه يحرّمهم من مدده إذا استهانوا بما نهاهم عنه؛ ويدّعي في الوقت ذاته أنّ سادته أيضًا متفقون معه في تهديداته! - أولئك السادة الّذين لا علاقةَ لعددٍ منهم بالطريقة النقشبنديّة بوجه من الوجوه، و لا بالصوفيّة، و لا بشخص البغداديّ بقرينة خاصّة؛ كأبي بكر الصديق، وسلمان الفارسي، وقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وجعفر بن محمّد الباقر، وغيرهم - يدّعي البغداديّ أنّ رجال السلسلة جميعًا قد تبرّؤوا معه من عبد الوهّاب السوسيّ - أولئك الرجال الّذين لا برهان للبغداديِّ أصلاً على وجود كثير منهم، فضلاً عن أنّ البقية قد بَلِيَتْ رفاتُهم، ولا علم لأحدٍ بأرواحهم أين حُشِرت، والعلم عند الله. كذلك لا يدري أحد: من كان منهم سعيدًا، ومن كان منهم شقيًّا؛ وأيّهم مات على الكفر، و أيّهم مات على الإيمان. لا يعلم ذلك إلاّ الله الواحد القهار.
بالخلاصة، فانّ هذا الرجل يرى نفسَه قائمًا على منصب النيابة عن الله، كما يظهر من عباراته. ويرى أنه قادر على أنْ يهب لعبد الله باشا ولدًا، (ولكنه لا يريد أن يستعمل همّتَهُ إلاَّ بعد ظهور المطلوب عما إذا كان قضاءًا معلّقًا). أي أن المطلوبَ لم يظهر له بعد، لو كان يتحقّق بشرط معيَّنٍ حتّى يُنَفِّذَ المشروطَ فور وجود الشرط.
يظهر لنا خلال هذا النسيج الملبّد من تلافيف الادّعاء والزندقة، أنّ التعارض والتلفيق الّذي وقع فيه البغداديّ في إطلاقه عَبْرَ هذه العبارات، لا ينحصر في وجه معيَّنٍ، بل يتعدّد متضاعفًا على وجوهٍ مختلفةٍ قد يُشغِل الباحثَ إذا دخل في تفاصيلها.(66/474)
تدعو المناسبة أن نذكر في هذا المعرض كلمات قد سجّلها معصوم الفاروقيّ في مسألة "القيّومية" إذ يقول »القيوم في هذا العالم، خليفة الله تعالى، ونائب منابه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 192.
ولهذا ليس من الغريب أن يكون خالد البغداديّ قد نصب نفسَه على عرش النيابة عن رب العالمين، ليطرد من يشاء من الناس من رحمة الله، و ليُمِدَّ من استغاث به في لمح البصر و لو كان هو في المشرق والمستغيث في المغرب؛ كما ليس من الغريب أن يسيطر بأسلوبه الخاصّ على ضمير من غلبت عاطفتُهُ على عقله، متى استحسَّ البغداديُّ الحرجَ في إقناعه؛ كما مرَّ في جوابه لحاكم عكّا: أنه لا ينبغي أنْ يستعمل همّتَهُ، فيهب له غلامًا زكيًّا، إلاّ بعد أنْ يطلع على اللّوح المحفوظ، هل هناك احتمالٌ يبشّر بتحقيق مطلوب حضرة الباشا أم لا (!)
ومن تلفيقات النقشبنديّين وخلطهم، قولُ البغداديِّ: »ولا تزيدوا التكايا عمّا في عهدي«. محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 334. دار الفكر المعاصر؛ بيروت.
TDV.ISAM. 922.97 HAF.T. 29819-1 Istanbul
أوصى خالد البغداديّ خلفاءه بهذه الكلمات وقد اجتمعوا عنده لعيادته وهو على فراش الموت يترقّب منيَّتَهُ يوم أصيب بالطاعون. بينما التكيّةُ هي مركز الصوفيّة، ومكان اجتماعهم، ومعبدهم الّذي يقيمون فيه طقوسَهم، ويبثّون منه دعوتَهم. فكلّما ازداد انتشارهم بنوا تكايا أخرى في المناطق الّتي تخلو عنها، ليقوموا فيها بنشاطاتهم سدًّا للحاجة. وهي في نظامهم بمنزلة المسجد عند المسلمين.(66/475)
لذا يُستغرَبُ جدًّا أن يمنع خالدٌ البغداديّ خلفاءه من الإكثار من بناء التكايا وهو في آخر لحظاته من هذه الدنيا. نعم يُستَغرَبُ كلامُهُ هذا، لِتَعَارُضِهِ مع المقصود الذي يسعى النقشبنديّون من وراء تحقيقه سعيًا حثيثًا. وقد أعرب عن هذه الغاية خليفتُهُ محمّد بن عبد الله الخانيّ بقوله: »لأنّ هذه الطريقة هي الملامية المناسبة لما يكون عليه من الصحو الصدّيقي، و الرجوع إلى البقاء الأتمّ الحقيقي، بدعوة الخلق وهدايتهم إلى الحق برياستي الظاهر والباطن، وفتح القلاع والمواطن«. لمزيد من المعرفة حول تحليل هذه المقولة راجع الموضوع عن طريق الهامش رقم/457.
إذًا فما عسى هي الحكمة من هذه الوصية الّتي تدلّ على التراجع والانسحاب من ميدان الدعوة؟! هل تعني أنّ البغداديّ شعر بالندامة في لحظاته الأخيرة من حياته، و ثاب إليه رشده فتأكّد من خطر ما اقترف على الإسلام وما شارك في تدمير أركانه بنشر طقوس البرهمية وتعاليم اليوغية الّتي جاء بها من الهند، ونفخها في عقول الآلاف من البسطاء الّذين كانوا يعدّون أنفسهم من المسلمين؛ أم في تلك الوصية الغريبة أسرار أخرى تعجز عن دركها عقولنا اليوم! لا شكّ من أنها سوف تُفشى على رؤوس الأشهاد يوم التلاق.
***
و من التنازع والتضارب الّذي وقع بين أقوال النقشبنديّين وأفعالهم: أنهم على الرغم من اشتراطهم الخشوعَ والصمتَ أثناء الذكر، فانّ كثيرًا من مريديهم ودراويشهم يَنِطُّونَ فجأةً من مقاعدهم، وتَرْجُفُ أبدانُهم، وتتصاعد من حناجرهم أصواتٌ غريبةٌ بَشِعَةٌ، تختلف بين شَخِيرٍ وزَئِيرٍ وخُوَارٍ و عُوَاءٍ وصَهِيلٍ ونَهِيقٍ ونُعاقٍ وغيرها حتّى وهم يصلّون. بينما يسكت عن هذا اللغط ويتغاضى عنه شيوخهم، مع أنهم يشدّدون على لزوم الصمت والهدوء في جميع الأحوال، كما يؤكّد على ذلك ما جاء في آدابهم من أنّ الذكر القلبيَّ أولى وأفضل من الذكر باللسان.(66/476)
كذلك جاء في موسوعةٍ لهم: أنّ أحمد الفاروقيّ الّذي يعظّمونه بعنوان »الربّانيّ«، ورد فيه أنّه »كان صامتًا في غالب أوقاته مع جلسائه، و لم يكن أحد من المسلمين يُغْتاب في مجلسه، و لا يُذْكَرُ من عيبٍ فيها لأحدٍ. وتلاميذه كانوا يجلسون عنده في غايةٍ من الخشوع والأدب. و كان هو في منتهى الدرجة من التمكُّن والهدوء إلى حدٍّ من التأثير على تلاميذه، أنْ جعلهم يمتازون بالسكينة؛ على الرغم من حلمه المتزايد؛ كما لم يصدر منه أيضًا شيء من الوجد والصراخ؛ و لا حتّى أثرٌ من تأوُّهٍ بصوتٍ يُسمع«. عرّبناه من اللّغة التركية من ترجمة أحمد الفاروقيّ بعد الاقتباس من:?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/341
تتميّز بتلك الحالات الغريبة خاصّة فرقةٌ منهم في جنوب شرق تركيا. لهم مقرٌّ بقرب مدينة آديامان. قيل اعتذر شيخهم مرارًا عما تصدر من مريديه من حالات الاضطراب أثناء صلاة الجماعة والحفلات والطقوس. وزعم أنها حالات تعرض لهم دونما اختيار منهم. ولكن الحقيقة غير ذلك. فالواقع، أنّ هناك جماعة مدسوسة بينهم من رجال المخابرات، هم مكلّفون بأعمال الدعاية لهذا الشيخ. ومنهم عدد، مهمّتُهم التواجُدُ، والتباكي، والتظاهر بتلك الأصوات الغريبة لتهييج الرعاع السذّج من الزائرين، وإثارة الشوق فيهم، على أنّ لهذا الشيخ تأثيًار عظيمًا في قلوب الناس، والشيخ متواطئ في الحقيقة معهم.(66/477)
و أمّا التأكّد من هذه الحيلة، فليس فيه شيء من الصعوبة على الباحث اللّبق المتفتح. ذلك أنّ الّذين يحتفون بهذا الشيخ خاصّة، يمتازون عن بقية طبقات الناس في تركيا بعقليتهم البسيطة، ويعانون من الفقر العلميِّ والثقافيِّ لأنّ غالبهم من أهل الريف، ومن الطبقة المتواضعة المستضعَفَةِ من سكّان الأكواخ بأطراف المدن. أمّا الرجال المدسوسون في صفوفهم، المكلَّفون بنشاطاتٍ دعائيةٍ، الّذين يقوم عددٌ منهم بإثارة المشاعر، واجتذابها بتلك الأصوات الغريبة. كلهم مثقّفون. منهم عدد من الضباط المتقاعدين المتخصّصين في استراتيجية التوجيه والإثارة والتكييف لتسهيل الاستغلال، و فيهم أيضًا عدد من الموظّفين المدنيّين وعدد من المهنيّين.
***
ومن تلفيقات النقشبنديّين، ما وقع بين أقوالهم و أفعالهم من خلاف وتعارض و تناقض: وَرَدَ أيضاً في نفس الموسوعة الّتي مرّ ذكرها آنفًا، أنّ الشيخ طه الهكّاريّ أخطر أصحابَه بأنّه غير موافق على عمل البناء فوق القبور. ونهاهم عن الإقدام على إقامة أيّ بناء فوق مرقده إذا مات. المصدر السابق، 18/253. و مع هذا نجد الكثيرين منهم يتسابقون في إقامة الأبنية على ضرائح شيوخهم. وعلى سبيل المثال فقد بُنيتْ قبّةٌ عملاقةٌ فخمة على قبر الشيخ محمّد الكُفْرَويّ بمدينة بدليس. وهو خليفة الشيخ طه الهكّاريّ الّذي نهى عن البناء على القبور. كذلك بُنيت قبةٌ عظيمةٌ فوق ضريح الشيخ محمّد الحزين الحسني الهاشمي بقرية فُرساف، من ضواحي مدينة سعرد. وهو قريب الشيخ طه الهكاري في النسب وقرينه في المشرب؛ وقبة على قبر نجله الشيخ فخر الدين في قرية أربنة بالمنطقة نفسها. وثَمَّ قبور أخرى لمشائخ النقشبنديّة في مناطق مختلفة من البلاد، مبنية ومزخرفة، يتوافد عليها جموع من الزائرين باستمرار.(66/478)
ومن تلفيقات شيوخ النقشبنديّة، أنهم ينصحون أتباعهم دائماً بمراعاة جانب التواضع والعفّة واللّين والتذلّل، وهم في عكس ذلك من الأبّهة، والإكثار من الخدم والحشم؛ مما يدلّ على حبهم للشهرة والرياسة؛ ويؤكّد على ذلك ما جاء في كتبهم من المبالغة والغلوِّ والإفراط في تعظيم الخلف للسّلف؛ ولكنّ بشاعة الحيلة في تلك العبارات تظهر بثبوت تواطؤهم عليها
وكمثال على ذلك: يسترسل محمّد بن سليمان البغداديّ في مدح شيخه (خالد البغداديّ)، فيقول: »هو (...) العالم العلاّمة، والعَلَمُ الفهَّامة، مالك أزمّة المنطوق والمفهوم، ذو اليد الطولى في العلوم، من صرفٍ ونحوٍ وفقهٍ ومنطقٍ ووضع ٍوعروضٍ ومناظرةٍ وبلاغةٍ وبديعٍ وحكمةٍ وكلامٍ وأصولٍ وحسابٍ وهندسةٍ واصطرلابٍ وهيئةٍ وحديثٍ وتصوّف...« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 42. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
يبدو أنّ محمدا بن سليمان البغداديَّ لم يتعرّف بعدُ على أسماءِ أهمِّ العلومِ العقليةِ من طبٍّ واقتصادٍ واجتماعٍ وتاريخٍ وجغرافيةٍ وفيزياءٍ وكيمياءٍ وغيرها من الأساسيات، ليضمّها إلى ما ذكر من العلوم التمهيدية، أو لم يفطن أصلاً إلى أنّ الأساسيّات هي من أشرف العلوم؛ فرآها مما تحطّ من شأن زعيمه، فاكتفى بما هو مقبول في مظنة أهل عصره، ذلك مبلغه من العلم!
يواصل المؤلف امتداحه لشيخه في مواطن عديدة من حديقته، فيقول في مقطع أخر:(66/479)
»بشّره شيخه ببشارات كشفية قد تحقّقت بالعيان، وحلَّ منه محلّ إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم؛ فلم تكتمل عليه السَّنَةُ حتّى صار الفردَ الكاملَ العلمَ، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل الأعظم، (...) وشهد له شيخه عند أصحابه، وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء الأتمّين المعروفين عند الأولياء...« المصدر السابق ص/ 53، 54.
نعم لقد تظهر الحيلة أمام عيوننا بكلّ وضوح على أنهما متواطئان ومشاركان في صياغة هذه العبارات بالدليل القاطع من خلال كلمات محمّد بن عبد الله الخانيّ في مقدّمة كتابه البهجة السنيّة، وهذه ألفاظه:
»وأحسن كتاب أُلّفَ في بيان طريقتنا الخالدية النقشبنديّة (...)، كتاب الحديقة الندية الّذي ألّفه العالم العلاّمة والحبر البحر الفهَّامة، سيدي الشيخ محمّد بن سليمان البغداديّ الخالدي النقشبنديّ. لأنه ألّفه في حياة جناب حضرة سيدنا ومولانا قطب العارفين، وغوث الواصلين، أبي البهاء، ضياء الحق والحقيقة والدين، شيخنا ومرشدنا الشيخ خالد النقشبنديّ المجددي (...)؛ حتّى أنه مرة سألني:
ـ ما تقرأ للمريدين؟
فقلت: كتاب الحديقة الندية.
فقال: هل هي فصيحة العبارة؟
فقلت: لا يكون في الدنيا أفصح منها.
فقال: كلّها من عبارتي.
فتحقّق عندي أنه يجمع العبارات، والشيخ محمّد بن سليمان يرقمها ويعزوها لنفسه.« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3.(66/480)
ومن تلفيقات النقشبنديّين، كلمات لمحمد بن سليمان البغداديّ أيضًا، يقول فيها: »وبلغنا أن الإمام الشافعيَّ رضي الله عنه، كان يجالس الصوفيّة كثيرًا؛ ويقول يحتاج الفقيه إلى معرفة اصطلاح الصوفيّة، ليفيدوه من العلم ما لم يكن عنده.« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 23. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992. بينما جاء في تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي عكس ما ورد في العبارات المنقولة آنفًا. فيقول ابن الجوزي: »وبإسناد عن يونس بن عبد الأعلى، قال سمعتُ الشافعيَّ يقول: "لو أنّ رجلاً تصوّفَ أوّلَ النهار، لا يأتي الظهر حتّى يصير أحمق لعل بُغْضُ الأتراك للشافعيين، ناشئ من قول الشافعي هذا. وهناك سبب آخر لهذه الكراهية: وهو أنّ غالب الشافعيين في تركيا هم عناصر كردية وعربية؛ أما الأتراك، فانهم يستوحشون من غير بني جلدتهم. وكذلك الأفغانيون المتعصبون لمذهب أبي حنيفة، يستقذرون الشافعية ويعدّونهم من الأنجاس! هذا على الرغم من أنّ غالب سكان تركيا وأفغانستان ـ سواء الشافعية منهم والأحناف ـ ينتمون إلى طرق صوفية؛ بل وأكثرهم نقشبنديون! وما أدل هذا الفوضى على جهل الأعجام الّذين لم يتذوقوا حلاوة الإيمان، ولا أصابوا بحظّ من الذوق السليم والإحساس بجمال الإسلام وعظمته وفهم حقائقه من قديم الزمان. وعنه أيضًا أنه قال: "ما لزم أحد الصوفيّة أربعين يومًا فعاد عقله إليه أبدًأ.« * أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تلبيس إبليس ص/ 371. مكتبة الشرق الجديد، بغداد بلا تاريخ. فلابد وأنّ أحدَهما صادقٌ والآخرَ كاذبٌ فيما نَسَبَ كلُّ واحدٍ منهما إلى الإمام الشافعي من ألفاظٍ نقلناها آنفًا. ولكنّ ابنَ الجوزيَّ الّذي تُوُفِّيَ عام 597 من الهجرة، هو أقدم من محمّد بن سليمان البغداديّ الّذي توفّي سنة 1234هـ. و بالتالي هو أقرب إلى الصواب في دعواه ،باعتبار أنه عالم معتَبَرٌ ومعترَفٌ به بين سائر(66/481)
علماء الإسلام منذ عهده إلى اليوم. وهناك تلفيقات أخرى مرتبطة بهذا، تضاعف ما وقع فيه النقشبنديّون من التعارضِ مع أنفسهم، والارتباكِ الشديدِ الّذي انزلقت به أقدامهم. ذلك أنهم يعظّمون أبا الفرج، ويعترفون بفضله. ولا يُتَوَقَّع أن يرميه أحدهم بالكذب. والدليل على ذلك ترجمته الواردة في موسوعة النقشبنديّين. فقد أطنب الكاتب في عدّ فضائله؛ ونقل عنه أنه خطَّ بيمينه أسفارًا يبلغ عددها ألفين؛ وأنه أسلم على يده من اليهود والنصارى أكثر من عشرين ألف شخص. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 6/180
ولهذا فان النقشبنديّين الّذين يوافقون محمدًا بن سليمان البغداديّ، كلهم مسئولون عما قد نَسَبَ إلى الشافعي من تلك الألفاظ المنقولة في كتابه الحديقة الندية؛ وكذلك مسئولون عن إثبات الصحة لهذا الإسناد حتّى يتميّز الصادق من الكاذب؛ وإلاّ وقعوا معه موقع المشارك فيما قال. وأما الّذين لا يوافقونه فانهم يكذبونه حكمًا، ويكون موقفهم في مقام الإعلان بتكذيب شيخ من كبار الروحانيين في الطريقة الّتي يشملهم الانتساب إليها معه، وبالتالي يكذبون أنفسهم في الوقت ذاته. وهذا تلفيق شنيع تَدْهَشُ منه العقول!
***
ومن تلفيقاتهم؛ كلمةٌ قالها أحمد الفاروقيّ تحديثًا عن رأيه وعقيدته في مسألةِ وحدةِ الوجودِ. قال: »ثمّ وجدتُهُ تعالى في الأشياءِ، بل في نفسي«؛ بعد أن قال »وجدتُ اللهَ عين الأشياءِ« راجع الهامش/210، 428.
فإنَّ كلمةَ "تعالى" الواردة في عبارته على سبيل التنزيه لله، تتعارض مع ما يعتقده بأنّ الله عينُ كلّ شيءٍ. لأنّ الله سبحانه إذا كان عينَ كلِّ شيءٍ في اعتقاد الفاروقيّ، فليس "كلُّ شيءٍ" يستحقُّ التنزيهَ من النواقص. إذ يشتملُ تعبير "كلُّ شيءٍ" على الشريف والخسيس؛ وعلى الطاهر والنجس، وعلى الكلبِ والخنزيرِ اشتمالاً عامٍّا؛ وبالتالي تكون الأقذارُ والنجاسات والقمامة وحتّى الكلابُ والوحوش بتمامها من جملة "كل شيءٍ".(66/482)
إذن فما عسى الحكمة من استعمال الفاروقيّ كلمة "تعالى" إذا كان قد أراد بها أن ينزّه الله عن النواقص فيميّزه عن سائر خلقه بهذه الصيغة الملفّقة؟!
ومن التعارض الّذي يتخبّط فيه النقشبنديّون، مناقشتُهم حول جواز أكل اللحم.
لقد وردت في إحدى رسائل خالد البغداديّ عبارةٌ استفهاميةٌ على سبيل الإنكار يردّ بها على من يعتقد أو يتوهّم حرمةَ أكل اللحم.
يقول البغداديّ فيها باللّغة الفارسيّة:
»آيا كدام كتاب ديده اند كه بيغمبر خدا - صلى الله عليه وسلم - كوشت نخورده، و يا أز خوردنش نهي فرموده باشند؟!« عبد الكريم المدرس, منشورات المجمع العلمي الكرماني - تذكار الرجال - الجزء الأول ص/26. (الصورة المستنسخة من قبل مكتبة الحقيقة، والمطبوعة مع رسالة المجد التالد ومكاتيب شريفة ضمن مجلد واحد). إسطنبول-1992م.
ومعناه بالعربية:
»ويحك! في أي كتاب شاهدوا أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل اللحم، أو نهى عن أكله؟!«
قد يتراءى للقارئ في هذا الاستنكار الحماسيِّ أنّ خالدًا يردّ على متطرّفٍ يحرّم ما قد أحلّه الله. ولكن الحقيقةَ غامضةٌ في هذا الحوار. إذ قد يكون خالدٌ يستعمل لباقتَه في مثل هذه العبارة ليُزيلَ الشكُوكَ حول ما تتناقله اللُّسُنُ من آثار الديانة البوذية في سلوك بعض الروحانيين السابقين من شيوخ النقشبنديّة مثل كراهية أكل اللحم وغيرها.
ومن أشد نماذج الخلاف والتعارض بين أقوال النقشبنديّين و أفعالهم: أنهم في الوقت الّذي يتبرءون من البدع ويستبشعونها ويحذّرون منها حتّى أحيانًا بدون مناسبة؛ تراهم يتعبّدون بأشكال غريبة لا تمتُّ إلى الإسلام بأدنى صِلَةٍ، كما سبق شرحها بالتفصيل. ومع هذا يأتون ببدعٍ أخرى غريبة، بحيث يختلفون فيها حتّى مع بعضهم البعض.(66/483)
منها أنّ طائفةً من هذه النحلة بمدينة سعرد، إذا مات شيخٌ من شيوخهم ضربوا على الدفوف أمام جِنَازَتِهِ أثناء التشييع من المصلّى إلى المقبرةِ. وآخِرُ مَنْ أُقيمت هذه الحفلة أثناء تشييع جنازته، الشيخ محمّد موسى الكاظم الحزيني. وهو من أحفاد الشيخ محمّد الحزين الفُرسافي الهاشمي رثاه بعض مريديه بهذه الكلمات:
زر ذا المقام ففيه شيخ كامل من في الكروب لنا عليه معول * نجل الحزين الشيخ محمّد كاظم من فضله في الناس ليس يجهل
وتأدّبن بحضوره وتوسّلن به فالتوسل عند ربه يقبل * يا ربنا غمده منك برحمة واجعل له الجنات فيها يرفل
فلنعمما قد جاء في تاريخ قبته الشريفة إذ نزان فتكمل * واجعل مكانه ربنا الفردوس في دار البقاء يأوي إليه ويجزل.
والغريب، أنّ البقية من شيوخ هذه الطريقة لا يوافقونهم على هذه البدعة. بل الغالب من أولئك يجهلونها تمامًا، ولا علم لهم بهذه العادة، لخمولِهِمْ وانعزالِهِمْ وسوءِ مستواهم الاجتماعي، وقلة اهتمامهم بما يجري حتّى في بعض المناطق من بلادهم. و لو أنّ شيوخ الأتراك النقشبنديّين، بلغهم خبر هذه البدعة لربما اتهموهم بالكفر والزندقة. وهذا ايضًا يدلّ على الشقة البعيدة بين جماعات النقشبنديّين، وعلى مدى التعارض والتناقض بين عاداتهم واتجاهاتهم و معتقَداتهم.
إنّ هذه البدعة تبرهن في حدِّ ذاتها على مخالفةٍ أخرى يقترفونها ضمنيًّا. وذلك لابد أنهم يعتقدون بفضل الشيخ على سائر الناس، وأنه أكرمهم عند الله رجمًا بالغيب؛ فيرونه مستحقًّا للتعظيم بشكل مخصوص حتّى بعد موته. وهو القيام بإجراء الحفلة الخاصّة للتشييع، والضرب على الدفوف من المصلّى إلى المقبرة. فانّ توقيرَ جموع المريدين وتعظيمَهم لشيوخهم بهذه الصورة خاصّةً، يدلّ دلالةً قطعيةً على هذا الاعتقاد الّذي يُنْبئ عن دعوى بعضهم أنه يعلم من هو أكرم عند الله، وإنْ لم يفصح عن هذه الحقيقة احترازًا من ردِّ فعلٍ قد يصطدم به.(66/484)
كذلك ثمة بدعة أخرى يمارسها النقشبنديّون الأكراد في المنطقة الشرقية، بينما يجهلها النقشبنديّون الأتراك. إذ لا يمكن أن يسكتوا عنها لو قرع خبرُها سمعَهم. ألا وهى أنّ شيوخ النقشبنديّة في المنطقة الكرديّة يستعملون الدخان داخل المساجد على غرار الرافضة الإيرانيّين؛ وربما بتأثير الجوار. هذه العادة كانت منتشرةً في القرى دون المدن حتّى السنين الأخيرة. لأنّ الرقابة كانت مقتصرة على المساجد في المدن. وكان أهالي القرى يخضعون لهيمنة شيوخ هذه الطائفة. فلم يملك هناك أحدٌ جرأة الاعتراض عليهم بحكم الظروف. إلاّ أن البدعة المذكورة قد اختفت في معظم أنحاء المنطقة بعد سهولة الرقابة عليها.
يتضح من خلال هذه الأمثلة الّتي هي قطرة من بحر، أنّ التلفيق والتعارض والتضارب الّذي تتمرّغ فيها الطائفة النقشبنديّة لا حصر لها في واقع الأمر.
***
* أمثلة من معاداةِ النقشبنديّين فيما بينهم، ومُنَاهَضَتِهِمْ وتَبَاغُضِهِمْ وتَشْنِيعِ بَعْضِهِم البعض...
لقد وقع النزاع والمنافرة بين كثير من شيوخ هذه الطائفة قديماً وحديثًا؛ فضلاً عما قد جرتْ بين متأخريهم والمعاصرين منهم من مشاحنات ومشاتمات يعفّ اللسان عن نقلها. وإنّما طرقنا هذا الجانب من سلوكهم لعلاقته الحميّة بهذه الدراسة من باب التكملة، وليكون عبرة لأؤلي الألباب. فغدتْ براهينَ قاطعةً، على أن الصورةَ الحقيقيةَ لغالب مشائخ هذه النحلة تتوارى خلفَ صورةٍ عابرةٍ، تظهرُ للناسِ لطيفةً، نورانيةً مُشرقةً على خلاف الواقع تمامًا.
كذلك استفزازاتُهُمْ وهجماتُهُمْ على المعترضين بإطلاق صفة "المُنْكِرِ" على كلّ مَنْ ينصحهم أو يحذِّرُ المسلمين من البدع؛ واعتداؤُهُمْ على المعارضين بإحراق مؤلَّفاتهم، تدلّ على الحقد الّذي يُضمرونه لمن لا يستسلم لهم.(66/485)
لقد مرّتْ في ترجمة خالد البغداديّ نُبْذَةٌ من قصّته مع زميله أو خليفته عبد الوهّاب السوسيّ الّذي كان هو الآخرُ نقشبنديَ المشرَبِ، مأذونًا من غلام على عبد الله الدهلويّ. ولكن لا ندري ما الّذي جعله ينوب عن خالد البغداديّ في بثِّ طريقته حتّى اندلعتْ بينهما معركةٌ ضارية انتهت بتدخُّل السلطان العثمانيّ وحُكْمِهِ على عبد الوهّاب السوسيّ بالإقامة الجبرية في المدينة المنورة. ولكن الّذي يدل على مدى حقد النقشبنديّين على بعضهم البعض في هذه الحرب الشعواء، هو عاقبة تلك الرسالة الّتي يزعمها الخالديّون أنّ عبد الوهّاب السوسيّ كتبها واتَّهَمَ فيها خالدًا بالشعوذة والكفر والزندقة.
إذًا لم تقتصر مناهضةُ البغداديّ للسّوسيِّ على تلك الرسائل الثلاثة الّتي بعثها إلى مريديه بإسطنبول، والّتي حذّرهم فيها من مخالطته. بل يبدو أنّ تلك الهجمات بلغتْ من الشدة إلى حدٍّ دفعتْ الخالديّين ليسحقوا بالسوسيِّ فيجعلوه هشيمًا تذروه الرياح. والله يعلم ماذا فعلوا به وبكلّ ما كتبه؛ ولربما دمّروا قبرَه بفرصةٍ ملكوها فور موته، قبل أن يدمِّره الوهّابيّون! بينما قبرُ خالد البغداديّ مشيَّدةٌ "في سفح قاسيون" بدمشق، يزوره كثير من النقشبنديّين.
ولكن الّذي يجب أن نقوله في النهاية: هو أنّنا لم نعثر حتّى على حرف واحد من رسالة عبد الوهّاب السوسيّ، رغم ما بذلْنا من جهود بالغة طوال مدةٍ أكثر من خمسة أعوام نطارد ورائها بسعيٍ دؤبٍ من مكتبةٍ إلى أخرى في بلدان الشرق الأوسط، إلاّ السطور اليسيرة الّتي نقلها ابن عابدين ضمن رسالته "سل الحسام الهنديّ لنصرة مولانا خالد النقشبنديّ" محمّد أمين عابدين، سل الحسام الهنديّ...ص/ 5.(66/486)
كذلك عثرنا على رسالةٍ أسمها "عين الحقيقة في رابطة الطريقة" لرجلٍ تولّى الإفتاءَ بمدينة أدرنه في أواخر العهد العثمانيّ وهو محمّد فوزي - على ما يبدو من إقراره في الديباجة-؛ كتبها باللّغة التركية العثمانيّة، وتصدّى فيها للرّد على شخصٍ لم يذكر اسمَه، ولا عنوانَ كتابِهِ الّذي أصدره في الردّ على الرابطة سوى ما نقل منه المفتي سطورًا يسيرةً.
لعلّ ما فعل النقشبنديّون بعبد الوهّاب السوسيّ، فعلوا بهذا الرجل أيضًا، حتّى بقي اسمه مجهولاً لم تصل إلينا أخباره، ولا حتّى صفحةٌ واحدةٌ من كتابه، ولا وقف أحدٌ على ما قد تعرّض له من سوءِ عاقبةٍ!
***
كذلك الأسرتان الأرواسيةُ والكُفْرَويّةُ، نشبت الفتنة بينهما في استغلال شهرة الشيخ طه الهكّاريّ منذ أواسط القرن الماضي، ودامت حتّى يومنا هذا؛ كما مرّتْ قصتُهما بالتفصيل.
ولقد اشتدّ الحقدُ والعداوةُ بينهما إلى حدود، كان يرمي كلٌّ منهما الآخر بالكفر والزندقة والنفاق والدجل. بينما كانت جماعات الأكراد التابعة لكلٍّ من الأسرتين، تعظّمها وتصف أفرادها بالعصمة من الذنوب، وأنهم أولياء الله وصفوة عباده. فكم سمعنا بآذاننا من مريديهم يقولون »لو وجدنا كأس الخمر بيد أحد من أولاد مولانا الشيخ، لاعتقدنا بأن الله قد أحلّ ذلك له خاصّة، أو أحاله إلى ماء زمزم!«
لمّا بلغت الخصومةُ حدَّها بين الأسرتين المذكورتين، تعدّتْ بالتأثير إلى جماعةِ كلٍّ منهما بحكم الانتماء. فتسلسلتْ وسرتْ العداوةُ بين طبقات الناس واستمرّتْ عبر الأجيال، فكانت أحيانًا تتطوّر إلى نقاشٍ وقتالٍ في بعض المناطق. و مما يُدهش الإنسانَ من هذه الأحداث: أنّ أتباع الأسرةِ الكُفْرَويّةِ إذا علموا بدخول شخص من مريدي الأسرة الأرواسية إلى مسجد بمنطقتهم، وقد صلّى فيه ومضى؛ ـ إن لم يكونوا قد تمكّنوا من منعه ـ أخرجوا جميع ما فيه من البساط والسجادات، وغسلوها تطهيرًا على أنها تنجّست بدخوله!(66/487)
كما لا نعثر حتّى على اسمٍ واحدٍ من كبار الأسرة الكُفْرَويّةِ في الموسوعة الّتي أعدّها النقشبنديّون من جماعة الأرواسيّين، بإشراف عقيد متقاعد سبق ذكره أكثر من مرة للمناسبة. لم يَقِفُوا منهم هذا الموقفَ السلبيَّ، ولم يُهملوا أسماءَ مشاهِيرِهم إلاّ على سبيل النقمة منهم والازدراء بهم، على أنهم ليسوا من أهل الصفاء والعرفان و الإرشاد إلى الطريقة النقشبنديّة.
ومن نماذج التباغض بين النقشبنديّين، أنّ مشائخَ الأسرة الأرواسية وأتباعَهم من التاغيّين الأكراد إذا علموا أنّ شخصًا من مريدي الشيخ محمّد الحزين الهاشمي قد حضر ليشترك في حلقة الذكر معهم، رفضوه وأمروه بالخروج من الحفلة بحجة أنّه غير طاهر، وأنّ توبته غير مقبولة وبيعته غير صحيحة.
ذلك أنّ الشيخ محمّد الحزين كان قد ألغى عددًا من آداب النقشبنديّة. منها، عدّ ألفاظ الورد بالحصى. كان قد أجاز لمريديه أنْ يعدّوا أورادهم بالمسبحة ومن غير تحديد؛ وكذلك لم يأمر أحدًا بالإغتسال خاصّة عند أخذِ البيعةِ منه إذا كان طاهرًا من الحدث الأكبر والأصغر بخلاف مشائخ الأكراد؛ فحملهم ذلك على بغضه واحتقارهم لمريديه؛ كما كان هو الآخر لا يعترف بهم.
هذا وقد ظهر منذ سنين قليلةٍ رجلٌ بمدينة ساكاريا اسمه عمر أونكوت، واشتهر بين جماعةٍ في تلك المنطقةِ بصفةِ شيخٍ مأذونٍ في الطريقة النقشبنديّة، قام بشنِّ هجومٍ رهيبٍ على جميع شيوخ هذه الطائفةِ المشهورين اليوم في تركيا.
أقنعَ هذا الرجلُ جماعةً من الشباب وتمكّن من الهيمنةِ على أدمغتهم وضمائرهم، فأكبّوا على كتابة كلِّ ما نطق به. فصدر له عددٌ كبيٌر من رسائلَ وكُتيباتٍ بمساعدتهم؛ كلُّها مشحونةٌ باتهاماتٍ رهيبةٍ وشتائمَ بذيئةٍ ينبو عنها السمع. وجّهها إلى عددٍ من شيوخ النقشبنديّة.(66/488)
منها، - على وجه الخصوص - رسالة أصدرها تحت عنوان "حقيقة السليمانيّين" ?mer ?ngüt, Süleymanc?lar?n ?çyüzü. Hakikat Publishing Edition V. ?stanbul-1994 وهم أتباع سليمان حلمي طوناخان. استعمل فيها لهجةً شديدةً، اتهم الطائفةَ عَبْرَها بغصب أموال الناس وارتكابِ سلسلةٍ من الجرائم والجنايات ورماهم بالكفر والفسق!
وَرَدَ على غلاف هذه الرسالة من اتهاماته الْمُوَجَّهّةِ إلى الطائفة المذكورة بالحرف الواحد: »أنّ دينَهم دينارهم، وخُلُقَهُمْ غصبُ أموالِ الناس، ودأبَهم التكفّفُ والتسوّلُ...«. ومن كلماته الّتي شنَّعَ بها على رئيسَ الطائفة، وزوجَ ابنةِ سليمان حلمي، (المحامي كمال قاجار)، قوله: »يَظْهَرُ من ألفاظ السليمانيّين أنّهم قد جعلوا من هذا الكافر الأحمر صنمًا يعبدونه!« المصدر السابق ص/42.
استعمل عمر أونكوت الأسلوب نفسه في حقّ كلٍّ من محمود أفندي (رئيسِ النقشبنديّين من أبناءِ منطقةِ لازستان)، ورئيسِ جماعةِ النور، ونجم الدين أرباكان (رئيسِ الوزراءِ الأسبق)، وجمال الدين قبلان الّذي أعلن الحرب على النظام اليهوديِّ الحاكم في تركيا بعد أن انتقل إلى آلمانيا ونادى بقيام "دولة الخلافة"(!)
أمّا الدعاوي الّتي قد رُفِعت ضدّ عمر أونكوت من قِبَلِ جهاتٍ وأشخاصٍ مختلفةٍ إلى المحاكم التركية حتّى الآن، فقد انتهت كلُّها ببرائتِهِ، على الرغم من تهوّراته وشتائمه وتهديداته. وهذا يدلّ بصورةٍ قطعيةٍ على أنّه مدعوم من قِبَلِ جهازٍ مخصوصٍ لضرب النقشبنديّين بعضَهم في بعضٍ. بل يهدف الأمر فوق هذا إلى التحقُّقِ من موقف المسلمين في الوقت ذاته!
هكذا استمرّ التباغض والتنافر بين الطرفين، كما وقعت منازعاتٌ شديدةٌ بين عددٍ آخر من شيوخ هذه الطائفة على الرغم من وحدة كلمتهم في تعظيم هذه الطريقة والدعوة إليها.
***
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين.(66/489)
لقد وردت في كتب النقشبنديّين عباراتٌ هاجموا بها مَنْ خالفهم في أقلِّ شيءٍ مما أقرُّوه فضلاً عمن ردّ عليهم وناهضهم. إن تلك العبارات قد بلغت من الشدة أقصاها في بعض المواطن، وتجاوزت حدودَ النقد العلميِّ إلى ما يتعفّف اللسان من نقله من كلمات جارحة تختلف بين لوم وعتاب وطعن وشتم مُقذعٍ وسبٍّ ماجن.
يبدو مما قد صرفوه بألسنتهم وأقلامهم من هذا القبيل، أنّ أحدَهم إذا أراد أن ينال من خصمه أطلق القيود، وقذف ما في صدره من كلّ ضغينةٍ على وجه التعميم، وأطفأ غُلَّتَهُ على حسب إتقانه من فنون الطعن والنكير، وعدّ المثالب، والمساس بالكرامة ما يحمرّ له وجه الجسور!
وعلى سبيل المثال: يتخيّل محمّد بن سليمان البغداديُّ معشرًا من الناس - سماهم المتفقهةَ في المذاهب - فتحامل عليهم بعد أن استثنى الفقهاءَ منهم ليبرّر بذلك حجّتَه وحتّى لا يُرْميَ بعموم التعدّي على العلماء، بينما هو في صدد الرمي بكلّ من لا يوافق الصوفيّة كما يبدو من سابق عباراته، ولربما كان يلاحظ خصمَه بالذات في ذهنه إذ هو يرقم هذه الكلمات، فيقول:
»فانّ المتفقهة قاصرون، ومرادهم أنْ يُعرَفوا بين الناس بالعلم والفقه لأجل أغراضٍ شيطانيةٍ يريدون إنفاذها، وشهواتٍ نفسانيةٍ يحاولون إيجادها؛ فيضطرّ بهم الأمر إلى التفتيش عن عيوب الناس، فكيف يؤوّلون شيئًا مقصودهم التفتيش عليه. ومتى ظفروا بوجهٍ فاسدٍ في حال إنسانٍ، فكأنما ظفروا بملك الدنيا...« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 95. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
ثم ينهال على هؤلاء الخصوم الخياليّين بالدعاء فيقول: »خذلهم الله وأذلّهم إن لم يكن لهم نصيب من الهداية والتوفيق.« المصدر السابق ص/97.(66/490)
اعتاد النقشبنديّون إطلاقَ كلمة "المُنْكِرِ" على كلِّ من رأوا فيه شيئًا من مخالفتهم، فَتَكَرَّرَ وتضاعف استعمالهم لهذه الكلمة وما صَاحَبَهَا من عباراتٍ لاذعةٍ حتّى اجتمعتْ، فتكوّن منها رُكامٌ ضخمٌ بحيث يناسب أن يعبَّر عنه بأدب الشتم والتهكُّم في أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين؛ وهذه أمثلةٌ منها:
قال صاحب الحديقة الندية الآنف ذكره في صدد الدفاع عن: خالد البغداديّ :
»فأنكر عليه بعضُ من لا خلاق لهم، لِمَا أنَّ سوقَهم ببضائعه الغزيرة كسد، فمنهم من أنكر أصلَ الطريقة وقال لا شيء يوصل إلى الله تعالى غير ما لدينا من ظواهر الفقه وما نحن عليه من السلفية...« المصدر السابق ص/ 5.
وقال أيضًا »فسبحان من جعل المحاسن مساويًا، والمساوي محاسنًا في أعين المنكرين أهل الغرور.« المصدر السابق ص/100.
وقال ناقلاً عن عبد الغني النابلسي من بحثٍ يتعلّق بالجذبة، فقال »وهي حالةٌ شريفةٌ وإن أنكرها كثير من المتفقهة القاصرين في الزمان لبعدها عنهم من قسوة قلوبهم...« المصدر السابق ص/104.
وقال أيضًا »إن شيخَنا (...) كيف قطع منازل السلوك، ووصل إلى حد الإرشاد والتسليك إلى ملك الملوك برحلته الهندية الكاملة بثلاث سنين، مع أنّ كثيرًا من الأولياء لم يقطعها بستين. فنقول ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا حَجْرَ على الفضل الإلهي الخارج عن حيطة عقول العقلاء؛ فليت شعري ما يقول هذا المنكر في وصول من وصل إلى الكمال بأقلّ من يوم.« المصدر السابق ص/109.
إنّ قائل هذه الكلمات (محمّد بن سليمان البغداديّ) هو من كبار خلفاء خالد البغداديّ، إنه يتعجّب كيف اكتملت رحلة شيخه إلى الهند في ظرف ثلاث سنين. لأنّ هذه المدة في نظره قصيرة جدًّا غير كافية لقطع تلك المسافة الشاسعة. ولذلك يدّعي »أنّ كثيرًا من الأولياء لم يقطعها في ستين عامًا«(66/491)
يُحبَّذ لو بعث الله هذا الرجلَ من قبره فوقف برهةً على إمكانات هذا العصر، ثم وجد الناس على اختلاف أجناسهم ودياناتهم بما فيهم من الكفار والمشركين والزنادقة والمنافقين والفجرة والمجرمين، كيف يقطعون اليوم أضعافَ مسافاتِ ما بين العراق والهند، بل وكيف ينفذون من أقطار السماوات والأرض في ساعات معدودات؛ لانْبهر وطاش عقلُهُ، ولتصبّب جبينُهُ عرقًا مما سجّل في حديقته من تلك الألفاظ الّتي لم يَعُدْ لها أيُّ حكمٍ وقيمةٍ في هذه الأيّام! ولربما أعاد النظر في تحامله على ذلك المُنْكِرِ الخياليِّ الّذي نسب إليه إنكارَ وصول بعض الأولياء إلى درجة الكمال عند الله بأقلّ من يوم، ولاَسْتَبَانَتْ له حقيقة شيخه الّذي نفخ هذه الأفكارَ في عقله وأملى عليه كتابَ الحديقة الندية كما جاء في كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ.
قال الخانيّ في كتابه المذكور:
»لما كان كتاب الحديقة المذكورة موضوعًا لإثبات وجود تعلُّم علم الباطن، وإثبات فضيلة الطريقة النقشبنديّة، ولدفع شبه المنكرين من أهل الحسد على حضرة شيخنا (...) كان في أخذ الآداب منها صعوبة على المبتدئ والآن ولله الحمد تقرر الطريق وانخذل أهل الحسد والعناد والتعويق.« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3. للمناسبة راجع الهامش/472.
قال حفيده عبد المجيد الخانيّ وهو يشرح قصة المعارضين لخالد البغداديّ وقد أفرد لها بحثًا تحت عنوان »فساد الحساد«، قال فيه »فلم يقابل (أي خالد البغداديّ) صنيعَهم الشنيعَ إلاّ بالدعاء لهم وحسن الصنيع؛ فلم تَخْبُ نارُهم، وما زاد إلاّ شرهم وشرارهم."
"كلّ العداوة قد ترجى إزالتها * إلاّ عداوة من عاداك من حسد.«
ثم قال:(66/492)
»فألّف بعض المعروفين (يقصد معروف البرزنجيّ) من المنكرين الّذي تولّى البهتان كبرًا وغرورًا، رسالةً ملئت منكرًا من القول وزورًا...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 231.
وجاءت في موضع آخر كلماتٌ له من نفس البحث يقصد بها عبد الوهّاب السوسيّ وجماعتَه، وكأنّ شرارات الغضب تطير من قلمه؛ فقال:
»ولفّقوا من قول الزور والبهتان رسالةً بتكفيره لما زعموا من أنه يدّعي رؤية الجانِّ، وأرسلوها إلى دمشق مع أحد هوامّ الأكراد العوامّ يقال له إسماعيل الزلزلومي. فلمّا وصل إليها توسّل بعض خدم الشيخ بكلّ وسيلة جميلة، واستحضرها لحضرته الجليلة ليظهر عليها. فطار خبرها إلى والي الشام، فأمر بتشهيره في البلدة وتعزيره، فمرّوا به وهو كذلك من تحت قصر الشيخ (...)، فحانت منه إلى الطريق نظرةٌ، فأمر بتحويله إلى رحابه، وتطهيره وتخويله حلةً من ثيابه، وأدناه منه، فقبّل الرجُلُ رِجْلَهُ، فعفاه.« المصدر السابق ص/233.
لقد سرى تأثير أدب الشتم والتشنيع من كبار النقشبنديّين إلى أدنى بسطائهم؛ إذ قد ترى مَنْ نصب نفسَه على كرسيِّ المشيخة من أوغادهم وأراذلهم؛ تراه يتجرّأ على تحرير الرسائل ويبعثها إلى من اغترّ به وبنفس الأسلوب، تقليدًا بخالد البغداديّ، وحتّى بتكرار بعض ألفاظه الّتي اعتاد على استعمالها!
منهم رجل اسمه سليمان زهدي، ينهال على شخص من أتباعه ويهدّده برسالةٍ نقلناها فيما يلي بالمناسبة كمثال على شخصية الكاتب بما تحوي بين تضاعيفها من ألوان الجهل بالآداب والقواعد؛ ونترك الحكم للقارئ على ما جاء في عباراته الواهية من عيوب لغوية وإنشائية وقصور بلاغية وسقطات أخلاقية وما يعتريها من مظاهر الخروج على الإسلام بوجه عام.
وهذا نص ما سجّله الرجل بحذافيره دون أدنى تصرُّفٍ فيه:(66/493)
»يا أخينا قد أقمت في المكة المكرمة وحضرت حلقة السادات الكرام والختم الخواجكان والتوجّهات عندنا ولكن ما حصل منك الدوام وكثرة اشتغال الذكر مثل سائر الاخوان وقلة المبالات منك في آداب الطريقة العلية وصار ذلك سببا لتركك حلقة السادات عندنا ووصولك الى المنكرين والمطرودين عن طريقتنا والمتشيّخين المرتسّمين في مكة المكرمة ثم اعطى المتشيّخ المطرود الاجازة ثم وصلت على بلاد جاوى وكنت تريد التشيّخ مثله وتؤذي على اهل الحق والاستقامة وهذا الفعل منك لا يرضي الله ولا رسوله ولا سادات الطريقة العلية وكنت ضالا ومضلا على الناس كما كان المتشيّخين المطرودين هنا لولا وصولك اولا عندنا فما بينت لك هذه النصيحة. والامام الّذي اخذ طريقة التشيخ من عند المتشيخين ولا انصح له فانه بعيد عنا لا نعرفه ولا يعرفنا لان الباطل لا يسعد والحسود لا يسود والواجب عليك التوبة النصوحة عما فعلت والرجوع عما جرى والدخول الى طريقة التربية والوصول الى رضاء الله تعالى بيد المرشد المأمور بيد صحيحة مثل الشيخ عمر والشخ عبد الحليم والشيخ عبد الوهّاب هناك ان لم تصل الى مكة المكرمة وان لم تفعل ما امرت لك من طرف السادات فانتظر العقوبات الدنيوية والاخروية لانّ تعالى غيور يحارب من خالف على اوليائه وينتقم على من غير طريق وصوله اليه ايّ ظلم اكبر من هذا الظلم فسيعلم الّذين ظلموا اي منقلب ينقلبون...إلخ.« سليمان زهدي، تبصرة الفاصلين (ضمن مجموعة الزمرد العنقاء) ص/ 96، 97. TDV. ?SAM. 297-7 N?M. Z 46644
وقال الحسين الدوسريّ في مستهلّ كتابه "الرحمة الهابطة" ما نصّه:(66/494)
»لقد طرق سمعي بعض مقالات منقولة عن المزوّرين وجهالات منسوبة إلى بعض المشهورين وإنكار أمور، عليها مدار العلماء العاملين والمتقدمين منهم والمتأخرين؛ فوضعت رسالة مثبتة لما أنكروه و مبتتة لما زوروّه، احتسابا لوجه الله الأكرم، وانتصارًا لاسم الله الأعظم، ونصحًا لأمة محمّد - صلى الله عليه وسلم -، كي لا يقعوا في ورطة الإنكار، وكي لا يبقى الأخ المنكر على الإصرار، فيؤل به إلى دخول النار.« حسين الدوسريّ، الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة، بهامش معرّب المكتوبات للرّبّاني: 1/186.
وجاء في تفسيرٍ أصدرته جماعة من النقشبنديّين في الآونة الأخيرة بإسطنبول، قالوا فيه:
»يُستَغرَبُ ممّن يحكم على الرابطة بالتحريم؛ فهل استخرج هذا الحكم من معناها اللغويِّ أم الإصطلاحيِّ، أم وجده في أحد الكتب المنزَلَةِ من عند الله؟!!«
»ولهذا يجب على المرء أن يخاف الله فلا يَمْنَعَنَّ الناسَ من فعل المعروف بتحريم ما أحلّه الله وتحليل ما حرّمه، ولا يَصِفَنَّ أحدًا من أهل القبلة بالكفر حتّى لا يُصبِحَ هو بذاته كافرًا!!« هذا نص كلامهم باللّغة التركية للعبارات المعرّبة:
Rab?tan?n haram oldu?unu ve ehlinin kâfir oldu?unu s?yleyenlere ?a??l?r. Bunu rab?tan?n lügat manas?ndan m? alm??t?r? Yoksa bunu Allah'?n indirdi?i kitaplarda m? g?rmü?tür. O halde ki?i Allah’tan korksun. Onun helâl etti?i bir ?eyi haram saymak, Onun haram etti?i bir ?eyi de helâl kabul etmekten ve b?yle büyük bir hataya dü?üp insanlar? da dü?ürmekten ve insanlar? maruf (?eriat?n ve akl?n kabul etti?i ?ey) den al?koymaktan sak?ns?n. Ve ehl-i k?bleden hiç kimseye kâfir diyerek kendi kâfir olmas?n.
روح الفرقان، بقلم جماعةٍ من النقشبنديّين الأتراك (تحت إشراف محمود أسطى عثمان أوغلو)ص/ 2/78. دار سراج إسطنبول ـ 1992م.(66/495)
وما أكثر من نحو هذه الألفاظ والعبارات في مواطن كثيرة من كلامهم؛ الّذي لم يقصدوا في الحقيقة إلاّ لينالوا به من عرضِ أهل التنزيه لجناب الحق سبحانه، والحطِّ من كرامة الموحّدين، وإيذائهم وإيلامهم. فاكتفينا بهذا القدر اليسير على سبيل المثال
***
الكلمة الختامية.
لقد انتهينا هكذا من دراسةٍ هامّةٍ، أخذتْ من وقتنا الكثيرَ، وأفنتْ من عمرنا أكثر من ثُلُثِهِ، وكلّفَتْنا ما لا يُستهان به. ولابد من أن نعترفَ هنا بأنّ الهموم كثيراً ما أقضّتْ مضجعَنَا إذ نسلك طرقاً شائكةً في البحث والتعمُّق أثناء متابعتنا لهذه الدراسة!
في الحقيقة لم يكن القصدُ من الإقدام على هذا العمل الخطير إلاّ إظهار ما قد غاب عن جمهور رجال العلم خاصّة من أسرار الطريقة النقشبنديّة وآدابها وأهدافها ومستوحاها وطقوسها وشخصيات رجالها وتأثيراتها على الحياة الإجتماعية في المناطق الّتي انتشرت فيها.
ولعلّ الأهمَّ من ذلك، أنّ المجتمع العربيَّ الّذي تربطه الصلةُ التاريخيةُ القويةُ بالشعب التركيّ، وجدناه بمنأى عن الإطلاع على أمورٍ كثيرة تلعب الدورَ منذ قرونٍ في توجيه هذا الشعب وترويضه على غير ما يعتاده ويتلمّسه بقيّة المسلمين من مفهوم الدين. فرأينا من الخدمة العلمية أن نتناول من تلك القضايا ما يدخل في نطاق معرفتنا واختصاصنا، وأن نسلّط الضوء عليها لتمهيد المجال إلى مناقشتها في ديوان العلم وميزان العقل والدين. ألا وهي النزعة الصوفيّة المتمثّلة في الطريقة النقشبنديّة المتفاقمة في صفوف الملايين من أبناء هذه المنطقة، والراسخة في أعماق ضمائر الشيوخ والشباب والنساء والرجال منهم. وإذا كان هذا الميل الشائع في العنصر التركيّ يدلّ على حقيقةٍ، فهي ليست إلاّ علامات انقباضٍ وتشنّجٍ ينتابه بسبب الضياع الذاتي وخسارة الهوية.(66/496)
لقد ثبت من خلال البحوث والدراسات العلمية أنّ الأزمات الّتي يعانيها المجتمع التركيّ - على اختلافها - في الوقت الراهن، تعود الأسبابُ المتنوّعةُ لكلّ أزمةٍ منها في النهاية إلى مشكلة الهوية. ذلك، أن الإعتزاز البالغ بالأمجاد إلى حدود التطرّف وجنون العظمة؛ وتقديسَ رجالٍ دخلت أسماؤُهم في قائمة "أولياء الله" ضمن مجلّداتٍ ضخمةٍ في المكتبات التركية - بما فيهم جميع سلاطين بني عثمان، حتّى السلطان محمّد الثالث الّذي قَتَلَ تسعة عشر أخًا له في فجر يوم الثامن والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1595م.؛ وكذلك الإنهماكَ في الإستغاثة بأمواتٍ قد أصبحوا عظامًا نخرةً، بل قد اندرست وبادت رفاتهم ولا يدري أحد هل ماتوا على الكفر أم على الإيمان؛ يبرهن على أنّ هذا الشعبَ لم يعد يملك شيئًا يُثبِتُ به هويتَه سوى اللجوء إلى العصبية القومية الّتي تعتمد في جذورها على أساطير الآباءِ وتقديس السلاطين وأقاصيص الصوفيّة والإستئناس بالقبور والأموات.
إنّ هذا البحث الّذي يتناول الطريقة النقشبنديّة بتفاصيلها وبأسلوبٍ تحليليٍّ ومنهجيٍّ، لم يقتصر على حدود أبعادها الدينية والروحية، بل يتجاوز إلى حدودها الإجتماعية وعواقبها الأخلاقية، ويفتح بذلك نافذةً على الباحثين، لِيُطلُّوا منها على الشعب التركيّ الصوفيّ، ويطَّلعوا على أحواله وأزماته بنظرٍ علميٍّ وموضوعيٍّ من خلال الوثائق والأدلّةِ. لأنّ إصلاحَ أيّ فسادٍ، لا يمكن أنْ يحظى بنجاح إلاّ بعد الإطّلاع على حقيقة أسبابه.(66/497)
ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ تكثيف النقد على الشعب التركيّ بسبب انتشار الطريقة النقشبنديّة بين طبقاتها، لا يعني أنّ الشعب بعمومه قد اعتنق هذا المذهب الصوفيّ بعينه؛ بل هناك طرقٌ صوفيةٌ أخرى، فضلاً عن ذلك أنّ أقلّيةً من الموحّدين الحنفاء، وجماعاتٍ متباينةً من المشركين والملاحدة من أبناء الشعب التركيّ لا صلة لهم بالتصوّف على الإطلاق. إلاّ أنّ الروح الباطني الصوفيّ قد بلغ من الرسوخ في ضمير أغلبية الأتراك إلى حدٍّ نجد حتّى العلمانيّين منهم قد بنوا صرحًا عملاقًا على قبر زعيمهم بهواجس روحية كما يبدو من احتفالاتهم الّتي يقومون باجرائها في جوٍّ دينيٍّ خاصٍّ، ويُجبرون بقية الفئات على مشاركتهم في تلك الإحتفالات! ولهذا ليس من الزور أن يُقالَ أنَّ غالبَ الأتراك حتّى العلمانيّين منهم، قومٌ لا يقتنعون بأيِّ دين إلاّ أن يكون مشوبًا بتصوُّراتٍ موهومةٍ وحكاياتٍ خرافيةٍ وتفسيراتٍ أسطوريةٍ لا حدود لها.
وهذا قد جعل من الشعب التركيّ قومًا تَبَعِيًّا يترنّح أمام عواصف الأحداث عَبْرَ تاريخه، يُقَلِّدُ كلَّ قومٍ يراه على الحقِّ، ويأخذ من حثالة كلِّ دينٍ، إلى أن جمعها ومزجها أخيرًا بمفاهيم إسلاميةٍ واعتقد أنّ ما قد صنعه هو الإسلام! بل هو الإسلام المبتورُ الّذي تعرّض لسلسلة من الإستحالات، والموروثُ من العرب بعد الربْعِ الأول من العهد العبّاسيِّ، والمتقمِّصُ اليوم في قالب النقشبنديّة.(66/498)
إنّ الشعب التركيّ مسئول بالدرجة الأولى عن الفساد الّذي قد غرق فيه اليوم إلى قمة رأسهِ؛ مسئولٌ عن إصلاح كلِّ ما يخالف نصوصَ الكتاب والسنّة من معتقداته بسبب هذا المرض الّذي قد تحكّم فيه وتطوّر إلى أمراض إجتماعية وأخلاقية أخرى. والمسلمون جميعًا مسئولون أيضًا بالدرجة الثانية من إنقاذ هذا الشعب عما قد وقع فيه. وتتأكّد هذه المسئوليةُ المتوجِّهة إلى أهل الوعي والخبرة من كلِّ شعبٍ في العالم عندما نشاهد التطرُّفَ الْمُنْبثقَ من الروح الصوفيّ يتفاقم يومًا بعد يومٍ في صفوف هذا المجتمع ويُهَدِّدُ السلمَ والأمنَ في المنطقةِ؛ كما تترتّبُ على كلِّ شخصٍ ذي حميةٍ إنسانيةٍ، يُحِبُّ الحريةَ ويتمنَّى يومًا يسود فيه الأمن والطمأنينة والهدوء في جميع أرجاء المعمورة - إذا ما وقع نظرُهُ على مضمون هذا العمل الهام - تترتّبُ عليه مشاركة المخلصين من أهل الإصلاح والإرشاد في محاولة القضاء على هذا السرطان الّذي مزّق روحَ الشعب التركيّ بمخالبه وأوشك أن يجعل منه ألعوبةً في يد عصابةٍ خطيرةٍ يختلّ بها توازن القوى على مستوى منطقة الشرق الأوسط لأمدٍ غيرِ بعيد!!!
ونؤكّد بكل جدٍّ واهتمامٍ أنّ هذا البحث وثيقة تاريخية في حدِّ ذاته؛ يتبنّى إظهارَ ما قد خَفِيَ أو أُخفِيَ عن العامّةِ من واقع منظّمةٍ خطيرةٍ كانت لها أغراضها في مرحلة زمنية معينةٍ، تقمّصت عبرها في لباسِ طريقةٍ صوفيةٍ اسمها الخالدية، وفعلتْ ما فعلتْ تحت ستار النقشبنديّة، ثم تحوّلت إلى طريقةٍ صوفيةٍ تمامًا بعد أن حقّقت شيئًا كثيرًا من أهدافها. ولا نريد أن نستقصي فيما لا يتحمّله الزمان والظروف والأوضاع أكثر من هذا القدر؛ فانّ القلم الصادق لن يغفل عن تسجيل ما قد جرى في هذا العالم من صغير وكبير. { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبيِرٍ مُسْتَطَرٌ } سورة القمر/53{كَلاَّ سّوْفَ تَعْلَموُنَ * ثُمَّ كَلاَّ سّوْفَ تَعْلَموُن.َ} سورة التكاثر/3، 4(66/499)
ولعلّ ما قد سجّله الدكتور أسعد السمحراني في ثنايا كتابٍ له من كلماتٍ يسيرةٍ جدًّا تهمس إلى ذوي العقول المتفتّحةِ شيئًا من أسرار مدينة السليمانية العراقيّة الّتي طالما تحتضن جماعاتٍ مشبوهةً كما احتضنتْ ذلك الشبحَ الخظيرَ المتقمِّصَ في لباس الطريقة النقشبنديّة الخالدية إبان مرحلةٍ حساسةٍ من القرن الماضي..
يقول السمحرانيُّ:
»بعد إعدام الباب اُتُّهِمَ حسين المازندراني (البهاء) مع مجموعةٍ من أتباع الباب بمحاولة اغتيال ملك إيران ناصر الدين شاه انتقامًا للباب، فاعتُقِل ثم نُفِيَ وشقيقه يحيى وبعضُ أتباعهم إلى بغداد سنة 1268هـ.- 1852م.، حيث مكث فيها قرابة 12 عامًا قضى بعضها في السليمانية يبشر بدعوته.« الدكتور أسعد السمحراني، البهائية والقاديانية ص/ 74. دار النفائس، الطبعة الثانية. بيروت-1989م.
وهذا دليل قاطع على أنّ النقشبنديّين الّذين وقفوا دائمًا في وجه المؤمنين الموحدين الحنفاء وقوفَ العدوِّ اللّدود؛ سكتوا - على الأقل - عن نشاطاتِ حركةٍ من أخطر الحركات الهادفة إلى هدم الإسلام من أساسه في مدينتهم السليمانية بالذات. وهي منبَثَقُ دعوتهم، ومركزُهم، وقبلتُهم المقدّسةُ بعد مدينة بُخَارَى؛ كانوا ولا يزالون هم الأكثريةَ والأقوىَ فيها من بقية الجموع والجماعات!
إنّ الّذي قد جرى بالأمس من خير وشر يجري اليوم أيضًا وسيجري غدًا لامحالة، وإنْ اختلفت الصُّوَرُ وتباينت الأشكال وتنوّعت الأساليب. فالحرب سجال بين الحقّ والباطل...تلك سنة الله »قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىَ سَبيِلاً« سورة الإسراء/84(66/500)
ولكن الّذي يجب أنْ يُؤْخَذَ بنظر الإعتبار، هو أنّ التطرُّف والحقد والعنف والإضطهاد مهما بلغ من القسوة حدّها؛ وأنّ التزوير والتدليس والتدجيل والغش والمكر والإستغلال مهما لعب الدور في إرباك البسطاء، وغسل الأدمغةِ، وتجنيد الخونة تحت ستار التصوّف والتقشّف أو العلمنة والإلحاد؛ لصرف الوجوه عن الحق، وتشويه الحقيقة، وتقديم الذئاب في جلود الضأن، ونسج نظريات المؤامرة لإخماد حرارة الإيمان الّذي يملأ قلوب أهل التوحيد الحنفاء؛ فانّ الصدق والإخلاص والمثل العليا سوف تسلك طريقها دائمًا إلى قلوبٍ مؤْمنةٍ واعيةٍ وعقولٍ نيّرةٍ متفتّحةٍ، لتبقى الحقيقة المطلقة وحدها دائبةً غالبةً شامخةً إلى أبد الآبدين ولو كره المتزمّتون وأبناء الحماقة جميعًا، فانّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه. »بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلىَ الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفوُنَ« سورة الأنبياء/ 18.
أسماء الأعلام
أ
الآلوسي، أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله ( 1217-1270هـ./1802-1885/ م.) 150، 263،
الآلوسي، أبو البركات خير الدين نعمان بن محمود ( 1252-1317هـ./1836-1899م.) 263.
أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي (149-193 هـ./766-809 م.) 22،
إبراهيم النبي عليه السلام. 92، 190.
إبراهيم البياريّ. 230،
إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن محمد الحسيني الدسوقي (633-676 هـ./1235-1277 م.) 80.
إبراهيم الشاشي. 211،
إبراهيم الفصيح (1820-1882م.) 90، 133، 273.
إبن آجرّوم، محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي، (627-723 هـ./12731323 م.) 304.
إبن الأثير، عزّ الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيبانيّ (555-630 هـ./11601233 م.) 95، 188،
إبن تيميّة، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الدمشقي الحنبلي الحرّاني، (661-728 هـ./1263-1228 م.) 137، 180، 340، 343،(67/1)
إبن الجوزي، أبوالفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (510-597 هـ./1116-1201 م.) 10، 186، 353، 354.
إبن حجر، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد الهيتني (909-973 هـ./1503-1566 م.) 79، 156، 157.
إبن حجر، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلانيّ (773-852 هـ./1372-1449 م.) 182.
إبن خلّكان، أبو العبّاس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر(608-681 هـ./1211-1282 م.) 21، 182، 189.
إبن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري (168-230 هـ./784-845 م.) 182.
إبن عباس، عبد الله بن عبد المطلب الهاشميّ القرشيّ الصحابيّ (ت 688م.) 74، 126، 126، 181،
إبن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز (1198-1252 هـ./1784-1836 م.) 67، 134، 235، 271، 358.
ابن عربي، محي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطاءيّ الحاتمي المرسيّ (560-638 هـ./1160-1240 م.) 132، 135، 136، 137، 138، 139، 142، 143، 340، 342، 343.
ابن العماد عبد الحي بن أحمد بن محمد بن عماد العكري الدّمشقي الحنبلي (1032-1089 هـ./16231679 م.) 182، 188، 191.
إبن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي (700-774 هـ./1301-1373 م.) 15، 71، 74، 75، 102، 144، 184.
ابن المبارك، عبد الله المروزيّ (118-181 هـ./736-797 م.) 21.
إبن مسعود/ راجع ع: عبد الله ابن مسعود.
ابن المثنّى، أبي عبيدة معمّر (110-209 هـ./728-824 م.) 22،
ابن المقفّع، عبد الله (109-145 هـ./727-762 م.) 22،
إبن وكيع. 70،
أبو بكر البغدادي. 276،
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، أحد الفقهاء السبعة. 182،
أبو بكر الصّدّيق (الخليفة الراشد) (ت. 13 هـ./634 م.) 24، 62، 69، 174، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 347، 348.
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري/ راجع: الطبري.
أبو الحسن علي بن أبي جعفر الخرقاني (ت. 425 هـ./1034 م.) 154، 169، 174، 187، 188.(67/2)
أبو الحسن النّدوي، فاضل هندي معاصر. 50، 132، 217، 220، 222، 224، 225، 228، 236، 243.
أبو حنيفة، نعمان بن ثابت الكوفي الإمام (80-150 هـ./699-767 م.) 309،
أبو السعود، محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، شيخ الإسلام في عهد سليمان القانوني (898-982 هـ./1493-1574 م.) 76، 289
أبو سعيد، أحمد بن عيسى الصوفي الخرّاز (ت. 286 هـ./899 م.)
أبو سعيد عثما الجليلي الموصلي. 247، 261، 262.
أبو عبيدة معمّر بن المثنّى (110-209 هـ./728-824 م.) 22،
أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري (708-761 هـ./1309-1360 م.) 304.
أبو منه، بطرس، باحث عربي معاصر/ راجع: مقدّمة المؤلّف.
أبو نوّاس الحسن بن هناء بن عبد الأوّل بن صباح (145-196 هـ./762-812 م.) 22،
أبو العاتية إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان (130-211 هـ./748-826 م.) 22،
أبو علي السنديّ. 184،
أبو علي الفارمديّ (ت. 478 هـ./1085 م.) 88، 169، 174، 188، 189.
أبو الفتيان، شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم البدوي (596-675 هـ./1200-1276 م.) 168،
أبو الفرج، عبد الرحمن ابن الجوزي/ راجع: ابن الجوزي.
أبو الفضل، بن عبد الله القُنوي. 138.
أبو الفيض المنوفي/ راجع: محمود أبو الفيض المنوفي.
أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر الزمخشري/ راجع: الزمخشري.
أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الإصفهاني. (336-430 هـ./948-1038 م.) 97، 175.
أبو يزيد السطامي/ راجع البسطامي
أبو يعقوب يوسف الهمداني/ راحع: الهمداني.
الأحرار/ راجع: عبيد الله الأحرار.
أحمد آقجندوز، باحث تركي معاصر. 333،
أحمد الأربلي الخطيب. 277،
أحمد الآرواسي.336،
أحمد الأغربوزي. 270،
أحمد البدوي/ راجع: أبو الفتيان.
أحمد البُخَاريّ. 31.
أحمد البرزنحي. 277،
أحمد البقاعي. 40، 51، 89، 110، 130، 156، 342، 343.
أحمد بن حنيل (164-241 هـ./78/0-855 م.)(67/3)
أحمد بن زيني دحلان (1231-1304 هـ./1816-1886 م.)
أحمد بن سعيد المجدّدي. 90.
أحمد بن سليمان الأروادي (مات في حدود 1275 هـ./1885 م.) 90، 278، 283، 288.
إحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين / راحع: شاه ولي الله الدهلوي
أحمد شاه الدراني. 239.
أحمد شاه عزيز الدين علمنكير (ت 1759م.) 232، 237.
أحمد ضياء الدّين الكموشخانوي (1227-1311 هـ./1812-1893 م.) 40، 59، 82، 90، 91، 98، 104، 110، 120، 283، 288، 289، 331.
أحمد فاروق ميان.40، 98.
أحمد الفاروقي السرهندي المعروف بالإمام الرباني/ راجع: السرهندي.
أحمد القسطموني. 82، 276.
أحمد مكّي أفندي بن عبد الحكيم الأرواسي. 332.
أحمد ولي الله/ راجع : شاه ولي الله الدهلوي.
أحمد ياشار أوجاك (أستاذ في جامعة حاجت تبه في أنفره) 14، 192.
أدهم جبه جي أوغلو. باحث معاضر تركي 132.
الأربلي، محمد أمين الكردي/ راجع: الكردي.
أريج فروم. 51.
أسعد الأربلي (ت. 1848-1931م.) 91، 292، 293، 294، 324
الإسطنبولي، محمد أسعد أفندي (1789-1848م.) 55، 78، 246، 247.
أسعد الصاحب (1271-1347 هـ./1855-1928 م.)10، 84، 85، 250، 261، 262، 263، 264، 273، 274، 278، 347.
أسعد الخسخيري. 329،
أسعد السمحراني (باحث عربي معاصر) 370،
إسماعيل الأناراني. 277،
إسماعيل البرزنجي. 276،
إسماعيل البصري. 277،
إسماعيل حقّي أهرامجي. 329،
إسماعيل الزلزلوي. 278،
إسماعيل الشيرواني. 67، 209، 273، 274، 277.
أشرف الكابلي/ راجع: الكابلي.
أفلطون (الفيلسوف اليوناني ق.م. 428- 347) 131.
أكبر شاه، جلال الدين محمود بن همايون بن ظهير الدين بن بابر شاه (1542-1605 م.) 216، 218، 220، 222، 224، 228.
أكرم إيشن. 30، 293.
أكمل الدين البابرتي (710-786 هـ./1310-1384 م.) 79.
إلياس أيوب (باحث صيدلي عربي معاصر) 51، 52، 60، 189.
الإمام الربّانيّ/ راجع: السرهندي.
الإمام الزهبي/ راحع: الزهبي.
الإمام الشافعي/ راجع: الشافعي.(67/4)
الإمام الهروي/ راجع الهروي.
الأمكنكي، محمد الخواجكي (918-1008 هـ./1512-1599 م.) 170، 174، 215، 216.
أمين القدسي. 139.
أنس بن مالك (612-712م.) 69،
الأنصاري، أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد السنيكي (826-926 هـ./1423-1520 م.) 10،
الأنصاري القادري، بهاء الدين. 50،
أنور الجندي (باحث – كاتب عربي معاص).17.
أورنكزيب علمكير بن شهاب الدين محمد شاه جهان (1618-1707م.) 232،
أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني التابعي الزاهد (ت. 37هـ/657م.) 154.
ب
باتانجالي Patanjaliالراهب الهندي. 102.
بارمينيديس (الفيلسوف اليوناني ت. حوالى 540-450ق.م.) 131.
الباقلاني، محمدد أبو بكر بن الطيّب (338-403 هـ./9501013 م.) 100، 128.
الباقي بالله الكابولي/ راجع: محمد الباقي بالله الكابولي.
البخاريّ، محمد بهاء الدين/ راجع: شاه نقشبند.
البدخشي، محمد زاهد (ت. 936 هـ./1529 م.) 170، 214، 215.
بدرخان باشا، آخر أمير كردستان (1802-1868م.) 252.
بدر الدين بابا. 31.
البدواني/ راجع: نور محمد البدواني.
البرزنجي، معروف النودهي (1166-1254 هـ./1752-1838 م.) 51، 246، 247، 256، 257، 259، 260، 261، 265، 364.
ب. ريال. 51، 52، 60،
البزدويّ، عليّ بن محمّد بن الحسين (400-482 هـ./1010-1089 م.) 18.
البسطامي، أبو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان (188-261 هـ./803-874 م) 154، 169، 174، 179، 184، 185، 186، 187، 188.
بشر الحافي، أبو نصر بشر بن الحارث بن عليّ بن عبد الرحمن المروزيّ الحافي (150-227 هـ./767-841 م) 21.
البغداديّ، أبو البهاء خالد ضياء الدين ذو الجناحين (1193-1242 هـ./1776-1876 م.) 239، 272.
البغداديّ، محمّد بن سليمان البغداديّ/ راجع: محمد بن سليمان.
البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود (ت. 279- هـ./892 م.) 15، 206.
بلوتينوس (الفيلسوف اليوناني (205-270 م.) 131،
بهادر شاه، آخر الملوك التيموريّين (1221-1278 هـ.) 237.(67/5)
بوذا الراهب، سيدهارتا غوتاما (مؤسّس الديانة البوذية، حوالى 563-483 ق.م.) 48، 102، 104،
البيضاوي، أبو سعيد ناصر الدين عبدالله بن عمر (ت. 685 هـ./1286 م.) 72، 73،
البيهقيّ، علي بن الحسين الواعظ الكاشفي (1462-1533م.) 49، 50، 62، 88، 210، 212.
ت
تاج الدين بن زكريّا بن سلطان الهنديّ (ت. 1050 هـ./1640 م.) 63، 64، 88،
تاج الدين عبد الوهّاب بن علي السبكي (727-771 هـ./1327-1370 م.) 188.
ترغوت أوزال، رئيس الجمهورية التركية السابق (ت. 1993م.) 331، 335.
الترمزي الحكيم، محمد بن علي بن الحسين (كان حيًا في 318 هـ./930 م.) 192.
التسْتَرِيّ، أبو محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى (200-283 هـ./815-896 م.) 21.
التفتازانيّ، مسعود بن عمر بن عبد الله (712-791 هـ./1312-1389 م.) 18، 128، 153، 343.
التلمساني، سليمان بن علي بن عبد الله (ت. 690 هـ.) 111، 131، 137.
تيمورلنك (ت. 1336-1405م.) 200، 211، 228.
ث
الثوريّ، أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي (97-161 هـ./716-778 م.) 21،
ج
ج. توندريو. 52، 60،
الجامي، ملاّ عبد الرحمن نور الدين (819-898 هـ./1414-1492 م.) 30، 207، 212، 213.
جان جانان/ راجع: شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر.
الجرجاني/ راجع: السيد شريف الجرجاني.
الجرخي/ راجع: يعقوب الجرخي.
جعفر الخلديّ (252-348 هـ./866-959 م.) 175.
جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط (80-148 هـ./699-765 م.) 155، 169، 174، 183، 185، 186.
الجليليّ، أبو سعيد عثمان بن سليمان بن محمد أمين بن حسين بن إسماعيل بن عبد الجليل الحيائي الموصلي (1187-1245 هـ./1773-1829 م.) 247، 261، 262.
الجليليّ، سليمان باشا. 247، 260، 261، 262.
الجنبوري، علي بن قوّام. 50،
جنيد البغداديّ، أبو القاسم بن محمد بن الجنيد القواريري الخزّار (ت. 298 هـ./910 م.) 80،
ح
الحاج حمدي الدّاغستانيّ. 271.(67/6)
حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (1017-1067 هـ./16091657 م.) 210.
الحافيّ/ راجع: بشر بن الحارث.
حالت أفندي (من كبار رجال الدولة العثمانية في عهد محمود الثاني. 1760-1823م.) 251.
حامد المارديني.
الحسن بن علي بن أبي طالب (3-50 هـ./624-670 م.) 283، 285.
حسن القوزاني. 277.
حسن حلمي القسطموني. 82.
حسن حلمي بن علي. 82.
الحسين بن علي بن أبي طالب. (ت.61 هـ./680 م.) 199، 206، 336.
حسين بن علي بن هود. (ت. 699هـ.) 111.
حسين بن علي، نظام الملك/ راجع: نظام الملك.
حسين حسام الدين عبديزاده أفندي. 29.
حسين حلمي إيشيك (عقيد متقاعد مدسوس في صفوف النقشبنديين. مات يوم 25 أكتوبر 2001 في إسطنبول) 51، 89، 292، 307، 329، 336.
حسين الدوسري. 79، 80، 81، 278، 365، 366.
حسين علي نوري بن عباس بن بزرك المازندراني، زعيم البهائية (1233-1309 هـ./1817-1892 م.) 370.
حكيم آتا. 25.
الحلاّج، حسين بن منصور (ت.309 هـ./922 م.) 17، 111، 130، 131، 132، 133، 134، 137، 259، 340، 343.
حميد آلغار: راجع: مقدّمة المؤلّف.
حمد الله الداجويّ. 146، 150، 156، 160.
حيدر بابا. 29.
خ
خالد البغداديّ/ راحع: البغداديّ.
خالد الجزري. 277، 288، 341.
خالد الزيباري. 329، 341.
خالد الزيلاني. 329،
خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، أحد الفقهاء السبعة (ت. 99 هـ./717م.) 182.
الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم الشحي (678-741 هـ./1279-1340 م.) 73، 74.
الخانيّ، عبد المجيد بن محمّد بن محمّد (1263-1319 هـ./1847-1901 م.) 25،40، 44، 46، 48، 49، 50، 51، 53، 95، 98، 99، 110، 213، 216، 217، 219، 232، 233، 256، 266، 276، 278، 280، 281، 282، 342، 344، 364.
الخانيّ، محمّد بن عبد الله (1213-1279 هـ./1798-1862 م.) 27، 38، 40، 44، 50، 89، 98، 99، 105، 106، 110، 157، 191، 245، 246، 277، 278، 279، 280، 281، 342، 349، 352، 363.
خرشيد باشا (ت. 1822م.) 252.(67/7)
الخرقاني/ راجع: أبو الحسن علي بن أبي جعفر.
الخضر/ راجع: أسطورة الخضر في قائمة المفاهيم.
الخلدي/ راجع: جعفر الخلدي.
خليل آتا. 206.
خليل فوزي. 294،
خليل كوننج، فقيه عربي الأصل، تركي الوطن. 339،
خواجه أشرف الكابلي. 62، 88.
خواجهء عزيزان/ راجع: الرامتني.
خير الدين زركلي/ راجع زركلي.
د
داماد فريد باشا (1853-1922م.) 286،
داود باشا، والي بغداد. (1774-1851م.) 251، 252.
درويش أحمد الطربزوني. 88.
درويش محمد (كش مهمد)، الحشّاش الذي استخدمته الحكومةُ عميلاً لتنفيذ خطّةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير.نُفِذَ فيه حكم الإعدام مع زميله لاز إبراهيم خواجه سنة 1930م.) 323.
درويش محمد السمرقندي/ راجع: السمرقندي.
الدهلوي، شاه ولي الله/ راجع شاه ولي الله.
الدهلويّ، غلام علي عبد الله (1158-1240 هـ./1745-1824 م.) 48، 170، 236، 237، 238، 239، 242، 244، 347.
الدوسري/ راجع: حسين الدوسري.
الدمشقيه، عبد الرحمن : راجع: مقدّمة المؤلّف.
ديفيد دين كومينس David Dean Commins. 85.
ذ
الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ الحافظ. (673-748 هـ./1274-1348 م.) 183، 184، 186.
ر
رابعة العدوية : 123،
رادلوف، فريديريك ولهلم (1837-1918م.) 15.
الرازي، فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الّتيميّ البكريّ (543-606 هـ./1149-1210 م.) 18، 71.
رحمي سرين. 91،
رشاد أونكوران، باحث تركي معاصر. 29، 30.
الرقّاشي، أبّان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير ( هـ./ م.) 22.
ركن الدين محمود البُخَاريّ. 29،
الريوكري/ راجع: عارف الريوكري.
ز
زركلي، خير الدين (1310-1396 هـ./1893-1976 م.) 123، 154،168، 183، 191، 208، 213، 217، 218، 220.
زاهد الكوثري/ راجع: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي.
الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر. (467-538 هـ./1075-1144 م.) 70، 71، 79.
زنون، الفيلسوف اليواني (335-263ق.م.) 131.
س(67/8)
السرخسي، شمس الأئمة، محمد بن أحكد بن أبي بكر (ت. 490 هـ./1097 م.) 18.
السرهندي، أحمد الفاروقي العروف بالإمام الرباني (971-1034 هـ./1563-1625 م.) 88، 139، 141، 160، 161، 170، 174، 208، 213، 216، 218، 219، 220، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 228، 229، 230، 231، 237، 333.
سعيد باشا، والي بغداد. 246، 256، 260.
سعيد البالوي (ت. 1925م.) 285، 289، 292، 303، 320.
سعيد بن المسيّب، أحد الفقاء السبعة (ت. 94 هـ./712 م.) 282.
سعيد سيدا الجزري (1889-1968م.) 83، 84، 85، 329.
سعيد الكردي النورسي (1873-1960م.) 300، 301، 328.
سفيان الثوري/ راجع: الثوري.
السقَطيّ، أبو الحسن سَرِيّ ابن المغلِّس (ت. 251 هـ./865 م.)21.
سلجوق أرايدين، باحث تركي معاضر. 98، 130، 141.
السلطان أبايزيد الأول، يلدرم بن مراد، السلطان العثماني (1347-1402م.) 29، 31.
السلطان أبايزيد الثاني، صوفي بايزيد الولي بن محمد الفاتح (1448-1512م.) 29.
السلطان تيبو، قائد عسكري هندي (1749-1799م.) 237.
السلطان سليمان القانوني بن سليم الأوّل (1494-1566م.) 29.
السلطان عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد (1842-1918م.) 45، 284، 288، 292، 293، 294، 319.
السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني (1546-1595م.) 88.
السلطان محمد الفاتح بن مراد الثاني (1432-1481م.) 29، 30، 31.
السلطان محمو الثاني بن عبد الحميد الأوّل (1784-1839م.) 33، 149، 250، 251، 313.
السلطان وحيد الدين بن عبد المجيد (1861-1926م.) 286.
سلمان الفارسي (ت. 656م.) 169، 174، 181، 182، 348.
سليمان بن يسار، أحد الفقاء السبعة (34-107 هـ./654-725 م.) 182.
سليمان زهدي. 89، 110،
سليمان حلمي طوناخان، تُنسَبُ إليه الفرقة السليمانية وهم طائفة من النقشبنديّين (1888-1959م.) 66، 328، 333، 360.
السماسي/ راجع: محمد بابا السماسي.
السمرقندي، درويش محمد (ت. 936 هـ./1529 م.) 170، 215.(67/9)
السهروردي، شهاب الدين أبو الحفص عمر بن محمد بن عبد الله ابن عمويه (539-632 هـ./1145-1234 م.) 79.
سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التستري (200-283 هـ./815-896 م.) 21.
سميح عاطف الزين، باحث عربي معاصر. 10، 17، 108، 144، 192، 259.
السني، أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق (ت. 364 هـ./975 م.) 97،
السويدي/ راجع محمد أمين بن علي.
السيد شريف الجرجاني (740-816 هـ./1339-1413 م.) 26، 207، 208.
السيد علي بن صبغة الله الحيزاني الأرواسي، نُفِذَ فيه حكم الإعدام سنة: 1913م. 290.
السيد فهيم الأرواسي (1825-1895م.) 291.
سيف الدين الفاروقي/ راجع: الفاروقي.
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (849-911 هـ./1445-1505 م.) 76، 79، 135.
ش
الشاذلي، أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز المغربي (591-656 هـ./1195-1258 م.) 83.
الشافعي، محمد بن إدريس (150-204 هـ./767-819 م.) 165، 190، 316، 353، 354.
شاه رؤوف أحمد. 237.
شاه عالم محمد أكبر الثاني (ت. 1172-1221م.) 237.
شاه عباس الصفوي/ راجع: الصفوي.
شاه نقشبند/ محمد بهاء الدين البخاري (718-791 هـ./1318-1389 م.) 9، 25، 112، 154، 158، 170، 193، 201، 203.
شاه ولي الله الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (1114-1176 هـ./1704-1766 م.) 217، 238، 264.
شريف أحمد بن علي. 50، 89، 160.
الشريف الجرجاني/ راجع: السيد شريف الجرجاني.
شريف ماردين: راجع: مقدّمة المؤلّف.
الشعراني/ راجع عبد الوهّاب الشعراني.
شمس الأئمة/ راجع السرخسي.
شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان (1111-1195 هـ./1699-1781 م.) 48، 170، 234، 235.
شمس الدين سامي (1850-1904م.) 183.
شهاب الدين الشيرواني. 209.
شهاب الدين بن صبغة الله الأرواسي. نُفِذَ فيه حكم الإعدام سنة 1913م. 285، 287، 344.
شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي/ راجع الآلوسي.
الشطّاري، عبد الله.50.
الشطّاري، محمّد 50، 225.(67/10)
الشيباني، ابن الأثير عزّ الدين أبو الحسن على بن أبي الكرم (555-630 هـ./1160-1233 م.) 15، 188، 189.
الشيخ شادي. 159.
شريف أحمد بن علي. 50، 89، 160.
الشيرازي،آية الله ناصر مكارم. من علماء الشيعة المعاصرين. 77.
ص
صادق الحلوائي. 216.
صالح باشا. 251.
صالح السيبكي. 288.
صبغة الله الحيزاني الآرواسي (ت.1870م.) 285، 286، 290، 341.
صتُوك بُوغْراخان (959م.) 12،
صدر الدين البخاري. 192.
صدر الدين القنوي، محمد بن إسحاق (ت. 672 هـ./1273 م.) 135.
الصفوي، شاه عباس الكبير، شاه إيران (1571-1629م.) 229.
صلاح الدين بن السيد علي بن صبغة الله الحيزاني الأرواسي. 290.
ط
طاهر العقري. 276.
عبد الرحمن الكردي العقري. 276.
طه الحريري. 91، 293.
طه النهري الهكاري/ راجع: الهكاري.
الطبري، أبو جعفر محمّد بن جرير (224-310 هـ./839-923 م.) 15، 70.
الطبقجلي، محمد أمين بن محمد صالح (1173-1232 هـ./1760-1816 م.) 260.
الطويلي، عمر بن عثمان. 277.
ع
عابد شلبي. 31،
عارف الريوكري (ت. 606هـ./1209م.) 169، 174، 194.
العامري، مرارة بن الربيع. 69،
عباس الصفوي/ راجع: الصفوي.
عباس العزّاوي (ت. 1971م.) 84، 245ن 246، 250، 252، 260، 271.
عبد الله الإلهي (ملاّ إلهي) 29، 31،
عبد الباقي بن محمد الكفروي. 287، 344.
عبد الجميل. 191.
عبد الحكيم الأرواسي (1865-1943م.) 83،
عبد الحميد البريفكاني. 293.
عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الحنبلي. 188.
عبد الخالق الغجدواني (ت. 575 هـ./1179 م.) 98، 111، 154، 169، 174، 186، 191، 193، 205.
عبد الرحمن الدمشقية، باحث عربي معاصر/ راجع: مقدمة المؤلّف.
عبد الرحمن خان. 216.
عبد الرحمن عبد الخالق، باحث عربي معاصر. 137، 138، 192، 343.
عبد الرحمن الوكيل، باحث عربي معاصر. 10، 137، 138.
عبد الرحيم البرزنجي. 240.
عبد العزيز بن شاه ولي الله الدهلوي (1159-1239 هـ./1746-1824 م.) 217.(67/11)
عبد الغفور الكردي الكركوكي. 276.
عبد الغفور المشاهدي. 277.
عبد الغني النابلسي (1050-1143 هـ./1641-1731 م.) 135، 362.
عبد القادر البرزنجي. 276.
عبد القادر بن حبيب الله السندي، باحث مستعرب معاصر. 17، 83، 137، 184.
عبد القادر بن شيبة الحمد، باحث عربي معاصر. 108.
عبد القادر بن عبيد الله بن طه النهري (1850-1925م.) 285، 286.
عبد القادر الديملاني. 277.
عبد القادر الجزائري (1807-1883م.) 281.
عبد القادر الجيلي أو الجيلاني (470-561 هـ./1077-1166 م.) 190.
عبد القادر الحيدري. 249، 250، 307.
عبد القاهر الذوقيدي. 329.
عبد الكريم البرزنجي. 188.
عبد الكريم البياري. 240.
عبد الكريم الجيلي (1365-1428م.) 80، 111، 131، 342.
عبد الهادي بن محمد الكفروي. 287.
عبد الوهّاب الشعراني (898-973 هـ./1493-1565 م.) 135.
عبد الوهّاب السوسي. 67، 265، 266، 267، 270، 271، 272، 346، 347، 348، 357، 358، 364.
عبدالله الأرزنجاني. 277.
عبدالله الإلهي (ت. 1487م.) 29، 30، 31، 213.
عبدالله باشا (حاكم عكّا) 347، 348.
عبدالله بن أسعد اليافعي اليمني المكّي (700-768 هـ./1301-1367 م.) 186.
عبدالله ابن المبارك المروزي (118-181 هـ./736797 م.) 21.
عبدالله ابن مسعود (653م.)21، 72، 74، 75، 182.
عبدالله ابن المقفع (109-145 هـ./727-762 م.) 22.
عبدالله الجلي، من خلفاء خالد البغدادي. 276.
عبدالله الخالدي المخزومي، والد الشيخ سليمان الخالدي الأسعردي الشهير بتصانيفه. 329.
عبدالله الخرباني. 240.
عبدالله الشطّاري. 50.
عبدالله الفردي. 277.
عبدالله المكّي، من خلفاء خالد البغدادي. 89، 343.
عبدالله الهروي، من خلفاء خالد البغدادي. 277.
عبد الفتّاح الكردي العقري (ت. 1860) 270، 276، 288.
عبدالمجيد بن محمد بن محمد الخاني/ راجع: الخاني.(67/12)
عبيد الله ناصر الدين الأحرار (ت. 895 هـ./1490 م.) 30، 31، 62، 63، 64، 65، 88، 152، 170، 174، 210، 211، 212، 213، 214، 215، 219.
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهزلي، أحد الفقهاء السبعة. 182.
عبيد الله بن طه النهري (ت. 1888م.) 284، 285، 286.
عبيد الله الحيدري. 260، 277.
عثمان بن عفّان (ت. 35 هـ./656 م.) 20، 240.
عثمان الطويلي/ راجع: الطويلي.
عدنان مندريس (رئيس وزراء تركيا الأسبق 1899-1961) 325، 333، 336.
عرفان جندوز. 44، 59، 82، 93، 89.
عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أحد الفقهاء السبعة (22-93 هـ./643-712 م.) 182.
عصمت غريب الله.44، 59، 82، 89، 90، 93، 89.
علاء الدين العطّار (ت. 802 هـ./1400 م.) 170، 174، 207، 208، 209.
علي أفندي أركبي. 251.
علي باشا تبه دلنلي. 252.
علي بن أبي طالب (23ق. هـ. 40هـ./600-661 م.) 20، 66، 180، 199، 206، 235، 283، 285، 333.
علي بن حسين الواعظ الكاشف البيهقي (1462-1533م.) 49، 50، 62، 88، 210، 212.
علي بن قوام الجنبوري. 50.
علي الرامتني، خواجهء عزيزان (ت. 721 أو 728 هـ.) 170، 174، 197.
علي شربجي، محقق عربي معاصر. 47.
علي بن سلطان الهروي القاري (ت. 1014 هـ./1606 م.) 139،
علي قدري. 40، 44، 50، 93، 98، 104،
علي القدسي. 139.
علي محمد البلخي. 89.
علي نائلي. 90،
عمر أونكوت، متشيّخ نقشبنديّ معاصر. 294، 360، 361.
عمر بن الخطّاب (40 ق. هـ. 23 هـ./584-644 م.) 154، 211، 218.
عمر بن الفارض (576-632 هـ./1181-1235 م.) 123، 124، 132.
عمر دميرجان، باحث تركي معاصر. 38،
عمر فاروق أفندي، نحل الشيخ سعيد شيدا الجزري. 85.
عمر فريد كام. (1864-1944م.) 132.
عيسى عليه السلام.15، 74، 92، 118.
غ
الغزالي حجة الإسلام محمد بن محمد (450-505 هـ./1058-1111 م.) 79، 88، 118، 189، 190، 223، 224.
غلام علي عبد الله الدهلوي/ راجع: الدهلوي.
ف(67/13)
الفاروقي، محمد المعصوم (1007-1079 هـ./1599-1668 م.) 31، 170، 174، 231، 232، 237، 348.
الفاروقي سيف الدين (1049-1098 هـ./16301696 م.) 170، 174، 232، 233، 234.
فؤاد كوبرولو (1890-1966م.) 10،38، 190.
فتح الله الورقانسي. 329.
فخر الدين بن محمد الحزين الفرسافي الحسني الهاشمي. (ت. 1914م.) 351.
فخر الدين الرازي/ راجع الرازي.
فريد الدين العطّار (ت. 627 هـ./1230م.)111، 131، 138.
فريديريك ويلهلم رادلوف/ راجع: رادلوف.
الفضيل ابن عياض بن مسعود التميميّ اليربوعيّ (105-187 هـ./723-803 م.) 21، 133.
الفيروزآبادي، أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي (729-817 هـ./1329-1414 م.) 75.
ق
القازاني، محمد مراد بن عبد الله، معرِّب الرشحات ومكتوبات الربّاني (ت. 1352- هـ./1933 م.) 218، 220، 221.
قاسم آتاج، عميل يهود سالونيك الذي دسّته الحكومة التركية في صفوف الثوّار النقشبنديّين عام 1925م. 320.
قاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق، أحد الفقهاء السبعة (31-106 هـ./653-721 م.) 169، 182، 183، 348.
قاسم النوري، محقق عربي معاصر.47.
قاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكي (496-544 هـ./1103-1149 م.) 133.
القرّاب/ راجع: الهروي.
القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي (ت. 671 هـ./1273 م.) 71، 72.
قسيم السنندجي. 240.
قسيم الكفروي/ راجع: الكفروي.
القشيري، مسلم بن حجّاج (206-261 هـ./810-875 م.) 125.
القشيري، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طاحة (376-465 هـ./986-1073 م.) 104، 129، 160، 186، 188، 189،.
القنوي/ راجع: صدر الدين القنوي.
ك
كامران إينان، سيايسيّ معاصر وعضو في البرلمان التركي. 290، 291.
كامل يلماز، باحث معاصر تركي. 294،
كحّاله، عمر رضاء، باحث عربي معاصر. 15، 17، 18، 21، 22، 26، 83، 85، 123، 183، 217، 220، 315.(67/14)
الكرخيّ، أبو محفوظ معروف بن فيروز (ت. 200 هـ./815 م.) 21.
الكردي، محمّد أمين الأربلي (ت. 1332 هـ./1913 م.) 40، 42، 44، 50، 59، 83، 90، 99، 102، 105، 110، 112، 121، 123، 130،
الكستلي، مصطفى بن محمد (ت. 901 هـ./1460 م.)153.
كعب بن مالك . 69.
الكفروي، الشيخ قسيم (1920-1992م.) 28، 48، 175، 213، 234، 242، 270، 289، 344.
كلال بن حمزة/ راجع/ الأمير كلال.
كمال قاجار، من شيوخ النقشبنديّين المعاصرين في تركيا، ورئيس الفرقة السليمانية. 360.
كوبيلاي، مصطفى فهمي، ملازم ثاني؛ قُتِلَ في وقعة منامن (1906-1930) 324.
الكوثري/ راحع: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي.
ل
لاز إبراهيم خواجه، (الحشّاش الذي استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطّةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير. نُفِذَ فيه حكم الإعدام مع زميله كش مهمد، إي محمد الحشّاش وذلك عام 1930م.) 323.
لطف الله الأسكوبي. 31،
م
الماتريدي، الإمام أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريديّ (ت.333 هـ./944 م.) 128.
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة (93-179 هـ./712795 م.) 191.
المحلّي، جلال الدين بن محمد بن أحمد (791-864 هـ./1389-1459 م.) 76.
محمدد أبو بكر بن الطيّب الباقلاني/ راجع: الباقلاني.
محمد امين بن علي السويدي (1200-1246 هـ./1785-1831 م.) 246، 247، 260، 261.
محمد أمين بن محمد صالح الطبقجلي. 260.
محمد أسعد أفندي/ راجع: الإسطنبولي.
محمد إسماعيل الشهيد. 264.
محمد بابا سماسي (755هـ.-1354م.) 170، 174، 198.
محمد البغدادي الإمام. 276.
محمد بن إسماعيل البخاري، إمام المحدّثين (194-256 هـ./810-870 م.) 43، 68، 69، 100، 126، 345.
محمد بن جرير الطبري/ راجع: الطبري.
محمد أمين الكردي الأربلي/ راجع: الكردي.
محمد الباقي بالله الكابلي (971-1012 هـ./1563-1603 م.) 47، 62، 170، 235.
محمّد بهاء الدين البُخَاريّ/ راجع: شاه نقشبند.(67/15)
محمد بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار (1265-1328هـ./1849-1910 م.) 138.
محمد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيدي البغدادي، من خلفاء خالد البغدادي (ت.1234 هـ./1819 م.) 27، 89.
محمد بن عبد الله الخاني/ راجع: الخاني.
محمد بن عبد الله بن عبد الملك الطائي، ناظم الألفية الشهيرة في النحو (600-672 هـ./1204-1274 م.) 304.
محمد بن عبد الوهّاب بن سليمان التميمي النجدي (1115-1206 هـ./1703-1792 م.) 310، 315، 316.
محمد محمد الجدبد البغدادي.
محمد الحزين الفرسافي الحسني الهاشمي (1816-1892م.) 286، 288، 329، 341، 351، 356، 359، 360.
محمد الخواجكي الأمكنكي/ راجع: الأمكنكي.
محمد رائف. 91،
محمد رشيد باشا (الفريق) 279.
محمد زاهد البدخشي/ راجع: البدخشي.
محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي ( 1296-1371هـ./ 1879-1952م.) 82، 90، 138، 139، 175، 288، 289.
محمد زاهد كوتكو (ت. 1980م.) 91،
محمد سعيد بن أحمد الفاروقي السمرقندي. 160، 232.
محمد شريف العباسي. 88،
محمد الشطّاري. 50، 225.
محمد شيرين بن صبغة الله الحيزاني. نُفِذَ فيه حكم الإعدام شنة 1913م. 287.
محمد صالح بن أحمد الغرسي.
محمد صدّيق خان بن الحسن القنوجي البخاري (1248-1307 هـ./1832-1889 م.) 84.
محمد عاشق 276.
محمّد عبده (1266-1323 هـ./1850-1905 م.) 282.
محمّد علي باشا، حاكم مصر (1769-1849م.) 252.
محمد الغريب. 286.
محمد الفراقي الكردي. 277.
محمد فوزي (المفتي الأسبق لمدينة أدرنة) 358.
محمد الكردي. 240.
محمد الكفروي. 287، 351.
محمد الناصح. 277.
محمد نامق باشا (المشير). 279.
محمد المجذوب العمادي. 277، 326.
محمد مطيع الحافظ، باحث عربي معاصر. 51، 55، 239، 240، 246، 275، 349.
محمد المعصوم الفاروقي/ راجع: الفتروقي.
محمّد الفاتح ( هـ./ م.)
محمد المحلّي/ راجع: المحلّي.(67/16)
محمود أسطى عثمان أوغلو، شيخ طائفةٍ من النقشبنديّين في إسطنبول. 50، 90، 92، 145، 160، 366.
محمود الإنجيرفغنوي (ت.715 هـ./1315 م.) 170، 174، 195، 196.
محمود سبكتكين، ثالث ملوك الغزنويّين وأشعرهم (970-1030م.) 188.
محمود سامي رمضان أوغلو، شيخ نقشبندي تركي. 294، 329.
محمود شاكر، فاضل عربي معاصر . 175، 218.
محمود شلبي. 29.
محمود الصاحب، شقيق خالد البغدادي.278، 282.
محي الدين بن عربي/ راجع: ابن عربي.
مراد بن علي الأزبكي المنزوي، خليفو معصوم الفاروقي (1054-1132 هـ./1644-1719 م.). 31، 313.
مرارة بن ربيع العامري/ راجع: العامري.
مرزا رحيم الله بيك محمد درويش العظيم آبادي. 242.
المرسي، عبد الحق بن إبراهيم بن سبعين (614-669 هـ./1217-1271 م.) 112.
مروان إبراهيم القيسي، باحث عربي معاصر. 10، 118، 138، 224.
مسلم بن حجاج القشيري/ راجع: القشيري.
مصطفى أبو يوسف الحمامي (ت. 1368 هـ./1949 م.) 160.
مصطفى بن محمد الكستلي/ راجع: الكستلي.
مصطفى صبري، آخر من احتل منصب المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية (1277-1373 هـ./1860-1954 م.) 139، 289.
مصطفى فهمي كوبيلاي/ راجع: كوبيلاي.
مصطفى فوزي (1871-1924م.) 59، 80، 82،
مصطفى الكلعنبري. 276.
مصطفى موغلالي. 324.
مصلح الدين الطويل. 31.
المطرزي، ناصر الدين عبد السيّد (ت. 610 هـ./1213 م.) 212.
معروف التكريتي. 276.
معاوية بن أبي سفيان (610-680م.) 20.
المقتدر بالله جعفر بن أحمد المعتضد، الخليفة الثامن عشر من سلالة العباس بن عبد المطلب (295-310 هـ./908-923 م.) 17.
ملاّ أحمد الجزري. 123، 124.
ملاّ جامي/ راحغ الجامي.
ملاّ خالد الكردي. 277.
ملاّ خضر أفندي. 334.
ملاّ عباس الكوكي. 276.
ملاّ محمد شريف. 84.
ملاّ هداية الله الأربلي.276.
ملاّ رسول. 273.
موسى الجبوري. 276.
موسى صفوتي باشا. 279.
موسى كاظم الحزيني (ت. 1997) 356.(67/17)
مؤمن الشبلنجي (كان حيًّا في 1290 هـ./1873 م.) 183.
منير بعلبكي، فاضل وباحث عربي معاصر. 51، 104، 119.
ميرزا مظهر/ راجع شمس الدين حبيب الله.
المير عبد الأوّل. 213.
الأمير كلال بن حمزة (ت. 772 هـ./1370 م.) 170، 174، 199، 200، 206، 207، 208.
المنوفي، السيد محمود أبو الفيض 21، 120.
ميمون بن ديصان القدّاح. 206.
ن
ناصر الدين عبيد الله الأحرار/ راجع: الأحرار.
ناصر الدين عبد السيد المطرزي/ راجع: المطرزي.
النابلسي/ راجع: عبد الغني النابلسي.
النبهاني، يوسف بن إسماعيل (1265-1350 هـ./1849-1932 م.) 69، 157، 160، 168، 191.
نحم الدين أرباكان، سياسيّ تركيّ معاصر. 331، 360.
نجم الدين دادروك. 204.
نجيب فاضل، شاعر تركي (1905-1983م.) 83، 292.
نزار أباظة، باحث عربي معاصر. 239، 240، 246، 275.
الندويّ، أبو الحسن، باحث هندي معاضر. 50، 51، 132، 218، 220، 221، 222، 224، 225، 228، 236، 239، 243.
النسائي، أبو عبد الرحمن المحدّث (215-303 هـ./830-915 م.) 97.
النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود (ت. 710 هـ./1310 م.) 73،
النسفيّ، أبو حفص عمر بن محمّد (461-537 هـ./1069-1142 م.) 18.
نظام التهانيسري. 221.
نظام الملك، حسن بن علي (1018-1092م.) 189.
نعمان بن محمود الآلوسي/ راجع: الآلوسي.
نعمة الله بن عمر. 40، 50، 88، 130.
النهري، طه الهكّاري/ راحع: الهكّاري.
نوح عليه السلام. 92،
نور الدين البريفكاني. 266، 293.
نور محمد البدواني (ت. 1135 هـ./1772 م.) 170، 174، 233، 234، 235.
النوويّ، محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين (631-677 هـ./12331278 م.)47، 97.
هـ
الهرويِّ، إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحمن القرّاب (330-414 هـ./942-1023 م.) 18.
الهكّاري، طه النهري الشمزيناني الكيلاني (ت. 1853م.)91، 133، 277، 283، 284، 285، 286، 288، 293، 341، 351، 359.
الهلال بن أمية الواقفي/ راجع: الوتقفي.(67/18)
الهمداني، أبو يعقوب يوسف (440-535 هـ./1048-1140 م.) 169،174، 176، 189، 190، 191، 192، 344.
و
الواقفي، هلال بن أمة. 69،
ولهلم، فريديريك رادلوف/ راجع: رادلوف.
ي
ياسين بن إبراخيم السنهوتي. 157.
اليافعي/ راجع: عبد الله بن أسعد اليافعي.
ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (574-626 هـ./1178-1229 م.) 189.
يحيى المزوري (ت. 1252 هـ./1836 م.) 260، 261.
يزيد بن أسلم. 70.
يعقوب الجرخي (ت. 851 هـ./1447 م.) 170، 174، 209، 210، 211، 213، 214.
يعلى بن شدّاد. 59.
يقو، (يهوديٌّ من سكان مدينة إزمير، استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير-تركيا) 323.
يودا، (يهوديٌّ من سكان مدينة إزمير، استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير-تركيا) 323.
يوسف بن إسماعيل النبهاني/راجع: النّبهاني.
يونس بن عبد الأعلى. 353.
يونس أمراه التركماني. 131.
***
المصطلحات والمفاهيم والتعبيرات
الخاصّة والملل والنخل
أ
* الأتراك: وردت هذه الكلمة مبعثرة في ثنايا الكتاب أكثر من سبعين مرةً .
* إثبات النّظر في الأمام: 103، 104.
* إدّعاء النقشبنديّين: أن معتقدهم هو معتقد أهل السنة. 98، 171.
* إدّعاء النقشبنديّين: أنهم لم يزيدزا ولم ينقصوا. 171، 187.
* الإسترخاء: 110.
* استحضار صورة الشيخ في الذهن : 45، 46، 54، 58، 65، 67، 81.
* الاستمداد من روحانية الشيخ: 62، 97، 156، 177، 183، 204، 326، 335، 347.
* إشتقاق كلمة التّصوّفِ : 118.
* إعتكاف : 122.
* إغلاق الباب : 59، 61، 62، 95.
* القاب الطريقة النقشبندية : 27، 179.
* إلَهيّات: تسمية ماكرة أطلقها حكّام النظام العلماني على كليات العلوم الإسلامية في جامعات تركيا. 86.
* الأويسية: 27، 115، 120، 154، 181، 183، 185، 226،.
ب
* البرهمية: وردت بكثرة في تضاعيف الكتاب.
* البوذية : وردت بكثرة في تضاعيف الكتاب.
* البكتاشية : 20.(67/19)
* البنجرية : 20.
* البيرمية : 20.
* البيعة : 40.
ت
* التركيز الفزيولزجي Consantration physiologic: 113.
* ترانس (Trence) 53.
* التصوف: 117.
* التكية : 45.
* تغميض العينين: 46.
ج
* الجراحيّة : 20، 259.
ح
* حبس النَفَسِ : 48، 49، 50، 52، 53، 54، 60.
* الحروفيّة : 20.
* حفظ النَّفَسِ : 101.
* الحقيقة المحمدية : 118.
خ
* خواجه : كلمة فارسية بمعنى الشيخ والعالم. 95، 96.
* الخوارج : 20.
* الخلوتيّة : 20.
* الخلوة 100، 106، 108، 121، 122، 129.
* الخفيفيّة : 20.
ذ
* الذكر : 45، 46.
ر
* رابطة. 54.
* الروشنيّة : 20.
* رؤيا شاه نقشبند: 25.
* الرياضة البوذية : 108.
ز
* زهّاد : 21.
* زنادقة العجم: 22.
س
* السير والسلوك: 120
ش
* الشامانية: 15، 20.
* الشيعة : 20، 30، 77، 175، 222، 229، 308.
ص
* "صاحب" : 248.
ط
* طالبان: إسمٌ أطلِقَ على الحكومة الأفغانيةِ التي شكلتها جماعة من طلبةِ الجامعات الإسلامية ذات الطابع القديم والمتخلّف في باكستان. 23.
* طابع الطريقة النقشبندية: 28.
ع
* العارف بالله : 41، 127، 128.
* العشقَ الإلهيَّ :123.
* عكل (اسم فبيلة من العرب): 69.
غ
* الغفلة : 101.
* الغيبوبة Transandantal absance: 113.
ف
* الفناء في الله : 105، 122، 128.
* الفناء والبقاء : 128.
ك
* الكلشنيّة : 20.
* كلمة التصوّف : راحع: التصوّف
* كلمة "صاحب" 248.
* كلمة "قدّس الله سرّه" 133.
* كلمة "ميان" : 248.
* كلمة (نقشبند) : 9.
* كلمة نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
ل
* اللطائف الخمس: 92.
* اللغة التركية :19، 23، 24، 28، 59، 82.
* اللغة الفارسية :23، 24، 37، 38، 175، 220.
* لفظ التصوّف/ راجع : كلمة التصوف.
* لفظ "صاحب" 248،
* لفظ "قدّس الله سرّه" 133.
* لفظ "ميان" : 248.
* لفظُ (نقشبند) : 9.
* لفظ نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
* لوطوس Lotus : 110.
م
* مانترا (Mantra : om, mani, padme, hum)53، 109.(67/20)
* المانوية: 20.
* مديتيشن (Meditation) 53.
* المزدكية: 20.
* مصطلحات فارسية للصوفية: 99.
* مصطلحات عربية للصوفية: 100، 120.
* مفاهيم دخيلة : 125.
* مفاهيم باطنية : 120.
* مقولة "قدّس الله سرّه" 133.
* ملاّ :هي كلمةٌ فارسيّةٌ مبعثرة في ثنايا الكتاب؛ تأتي بمعنى الشيخِ والعالمِ. استعمالُها كثيرة في إيران وأفغانستان وباكستان، وكذلك في تركيا على سبيل الوصف لرجال الدين. يأتي جمعُ هذه الكلةِ بصيغةِ (ملالي) على لسان العرب.
* الملاميَّة : 29، 245، 349.
* المعرفة بالله: 125.
* "من لا شيخ لخ..." : 40، 345.
* ميان: 248،
ن
* النَّفَسُ الوزون : 110
* نقشبند: 9.
* نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
هـ
* الهَيَاطِلَةُ: 15.
* الهمّة والبركة: 200، 269، 347.
و
* وحدة الوجود: 131.
* "وكن عنده كالميّت عند مغسل": 44.
* الواصل إلى الله: 40، 41، 107، 121، 343.
ي
* اليوغا : 50، 51، 52، 60، 61ن 62، 103، 109، 110، 111، 225، 226، 246.
***
أسماء الأماكن والمعالم التاريخية والجغرافية
أ
* أفغانستان: 23،
* آماسيا :
ب
* بخارى: 15،
* بخيرة آرال: 15،
* بنطس: 89،
* البشتون: 23،
ت
* تركستان: 28،
ج
* جامعة مرمرا: 86،
* جَيْحون : 15،
خ
* خراسان: 17، 22،
* خُوَارِزمْ : 15
س
* سمرقند: 15،
* سَيْحون : 15،
ط
* طاشكند: 15،
* طربزون: 89،
غ
* غار حراء : 122،
ف
* فرغانة: 15.
ك
* الكداهية : 29،
م
* ماوراء النهر : 17، 22، 28،
* مسجد إسماعيل آغا: 89،
* مكتبة السليمانية: مكتبة قديمة ضخمة في إسطنبول.يزيد عدد الكتب الموجودة فيها عن أربعمائة ألف مجلّد، كلها أثرية
***
المراجع العربية
أ
أبجدية التصوّف الإسلاميّ، محمد زكي إبراهيم – 1995م. الطبعة الخامسة.
إثبات المسالك في رابطة السالك، مصطفى فوزي.
إثبات النبوّة، أحمد الفاروقي السرهنديّ.
الأجرمية، ابن آجرّوم، محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسيّ.(67/21)
الأذكار المنتخبة من كلام سيّد الأبرار (الأذكار النووية ) محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود العماديّ.
إرغام المريد، محمد زاهد الكوثري.
اصطلاحات الصوفية، خالد البغداديّ، مكتبة السليمانية خزانة لالا إسماعيل رقم: 699/5 إسطنبول.
أصول التصوف الإسلاميّ، حسن شرقاوي، دار المعرفة. الجامعة. إسكندرية – 1991م.
الأعلام، خير الدين زيركلي.
ألفية ابن مالك، محمد بن عبد الله بن مالك الطائي.
الانتباه في سلاسل الأولياء، أحمد بن عبد الحليم شاه ولي الله الدهلويّ.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل، أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاويّ.
الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية، ياسين بن إبراهيم السنهوتي.
إيضاح الطريقة، عبد الله الدهلويّ، مكتبة السليمانية خزانة حسني باشا رقم: 7421 إسطنبول
ب
البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر، حمد الله الداجويّ.
بغية الواجد، أسعد بن محمود الصاحب.
البهائية والقاديانية، أسعد السمحرانيّ.
البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، محمد بن عبد الله الخانيّ.
ت
التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأوّل، محمّد صدّيق خان بن الحسن القنوجيّ البخاريّ.
التاريخ الإسلاميّ، محمود شاكر.
تبرئة الغبيّ عن طعن ابن عربي، جلال الدين عبد الرحمن السّيوطيّ.
تبصرة الفاصلين عن أصول الواصلين، سليمان زهدي.
تحرير الخطاب في الردّ على خالد الكذّاب، معروف النودهي البرزنجيّ.
تحفة العشّاق، إبراهيم الفصيح.
تذكرة الرجال، عبد الكريم البياري.
تذكرة الحفّاظ، الحافظ الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير.
تفسير نمونة (بالفارسية)، لجنة بإشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي.(67/22)
تكملة النفحات الأقدسية في شرح الصلوات العظيمة الإدريسية، محمد بهاء الدين بن عيد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار.
تلبيس إبليس، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزيّ.
التصوّف الإسلاميّ مدرسةً ونظريةً، محمد جلال شرف، دار العلوم العربية – بيروت 1990م.
التصوّف الإسلاميّ منهجًا وسلوكًا، عبد الرحمن عميرة، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة.
التصوّف العربيّ، محمد ياسر شرف، دار الهلال القاهرة – 1982م.
التصوّف في ميزان البحث والتحقيق، عبد القادر حبيب الله السنديّ. مكتبة ابن القيم، المدينة المنوّرة – 1990م.
تصوّفك ظفرلري، شيخ صوفوت. إسطنبول – 1343 هـ.
تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، محمد أمين الكرديّ الأربليّ.
تنوير المقباس في تفسير ابن عبّاس، أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي
تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمدد ابن حجر العسقلانيّ.
ج
جامع الأصول، أحمد ضياء الدين الكموشخانوي.
جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبريّ.
جامع كرامات الأولياء، يوسف بن إسماعيل النبهاني.
ح
الحجج البيّنات في ثبوت الاستغاثة بالأموات، علي محمد البلخيّ.
الحدائق الوردية في حقائق أجلاّء النقشبنديّة، عبد المجيد بن محمد بن محمد الخانيّ.
الحديقة النّدية في الطريقة النقشبندية، محمد بن سليمان البغداديّ.
حلّية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدّعوة والأذكار (الأذكار النووية) ) محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ.
حلّية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الإصفهاني.
د
الدرر السّنية في الردّ على الوهّابية، أحمد بن زيني دحلان.
دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم، محمد أمين بن علي السّويدي.
دين الله الخالص، محمد صدّيق خان بن الحسن القنوجي البخاريّ، دار الكتب العلمية – بيروت 1995م.(67/23)
دين الله الغالب على كلّ منكرٍ مبتدعٍ كاذب، أبو سعيد عثمان بن سليمان بن محمد أمين بن حسين بن إسماعيل بن عبد الجليل الحيائي الموصليّ
ر
رجال الفكر والدعوة في الإسلام، أبو الحسن الندويّ.
الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة، حسين الدّوسريّ.
الردّ المتين على منتقص العارف بالله محي الدين، عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي.
الردّ على القائلين بوحدة الوجود، ملاّ علي بن سلطان القاريّ.
الرسالة الأسعدية، أسعد الأربليّ.
الرسالة التاجية، تاج الدين بن زكريا الهنديّ.
الرسالة الخالدية، خالد البغداديّ.
الرسالة الشطّارية، بهاء الدين الأنصاريّ القادريّ.
رسالة في آداب الطريقة النقشبندية، أحمد خليل البقاعيّ.
رسالة في تحقيق الرابطة، خالد البغداديّ.
الرسالة القدسية، عصمت غريب الله.
الرسالة القشيرية، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ.
الرسالة المدنية، نعمة الله بن عمر.
الرسالة المشغولية، أحمد سعيد المجدّديّ.
الرسالة البهائية علي قدري (ترجمة: رحمي سرين). إسطنبول-1994م.
ز
الزمرد العنقاء، مجمعوة مكوَّنَةٌ من رسائلَ مختلفةٍ.
س
السطرايات (تعاليم باتانجالي الراهب)
السعادة الأبدية فيما حاء به النقشبندية، عبد المجيد بن محمد بن محمد الخانيّ.
سلّ الحسام الهندي في نصرة مولانا خالد النقشبندي، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز إبن عابدين.
سلسلة العارفين وتذكرة الصدّيقين، محمد زاهد البدخشي.
ش
شذرات الذّهب في أخبار من ذهب، ابن العماد عبد الحي بن أحمد بن محمد بن عماد العكري الدّمشقي الحنبلي.
شرح السلسلة المرادية، درويش أحمد الطرابزونيّ.
شرح العقائد النسفية، سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانيّ.
شرح العقيدة الطحاوية، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزديّ.
شرح منظومة الأمالي، محمد بن سليمان الحلبيّ.
الشفاء، قاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكيّ.(67/24)
شواهد الحقّ، يوسف بن إسماعيل النبهانيّ.
ص
صحيفة الصفا لأهل الوفاء، سليمان زهدي.
الصراط المستقيم، محمد إسماعيل الشهيد الدهلويّ.
صفات الصفوة، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزيّ.
الصوفية في إلهامهم، حسن كامل الطنطاوي، القاهرة – 1992م.
الصوفية في نظر الإسلام، سميح عاطف الزّين دار الكتاب اللبناني الطبعة الثالثة بيروت – 1985م.
الصوفية عقيدة وأهدافًا، ليلى بنت عبد الله.دار الوطن للنشر – الرياض.
الصوفية والتصوّف، عدنان حقي، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،7 مال.س. 20682-1 إسطنبول.
ض
الضابطة في الرابطة، سعيد سيدا الجزريّ.
ط
طبقات ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهريّ.
طبقات الشافعية، تاج الدين بن عبد الوهّاب بن علي السبكيّ.
الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، زكريا سليمان البيّومي، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،75 بيت.
طواسين، حسين بن منصور الحلاّج.
ع
العقائد النسفية، أبو حفص عمر بن محمد النسفيّ.
العقل الصوفيّ في الإسلام، علي شلق، دار المدى.بيروت – 1985م.
العلم الشامخ، صالح المقبليّ.
علماء دمشق وأعيانُها، محمد مطيع الحافظ – نزار أباظة.
علماء الإسلام والوهّابيّون، مجموعة مكوّنة من خمسِ رسائلَ، قام بنشرها عقيد مدسوس في صفوف النقشبنديين. مكتبة إيشق، إسطنبول – 1972م
عمل اليوم والليلة، أبو عبد الرحمن النسائي.
عمل اليوم والليلة، أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السنيّ.
عين الحقيقة في رابطة الطريقة، محمد فوزي، مفتي ولا ية أدرنة في أواخر العهد العثمانيّ.
غ
غوث العباد، ببيان الرشاد، مصطفى أبو يوسف الحماميّ.
ف
الفتح الربّاني، عبد القادر الجيلانيّ، مكتبة السليمانية خزانة طاهر آغا رقم: 14 إسطنبول.
الفتوحات الإسلامية، أحمد زيني دحلان.مطبعة المدني القاهرة – 1968م.
الفتوحات المكّية، ابن عربي، محي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطاءيّ.
فصوص الحِكَم، للمؤلّف السابق.(67/25)
الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسّنّة، الطبعة الثالثة، عبد الرحمن عبد الخالق. مكتبة ابن القيم، الكويت.
فلسفة التصوّف، قدرات وطاقات، هاني يحيى نصر، منشورا مجلّة الثقافة. دمشق – 1990م.
ق
قاموس الأعلام، شمس الدين سامي.
قضايا الصوفيّة في ضوء الكتاب والسّنّة، محمد أسيد الجليند، مكتبة الزهراء – القاهرة 1990م.
قطر النّدى وبل الصدى، أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام.
القول الجميل في بيان سواء السّبيل، أحمد بن عبد الحليم شاه ولي الله الدهلويّ.
القول الصواب في ردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب، / راجع دفع الظلوم......
ك
الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر، عبد الوهّاب الشعرانيّ.
كتاب الأربعين في شيوخ الصوفية، أبو سعيد أحمد بن محمد بن احمد الماليني، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،72 مال.ك. 51558 إسطنبول.
الكرامة الصوفية والأسطورة والحُلُم، على زيغور، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،7 زيك. ك. إسطنبول.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشريّ.
كشف الظنون، حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله.
كنتُ قبوريًّا (اعترافات)، عبد المنعم الجدّاوي. الطبعة الرابعة. الرياض – 1981م.
كنز العرفان، أسعد الأربليّ.
ل
اللّباب في تهذيب الأنساب، ابن الأثير عزّ الدين أبو الحسن علي ابن أبي الكرم الشيبانيّ.
م
مجامع الحقائق في أصول الحنفية، عبد الوهّاب.
المجد التالد، إبراهيم الفصيح.
مجلة المجمع العلمي الكردي (مولانا خالد) عباس العزاّويّ.
مختصر شرح بن علاّن.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبو البركات عبد الله بن احمد بن محمود النسفيّ.
مدخلٌ إلى التصوّف الإسلاميّ، أبو الوفاء الغنيمي التفتازانيّ. دار الثقافة القاهرة – 1991م.
المذاهب الصوفية ومدارسها، عبد الكريم عبد الغني قاسم، مكتبة مدبولي القاهرة – 1989م.(67/26)
مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبد الله بن أسعد اليافعيّ اليمنيّ المكّيّ.
المسموعات، محمد زاهد البدخشيّ.
معالم الطريق إلى الله، محمود أبو الفيض المنوفيّ.
معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الرومي الحمويّ
معجم المؤلفين، عمر رضاء كحّالة .
مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين التيّميّ البكريّ الرازيّ.
مقاصد الطالبين، محمد رائف.
المقامات المظهرية، غلام علي عبد الله الدهلويّ.
المقدّمة في التصوّف، أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسين السلميّ، (تحقيق يوسف زيدان) مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة – 1987م.
مكاتيب شريفة، عبد الله الدهلويّ.
مكتوبات السرهنديّ.
مناقب عبد الخالق الغجدوانيّ، فضل الله بن روزبهان الإصفهانيّ، مكتبة السليمانية خزانة يحيى توفيق رقم: 54 إسطنبول.
منتخبات من مكتوبات السرهنديّ.
المنحة الوهبية في ردّ الوهّابية، داود بن سليمان البغداديّ.
منشورات المجمع العلمي الكرمانيّ.
منهج البحث عن اليقين بين السلف والصوفية، عبد المقصود عبد الغني، مكتبة الزهراء القاهرة – 1993م.
المؤامرة على الإسلام، أنور الجندي. الطبعة الثالثة، دار الإعتصام القاهرة – 1978م.
المواهب السرمدية في مناقب السادات النقشبندية، محمد أمين الكرديّ الأربليّ.
موسوعة بهجة المعرفة، نشرتها الشركة العامّة للنشر والتوزيع والإعلان في ليبيا.
موسوعة المورد، منير بعلبكي.
الموفي بمعرفة الصوفي، كمال الدين أبو الفضل جعفر بن تغلب المصريّ، تحقيق: محمد عيسى صالحة. مكتبة دار العربية. الكويت – 1988م.
موقف ابن عابدين من الصوفية والتصوّف، فريد صلاح الهاشمي.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الإمام الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ.
المصباح، ناصر الدين عبد السيد النمطرزيّ.
ن
نظرية الاتّصال عند الصوفية في ضوء الإسلام سارة بنت عبد المحسن بن عبد الله آل سعود. جدّة – 1991م.(67/27)
النقشبندية، عبد الرحمن الدمشقية. دار طيبة، الرياض – 1984م.
نهجة السالكين وبهجة المسلكين، سليمان زهدي.
نور الأبصار، مؤمن الشبانجيّ.
هـ
هذه هي الصّوفية، عبد الرحمن الوكيل. الطبعة الرابعة، دار الكتب العلمية بيروت – 1984م.
و
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلّكان أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر
ي
اليوغا، ج. توندريو – ب. رئال، ترجمة: إلياس أيوب. مكتبة المعارف، بيروت – 1988م.
***
المراجع الأجنبية
A. Faruk Meyan, ?ah-? Nak?ibend. ?stanbul-1970
A Group of Naqshabandis, Râb?ta ve Tevessül ?stanbul-1994
A Group of Naqshabandis, Ruhul Fukkan ?stanbul-1991
Ahmet Ya?ar Ocak, Menâk?bnâmeler. Ankara-1992
Ahmet Ya?ar Ocak, Türk Sufîli?ine Bak??lar ?stanbul-1996.
Ahmet Ya?ar Ocak, Osmanl? Toplumunda Z?nd?klar ve Mülhidler ?stanbul-1998.
Ahmet Ya?ar Ocak, Bekta?î Menâk?bnâmelerinde ?slâm ?ncesi ?nanç Motifleri, ?stanbul-1983.
Ahmet Ya?ar Ocak, Babaîler ?syan?, ?stanbul-1996
Ahmed Faruqî Serhindî, Mektûbât (Translation: Abdulkadir Akçiçek) ?stanbul-1979
Ali Kadri, Tarikat-? Nak?ibendiyye Prensipleri, ?stanbul-1994.
David Dean Commins, Change in late Ottoman Syria. New York-1960.
Erich From, Budhism and Psychoanalysis. New York-1960.
Ancyclopedia of Meydan Larousse, ?stanbul
Ancyclopedia of «Dünden Bugane ?stanbul», ?tem: Otman Babab Velâyetnamesi.
Ferîduddin Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendîlik. ?stanbul-1996.
Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda Mutasavv?flar. Ankara-1993.
H. A. Rose, Rites and Ceremonies of Hindus and Muslims. Undated.
Hasan Küçük, Osmanl? Devletini Tarih Sahnesine C?karan Kuvvetlerden biri, tasavvuf ve Tarikatlar. ?stanbul-1976.(67/28)
Hasan Lütfi ?u?ud, Menâk?b-? Evliya, ?stanbul-1958.
Hüseyin Hilmi I??k, Vehhabiye Nasihat. ?stanbul-1970
?slâm Alimleri Ansiklopedisi (Ancyclopedia of The Muslim Doctors)
?rfan Gündüz, Tasavvufî Bir terim Olarak Râb?ta. No printed.
?rfan Gündüz, Ahmed Z?yâüddîn Gümü?hânevî, Hayat? ve Eserleri. ?stanbul-1984
James Dexter, Meditation. (Translation: G?nül Uzmez) ?stanbul-1996.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendîli?in Kurulu?u ve Yay?l???. ?stanbul-1949.
Mahir ?z, Tasavvuf. ?stanbul-1981.
Martin Lings, What’s Suffism? Britain-1975.
Mehmed Esad Erbilli, Mektûbât, ?stanbul-1983.
Mehmed Zahid Kotku, Tasavvufî Ahlâk. ?stanbul-1982.
Mohammad Yahya Tamizi, Sufi Muvement in eastern ?ndia. Delhi-1992.
Muhammed ?hsan O?uz, Mektuplar. TDV. ?SAM. 297.7
Nikki R. Keddie, Scholars, Saint and Sufiis Muslim Religius ?nstitutions Since 1500 USA-1978.
?mer Demircan, Dünden Bugüne Türkiye’de Yabanc?dil. ?stanbul-1988
?mer ?ngüt, Hakiki Mutasavv?flar,Hakiki Vahdet-i Vücutçular. ?stanbul-1996.
?mer ?ngüt, Refah Dini’ne Mensup Mahmut Efendi’nin Mollalar?na Cevapt?r. ?stanbul-1996.
?mer ?ngüt, Süleymanc?lar?n ?çyüzü. ?stanbul-1996.
Re?at ?ng?ren, VI. As?rda Anadolu’da Tasavvuf (Doktora Tezi) ?SAM. ?st.
R. A. Nicholson., Studies in ?slamic Mysticisme. Britain-1980.
R. S. Bhatnagar, Dimensions Of Classical Sufi Thought. Delhi-1984.
S. Ahmet Arvasî, Do?uanadolu Gerçe?i. Ankara-1992.
Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar. ?stanbul-1994.
Sir James Bolevard, Meditation. (Translation: ?ebnem Gürp?nar) ?stanbul-1993.
Vahdet-i Vücûd Risâlesi, ?mer Ferid Kam. ?stanbul.
***
محتويات الكتاب
الموضوع رقم الصفحة(67/29)
تمهيد....................................................................................................................................................................
الفصل الأوّل
النقشبنديّة، ظهورها وتطوّرها ومناطق انتشارها.......................................................
* أهم الأسباب الّتي لها أثر على ظهور الطريقة النقشبنديّة..................................................................
ـــــــــــــــــــــ
* السبب الأول...............................................................................................................................................
* السبب الثاني..................................................................................................................................................
* السبب الثالث................................................................................................................................................
* السبب الرابع..................................................................................................................................................
* السبب الخامس...............................................................................................................................................
* السبب السادس..............................................................................................................................................
* التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة التركية..................................................................................(67/30)
* المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها...............................................
***
الفصل الثاني
آداب الطريقة النقشبنديّة، ومصادرها، وميّزاتها ...........................................................
البيعة، وآداب المشيخة، وآداب المريد مع شيخه عند النقشبنديّين، والغاية منها...........................................
آداب الذكر عندهم...........................................................................................................................................
ــــــــــــــــــــ
* البيعة...............................................................................................................................................................
* آداب المشيخة وآداب المريد مع شيخه.......................................................................................................
* آداب الذكر عندهم........................................................................................................................................
* الذكر بلسان القلب........................................................................................................................................
* الرابطة...........................................................................................................................................................
* شروط الرابطة و صورة أدائها..........................................................................................................................(67/31)
* أوّل من أحدث الرابطة....................................................................................................................................
* الغاية من الرابطة.............................................................................................................................................
* عقوبة المخلّ بآداب الرابطة............................................................................................................................
* أسلوبهم وطريقة استدلالهم في إثبات الرابطة، ومقالاتهم في الدفاع عنها، وما قيل في ردّها................................
* مِنْ أهمّ ما كُتب في مسألة الرابطة............................................................................................................
* مِنْ آدابهم: الذكر على أساس اللّطائف الخمس..........................................................................................
* الحلقة السريّة الّتي تُسمّىَ "ختم خواجكان"..................................................................................................
* المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة و أسرارها.....................................................................
***
مبادئ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة، وهي أحد عشر مبدءًا
1. هوش دردم...............................................................................................................................................
2. نظر برقدم..................................................................................................................................................(67/32)
3.سفر دروطن...................................................................................................................................................
4.خلوت در أنجمن........................................................................................................................................
5.ياد كرد........................................................................................................................................................
6.باز كشت...................................................................................................................................................
7.نكاه داشت.....................................................................................................................................................
8.ياد داشت.....................................................................................................................................
9.وقوف زماني.................................................................................................................................................
10.وقوف عددي...........................................................................................................................................
11.وقوف قلبي................................................................................................................................................
الفصل الثالث
مفاهيم، ومصطلحات، ومعتقدات أخرى عند هذه الطائف...................................(67/33)
* التصوّف..........................................................................................................................................................
* السير والسلوك..............................................................................................................................................
* العشق الإلهي..................................................................................................................................................
* المعرفة بالله.....................................................................................................................................................
* الفناء والبقاء..................................................................................................................................................
* وحدة الوجود................................................................................................................................................
* وحدة الشهود................................................................................................................................................
* الولاية، والولي، وتصرّف الميّت...............................................................................................................
* المُّكاشفة، والإلهام وعلم الغيب...................................................................................................................
* الأويسيّة..................................................................................................................................................(67/34)
* الكرامة، والمناقب..........................................................................................................................................
* حقيقة مفهوم الغيب..................................................................................................................................
* مفهوم التوسّل في معتقد النقشبنديّة وما ركّبوا عليه من أمور...........................................................
***
الفصل الرابع
حقيقة ما تُسمّيهِ النقشبنديّة "سلسلة خواجكان"، وأسماءُ الّذين هم بمنزلة حلقاتها المقدّسة في اعتقاد هذه الطائفة.......................................................................................
مزعمة "سلسلة السادات"..............................................................................................................................
الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة": شخصياتهم، ومستوياتهم العلمية والاجتماعية، وترجمة أحوالهم بالتفصيل..................................................................................................
ــــــــــــــــــ
سلسلة أسماء الّذين يزعم النقشبنديّون أن طريقتهم انحدرت بوساطتهم..............................................
1.أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه......................................................................................................................
2.سلمان الفارسيّ رضي الله عنه...................................................................................................................
3.قاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم....................................................................................(67/35)
4.جعفر الصادق بن محمّد الباقر رضي الله عنهما.............................................................................................
5.أبو يزيد البسطاميّ..................................................................................................................................
6.أبو الحسن الخرقانيّ........................................................................................................................................
7.أبو علي الفارمديّ........................................................................................................................................
8.أبو يعقوب يوسف الهمدانيّ...........................................................................................................................
9.عبد الخالق الغجدوانيّ...................................................................................................................................
10.عارف الريوكريّ...........................................................................................................................................
11.محمود الإنجيرفغنويّ..................................................................................................................................
12.علي الرامتنيّ..............................................................................................................................................
13.محمّد بابا السماسيّ....................................................................................................................................(67/36)
14.أمير كلال بن حمزة....................................................................................................................................
15. محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف بـ "شاه نقشبند".....................................................................
16. محمّد علاء الدين العطّار...........................................................................................................................
17. يعقوب الجرخيّ........................................................................................................................................
18. ناصر الدين عبيد الله الأحرار.................................................................................................................
19. محمّد زاهد البدخشي................................................................................................................................
20. درويش محمّد السمرقنديّ.......................................................................................................................
21. محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ....................................................................................................................
22. محمّد باقي بالله الكابُلي.............................................................................................................................
23. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بـ "الإمام الربّانيّ".................................................................(67/37)
24. محمّد معصوم الفاروقيّ.............................................................................................................................
25. محمّد سيف الدين الفاروقيّ......................................................................................................................
26. نور محمّد البدوانيّ......................................................................................................................................
27. شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان....................................................................................
28. غلام علي عبد الله الدهلويّ.....................................................................................................................
29. خالد البغداديّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "ذي الجناحين"...........................................................
* خالد البغداديّ ومعارضوه...........................................................................................................................
* خلفاء البغداديّ وأسلوب تعامله معهم...........................................................................................................
* المميّزات الشخصية لشيوخ الطريقة النقشبنديةِ ومستوياتهم العلمية والثقافية......................................................
***
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في المناطق الّتي انتشرت فيها .....
ــــــــــــــــــــــ
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضد الوهّابية.................................................................................................(67/38)
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأثره الهدّام على
* الإسلام والمسلمين........................................................................................................................................
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ...............................................................
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم....................................................................................................
* أهم الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها....................................
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء قي كلامهم من
* ضروب التعارض والضعف.........................................................................................................................
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها..........................................
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًا لبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيها تضادٌّ وتناقضٌ للقائل نفسه بالذات...........................................
* أمثلة من معاداة النقشبنديّين فيما بينهم، ومناهضتهم وتباغضهم وتشنيع بعضهم البعض......
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين..................................................................................................................
* الكلمة الختامية..............................................................................................................................................(67/39)
* الفهارس.......................................................................................................................................................(67/40)
الطريقة النقشبندية
تأليف
عبد الرحمن محمد سعيد دمشقية
نشر
موقع الفرقان
www.frqan.com
المقدمة
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذه رسالة أخرى عن الطريقة النقشبندية تختلف كثير ا جدا عن الرسالة القديمة التي كنت قد الفتها منذ خمس عشرة سنة.
وهذه الرسالة تتضمن حقائق خطيرة لم يمكن الاطلاع عليها من قبل. فإنه عندما كتبت كتاب النقشبندية منذ خمس عشرة سنة، لم يكن عندي من المراجع عن هذه الطريقة إلا ثلاثة. ولذلك فإنني أعتبر ذلك الكتاب القديم نسخة ملغية ولا اعتبار لها مقابل هذه الرسالة الجديدة.
لقد كنت أجمع لفترة طويلة كل ما أجده عن هذه الطريقة من مؤلفات النقشبنديين أنفسهم.
واليوم وبعد أن توافر عندي عشرات المراجع التي لا يستطيع القوم إنكار نسبتها إلى أكابر مشايخهم، قررت أن أعيد تأليف رسالة عنهم تغني تماما عن الكتاب القديم الذي كنت قد الفته. وقد امتازت هذه الرسالة على سابقتها بكثرة الرجوع الى مؤلفات مشايخهم.
وقد يقول قائل من عامة أتباع الطريقة: نحن على هذه الطريقة منذ سنوات طويلة ولم يعلمونا شيئا من هذه النصوص التي ذكرتها عنهم.
وأقول: سلوهم: أليسوا يقسمون إلى عوام وخواص وخواص الخواص؟
الم يصرحوا في كتبهم بأن (لا اله إلا الله) توحيد العوام وأن (لا هو إلا هو) توحيد الخواص(1)؟
فأنتم عندهم من العوام وهم يكتمون عنكم علوما ينتظرون أن تترقوا إلى مرتبة الخواص حتى يبوحوا لكم بها.
والجاهل بالشيء ليس حجة على من قضي الشهور والسنين في متابعة وقراءة كل كتاب صدر عن هذه الطائفة. واحتج على القوم بكتبهم وبأرقام صفحاتها.
فاسألوهم: هل هذه الكتب التي أحلنا عليها معتمدة لديكم؟ واليها قائمة بها:
__________
(1) رشحات عين الحياة 185 المكتبة الاسلامية بتركيا. المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية 164.(68/1)
كتاب الأنوار القدسية في مناقب الطريقة النقشبندية. العبد المجيد الخاني جمع إبراهيم السنهوتي.
إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية الخالدية الضيائية ط: مطبعة بكر افندي بدار الخلافة سنة 1328 هـ.
أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية لمحمد الحبش (مكتبة دار المحبة).
البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية لمحمد بن عبد الله الخاني ط: مكتبة الحقيقة بتركيا.
تفسير سورة التين. كتب عليها « يوزع مجانا عن روح إبراهيم ومحاسن وناريمان فولادكار».
تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ط: دار إحياء التراث العربي.
جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم وأصول كل طريق ومهمات المريد وشروط الشيخ طبع بالمطبعة الجمالية بمصر سنة 1328.
جامع كرامات الأولياء: للنبهاني. ط: دار صادر.
الحجج والبينات في ثبوت الاستغاثة بالأموات ط: مكتبة الحقيقة - اسطنبول.
الحدائق الوردية لعبد المجيد الخاني ط: المطبعة العامرة بمصر 1308.
الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي المتوفي سنة 1234 ط: مكتبة الحقيقة
رشحات عين الحياة لعلي الهروي. ط: المكتبة الإسلامية بتركيا
السبع الأسرار في مدارج الأخيار لمحمد معصوم النقشبندي. ط: شركة مرتبيه مطبعة سي.
كتاب الإيمان والإسلام لخالد البغدادي النقشبندي. ط: مكتبة الحقيقة بتركيا.
المكتوبات الربانية للسرهندي. ط: دار الكتب العلمية.
المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية لمحمد أمين الكردي.
المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية لمحمد أمين الكردي.
نور الهداية والعرفان لمحمد أسعد صاحب زادة.
السعادة الأبدية فيما جاءت به النقشبندية.
وهم يعتذرون بأنهم لا يعرفون شيئا عن هذه الكتب ولكن الأمر ينتهي عندهم إلى هذا الحد. ولا يبحثون بحثا علميا مجردا من التعصب، بل يعودون للطريقة ويتجنبون الكشف على حقيقة مبادئها كما سطرتها كتب مشايخهم.(68/2)
أما من كان مهتما لمعرفة الحق اهتماما علميا فاليه أقدم هذا الكتاب وفيه كل ما يعتقده مشايخ هذه الطريقة من كتبهم بأرقام صفحاتها. وليعلم الغيارى على دين الإسلام والمصلحين أن الفكر الرافضي الباطني قد نخر هذه الأمة حتى العظم،
وأنه آن لنا أن ننفض هذا العار إن كنا حقا نريد أن ينصر الله هذه الأمة ويخلصها مما تعانيه من الذل والتخلف وتقدم الأمم الأخرى عليها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
وكتب:
عبد الرحمن محمد سعيد دمشقية
الطريقة النقشبندية
تنتسب هذه الطريقة إلى محمد بهاء الدين شاه نقشبند. واشتق اسمها منه، ومن ثم عرفت به. ولد في قرية بخارى سنة (717-791).
وكانت قبله تنسب إلى عبد الخالق الغجدواني، وسميت كذلك بالمجددية أو الفاروقية نسبة إلى الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي، وبالخالدية نسبة إلى خالد النقشبندي الملقب بالطيار ذي الجناحين. وهو الذي نشر الطريقة في بلاد الشام بعد أن تلقاها من الشيخ عبد الله الدهلوي. وقد كان انتشارها مقصورا على بلاد بخارى وما حولها(1).
وهو قد أخذها عن شيخه أمير كلال عن الخواجة محمد بابا السيماسي عن علي الراميتني عن محمود النغوي عن الخواجة محمد عارف الديوكري عن الخواجة عبد الخالق الغجدواني(2).
وهو قد لقب بنقشبند لانطباع صورة لفظ الله على ظاهر قلبه من كثرة ذكر الله، وقيل سمي نقشبند، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع كفه الشريف على قلب الشيخ محمد بهاء الدين الاويسي نقشبند، فصار نقشا في القلب(3).
تعاليم فارسية
__________
(1) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشبندية 35.
(2) ذكره محمد الحسيني الزبيدي في كتابه اتحاف السادة المتقين شرح احياء علوم الدين 7/248.
(3) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 539 ط: دار احياء التراث العربي.(68/3)
وأصول الطريقة وتعاليمها فارسية النمط. قام بإخراجها أعاجم من بخارى وطاشكاند ممن كانوا متأثرين بتعاليم الفلسفة، ثم مزجوا هذه التعاليم بالإسلام وكسوها بكساء الشريعة. ومن الأدلة على ذلك ما تجده في هذه التعاليم التي بقيت عناوين تعاليمها بالفارسية حتى في كتب الطريقة العربية:
(هوش دردم) بمعنى حفظ النفس عن الغفلة
(نظربرقدم) بمعنى أن يكون نظر السالك الى قدميه عند المشي.
(سفردروطن) بمعنى سفر السالك من عالم الخلق الى جناب الحق.
(خلوة دارأنجمن) بمعنى المكان الذي يتخلى فيه العبد للتعبد.
(يادكرد) معناه الذكر بالنفي والاثبات.
(بازكشت) أي الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.
(نكاهداشت) أي حفظ القلب عن معنى النفي والاثبات عند الذكر.
(يادداشت) أي حضور القلب مع الله(1).
أصول الطريقة مجملا
وأصول الطريقة النقشبندية متوافقة في كثير من تفاصيلها مع الطرق الصوفية الأخرى. فإن فيها من البدع والشركيات والقول بوحدة الوجود وما يحكونه عن أحوال مشايخهم وخصائصهم وتصرفهم المطلق في ذرات الكون، ما لا يشك معه أحد في أن هذه الطريقة إحدى طرق الصوفية الغلاة، الخارجين على الكتاب والسنة، مع إصرار أصحابها بأنها طريقة سنية لا تخرج عن أهل السنة والجماعة شبرا واحدا (2).
__________
(1) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 54-57 كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار لمحمد معصوم النقشبندي ص 98.
(2) المواهب السرمدية 3 الأنوار القدسية 5 الحدائق الوردية ص 3 لعبد المجيد الخاني ط: المطبعة العامرة 1308. وكتاب البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية لمحمد بن عبد الله الخاني 9.(68/4)
ونقلوا عن الشيخ محمد بارسا (أحد أجلاء أصحاب الشيخ نقشبند) في كتابه فصل الخطاب، أن طريقة الخواجة (شاه نقشبند) حجة على جميع الطرق ومقبولة لديهم، لأنه كان سالكا طريق الصدق والوفا ومتابعة الشرع وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومجانبة البدع ومخالفة الهوى»(1).
ما حكم المعترض على الطريقة؟
وحكموا على من قال: «الطرق الصوفية لم يرد بها كتاب ولا سنة»حكموا عليه بالكفر فقالوا: »وإياك أن تقول: طرق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنة فانه كفر»(2).
وقال صاحب الحديقة الندية بأن الإنكار على السادة الصوفية سم قاتل قد ورد به الوعيد الشديد وهو علامة إعراض القلب عن الله ويخشى على فاعله من سوء الخاتمة(3).
بل قال السرهندي: « وأشقى جميع الخلائق وأبعدهم عن السعادة الذين يرون عيوب هذه الطائفة(4).
وزعموا أن أحمد بن حنبل أوصى بمجالسة الصوفية لأنهم زادوا علينا - يعني على أئمة العلم - بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة ، وأن الشافعي كان يتردد عليهم ويصفهم بأن عندهم الأمر كله وهو تقوى الله.(5).
ومن الملاحظ تلازم الطرق الصوفية الأربعة بالطريقة النقشبندية وهم: الجشتية والسهروردية والقادرية في حين لا يبدو أنه يسمح للمريد النقشبندي بمبايعة طريقة أخرى غيرها كالرفاعية (6).
__________
(1) المواهب السرمدية 77.
(2) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي ص 31.
(3) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي 94. نور الهداية والعرفان ص 67.
(4) المكتوبات الربانية للسرهندي 347.
(5) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي ص 33-35.
(6) أنظر كتاب الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية لمحمد بن سليمان البغدادي النقشبندي ص 12.(68/5)
وقد تفرعت من الطريقة النقشبندية عدة طرق وهي الخالدية أو الضيائية نسبة إلى خالد ضياء الدين البغدادي الملقب بذي الجناحين. والضيائية والكبروية والسرهندية أو المجددية، نسبة إلى أحمد السرهندي صاحب المكتوبات.
مبادئ الطريقة
تمتاز هذه الطريقة على مثيلاتها من الطرق بالاعتقادات التالية:
( يعتقد المنتسبون لهذه الطريقة أن المؤسس الأول لها والواضع لأسسها ومبادئها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بالرغم من أن أبا بكر لا يعرف اسم هذه الطريقة.
وزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: « ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر» (1).
وجرى الصوفية على ربط أنفسهم باسم صحابي، لكي يكتسبوا به صبغة شرعية. فأغلب الطرق الصوفية تلتصق بعلي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم. وكل منها تدعي تلقي العلوم المكتومة الباطنة من طريق علي الذي أوتي علم الباطن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه محاذاة لطريق الروافض.
فهم يزعمون الكشف والتوفيق والإلهام وحصول القرب من الله. وهذا يمكن تقديم الدليل أنه من الله ويدعيه كثير من المبطلين الذين يتوصلون بدعاوى الكشف الى إقناع العوام وتخديرهم وسرقتهم.
__________
(1) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية ص 13 لمحمد بن سليمان البغدادي المتوفي سنة 1234 ط: مكتبة الحقيقة تركيا. البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية ص 6 و9 لمحمد بن عبد الله الخاني. الحدائق الوردية 188. رشحات عين الحياة ص 7 ألفه الشيخ علي بن حسين الواعظ الهروي سنة 889 ط: المكتبة الاسلامية تركيا، ارغام المريد للكوثري ص 29. رسالة في تحقيق الرابطة 13 لخالد البغدادي الملقب بذي الجناحين ضمن كتاب علماء المسلمين وجهلة الوهابية ط: مكتبة الحقيقة - وقف الاخلاص بتركيا. مكتوبات الامام الرباني السرهندي 195 و222 و229. والحديث لا أصل له كما بينه ابن الجوزي في الموضوعات (1/319).(68/6)
فبضاعتهم في الحديث باطلة. وزاد الكوثري كذبة أخرى وهي أن: عبد الرحيم الهندي رأى في بعض الكتب أن أبا بكر رضي الله عنه كان يستعمل الذكر الخفي على طريقة النقشبندية مع حبس النفس ولا يتنفس إلا في الصباح. وكان يشم الناس رائحة اللحم المشوي فتضرروا من هذه الرائحة ظنا منهم أنه يطبخ اللحم، وشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أن هذه الرائحة التي يجدونها رائحة كبد أبي بكر وأنه ليس عنده لحم(1).
وعجبا للسرهندي كيف يدعي بأنه « كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ العلوم من الوحي فكذلك هؤلاء الأكابر (مشايخ الصوفية) يأخذونها بطريق الإلهام من الأصل»(2). أي من الله مباشرة. مع أن أبا بكر لم يزعم أنه يأتيه كشف، ولا غيره من الصحابة.
قالوا: ومن أبي بكر تسلسلت إلى طيفور بن عيسى أبي يزيد البسطامي وهذه مرحلة (الصديقية) ومنه إلى خواجة عبد الخالق الغجدواني وهذه المرحلة تسمى (طيفورية) ومنه إلى محمد بهاء الدين نقشبند وتسمى )خواجكانية) ومنه إلى عبيد الله أحرار وتسمى (نقشبندية) ومن محمد بهاء الدين نقشبند إلى الشيخ أحمد الفاروقي وتسمى (أحرارية) ومنه إلى الشيخ خالد وتسمى (مجددية) ومنه إلى خالد النقشبندي، وتسمى (خالدية)(3) وأنشدوا قائلين(4):
سرّ الطرائق ما بين الخلائق من …إحسانه سار للأصحاب سائره
فالنقشبندي أقواها وأقومها لأنه عن أبي بكر مصادره
__________
(1) ارغام المريد للكوثري 30.
(2) مكتوبات الامام الرباني المسمى بالمكتوبات الشريفة ص 41.
(3) تنوير القلوب ص 539-540 السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية 3 ط: مكتبة الحقيقة اسطنبول.
(4) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية لعبد المجيد الخاني 7و8 المطبعة العامرة القاهرة 1308.(68/7)
وزعموا أنه تم نقل مبادئ الطريقة بعناية عن أكابر السلف كأبي بكر وسلمان الفارسي وجعفر الصادق وبقيت كذلك حتى جاء محمد بهاء الدين الاويسي ثم جاء من بعده الإمام السرهندي (ت 1034) وهو الذي نشر الطريقة في الهند وكتب كتابه المشهور «مكتوبات الإمام» وكتاب «رشحات عين الحياة» لعلي بن الحسن الواعظ الهروي وهذا الكتاب فيه كفريات عجيبة ومع ذلك فهو كتاب عظيم عندهم، احتج به السرهندي الفاروقي النقشبندي والكوثري والخاني(1) واستحسنه واحتج به خالد البغدادي الملقب بذي الجناحين وكتابه مليء بكفر ظاهر لا يقبله مسلم ومع ذلك فان النقشبنديين يثنون عليه ويحتجون به (2)
ثم نشرها في بلاد الشام محمد أمين الكردي. ولا يزال الشيخ أمين كفتارو يعمل على نشر هذه الطريقة في بلاد الشام ولبنان إلى يومنا هذا (3).
في حين يدعي عبد المجيد الخاني (4) أن النبي هو واضع أصول الطريقة قائلا:
رجال الطريقة الخالدية الأولى …
هم صفوة الرحمن في كل مشهد
نبي وصدّيق وسلمان قاسم
وجعفر طيفور وخرقاني فارمدي
__________
(1) انظر البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 48 لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ارغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 60 مكتوبات الامام الرباني ص13 و198 الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة لحسين الدوسري ط: دار الكتب العلمية بهامش مكتوبات السرهندي ص 27 و106.
(2) رسالة في تحقيق الرابطة 3 ضمن كتاب علماء المسلمين وجهلة الوهابيين ط: مكتبة الحقيقة - تركيا وهي مكتبة متخصصة في بث كتب البدع والشرك والطعن في أهل السنة. وبالرغم من تخصصها في بث الشرك فقد جعلوا لها وقفا باسم " وقف الاخلاص".
(3) أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية ص 10 محمد الحبش.
(4) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية ص 7.(68/8)
ويأتي محمد علي الكردي فيدعي أن واضع علم التصوف وطرقه هو الله، وأنه أوحى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وفضل أهل التصوف على سائر الخلق واختصهم بطوالع الأنوار فهم الذين يغيثون الخلق. ويلزم من هذه الدعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم هذا العلم ولم يبلغه، وأن أبا بكر وسلمان كتما العلم أيضا.
كيف ينال المرء مرتبة الصديقية؟
فالصديقية مرتبة عظيمة ولكن: كيف ينالها المرء؟
قالوا: لا يكون الصديق صديقا حتى يشهد عليه سبعون صِدّيقا بأنه زنديق(2).
ونقلوا عن بهاء الدين شاه نقشبند أن بداية الطريقة النقشبندية: نهاية الطرق الأخرى(3).
وأوجبوا على الناس دخول طريقتهم وهددوا من لا يدخل الطريقة النقشبندية بأنه يكون على خطر من دينه فنقلوا عن بهاء الدين شاه نقشبند أنه قال « من أعرض عن طريقتنا فهو على خطر من دينه»(4).
وهم يطعنون في الطرق الأخرى فيقولون عن الطريقة الرفاعية: ومن المدعين للطريق جماعة وسموا أنفسهم بالمشايخ الصادقين... كالأحمدية والدسوقية والرفاعية... فان الغالب على هؤلاء مخالفتهم لطريق من انتسبوا إليه.
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 406.
(2) الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة ص 45 بهامش مكتوبات الامام السرهندي.
(3) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية ص 16 لمحمد بن سليمان البغدادي
(4) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 63.(68/9)
( وتبقى وشائج الاتصال بين الأحياء وبين الأموات من سلسلة مشائخ الطريقة ابتداء من الانضمام إلى الطريقة وأخذ العهد والبيعة، وتدوم الصلة بين المنتمين إليها دائما بسلسلة مشايخ الطريقة الأموات. فمن روحانيتهم يطلبون المدد ويتلقون المعرفة والأدب. ولهم تتم المبايعة، وتختتم مجالس ذكرهم بإهداء ثواب ذلك الختم لسلسلة مشايخ الطريقة فردا فردا (1).
ولهذا كان الشيخ بهاء الدين نقشبند يجتمع بأرواح سلسلة المشايخ النقشبندية ويأخذ العهد والولاية والتكليف منهم في المقبرة (2).
( الحرص على الذكر الخفي والتركيز على أن يكون الذكر بالقلب ويسمونه القلب الصنوبري. وعندهم ما يسمى بالورد الخفي يكون بعد صلاة الفجر. وزعموا أن اللائق بالمبتدئ هو الذكر الجهري فإذا ما ترقى إلى المقامات العلا فانه حينئذ ينتقل منه إلى الذكر الخفي(3).
السجود للكعبة التي تزور الأولياء في الله
وقد شبه محمد أمين الكردي الشيخ بالكعبة: « يسجدون إليها والسجود لله: فكذلك الشيخ»(4).
وهذا تحريف لمعنى الوسيلة في القرآن. والثابت عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في قوله تعالى { ابتغوا إليه الوسيلة } « أي: تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه» قال ابن كثير « وهذا الذي قاله الأئمة لا خلاف فيه»(5).
__________
(1) الطرق الصوفية ومشايخها في طرابلس (205-206) ط: دار الانشاء والصحافة. طرابلس - لبنان.
(2) المواهب السرمدية 113..
(3) الطرق الصوفية في طرابلس ورجالها لمحمد درنيقة 216 دار الارشاد والصحافة. طرابلس - لبنان.
(4) المواهب السرمدية 313 الأنوار القدسية 525.
(5) تفسير ابن كثير 2/52 زاد المسير 2/348 فتح القدير 2/38 تفسير الطبري 6/146-147.(68/10)
والكعبة مسجود إليها عند القوم فقد قال السرهندي الفاروقي شيخ الطريقة النقشبندية ومجددها الأكبر: « إن حقيقة الكعبة الربانية صارت مسجودا إليها للحقيقة المحمدية... وكما أن صورة الكعبة مسجود إليها لصور الأشياء، كذلك حقيقة الكعبة مسجود إليها لحقائق الأشياء، فإن حقائق الأشياء عبارات عن الأسماء الإلهية... وحقيقة الكعبة فوق تلك الأسماء»(1).
وقد ذكر أن الكعبة قد تذهب للطواف حول أولياء الأمة وتتبرك بهم.
قال الغزالي « ومنهم من تأتي الكعبة إليه وتطوف هي به وتزوره» (إحياء علوم الدين 1/269
وذكر النبهاني أن الكعبة أتت إلى ابن عربي هي والحجر الأسود وطافت حوله ثم تلمذت له وطلبت منه ترقيتها إلى المقامات العليا فرقاها، وناشدها أشعارا وناشدته (جامع كرامات الأولياء 1/12).
قال ابن عابدين النقشبندي: « وفي البحر عن عدة الفتاوى الكعبة إذا خرجت من أرضها لزيارة أصحاب الكرامة ففي تلك الحال جازت الصلاة إلى أرضها» (حاشية ابن عابدين 1/302 المطبعة الأميرية). فهذا إجماع من الصوفية بأجمعهم على أن الكعبة تقتلع من الأرض وتذهب شرقا وغربا حيث مقامات الأولياء وأضرحتهم لتتبرك هي بهم.
علاقات خاصة مع الكعبة
وقال محمد المعصوم: « لما دخلت المسجد الحرام رأيت جماعة من الرجال والنساء على غاية من الحسن يطوفون معي باشتياق وتقرب شديد بحيث يقبلون البيت ويعانقونه في كل وقت. أقدامهم على الأرض ورؤسهم بلغت عنان السماء، فتبين لي أن الرجال ملائكة والنساء من الحور العين.
__________
(1) مكتوبات الامام الرباني السرهندي الفاروقي 180 ط: دار الكتب العلمية.(68/11)
ورأيت الكعبة تعانقني وتقبلني باشتياق تام... ولما فرغت من الحج جاءني ملك بكتاب بقبول الحج من رب العالمين... ولما دخلت المدينة المنورة، فلما وقفت رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من الحجرة المطهرة وعانقني... ثم ظهرت نسبتي: ورأيت جميع العالم من العرش إلى الثرى منورا من نوري. قال الخاني: « وكان هذا الشيخ يوصل الطالب إلى الفناء في أسبوع»(1).
بل تكاد العلاقة بينهم وبين الكعبة تكون شيئا آخر. قال عبد الكبير: « قويت في علاقة المحبة بالكعبة بحيث لم يكن لي صبر ولا قرار في محل آخر. وبينما أنا في الطواف إذ هبت الريح وحركت أستار الكعبة وانكشفت بعض جدرانها فحصل لي منه «كيفية».
وظهرت مني صيحة وسقطت مغشيا علي، فلما أفقت قمت بالخجالة والانفعال وتوجهت نحو حضرة الشيخ وأردت أن أشكو إليه بعض ما بي من هذه العلاقة - أي مع الكعبة - فقال لي: يا عجمي: ايش لك مع البيت؟ فبكيت وتوسلت به «بحسب الباطن»
فقال: ما ترى في البيت فهو غير محدود بل هو في الجبال وفي الجدار وفي السماء وافي الأرض وفي الحجر وفي المدر: موجود ومشهود بل كل ذلك هو هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الله الذي لا اله إلا هو»(2).
اتخاذ الوسيلة على نمط الأديان الأخرى
والجواب على هذا السؤال مطابق لما يقوله النصارى حرفا بحرف. فقد أجاب محمد أسعد صاحب زادة عن هذا السؤال قائلا « لما كان الطالب في الابتداء في غاية التدنس، وجناب قدسه تعالى في كمال التقديس، صارت المناسبة التي هي الإفاضة مفقودة، فلا بد من مرشد كامل بصير بالطريق يكون برزخا، ويكون له حظ وافر من الطرفين حتى يصير واسطة لوصول الطالب إلى المطلوب»(3).
__________
(1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية ص 195 المواهب السرمدية 213 الأنوار القدسية 196 جامع كرامات الأولياء 1/204.
(2) رشحات عين الحياة 139.
(3) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 41.(68/12)
من لا شيخ له فهو كافر وفاسق عندهم
بل صرحوا بأن كل من لم يتخذ له شيخا فهو عاص لله ورسوله ولا يحصل له الهدى بغير شيخ، ولو حفظ ألف كتاب في العلم(1).
بل حكموا عليه بالكفر فقالوا: « من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومتى كان شيخه الشيطان كان في الكفر حتى يتخذ له شيخا متخلقا بأخلاق الرحمن»(2).
وهذا شبيه بما نسبه النصارى إلى المسيح أنه قال: « أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يستطيع أن يأتي إلى الأب إلا بواسطتي« (يوحنا 14: 6) وليس في الإسلام شيء يمنع من الوصول إلى الله. ولا واسطة تحول بين الله وبين عباده.
نعم، الشيخ ضروري لطلب العلم منه، لا لوضع صورته في الخيال عند الله! ولا لفتح باب الكشف والوحي والاتصال بغير الله.
الطريق إلى الله مسدودة إلا بالشيخ
وزعموا أنه لا وصول للمريد إلى الله إلا بواسطة الشيخ لأنه بزعمهم بابه إلى حضرة الله تعالى ووسيلته إليه، وهو نائبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا:
__________
(1) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية ص 31 لمحمد بن سليمان البغدادي.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 47 لمحمد بن عبد الله الخاني. نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان لمحمد أسعد صاحب زادة: مصر 1311.(68/13)
« الوصول إلى الله لا يمكن أن يتم بغير صحبة العالم العارف، بل هو المظهر الذي عينه الله للمريد»(1). فان الشيخ يجذب المريد جذبة إلى الله تسمى بالجذبة الإلهية ولا تحصيل لهذه الجذبة إلا بصحبة الشيخ(2). والشيخ كالميزاب ينزل الفيض من بحره المحيط إلى قلب المريد(3).
نموذج من الشرك في عقيدة الطريقة
أما عن الله فيصرحون بأن الصوفي الحقيقي هو الذي لا حاجة له إلى الله. قالوا « وسئل [أي بهاء الدين نقشبند] عن قولهم [أي الصوفية] الفقير هو الذي لا يحتاج إلى الله. فقال: المراد منه كما قال إبراهيم: « حسبي من سؤالي علمه بحالي»(4).
وأما إلى غيره من المخلوقات فالحاجة الماسة.
يصرحون بعدم الحاجة إلى الله
ولقد صرح كبار الصوفية بعدم حاجتهم إلى الله تعالى فانه لما سألهم سائل عن علامة الصوفي (الفقير) قالوا « أن لا يكون له إلى الله حاجة» ذكره القشيري والسهروردي(5).
وقد استبعدوا أن يكون هناك من يغيث الخلق غير النبي محمد، وقد أخرجوا الرب بذلك من حسابهم: من رغبتهم ورهبتهم. فتوجهوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلين:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ …به سواك عند حلول الحادث العمم
يا حبيب الإله خذ بيدي…ما لعجزي سواك مستندي (6)
__________
(1) أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية 6 نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 41 و42 و44.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية النقشبندية 3 لمحمد الخاني ط: مكتبة الحقيقة اسطنبول.
(3) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 42 لمحمد بن عبد الله الخاني. نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 43.
(4) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية ص 131.
(5) الرسالة القشيرية 125 عوارف المعارف للسهروردي 103.
(6) الحجج والبينات في ثبوت الاستغاثة بالأموات 31-32 ط: مكتبة الحقيقة - اسطنبول.(68/14)
ماذا تتضمن مجالس ذكر النقشبندية
وتتضمن مجالس النقشبندية التوجه الى النبي وأهل بيته بغفران الذنوب وقضاء الحوائج. وهي مجالس شبيهة بمجالس الشيعة.
واليكم بعض الأناشيد التي يغنونها في مجالسهم يتوجهون فيها إلى أهل البيت وهي مسجلة لدي بصوتهم. وهنا يخاطبون النبي عليه الصلاة والسلام فيقولون:
يا رسول الله
وقفت بالذل في أبواب عزكم مستشفعاً لذنوبي عندكم بكم
أعفر الخد ذلا في التراب عسى أن تقبلوني وترضوا عن عبيدكم
فإن رضيتم فيا سعدي ويا شرفي وإن أبيتم فمن أرجو غيركم
أنا المقر بذنبي فاصفحوا كرما…فبانكساري وذلي قد أتيتكم
نسيت كل طريق كنت أعرفها…الا طريقا تؤدي لحيكم
لا تطردوني فإني قد عرفت بكم…بين الورى اُدعى بصبكم
* * * * * *
يا ال طه إني عبد ذليل
منكم أرجو استتار فضائحي
يا ال طه نظرة لي بالنبي…
منكم بها تقضى جميع مصالحي
أنتم كرام الدهر كل من التجا…
بجنابكم يا سادتي لم يفضح
والله طهركم وأذهب عنكم رجساً
وفضلكم بطه الاسمح
* * * * * *
وقالوا:
يا من له في الكون من حاجة عليك بالتوسل بالسيدة الطاهرة
نفيسة والمصطفى جدها…أسرارها بين الورى ظاهرة
في الشرق والغرب لها شهرة أنارها ساطعة فاهرة
كم من كرامات لها قد بدت وكم من مقامات لها فاخرة
عابدة زاهدة جامعة …للخير في الدنيا والآخرة
تتلو كتاب الله في لحدها …وهي لمن قد زارها بعون الله ناظرة
في كم من قطر قد سما ذكرها…عاملة فائقة ماهرة
يسقى بها الغيث إذا ما القرى…قد هطلت في سحبها الماطرة
…* * * * * *
وأما أعداء المسلمين فالأناشيد كفيلة بالقضاء عليهم. يقولون:
…يا رب بموسى اجعل رأس المشركين منكوسا
…يا رب بيحيى وزكريا دمر جسور الشيوعية
…يا رب بحق أيوب خلصنا من الذنوب.
…يا رب بحق داود أقهر أشرار اليهود
( وقد أنشد عبد المجيد الخاني في الحدائق الوردية يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -
…يا شفيع الخلق في اليوم العسير…ومجير الناس من نار السعير(68/15)
…أنت روح الكون لولاك لما …خلق الأفلاك مولاك القدير
…أنت مقصود الوجود المصطفى…أنت بين الرسل البدر المنير
…وأنا عبد ضعيف مذنب ……مستجير بحماك المستنير
…وحماك الملجأ المقصود في …كل حال من صغير وكبير
…فأغثني يا غياث الأنبياء……ليس لي غيرك والله نصير
…واستجب لي وقتي ما أشتكي…وأجرني منه يا خير مجير
…يا أبا الزهراء كن لي منقذا…يوم لا يغني كبير عن صغير
…من لهذا المذنب العاصي اذا …لم يجره أحمد الهادي البشير
…وهو ذخر العالمين المرتجى…عاصم العاصي من الهول المبير
…وهو كاف للبرايا كافل……للعطايا ظاهر المجد ظهير
…أنا عبد من عبيد الباب بل …أنا في الأعتاب كلب يستمير
…بل أنا عبد كلاب سكنت……طيبة الطيبة النشر العبير
…عطف الله علينا قلبه……وجزأه كل خير من نذير
…حين قلت حيلتي: قلت له……يا عريض الجاه اني مستجير
…فهو عوني وهو غوثي وبه…أتقي اليوم العبوس القمطرير
وقال أيضا:
…وأنت غياث كل الخلق طرا…وجاهك ذلك الجاه الكبير
…إذا عطف النبي فكل أمر ……عسير من عواطفه يسير
…بسطت يدي مفتقرا إليه……وقلبي بالإجابة لي قرير
…فحاشا أن يرد يدي صفرا……ومن أخلاقه الجود الغزير (1)
وبينما يقولون عن الله: يا كاشف المهمات
يصفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفس الصفة قائلين:
محمد زينة الدنيا وبهجتها محمد كاشف الغمات والظلم(2)
وبينما يخاطبون الله قائلين:
يا من يغيث المستغيث إن لم تغثنا من يغيث
تجدهم في نفس الكتاب يخاطبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - قائلين:
ما مد لخير الخلق يدا أحد إلا وبه سعدا
فلذاك مددت إليه يدي وبذلك كنت من السعدا
باب لله سما وعلا شرفا وامتاز بكل علا
والكل بدعوته اتصلا بالله وحاز به المددا
إني في العسر وفي اليسر بحماه الوذ مدى العمر
__________
(1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية ص 20 - 22.
(2) أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية قارن بين ص 24 وبين ص 38(68/16)
وأقول أغثني يا ذخري وأنلني من كفيك ندى(1)
عقيدة القبور
وللقبر شأن عظيم عند الصوفية عموما، فهو الوسيلة إلى الله، وهو موطن البركات وموضع قضاء الحاجات، والمتوجه إليه في الدعوات. فهذه عقيدة مصدرها ما قاله محمد أمين الكردي:
وكل شأن من شؤون العبادة وطلب العلوم والكشوفات مرتبط بالقبور، بل تلقي العلوم وفيضها والبيعة والتكليف واستمداد كل خير مرتبط بالقبر.
فانهم يعتقدون أن الروحانيات تجتمع في ذلك كاجتماعهم في المنام وبعد الممات، وهو عالم اللاهوت الخارج عن عالم الأجسام والأرواح والخلق(2).
وقد حصل للشيخ بهاء الدين نقشبند التكليف والولاية حينما اجتمع بسلسلة مشايخ النقشبندية الأموات في المقبرة. وأخذ طريقة الذكر الخفي من الغجدواني الميت في المقبرة(3).
« قال بعض المشايخ: إن الله يوكل بقبر الولي ملكا يقضي الحوائج وتارة يخرج الولي من قبره ويقضيها بنفسه» (4). هكذا جاء إسنادها موقوفا على المشايخ ولم يرفعوا السند إلى شيء من كتاب ولا سنة. بل يزعمون أن الولي يخرج من قبره وكأنه ما يزال حيا حياة دنيوية حقيقية.
ولهذا صرحوا بأن المقصود من زيارة قبور الأنبياء والأولياء « الزيارة والاستمداد وسؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواح الأنبياء والأئمة عليهم السلام والعبارة عن هذا الإمداد بالشفاعة»(5).
__________
(1) أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية قارن بين ص 36 وبين ص 62.
(2) الأنوار القدسية 7.
(3) المواهب السرمدية 113.
(4) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 410.
(5) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 38.(68/17)
ويناقض ذلك ما جاء في الفتاوى البزازية أن « من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر. وقال الشيخ فخر الدين أبو سعيد عثمان الجياني: « ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقد بذلك فقد كفر» (1). ولا تنسى أن أكثر أتباع هذه الطريقة مقلدون للمذهب الحنفي ومنتسبون إليه ولكن أين هم من هذه الفتوى الحنفية؟
وقد كذبوا على الشافعي وزعموا أنه قال: « قبر معروف الكرخي: الترياق المجرب»(2).
وجعلوا الخضر الذي تلقى عنه موسى متمذهبا بالمذهب الشافعي(3).
قال الشيخ الكردي: « وما يفعله العامة من تقبيل أعتاب الأولياء، والتابوت الذي يجعل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك، ولا ينبغي الاعتراض عليهم لأنهم يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله، وإنما يفعلون ذلك محبة فيمن أحبهم الله تعالى»(4) .
وقال الكردي: « ولما مات الشيخ بهاء الدين نقشبند بنى أتباعه على قبره قبة عظيمة وجعلوه مسجدا فسيحا» (5). قال » ولم يزل يستغاث بجنابه ويكتحل بتراب أعتابه ويلتجأ إلى أبوابه(6)».
وزعموا أن الله أكرمه بأن جعله في قبره يشفع إلى مسافة مائة فرسخ من جهات قبره الأربع بينما الشيخ علاء الدين النقشبندي يشفع إلى أربعين فرسخا فقط(7).
ويقترح الكردي على زائر قبور الأولياء الآداب التالية:
__________
(1) البحر الرائق 3/94..
(2) الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات المسمى بالدلائل السيفية ص 13 للملقب بـ « محسود الزمان»!!! أبي الأسفار علي محمد البلخي (1981).
(3) الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات 27.
(4) تنوير القلوب 534
(5) المواهب السرمدية 142
(6) الأنوار القدسية 142 .
(7) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية ص 148.(68/18)
( أن يسلم أولا على الولي المقبور ثم يقف مستقبلا القبر، مستدبرا القبلة ثم يقرأ الفاتحة مرة واحدة وسورة الإخلاص إحدى عشرة مرة وآية الكرسي مرة ويهب ثوابها إليه ثم يجلس عنده ويجرد نفسه عن كل شيء حتى يصير لوحا ثم يتصور روحانيته نورا مجردا ويحفظ ذلك النور في قلبه حتى يحصل له فيض من فيوضاته. ويستعين على ذلك بالاستمداد من روحانية شيخه أولا وجعلها واسطة بينها بين المزور» (1).
ويستطيع زائر قبور المشايخ الاستفادة منهم وأخذ الفيض والمدد منهم سواء كان قريبا منهم أم بعيدا عنهم فانه « لا يمنع البعد الصوري في الحقيقة عن التوجه إلى الأرواح المقدسة وبرهان ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : وصلوا علي حيثما كنتم»(2).
محمد بهاء الدين شاه نقشبند
وهو رأس الطريقة وتسمى باسمه. يصفه الكردي بأنه « الغوث الأعظم». اجتماعه بالأرواح والأشباح.
وكان الشيخ بهاء الدين نقشبند يجتمع بأرواح سلسلة المشايخ النقشبندية وأخذ العهد والولاية والتكليف منهم في المقبرة (3) وتلقن الذكر الخفي من روحانية الشيخ عبد القادر غجدواني، وهذا ليس عجيبا فإن الروحانيات تجتمع بعد الممات وهو عالم اللاهوت الخارج عن عالم الأجسام. قال الخاني « ولم يجتمع بهاء الدين نقشبند مع الغجدواني في عالم الأجسام لأن بينهما خمس وسائط من رجال السلسلة» (4).
القبر مصدر التلقي
ويحكي النقشبنديون كيفية حصول العلم وتلقي الحكمة من القبور فيقولون:
إذا أراد المريد أن يزور قبور الصالحين ويستمد من روحانيتهم المقدسة فينبغي له:
أن يسلم على صاحب القبر.
أن يقف في طرف اليمين قريبا من رجليه ويضع يده اليمنى على اليسرى فوق سرته ويطرق رأسه على صدره
أن يقرأ الفاتحة مرة والإخلاص إحدى عشر مرة وآية الكرسي مرة.
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص 534.
(2) رشحات عين الحياة 71.
(3) المواهب السرمدية 113
(4) الأنوار القدسية 7.(68/19)
أن يتصور روحانيته نورا مجردا عن الكيفيات المحسوسة ويحفظ ذلك النور في قلبه حتى يحصل له فيض من فيوضه(1).
وزعموا أن السلف الصالح أباحوا البناء على القبور(2) وهذه كذبة واضحة على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فإنهم ما اختلفوا في تحريم البناء على القبور، واحتجوا في ذلك بكتب الزيدية الذين أفتوا بأنه يكره البناء على قبور غير المشهورين بالولاية .
وزاد محمد علي الكردي على ذلك فزعم حرمة البناء على المقبرة إلا لنبي أو شهيد أو عالم أو صالح(3).
مصادر التلقي عند الطريقة
مدار الطريقة على حصول المعرفة وترقي المقامات العليا والفناء في ذات الله الذي لا إخلاص يتم بدونه(4). وليس بتعلم العلم. فان العلم علمان: علم الوراثة وهو علم الظاهر، وهو يحصل لمن جد واجتهد في طلبه.
والعلم اللدني. ويسمى علم الباطن ولا ينال إلا بالتقوى واليه الإشارة بقوله تعالى { واتقوا الله ويعلمكم الله } . وهذا العلم اللدني يناله العارف بمحض العناية الإلهية وليس بالتعلم(5). بل إن هذا العلم يتلقاه الولي من الحي القيوم بلا واسطة(6).
__________
(1) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية 27 البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 43-44.
(2) رسالة موجهة من محمود حسن ربيع 20 محرم 1381 الى ملك المملكة العربية السعودية آنذاك ضمن كتاب السعادة الأبدية ط: مكتبة الحقيقة ص 15.
(3) نفس المصدر 16-17.
(4) مكتوبات الامام الرباني
(5) رشحات عين الحياة 211.
(6) رسالة في تحقيق الرابطة 12 لخالد البغدادي ضمن كتاب: علماء المسلمين وجهلة الوهابيين 12.(68/20)
قال السرهندي كبير النقشبنديين « واعتقدوا الأذواق»(1) أي الكشف وما يميل إليه الهوى. وقال الدوسري على هامش المكتوبات بأن الصوفية « علومهم حاصلة من الحق بلا واسطة... كما قال بعض العارفين مخاطبا لأهل النظر: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»(2).
وقد خالفوا بذلك صريح قول النبي « إنما العلم بالتعلم». زاعمين أن العلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا علاقة له بالتقوى. وإنما التقوى هي هذا العلم الباطن الذي يروج له الباطنيون.
وهذا كله لا يتم عندهم بالتعلم والتعليم. وإنما يحصل بهذه العوامل:
الفيض من أرواح سلسلة رجال الطريقة الأموات.
مقابلة قلب الشيخ للمريد.
المحاذاة: أي محاذاة الشيخ حيث يسمع ما يقوله ولو من غير الحضور معه فانه يسمع كلامه كما حكى ذلك الكوثري عن أحمد الكمشخاتلي صاحب جامع الأصول(3).
المنامات والرؤى والأحلام.
موقفهم من التعليم والتعلم
ومع أن الطريقة مبناها على العلاقة بين الشيخ والمريد فان الشيخ ليس للتعليم وإنما هو لتحصيل الواسطة وتنظيم العلاقة بين المريد وبين الله ووضع صورة الشيخ في مخيلة المريد. ونحن لا نعلم دينا يوجب صورة شخص كشرط للوصول إلى الله إلا تصاوير هبل ويغوث ويعوق. ولهذا نهى الإسلام عن اتخاذ التصاوير لأن المشركين اتخذوها وسيلتهم للوصول إليه. بل هذا فيه إبطال لقوله تعالى { وإذا سالك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } فالله أقرب إلى المريد من الشيخ، ولم يقل وإذا سالك عبادي عني فان لي أولياء يجيبون دعوة الداع إذا دعاهم.
__________
(1) مكتوبات الامام الرباني 221الفاروقي السرهندي 221 ط: دار الكتب العلمية.
(2) الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة 309-310.
(3) ارغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 87.(68/21)
وفي الحديث « لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» فيتبع الذين كانوا يعبدون الشمس: صورة الشمس.. وهكذا. ويدخل في هذا الحديث من كانوا يضعون صورة الشيخ في مخيلتهم عند ذكر الله تعالى فيتبعون يوم القيامة صورته حتى توصلهم إلى جهنم.
بل يمكن للشيخ أن يربي مريده بالروحانية من غير أن يجتمع به اجتماعا حسيا. وزعموا أن النبي كان يربي أويسا القرني بمثل ذلك(1).
طعنهم في العلم
والعلم عندهم مشغلة لا توصل إلى المطلوب ذلك أنهم يحصلون العلوم الجمة في ساعات وليس كأحمد والشافعي وأبي حنيفة الذين استغرق طلبهم للعلم عشرات السنين.
وقد أكدت كتب النقشبندية هذه الحقيقة فحكوا عن أبي يزيد قوله الموجه لأهل الحديث وطلبة العلم « أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»(2). وحكى القشيري عن أبي بكر الوراق قوله « آفة المريد ثلاث: التزوج وكتابة الحديث والأسفار» وذكر أن أحد الصوفية سئل عن سوء أدب الفقير - أي الصوفي - فقال « انحطاطه من الحقيقة إلى العلم»(3).
وهل الأموات الذين أخذ عنهم أهل الحديث إلا تابعون أخذوا عن الصحابة وأخذ الصحابة عن رسول الله الذي اشترط الله لطالب الهداية اتباعه فقال { وان تطيعوه تهتدوا } ؟
قالوا « فلا سبيل للوصول إلى الله تعالى ولا يقدر أن يتوجه إليه إلا بواسطة الشيخ بل هو أقرب الطرق للوصول إلى الله: والتقرب إلى الله يكون بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله. وهذا موجب للقرب إلى الله ومقتض للشفاعة(4).
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 25 (ص33 حسب الترقيم الخطأ).
(2) المواهب السرمدية 49 الأنوار القدسية 99 طبقات الشعراني 1/5 الفتوحات المكية 1/365 تلبيس ابليس 344 الرحمة الهابطة 309.
(3) الرسالة القشيرية 92 و126.
(4) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 26 (حسب الترقيم الخطأ 36) المواهب السرمدية 170 الأنوار القدسية 167.(68/22)
وهذا عودة إلى المبدأ الجاهلي القديم أن القربى إلى الله لا تحصل إلا بوسيط قال تعالى { والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وركوب لسنن من كان قبلنا كالنصارى القائلين: المسيح هو الطريق إلى الله لا أحد يمكنه الذهاب إلى الله الأب إلا به(1).
وتسمية هذا الوسيط شيخا تعمية وتمويه فان تعليمه للمريد يمكن أن يكون في دقائق فقد حكوا بأن الوصول عندهم يكون بطريق الجذبة (الدفعة) يدفع الشيخ بها المريد فيصل إلى أقصى المعارف وتزول بها العلقة المظلمة في القلب كتلك التي أخرجها جبريل من قلب النبي- صلى الله عليه وسلم -(2)
والإسلام لا يعرف شيخا لا يعلم بل يكون صورة لوضع صورته في خيال السالك إلى الله! حسبما تدعو إليه النقشبندية بشدة وتدعي أنه من غير وضع صورة الشيخ في مخيلة السالك إلى الله لا يتم الوصول إلى الله ولا يمكن تحصيل المقامات العلا.
وقد اعترض على وجوب وضع صورة الشيخ في مخيلة المريد بأنهم لا يمكنهم أن يأمروا المريد بوضع صورة الشيخ في مخيلة المريد إذا كان داخلا في الصلاة. فما الذي يجعل هذا التخيل حراما في الصلاة حلالا في غيرها. وما الداعي إلى رابطة بالله عز وجل غير رابطة الصلاة.
شاه نقشبند يحيي ويميت
وكان يكفي الشيخ بهاء نقشبند أن يقول للرجل « مت» فيموت. ثم يقول له «قم حي» فيعود إلى الحياة مرة أخرى. وذكر قصة طويلة في ذلك وأنه القي إليه أن يقول لصاحبه مت فمات ثم القي إليه أن يقول له عش فأخذت تسري به الحياة شيئا فشيئا ثم عاد إلى الحياة(3).
__________
(1) يوحنا 14: 6.
(2) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 74.
(3) المواهب السرمدية 133-134، الأنوار القدسية 137 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 137، جامع كرامات الأولياء 1/146-147.(68/23)
وقد اعترف السرهندي أن مريدي الطريقة يقولون « الشيخ يحيي ويميت، وأن الإحياء والإماتة من لوازم مقام المشيخة(1).
ويذكر محمد الكردي في تنوير القلوب أن إمداد الشيخ شاه نقشبند لأصحابه حاصل لهم في حياته وبعد موته فلا فرق بين حياته وموته في إمداد أصحابه بكل شيء ودليله قوله تعالى { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } (2).
وكان شاه نقشبند يتمثل هو وكل نقشبندي بأقوال الحلاج ومنها هذا البيت :
كفرت بدين الله والكفر واجب لدي وعند المسلمين قبيح(3)
هذا البيت الشعري مشهور ومتداول في كتب النقشبنديين، كيف يكون فيه شيء من الإيمان من يستحسن نقل هذا الشعر الكفري من الحلاج الذي شهد علماء الأمة أجمعهم بكفره؟!!
وسلم أحد الناس عليه فلم يرد عليه السلام ثم اعتذر إليه بعد ذلك بأنه كان مشغولا بسماع كلام الله(4).
وسئل عن الأدب فقال: « الأدب ترك الأدب».(5)
أحمد الفاروقي السرهندي
لقد بلغ هذا الرجل من التواضع أن فضل النصارى والكفار عامة عليه فزعم أن كفار الإفرنج أفضل منه لأن في الكافر نورانية بسبب امتزاج عالم الأمر فيه بعالم الخلق(6).
مع أنه فضل نفسه على أبي بكر الصديق وزعم أنه بلغ في العروج مرتبة ارتفع فيها فوق مقام أبي بكر والخلفاء الثلاثة الآخرين. وأن بعض النقشبنديين يجد نفسه أثناء العروج في مقام الأنبياء أنه عرج إلى ما فوق مقام الأنبياء(7).
__________
(1) المكتوبات الربانية للسرهندي 349.
(2) تنوير القلوب 500.
(3) الأنوار القدسية 134 الحدائق الوردية 134 واحتج ببيت الشعر مرة ثانية ص 213 واحتج به السرهندي في مكتوباته (ص 282).
(4) المواهب السرمدية 130. الأنوار القدسية 135 ..
(5) المواهب السرمدية 126 الأنوار القدسية 133.
(6) مكتوبات الامام الرباني السرهندي صفحات 17 و200.
(7) مكتوبات الامام الرباني 176.(68/24)
وكان يقول « كثير ما كان يعرج بي فوق العرش وأرتفع فوقه بمقدار ما بين مركز الأرض وبينه، ورأيت مقام الإمام شاه نقشبند ... قال «واعلم أني كلما أريد العروج يتيسر لي(1)».
ويدعي الكشف من الله مع أنه يأتي بما يؤكد أن الكشف من الشيطان فيحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها كحديث « أكرموا عمتكم النخلة»(2).
وينقل عن بعض الموسوسين « ما لم يصل أحدكم إلى حد الجنون لا يصل إلى الإسلام»(3).
إلا صدق الشافعي حين قال « لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمقا، وما لزم أحد الصوفية فعاد إليه عقله أبدا»(4).
وزعم أنه التقى بالخضر والياس عليهما السلام وسألهما: أنتم تصلون على المذهب الشافعي فأجاباه بأنهما ليسا مكلفين بالشرائع ولكنهما يصليان على المذهب الشافعي وراء حضرة القطب لكونه شافعي المذهب، ولكن: كمالات الولاية موافقة للمذهب الشافعي بينما كمالات النبوة موافقة لمذهب أبي حنفية.
ثم نقل عن محمد بارسا (نقشبندي كبير) أن المسيح عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان سيعمل بمذهب أبي حنيفة(5).
هل يحب رسول الله علم الكلام؟
__________
(1) المواهب السرمدية 184 الأنوار القدسية 182 قال وكانت الكعبة تطوف به تشريفا له (المواهب السرمدية 185 البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 80 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية180 (.
(2) مكتوبات الامام الرباني 142 وانظر حول تفضيل نفسه على أبي بكر ص 17.
(3) مكتوبات الامام الرباني 144.
(4) تلبيس ابليس لابن الجوزي ص 371.
(5) مكتوبات الامام الرباني ص 305 المكتوب رقم 282.(68/25)
وبينما يحذر محمد الخاني في البهجة السنية من علم الكلام قائلا « وإياك وتقليد أهل الكلام فانهم ملعبة الشيطان، يدعي أحمد السرهندي الفاروقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشره « بأنك من المجتهدين في علم الكلام»(1). وزعم أن الله ألقى إليه قائلا « إني قد غفرت لك ولمن توسل بك إلي بواسطة أو بغير واسطة إلى يوم القيامة. وقال « أريت الكعبة المطهرة تطوف بي تشريفا منه تعالى وتكريما لي»(2).
ولا يخلو كتاب صوفي من ذكر طواف الكعبة حول الأولياء، ومن عقيدة أهل السنة عند الكوثري جواز ذلك(3).
وأن الله تعالى أعطاه التصرف حتى لو أنه توجه إلى خشبة يابسة لاخضرت وأنه نظر مرة إلى السماء وهي تمطر فقال لها: أقلعي إلى وقت كذا. فحبس المطر إلى ذلك الوقت.
وأن روحانية علي بن أبي طالب جاءته وقال له سيدنا علي: إني بعثت إليك لأعلمك علم السموات. فجمعه بروحانية أبي حنيفة والشافعي وبجميع أساتذتهم فأفاضوا عليه من بركاتهم حتى استغرق في أنوارهم(4).
من الحيوانات شيوخ الطريقة
وحتى الحيوانات فان منها من وصل إلى درجة الولاية الكاملة واعتبر عند الطريقة النقشبندية من شيوخ الطريقة، قال محمد بن عبد الخاني النقشبندي « وأما الحيوانات فلنا منهم شيوخ: ومن شيوخنا الذين اعتمدت عليهم: الفرس، فإن عبادته عجيبة، والبازي والهرة والكلب والفهد والنحلة وغيرهم: فما قدرت أن أتصف بعبادتهم على حد ما هم عليها فيها»(5).
زعمهم أن الله يتشكل بأشكال الحيوانات
__________
(1) قارن بين البهجة السنية 14 وبين الحدائق الوردية 181.
(2) المواهب السرمدية 185.
(3) ارغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 51.
(4) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 182.
(5) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 6 لمحمد بن عبد الله الخاني.(68/26)
حكى صاحب الرشحات أن الشيخ بهاء الدين عمر كان يركب فرسا أبيض في كل الأوقات فسئل عن ذلك فأجاب بأن اختياره للفرس الأبيض لأن بعض التجليات الصورية مشهودا له كذلك. فمثلا وقع التجلي الصوري لموسى في شكل شجرة بالوادي المقدس ووقع التجلي الصوري لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في صورة شاب مخطط الوجه، وقال الشيخ محي الدين ابن عربي: رأيت ربي على صورة الفرس.
قال: وهكذا فالسالكون يرون الحق سبحانه بالتجليات الصورية، حتى انه يتجلى في جميع صور الاشياء من معادن ونباتات وحيوانات وإنسان... وغاية التجلي الصوري وأفضله أن يتجلى الله للسالك في صورة صاحب التجلي... ومنشأ هذا الظهور قول القائل: سبحاني وأنا الحق، وما في الجبة إلا الله، وهل في الدارين غيري، وأمثال ذلك من أدلة حصول التجلي(1).
__________
(1) رشحات عين الحياة 133-134. وكتاب الرشحات معتمد عند سادة الطريقة النقشبندية ولكن أكثر عوامهم لا يعلمون. فقد احتج به السرهندي الفاروقي النقشبندي والكوثري والخاني واستحسنه واحتج به خالد البغدادي في رسالة في تحقيق الرابطة (ص 3) في حين أن هذا الكتاب مليء بكفر ظاهر لا يقبله مسلم ومع ذلك فان النقشبنديين يثنون عليه ويحتجون به.
…وانظر البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 48 لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ارغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 60 مكتوبات الامام الرباني ص 13 و198 الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة لحسين الدوسري ط: دار الكتب العلمية بهامش مكتوبات السرهندي ص 27 و106.
…كل هذه كتب نقشبندية معتمدة ومعروفة عند القوم وهي التي كانت تحيل الى هذا الكتاب وتمدح مؤلفه من غير أن تعترض على شيء فيه.(68/27)
ويحكي النقشبنديون قصة متواترة بينهم عن بدايات سلوك محمد بهاء الدين نقشبند طريق التصوف فذكروا أن شيخه أمره أن يشتغل بخدمة الكلاب ومداواتهم قال « فنهضت بأعباء هذه الخدمة سبع سنين. حتى كنت إذا لاقاني في الطريق كلب وقفت حتى يمرّ هو أولا، ثم بعد ذلك أمرني أن أشتغل بخدمة كلاب هذه الحضرة بالصدق والخضوع وأطلب منهم الإمداد. وقال: إنك ستصل إلى كلب منهم تنال بخدمته سعادة عظيمة. فاغتنمت نعمة هذه الخدمة ولم ال جهدا بأدائها حسب إشارته. حتى وصلت مرة إلى كلب، فحصل لي من لقائه أعظم حال فوقفت بين يديه واستولى عليّ بكاء شديد فاستلقى [الكلب] في الحال على ظهره ورفع قوائمه الأربع نحو السماء فسمعت له صوتا حزينا وتأوها وحنينا فرفعت يدي وجعلت أقول آمين حتى سكت وانقلب... ووجدت حرباء فخطر لي أن أطلب منها الشفاعة فاستلقت على ظهرها وتوجهت إلى السماء (1)، وأنا أقول آمين» (2).
وهذه القصة ما زالت متداولة ومتناقلة بين النقشبنديين في مجالسهم، ولم تعد شيئا منسيا. فقد احتج بها أحد مشايخ النقشبنديين في لبنان في محاضرة له مسجلة بصوته. وهو المسمى رجب ديب.
أقوال صريحة في الكفر
ومن الكفر الصريح ما حكاه صاحب الرشحات قال « جاء مولانا - سعد الدين - يوما حجرتي ورأى مصحفا في الرف:
فقال ما هذا الكتاب؟
فقلت: هو مصحف.
قال: ان ذلك من علامة البطالة فان تلاوة القرآن وظيفة المتوسطين. والصلاة شغل المنتهين وأهم المهمات للمبتدئين: الاشتغال بالنفي والإثبات وترك الأهم، والاشتغال بغيره بطالة
__________
(1) لو كان الكلب والحرباء على المذهب الأشعري لما توجها الى السماء.
(2) المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية لمحمد أمين الكردي 118 -119 الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية 130 لعبد المجيد الخاني جمع ابراهيم السنهوتي. الحدائق الوردية في حقائق أجلا النقشبندية 130 البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 73.(68/28)
كمن يقرأ الفاتحة في القعود زعما منه أنها أم القرآن»(1).
وقال صاحب الرشحات « قال مولانا - سعد الدين - كان لي أب يمشي في الماء ويضع قدمه على الهواء ولكن لم يكن له رائحة من التوحيد. وحضر مرة مجلسه كثير من الأكابر والعلماء فقال الشيخ: إن الله سبحانه ليس بعالم للغيب، فانفجع أكثر الحاضرين من هذا الكلام وارتعدت فرائصهم حتى تغطى البعض بثوبه من الخوف لكونه خلاف نص التنزيل «بحسب الظاهر»(2).
وقد أقر السرهندي أن قائل هذا الكلام هو عبد الكريم اليمني وابن عربي(3).
يتحدثون عن موت الرب
وسئل شيخهم «مولانا» عبد الرحمن الجامي عن تعبير رؤيا رآها أحدهم وهي أنه رأى في المنام أن الله سبحانه قد مات فما يكون تعبيره؟ فقال: يحتمل أن يكون زال من قلب صاحب هذا المنام وانعدم شيء من أهوائه بموجب قوله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } (4).
الرب عندهم يصلي!!!
ومن مراتب ومقامات الولاية عند النقشبندية مرتبة: حقيقة الصلاة. وهي مرتبة عالية جدا.
قالوا « ولعل فيما ورد في قصة المعراج « قف يا محمد فإن الله يصلي» إيماء إلى حقيقة هذه المرتبة» ثم انتهى إلى أن الله « في الحقيقة هو العابد والمعبود»(5). وهذا تصريح بموافقة ابن عربي في قوله:
…الرب عبد والعبد رب……يا ليت شعري من المكلف
ولقد قال أحد النقشبنديين في لبنان (أحمد بدر الدين حسون) في خطبة له مسجلة عن الإسراء والمعراج فذكر هذه العبارة أن الله يصلي ثم قال ( فيا تارك الصلاة، إلا تتشبه بربك؟ إلا تقتدي بربك؟ إن ربك يصلي وأنت لا تصلي؟(.
__________
(1) رشحات عين الحياة 148.
(2) رشحات عين الحياة 153.
(3) مكتوبات الامام الرباني ص 106 المكتوب المائة.
(4) رشحات عين الحياة 197.
(5) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 83 لمحمد معصوم العمري النقشبندي.(68/29)
فها قد زعم النقشبنديون أن الله يصلي فماذا تنتظرون يا مسلمين بعد ذلك. هذه مقولة شنيعة لم يقل بمثلها الكفرة ولا المجوس. وأن الله هو العابد وهو المعبود.
ونقل السرهندي أن السلطان محمود الغزنوي أرسل إلى أبي الحسن الخرقاني النقشبندي يذكره بطاعة أولي الأمر فلما قرأ عليه { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } قال إني مشغول بطاعة الله بحيث لم أفرغ بعد لطاعة رسول الله»(1).
الجامي يصرح: لا مبدأ ولا معاد
قال السرهندي « ورأيت جماعة من المريدين يستشهد بشعر مولانا عبد الرحمن الجامي قدس الله سره:
ما مبدأ ولا معاد صاح إلا وحدة…ما نحن في ذا البين إلا كثرة موهومة(2)
مقام الجهل بالله
أما ثمرة وغاية الذكر عندهم حصول الجهل بالله والانتهاء إلى التصريح بأنهم يذكرون من لا يعرفون.
قال «مولانا» علاء الدين « سألني الشيخ عبيد الله أحرار عن الذكر قلت: لا اله إلا الله. قال: ما هذا ذكر: هذا عبارة. قلت: فما هو عندك؟ قال: أن تعرف بأنك لا تقدر أن تعرفه. ثم قال: ينبغي - على السالك - أن يقبل ويتوجه إلى الجهل وأن ينوي الصلاة هكذا: أعبد الله الذي لا أعرفه: الله أكبر»(3).
كفر آخر
وأعظم من ذلك ما حكاه صاحب الرشحات أن الشيخ الجامي النقشبندي سال أحد مريديه « ما يقول شيخكم حين يغضب عليكم؟ قال: يقول: إذا حضرتم عندي تكونون على حذر مني وإذا خرجتم من عندي تنسون الله ولا تعرفونه أبدا! قال الشيخ: فما تقولون له حينئذ؟ قال: نسكت ولا نرد شيئا. قال الشيخ: يا عجبا ليست عندكم همة. ينبغي لكم أن تقولوا: نحن لا نعرف الله بل نعرفك أنت».
وقال لهم مرة « كان الله ولم نكن نحن. ويكون الله ولا نكون. والآن نحن معدومون أيضا والله موجود(4).
مقام الخمر والسُكر
__________
(1) مكتوبات الامام الرباني السرهندي 134.
(2) المكتوبات الربانية للسرهندي 354.
(3) رشحات عين الحياة 139.
(4) رشحات عين الحياة 140.(68/30)
وكعادة السرهندي يعتذر عن مثل هذه الأقوال بأنها حصلت في حالة سكر الولي وغياب عقله. وهو عذر أقبح من ذنب.
ويتغنون بمقام السكر والخمر ومدح المخمورين.(1) فيقولون كما ذكر الكردي:
فيا حادي العشاق قم واحْدُ قائما ودندن لنا باسم الحبيب وروحنا
وصُن في سرنا سُكرنا عن حسودنا وإن أنكرت عيناك شيئا فسامحنا
فإنا إذا طبنا وطابت قلوبنا وخامرنا خمر الغرام تهتكنا
فلا تلم السكران في حال سكره فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
وسلم لنا فيما ادعيناه إنا إذا غلبت أشواقنا ربما بحنا
وقد اعترف السرهندي كبير النقشبنديين صدور فظائع الكلام من مشايخ الطريقة النقشبندية، كقولهم بأن الولي أفضل من النبي وقول الواحد منهم أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني. ولكنه بررها فقال « وما وقع في عبارات مدح الكفر والترغيب في شد الزنار فمصروف عن الظاهر المتبادر فانهم معذورون بغلبة السكر في ارتكاب هذه المحظورات» (2)
السرهندي يعتبر الإنسان على صورة الله
واعتبر السرهندي أن الإنسان نسخة جامعة من عالم الإمكان بطريق الحقيقة، ومن طريق الوجوب بطريق الصورة أن الله خلق آدم على صورته.
قال: فالله خلق آدم على صورته وهو منزه عن الشبيه والمثلية:
فكذلك خلق الله روح آدم التي هي خلاصته على صورة لا شبيهة ولا مثلية.
وكما أن الحق سبحانه لا مكاني: فكذلك الروح لا مكانية.
ونسبة الروح إلى العالم كنسبة الله تعالى: لا داخلة في العالم ولا خارجة عنه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه... وانتهى إلى أن خلق العالم يدل على أصله.
وصرح بأن كمالات الإنسان مستفادة من كمالات الرب ومن هنا ورد أن الله خلق آدم على صورته ومعنى من عرف نفسه عرف ربه.
فلا جرم كان الإنسان خليفة الرحمن ولا عجب: فإن صورة الشيء خليفة الشيء.
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 492.
(2) مكتوبات الامام الرباني السرهندي ص 33 وكذلك 114 .(68/31)
وما لم يُخلق على صورة شيء لا يليق بخلافه شيء(1).
ووصف القلب بالعرش المجيد وأنه لو القي عرش الرحمن وما فيه في زاوية من قلب العارف لما أحس به صاحبه لأن القلب جامع للعناصر والأفلاك والعرش والكرسي... بل لصار العرش مضمحلا ومتلاشيا، ومن هذا القبيل كلام بعض المشايخ الذين صدر عنهم وقت غلبة السكر كقولهم: إن الجمع المحمدي أجمع من الجمع الإلهي»(2).
وللتعريف بمعنى الشهود عند النقشبندية يقرر صاحب الرشحات أن للشهود معنيين:
أحدهما: شهود الذات المبرأة عن الظهور في لباس المظاهر. يفسر الكوثري ذلك أكثر بما نقله عن الإمام الرباني في مكتوباته أن الكمال في « التوحيد الوجودي: ظهور أن العبد والرب: رب»(3).
ولهذا يقسم النقشبنديون التوحيد إلى قسمين:
1 - توحيد وجودي: بمعنى أن تؤمن أنه لا موجود إلا واحد وهو الله. وأن كل ما سواه معدوم. قاله السرهندي. أضاف: ومثل هذا التوحيد قول الحسين بن منصور الحلاج: أنا الحق، وقول أبي يزيد: سبحاني ما أعظم شأني(4).
2 - توحيد شهودي: أن لا تشاهد في الكون إلا الله.
وإذا كان ما سوى الله معدوما وهو كالظل، لا وجود حقيقي له ففعل ما سوى الله أيضا ليس فعلا حقيقيا وإنما هو فعل الله في الحقيقة.
__________
(1) مكتوبات الامام الرباني السرهندي 373 وكذلك 326 حول النص الذي قبله.
(2) المكتوبات الربانية المسماة بالمكتوبات الشريفة ص 100 وانظر 236
ط: دار الكتب العلمية.
(3) ارغام المريد شرح نظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 71.
(4) مكتوبات الامام الرباني المسمى بالمكتوبات الربانية ص 56.(68/32)
نعم أقر السرهندي هذا القول فزعم أنه لما كانت إرادة البشر مخلوقة لله تعالى من غير تأثير لها في حصول المراد كانت تلك الإرادة كالميت... فلذلك فالتأثير أيضا مخلوق فيها... ففي تأثيرها لا اختيار له أصلا فيكون تأثيرها كالجماد، ثم انتهى إلى التصريح بأن المؤثر في الأفعال إنما هو قدرة الله تعالى لا تأثير لقدرة المخلوق كما هو مذهب علماء المتكلمين(1).
وهؤلاء يصيحون في وجه ابن تيمية: من أين لك تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية والإلوهية والأسماء والصفات؟
أما أن يقسموا التوحيد إلى قسمين كل منهما ينفي وجود ما خلق الله ويجعلون الخالق والمخلوق شيئا واحدا فهذا تقسيم مشروع!
ويصرح صاحب كتاب مدارج السبع بأن « الصوفية الوجودية هم القائلون بوحدة الوجود مثل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وغيره رحمهم الله الذين كانوا أرباب التوحيد، وأنهم معذورون لغلبة حالهم» (2).
فالتوحيد لفظ شرعي شريف صار هؤلاء يطلقونه ويصطلحون فيما بينهم على أن معناه وحدة الوجود. فلا تغتر بلفظ التوحيد إذا ذكره النقشبنديون فانهم يريدون به الفناء بالله ووحدة وجود الممكن بالواجب. تعالى الله عما يقولون.
البشر عند النقشبنديين ظلال أسماء الله وصفاته
ويحكي السرهندي أنه بالوصول إلى عالم العلوي ينتهي إلى امتزاج العدم بالوجود الذي هو منشأ الإمكان... وبالسير إلى الله تتم دائرة ظلال الأسماء الواجبة ويحصل للسائر الوصول إلى مرتبة الأسماء والصفات، وفي هذا الموطن يتحقق الشروع في حقيقة الفناء. فإن هذه الأسماء هي في الحقيقة كالحجب، ساترة لوجه حضرة الذات تعالت وتقدست (3).
__________
(1) مكتوبات الامام الرباني ص 14 وكذلك أنظر ص 28.
(2) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 48-50 ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331.
(3) مكتوبات الامام الرباني 240 وانظر أيضا ص 242.(68/33)
ثانيهما: شهود الذات من لباس المظاهر من غير وصف الكثرة بل بنعت الوحدة ويقال لهذا الشهود عند الصوفية شهود الاحدية في الكثرة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الشهود بعد البعثة»(1). وقد عبر نقشبندي آخر وهو محمد مصطفى أبو العلا عن هذا الشهود بقوله « فإذا داوم المريد على المراقبة ترقى إلى مرتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحدة الذات الإلهية محيطة بجميع الأشياء وأنه تعالى متجل بصفاته وأسمائه في مصنوعاته»(2).
قال صاحب الرحمة الهابطة « قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: قد يصدر عن العارف بالله إذا استغرق في بحر التوحيد بحيث تضمحل ذاته في ذاته وصفاته في صفاته» وذكر تندم اللقاني (3) على قتل الحلاج وأن قاتله لو فهم مقصوده من كلامه لما وجد مساغا لقتله(4).
بل صرح مشايخهم كالسرهندي وغيره بأن « سائر الموجودات مظاهر الأسماء الإلهية ومرايا شؤوناته وكمالاته الذاتية » وأن هذا العالم إنما هو مظهر لظهور كمالات الأسماء والصفات الإلهية(5). وأن الله كان كنزا مخفيا فأراد أن يعرض نفسه من الخلاء إلى الملاء.
__________
(1) رشحات عين الحياة 213 نور الهداية والعرفان ص 41.
(2) رسائل القصور (مجموعة رسائل الغزالي) بتحقيق محمد مصطفى أبي العلا 4/183.
(3) هو ابراهيم اللقاني الملقب بالبرهان وهو صاحب كتاب جوهرة التوحيد المقرر في التدريس بالأزهر يتغزل بالحلاج ويتندم على قتله. ومع ذلك تعتمد أكبر مرجعية علمية كتبه!
(4) الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة ص 125-126.
(5) مكتوبات الامام الرباني ص 121 وكذلك انظر ص 42 و43 و326 وانظر نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 83.(68/34)
وأن أشخاص العالم ظلال الأسماء والصفات حيث يخرج السالك عن أوصافه ويتصف بأوصاف ذلك الظل وإن حصل للسالك الترقي عن هذا الظل ينصبغ بلونه ويصل إلى الأصل الذي هو اسم من الأسماء الإلهية: وحينئذ تصير القطرة بحرا والحصاة جبلا... فلما حصل للسالك الفناء والبقاء: صار بحرا وجبلا» وهذا عندهم هو السير للتحلي بأسماء الله وصفاته ويسميه السرهندي *السير الاسمائي والصفاتي» ويحدد هذا السير بأنه « نهاية عروج الأنبياء والأولياء أولا إلى أسماء إلهية هي مبادئ تعينات وجودهم»(1).
ويقول عبيد الله أحرار « كمال الحمد أن يحمده العبد ويعرف أنه لا حامد إلا هو تعالى. وأنه - أي العبد - عدم محض لا رسم له ولا اسم ولا فعل وإنما يبتهج سرورا بكونه تعالى جعله مظهرا لصفاته(2)... فانه إذا تجلى الحق على قلبه - أي السالك - بالتجلي القهري يمحو منه الغير والسوا، فلا يبقى فيه إلا هو(3) فلا جرم يسمع في هذا القلب لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، وسبحاني ما أعظم شأني وأنا الحق وهل في الدارين غيري»(4).
وقد أورد صاحب الرشحات تساؤلا أبداه أحد الحاضرين للشيخ سعد الدين النقشبندي ونصه ما يلي « إذا كان لا وجود غير وجود الحق سبحانه الذي هو الوجود المطلق وأن الظاهر في لباس المظاهر واحد: فما معنى مخالفة أهل الإسلام لأهل الكفر ومنازعتهم إياهم؟
__________
(1) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 55 لمحمد معصوم العمري النقشبندي وانظر مكتوبات الامام الرباني ص 198 وانظر ص 192.
(2) أنظر مكتوبات الامام الرباني للسرهندي الفاروقي النقشبندي 43.
(3) و «هو» عندهم من أسماء الله الحسنى!!!
(4) الأنوار القدسية 161-162.(68/35)
أجاب الشيخ: لما كان وجود الحق سبحانه الذي هو الوجود المطلق الذي لا وجود غيره عند محققي الصوفية مقترنا بالتعينات والنسب والاعتبارات ونحوها من النعوت التي تلحقه بواسطة تعلقه بالمظاهر: جرى كل واحد من أفراد الممكنات بمقتضى مبدأ تعينه الذي هو حقيقته فأفضى ذلك إلى نزاع موسى عليه السلام بموسى السامري لاختلاف مبدأ تعينهما. فإذا ارتفعت تلك النسب والاعتبارات بحكم (واليه يرجع الأمر كله) برجع موسى إلى الاتفاق كما كانا على ذلك قبل عروض التعين والمراد بموسى الثاني هو السامري: فان اسمه موسى أيضا فان أمه ربته بين الجبال فرباه جبريل عليه السلام كما قيل:
إذا الطفل لم يكتب حنينا تخلفت…ظنون مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر…وموسى الذي رباه فرعون مرسل(1).
تصريحهم بوحدة الوجود
كان بعض النقشبنديين يعتبون علي ويقولون: أنت تتصدى لمن يقولون لا اله إلا الله. لماذا لا تكرس جهودك ضد أعداء التوحيد وتترك الذين يشهدون أن لا اله إلا الله وشأنهم؟!
ولكن ماذا تعني لا اله إلا الله عند هؤلاء؟
ولقد قال النقشبنديون: « معنى كلمة لا اله إلا الله بالنسبة إلى حال المنتهين: لا معبود إلا الله. وبالنسبة إلى حال المتوسطين: لا مقصود إلا الله. وبالنسبة إلى حال المبتدئين: لا موجود إلا الله»(2).
يقول صاحب الرشحات « قال بعض الأكابر في معنى لا اله إلا الله: أحيانا يقول في مرتبة سلوكه: لا معبود إلا الله وأحيانا لا مقصود إلا الله وأحيانا لا موجود إلا الله»(3).
وذكروا أن (لا اله إلا الله) ذكر العوام. و(الله) ذكر الخواص) و (هو) ذكر خواص الخواص(4). هكذا جعلوا (هو) أفضل وأعلى مرتبة في الذكر من لا اله إلا الله.
__________
(1) رشحات عين الحياة 213.
(2) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 86.
(3) رشحات عين الحياة 141.
(4) رشحات عين الحياة 185 المواهب السرمدية 162.(68/36)
فهم يقولون لا اله إلا الله ويفهمون أن الموجود الحقيقي ولا غير هو الله بل هو متجل في صور المخلوقات التي نراها كلها!!!
ويستحق المرء عندهم أن يوصف بأنه عالم بعلم التوحيد « اذا اعتقد توحيد الافعال والصفات والذات وتقرر في قلبه أن لا فاعل في الوجود الا الله. فحينئذ يقال لمثل هذا: إنه عالم بعلم التوحيد»(1).
الطريقة النقشبندية على ثلاث طرق
وقد قسم شيخ الطريقة النقشبندية السرهندي الطريقة النقشبندية الى ثلاث طرق:
الاولى: قائلون بأن العالم موجود في الخارج بإيجاد الحق.
الثانية: يقولون بأن العالم ظل الحق سبحانه. وأن الوجود قائم بوجود الحق قيام الظل بالاصل. مثلا: اذا امتد الظل من شخص وجعل ذلك الشخص من كمال قدرته وصفات نفسه منعكسة فيه».
وقد زعم السرهندي أنه غلبته الحال حتى وصل الى مقام الظلية ووجد نفسه وسائر العالم ظلا كما تقول به الطائفة الثانية من النقشبندية. ظنا منه أن الكمال في وحدة الوجود(2).
الثالث: قائلون بوحدة الوجود. أي في الخارج موجود واحد فقط: وهو ذات الحق... ويقولون: إن الحق متصف بصفات وجوبية وإمكانية، ويثبتون مراتب التنزلات، ويقولون باتصاف الذات الواحدة في كل مرتبة وأحكام لائقة بتلك المرتبة، ويثبتون للذات التلذذ والتالم، ولكن لا بالذات بل في حجب هذه الظلال المحسوسة الموهومة. ويلزم من هذا محظورات كثيرة شرعا وعقلا... وهؤلاء الطائفة وإن كانوا واصلين كاملين ولكن كلامهم دل على طريق الضلالة والالحاد وأفضاهم الى الزندقة والالحاد.
فحكم بأن قولهم عين الزندقة والضلال ثم وصفهم بأنهم من الواصلين الكاملين(3). مع أنه اعتذر عن القائلين بوحدة الوجود بأن قولهم بوحدة الوجود سببه السكر وغلبة المحبة لله(4).
__________
(1) رشحات عين الحياة 211.
(2) مكتوبات الامام الرباني 141.
(3) مكتوبات الامام الرباني السرهندي 138-139.
(4) مكتوبات الامام الرباني 342.(68/37)
غير أنه وافقهم على ذلك في كثير من أقواله، فزعم أنه لما وصل الى مقام الفناء في الله « رأيت نفسي وكل فرد من أفراد العالم بل كل ذرة منه: الحق جل وعلا ورأيت نفسي عين جميع الذرات حتى وجدت تمام العالم مضمحلا في ذرة واحدة... ثم وجدت صور العالم وأشكاله عين الحق تعالى موهومة... فتذكرت عبارة الفصوص(1) حيث قال « إن شئت قلت إنه أي العالم حق، وإن شئت قلت إنه خلق. وإن شئت قلت إنه حق من وجه ومن وجه خلق... وبعد ما شرفت بعد الفناء بالبقاء لم أجد غير الحق ووجدت جميع الذرات مرآة لشهوده سبحانه.
ولما رجعت الى نفسي وجدت الحق سبحانه مع كل ذرة من ذرات وجودي»(2) واعترف بأن عبارة الفصوص مشعرة بعدم التمييز بين الله وبين خلقه. وقد صدق في اعترافه هذا.
وقد تقدم اعتراف مؤلف نقشبندي آخر بأن « الصوفية الوجودية هم القائلون بوحدة الوجود مثل الشيخ الاكبر محي الدين بن عربي وغيره رحمهم الله الذين كانوا أرباب التوحيد، وأنهم معذورون لغلبة حالهم» (3).
السرهندي يقول: وجدت الله عين نفسي
يقول أحمد السرهندي « وجدت الله عين الاشياء كما قاله أرباب التوحيد الوجودي من متأخري الصوفية ... ثم وجدت الله في الاشياء من غير حلول وسريان، ثم وجدته سبحانه معها بمعية ذاتية، ثم رأيته بعدها ثم قبلها ثم رأيته سبحانه وما رأيت شيئا وهو المعني بالتوحيد الشهودي وهو المعبر عنه بالفناء فوجدت الله عينها بل عين نفسي، ثم وجدته تعالى في الاشياء بل في نفسي ثم مع الاشياء بل مع نفسي» (4).
__________
(1) أي فصوص الحكم لابن عربي الذي قال فيه الذهبي «إن لم يكن فيه كفر: فليس في العالم كفر».
(2) مكتوبات الامام الرباني 334.
(3) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 48-50 ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331.
(4) المواهب السرمدية182 الأنوار القدسية 181 البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 78.(68/38)
وسئل شاه نقشبند عن قول البعض « اذا تم الفقر فهو الله» فقال: هذا اشارة الى الفناء. وأنشد يقول (1) :
……من كان لم تكن …لم يك الا الله
……واذا فنيت من بقي…لم يبق الا الله
وقد تركوا للحلاج تبيين معنى وحدة الشهود فقالوا: هو كقول الحلاج: أنا الحق وقول أبي يزيد: سبحاني(2).
ومقصودهم بالتوحيد الوجودي وحدة الوجود بين الله وخلقه. والدليل على ذلك قولهم إنه يجب على الشيخ أن يشغل المريد في ابتداء أمره بظواهر الشريعة ويغلق عليه باب الكلام في التوحيد المطلق. فان من فتح هذا الباب على مريديه ربما تزندقوا فخسروا الدارين(3).
ونحن نسال كيف يؤدي التوحيد وعبادة الله الى أقوال الزندقة الا أن يكون للتوحيد عندهم معنى آخر وهو وحدة الوجود
وبالطبع، الكلام عن التوحيد على منهج الانيياء لا يؤدي الى الزندقة وخسارة الدارين بل من حقق التوحيد دخل الجنة. وانما التوحيد عند النقشبندية عبارة عن وحدة الوجود ويسمونه توحيدا: تمويها وخوفا من التشنيع والتكفير(4).
__________
(1) المواهب السرمدية 124 والأنوار القدسية 132.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 81 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 180.
(3) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 34.
(4) أنظر مكتوبات الامام الرباني السرهندي 212 و213 و214 و215 و216.(68/39)
وقال في تنوير القلوب « قال أبو سعيد الخراز: اذا أراد الله أن يوالي عبدا من عبيده فتح عليه باب ذكره. فاذا استلذ الذكر فتح عليه باب القرب. ثم رفعه الى مجالس الانس. ثم جعله على كرسي التوحيد(1). ثم رفع عنه الحجاب وأدخله دار الفردانية وكشف له حجاب الجلال والعظمة. واذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقي بلا هو فحينئذ يصير العبد زمنا فانيا.
ثم أنشد صاحب التنوير يقول:
وبعد الفناء في الله كن كيفما تشاء…
…………فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر(2)
يقول شيخهم محمد بارسا «إن حقيقة الذكر عبارة عن تجليه سبحانه لذاته بذاته في عين العبد»(3). وهكذا يصبح الذاكر عندهم عين المذكور وبالعكس.
ويفسر عبيد الله أحرار قول الله تعالى { فأعرِض عمّن تولّى عن ذكرنا } أي أعرِض عمن استغرق واستهلك في ذات الله. واحتج بما قاله محي الدين بن عربي
الا بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب
وترك الذكر أحسن منه حالا فإن الشمس ليس لها غروب (4)
- حكى صاحب الرشحات أن السالكين يرون الحق سبحانه بالتجليات الصورية، حتى انه يتجلى في جميع صور الاشياء من معادن ونباتات وحيوانات وانسان... وغاية التجلي الصوري وأفضله أن يتجلى الله للسالك في صورة صاحب التجلي... ومنشأ هذا الظهور قول القائل: سبحاني وأنا الحق وما في الجبة الا الله وهل في الدارين غيري وأمثال ذلك من أدلة حصول التجلي(5).
__________
(1) لا يعرف المسلمون شيئا اسمه كرسي التوحيد ولكن المتخصصين في الصوفية يعرفون أن هذه اشارات يرمزون بها الى وحدة الوجود والفناء في الله، هذه عقيدة موروثة من الهندوس والبوذيين.
(2) تنوير القلوب 510 وكذلك 466 والرسالة القشيرية 118-119.
(3) الأنوار القدسية 167 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية ص 162..
(4) المواهب السرمدية 161. الحدائق الوردية 161.
(5) رشحات عين الحياة 133-134.(68/40)
وقد زعموا أن هذه الحالة هي حالة سكر وتوهم وخطأ يحصل عند الذاكر في سكرته فيحصل له ما يشبه الوحدة بالله ولهذا تصدر عنهم هذه الكلمات وتلك الاحوال. فاذا أفاقوا عرفوا أن ما حدث لهم يشبه الاتحاد. ويخرج على السنتهم كلام الشطح والكفر لحصول قمة الصلة بالله! وحينئذ يقول: أنا الحق وسبحاني(1).
هل تتسبب العبادة الصحيحة في التلفظ بالكفر؟!
وبالطبع فهذه النتيجة الخطأ دليل على أن العبادة خطأ وعلى أن الشيطان يستحوذ عليه. فلو كان هذا الذكر متوجها الى الله توجها صحيحا لما أثمر الكفر وانتهى بادعاء الذاكر للالوهية!!!
وحرم الله الاقتراب من الصلاة { وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . وهؤلاء يدعون أن العبادة هي سبب السكر وتعطل العقل!
وذكر صاحب كتاب الرشحات أن رجلا سال المولى بهاء الدين عمر عن قول القائل (الممكن عين الواجب) فرجع عن هذا الكلام وقال (بل الواجب عين الممكن) فقال: ما هناك فرق بين الكلامين. فلم يتجاسر أحد في الجواب ولم يقولوا شيئا»(2). وقد صرح صاحب السبع الاسرار أن حقيقة مقام الفناء هو فناء السالك هو « اتحاد وجود الممكن بوجود واجب الوجود وذلك نسبة لغلبة التوحيد وقوة ظهور الوحدة على بصيرته»(3).
- وذكر في قوله تعالى { لمن الملك اليوم } أن المراد من (الملك) قلب السالك حين يتجلى الله سبحانه للقلب بقهر الاحدية لا يترك فيه شيئا غيره فيلقي اليه صدى { لمن الملك اليوم } فاذا لم ير في تلك المملكة غيره يجيب تعالى بنفسه بالضرورة بقوله { لله الواحد القهار } ويسمع صدى (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري)(4).
__________
(1) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 31 لمحمد معصوم العمري النقشبندي استانبول 1331 .
(2) رشحات عين الحياة 198.
(3) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 58 تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي .
(4) رشحات عين الحياة 186.(68/41)
- وصرح نقشبندي آخر بأن « وجود الحق مثل المرآة: ووجود الممكنات مثل الصور التي تنجلي في المرآة. فوجود المرآة حقيقي. ووجود الصور فيها وهمي وخيالي»(1).
الاتحاد بذات الله وصفاته وأفعاله
ويذكرون أنه عندما يتجلى الله للعبد بذاته يجد العبد جميع الموجودات وصفاتهم وأفعالهم متلاشية في أشعة ذاته تعالى وصفاته وأفعاله ويجدها بالنسبة اليه كالاعضاء الى البدن... ويرى ذاته وذات الحق سبحانه وتعالى وصفاته وصفات الحق وأفعاله مع الافعال الحق متحدة لكونه مستهلكا في عين التوحيد، ولا يرى شيئا غير الله. فيرى الصور الموجودة هي الله عينه وهذا ما يسمونه بالتجلي الصوري لله(2). هذا قول السرهندي.
وذكر صاحب الرشحات أن المريد اذا سلك طريق المذلة والمسكنة يحصل له الفناء حتى يرى جمال الشاهد اللاهوتي في مرآة انعدامه»(3).
قال عبد الكبير «بينما أنا في الطواف إذ هبت الريح وحركت أستار الكعبة وانكشفت بعض جدرانها فحصل لي منه «كيفية» وسقطت مغشيا علي، وتوجهت نحو حضرة الشيخ فقال لي: ما ترى في البيت فهو غير محدود بل هو في الجبال وفي الجدار وفي السماء وفي الارض وفي الحجر وفي المدر: موجود ومشهود بل كل ذلك هو هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو الله الذي لا اله الا هو»(4).
بالفناء يخرجون عن طور البشرية الى الالوهية
واذا حصل الفناء بالله عندهم صاروا طورا آخر غير الطور البشري. وبعد ورود الفيض يترقى السالك حتى تنقص مناسبته عن طور البشرية، فترتفع عنه صفات البشرية.(5)
__________
(1) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 72 لمحمد معصوم العمري النقشبندي استانبول 1331 .
(2) رشحات عين الحياة 112 مكتوبات الامام الرباني السرهندي 297 و301.
(3) رشحات عين الحياة 199.
(4) رشحات عين الحياة 139.
(5) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 66 لمحمد معصوم العمري. ط: 1331 استانبول، المكتوبات الربانية للسرهندي الفاروقي ص 40 .(68/42)
قال بهاء الدين نقشبند « كنت في بستان فغلبت علي الجذبات الالهية فحصل لي غيبة اتصلت بالقناء الحقيقي وحقيقة الفناء في الله عز وجل ورأيت أني في صورة نجم في بحر من بحور بلا نهاية ثم بعد ست ساعات رُدَتْ اليّ بشريتي شيئا فشيئا» (1).
ولعلك تسال عن معنى قوله (فعادت الي بشريتي شيئا فشيئا)؟
فالى أي مادة تحول بعد خروجه من طور البشرية؟ بالطبع اذا حصل الفناء بالله فهو خروج عن الطبيعة البشرية الى الطبيعة الالهية. لا سيما وأنه يتلفظ بالفاظ الكفر (أنا الحق وسبحاني) الشبيهة بقول فرعون (ما علمت لكم من اله غيري وأنا ربكم الاعلى).
هل العشق أعظم من المحبة؟
تبين مما تقدم أن مرتبة الفناء في الله والخروج عن طور البشرية يعتبر غاية الغايات عند النقشبندية وأن كل أذكارهم وطقوسهم انما هي لأجل ذلك.
وجعل محمد أمين الكردي العشق لمرتبة خواص الخواص: ومحبتهم لله عبارة عن التعشق الذي ينمحي به العاشق عند تجلي نور معشوقه»(2).
مع أن الله لم يذكر مرتبة أفضل من مرتبة (يحبهم ويحبونه) وكذلك (لا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه). ولم يقل (يفنى فيهم ويفنون فيه) أو (يعشقهم ويعشقونه). ولا يتصور مؤمن أن يحب الله أحدا أكثر من رسوله وأصحاب رسوله ولم يقل منهم أحد إنه يعشق الله أو إن الله يعشقه. وهذا هو قول العز بن عبد السلام.
والعشق لفظ أفتى ابن عبد السلام بمنع استخدامه فيما يتعلق بمحبة الله كما في فتاويه (ص 72). وقال ابن الجوزي « العشق عند أهل اللغة لا يكون الا لما ينكح» ونقل عن أبي الحسن النوري أنه سمع رجلا يقول «أنا أعشق الله عز وجل وهو يعشقني» فقال له: سمعت الله يقول { يحبهم ويحبونه } وليس العشق بأكثر من المحبة»
__________
(1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية ص 130.
(2) تنوير القلوب 487.(68/43)
وانما يكثر التكلم عن الفناء والعشق عند الهندوس البراهمة كما اعترف به النقشبنديون بأن ما يحصل لهم من المكاشفات والتجليات والفناء في الله شبيه بما يحصل للهندوس البراهمية فقالوا « وبراهمية الهندو جوكية وفلاسفة اليونان لهم كثير من قسم التجليات الصورية والمكاشفات المثالية والعلوم التوحيدية وليس لهم من نتائجها سوى الفساد والفضاحة ولا نصيب لهم من الرحمن»(1).
ولكن كيف سلموا للهندوس ذلك واعتبروا ذلك منهم كشفا وتوحيدا وهم يعلمون أنهم أكثر الناس شركا مما يؤكد أنهم اذا أطلقوا لفظ التوحيد فانهم يعنون به وحدة الوجود!
وقد ذكروا أن طريقة الذكر عند النقشبندية تورث في قلب الذاكر سر التوحيد حتى يفنى عن نظره وجود جميع الخلق ويظهر له وجود الواحد المطلق في المظاهر»(2).
وذكر عبيد الله أحرار أن الله إذا تجلى في قلب العبد يمحو منه الغير فلا يبقى فيه الا هو، فيسمع القلب حينئذ (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري)(3) .
وقالوا اذا توجه الشيخ الى قلب المريد تحصل للمريد الحركة العلمية: فيخرج من دائرة الامكان الى دائرة الوجوب(4). وهذا الكلام يفهمه من يعلم ما اصطلح عليه علماء الكلام حيث يقسمون الموجوات الى وجود واجب وهو الله، ووجود ممكن وهو كل ما سوى الله من المخلوقات.
وخطر ببال أحد الواقفين أمام الشيخ محمد سيف الدين الفاروقي أن هذا الشيخ متكبر فعرف ما في قلبه وقال له ( تكبري من تكبر الحق تعالى( والقصة نفسها منسوبة الى بهاء الدين نقشبند(5).
__________
(1) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية 9 مكتوبات الامام الرباني 218 .
(2) المواهب السرمدية 90.
(3) المواهب السرمدية 162.
(4) نور الهداية والعرفان 76.
(5) المواهب السرمدية 215 الأنوار القدسية 200 جامع كرامات الأولياء 1/204 الحدائق الوردية قارن بين 135 و200 وحكاها السرهندي الفاروقي في مكتوباته ص 79.(68/44)
وفي معنى قوله تعالى { إنّا أعطيناك الكوثر } أي: أعطيناك شهود الاحدية في الكثرة» (1). فهؤلاء إتحاديون وحدويون حلوليون يدعون الى وحدة الوجود.
الحقيقة المحمدية
حقيقة الحقيقة المحمدية عند القوم شيء ليس مخلوقا وانما خلقت الاشياء منه أو به. وهذه عودة الى عقيدة النصارى وفلسفتها. بما أن مادية نبينا - صلى الله عليه وسلم - عند النقشبندية قد صارت في حكم المجرد لم يكن له ظل(2).
الكفر الصريح
وانظر ماذا يخفي القوم وراء لفظ الحقيقة المحمدية لتعلم: كيف ينصر الله هذه الامة وهي على هذا المعتقد المضاهىء لعقيدة النصارى والهندوس.
يقول في الحدائق الوردية ما نصه « اعلم أن الله تعالى لما توجه لخلق العالم خلق روحا كليا سماه حضرة الجمع والوجود لكونه جامعا لحقائق الوجود وسماه بالحقيقة المحمدية. لكون محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل مظاهرها ..
وما زال الحق تعالى يخلق الموجودات من الحقيقة المحمدية علوية وسفلية لطيفة وكثيفة بسيطة ومركبة. وكلما خلق صورة قبضها الى صورتها الاولى حتى انتهى الامر الى الانسان فخلقه منها ولم يقبضها. فكان الانسان صورة حضرة الجمع والوجود.
ثم خلق الله العماء الذي كان فيه الرب قبل خلق الخلق وكان أول ما خلق الله في العماء الارواح المهيمة والعقل والنفس الكلية. فهم مخلوقون من حضرة الجمع والوجود وهم مظاهر لها. لكن دون مظهرية الانسان الكامل.
والكمال الانساني عندهم مرآة للكمال المحمدي. والكمال المحمدي مرآة للكمال الالهي. ولا يتجلى الحق الا من خلف حجاب الكمال المحمدي اذ هو الواسطة العظمى التي لا كمال الا بها(3).
محمد من نور لا من طين
__________
(1) الأنوار القدسية 162 .
(2) تفسير سورة التين ص 9. وطبعت رسالة بالانجليزية وزعها القبرصلي بين الانجليز بعنوان: هل كان للنبي ظل؟
(3) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة وختم الخواجكان 26 (34 حسب الترقيم الخطأ).(68/45)
وقد زعموا أن جسد نبينا - صلى الله عليه وسلم - نوراني لأن أصل خلقته نورانية وأن روحانيته سر ملكوتي ولهذا كان لا يرى له ظل بالغدو والاصال»(1).
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - الانسان الاكمل فانه لا انسان يماثل محمدا. وكل ما عداه فهو مخلوق منه. فهو عين الوجود الصادر من الله تعالى بلا واسطة سوى الامر فهو صورة الامر الالهي الذي لا صورة له في نفس الامر.
ويكذب ذلك ما رواه مسلم عن عائشة قالت « فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي في بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك...». وفي رواية « افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فظننت أنه ذهب الى بعض نسائه، فتحسست ثم رجعت فاذا هو راكع أو ساجد» (3)
فالطبيعة ظاهرة وهو باطنها بل ليست الطبيعة غير الروح الا باعتبار كثافة بعض الصور ولطافة بعضها. فقيل: الطبيعة مغايرة للروح، فاذا أراد الله ايجاد شيء توجه اليه الروح وتوجهه عينه وعين ما توجه على المرآة هو عين وجود صورة المتوجه: عين التوجه عين الصورة...
ولهذا فتنبهوا من يصف النبي بالانسان الكامل يخفي عن القوم تاليها للنبي قالوا: وأول الصور: النور المحمدي لما روي: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر» (2) انتهى
واحتج السرهندي بقول ابن عربي أن الجمع المحمدي أجمع وأشمل من الجمع الالهي(3).
فهل في الكفر أفحش من هذا الكفر ومن هذه الفلسفة المقتبسة من كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص الذي ان لم يكن فيه كفر فليس في الدنيا كفر كما قاله الذهبي.
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 24.
(3) مسلم رقم ( 486 و 487) في الصلاة باب ما يقول في الرحوع والسجود.
(2) الحدائق الوردية 283-284 (ترقيم خطأ 275-276).
(3) مكتوبات الامام الرباني المعروفة بالمكتوبات الرشيدية للسرهندي الفاروقي 193.(68/46)
ومع ذلك يثني الكوثري الثناء البالغ على الفتوحات وأنه من أعظم السنوحات ويعلل سبب الطعن عليه من الجاهل لدقة مدركه(1).
غرقى في تعاليم المدرسة الفلسفية
ان الطريقة النقشبندية متلطخة بتعاليم فلاسفة التصوف الذين صنفهم ابن تيمية بأنهم شر الصوفية وغلاتها. وتأمل نموذجا من مصطلحاتهم الفلسفية. قالوا « مقام الخفي فوق الثدي الايمن بمقدار الاصبعين وحقيقته لاهوتية لطيفة ملازمة لعالم الصفات وهو باطن السر والطف منه، ومرتبته مرتبة الجبروت والاستغراق... ومقام النفس الناطقة في الدماغ »(2). فأين هذا من السنة التي زعموا أنهم لا يخرجون عنها قيد أنملة؟!
وكما تبين لكم بالدليل فان غاية مبادئها وأهدافها تحقيق وحدة الوجود على النمط الذي كان يصرح به ابن عربي والحلاج وغيرهم.
صفات الاولياء عند النقشبندية صفات الالوهية
وأما أنواع الاولياء وأوصافهم فقد توسع الكمشخاتلي النقشبندي في بيان ذلك وبالغ حتى جعل لهم صفات الربوبية. فقال ما نصه:
« وأما أنواع الاولياء والمتصرفين: فمنهم قطب الاقطاب وقطب الارشاد وقطب البلاد وقطب المتصرفين. وهم الكلمات الجامعة الالهية. وقدرتهم القدرة الذاتية... وهم أقطاب العالم وهؤلاء الاوتاد نوابهم: لا موت ولا عارض ولا صعق ولا تغير لهم(3)».
فهكذا صرح بأنهم لا يموتون ولا يتغيرون ولا تؤثر عليهم عوارض الدنيا.
يتابع فيقول:
__________
(1) إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية الخالدية الضيائية ط: مطبعة بكر افندي بدار الخلافة سنة 1328 هـ.
(2) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 78.
(3) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم وأصول كل طريق ومهمات المريد وشروط الشيخ 131 لأحمد ضياء الدين الكمشخاتلي. طبع بالمطبعة الجمالية بمصر 1328. وهذا الكتاب من أخبث كتب القوم وأوغلها في الكفر بعد كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار وكتاب رشحات عين الحياة.(68/47)
ومنهم الاثنا عشر نقيبا: وهم مطلعون على تأثيرات الكواكب التي تنزل على البروج.
ومنهم النجباء وهم ثمانية عدد السموات مع الكرسي: وهم واقفون على أحوال النجوم ومطلعون على أسرار النجوم والكرسي والعرش.
ومنهم: ثلاثمائة رجل من الاولياء على قلب آدم.
ومنهم أربعون على قلب نوح.
ومنهم سبعة غير الابدال السبعة على قلب ابراهيم.
ومنه خمسة على قلب جبريل.
ومنهم ثلاثة على قلب ميكائيل.
ومنهم واحد على قلب اسرافيل. وعلمه علم اسرافيل جامع للقبض والبسط وعلى هذا المشرب أبو يزيد البسطامي.
ومنهم ثمانية عشر قائمون بحقوق الله وظاهرون بأمره ويحكمون بما أراد الله.
ومنهم خمسة عشر رجلا وهم المسمون رجال الحنان والعطف الالهي.
ومنهم أربعة يسمون رجال الهيبة والجلال وهم يمدون بالاوتاد الاربعة: قالبهم روحاني وقلبهم سماوي معروفون في السماء مجهولون في الارض وعلمهم مما لا يتناهى.
ومنهم رجال الاشتياق وهم خمسة.
ومنهم رجال الايام الست... وهذه الايام مقالة الصفات السبع: الاحد موجود من صفة السمع. والاثنين من صفة الحياة والثلاثاء من صفة البصر. والاربعاء من صفة الارادة، والخميس من صفة القدرة. والجمعة من العلم. والسبت من الكلام. وكل واحد نال من مظهرية صاحبه:فافهم».
يزعمون أن قدم الجيلاني على رقبة كل أولياء الله
الصوفية هم الطاعنون في الاولياء
وبعد هذا نسال: من هم الطاعنون في الاولياء؟
الصوفية هم الذين زعموا أن عبد القادر الجيلاني قال « قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى». صرح السرهندي بأن السهروردي سمعها من عبد القادر نفسه، إذ كان مصاحبا له.(1)
__________
(1) المكتوبات الربانية للامام السرهندي 350 نور الانصاف في كشف ظلمة الخلاف 29 وقلادة الجواهر ص 113 وضوء الشمس في قول النبي بني الاسلام على خمس 133 كلها للصيادي الرفاعي وجامع كرامات الأولياء للنبهاني 1/293..(68/48)
وهذا طعن بالنبي وصحابته لأن النبي أعظم أولياء الله يليه الصحابة. وعبد القادر لم يخصص جماعة من الاولياء دون آخرين بأنهم تحت قدمه بل أطلق وعمم أن كل ولي لله فهو تحت قدمه. فمن الطاعن في أولياء الله؟!
وحقيقة الامر أن الصوفية قد كذبوا على لسان نبيهم، وكل واحد منهم يزعم أنه يراه يقظة بين الاونة والاخرى فكذبهم على سواه من باب أولى. وقد كذب الحافظ ابن رجب هذه الرواية عن الجيلاني واتهم راويها (الشطنوفي) بالوضع والكذب(1).
الاولياء خالقون عند صاحب الرشحات؟!
بل قد نسبوا الى الاولياء الخالقية فقال صاحب الرشحات « قال حضرة شيخنا: قد أعطي بعض العارفين قدرة على كل ما أرادوا خلقه»(2).
ولهم نظر آخر وراء القوة المبصرة: يرون به الاشياء في ليلة مظلمة من مواضع بعيدة ولا يكون البعد المكاني مانعا عن هذا النظر»(3).
فعالون لما يريدون
هكذا أثبتوا صفات مشايخهم فقال صاحب الرشحات « كما أن معارضة القرآن غير ممكنة فكذلك معارضة الاولياء أصحاب الهمة (4) فإن همة العارف فعالة لا يتخلف المراد عنها فمن عارض تلك الهمة يصير مغلوبا البتة.
وضرب لذلك مثالا، فحكى أن سعد الدين الكاشغري وغيره كانوا يمتحنون قوة همتهم فيذهبون الى أمكنة المتصارعين فيتوجهون بهمتهم الى أحد المتصارعين وهو ضعيف فيتغلب على خصمه وان كان أقوى منه. وأن قوتهم لا يقف في وجهها ولا حتى مائة الف رجل فان في أكابر سلسلتهم تصرفات يحصل كلما يريده خواطرهم. والعجيب قوله أن مثل هذه الهمة تحصل حتى للكافر اذا توجه بخاطره الى أمر وصرف همته اليه يحصل له ذلك الامر وليس الايمان والعمل الصالح شرطا فيه(5).
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة 1/293.
(2) رشحات عين الحياة 133.
(3) رشحات عين الحياة 144.
(4) الهمة اصطلاح صوفي يعني: القوة الخارقة الباطنة التي يستطيع بها الولي نصر جيش على آخر.
(5) رشحات عين الحياة 216-217 وانظر 220-221.(68/49)
ولمزيد تخويف العامة من الاعتراض فقد حكوا أن أحد أولياء النقشبنديين اعترض عليه رجل فعاقبه هذا الولي بمرض الاسهال. فصار يقعد بين النجاسات والقاذورات ويضعها في أنفه ويقول نعم الشيء المسهل ويعمل من نجاسته دمى يلعب بها ثم تقطعت أمعاؤه ومات بسبب شدة مرض الاسهال الذي أصابه به الولي(1).
وكلام الصوفية عن الخوارق لا يمت الى الواقع بصلة فان التاريخ لا يثبت لواحد منهم شيئا من هذه القوة الخارقة المزعومة بالرغم من المغالطات العجيبة في كتبهم فقد زعموا أن فتح السلطان محمد الفانح للقسطنطينية انما تحقق حين طلب السلطان المدد من عبيد الله أحرار النقشبندي فظهر له الشيخ راكبا على فرس أبيض وقال له لا تخف فقال له السلطان: كيف لا أخاف وعسكر الكفار كثير؟ قال السلطان: فأراني الشيخ في كمه فاذا فيه عساكر لا تحصى وقال له: جئتك بهذه العساكر لاعانتك»(2).
فأبشروا يا مسلمين، هناك جنود مجندة في أكمام مشايخ الطريقة.
ولكن؛ لماذا يخبئونهم في أكمامهم؟ وفلسطين لا تزال تحت الاحتلال.
متى سمع المسلمون المغترون بترهات التصوف أن الطريقة الصوفية استردت أرضا مسلوبة؟
إن التاريخ لا يذكر للصوفية شيئا من هذه الحكايات الغريبة. فأين كانوا يوم دخل التتار ويوم دخل الصليبيون واين هم اليوم واليهود والنصارى في الشرق والغرب يحتلون بلاد المسلمين؟ انها دعاوى لا تعدو أوراق وكتب الصوفية الصفراء. ان الذين امتلأت كتبهم بالروايات الموضوعة والمكذوبة لم تخل من باب أولى من القصص والحكايات المكذوبة أيضا.
__________
(1) رشحات عين الحياة 228-229.
(2) رشحات عين الحياة 229.(68/50)
وذكروا أيضا أن الشيخ منصور البطائحي ـ خال الشيخ الرفاعي ـ حضر معركة بين جيش العراق وجيش العجم لم تقع بعد . فصفق بيده فتصادم الجيشان ، ثم قبض اليد اليسرى وقال : هذه لجيش العجم . فظهر جيش العجم على جيش العراق . فلما بسطها ظهر الجيش العراقي وهزم الجيش العجمي هزيمة ساحقة(1).
يعلمون الغيب وما في الصدور
وقد صرح النقشبنديون بأن مشايخهم يعلمون ما يختلج في صدور الناس، فقال الدهلوي « وللنقشبندية تصرفات عجيبة من التصرف في قلوب الناس والاشراف على خواطر الناس وما يختلج في الصدور»(2).
لما حصل للشاه نقشبند التكليف والولاية للطريقة اجتمع مع سلفه من أصحاب الطريقة (أمواتا) فأعطوه علامات قبول ولايته وقالوا له « تذهب غدا عند مولانا شمس الدين الابنيكوني وتخبره بأن ما يدعيه فلان التركي صحيح، والحق مع التركي فإن أنكر السقا صحة هذه الدعوى فقل له: عندي شاهدان: الاول أنك يا سقا عطشان، فهو يعرف معنى هذه الكلمة. والثاني أنك أتيت امرأة أجنبية فحملت منك فسعيت باسقاط الحمل ودفنته في الموضع الفلاني... ثم اذهب الى نسف(3) لخدمة السيد أمير كلال وستجد في المحل الفلاني شيخا يعطيك رغيفا حارا فخذه منه ولا تكلمه... وامض على طريقك فتمر على قافلة اذا تجاوزتها استقبلك فارس فانصحه فانه ستكون توبته على يديك»(4).
ويحكون عن الشيخ عبيد الله أحرار أنه « ما من خاطر الا وقد اطلع عليه»(5).
__________
(1) روضة الناظرين للوتري 21 جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2/268.
(2) شفاء العليل ترجمة القول الجميل 104 ط: اسلامي أكاديمي (لاهور - الهند)
(3) مدينة مشهورة ببلاد فارس منها النسفي صاحب التفسير.
(4) المواهب السرمدبة 113-115 الأنوار القدسية 128-129. جامع كرامات الأولياء 1/145-146.
(5) المواهب السرمدية 173 الأنوار القدسية 175 جامع كرامات الأولياء 2/140.(68/51)
وزعم الكوثري أن أبا الحسن الشاذلي قال « أطلعني الله على اللوح المحفوط فلولا التأدب مع جدي رسول الله لقلت: هذا سعيد وشقي»(1).
ونقلوا عن ابراهيم الدسوقي قوله لمريديه « يا أولادي إن صح عهدكم معي فأنا قريب منكم... فلو كان أحدكم بالمشرق وأنا بالمغرب وورد عليكم من المشكلات شيء تستخيرون به ربكم فوجهوا وجوهكم الي، وافتحوا عين قلبكم فانكم تروني جهارا وتستشيروني في جميع أموركم فمهما قلته لكم فاقبلوه وامتثلوه... هكذا جرت سنة الله مع أوليائه»(2).
ومن كرامات الشيخ أحمد ضياء الدين أن أحد مريديه حدثته نفسه أن يسال حضرة الشيخ ظهور كرامة فكاشفه الشيخ في الحال بما في نفسه وقال له: الاستقامة خير من الف كرامة»(3).
وخطر ببال أحد الواقفين أمام الشيخ محمد سيف الذين الفاروقي أن هذا الشيخ متكبر فعرق ما في قلبه وقال له ( تكبري من تكبر الحق تعالى( والقصة نفسها منسوبة الى بهاء الدين نقشبند(4).
وأما محمد الخاني النقشبندي فكان يخبر بالامر قبل أن يقع فيقع كما أخبر وكان في الاطلاع على خواطر المريدين مرآة صقيلة يلوح فيها أدنى الخطرات كأعلاها. وكان لا يسال مريده عن أحواله أبدا بل هو الذي يخبر المريد بأطواره(5).
لا يبالون بالجنة ولا بالنار
وأنشد محمد أمين الكردي هذين البيتين الى ربه
أحبك لا أرجو بذلك جنة … ولا أتقي نارا وأنت مراد
إذا كنت لي مولى فأية جنة … وأية نار تتقى وتراد (6)
__________
(1) ارغام المريد شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية للكوثري ص 39.
(2) نور الهداية والهرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 38.
(3) الأنوار القدسية 272.
(4) المواهب السرمدية 215 الأنوار القدسية 200 جامع الكرامات 1/204 الحدائق الوردية قارن بين 135 و200 .
(5) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 272 جامع كرامات الأولياء 1/222-223.
(6) نوير القلوب في معاملة علام الغيوب 486.(68/52)
ونقل قول رابعة العدوية « ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك ولكن لوجهك الكريم». وقول أرسلان الدمشقي ( من عبد الله لأجل الجنة والنار فهو طاغوت»(1).
وهذه هي المرة الاولى يتحدث فيها صوفي عن الطواغيت. ولكن الطواغيت عنده هم الذين يرجون ثواب الله ويخافون عقابه، ويسالونه جنته ويخافون نيرانه.
وقد جهل هؤلاء أن الخوف من النار ورجاء الجنة عبادة بحد ذاتها لله عز وجل. وقد أمرنا الله بما تنهانا عنه رابعة العدوية فقال { وادعوه خوفا وطمعا } قال الطبري « أي لا تشركوا في عملكم لله شيئا غيره من الالهة والاصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه. وإن من كان دعاؤه اياه على غير ذلك فهو بالاخرة من المكذبين لأن من لم يخف عقاب الله ولم يرج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه»(2).
وقال رسول الله « لا يجتمعان - يعني الخوف والرجاء - في قلب عبد في مثل هذا الموطن - أي عند الاحتضار - الا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه مما يخاف»(3).
وما قاله الطبري حق. فإن مطالبة الصوفية بحب الله حبا مجردا من طلب الجنة واجتناب النار زادهم جرأة وزندقة فاسمع ما تتناقله كتب النقشبندية عن أبي يزيد:
أريدك لا أريدك للثواب……ولكني أريدك للعقاب (4)
وحكى عنه ابن الجوزي أنه قال « إن لله عبادا لو بصقوا على جهنم لأطفئوها» « ولقد وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم، فساله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟
فقال: إني أعلم أن جهنك اذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق» ثم قال « اللهم إن كان في سابق علمك أن تعذب أحدا من خلقك بالنار فعظم خلقي حتى لا تسع معي غيري» وقال « وما النار؟ والله لئن رأيتها لأطفئنها بطرف مرقعتي»(5).
__________
(1) الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية 135
(2) تفسير الطبري 8/147.
(3) رواه الترمذي 1/183 وحسنه.
(4) المواهب السرمدية 45.
(5) تلبيس ابليس 341 343 و346.(68/53)
وكان يقول فيما تتناقله كتب النقشبنديين « إن لله عبادا لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار للخروج من النار»(1).
يقولون للشيء كن فيكون
قال صاحب نور العرفان « وسئل أحد أكابر الائمة عمن قال: أن من كرامات الولي أن يقول للشيء كن فيكون. فنهى أحدهم هذا القائل عن ذلك؟ فقال - أي لمن نهاه - من أنكر ذلك فعقيدته فاسدة. فهل ما ادعاه صحيح - أي أن من كرامات الولي أن يقول للشيء كن فيكون؟ فأجاب بأن ما قاله صحيح اذ الكرامة الامر الخارق للعادة يظهره الله تعالى على يد وليه»(2).
وقال الدهلوي «وللنقشبندية تصرفات عجيبة من التصرف في قلوب الناس»(3) .
فمن ذلك تصرف الشيخ عبد الله الدهلوي في باطن المريدين والقاء الفيوضات والاسرار في صدورهم، ومن كراماته أيضا أن زوجة أحد أصحاب هذا الشيخ قد مرضت، فالتمس من حضرته أن يدعو الله تعالى بتخفيف مرضها فلم يفعل، فالح عليه، فقال له لا تبقى هذه المرأة أكثر من خمسة عشر يوما، فبقدرة الله تعالى توفيت يوم الخامس عشر» (4).
وقالوا عن محمد الخواجكي الامكنكي «ليس من ذرة في العالم الا وهو يمدها بالروحانية»(5) .
أفلا تصدق أيها الغيور أن هذه الامة قد ابتليت بالتشيع وركبت سنن من قبلها؟
أهذه التعاليم التي نادى بها سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه؟
من تصرفات الاولياء
وحكى محمد أسعد صاحب زادة أن للأولياء الكاملين ثلاثة أنواع من التصرفات:
__________
(1) المواهب السرمدية 49 الأنوار القدسية 99.
(2) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 60.
(3) شفاء العليل ترجمة القول الجميل 104 نور الهداية والعرفان 36.
(4) المواهب السرمدية249-251 جامع كرامات الأولياء 2/129 الأنوار القدسية 216-217.
(5) المواهب السرمدية 178الأنوار القدسية 178 الحدائق الوردية 177.(68/54)
الاول: التجسد والتمثيل بالصور: كتجسدهم في الصور في أمكنة متعددة في وقت واحد. وتسميه الصوفية بعالم المثال: وبنوا عليه تجسد الارواح وظهورها في صور مختلفة.. واستأنسوا بقوله تعالى { فتمثل لها بشرا سويا } (1). وأكد ذلك خالد البغدادي وأن الروح تظهر في سبعين الف صورة في دار الدنيا(2).
الثاني: التصرف في الاجساد النورانية كجسد نبينا محمد لأن أصل خلقته نوراني وروحانيته سر ملكوتي: فلهذا يعتقدون أن النبي لا ظل له(3).
وكما أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي فكذلك لا يستطيع أن يتمثل بصورة الشيخ ولذا تظهر صور المشايخ في مناطق مختلفة في آن واحد، ويمكنهم الله من الظهور بصور عديدة بلا حصر وقد يكون لهم صورة واحدة تملأ الكون.(4).
الغلو وتقديس المشايخ
وللمؤلفين النقشبنديين طريقة عجيبة في مدح مشايخهم فيقتبسون من آيات القرآن الفاظا يستخدمونها في مدح مشايخهم كقولهم عن شيخ النقشبندية « محمد الخواجكي الامكنكي» ما يلي:
« لم يزل في بدايته بعين هدايته ملحوظا وفي ظل سلطنة تربيته محظوظا، حتى صار لمناقبه لوحا محفوظا لا يدع فضيلة جليلة الا أحصاها... فكان تلو والده كالشمس وضحاها والقمر اذا تلاها.. لا ذرة في العالم الا وهو يمدها بالروحانية»(5).
وهذا يشبه قول الخميني في أئمة أهل البيت « إن لأئمتنا مقاما عظيما وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات هذا الكون»(6).
__________
(1) - نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 55.
(2) - رسالة في تحقيق الرابطة 7.
(3) - نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 24.
(4) - نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 55 و59.
(5) المواهب السرمدية 178 - الأنوار القدسية 178.
(6) الحكومة الاسلامية ص 52.(68/55)
ويستخدمون بعض عبارات الغلو التي يطرون بها مشايخهم كوصفهم عبد الخالق الغجدواني أنه « الغوث الصمداني والمحبوب السبحاني ومحمديته الكعبية »(1).
ويصفون عبد الله الدهلوي بصفة « قيوم الزمان»(2).
والمقامات عندهم خمسة وهي القلب والروح والسر والخفي والاخفى:
(القلب) وهو تحت قدم آدم عليه السلام.
(الروح) تحت قدمي سيدنا نوح وسيدنا ابراهيم.
(السر) تحت قدم سيدنا موسى.
((الخفي) تحت قدم سيدنا عيسى.
(الاخفى) تحت قدم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام(3).
مقام الكفر من أعلى مقامات العبادة
وهناك مقام (الحيرة) من أعلى المقامات عند النقشبندية وليس بعده الا مقام اليقين. ومقام الحيرة هذا هو مقام الكفر حيث يرى المريد السالك الاشياء هي الله، وحكى السرهندي عن نفسه أنه وصل الى مقام الفناء بالله ثم الى مقام البقاء ثم الى مقام الحيرة فوجد الله مع كل ذرة من ذرات وجوده.
ويسمي السرهندي مقام الحيرة بالكفر الحقيقي الذي اذا خرج منه عرج الى مقام أعلى منه وهو مقام الايمان الحقيقي بعد الكفر الحقيقي.
وهذا المقام وهو الحيرة الكبرى مخصوصة بالاكابر».
أضاف قائلا « ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من الكفر الحقيقي فيقول: اللهم أعطني يقينا ليس بعده كفر. فكان يستعيذ من الكفر الحقيقي الذي هو مقام الحيرة»(4).
فهكذا صار عند القوم مرتبة شريفة للكفر عالية جدا تحصل للعابد عندهم بعد حصول الفناء بالله.
__________
(1) الفيوضات الخالدية والمناقب الصاحبية تأليف محمد أسعد صاحب زادة ص 18 على هامش كتابه نور الهداية والعرفان ط: المطبعة العلمية بمصر 1311.
(2) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 88.
(3) نور الهداية والعرفان ص 82- 84 كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 31 تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي ط: شركة مرتبيه مطبعة سي - استانبول 1331 .
(4) مكتوبات الامام الرباني 339 وانظر 334.(68/56)
الرابطة بالشيخ أفضل من ذكر الله!
قال صاحب نور الهداية « رؤية الشيخ تثمر ما يثمره الذكر، بل هي أشد تأثيرا من الذكر، وقد كانت تربية النبي لأصحابه كذلك فكانوا يشتغلون برؤية طلعته السعيدة وينتفعون بها أكثر مما ينتفعون بالاذكار»(1).
- ومن الادب مع المشايخ تمريخ أبدانهم (تدليكها) قال في الرشحات « قال حضرة شيخنا: كنت أمرخ الشيخ بهاء الدين عمر كثيرا وأدلكه وما كان يقول يكفي. ولا أنا كنت أترك التمريخ. وكان الشيخ ينام وله غطيط. وكان كثيرا يقول لي: تعال يا شيخ زادة ومرخ كتفي. فكنت أمرخ كتفه وكنت أنزع خفيه من رجليه أحيانا فشممت شيئا أطيب من رائحة الخرقة التي كان يلف بها رجليه»(2).
- وهم يتوجهون بالدعاء الي حيث أماكن مشايخهم ولو من مكان بعيد ويستقبلون قبلتهم. فقد ذكر صاحب الرشحات أن واحدا من مريدي الشيخ قطب الدين حيدر كان جائعا فقلب وجهه نحو قرية شيخه وقال: شيء لله يا قطب الدين حيدر لا تحرمنا من بركاتك أصلا ولا تنسانا»(3).
بيوت المشايخ قبلة مقدسة
- وقد جعلوا التوجه الى قبلة الشيخ والاستمداد من باطن همته أفضل من التزام أعمال الخير بل أفضل من التزام الرجوع الى الله عز وجل(4).
- قال أحد مريدي الشيخ محمد بهاء الدين « أمرني الشيخ شادي أحد أجلاء أصحاب الشيخ بهاء الدين أن لا يمدّ أحدنا رجله الى جهة يكون فيها الشيخ قدس الله سره، فأتيت يوما الى قصر العارفان (مسكن الشيخ بهاء الدين) لزيارته فأويت الى ظل شجرة في الطريق واضطجعت فجاء حيوان فلدغني في رجلي مرتين فقمت وقد تالمت الما شديدا.
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 51.
(2) رشحات عين الحياة 183.
(3) رشحات عين الحياة 194.
(4) رشحات عين الحياة 210.(68/57)
ثم اضطجعت فعاد مرة ثالثة كذلك، فجلست أتفكر في سبب ذلك مدة حتى تذكرت نصيحة الشيخ شادي ووجدت أني قد مددت رجلي الى ناحية قصر العارفان، فعلمت أن ذلك تأديب لي على ما فرط مني»(1).
عبد الله الدهلوي
وكان أحد كبار مشايخهم واسمه عبد الله الدهلوي يقول « كما أن طلب الحلال فرض على المؤمنين كذلك ترك الحلال فرض على العارفين» (2).
وكان يقول « أرواح عامة المؤمنين يقبضها ملك الموت وأما قبض أرواح خاصة الخاصة فلا دخل للملائكة فيها»(3).
وقال « سمعت في سري الخطاب الالهي ثلاث مرات: مرة وأنا في المدرسة ومرتين في الخانقاه... وجاءتني فاطمة الزهراء فقالت لي: إني قد بعثت لزيارتك»(4).
ومرضت امرأة أحد أصحابه فالتمس من حضرته أن يدعو الله تعالى لها بتخفيف مرضها فلم يفعل. فالح عليه فقال له « لا تبقى هذه المرأة أكثر من خمسة عشر يوما. فبقدرة الله تعالى توفيت يوم الخامس عشر»(5).
حبيب الله جان جانان
وكان الشيخ حبيب الله جان جانان من أكابر النقشبنديين وابتدأ يرى سيدنا ابراهيم الخليل منذ أن كان عمره تسع سنوات. وكان في هذا السن كلما ذكر أبا بكر الصديق يحضر صورته ويراه بعينه. ونظر يوما في المرآة فرأى صورة شيخه بدل صورته(6).
__________
(1) الحدائق الوردية 140.
(2) المواهب السرمدية 241، الأنوار القدسية 213 الحدائق الوردية 134.
(3) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 213.
(4) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 215.
(5) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 216.
(6) لحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 202.(68/58)
وكان «متوكلا» لا يعمل وكان يسافر مع أصحابه بغير زاد ولا راحلة فكانوا الى نزلوا منزلا تأتيهم موائد الطعام من الغيب.(1) وهؤلاء يتركون الطعام لأن حلال الطعام عندهم حرام، الم يقل أحد كبارهم وهو عبد الله الدهلوي «كما أن طلب الحلال فرض على المؤمنين كذلك ترك الحلال فرض على العارفين» (2).
وكان يقول« ان الصوفي الكامل هو الذي لا ينسب الخير لنفسه ويعلم أنه مستعار، وهذا هو الحق معنى الفناء التام وحصول الشهود الصحيح وهذا سر قول الحلاج «أنا الحق»(3). وقد عذر السرهندي الحلاج في التفوه بهذا الكفر لأن السكر قد غلبه.
وحين توفي حبيب الله جان جانان النقشبندي ارتفع نصف القرآن الى السماء ووقع في الدين فتور(4).
وكان عبد الله الخاني يخبر بالامور قبل وقوعها ولا يسال أتباعه عن أحوالهم وإنما يخبرهم عنها» (5).
عبيد الله أحرار
ينقلون الامراض من شخص لآخر
وكان لعبيد الله أحرار ميزة عجيبة فكان عنده قوة ينقل بها المرض من شخص لآخر» (6).
ونص الدهلوي على أن نقل المرض من كرامات مشايخ هذه الطريقة(7)
__________
(1) الأنوار القدسية 204 المواهب السرمدسة 224 جامع كرامات الأولياء 1/389.
(2) المواهب السرمدية 241، الأنوار القدسية 213 الحدائق الوردية 134.
(3) المواهب السرمدية 227 الأنوار القدسية 205 مكتوبات الامام الرباني 107.
(4) الأنوار القدسية 207 المواهب السرمدية 231-232 الحدائق الوردية في حقائق النقشبندية 206.
(5) جامع كرامات الأولياء 1/222-223.
(6) جامع كرامات الأولياء 2/236، الأنوار القدسية 177. الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية ص 9 وانظر رشحات عين الحياة 247-248 وكذلك انظر الرشحات 262.
(7) شفاء العليل ترجمة القول الجميل 104(68/59)
ويحكي الخاني أن الشيخ عبيد الله احرار مرض فقال له الشيخ قاسم: اني قد فديتك بنفسي. فقال له عبيد الله: لا تفعل هكذا فان المتعلقين بك كثيرون وأنت رجل شاب . فقال الشيخ قاسم: ما جئتك مستشيرا في هذا الامر بل قررته في نفسي وصممت عليه وجئتك، وقد قبل الله مني ذلك . ففي اليوم التالي انتقل مرض الشيخ عبيد الله الى الشيخ قاسم، وبرىء الشيخ عبيد الله من المرض برءا تاما فلم يعد بحاجة الى طبيب»(1)..
ويحكي الخاني أن تحمل المشايخ للأمراض ونقله الى آخرين من عادة السادة أصحاب الطريقة(2).
وقال أحد أصحاب المولى الجامي الذي يصفه النقشبنديون بـ (روح الله)(3) « لما سمعت بمرض مولانا الجامي حضرت اليه لعيادته فرأيت المرض قد قام منه وتوجه الي فتضرعت الى الله وقلت يا رب ليس لي طاقة لتحمل هذا المرض فاندفع المرض عني. وهذا الجامي حضر شخصا أثناء نزعه الاخير وأعاده الى الحياة بالرغم من خروج الروح منه»(4).
الشيخ محمد المعصوم
أما الشيخ محمد المعصوم فقد كان غوثا يستغيث به الناس ويصفونه بحضرةالقيوم فقد سقط أحد مريديه عن فرسه في الصحراء، قال « فاستغثت بحضرة القيوم « فحضر بنفسه وأيقظني».
كذلك أشرف آخر من أتباعه على الغرق فاستغاث به فحضر في الحال وأنقذه. وكان يغيث الناس في أقصى الارض وهو جالس في مكانه. فقد استغاث به رجل في سفينة كانت تغرق فمد الشيخ يده وانتشل السفينة وهو في بيته أمام أصحابه الذين رأوا فجأة أن كمه صارت مبللة بعد أن رأوه يمدها في الهواء(5) .
__________
(1) الأنوار القدسية 177 جامع كرامات الأولياء 2/236-237.
(2) الحدائق الوردية 148.
(3) مكتوبات الامام الرباني ص 10 .
(4) رشحات عين الحياة 124.
(5) جامع كرامات الأولياء1/199 المواهب السرمدية 210 الأنوار القدسية 195 الحدائق الوردية 195.(68/60)
وجاء يوما سيل عظيم على قرية «مولانا عارف» فخاف أهلها من الغرق ففزعوا اليه فخرج وجلس مكان طغيان الماء وقال للماء: إن كان لك قوة فاحملني. فتراجع السيل»(1).
ان هؤلاء في الحقيقة انما يثبتون صفات الاولياء « الحسنى» ليتعلق بهم العوام وقد عطلوا صفات الله الحسنى بالتأويلات التي يسمونها تأويلات أهل الحق. فحرروا القلوب من التعلق بالله وعلقوها بالاولياء.
ويحكون عن هذا الشيخ أنه كان وليا منذ الولادة. وأنه لم يكن يأخذ ثدي أمه في رمضان. وتكلم بـ ((التوحيد)) وهو ابن ثلاث سنوات فقال: أنا الارض أنا السماء أنا كذا أنا: هذا الجدار حتى هذه الاشجار حق. وكان يقول: اني أرى نفسي نورا ساريا في كل ذرة من ذرات العالم والعالم يتنور بي كالشمس. وقد خلعه الله بخلعة (أي صفة) القيومية فصاروا يصفونه بالقيوم(2).
قالوا: وذكر عنده رافضي يطعن في أبي بكر وعمر فغضب الشيخ محمد المعصوم غضبا شديدا وكان بين يديه بطيخ: فأخذ السكين وقال لها: اذبحي هذا الخبيث ثم أمرّ السكين على البطيخ فمات الرافضي من وقته(3).
مكالمات بين الله وبين ولده
كتب ولد الشيخ محمد المعصوم يقول لوالده « اني تشرفت في هذه الايام بالهامات غريبة ومخاطبات عجيبة فقيل لي: أنت من أوليائي وأنت من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ورأيت يوما أن وصولي الى جناب قدسه تبارك وتعالى بلا واسطة أحد. واذا بصورتك المباركة قد ظهرت بيننا ووجدت نفسي قد اتحدت بجنابكم فهنالك ظهر تنزل الحق سبحانه بلا كيف فأرجو التصديق على هذا»(4) انتهى.
أهم رجالاتها المعاصرين
__________
(1) المواهب السرمدية 107 لأنوار القدسية 125
(2) الحدائق الوردية 191 المواهب السرمدية 202-203 الأنوار القدسية 192.
(3) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية ص 195.
(4) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء الطريقة النقشبندية ص 198.(68/61)
محمد ناظم قبرصلي وقد تلقى مبادىء الطريقة على عدة رجال أهمهم عبد الله فايز الداغستاني ثم رحل الى طرابلس وأنشأ زوايا للطريقة هناك ثم صار ينتقل بين اسطنبول ولندن. وله أثر سيء جدا في نشر الخرافة بين المسلمين الانجليز الجدد وبين المهاجرين الباكستان والهنود في لندن. ومن خرافاته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له ظل على الارض وأنه نور كما تقتضي عقيدة الحقيقة المحمدية التي يعتقدها عامة الصوفية وقد وزع رسالة باللغة الانجليزية في هذا الموضوع. وتتضمن تزكيته وتزكية شيخه عبد الله الداغستاني.
وقد كتب شيخه هذا رسالة بعنوان « وصية مرشد الزمان وغوث الانام» زعم فيها أنه تلقاها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروجها له تلميذه القبرصلي وترجمها بالانجليزية وفيها يدعي:
أن الكافر اذا قرأ الفاتحة ينال قسما من العناية الالهية (12).
وأن من قرأ خواتيم البقرة ولو مرة واحدة يفوز بما لم يفز به الانبياء (ص 13).
وأن الله لم يفرق بين مؤمن ومنافق وكافر (ص 14).
ولهذا حمل الاحباش عليه وعلى تلميذه القبرصلي وحذروا من ضلالهما وحذروا من كتابه « محيطات الرحمة آفاق لا متناهية» وفيه يدعو الى ترك التعلم ويزعم أن الاولياء يتلقون الحديث وإن كان ضعيفا، ودعا الى قبول أي حديث احتراما وإجلالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن أوامر القطب هي ذاتها أوامر الله تعالى.وأن رحمة الله تشمل الكفار كالروس والهندوس... وأن في الاولياء من له عيون مقدسة تحرق الشرور بين الناس فبسبب هذه النظرة تحترق شرارة الشرور.فيجوز لهم النظر الى أي مكان حتى النساء.(1)
ومنهم محمد عثمان سراج الدين النقشبندي الملقب بسلطان الاولياء. وجعلوا له سلطانا على الانبياء والصحابة.
__________
(1) مجلة منار الهدى الحبشية عدد 33 ص 52-53 وكذلك عدد 48 ص 22-24.(68/62)
وهو رجل كردي طاعن في السن لا يكاد يتكلم. يتلقون المعرفة عنه بالاتصال الروحي وبمجرد النظر بطريقة أشعة الليزر. ينشر هو وأتباعه حروز السحر والخرافة.
ومن كرامات مشايخ الطريقة
حكي أن محمد أمين الكردي « زار قبر النبي يونس - صلى الله عليه وسلم - وفجأة رفع الله الحجاب بينه وبين صاحب القبر فرآه جالسا والانبياء جلوسا حوله. وهم ينتظرون مجيء سيد البشر محمد بن عبد الله»(1)
لهم الثواب والعقاب
وأهديت لبهاء الدين نقشبد سمكة مطبوخة وكان عنده شاب زاهد عابد فقال للشاب: أفطر فلم يقبل الشاب فقال له: أفطر وأنا أهبك صوم يوم من شهر رمضان، فأبى فقال له: أفطر وأنا أهبك صيام أيام شهر رمضان. فأبى فقال بهاء للناس: دعوه فانه من المبعدين. فنظراً لانهماكه في أوامر أهل الله ابتلاه الله بالانهماك في الدنيا والاعراض عما فيه من سعادة العبادة» انتهى. وهذه القصة مقتبسة من الرسالة القشيرية(2).
النهج الباطني عند النقشبندية والصوفية
وزعم عثمان سراج الدين النقشبندي أن للقرآن ظهرا وبطنا وظهر ظهر وبطن بطن وهكذا الى ما لا يعلمه الا الله(3). وفسر قوله تعالى { ولقد خلقنا الانسان } أي أوجدنا كل فرد من أفراد الانسان الباطني وهو مجرداته الخمسة: القلب والروح والسر والخفي والأخفى»(4).
وقال بهاء الدين نقشبند في قوله تعالى { إنّا أعطيناك الكوثر } أي أعطيناك شهود الأحدية في الكثرة»(5).
وفسر عبد الرزاق النقشبندي { بسم الله } أي باسم الانسان الكامل(6).
__________
(1) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 8.
(2) الحدائق الوردية ص 136 وانظر الرسالة القشيرية 151.
(3) تفسير سورة التين ص 5 طبعة؟ كتب عليها « يوزع مجانا عن روح ابراهيم ومحاسن وناريمان فولادكار».
(4) تفسير سورة التين 26 الحدائق الوردية في أجلاء الطريقة النقشبندية 171.
(5) المواهب السرمدية 162 الأنوار القدسية 162 رشحات عين الحياة 174 و186.
(6) رشحات عين الحياة 121.(68/63)
والكمال الانساني عندهم مرآة للكمال المحمدي. والكمال المحمدي مرآة للكمال الالهي. ولا يتجلى الحق الا من خلف حجاب الكمال المحمدي اذ هو الواسطة العظمى التي لا كمال الا بها(1).
وفسر مشايخ النقشبندية قوله تعالى { كل يوم هو في شأن } بمعنى أن العبد بعد الفناء يبقى في الله فيصير مظهر تجليات أسماء الأفعال ويجد في نفسه آثار الأسماء الكونية ويحصل له حظ من كل اسم(2).
وفسر الكردي قوله تعالى { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } الظالم لنفسه أي من منع نفسه عن اللذات وما أعطاها مرادها فصار مستعدا لقبول الفيض الالهي وحينئذ يكون مقدما على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. وهذا تحريف للقرآن وهو عمل اليهود. وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن تحريف معاني النصوص موجود بكثرة عند اليهود(3).
وفسروا الآية { اليه يصعد الكلم الطيب } أي يصعد من القلوب أنوار الذكر وأنوار نازلة من العرش على قلبك، فاذا فني وجودك الجسماني عن شهودها من النور الى النور فتصعد منك وتنزل منه»(4).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - « أمط الأذى عن الطريق» قال بهاء الدين نقشبند « الأذى معناه أذى النفس والطريق طريق الحق»(5).
وقوله تعالى { واذكر ربك اذا نسيت } أي اذا نسيت غيره وحمل الآية على معنى الفناء في الله(6).
__________
(1) نور الهداية والعرفان 26 (34 حسب الترقيم الخطأ).
(2) المواهب السرمدية 162.
(3) فتح الباري 13/524.
(4) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 81.
(5) الحدائق الوردية ص 131.
(6) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 53 لمحمد بن عبد الله الخاني ط: مكتبة الحقيقة بتركيا.(68/64)
وقوله تعالى { لمن الملك اليوم } المراد من (الملك) قلب السالك حين يتجلى الله سبحانه للقلب بقهر الأحدية لا يترك فيه شيئا غيره فيلقي اليه صدى { لمن الملك اليوم } فاذا لم ير في تلك المملكة غيره يجيب تعالى بنفسه بالضرورة بقوله { لله الواحد القهار } ويسمع صدى (سبحاني ما أعظم شأني) و (أنا الحق) و (هل في الدارين غيري)(1).
وفي قوله تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } قالوا: النهار هو نور الوجود والليل ظلمة العدم(2).
وقالوا في قوله تعالى { فاخلع نعليك } أي اخلع حبك من الدنيا والآخرة(3).
وقالوا في تفسير سورة الاخلاص « إن أول موجود أوجده الله بلا واسطة هو التعين الأول ولما كان ظهوره من المبدأ الفياض بما يشبه الولادة قال تعالى (لم يلد) نفيا لشبه الولادة. ولما ظهر تعالى في المظاهر الالهية بحسب الذات والأسماء والأفعال وكان هذا الظهور يشبه المولودية قال تعالى (ولم يولد) نفيا لشبه المولودية.
ولما جعل الحق هذا النوع الانساني مظهر جميع أسمائه أن الله خلق آدم على صورته أو صورة الرحمن: فكان مرآة ذاته الأقدس الذي: هو الله أحد الله الصمد صفته وكان هذا التوهم كفر، نفى هذه المشابهة وقال (ولم يكن له كفوا أحد)»(4) .
وقالوا عن معنى قوله تعالى { يهب لمن يشاء اناثا } أي العبادات والمعاملات { ويهب لمن يشاء الذكور } أي الأحوال والعلوم والمقامات. { ويجعل من يشاء عقيما } أي بلا علم ولا عمل»(5).
تعاليم هندوسية
__________
(1) رشحات عين الحياة 186.
(2) رشحات عين الحياة 126.
(3) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 33 لمحمد بن عبد الله الخاني ط: مكتبة الحقيقة بتركيا.
(4) الحدائق الوردية في أجلاء الطريق النقشبندية 171.
(5) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم وأوصافهم وأصول كل طريق ومهمات المريد وشروط الشيخ ص 141 طبع بالمطبعة الجمالية بمصر سنة 1328.(68/65)
ويحكي صاحب الرشحات قصة أحد كبار النقشبندية قال « وكان الشيخ لا يأكل الطعام الحاصل من الحيوانات ويمتنع عنه ويقول: أنا أتعجب من الناس كيف يضعون السكين على حلق ما له عينان ينظر بهما اليهم ويقتلونه ثم يطبخون لحمه ويأكلون؟
قال صاحب الرشحات « ويفهم من كلام الشيخ هذا أنه في ذلك الوقت كان متحققا بمقام الأبدال فان تلك الخصلة مخصوصة بمقام الأبدال فانهم لا يقتلون شيئا من الحيوانات ولا يؤذونه ولا يأكلون لحمه لغلبة شهود سريان الحياة الحقيقية في الأشياء عليهم في هذا المقام»(1).
ويحكي صاحب الرشحات نفسه عن أحد شيوخه أنه كان يصلي قائما على رجل واحدة فقط.
وهذه من تعاليم الهنود. فقد قال الغزالي « وعباد الهنود يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على رجل واحدة»(2).
تعظيمهم للحسين بن منصور الحلاج
هو الحسين بن منصور الحلاج كان من أصحاب أسياد الصوفية كـ " الجنيد " و"الشبلي" غير أنه كان أكثر الصوفية جرأة على اظهار العقيدة الباطنية الاتحادية للفكر الصوفي ولم يكتمها على نحو ما كان يوصي به أئمة التصوف.
يقول الشبلي «كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا الا انه أظهر وكتمت» واعتبروا أن خطأه كان في إظهار ما كان يجب عليه كتمانه.(3).
__________
(1) رشحات عين الحياة 153.
(2) احياء علوم الدين 3/62.
(3) كتاب " الحلاج " لطه عبد الباقي سرور 104 . الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة 94.(68/66)
وقد أظهر الحلاج من كلمات الكفر ووحدة الوجود ما اضطر كثيرين من الفقهاء وحتى الصوفية الى الفتوى بوجوب قتله كالجنيد حتى ان الرفاعي نفسه أيد من أفتى بقتله قائلا « لو كنت في زمن الحلاج لأفتيت مع من أفتوا بقتله» « ولو كان على الحق لما قال أنا الحق.. ما أراه رجلا واصلا أبدا»(1). مع أن السرهندي يعذره لقوله هذا بأن السكر قد غلبه(2).
ويروي القشيري أن الحلاج كان مصاحبا لعمرو بن عثمان المكي (أحد سادة االتصوف) وكان مرة يكتب شيئا فسأله عمرو عنه فقال: أكتب شيئا أعارض به القرآن. فهجره ودعا عليه قائلا « اللهم اقطع يديه ورجليه». ومن ثم قالوا: إن قتل الحلاج بطريقة الصلب وتقطيع الأيدي والأرجل انما كان استجابة من الله لدعوة هذا الرجل(3).
ومع ذلك فان الصوفية يلمحون تارة بولائهم وتعظيمهم للحلاج وتارة يصرحون بذلك. ولكن بالرغم من ذلك كان القشيري والغزالي وغيرهما يستشهدون بكلامه في اثبات عقائد أهل السنة مما جعل الشعراني يؤكد أن القشيري انما افتتح كتابه بالاستشهاد بكلام الحلاج لأجل احسان الظن به. واحتج به الغزالي في اثبات أفضل مراتب التوحيد عند الصوفية وهي مرتبة «وحدة الوجود والفناء بالله».
وروى الشعراني عن شيخه أبي العباس المرسي أنه كان يكره من الفقهاء خصلتين:
1 ـ قولهم بكفر الحلاج .
2 ـ قولهم بموت الخضر(4).
لقد كان الرجل من أعظم المصرحين بوحدة الوجود والفناء في ذات الله حتى أثر عنه ادعاء الربوبية، وضبطوا عليه كلمات قمة في الكفر كقوله « أنا الحق» و «سبحاني ما أعظم شأني» و «ما في الجبة الا الله».
وقوله:
__________
(1) حكم الرفاعي 16 المعارف المحمدية 10 و 47 سواد العينين 12 .
(2) مكتوبات الامام الرباني السرهندي 107.
(3) الرسالة القشيرية 151 وانظر ترياق المحبين 66 سير أعلام النبلاء 14 / 316.
(4) الرسالة القشيرية 6 طبقات الشعراني 1 / 108 لطائف المنن والأخلاق 479 احياء علوم الدين 4 / 247 .(68/67)
مزجت روحك في روحي كما…تمزج الخمرة في الماء الزلال
فاذا مسك شيء مسني……فاذا أنت أنا في كل حال (1)
وقوله (2) الذي استحسنه الدوسري صاحب الرحمة الهابطة :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا…نحن روحان حللنا بدنا
فاذا أبصرتني أبصرته……واذا أبصرته أبصرتنا
وقد استحسنت أمهات كتب النقشبندية من الحلاج هذا البيت من الشعر الذي كان بهاء الدين يتمثل به وكان كلما ذكر اسم الحلاج قال «قدس الله سره» وهذا البيت هو:
كفرت بدين الله والكفر واجب لدي وعند المسلمين قبيح(3)
فأي اسلام يرجى ويقبل ممن يستحسن هذا البيت ويتمثل به؟!
فيا من تتكلمون عن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء الأمة تبرأوا من مدح أئمة الكفر واستحسان كلام الكفر الذي تناقلتموه قبل أن تنقضوا الآخرين.
وكان يعتبر فرعون وليا والشيطان مؤمنا. فيقول مثنيا على أخويه « وما كان في أهل السماء موحد مثل ابليس، فصاحبي وأستاذي ابليس وفرعون، ابليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة البته»(4).
وقد ضبط الجنود رسالة الى شخص واذا فيها « من الرحمن الرحيم الى فلان». فقالوا له: كنت تدعي النبوة فأصبحت تدعي الألوهية؟ قال: لا ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب الا الله تعالى واليد فيه آلة»(5).
__________
(1) البداية والنهاية 11/134 تاريخ بغداد 8/115.
(2) أخبار الحلاج 16 الطواسين للحلاج 134 تاريخ بغداد 8/129. الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة ص 112 بهامش المكتوبات.
(3) الأنوار القدسية 134 الحدائق الوردية 134 واحتج ببيته مرة ثانية ص 213 واحتج به السرهندي ص 282.
(4) الطواسين للحلاج 42 و51-52.
(5) تلبيس ابليس 171-172 البداية والنهاية 11/138.(68/68)
وكتب رسالة أخرى الى أحد خواص أصحابه قال له فيها « ستر الله عنك ظاهر الشريعة وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر خفي وحقيقة الكفر معرفة جلية»(1).
وكان يتهكم بالقرآن ويقول عنه « بامكاني أن أن أؤلف مثله»(2).
وكان قد أفتى بأن الانسان اذا أراد الحج ولم يتمكن فليعمد الى غرفة من بيته فيطهرها ويطيبها ويطوف بها فيكون كمن حج البيت» قال ابن كثير معقبا على فتوى الحلاج: وكان يقول لأتباعه: من صام ثلاثة أيام لا يفطر الا في اليوم الرابع على ورقات أجزأه ذلك عن صوم رمضان»(3).
ومهما حاولوا التنصل منه والتظاهر بمخالفته فانهم في الحقيقة مفتونون فيه ويهتمون بنقل كلامه واشاراته في التوحيد (أي وحدة الوجود) كما فعل أبو حامد الغزالي في الاستشهاد بكلام الحلاج عن الفناء في التوحيد(4).
بل يدافعون عنه ويصفونه بأعلى مقامات الولاية حتى زعم محمد معصوم النقشبندي أنه « لما وضع الحلاج في السجن كان يصلي في الليلة الواحدة خمسمائة ركعة نافلة وكان لا يأكل من أيدي الظالمين(5).
وقال الشيخ علي الراميتني « لو كان أحد على وجه الأرض من أولاد الشيخ عبد القادر الغجدواني موجودا لما صلب الحلاج» (6).
__________
(1) أخبار الحلاج 35.
(2) أنظر تلبيس ابليس 171 والرسالة القشيرية 151 والمنتظم لابن الجوزي 6/162 وتاريخ بغداد 8/121.
(3) الطبقات الكبرى للشعراني 1/16-17 تلبيس ابليس 371 البداية والنهاية 11/140.
(4) احياء علوم الدين 4/247.
(5) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار 31 لمحمد معصوم ص 47.
(6) المواهب السرمدية 99 الأنوار القدسية 121.(68/69)
وكان الشيخ حبيب الله جان جانان يعتذر عن شطحات الحلاج ويقول « وهذا سر قول الحسين بن منصور رحمه الله (انا الحق) فانه وإن كان معذورا في ذلك نظرا لغلبة السكر عليه الا أنه كان مخطئا في تلك الرؤية(1).
وهكذا فالنقشبنديون متفقون على استحسان هذه العبارة لأنها توافق أعظم غاية الطريقة وهي: الفناء في ذات الله وتحقيق الوحدة بين العابد والمعبود فيصير الرب والعبد ربا.
ويقول مولاهم الجامي « لقد أراد الحلاج بهذه العبارة حقيقة نفسه وحيث قال فرعون: أنا ربكم الأعلى: أراد به صورة نفسه»(2)!. فهكذا دائما: كتبهم مملوءة باشارات وتصريحات وحدة الوجود.
وجاء في كتاب الايمان والاسلام للشيخ خالد البغدادي النقشبندي (ص 92) فصلا بعنوان «السلفيون» يظهر أن ملتزم الطبع ألحقه به وفيه يذكر تبديع ابن تيمية لبعض الأئمة قال « كما تتبع ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وتتبع أيضا الحلاج ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه بل كفره بعض منهم»(3).
فالنقشبنديون يزعجهم طعن ابن تيمية في الحلاج وابن عربي وابن الفارض الذي كان يتغزل بالله بأبيات الشعر ويكنيه بالأنثى.
موقفهم من قول أبي يزيد: سبحاني
__________
(1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 204 و180 وانظر إقرارهم لهذه اللفظة وكثرة استخدامهم لها رشحات عين الحياة 133 و186 المواهب السرمدية 90و162و226 -227 والأنوار القدسية 205 البهجة السنية 81 السبع الأسرار في مدارج الأخيار 31 أخبار الحلاج 53.
(2) رشحات عين الحياة 143.
(3) كتاب الايمان والاسلام لخالد البغدادي النقشبندي ص 92(68/70)
وكذلك استحسن النقشبنديون قول أبي يزيد « سبحاني ما أعظم شأني»(1).
ولم ينكروا هذا القول أو يستنكروه، بل أثبتوه على أنه نهاية ما يحصل للسالك الى الله الفاني به. وقد زعموا - خوفا من السوط أو السيف - أن هذا القول خطأ ووهم يحصل للعبد عند بلوغه قمة الوصول الى الله. والاسلام لا يعرف عبادة تنتهي بصاحبها الى التلفظ بالكفر وادعاء الألوهية.
وذكرت كتبهم أنه صلى بالناس الفجر ثم التفت اليهم فقال: إني أنا الله لا اله الا أنا فاعبدوني. فتركه الناس وقالوا: مجنون، مسكين»(2).
وجاء الى بيته رجل فدق بابه فقال أبو يزيد: من تطلب؟ فقال الطارق: أريد أبا يزيد. فقال له أبو يزيد: ليس في البيت غير الله»(3).
وحكى السرهندي الفاروقي شيخ النقشبنديين أن أبا يزيد قال « لوائي أرفع من لواء محمد» وعذره السرهندي لأنها مقولة سكرية قالها أبو يزيد في حالة سكره بالله(4).
وحكوا أيضا أنه قال « إن لله علي نعما منها أني رضيت أن أحرق بالنار بدل الخلق شفقة عليهم»(5). وقوله « الناس يفرون من الحساب وأنا أتمناه لعله يقول لي يا عبدي فأقول: لبيك. فيفعل بي ما يشاء»(6).
وهذا مبدأ الفداء والكفارة وقبول التعذيب نيابة عن الخلق مقتبس من عقيدة النصارى نجده عند النقشبندية يروونه عن أبي يزيد. ونجده عند الرفاعية الذين نسبوا الى شيخهم الرفاعي أنه قبل أن يعذب كفارة عن خطايا الخلق.
__________
(1) المواهب السرمدية 48 و90و162و226 -227 الأنوار القدسية 97و99 تلبيس ابليس 344 الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 204 و180 رشحات عين الحياة 133 و186 الأنوار القدسية 205 البهجة السنية 81 السبع الأسرار في مدارج الأخيار 31.
(2) المواهب السرمدية 57 الأنوار القدسية 102 تلبيس ابليس 345.
(3) المواهب السرمدية 47 تلبيس ابليس 341.
(4) مكتوبات السرهندي المسماة بالمكتوبات الشريفة ص 101.
(5) الأنوار القدسية 103 تلبيس ابليس 341.
(6) الأنوار القدسية 100.(68/71)
فالنصارى تقول: « يسوع الذي صلب ومات لأجلنا وهو الآن يتردى في جهنم ليخلصنا ويضحي بنفسه من أجلنا»(1). وقال فليبس « يسوع الذي تألم لخلاصنا وهبط الى الجحيم».
وقد بلغ الزهد بأبي يزيد أن صار زاهدا في الآخرة وفي الجنة، فهو لا يريدها لكنه يريد الله فقط.
قال « أوقفني الحق بين يديه مواقف في كلها يعرض علي المملكة فأقول: لا أريدها، فقال الله: فماذا تريد؟ فقلت له: أريد أن لا أريد»(2). وصرح السرهندي بأن رفع الاثنينية بين الخالق والمخلوق مطلوب في مقام الولاية، ثم احتج بقول أبي يزيد هذا(3).
وحتى العبادة لا يريدها ولا يراها مقربة الى الله، ولهذا روى النقشبنديون عنه أنه قال « وقفت مع العابدين فلم أر لي معهم قدما، فوقفت مع المجاهدين فلم أر لي معهم قدما، ووقفت مع المصلين فلم أر لي معهم قدما، فقلت: يا رب كيف الطريق اليك؟ فقال: أترك نفسك وتعال»(4).
وانما العبادة مشغلة ينشغل بها العابدون عن الله، هذا ما استحسن ذكره النقشبنديون بصرف النظر عن مدى ثبوت ذلك عن أبي يزيد.
فقد رووا عنه أنه قال « إطلع الله على قلوب أوليائه فرأى منهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا: فشغله بالعبادة» أضاف « وإن في الطاعات من الآفات ما يحتاج الى أن تطلبوا المعاصي»(5).
تعظيم النقشبند يين لابن عربي
يصفونه بالشيخ الأكبر ويقولون عند ذكر اسمه « قدس الله سره» ويصفونه بـ «غوث المحققين وقطب الموحدين» مع اعترافهم بأنه كان يقول: أنا ختام الأنبياء والمرسلين(6).
__________
(1) رسالة بولس الى أهل غلاطية 3: 13.
(2) المواهب السرمدية 55 الأنوار القدسية 101 - 102.
(3) مكتوبات الامام الرباني 364.
(4) تنوير القلوب 469 الأنوار القدسية 98.
(5) المواهب السرمدية 61 الأنوار القدسية 104 وكذلك أنظر المواهب السرمدية 50.
(6) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 51 وانظر المكتوبات ص 193.(68/72)
ولا يزال النقشبنديون يصفونه بخاتم الأولياء(1)، يعني أنه لا يوجد ولي لله بعد ابن عربي الى يوم القيامة.
وبالرغم من اعتراف السرهندي الفاروقي مجدد الطريقة النقشبندية أن ابن عربي أول من صرح بوحدة الوجود وأن عباراته مشعرة بالاتحاد وانه بوب مسائل وحدة الوجود وفصلها.
وأنه زعم أن خاتم الأنبياء يأخذ علومه من مشكاة خاتم الأولياء ويعني بخاتم الأولياء نفسه»(2) انتهى.
ويصرح بأن أكثر كشوفات ابن عربي مخالفة لعلوم أهل السنة بعيدة عن الصواب ولا يتبعها الا كل مريض القلب»(3).
فقد استحسن السرهندي الفاروقي قول ابن عربي أن الجمع المحمدي أجمع من الجمع الالهي. وتعجب السرهندي من اعتقاد ابن عربي بأن ذات الله مجهولة مطلقة ومع ذلك فانه يثبت الاحاطة والقرب والمعية الذاتية.(4).
وتحدث السرهندي عن الرضا بالخير والرضا بالشر ثم اعترف بأن « الايمان مرضي الاسم (الهادي) والكفر مرضي الاسم (المضل) مخالفة لما عليه أهل الحق وفيه ميل الى الايجاب لكونه منشأ للرضا»(5). واعتبر أن قوله بترتيب خلافة الخلفاء الراشدين بحسب مدة أعمارهم، واعتبر ذلك من شطحاته(6).
ونقل صاحب الرحمة الهابطة عن ابن عربي قوله « ان الله له لسان يتكلم به وأذن يسمع بها وأن عبد القادر الجيلاني قال: رأيت ربي بعين رأسي بصورة»(7).
__________
(1) المواهب السرمدية 162.
(2) مكتوبات الامام الرباني 287.
(3) مكتوبات الامام الرباني السرهندي 277.
(4) مكتوبات الامام الرباني ص 42 وانظر كذلك صفحة 193 .
(5) المكتوبات الربانية 267.
(6) مكتوبات الامام الرباني السرهندي الفاروقي 277.
(7) الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات وتحقيق الرابطة لحسين الدوسري على هامش مكتوبات السرهندي ص 97 و99.(68/73)
ومع اعتذار كثيرين عن كتاب القتوحات المكية لابن عربي بأنه مدسوس عليه الا أنهم لا يزالون يصرحون باعجابهم بالكتاب وشغفهم بقراءته فقد قال عبد المجيد الخاني عن جده محمد صاحب البهجة السنية بأنه كان مشغوفا بمطالعة كتب الصوفية وخصوصا كتاب الفتوحات المكية لابن عربي وتائية ابن الفارض قدس الله سرهما... وكذلك كتاب الفصوص لابن عربي، ويسمون نصوص الفصوص بالكلمات القدسية»(1).
فقد جاء في الرشحات « أن كتاب الفصوص (روح) والفتوحات المكية (قلب) ومن علم الفصوص علما جيدا تتقوى داعية متابعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر في الرشحات أن الشيخ محمد الكوسوي كان يعتقد مصنفات حضرة الشيخ محي الدين ابن عربي الذي كان يقرر في كتبه التوحيد الوجودي بما لا يمكن الانكار عليه(2).
ويفسر عبيد الله أحرار قول الله تعالى فأعرِض عمّن تولّى عن ذكرنا بما قاله محي الدين بن عربي
ألا بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب
وترك الذكر أحسن منه حالا فإن الشمس ليس لها غروب (3)
فذكر الله يطمس البصائر والقلوب وترك الذكر خير من الذكر.
في أي دين هذا؟ إن النصرانية لا تنهى عن ذكر الله كما ينهى عنه هؤلاء الذين يدعون أنهم وصلوا في محبة الله الى المقامات العليا وهم لا يزالون يسبون الله ورسوله. ويمدحون قول الحلاج: كفرت بدين الله.
ويدافع الكمشخاتلي صاحب جامع الأصول عن قول ابن عربي:
العبد رب والرب عبد… يا ليت شعري من المكلف
ان قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف
غير أنه يحرفه فيجعله كالتالي:
العبد حق والرب حق… فليت شعري من المكلف
ان قلت عبد فالعبد ميت… أو قلت رب فما يكلف(4)…
__________
(1) الحدائق الوردية ص 271 وانظر صفحة 282 (ترقيم خطأ 274). رشحات عين الحياة 73وانظر صفحة 128.
(2) رشحات عين الحياة 111.
(3) المواهب السرمدية 161.
(4) جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم 296وأوصافهم قارنه بالفصوص 83 و90 و92(68/74)
ومما قاله ابن عربي في فصوص الكفر:
فوقتا يكون العبد ربا بلا شك…ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
فان كا عبد ا كان بالحق واسعا…وان كان ربا كان في عيشة ضنك
ويقول:
…فأنت عبد وأنت رب ……لمن له فيه أنت عبد
…وأنت رب وأنت عبد……لمن له في الخطاب عهد
ويقول:
…فيحمدني وأحمده ………ويعبدني واعبده
…ففي حال أقر به ………وفي الأعيان أجحده
ويقلد النقشبنديون كلام ابن عربي في فلسفته الصوفية فيقولون: « فيدعون أن أول موجود أوجده الله بلا واسطة هو التعين الأول وكان ظهوره من المبدأ الفياض بما يشبه الولادة»(1).
فهذه مخالفة عظيمة لعلماء الاسلام الذين طعنوا في ابن عربي وحذروا منه. أبرزهم في ذلك العلامة العز بن عبد السلام رحمه الله الذي وصفه بأنه شيخ سوء كذاب يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا»(2).
ووصفه السرهندي بأنه كان من القائلين بقدم أرواح الكمل وكان موافقا للفلاسفة في موقفه من القدرة. واعترف بأن الجم الغفير من هذه الطائفة موافقون له في مسألة وحده الوجود (3).
وكتب الشيخ ملا علي قاري كتابا في الرد عليه لقوله بايمان فرعون.
وقد صرح بضلاله الحافظ ابن حجر والسخاوي وصفه ابن حيان النحوي بالملحد والزنديق وقال المقري « من لم يكفره كان كمن لم يكفر اليهود ولا النصارى((4).
فكيف تكون الطريقة النقشبندية على السنة وهي تستمد تعاليمها من كتب الفصوص والفتوحات المكية وتتجاهل تضليل أئمة الأمة لأخطر وأكفر شخصية امتلأت كتبها بكفر لم يجرؤ عليه اليهود ولا النصارى!!!.
__________
(1) الحدائق الوردية في أجلاء الطريق النقشبندية 171.
(2) حكاه الذهبي في سير أعلام النبلاء 23/48.
(3) مكتوبات الامام الرباني 265.
(4) لسان الميزان 2/384 تفسير البحر المحيط لابي حيان 3/449 والضوء اللامع للسخاوي 6/186 و9/220 وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي المكي 1/33-35 و2/379.(68/75)
بل تقبل كل كلامه حتى قوله بأنه رأى الله على صورة فرس كما صرح به صاحب الرشحات (1)!.
آداب المريد مع شيخه
أن يكون مستسلما منقادا راضيا بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والبدن لأن جوهر الإرادة والمحبة لا ينبني إلا بهذا الطريق، ولا ينكر عليهم شيئا من أفعالهم لأن المنكر عليهم لا ينجو.
وفضلوا خدمة الشيخ على التقرب الى الله بالنوافل بل على أي عمل صالح آخر كما قال محمد أمين الكردي « قال بعضهم: الخدمة عند القوم من أفضل العمل الصالح»(2).
فقال عبيد الله أحرار « وظن بعض الناس أن الاشتغال بالنوافل أولى من خدمة الشيخ وليس كذلك، فإن نتيجة الخدمة المحبة وميل القلوب لأنها جبلت على حب من أحسن اليها، وفرق بين ثمرة النوافل وثمرة الخدمة»(3).
وقد تجاهلوا ثمرة التقرب الى الله بالنوافل وهي محبة الله كما قال « ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه». زاعمين أنه لا يزال المريد يتقرب الى الشيخ بالخدمة حتى يحبه!!!
وزعموا في ذلك أن صوفيا رأى النبي في المنام فسأله أن يوصيه فقال له النبي: وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو شي بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع اربا اربا، قال: حيا أم ميتا يا رسول الله؟ قال: حيا كان أو ميتا»(4).
أن يحب ما يحبه شيخه ويكره ما يكرهه. وأن لا يتوجه الا لما أراده شيخه رافعا نظره عن غيره.
أن يكون اعتقاده مقصورا على معتقد شيخه.
أن يفنى في الشيخ في ذاته وأفعاله وصفاته فان الفناء في الشيخ مقدمة للفناء في الله(5).
__________
(1) رشحات عين الحياة 133.
(2) تنوير القلوب 528 - 530 وانظر المواهب السرمدية 79 والأنوار القدسية 112.
(3) المواهب السرمدية 163 الأنوار القدسية 161.
(4) من كتاب بارق الحمى للمهدي الرواس ص 47 و181 (ضمن كتاب المجموعة النادرة).
(5) السعادة الأبدية فيما جاءت به النقشبندية 30 ط: مكتبة الحقيقة أو وقف الاخلاص بتركيا.(68/76)
أن لا يتوضأ بمرأى من شيخه ولا يصلي النوافل بحضرته بل زاد السرهندي على ذلك فقال: ولا يذكر الله الا باذن الشيخ(1).
أن لا يتوجه الا لما أراده الشيخ.
أن لا يتكلم في مجلس قط الا بدستور شيخه إن كان جسمه حاضرا، وإن كان غائبا يستأذنه بالقلب(2).
أن لا يشرب ماء ولا يأكل طعاما ولا يكلم أحدا في حضور شيخه.
أن لا يكون متوجها الى أحد. ولا يمد رجله عند غيبة شيخه الى جانب هو فيه ولا يرمي بصاقه الى ذلك الجانب. أي الجهة التي يكون فيها الشيخ في أي مكان في العالم.
أن لا ينكر على شيخه قولا أو فعلا ظاهرا كان أم باطنا: لأن شيخه بيد الله تعالى: والله لا يأمر بالفحشاء والمنكر.
أن يعتقد أن كل شيء يصدر عن شيخه يعتبره صوابا وان لم يره صوابا في الظاهر فانه يفعل ما يفعله بطريق الالهام والاذن(3).
أن لا يقوم في محل يقع ظله على ثوب شيخه أو ظله(4).
أن لا يضع رجله في مصلاه.
أن يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا يخالفه في شيء مطلقا(5).
ثم أنشد الكردي شعرا يبين كيف يكون المريد من شيخه فقال:
وكن عنده كالميت عند مغسل يقلبه ما شاء وهو مطاوع
ولا تعترض فيما جهلت من أمره عليه فان الاعتراض تنازع
وسلم له فيما تراه ولو يكن على غير مشروع فثم مخادع(6)
__________
(1) المكتوبات الربانية 347.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 26.
(3) السبع الأسرار في مدارج الأخيار 105 مكتوبات السرهندي الفاروقي المعصومي 347.
(4) أنظر المكتوبات للامام الرباني السرهندي 347.
(5) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 76-77. البهجة السنية لمحمد الخاني 25و41و57. مكتوبات الامام الرباني السرهندي الفاروقي 73.
(6) تنوير القلوب 529.(68/77)
فتأمل صفات المريد تجاه شيخه: استسلام وانقياد مطلق كأنه ميت. ثم تأمل ما قاله في موضع آخر من نفس الكتاب أن أكمل أحوال العبد مع الله « أن يكون بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف اراد(1).
وماذا لو كان المريد فتاة تريد أن تتخذ لها شيخا؟ أليس مطلوبا منها أن تكون ميتة (أو مستلقية) بين يدي الشيخ وأن لا تعترض على ما ظاهره حراما؟
ولقد حيرنا هذا الرجل فتارة يأمر المريد بأن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله وتارة يأمرنا بأن نكون بين يدي الله كالميت بين يدي مغسله!
أن لا ينكر على أفعالهم فإن المنكر عليهم لا ينجو» (2).
أن يرى كل نعمة إنما هي من شيخه (3).
أن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حراما
أن لا يشير على الشيخ برأيه... بل يرد الأمر الى شيخه اعتقادا منه أنه أعلم منه بالأمور وغني عن استشارته»(4). وهذا معناه والله « فان تنازعتم في شيء فردوه الى الشيخ ذلك خير وأحسن تأويلا»!!!
أين هذه التعاليم الهندوكية من أمر الله لنبيه بمشورة أصحابه { وشاورهم في الأمر } وقد كان يستشيرهم دائما كقوله « أشيروا علي أيها الأنصار». وقد أشار عليه الحباب بن المنذر بخلاف رأيه يوم بدر فقال له رسول الله « لقد أشرت بالرأي» فأقره على نصيحته.
__________
(1) تنوير الفلوب في معاملة علام الغيوب قارن بين صفحة 479 وبين 528 وانظر الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 38. البهجة السنية لمحمد الخاني 25.
(2) المواهب السرمدية 79 الأنوار القدسية 112.
(3) المواهب السرمدية 494-495، تنوير القلوب 529..
(4) تنوير القلوب 529 البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 41.(68/78)
فهذا رسول الله لم يستغن عن مشورة أصحابه وهو المعصوم. فهذه التعاليم النقشبندية تجعل للمشايخ العصمة والكمال المطلق وهذا تقديس في صورة أدب! قال تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } . هؤلاء وإن ادعوا أنهم لا يدعون العصمة للمشايخ فان لسان حالهم يؤكد اعتقادهم العصمة.
فهل هذا الا طلب الشرف في الدين وتحقيق الملذات والتسلط على العوام باسم الدين وباسم التأدب مع الشيخ.
فالمشيئة مشيئتهم والأمر أمرهم والخدمة لهم أحب الى الله من صلاة النوافل اليه.
وهم يراقبون المريد ولو من بعيد، ويغيثون المكروب ويقلبون الشقي الى سعيد.
الاستسلام لمعاصيهم طاعة، والاعتراض على معاصيهم معصية.
من رأى منهم غلطا فليقل هذا ظاهره خطأ ولكن باطنه صواب.
التوجه الى الله لا يكون الا بهم.
بيوتهم قبلة ولنعالهم ألف وألف قبلة.
وفي ذلك الاستسلام المطلق للشيخ، يقول محمد أمين الكردي « إعلم أن كل ما وضعوه من الآداب للمريدين كتغميض العين وقت الذكر وإغلاق الأبواب فينبغي أن تتلقاه بالقبول وتعلم أنهم اقتبسوه من مصباح السنة، فاذا أردت أدبا من آدابهم ولم تعرف مأخذه من السنة فلا ينبغي أن تطيل لسانك بالاعتراض عليهم»(1).
وهذه دعوة الى التقديس وتهديد للمعترض بالحرمان على نمط وثائق الحرمان الكنسي عند النصارى لكل من يجرؤ على الاعتراض على البابا الممثل لإرادة الله على الأرض!!!
انها تعاليم تحجر العقل وتروض على الذل وهدم الشخصية. إذ أن هؤلاء لما رأوا العقل لا يقبل بدعهم سارعوا الى الهيمنة على عقول العوام وتسلطوا عليها بالتخويف والتهديد والطرد من رحمة الله، وسلب الفيوضات التي أفاضها الشيخ على المريد مما يجعل المريد عبدا يحقق كل معاني الاسلام للشيخ لا لله. ولا تنس أن للمشايخ مريدات لا مريدين فقط: والباقي عندك أيها القارىء.
الشيخ يأمر مريده بالسرقة
__________
(1) المواهب السرمدية 323.(68/79)
بل قد أرغموا المريد على ارتكاب المعصية مهما كبرت اذا أمر الشيخ مريده بها:
وفي ذلك يحكون قصة للشيخ بهاء الدين مؤسس الطريقة أنه كان في بخارى مع تلميذه نجم الدين دادرك فقال الشيخ له « أتمتثل كل ما آمرك به؟ قال: نعم. قال: فإن أمرتك بالسرقة تفعلها؟ قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأن حقوق الله تكفرها التوبة، وهذه من حقوق العباد. فقال: إن لم تمتثل أمرنا فلا تصحبنا. ففزع نجم الدين فزعا شديدا وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأظهر التوبة والندم وعزم على أن لا يعصي له أمرا فرحمه الحاضرون وشفعوا له عنده وسألوه العفو عنه فعفا عنه»(1).
ومن آداب المريد مع شيخه
أن لا يتزوج زوجة طلقها شيخه أو مالت نفسه إليها. ويلزم منه أن تنطبق أحكام تحريم زواج نساء النبي بنساء الولي. وكأن الله قال: وما كان لكم أن تؤذوا أولياء الله ولا أن تنكحوا أزواجهم من بعدهم أبدا إن ذلكم كان عند الاله عظيما.
وبذلك تصير زوجات الأولياء أمهات المؤمنين(2) !!!
أن يلازم عند الذكر في مخيلته وبين عينيه صورة الشيخ وذلك من أصول الذكر(3) . ولا يبعد عند هذه الحالة أن يتشكل الشيطان بصورة الشيخ فيكون التوجه عند الذكر للشيطان وحينئذ يفتح له عجائب الخيالات ويحصل الفناء في الشيطان في حين يظن المسكين انه فني في ذات الله.
آداب أخرى للمشيخة مع المريدين
أن ينام في مكان ويجعل رأسه الى الغرب وقدميه الى الشرق.
__________
(1) الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية 139 المواهب السرمدية 138 الأنوار القدسية 140 جامع كرامات الأولياء 1/150.
(2) تنوير القلوب 529.
(3) رسالة في تحقيق الرابطة لخالد النقشبندي الملقب بذي الجناحين 9 شفاء العليل 90 و78 المواهب السرمدية 494، الأنوار القدسية 145 تنوير القلوب 517 السعادة الأبدية 78. البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية لمحمد بن عبد الله الخاني 42-43 نور الهداية والهرفان ص 38.(68/80)
أن يجلس المريد بين يدي شيخه متوركا عكس تورك الصلاة.
أن يغلق الباب، وهذه عندهم من أهم الآداب ويستدلون على ذلك بما زعموه أن الرسول قال لأصحابه: هل فيكم غريب؟ يعني أهل الكتاب. قالوا: لا، قال ارفعوا أيديكم وقولوا لا اله الا الله»(1). وهذا الحديث لا أصل له، ثم أن نصه يفيد أن الغريب أهل الكتاب وهم يحتجون به لغلق الباب عن المسلمين لا عن أهل الكتاب!
أن يعلم المريد أسماء آبائه في الطريق لئلا ينتسب الى غير أبيه ولأن الأبوة الروحية أقوى من الأبوة الجسمية فإنه اذا أراد أن يستمد من روحانيتهم وكان انتسابه اليهم صحيحا أمدته رجال السلسلة النقشبندية بأسرارها وأنوارها»(2).
واعتبروا أنه يمكن للسالك في طريقة القوم أن يكلم من يشاء ابتداء من مشايخ الطريقة الأموات الى النبي الى الله. قالوا: وأقل ما يحصل للمريد اذا دخل في سلسلة القوم بالتلقين: أنه اذا حرك السلسلة تجيبه أرواح الأولياء: من شيخه الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى حضرة الله عز وجل(3).
وجعلوا من أعرض عن السلسلة في حكم اللقيط الذي لا يعرف أباه وأمه. وحرموه ميراث النبوة فصرحوا بأنه « مقطوع الفيض غير وارث للنبي وزعموا أن النبي قال « طوبى لمن رآني ورأى من رآني» بل زعموا أن النبي قال في الصحيحين« من صافحني أو صافح من صافحني الى يوم القيامة دخل الجنة»(4).
مبدأ الرابطة عند النقشبنديين
أول مبدأ يشدد عليه النقشبنديون هو مبدأ الرابطة يعدون به المريد بالوصول الى الله والفناء فيه وفيض المعارف والحكمة والاتصال بسلسلة مشايخ الطريقة.
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 16.
(2) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية 11 - 12 الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 11.
(3) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 11.
(4) الحجج والبينات في ثبوت الاستعانة من الأموات ص 55. ط: مكتبة الحقيقة - اسطنبول.(68/81)
لقد أخذ النقشبنديون يبحثون للسالك عن رابطة أخرى بالله غير تلك الرابطة التي كانت قرة عين النبي - صلى الله عليه وسلم - أعني الصلاة. والتي كان اذا حزبه أمر نادى بلالا «أرحنا بها يا بلال». فابتدعوا الرابطة.
وهذه الرابطة مبناها على ربط القلب بغير الله أي بالشيخ محبة وطاعة وخضوعا وتذلالا. والشريعة انما طالبت بالرابطة أن تكون بالله وليس بغيره.
وزعموا أن قلب الشيخ مفتوح الى عالم الغيب وكل لحظة يحصل فيها المدد من الله انما تكون بواسطة الشيخ، بل اذا حدثت وسوسة فعلى المريد أن يغتسل بالماء البارد ويدخل خلوته ويتخيل صورة النبي أو صورة شيخه(1). ولكن: إن كان تخيل الشيخ موصل ضروري الى الله فما المانع من تخيله في الصلوات الخمس؟
ولا تنس أنها صلة غير مباشرة يشترطون أن يكون الشيخ وسيطا فيها بل لا يمكن أن تحصل الا به.
أما مشروعيتها عندهم فهي مستنبطة من قوله تعالى { قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } قالوا: ففي الآية اشارة الى الرابطة لأن الاتباع يقتضي رؤية المتبوع حساً أو تخيله معنى، وهو غرضنا من الرابطة(2).
قالوا: «ومنكرها مكتوب في جبهته الخسران متسم بالمقت والحرمان»(3).
الرابطة تفيد إن كانت مع الانسان الكامل المتصرف بقوة «الولاية» لأن الانسان الكامل مرآة الحق سبحانه وتعالى فمن ينظر الى روحانيته بعين البصيرة يشاهد الحق فيها(4).
آداب الرابطة
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان 48.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 46 لمحمد بن عبد الله الخاني.
(3) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 48 لمحمد بن عبد الله الخاني.
(4) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 43.(68/82)
أن يغمض العينين ويلصق اللسان بسقف الحلق والأسنان بالاسنان والشفة بالشفة مع إطلاق النفس(1).
أن يستحضر صورة الشيخ في جبهته ويقررها وسط الجبهة.
أن يعتقد أن تصرفات روحانية الشيخ من تصرفات الحق سبحانه. فان الشيخ واسطة بين المريد وبين الله والاعراض عن الشيخ يعتبر اعراضا عن الله(2). أما الشيخ فانه يتلقى العلم اللدني من الله مباشرة وبلا واسطة(3).
أن لا يشرب الماء بعد الورد فانه يطفىء حرارة الذكر.
أن يتصور أن لقلبه لسانا. ويسمونه باللسان الخيالي.
أن يحمل مسبحة حسنة التكوير حتى يحسن عد الأذكار بخمسة آلاف مرة.
أن يلصق اللسان والأسنان والشفة ولكنه يحبس النفس تحت سرته ويتخيل منها نقش (لا) ممتدة الى منتهى دماغه ويتخيل من دماغه نقش (اله) ممتدة الى كتفه الأيمن. ويتخيل من كتفه الأيمن نقش(الا الله) مارّا بها على اللطائف الخمس ضاربا بلفظ الجلالة على القلب(4).
الصورة صنم والصنم صورة
ولعلك تلاحظ أهمية تخيل الأشياء والصور.
ولا تنس أن الصور جماد كما أن الصنم جماد فصار تقرب المريد النقشبندي بالجماد وهو الصنم مشابه لتقرب مشرك قريش بالصنم المشكل على صورة الرجل الصالح!
وهل الصنم الا صورة؟!!!
فتوى مفتي العراق ببطلان الرابطة
__________
(1) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 79 البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 49 لمحمد بن عبد الله الخاني. وانظر رشحات عين الحياة ص 30. .
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 45 لمحمد بن عبد الله الخاني.
(3) رسالة في تحقيق الرابطة 12،
(4) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية ص 33.(68/83)
وقد كتب محمد أسعد صاحب زادة كتابا في الرد على فتوى ببطلان الرابطة النقشبندية وأنها من البدع المنكرة قال في بدايتها « ووقفت على التاريخ المسمى بالتاج المكلل تأليف الفاضل المشهور صديق حسن خان البخاري القنوجي نواب بهوبال فرأيت فيه سؤالا واردا عليه من الأديب الفاضل السيد نعمان ابن الامام الكبير والحجة المفسر الشهير السيد محمود الألوسي مفتي بغداد عن الرابطة الشريفة التي تستعملها ساداتنا الأئمة النقشبندية... وملخص السؤال: ما قولكم في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبندية.. وهل لها أصل من السنة والكتاب أم هي اختراع واجتهاد؟
فأجاب بما ملخصه: أما مسئلة الرابطة فلا يخفى أنها من البدع المنكرة وقد صرح بالنهي عنها الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي فقال: قالوا: والركن الأعظم ربط القلب بالشيخ على وصف المحبة والتعظيم وملاحظة صورته.
قلت: إن لله تعالى مظاهر كثيرة فما من عابد غبيا كان أو ذكيا الا وقد ظهر بحذائه شيء صار معبودا له في مرتبته ولهذا السر نزل الشرع باستقبال القبلة والاستواء على العرش وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اذا صلى أحدكم فلا يبصق قبل وجهه فان الله بينه وبين قبلته. وسأل جارية سوداء فقال «أين الله فأشارت الى السماء» الحديث. فلا عليك أن لا تتوجه الا الى الله ولا تربط قلبك الا به ولو بالتوجه الى العرش... أو الى القبلة فيكون كالمراقبة لهذا الحديث.
وقد أفاد الشيخ العلامة محمد اسماعيل الدهلوي في كتاب الصراط المستقيم أن هذه الرابطة بمكان من الشرك لا يخفى. وأقول: ما لنا ولقلبنا وربطه بالشيخ كائنا من كان. وانما تربط قلوب الأنام ببارئها»(1).
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 3 لمحمد أسعد صاحب زادة. ط: المطبعة العلمية - مصر سنة 1311.(68/84)
ثم كتب محمد أسعد صاحب زاده كتابه للرد على هذه الفتوى وزعم أنه يبرهن على صحة الرابطة من الكتاب والسنة والاجماع والقياس. لكنه أتى بأدلة واهية مثل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلو بغار حراء. وتجاهل أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن جاءه الحق لم يعد يخلو بغار حراء. وأن قوله تعالى { قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني } دليل على مشروعية الرابطة، وذكر ما عليه دين الفلاسفة كمبدأ الاستفاضة من أرواح الأموات الفياضة واستحضار روحانيات أموات سلسلة الخواجكان... الخ(1).
ولما أحس بضعف أدلته قال متحكما « على أنه لا يجب علينا الاستدلال على الرابطة الشريفة بدليل لأن دليل من قلدناه من العلماء العاملين والأولياء العارفين كاف واف بالمقصود»(2).
وفي موضع أخر من كتابه زعم أنه حتى لو افترضنا بأن عمل الرابطة الشريفة لا دليل عليه: وانما استعملناه لما حصل لنا من الفائدة بالتجربة، فالانكار علينا من أي وجه وما دليله؟»(3).
أصول الذكر عندهم وطريقته وغايته ونهايته
من أصول الذكر عند النقشبنديين ترك الذكر باللسان وتفضيل الذكر بالقلب بدلا منه، فصاحب تنوير القلوب وغيره لا يعجبهم الذكر كثرة الأذكار اللسانية والأوراد الظاهرية(4).
وقد زعموا أن الشيخ الغجدواني أخذ طريقة الذكر من الخضر الذي لقنه الذكر العددي والذكر الخفي وهو أن ينغمس في الماء ويذكر بقلبه « لا اله الا الله محمد رسول الله»(5).
__________
(1) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 5 و23 و29 (أو37 حسب الترقيم الخطأ).
(2) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 37.
(3) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 64.
(4) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 44.
(5) المواهب السرمدية 77 والأنوار القدسية 111-112.(68/85)
علق النقشبنديون على هذا الغوص في الماء بقولهم « ولعل الأمر بالغوص بالماء لحفظ النفس والاحتياط في حبسه»(1)
وهذه الرواية المكذوبة يبطلها قول الشيخ عبد الرحمن درويش الحوت الذي قال « لم يرد في حياة الخضر شيء يعتمد عليه» (أسنى المطالب 616).
واعترافهم بأن مصدر طريقتهم في الذكر مستقاة من الخضر لا من سنة النبي ينقض قولهم أن طريقتهم مبنية على الكتاب والسنة على أصلها لم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها. فان هذا الذكر الخفي شريعة خضرية لا محمدية! هذا مع عدم التسليم بأنه الخضر، وكثيرا ما ينتحل الشيطان شخصية الخضر.
من الدنيا الى الجنة فورا
قال الشيخ عبد الوهاب أحد أصحاب الشيخ بهاء الدين « لما دفن حضرة الشيخ رضي الله عنه فتح من جهة وجهه المبارك له طاقة الى الجنة... فدخلت عليه حوريتان وسلمتا عليه وقالتا له: نحن منذ خلقنا الله ننتظر خدمتك. فقال قدس الله سره: إني عاهدت الله تعالى أن لا ألتفت الى شيء ما من الأشياء ما لم أتشرف برؤيته التي بلا كيف ولا مثال: وأشفع بجميع من اتصل بي وسمع مني القول الحق وعمل به»(2).
آداب الذكر عند الطريقة (3)
وهذا الذكر الخفي جعلوا له آدابا:
__________
(1) البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 53 رشحات عين الحياة ص 25 نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 3 لمحمد أسعد صاحب زادة. ط: المطبعة العلمية - مصر سنة 1311. كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 31 لمحمد معصوم العمري النقشبندي اتحاف السادة المتقين شرح احياء علوم الدين 7/248.
(2) الحدائق الوردية 141-142.
(3) هذه المعلومات مستفادة من كتاب الشيخ محمد الحامد ص 182-188 لعبد الحميد طهماز وكتاب تنوير القلوب للشيخ محمد أمين الكردي 511.(68/86)
تغميض العينين وإلصاق اللسان بسقف الحلق والأسنان بالاسنان والشفة بالشفة مع إطلاق النفس(1). وجعلوا اللسان مربوطا لأن الذكر عندهم بلسان القلب لأن القلب كله لسان عندهم كما قاله محمد مصطفى أبو العلا النقشبندي(2).
أن يقول بقلبه: الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي. هكذا واحد وعشرين مرة في نفس واحد(3). لترويضه على الوسوسة.
أن يقول « لسان القلب» الله الله مئة مرة. هكذا من غير اقتران ألفاظ التنزيه الأخرى بلفظ الجلالة كلفظ: سبحان والحمد ولا اله الا..الخ.
قالوا: فان سلطان الذكر عندهم أن يقول (الله الله) وربما جرى على لسانه (الله (الله)(4) أو (هو هو) أو (ها ها) أو (هـ هـ) أو (آ آ) أو (أهـ أهـ) أو (لا لا) أو عياط بغير حرف أو صرع أو تخبط. فاذا داومت على الذكر بهذه الطريقة رأيت الذكر كنار تصعد وتحرق جميع الشهوات... ثم تشهد نارا صافية وهي علامة قوة الهمة، فإن رأيت اختلاطا في الألوان فهي حالة تلوين. وثبات لون الخضرة علامة على التمكين(5).
__________
(1) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 79 البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية 49 لمحمد بن عبد الله الخاني. وانظر رشحات عين الحياة ص 30. .
(2) القصور العوالي 4/182 ط: مكتبة الجندي - القاهرة.
(3) تنوير القلوب 512-515 شفاء العليل ترجمة القول الجميل 83 المواهب السرمدية 306 و316.
(4) أفتى العز بن عبد السلام أن الذكر بالاسم المفرد (الله) بدعة لم ينقل مثله عن أحد من السلف. نقله الدوسري في كتابه الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة ص 211 على هامش مكتوبات السرهندي. وفي كتابه هذا ما يبين تفضيل الصوفية لفظ (الله) على ( لا اله الا الله) بل قالوا بأن من قال لا اله الا الله فهو مشتغل بغير الله، ومن قال (الله) فهو مشتغل بالله( (أنظر 204 و206 و209.
(5) نور الهداية والعرفان 79-81.(68/87)
وبهذا أبطلوا دور اللسان في الذكر. وهذه بدعة شنيعة فان مجموع الأحاديث تبين أن مدار الذكر على اللسان لا في القلب دون اللسان كقول النبي « لا يزال لسانك رطبا بذكر الله»(1) ولم يقل: لا يزال لسان قلبك؟
استقبال القبلة في مكان خال.
يقول بلسانه (الهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي).
ويكرر الأذكار جميعها الى خمسة آلاف مرة..
الجلوس متوركا عكس توركه للصلاة بأن يجلس على أليته اليسرىمخرجا الرجل اليمنى من تحت الرجل اليسرى(2) ويبين له الشيخ محل القلب الصنوبري وأنه تحت الثدي الأيسر بإصبعين.
الذكر يكون خفيا.
إغماض العينين وإطباق الفم ووضع اليد اليمنى بالمسبحة على القلب تحت الثدي الأيسر.
الاستغفار خمسا وعشرين مرة.
الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسا وعشرين مرة.
قراءة الفاتحة مرة. وسورة الاخلاص ثلاثا واهداؤها الى روح سيدنا محمد وأرواح سلسلة مشايخ الطريقة النقشبندية.
رابطة الموت وهو استحضار النزع للروح وكأنه يعاين الموت ويسأله الملكان.
رابطة المرشد
وذلك بأن يستحضر الشيخ وصورته في قلب الذاكر عند الذكر. على أساس أن الشيخ وسيلة المريد الذاكر الى الله يتقرب به الى الله زلفى. وقد عرف خالد البغدادي الرابطة بأنها «عبارة عن استمداد المريد من روحانية شيخه بكثرة رعاية صورته ليتأدب ويستفيض منه في الغيبة كالحضور»(3).
وقيل: الفناء في الشيخ مقدمة الفناء في الله(4). وهذا من أهم المهمات وآكد الآداب في العبادة(5).
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه.
(2) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 41 نور الهداية والعرفان 19.
(3) رسالة في تحقيق الرابطة 3 ط: وقف الاخلاص مكتبة الحقيقة - تركيا.
(4) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه ص 38 مكتوبات الامام الرباني 73.
(5) نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان ص 55.(68/88)
أما من ينكر شيئا من هذه الآداب أو يشك في أنها مبنية على أصول السنة فيقول الشيخ محمد أمين الكردي « وهذا الأمر لا يجحده الا من كتب الله على جبهته الخسران واتسم والعياذ باله بالمقت والحرمان أولئك هم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا»(1).
المقامات والمراتب والدوائر عند النقشبندية
مرتبة الطعن في النبوة
ويقسم محمد المعصوم النقشبندي مراتب الولاية الى عدة مراتب:
مرتبة الولاية الصغرى.
مرتبة الولاية الكبرى وهي ولاية الأنبياء.
مرتبة الولاية العليا. وهي مرتبة الوصول الى مرتبة الذات الالهية.
- أما مرتبة الولاية الكبرى وهي المقام الأخير من مقامات النقشبندية التي هي ولاية الأنبياء.
- وأما مرتبة الولاية العليا .فهذا المقام من أعلى درجات الولاية السابقة بل كشف تفوقه على ولاية الأنبياء، أما فضيلة الأنبياء فهي بطريق النبوة...
- واذا تم السير في اسم « هو الظاهر» واسم « هو الباطن» اللذين هما جناحان للطيران الى مرتبة « الذات البحت تعالت وتقدست» المعبر عنها بالولاية العليا يكون السير في مرتبة « كمالات النبوة» وفي هذا المقام قطع السير مقدرا نقطة واحدة أفضل من جميع المقامات من الولايات الثلاثة أعني الولاية الصغرى والولاية الكبرى والولاية العليا(2).
وأما مرتبة ما بعد الولاية العليا فهي :
مرتبة تجلى الذات تعالى من غير حجب الأسماء والصفات وجعل لها ثلاث مراتب:
الأولى: مرتبة كمالات النبوة،
الثانية: مرتبة كمالات الرسالة.
الثالثة: مرتبة كمالات أولي العزم. وهذه المراتب كلها تحصل لغير الأنبياء.
__________
(1) تنوير القلوب 518.
(2) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار لمحمد المعصوم ص 66-72.(68/89)
ولما أحس بأن هذا تفضيل صريح للولي على النبي اعتذر قائلا « ولا يلزم من حصول كمالات النبوة لبعض أفراد الأمة بطريق التبعية والوراثة أنهم من الأنبياء أو مساو لهم»(1).
وثمة طعن آخر ظهر من أحد النقشبنديين المعاصرين وهو عبد الله الفايز الداغستاني شيخ ناظم القبرصلي حيث زعم أن « من قرأ خواتيم البقرة ولو مرة واحدة يفوز بما لم يفز به الأنبياء»(2) .
وهناك دوائر تحصل للسالك منها:
دائرة حقيقة الكعبة
دائرة حقيقة القرآن: وفي هذه المرتبة يزعمون أنه يظهر للولي في هذا المقام بواطن كلام الله ويرى كل حرف من حروف القرآن بحرا موصلا الى كعبة المقصود ويصير لسان القارىء وقت تلاوة القرآن كالشجرة الموسوية»(3).
دائرة حقيقة الصلاة
دائرة المعبودية الصرفة
دائرة الحقيقة الموسوية
دائرة الحقيقة المحمدية.
دائرة الحقيقة الأحمدية
دائرة الحب الصرف: وتعني أن الحب هو سبب خلق الله لظهور الممكنات كما جاء في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف». ونقلوا عن السرهندي «ان أول شيء ظهر من خزينة المكنونة الالهية هو الحب الذي صار سببا لخلقة الخلائق فلو لم يكن الحب لكان العالم معدوما محضا ويتحقق ههنا معنى الحديث القدسي الوارد في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - « لولاك لما خلقت الأفلاك» وكذلك معنى الحديث «لولاك لما أظهرت الربوبية»(4).
دائرة اللاتعين: وهذا المقام مخصوص بسيد الأولين والآخرين.
فهذا طعن في النبوة والألوهية وهو اغتراف من معين عقائد الباطنيين والقرامطة والفلاسفة.
يرون الله في الدنيا
__________
(1) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار لمحمد المعصوم ص 77-78.
(2) وصية مرشد الزمان وغوث الأنام ص 13.
(3) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 80.
(4) كتاب السبع الأسرار في مدارج الأخيار ص 94 تأليف محمد معصوم العمري النقشبندي .(68/90)
واختلف علماء بخارى في إمكان رؤية الله فمنهم من نفى ومنهم من أثبت فأتوا الى الشيخ محمد بارسا وقالوا له: إنا رضيناك حكما علينا في هذه المسئلة. فقال للنافين: أقيموا في صحبتي ثلاثة أيام متطهرين ولا تتكلموا بشيء ما حتى أجبكم، فلما مضت ثلاثة أيام حصل لهم حال قوي فصعقوا، فلما أفاقوا جعلوا يقبلون قدم الشيخ وقالوا: آمنا أن الرؤية حق»(1).
ويؤكد محمد أمين الكردي هذه الرؤية في الدنيا فيقول « فاذا جاهد فيه - أي الذكر - حق جهاده وصدق فيه: ظهرت النتيجة وهي: رؤية جناب الحق سبحانه وتعالى بعين البصيرة على الدوام والمداومة عليها مع المجاهدة التامة يكون دائما في التقرب وأبدا في التحبب حتى تنتهي مراقبته الى المشاهدة من غيرحجاب» وقد أثبت السرهندي رؤية النبي ربه في الدنيا(2).
ختم الخواجكان
ولهذا الختم عند الطريقة شرطان:
أن لا يحضر فيه أجنبي ولا أمرد:
أن يغلق الباب. وهو شرط يرمز عندهم الى كتم الطريقة ومراسيمها حتى لا تتعرض لألسنة النقاد(3).
وقد يصاب من لم يحصل له الاتصال بسلسلة الطريقة عند ذكر ختم الخواجكان جنون وصرع. قال صاحب الرشحات « حصل لي اضطراب قوي لعدم حصول نسبة الخواجكان قدس الله أرواحهم، فكنت أضرب رأسي على الأرض في الليالي المظلمة وأخرج في النهار الى الصحراء أبكي فيها»(4).
وهذا الضرب دائم عندهم. فقد حكى صاحب الرشحات أن أحد مشايخ النقشبندية كان معتكافا في المسجد لا يأكل ولا يشرب فلما عزم على الخروج من المسجد ليأكل ألقى الله اليه الهاما ربانيا أن: بعت صحبتنا على خبز؟ قال: فرجعت المسجد ثانية ولطمت وجهي بيدي حتى بقي أثر الضرب فيه أسبوعا»(5).
__________
(1) الحدائق الوردية 145 رشحات عين الحياة 68 المواهب السرمدية 145-146.
(2) تنوير القلوب 515-516 وانظر المواهب السرمدية 317 المكتوبات الربانية 305.
(3) السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية 15.
(4) رشحات عين الحياة 147.
(5) رشحات عين الحياة 150.(68/91)
الخلوة وشروطها
ولا يمكن الوصول عند النقشبندية الى الله الا بالخلوة، أقلها ثلاثة أيام وأكملها أربعون يوما.
وأهم شروط هذه الخلوة:
استئذان الشيخ وطلب الدعاء منه.
العزلة وتعوّد السهر والجوع والذكر.
أن لا يسند ظهره الى الجدار!!!
أن يكون مستيقظا من أعدائه الأربعة: الشيطان والنفس والهوى والدنيا.
أن يغلق الباب وهو من أهم شروط الخلوة وأن لا يفتح الباب لمن يريد التبرك به الا لشيخه(1).
أن يرى كل نعمة حصلت له انما هي من شيخه (2).
طقوس أخرى
وقوف زماني: وشروطه وآدابه ما يلي:
لا يتحدث بعد صلاة العشاء
يصلي اثني عشرة ركعة في كل ركعة منها الفاتحة وسورة يس وان لم يستطع يقطعها في الركعات الثمان:
في الركعة الأولى الى (وأجر كبير) وفي الثانية الى (وهم مهتدون) وفي الثالثة الى (لدينا محضرون) وفي الرابعة الى (في فلك يسبحون) وفي الخامسة الى (ولا الى أهلهم يرجعون) وفي السادسة الى (هذا صراط مستقيم) وفي السابعة الى (فهم لها مالكون) وفي الثامنة الى آخر السورة(3).
واشترطوا على المريد لبس الخرقة وزعموا أن السلف اشترطوا في لبسها شروطا معينة (4).
طقوس أخرى:
وقوف زماني: وشروطه وآدابه ما يلي:
لا يتحدث بعد صلاة العشاء
يصلي اثني عشرة ركعة في كل ركعة منها الفاتحة وسورة يس وان لم يستطع يقطعها في الركعات الثمان:
__________
(1) البهجة السنية في آداب الطريقة الخالدية العلية النقشبندية 40.
(2) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب 493-405.
(3) الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 89.
(4) البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 10.(68/92)
في الركعة الأولى الى (وأجر كبير) وفي الثانية الى (وهم مهتدون) وفي الثالثة الى (لدينا محضرون) وفي الرابعة الى (في فلك يسبحون) وفي الخامسة الى (ولا الى أهلهم يرجعون) وفثي السادسة الى (هذا صراط مستقيم) وفي السابعة الى (فهم لها مالكون) وفي الثامنة الى آخر السورة(1).
واشترطوا على المريد لبس الخرقة وزعموا أن السلف اشترطوا في لبسها شروطا معينة(2).
أهم الكتب النقشبندبة
ومن أراد مزيد التوسع في معرفة هذه الطريقة فعليه بأهم المراجع التالية
إرغام المريد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية. لمحمد بن زاهد الدوزجوي. ت 1370.
أصفى الموارد من سلسال أحوال الامام خالد. تأليف عثمان بن سند الوائلي النجدي.
الأنوار القدسية في مناقب السادة النقشبندية جمعها من كتب عبد المجيد بن محمد الخاني الشيخ ابراهيم بن يس السنهوتي. ط السعادة بمصر.
البهجة السنية في آداب الطريقة النقشبندية. محمد بن عبد الله الخاني.
أوراد الذاكرين أوراد الطريقة النقشبندية. لمحمد الحبش. ط دار المحبة، دمشق.
البهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشبندية محمد بن عبد الله الخاني. ط مكتبة الاخلاص تركيا.
جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم. أحمد ضياء الدين الكشمخانلي ط الجمالية بمصر 1328 وقد أثنى الكوثري على هذا الكتاب بالغ الثناء.
الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية محمد بن سليمان النقشبندي. ط الاخلاص.
تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب محمد أمين الكردي. ط دار احياء التراث العربي. بيروت.
الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبندية عبد المجيد بن محمد الخاني 1306.
الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة للشيخ حسين الدوسري بهامش مكتوبات السرهندي ط: دار الكتب العلمية.
__________
(1) - الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية 89.
(2) - البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 10.(68/93)
رشحات عين الحياة لعلي بن الحسن الواعظ الهروي وهذا الكتاب فيه كفريات عجيبة ومع ذلك فهو كتاب عظيم عندهم، وكان الكوثري يحيل الناس اليه(1). واستحسنه واحتج به خالد البغدادي الملقب بذي الجناحين في كتابه (رسالة في تحقيق الرابطة 3 ضمن كتاب علماء المسلمين وجهلة الوهابيين ط: مكتبة الحقيقة - تركيا وهي مكتبة متخصصة في بث كتب البدع والشرك والطعن في أهل السنة. وبالرغم من تخصصها في بث الشرك فقد جعلوا لها وقفا باسم " وقف الاخلاص". .
السبع الأسرار في مدارج الأخيار محمد بن معصوم المجددي ط تركيا - 1331.
السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبندية عبد المجيد بن محمد الخالني الخالدي. ط الاخلاص بتركيا.
مكتوبات الامام الفاروقي السهرهندي. ط دار الكتب العلمية.
المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية محمد أمين الكردي. ط السعادة سنة 1329.
نور الهداية والعرفان في سر والتوجه وختم الخواجكان. محمد أسعد صاحب زادة النقشبندي. ط المطبعة العلمية بمصر 1311.
كتاب: الشيخ محمد الحامد العلامة المجاهد. تأليف عبد الحميد طهماز(2)
__________
(1) - أنظر البهجة السنية في آداب الطريقة العلية الخالدية النقشبندية ص 48 لمحمد بن عبد الله الخاني، وانظر كتاب ارغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسل المريد برجال الطريقة النقشبندية 60.
(2) - وهذا الرجل قد غضب من كتابي الأول (النقشبندية) لأني ذكرت كتابه من جملة مصادري عن الطريقة النقشبندية. وقد جرت بينه وبين الشيخ ناصر الدين الألباني مناظرة مهمة ثبت فيها عصبيته وتحامله على الدعوة السلفية حيث واجهه الألباني في ثنائه على المهدي الرواس الرفاعي بالرغم من قول هذا الأخير عن نبيا محمد:
……وهو نور أزلي طرزه …صار في وجه وجوه الكون شامة
……طوي العالم في جبته …وعلى العرش علت منه العمامة
وسجلت هذه المناظرة ووضعت في كتاب بعنوان «توضيح وتعليق على الحوار الذي تم بين فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وفضيلة الشيخ عبد الحميد طهماز.(68/94)
مؤلفات ومقالات عن الطريقة النقشبندية
كتاب النقشبندية ……عبد الرحمن دمشقية ط: دار طيبة.
كتاب النقد والتزييف.…ط: المكتب الاسلامي.
كنت نقشبنديا ……مقالة للشيخ محمد جميل زينو (مجلة الاستجابة العدد الرابع - مركز الملك فيصل 50704).
الطرق الصوفية ومشايخها في طرابلس…د. محمد درنيقة
حاشية على شرح الخريدة البهية أحمد بن محمد الخلوتي الصاوي (مركز الملك فيصل 31924).
تراجم اسلامية (ناصر عبيد الله أحرار)…يحيى الساعاتي (مركز الملك فيصل 37801).
الطرق الصوفية في آسيا الكسندر بنغسين (مركز الملك فيصل 54201).
الطرق الصوفية في شمال القوقاز لشانتال لوميرسيه (مركز الملك فيصل 54201).(68/95)
……
العواصم من القواصم
……… في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي
……… صلى الله عليه وسلم
………
…………… تأليف
………… القاضي أبي بكر العربي
……………(468ـ 543 هـ )
………… حققه وعلق على حواشيه
………… محب الدين الخطيب
………… ( 1303 ـ 1389هـ )
……رسالة تقدير ( من محب الدين الخطيب إلى رئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية )
……وقع هذا الكتاب من أولياء الله وأنصار دينه وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار موقع التقدير والرضا ، كما وقع من مبغضي الصحابة وشانئيهم موقع السخط والغيط
…ومن رسائل التقدير والتشجيع التي تلقيناها رسالة كريمة يراها القارئ في الصحفة التالية وهي صادرة عن ركن من أركان بيت العلم والهدى في الأرض المباركة أدام الله النفع بها )
…………
[ ثم نقل صورة من الخطاب لم يتيسر نشره ]
………********
( ناشر الكتاب على الشبكة الإنترنتية يسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات من ساهم في نشره وطبعه وتوزيعه والدلالة عليه وأن يغفر له ولوالديه ولمن قال آمين )
……
[ نص الكتاب ] بسم الله الرحمن الرحيم
…وصلى الله وسلم على محمد وآله
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد :
…قرأت على الإمام محمد أبي بكر بن العربي رضي الله عنه قال :
…الحمد لله رب العالمين ، اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم . وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد .
…اللهم نستمد بك المنحة ، كما نستدفع بك المحنة ، ونسألك العصمة ، كما نستوهب منك الرحمة .
…ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، ويسر لنا العلم كما علمتنا ، وأوزعنا شكر ما آتيتنا ، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك إليك ، وأنت على كل شئ قدير .…
………
……قاصمة الظهر(69/1)
…بعد أن استأثر الله بنبيه صلى الله عليه وسلم ـ وقد أكمل له ولنا دينه ، وأتم عليه وعلينا نعمته ، كما قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وما من شئ في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان ، ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة ، وذلك العمل والدار الآخرة ، فهي دار الله الكاملة . قال أنس :" ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا " .
…واضطربت الحال ، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر ، فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم ( قاصمة الظهر ) ومصيبة العمر :
…فأما عليٌ فاستخفى في بيته مع فاطمة (1)
__________
(1) 1 لأن فاطمة وجدت على أبي بكر لما أصر على العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث ما تركناه صدقة " وسيأتي تفصيل ذلك في ص 48ـ 50 ، فعاشت فاطمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر متعزلة في بيتها ومعها علي كرم الله وجهه قال الحافظ ابن كثير في البداية ( 6/333) : " فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها فرضيت . == == رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ثم قال : وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح . وقال البخاري "ك64ب38ج5ص8283) من حديث عروة عن عائشة : " فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها ، وكان لعلي من الناس وجه في حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر على وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته . . . الخ " وبيعة علي هذه هي الثانية بعد بيعته الأولى في سقيفة بني ساعدة . وأضاف الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/249) أن علياً لم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلف الصديق ، وخرج مع إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة .
…ويحتمل أن يكون مراد المؤلف باستخفاء علي ما كان منه ومن الزبير قبيل الاجتماع في سقيفة بني ساعدة ، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك في خطبته الكبرى التي خطبها في المدنية في عقب ذي الحجة بعد آخر حجة حجها عمر ، وهذه الخطبة في مسند الإمام أحمد (1:55الطبعة الأولى ـ ج1رقم 391الطبعة الثانية ) من حديث ابن عباس .(69/2)
وأما عثمان فسكت .
…وأما عمر فأهجر وقال :" ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما واعده الله كما واعد موسى (1) ، وليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي الناس وأرجلهم (2)
__________
(1) 1 ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة :51{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } ، وقوله سبحانه في سورة الأعراف :142{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتمنناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة }
(2) 2 ـ في مسند أحمد (3/196الطبعة الأولى) حديث أنس بن مالك عن يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه :" ثم أرخى الستر ، فقبض في يومه ذلك ، فقام عمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ، ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى فمكث عن قومه أربعين ليلة . وإني لأرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون ( أو قال : يقولون ) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ". وفي كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك62 ب5) عن عائشة " …. فقام عمر يقول : " والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ". ونقل أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : قام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال " مات " بالقتل والقطع ، ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشية لو قد قام قتل وقطع . وفي (5:241) من البداية والنهاية من حديث عائشة وهي تذكر الساعة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا ، فأذنت لهما . . . ثم قاما ، فلما دنوا من الباب قال المغيرة : يا عمر ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : كذبت ، بل أنت رجل تحوسك ( أي تخالطك ) فتنة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين ، ثم جاء أبو بكر . . وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى الله المنافقين .
…ومعنى أهجر : خلط في كلامه ، وهذى ، وأكثر من الكلام فيما لا ينبغي ، وذلك من هول ما وقع في نفس عمر من هذا الحديث العظيم ، فهو لا يكاد يصدقه .(69/3)
.
…وتعلق بال العباس وعليٌ بأمر أنفسهما في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال العباس لعلي : " إني أرى الموت في وجوب بني عبدالمطلب ، فتعال حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا الأمر فينا علمناه(1).
…وتعلق بال العباس وعليٌ بميراثهما فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من فدك وبني النضير وخيبر(2).
__________
(1) 3ـ فأجابه علي رضي الله عنه ( إنا والله لئن سألنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطينها الناس بعده ، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك64ب83ج5ص140ـ141) .
ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5:227و251) من حديث الزهري عن عبدالله بن كعب بن مالك عن ابن عباس . ورواه الإمام أحمد في مسنده ( 1:263و325الطبعة الأولى وج4رقم 2374وج5رقم 2999الطبعة الثانية ) .
(2) 1 ـ سيأتي تفصيله في ص 48 عند الكلام على حديث " لا نورث ما تركناه صدقة ".(69/4)
…واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم ، أو الشركة فيه مع المهاجرين(1).
__________
(1) 2 ـ فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وبين ظهرانيهم سعد بن عبادة ، وهم يرون أن الأمر لهم ، لأن البلد بلدهم وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام ، أما قريش فإن دافة منهم دفت ، فلا ينبغي أن تختزل الأمر من دون الأنصار ، وقال خطيب منهم ـ وهو الحباب بن المنذر ـ " أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب . منا أمير ومنكم أمير ". ( وجذيلها المحكك : هو أصل شجرتها الذي تتحكك به الإبل ، وعذيقها المرجب : نخلتها التي دعمت ببناء أو خشب لكثرة حملها ( ومع ذلك فقد كان رجل من الأنصار ـ وهو بشير بن سعد الخزرجي والد النعمان بن بشير ـ يسابق عمر إلى مبايعة أبي بكر ، وقبيل ذلك كان في السقيفة الرجلان الصالحان عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ولم تعجبهما هذه النزعة من الأنصار فخرجا وهما يريان أن يقضي المهاجرون أمرهم غير ملتفتين إلى أحد ، لكن حكمة أبي بكر ونور الإيمان الذي ملأ قلبه كان أبعد مدى وأحكم تدبيراً لهذه الملة في أعظم نوازلها .(69/5)
…وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف (1).
………… عاصمة
…فتدارك الله الإسلام والأنام ـ وانجابت [ الغمة ] انجياب الغمام ، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله (2) وإقامة دينه على التمام ، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام ـ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه(3).
__________
(1) 3 ـ كان هذا الجيش سبعمائة ، والأمير عليهم أسامة بن زيد ، وكان قد ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسير إلى تخوم البلقاء ( شرق الأردن ) حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة ، ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أشار كثير من الصحابة ـ ومنهم عمر ـ أن لا ينفذ الصديق هذا الجيش لما وقع من الاضطراب في الناس ولا سيما في القبائل . نقل ابن كثير في البداية والنهاية (6:304ـ 305) حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر وعمرة بنت سعيد الأنصارية عن عائشة قالت : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق ، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها ، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حش بأرض مسبعة ، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها .
(2) 2 ـ استأثر الله بفلان : إذا مات .
(3) 3 ـ أي فتدراك الله الإسلام والأنام بأبي بكر .(69/6)
…وكان ـ إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ غائباً في ماله بالسنح(1) ، فجاء إلى منزل ابنته عائشة رضي الله عنها ـ وفيه مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ فكشف عن وجهه ، وأكب عليه يقبله وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، طبت حياً وميتاً ـ والله لا يجمع الله عليك الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها ، ثم خرج إلى المسجد ـ والناس فيه ، وعمر يأتي بهجر من القول كما قدمنا ـ فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أما بعد أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ـ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم قرأ { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل إفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } " آل عمران :144" فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها
__________
(1) 4 ـ في البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5:244) كان الصديق قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح ، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم من غمرة ما كان فيه من الوجع ، وكشف سترة الحجرة ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر ، فأعجبه ذلك وتبسم صلى الله عليه وسلم حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به ، وحتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف ، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا كما هم ، وأرخى الستارة ، وكان آخر العهد به صلى الله عليه وسلم إلا قد أقلع عنه الوجع ، وهذا يوم بنت خارجة ـ يعني إحدى زوجتيه وكان ساكنة بالسنح شرقي المدينة ـ فركب الفرس وذهب إلى = = منزله ، وتوفي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الصحى . . . فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق فأعلمه بموت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الصديق حين بلغه الخبر ، وكان منه ما سيذكره المؤلف والسنح منازل بني الحارث بن الخزرج في عوالي المدينة ، بينها وبين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل واحد .(69/7)
لم تنزل إلا ذلك اليوم (1).
__________
(1) 1 ـ رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه من حديث عائشة وفي سنن الدارقطني (3:406) والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5/242) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد أعلام المسلمين عن عائشة أم المؤمنين التي وقعت هذه الحوادث في بيتها وفي المسجد النبوي الذي يطل بيتها عليه ، وجميع دواوين السنة سجلت هذا الموقف العظيم للصديق الأكر بأصح الأحاديث ، وألفاظها قريب بعضها من بعض .(69/8)
…واجمعت الأنصار في سقيفة بين ساعدة يتشاورون ، ولا يدرون ما يفعلون ، [و بلغ ذلك المهاجرين ] فقالوا : نرسل إليهم يأتوننا ، فقال أبو بكر ، بل نمشي إليهم ، فسار إليهم المهاجرون ، منهم أبو بكر وعمر أبو عبيدة ، فتراجعوا الكلام ، فقال بعض الإنصار : منا أمير ومنكم أمير (1). فقال أبو بكر كلاماً كثيرا مصيباً ، يكثر ويصيب ، منه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الأئمة من قريش " (2) وقال :" أوصيكم بالأنصار خيراً : أن تقبلوا من محسنهم ، وتتجاوزوا عن مسيئهم(3)
__________
(1) 2 ـ الذي قال ذلك من خطباء الأنصار الحباب بن المنذر .
(2) 3 ـ الحديث في مسند الطيالسي رقم 926 عن أبي برزة ، وبرقم 2133منه عن أنس وفي كتاب الإحكام من صحيح البخاري عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وعن عبدالله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وفي مسند الإمام أحمد (3/129 الطبعة الأولى ) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام باب البيت ونحن فيه فقال " الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً . . . الخ " ورواه الإمام أحمد أيضاً من المسند [3/183) عن أنس قال : كنا في بيت رجل من الأنصار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادة الباب فقال : " الإئمة من قريش ، ولهم عليكم حق ، ولكم مثل ذلك . . . الخ " ورواه الإمام أحمد كذلك (4:421) عن أبي برزة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإئمة من قريش : إذا استرحموا رحموا ، وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا حكموا عدلوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
(3) 4 ـ في كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري من حديث هشام بن زيد بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار يبكون ( والظاهر أن ذلك كان في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه ) فقال : ما يبكيكم ؟ قالوا ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد . قال فصعد المنبر ـ ولم يصعده بعد ذلك اليوم ـ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :" أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشى وعيبتي ، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". وبعده في صحيح البخاري حديث لعكرمة عن ابن عباس ، وحديث قتادة عن أنس بمعنى ذلك ، وقريب من ذلك في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، وفي سنن الترمذي عن ابن عباس .(69/9)
". إن الله سمانا ( الصادقين وسماكم ( المفلحين (1) وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة :119) إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية ، فتذكر الأنصار ذلك وانقادت إليه ، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه (2).
__________
(1) 1 ـ في سورة الحشر للفقراء الذين إخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله ، أولئك هم ( الصادقون ) والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم ( المفلحون ) .
(2) 2 ـ نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/247) من حديث الإمام أحمد عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ( ابن أخت أمير المؤمنين عثمان ) خطبة أبي بكر في سقيفة بن ساعدة ، ومنها قوله : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لو سلك الأنصار وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار " ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد " قريش ولاة هذا الأمر : فبرُّ الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم " ، فقال له سعد : " صدقت " نحن الوزراء وأنتم الأمراء ".(69/10)
…وقال أبوبكر لأسامة : انفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك !؟ فقال : لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة ، ما رددت جيش أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) 3 ـ نقل الحافظ ابن كثير في البداية (6/305) عن الحافظ أبي بكر البيهقي حديث محمد بن يوسف الفريابي الحافظ (قال البخاري : كان أفضل أهل زمانه ـ أي الفريابي ) عن عباد بن كثير الرملي أحد شيوخه ( قال ابن المديني ـ كان ثقة لا بأس به أي شيخ الفريابي ) عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج [ أحد التابعين ، توفي بالأسكندرية ) عن أبي هريرة قال :" والله الذي لا إله إلا هو ، لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله ، " ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، فقيل له : مه يا أبا هريرة . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام ، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب حول المدينة ، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا بكر رد هؤلاء ، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة !؟ فقال " والذي لا إله غيره ، لو جرّت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا : أن لهؤلاء قوة ما خرجوا مثل هؤلاء من عندهم ، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم ، فلقوا الروم ، فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين ، فتثبتوا على الإسلام .(69/11)
…وقال له عمر وغيره : إذا منعك العرب الزكاة فاصبر عليهم . فقال : " والله لو منعوني عقالا بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة "(1)
__________
(1) 4 ـ لما مضى جيش أسامة في طريقه إلى شرق الأردن جعلت وفود القبائل تقدم المدينة ، يقرون بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة . قال ابن كثير (6/311) ومنهم من احتج بقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } قالوا : فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا ، وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى روى الجماعة في كتبهم ـ سوى ابن ماجة ـ عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوأ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها " فقال أبو بكر :" والله لو منعوني عناقاً ( وفي رواية عقالا ) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها " إن الزكاة حق المال ، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق . وهذا الحديث في مسند أحمد (1و11 و19و35ـ36) من حديث عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة عن أبي هريرة . وفي البداية والنهاية (6/312) قال القاسم بن محمد (ابن أبي بكر الصديق وهو أحد الفقهاء السبعة ) اجتمعت أسد وغطفان وطئ على طليحة الأسدي ، وبعثوا وفوداً إلى المدينة فنزلوا على وجوه الناس ، فأنلوهم إلا العباس ، فحملوهم إلى أبي بكر الصديق على أن يقيموا ولا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال " لو معنوني عقالا لجاهدتهم " .(69/12)
…قيل ومع من نتقاتلهم ؟ قال : " وحدي ، حتى تنفرد سالِفَتي (1) "
…وقدَّم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد مختاراً لهم ، مرتئياً فيهم ، فكان ذلك من أسد عمله ، وأفضل ما قدمه للإسلام (2).
__________
(1) 1 ـ السالفة ، صفحة العنق ، وهما سالفتان من جانبيه ، ولا تنفرد إحداهما عما يليها إلا بالموت .
(2) 2 ـ وفي طليعة هؤلاء القواد : أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري ، وعمرو بن العاص السهمي ، وخالد بن الوليد المخزومي ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي ، ويزيد بن أبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، والمهاجر بن أبي أمية شقيق أم المؤمنين أم سلمة ، وشرحبيل بن حسنة ، ومعاوية بن أبي سفيان وعرفجة بن هرثمة البارقي ، والعلاء بن الحضرمي حليف بني أمية ، والمثنى بن حارثة الشيباني ، وحذيفة بن محصن الغطفاني ، وفي طليعة ولاته : عتاب بن أسد الأموي ، وعثمان بن العاص الثقفي ، وزياد بن لبيد الأنصاري وأبو موسى الأشعري ، ومعاذ بن جبل ، ويعلى بن منبه ، وجرير بن عبدالله البجلي ، وعياض بن غنم ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وعبدالله بن ثور أحد بني غوث ، وسويد بن مقرن المزني .(69/13)
وقال لفاطمة وعلي والعباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ما تركناه صدقة ". فذكر الصحابة ذلك (1)
__________
(1) 3 ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ، ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال ـ يعني مال الله ـ ليس لهم أن يزيدوا على المأكل " وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتشهد عليٌ ثم قال : إنا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك ( وذكر قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم ) فتكلم أبو بكر فقال : والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي . وأوسع منه في كتاب المغازي بباب غزوة خيبر من صحيح البخاري .
…وفي كتاب الوصايا من صحيح البخاري وكتاب فرض الخمس من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتسم ورثتي ديناراً " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة " قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/158) قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نورث ، ما تركناه صدقة " رواه عنه صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، والعباس بن عبد المطلب ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو هريرة والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد ، وقال قبل ذلك (2/167) : إن الله تعالى صان الأنبياء أن يورثوا دنيا ، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم ثم إن من وراثة النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه ومنهم عائشة بنت أبي بكر الصديق وقد حرمت نصيبها بهذا الحديث النبوي ، ولو جرى أبو بكر مع ميله للفطرة لأحب أن ترث ابنته .
…وفي كتاب فرض الخمس من صحيح البخاري حديث ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين أخبرت أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ، ما تركناه صدقة " . . . ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال :" لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به . فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ " .
…وفي الباب نفسه من صحيح البخاري من حديث الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن الحدثان النصري أنه قال : بينا أنا جالس في أهل حين متع النهاري ، إذا رسول عمر بن الخطاب ، فقال : أجب أمير المؤمنين ، فانطلقت معه . فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأذن لهم . . . ثم جلس يرفأ يسيراً ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال نعم . فأذن لهما ، فدخلا فسلما فجلسا فقال عباس := = يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ـ وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بين النضير ـ فقال الرهط ، عثمان وأصحابه : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الاخر ، قال عمر : تَيدكم . أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا نورث ، ما تركناه صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قال الرهط : قد قال ذلك ، فأقبل عمر على علي وعباس فقال : أنشدكما الله ، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك : ( وبعد أن ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهل سنتهم من هذا المال ثم يجعل ما بقي مال الله ، واستشهد على ذلك فشهدوا ، قال ) ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها ، فعمل بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم توفي الله أبا بكر ، فكنت أنا ولي أبي بكر ، فقبضها سنتين من إمارتي ، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عمل فيها أبو بكر والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق . ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد ، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجائني هذا ـ يريد علياً ـ يريد نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ماتركناه صدقة ". فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما عمل فيها أبو بكر ، وبما عملتُ فيها منذ وليتها . فقلتما : ادفعها إلينا . فبذلك دفعتها إليكما فأنشدكم بالله ، هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قال : نعم . قال : أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ! فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، لا أقضي فيها بقضاء غير ذلك ، فإن عجزتما عنها فادفعها إليّ فإني أكفيكماها .
…وأورد البخاري حديث مالك بن أوس هذا في كتاب المغازي من صحيحه من حديث شعيب عن الزهري عن مالك بن أوس وفي كتاب النفقات من صحيحه وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه . وانظر كتاب الفرائض من صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد (1: 13الطبعة الأولى )
…وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3:231) وقد تولى عليٌّ بعد ذلك ، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه ، ولم يعط لأولاد فاطمة ولا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئاً من ميراثه . . . الخ(69/14)
وقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يدفن نبي إلا حيث يموت (1)" وهو في ذلك كله رابط الجأش ، ثابت العلم والقدم في الدين ثم استخلف عمر ، فظهرت بركة الإسلام ، ونفذ الوعد الصادق في الخليفتين (2)
__________
(1) 1 ـ في كتاب الجنائز من موطأ مالك أن مالكاً بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين ودفن يوم الثلاثاء وصلى الناس أفذاذاً لا يؤمهم أحد : فقال ناس : يدفن عند المنبر . وقال آخرون : يدفن بالبقيع فجاء أبو بكر الصديق فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه ". قال الحافظ ابن عبدالبر : صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث شتى جمعها مالك . وفي كتاب الجنائز من جامع الترمذي حديث عائشة : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه ، فقال أبو بكر : إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته قال " ما قبض نبياً إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه " ادفنوه في موضع فراشه . وفي تاب الجنائز من سنن ابن ماجة عن ابن عباس لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له فقال قائلون : يدفن في مسجده وقال قائلون : " يدفن مع أصحابه ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض " ورواه ابن إسحاق ( في السيرة لابن هاشم 3:103) من حديث عكرمة عن ابن عباس : وانظر البداية والنهاية (5/266ـ268) .
(2) 2 ـ وهو وعد الله عز وجل في سورة النور : 55{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ولقد كان المجتمع الإسلامي ـ بتوجيه هذين الخليفتين ـ أسعد مجتمع إنساني عرفه التاريخ ، لأن الناس ـ من ولاة ورعية ـ كانوا يتعاملون بالإيثار ، وكان الواحد منهم من جهد يكتفيب بما يفي حاجته ويبذل من ذات نفسه أقصى ما يستطيع أن يتسخرج منها من جهد لإقامة الحق في الإرض وتعميم الخير بين الناس ، ويلقى الرجل الخير منهم رجلا لا تزال تنزع به نزعات الشر ، فلا == =يزال به حتى يخدر عنصر الشر المتوثبة في نفسه ، ويوقظ ما كمن فيها من عناصر الخير إلى أن يكون من أهل الخير المنتسبين إلى الإسلام حتى يومنا هذا طوائف امتلآت قلوبهم بالضغن حتى على أبي بكر وعمر فضلا عمن استعان بهم أبو بكر وعمر من أ÷ل الفضل والإحسان ، فصنعوا لهم من الأخبار الكاذبة شخصيات أخرى غير شخصياتهم التي كانوا عليها في نفس الأمر ليقنعوا أنفسهم بأنهم إنما أبغضوا أناسا يستحقون منهم هذه البغضاء ولهذا امتلأ التاريخ الإسلامي بالأكاذيب ، ولن تتجدد للمسلمين نهضة إلا إذا عرفوا سلفهم على حقيقته واتخذوا منه قدوة لهم ولن يعرفوا سلفهم على حقيقته إلا بتطهير التاريخ الإسلامي مما لصق به .(69/15)
ثم جعلها عمر شورى ، . . .
فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم(1) قدم عثمان ، فكان عند الظن به : ما خالف له عهداً ، ولا نكث عقداً ، ولا اقتحم مكروهاً ولا خالف سنة (2)
__________
(1) 1 ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث عمرو بن ميمون أحد تلاميذ معاذ وابن مسعود ومن شيوخ الشعبي وسيعد ابن جبير وطبقتهما ، وقد اشتمل هذا الحديث على خبر مقتل أمير المؤمنين عمر ، وكيف جعل عمر الخلافة شورى بين الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، وكيف اخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه منها ، ثم انتهى إلى تقديم عثمان وهذا الحديث من أصح ما ثبت في هذا الموضوع وأجوده . واقراء بعد ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن موقف عمر في جعله الأمر شورى ( منهاج السنة 3:168ـ172) وفيه إرشاد دقيق إلى ما كان عليه بنو هاشم وبنو أمية من الاتفاق والمحبة والتعاون في أيام النبي صلى الله عليه وسلم و[بي بكر وعمر ، وأن عثمان وعلياً كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما ونقل ابن تيمية (3/223ـ234) قول الإمام أحمد : لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان : ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهم مؤتلفون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعاً وقد أظهرهم الله وأظهر الناس بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ، ونصرهم على الكفار ففتح بهم بلاد للشام والعراق وبعض خراسان . . الخ .
(2) 2 ـ وكيف لا يكون عثمان عند الظن به وقد شهد له بطهارة السيرة وحسن الخاتمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قال الحافظ ابن حجر في ترجمة عثمان من ( الإصابة ) جاء من أوجه " متواترة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر عثمان بالجنة ، وعده من أهل الجنة وشهد له بالشهادة والحديث الذي يتواتر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه ولا يجنح إلى غير مدلوله إلا الذي يرضى لنفسه بأن يقتحم أبوب جهنم ، وروى الترمذي من طريق الحارث بن عبدالرحمن عن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رفيق ، ورفيقي بالجنة عثمان " وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمة عثمان من كتاب ( الإستيعاب ) ثتب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سألت ربي عزوجل أن لا يدخل النار أحدا صاهر إلى أو صاهرت إليه ". وشهادة أخرى من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإنسان الفاضل بتمنى ملها أبو بكر وعمر وعلي فقد روى الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عثمان : ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة ؟". وفي صحيح البخاري عن نافع عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال : كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم ، وقيل للمهلب بن أبي صفرة : لم قيل عثمان ذا النورين ؟ قال : لأنه لم يعلم أنه أحداً ارسل ستراً على ابنتي نبي غيره ، وروى خيثمة في فضائل الصحابة عن النزال بن سبرة العامري ( أحد الذين أخذوا عن أبي بكر وعثمان وعلي وهو من شيوخ الشعبي والضحاك وطبقتهما ) قال : قلنا لعلي حدثنا عن عثمان " فقال " ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين " وقال ابن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة " بايعنا خيرنا ، ولم نأل " ووصفه علي بن أبي طالب بعد انقضاء أجله فقال " كان عثمان أوصلنا للرحم ، وكان من الذين آمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين " وروى سالم عن عبدالله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال " لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه " وعبد الله بن عمر كان شاهد عيان لخلافة عثمان من أولها إلى آخرها ، وكان أشد الناس في التزام السنة المحمدية ، ومع ذلك فإنه يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون من عمر ـ وهو أبوه ـ ولك كان ذلك من عمر لما عتب عليه أحد به ، وقال مبارك بن فضالة مولى زيد بن الخطاب ، سمعت عثمان يخطب وهو يقول " يا أيها الناس ما تنقمون علي ، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيراً " وقال الحسن البصري : شهدت منادي عثمان ينادي : يا أيها الناس= =اغدوا على أعطياتكم ، فيغدون ويأخذونها وافية . يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم فيغدون ويأخذونها وافية حتى ـ والله ـ سمعته أذناي يقول : اغدوا على كسوتكم فيأخذون الحلل ، واغدوا على السمن والعسل ، قال الحسن : أرزاق دارًّة ، وخير كثير وذات بين حسن ، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمناً ، إلا يوده وينصره ويألفه فلو صبر الأنصار على الأثرة لو سعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق ، ولكنهم لم يصبروا وسلوا السيف مع من سل ، فصار عن الكفار مغمداً ، وعلى المسلمين مسلولاً ـ روى ذلك عنه الحافظ ابن عبدالبر ) وقال ابن سيرين ـ صنو الحسن البصري وزميله وهو أيضا كان معاصراً لعثمان ـ :" كثر المال في زمن عثمان حتى بيعت الجارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم ، ونخلة بألف درهم " وسئل عبدالله بن عمر بن الخطاب عن علي وعثمان فقال للسائل :" قبحك الله ! تسألني عن رجلين ـ كلاهما خير مني ـ تريد أغض من أحدهما وأرفع من الآخر !؟"(69/16)
.
…وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن عمر شهيد ، وبأن عثمان شهيد ، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه (1).
__________
(1) ـ في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري حديث أبي موسى الأشعري قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً (أي بستاناً ) وأمرني بحفظ باب الحائط ، فجاء رجل يستأذن ، فقال صلى الله عليه وسلم :" إئذن له وبشره بالجنة " فإذا أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فقال :" ائذن له وبشره بالجنة " فإذا عمر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فسكت هنيهة ثم قال : " ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه " فإذا عثمان بن عفان .
…ومثله في كتاب فضل الصحابة من صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أيضاً ، وروى ابن ماجة في الباب 11 رقم 111 من مقدمة السنن عن محمد بن سيرين (من أئمة التابعين ) عن كعب بن عجرة البلوي حليف الأنصار وأحد الذين شهدوا عمرة الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت فيه آية الفدية 195من سورة البقرة ، قال كعب بن عجرة : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقّر بها ، فمر رجل مقنع رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا يومئذ على الهدى " فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ، ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذا ؟ قال : هذا . ومن مسند الإمام أحمد (1/85) عن أبي سهلة مولى عثمان ـ وهو تابعي ثقة ـ أن عثمان قال يوم الدار حين حضر : " أن رسول الله صلى الله علهي وسلم عهد إلى عهداً ، فأنا صابر عليه " والحديث عند الترمذي (4/324) من طريق وكيع ، وقال : حديث حسن صحيح ، وعند ابن ماجة (1/41و42رقم 112و113) حديثان أحدهما لأبي سهلة مولى عثمان والاخر لعائشة ، وأوردهما الحاكم في المستدرك على الصحيحن (1/99) عن عائشة .(69/17)
وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، دخل به في باب " أول من . . . (1) وهو علم كبير جمعه الناس .
ولما صحت إمامته قتل مظلوماً(2) ، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
ما نصب حرباً (3) ، ولا جيش عسكراً(4) ولا سعى إلى فتنة (5) ، ولا دعا إلى بيعة (6)
__________
(1) ـ للجلال السيوطي وغيره من العلماء قبله وبعده كتب ألفوها في تسمية الأشخاص الذين سبقوا غيرهم إلى شئ من الأعمال المحمودة وغيرها ، فيقولون (مثلاً) كان عثمان أول من هاجر في سبيل الله الهجرة الأولى إلى الحبشة .
(2) 3 ـ روى الإمام أحمد في مسنده (2/115) عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما " قال ( عبدالله بن عمر : فنظرت ، فإذا هو عثمان بن عفان . قال الشيخ أحمد شاكر والحديث رواه الترمذي (4/323) ونقل شارحه عن الحافظ ابن حجر أنه قال : إسناده صحيح . وروى الحاكم في المستدرك (3/102) نحوه من حديث مرة ابن كعب وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
(3) 4 ـ أي لقتال أهل القبلة . أما حروبه لإعلاء كلمة الله ونشر دعوة الحق فكانت من أنشط ما عرفه التاريخ الإسلامي .
(4) 5 ـ أي للدفاع عن نفسه ، وكبح جماح البغاة عليه .
(5) 6 ـ بل كان أشد خلق الله كرهاً لها وحرصاً على تضييق دائرتها ، حقناً لدماء المسلمين ، ولو أدى ذلك به إلى أن يكون هو ضحية لغيره .
(6) 7 ـ وإنما أتته منقادة على غير تشوف منها إليها قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3/164) :" إن الصحابة اجتمعوا على=
= عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره ـ ثم قال في الصفحة التالية ـ : ولا ريب أن
للستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ أي الذين عينهم عمر ـ لا يوجد أفضل منهم ، وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم ، ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة .
1ـ أضراب أمير المؤمنين عثمان وأشكاله هو أخواله الذين أشركهم أمير المؤمنين عمر في الشورى ، أما الذين استطاع عبدالله بن سبأ وتلاميذه أن يوقعوهم في حبائل الفتنة فبينهم وبين مستوى أهل الشورى أبعد مما بين الحضيض والقمة ، بل أبعد مما بين الشر والخير ، وإن الشر الذي أقحموه على تاريخ الإسلام بحماقاتهم وقصر أنظارهم لو لم يكن من نتائجه إلا وقوف حركة الجهاد الإسلامي فيما وراء حدود الإسلام سنين طويلة لكفى به إثماً وجناية قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2/186) : إن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن ، وكان علي رضي الله عنه يقول " اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل "
2ـ الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب ، فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين ، فأكبروا الهنات ، وارتكبوا في إنكارها الموبقات . وفيهم الذين ينزعون إلى عصيبة يمنية على شيوخ الصحابة من قريش ، ولم تكن لهم في الإسلام سابقة ، فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم وفتوحهم ، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد وفيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم ، فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة والغل لأجلها وفيهم الحمقى الذين استغل السبئيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة والفساد والعقائد الضالة ، وفيهم من أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه ، فكر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة والتقدم بسبب نشأته في أحضانه ، وفيهم من أصابهم من عثمان شئ من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام ، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان ، ولو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين ، وفيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة فتاروا متعجلين بالأمر قبل إبانة ، وبالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان وامتلأ بها قبله أطمعت الكثير فيه ، وأردوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم ، ولعلي إذا اتسع لي الوقت أتفرغ لدراسة نفسيات هؤلاء الخوراج على عثمان ، وتنظيم المعلومات الصحيحة التي بقيت لنا عنهم ، ليكون ذلك من درس عبرة لطلاب التاريخ الإسلامي .(69/18)
ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله (1) ولا كان يرجوها لنفسه ، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير عثمان ، فكيف بعثمان رضي الله عنه ! .
وقد سموا من قام عليه ، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها (2) فوعظوا وزجروا (3) ، وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد (4) ، وتوعدهم حتى تابوا(5) ، فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا (6) وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد ، فأرسلهم : فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة ، وألبوا الجماعة ، وجاءوا إليه(7) بجملتهم ، فاطلع عليهم من حائط داره
__________
(1) 3ـ وقد وعظهم وزجرهم أهل العافية والحكمة والرضا من أعيان أمصارهم وعلمائهم في الكوفة والبصرة والفسطاط ، ثم وعظهم وزجرهم معاوية في مجالس له معهم عندما سيرهم عثمان إلى الشام كما سيجئ عند كلام المؤلف على سطوهم على المدينة ـ بحجة الحج ـ فحولوا حجهم الكاذب إلى البغي على خليفتهم وسفك دمه الحرام في الشهر الحرام بجوار قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام
(2) 4ـ وكان عبدالرحمن بن خالد بن الوليد والياً لمعاوية على حمص وما يليها من شمال الشام إلى أطراف جزيرة ابن عمر ، وسيأتي الحديث عن أحوالهم عندما قبض عليهم هذا الشبل المخزومي بمثل مخالب أبيه .
(3) 5ـ بل تظاهروا بأنهم تابوا ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )
(4) 6ـ أي إلى أمير المؤمنين عثمان .
(5) 7ـ خيرهم عبدالرحمن بن خالد في أن يذهبوا إلى عثمان ، فذهب كبيرهم الأشتر النخعي ، وله قصة نذكرها في موضعها من هذا الكتاب .(69/19)
وذكرهم ، وورعهم عن دمه (1) ، وخرج طلحة يبكي ويورع الناس ، وأرسل عليّ ولديه (2) ، وقال الناس لهم (3) : إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله (4) " ، فلما جئنا قعد هذا في بيته ـ يعنون علياً ـ وخرجت أنت (5) ، تفيض عينيك ، والله لا برحنا حتى نريق دمه (6)
وهذا قهر عظيم ، وافتئات على الصحابة ، وكذب في وجوههم وبهت لهم ، ولو أراد عثمان لكان مستنصراً بالصحابة ، ولنصروه في لحظة (7)، وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين (8) ، فوعظوهم ، فاستشاطوا فأراد الصحابة ألهم (9)، فأوعزهم إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبداً ، فاستسلم ، وأسلموه برضاه .
__________
(1) 1 ـ ورعهم عن الشئ ، كفهم ومنعهم بالحجة والحق المنير .
(2) 2 ـ ليكونا في حرس أمير المؤمنين عثمان ، ويدافعها عنه .
(3) 3 ـ أي قال البغاة يخاطبون علياً وطلحة والزبير .
(4) 4 ـ زعم البغاة أنهم تلقوا من علي وطلحة والزبير ، يدعونهم بها للثورة على عثمان بدعوى أنه غير سنة الله . وسيأتي إنكار علي وطلحة والزبير أنهم كتبوا بذلك ، والظاهر أن الفريقين صادقان ، وأن منظمي الفتنة من السبأيين زوروا الرسائل التي ذكرها البغاة الثائرون .
(5) 5 ـ الخطاب لطلحة بن عبيد الله
(6) 6 ـ ولقد راودوه في ذلك مراراً ، وعرض عليه معاوية أن ينقل دار الخلافة إلى الشام ، أو يمده بجند من الشام لا يعرف له التاريخ إلا التقدم والظفر .
(8) 7 ـأي أن البغاة ظهروا بمظهر المتظلم وهو يدعي أمرواً يشكوها ، فكان عثمان يرى لهم حقاً أن يبين لهم وللناس حجته فيما ادعوا ، ووجهة نظره في الأمور التي زعموا أنهم جاءوا يتظلمون منها
(9) 8 ـ ألّه : طعنه بالألة ، وهي الحربة العريضة النصل .(69/20)
…وهي مسألة من الفقه كبيرة : هل يجوز للرجل أن يستسلم ، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه ؟وإذا استسلم وحرَّم على أحد أن يدافع عنه بالقتل ، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولايلتفت إلى رضاه ؟ اختلف العلماء فيها .فلم يأت عثمان منكراً لا في أول الأمر ، ولا في آخره ، ولا جاء الصحابة بمنكر ، وكل ما سمعت من خبر باطل إياكَ أن تلفت إليه (1).
………… قاصمة
…قالوا متعدين ، متعلقين برواية كذابين : جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير ، منها :
……1ـ ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه
……2ـ ولا بن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه .
……3ـ وابتدع في جمع القرآن وتأليفه ، وفي حرق المصاحف .
……4ـ وحمى الحمى .
……5ـ وأجلى أبا ذر إلى الربذة .
……6ـ وأخرج من الشام أبا الدرداء .
__________
(1) 9ـومعيار الأخبار في تاريخ كل أمة الوثوق من مصادرها ،والنظر في ملاءمتها لسجايا الأشخاص المنسوبة ==
=إليهم وأخبار التاريخ الإسلامي نقلت عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم وهؤلاء لمن بعدهم وقد اندس في هؤلاء الرواة أناس من أصحاب الأغراض زوروا أخباراً على لسان آخرين وروجوها في الكتب ، إما تقرباً لبعض أهل الدنيا ، أو تعصباً لنزعة يحسونها من الدين ، ومن مزايا التاريخ الإسلامي ـ تبعاً لما جرى للصادقين منهم عن الكذبة ، حتى صار ذلك علما محترماً له قواعد ، وألفت فيه الكتب ، ونظمت للرواة معاجم حافلة بالتراجم ، فيها للتنبيه على مبلغ كل راو بالصدق والتثبت والأمانة في النقل ، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية قد يجنح معها الهوى ذكروا ذلك في ترجمته ليكون دارس أخبارهم ملما بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك ـ ولا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم ـ يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي .(69/21)
……7ـ ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
……8ـ وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر .
……9ـ 12ـ وولى معاوية ، [ وعبدالله بن عامر بن كريز(1)] ومروان ، وولى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية .
……13ـ وأعطى ، مروان خمس أفريقية .
……14ـ وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا(2)
……15ـ وعلا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انحط عنها
أبو بكر وعمر .
……16ـ ولم يحضر بدراً ، وانهزم يوم أحد ، وغاب عن بيعة الرضوان .
……17ـ ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ( الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة،
وحرضه على عمر حتى قتله ).
……18ـ وكتب مع عبده على جمله كتاباً إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه .
……… عاصمة
…هذا كله باطل سنداً ومتناً ، أما قولهم " جاء عثمان بمظالم ومناكير" فباطل (3).
__________
(1) 1 ـسقط اسم ابن كريز من الأصل سهواً من الناسخ أو من الطابع في مطبوعة الجزائر ، مع أنه ذكر في الدفاع الآتي بعد ، ومطبوعة الجزائر طبعت على أصل سقيم بخط ناسخ غير متمكن ، وقد وقع تقديم وتأخير في ترتيب التهم وأجوبتها ، ويلوح لنا أن مجلد الأصل المخطوط الذي طبعت عليه مطبوعة الجزائر وضع بعض الورق في غير مواضعه من التجليد ، فأعدنا ترتيب التهم وأجوبتها على نسق ، ولم نزد عن الأصل كلمة ولم ننقص منه كلمة ، وبذلك تلافينا الاضطراب الذي كان بادياً للقارئ في الطبوعة الجزائرية
(2) 2 ـ الدرة عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها .
(3) 1 ـ كما ترى من الأدلة التي سيوردها المؤلف في نقض هذه التهم واحدة بعد واحدة حتى يأتي على آخرها .(69/22)
…1ـ 2 ـ وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور(1) ، وضربه لعمار إفك مثله ، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً(2)
__________
(1) 2 ـ تقدم في هامش سابق قول عبد الله بن مسعود لما بويع عثمان :" بايعوا خيرنا ولم نأل " ويروى " ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل " وعند ولاية عثمان كان ابن مسعود والياً لعمر على أموال الكوفة ، وسعد بن أبي وقاص والياً على صلاتها وحربها ، فاختلف سعد وابن مسعود .
وإلى هنا لا يوجد بين ابن مسعود وخليفته إلا الصفو ، فلما عزم عثمان على تعميم مصحف واحد في العالم الإسلامي يُجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها كتاب الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ، كان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف نيطت به ، وكان يود أيضاً لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى ، فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في الحالتين : أما في اختيار عثمان زيد بن ثابت لكتابة المصحف الموحد فلأن أبا بكر وعمر اختاراه قبل ذلك لهذا العمل في خلافة أبي بكر ، بل إن أبا بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت في البداية لأنه هو الذي حفظ العرضة الأخيرة لكتاب الله على الرسول صلوات الله عليه قبيل وفاته ، فكان عثمان على حق في هذا ، وهو يعلم ـ كما يعلم سائر الصحابة ـ مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه ، ثم إن عثمان كان على حق أيضاً في غسل المصاحف الأخرى ومنها مصحف ابن مسعود ، لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان في استطاعة البشر هو من أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة ، وكان جمهور الصحابة في كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود ( انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/191ـ192) وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم يمنعه من عطاءه وبقي يعرف له قدره كما بقي ابن مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة .
(2) 2 ـ روى الطبري (5/99) عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس ابن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب ، قلت وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده ، وكم فعل عمر مثل ذلك بأمثال عمار ومنه هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين ، ولما نظم السبئيون حركة الاشاعات ، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر إلى الإمصار حتى يرجعوا إليه بالأخبار الكاذبة فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الإمصار لكيون موضع ثقته في كشف حالها ، فأبطأ عمار في مصر ، والتف به السبئيون ليستميلوه إليهم ، فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر ، وجئ بعمار إلى المدينة مكرماً ، وعاتبه لما قدم عليه فقال له ـ على مارواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/429) ـ :" يا أبا اليقظان قذفت ابن أبي لهب أن قذفك . . . وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة ، اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي : اخرج عني يا عمار " فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك ، وإذا لقي من يأمنه بذلك أظهر الندم ، فلامه الناس وهجروه وكرهوه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3/193) : وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه ، هو أفضل من ابن مسعود ، وعمار ، وأبي ذر ، ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس ، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان ، وقول الحسن فيه ( أي في عمار ) نقل أن عمار قال : لقد كفر عثمان كفرة صلعاء ، فأنكر الحسن بن علي ذلك عليه ، وكذلك علي وقال له : يا عمار ، أتكفر برب آمن به عثمان ؟ قال ابن تيمية : وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي الله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته ، كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم : إنك منافق تجادل عن المنافقين ، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه وسلم :" إن قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فعمر أفضل من عمار ، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة = =وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ، ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة ، فكيف لا يكون عثمان وعمال من أهل الجنة وإن قال أحدهما للأخر ما قال ؟ مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك . . . ثم قال شيخ الإسلام : وفي الجملة ، فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمار فهذا لا يقدح في أحد منهم ، فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة ، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين ، وأن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية ، فكيف بالتعزير ، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال :" هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع " فإن كان عثمان أدب هؤلاء ، فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ، ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه وكفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك ، وإما أن يقال كانوا مظلمون مطلقا ، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة ، فإنه أفضل منهم ، وأحق بالمغفرة .(69/23)
…وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها لأنها مبنية على باطل (1) ، ولا يبنى حق على باطل ، ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال ، فإن ذلك لا آخر له .
…
…3ـ وأما جمع القرآن ، فتلك حسنته العظمى ، وخصلته الكبرى ، وإن كان وجدها كاملة ، لكنه أظهرها ورد الناس إليها ، وحسم مادة الخلاف فيها . وكان نفوذ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها (2)
__________
(1) 1 ـ أي على ادعاء الكاذبين أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين ضرب عماراً حتى فتق أمعاءه ، وضرب ابن مسعود حتى كسر أضلاعه منعه عطاءه !
(2) 2 ـ أي في مؤلفات ابن العربي المتعلفة بعلوم القران.(69/24)
…روى الأئمة بأجمعهم (1) أن زيداً بن ثابت قال : أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة(2) فإذا عمر بن
__________
(1) 3 ـ وفي مقدمتهم الإمام أحمد في مسنده (1/13) والإمام البخاري في صحيحه كتاب التفسير وفضائل القران والأحكام والتوحيد .
(2) ـ وذلك لما ارتدت بنو حنيفة برئاسة مسيلمة الكذاب وبتحريض عدو الله الرجال ابن عنفوة بن نهشل الحفني ، وكانت قيادة المسلمين لسيف الله خالد بن الوليد ، واستشهد في هذه الملحمة زيد بن الخطاب أخو عمر ، وكان حفظة للقرآن من الصحابة يتواصون بينهم ويقولون : يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم ، وتحنط خطيب الأنصار وحامل لواثهم ثابت بن قيس ولبس كفنه وحفر لقدمه في الأرض إلى أنصاف ساقيه ولم يزل يقاتل وهو ثابت الراية في موضعه حتى استشهد . وقال المهاجرين لسالم مولى أبي حذيفة : أتخشى أن نؤتى من قبلك ؟ ؟ فأجاب : بئس حامل القرآن أنا إذن ، وقاتل حتى استشهد . وقال أبو حذيفة : زينوا القرآن بالفعال ، وما زال يقاتل حتى أصيب وممن استشهد يومئذ حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب ، وكان شعار الصحابة يومئذ : ومحمداه ! وصبروا يومئذ صبراً لم يعهد مثله حتى ألجأوا المرتدين إلى حديقة الموت فاعتصم فيها مسيلمة ورجاله ، فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح لكم بابها فاحتملوه فوق الجحف ورفعوه بالرماح وألقوه في الحديقة من فوق سورها ، فما زال يقاتل المرتدين دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون وكان النصر ، وممن اقتحم الحديقة أبو دجانة من مجاهدي بدر حتى وصل إلى مسيلمة وعلاه بالسيف فقتله ، وكسرت رجله رضي الله عنه في تلك الوقعة ثم نال الشهادة وفي البداية والنهاية ( 6/334ـ340) أسماء كثيرين من الشهداء في هذا اليوم العظيم في الإسلام ، ومنهم حفظة كتاب الله ، والشيعة يذمون موقف الصحابة من مسيلمة وقومه ويدافعون عن المرتدين انظر ( المنتقى من منهاج الاعتدال ص270ـ272)(69/25)
الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : " إن عمر أتانا فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تجمع القرآن قلت لعمر : كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر " . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فتتبع القرآن فاجمعه " . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمروني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله علهي وسلم ؟ قال عمر :" هذا والله خير " . فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال(1) ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } حتى خاتمة براءة .
__________
(1) 1 ـ العسب ( جمع عسيب ) أي جريدة النخل ، وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص . واللخاف ( جمع لخفة ) وهي حجارة بيض رقاق . كانوا يكتبون علهيا إذا تعذر الورق .(69/26)
…فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر ، حتى قدم حذيفة بن اليمان على عثمان (1) ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى : فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف (2) وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القران فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم " ففعلوا .
…حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق
…قال ابن شهاب(3) : " وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال :" فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فألحقناها في سورتها من المصحف "
__________
(1) 2 ـ وحديثه عن ذلك في صحيح البخاري عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك .
(2) 3 ـ هو أبو أمية الجعفي الكوفي ، قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفنه صلى الله عليه وسلم وشهد اليرموك ، يروي عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان ، ويروي عنه النخعي والشعبي وعبدة بن أبي لبابة : ثقة مات سنة 80 وقيل 81عن مائة وثلاثين سنة .
(3) 4 ـ فيما رواه عنه البخاري في صحيحه(69/27)
…وأما ماروى أنه حرقها أو خرقها ـ بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد ، أو كان فيها ما ليس من القرآن ، أو ما نسخ منه ، أو على غير نظمه ، فقد سلّم في ذلك الصحابة كلهم : إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال : " أما بعد ، فإن الله قال { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإني غال مصحفي ، فمن استطاع منكم أ، يغل مصحفه فليفعل " . وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه ، وأن يثبت ما يعلم فيه ، فلما لم يفعل ذلك قال له ما قال ، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه ، ومحا رسومه لم تثبت له قراءة أبداً ، ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض (1) .
__________
(1) 5 ـ عبد الله بن مسعود من كبار علماء الصحابة ومن أجودهم قراءة لكتاب الله ، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حسن تلاوة ابن مسعود للقرآن ، فتسارع أبو بكر وعمر ليوصلا إليه البشرى بهذا الثناء النبوي ( انظر مسند أحمد 1ـ25ـ26) إلا أن ابن مسعود كان يكتب ما يوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه ، فهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عما امتازت به= =مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم ، ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته بعض ما استقصاه زيد بن ثابت وزملاءه من الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة . زد على ذلك أن ابن مسعود كانت تغلب عليه لهجة قومة من هذيل ، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثل ابن مسعود أن يقرأوا بلهجاتهم ، ولكن ليس لابن مسعود أن يحمل الأمة في زمنه والأزمان بعده على لهجته الخاصة ، فكان من الخير توحيد الأمة على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .(69/28)
…4ـ وأما الحمى ، فكان قديماً(1)
__________
(1) 1 ـ كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضاً في حيه استوى كلباً ، فحمى لخيله وإبله وسوائمه مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره . فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، واختص الحمى إبل الزكاة المرصدة للجهاد والمصالح العامة ، فقال صلى الله عليه وسلم " لا حمى إلا لله ولرسوله " رواه البخاري من حديث الصعب ابن جثامة في كتاب المساقاة وكتاب الجهاد من صحيحه ورواه أحمد في مسنده (4/71و73) من حديث الصعب بن جثامة أيضاً ، وقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكاناً يسمى ( النقيع ) وهو " نقيع الخصمات " كما في مسند أحمد (2/19و155و157) من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم النقيع للخيل .
قال حماد بن خالد رواي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري : يا أبا عبد الرحمن خيله ؟ قال خيل المسلمين ( أي المرصودة للجهاد ، أو ما يملكه بيت المال ) والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخاً منها ومساحته في ثمانية أميال كما في موطأ مالك برواية ابن وهب ، ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن أبا بكر لم يخرج عن شئ كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا سيما وأن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل . وفي زمن عمر اتسع الحمى فشمل ( سرف ) و ( والربذة ) ، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً ، وفي كتاب الجهاد من صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية أمير المؤمنين عمر لعامله هذا على الحمى بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، وأن يستامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ما شيتهما ، وكما اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه ، اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع الدولة وازدياد التفوح . فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال ، ومضى على مثله أبو بكر وعمر ، يجوزمثله لبيت المال في زمن عثمان ، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي ، و لما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع ، وأنهم ما منعوا ولا نحواً منها أحداً . . . وذكر عن نفسه أن قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاة ، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه ، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة : أكذلك ؟ قالوا : اللهم نعم .(69/29)
، فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية وإذا جاز أصله للحاجة جازت الزيادة لزيادة الحاجة .
…5ـ وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل (1) ، كان أبو ذر زاهداً ، وكان يقرع عمال عثمان ، ويتلو عليهم { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } [ التوبة 34] ، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا ، فينكر ذلك عليهم ، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم ، وهو غير لازم . قال ابن عمر وغيره من الصحابة : إن ما أديت زكاته فليس بكنز(2) ، فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام (3)
__________
(1) 2 ـ وإنما اختار أبو ذر رضي الله عنه أن يعتزل في الربذة ، فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان (1549موارد الضمان ) ، وصح في ص 76 ، فأكرمه عثمان وجهزه بما فيه راحلته .
(2) 3 ـ انظر البيان الفقهي والتفصيل الشرعي لهذه المسألة في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/198و199) ومقالتنا في مجلة الأزهر (شوال 1374)
(3) 4 ـ نقل الطبري (5/66) وأكثر المصادر الإسلامية أنه لما ورد ابن السوداء ( عبد الله بن سبأ ) الشام لقي أبا ذر فقال : يا أباذر ألا تعجب إلى معاوية يقول " المال مال الله ، ألا إن كل شئ لله " كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ، ويمحو اسم المسلمين فأتاه أبو ذر= =فقال : ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين " مال الله " ؟ قال معاوية : يرحمك الله يا أبا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق والأمر امره ؟ قال أبو ذر فلا تقله قال معاوية : فإني لا أقول إنه ليس لله ، ولكن سأقول " مال المسلمين " : وأتى ابن السوداء ( عبد الله بن سبأ ) أبا الدراداء ، فقال له ( أبو الدرداء ) : من أنت أظنك والله يهودياً ، فأتى ( ابن سبأ ) عبادة بن الصامت ، فتعلق به ( ابن الصامت ) فأتى به معاوية فقال : هذا والله بعث عليك أبا ذر .(69/30)
، فخرج إلى المدينة ، فاجتمع إليه الناس ، فجعل يسلك تلك الطرق ، فقال له عثمان : " لو اعتزلت " . معناه أنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس ، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها (1) ، ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه ، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة ، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً ، وترك جلة فضلاء ، وكل على خير وبركة وفضل ، وحال أبي ذر أفضل ، ولا تمكن لجميع الخلق ، فلو كانوا عليها لهلكوا (2)
__________
(1) 1 ـ وقد أحسن الكلام على ذلك أبو سليمان الخطابي في كتاب ( العزلة ) .
(2) 2 ـ الذي تحصل عندي من تتبع نصوص الشريعة في أمر المال ، ومراقبتي لتطبيق هذه النصوص في سيرة السلف وعملهم بها ، أن المسلم له في نفسه وذويه من المال الذي يملكه ما يكفيه ويكفيهم بالمعروف كأمثاله وأمثالهم من أهل العفة والقناعة والدين ، وما زاد عن ذلك فعليه أولا أن يؤدي زكاته الشرعية مباشرة بحسب اجتهاده إن لم يكن أداها للحكومة الإسلامية العاملة بأحكام الشرع وبعد أداء زكاته يكون صاحب المال في امتحان من الله كيف يحسن التصرف فيه بما يرضي الله ويزيد المسلمين قوة وسعادة وعزاً ، فإن كان تاجراً فمن طريق التجارة أو مزارعاً فمن طريق الزراعة ، أو صاحب مصنع فمن طريق الصناعة ، والإسلام في دور قيامة استفاد من ثروة أغنياء الصحابة عوناً ويسراً وقوة . وتجارة التجار المسلم إذا أغنت المسلمين من متاجر أعدائهم تعتبر قوة لهم بقدر ما يصدق صاحبها في هذه النية ، وكلك مصنع الصانع المسلم ، وزراعة الزارع المسلم والنية في هذه الأمور أمرها عظيم ، وميزانها العمل عندما تمس الحاجة إليه . وبالجملة فإن للمسلم أن يكون غنياً بلا تحديد ، بشرط أن يكون ذلك من حله ، وأن يكتفي منه بما يكفيه بالمعروف ، محاولا دائماً أن يحرر نفسه من العبودية والانقياد للكماليات فضلاً عن توافه الحضارة وسفاسفها ، وبعد أن يؤدي زكاة ما يملك يعتبر ما زاد عن حاجته كالآمانة لله تحت يده ، فيتصرف فيهما يما يزيد المسلمين ثروة وقوة ويسراً وعزاً وسعادة ، أما طريقة أبي ذر في أن لا يبيت المسلم وعنده مال فليست الآن من مصلحة المسلمين ، وطريقة أغنياء المسلمين الآن ـ في أن يعيشوا لأنفسهم ومتعهم غير مبالين بعزة الإسلام وقوة دولته وحاجة أهله ـ فليست من الإسلام ، والإسلام لا يعرف الذين لا يعرفونه [ انظر مقالتنا ( المال في نظام الإسلام ] في أول جزء شوال 1374هـ من مجلة الأزهر .(69/31)
فسبحان مرتب المنازل .
…ومن العجب أن يؤخد عليه في أمر فعله عمر ، فقد روي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة بالمدينة حين استشهد ، فأطلقهم عثمان ، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) 3 ـ في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/139) خبر مرسل رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن أبيه ( إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ) قال : قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر " ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال : وأحسبه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات . وقد نبه ابن حزم على أن هذا الخبر مرسل ولا يجوز الاحتجاج به ، وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر بأن البيهقي وافق ابن حزم على أن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف (66هـ أو 65أو 75) لم يسمع من عمر ولست أدري هل اعتمد ابن العربي في هذه الفقرة على هذا الخبر المرسل أم على خبر لم نطلع عليه وليس في الخبر على ضعفه ذكر السجن .(69/32)
…ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام ، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن في زمان عمر ، فأعلم معاوية بذلك عثمان ، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة ، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم ، وإنما هي مخصوصة ببعضهم ، فكتب إليه عثمان ـ كما قدمنا ـ أن يقدم المدينة ، فلما قدم اجتمع إليه الناس ، فقال لعثمان : أريد الربذة . فقال له : افعل . فاعتزل . ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته (1)
__________
(1) 1 ـ وقد صح من حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان ( برقم 1549موارد الضمان ) أن أبا ذر هو الذي أستأذن عند عثمان أن يقيم في الربذة ، وذكر القاضي ولي الدين بن خلدون في العبر ( بقية 2:139) أن أبا ذر استأذن عثمان في الخروج من المدينة وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً " فأذن له ، ونزل الربذة وبنى بها مسجداً ، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين ، وأجرى عليه رزقاً ، وكان يتعاهد المدينة ، وبين المدينة والربذة ثلاثة أميال ، قال ياقوت : وكانت من أحسن منزل في طريق مكة .(69/33)
…6ـ ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضياً لهم (1) فلما اشتد في الحق ، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه (2) ، فخرج إلى المدينة .
…وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين ، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال و أبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب ، وعثمان برئ أعظم براءة وأكثر نزاهة ، فمن روى أنه نفي وروى سبباً فهو كله باطل .
…7ـ وأما رد الحكم فلم يصح (3).
__________
(1) 2 ـ أي في دمشق
(2) 3 ـ بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر ، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير (8/131) عن محمد بن سيرين قال : حدثنا عارم ، حدثنا حماد بن زيد ، عن معمر ، عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم إنه بعد عن ذلك " وقد يظن من لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون ، وهذا خطاء فللبيئة من التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة ، وهذا من معاني قول الله عز وجل { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } الرعد 11.
(3) 4 ـ أي لم يصح زعم البغاة على عثمان أن عثمان خالف بذلك ما يقتضيه الشرع .(69/34)
…وقال علماؤنا في جوابه . قد كان أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال [ أي عثمان ] لأبي بكر وعمر ، فقالا له : إن كان معك شهيد رددناه ، فلما ولي قضى بعلمه في رده ، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ، ولا لينقض حكمه (1)
__________
(1) 5 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [ 3/196] : وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه ( أي في نفي النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ) وقالوا " ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ، ولا لها سند يعرف به أمرها " ثم قال " لم تكن الطلقاء تسكن المدينة ، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة ، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا : هو ذهب باختياره . . . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمن ، فإن هذا لا يعرف في شئ من الذنوب ، ولم تأت الشريعة بذنب يبقي صاحبه منفياً دائماً . . . وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه ، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم ، وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك ، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة الإسناد ، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة ، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه ، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان ، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فلا =يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته . . . الخ ) وانظر أيضا 3/253ـ236من منهاج السنة . ونقل الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) المدرج في الجزء الرابع من كتابه " الفصل " ص 154قول من احتج لعثمان على من أنكروا ذلك عليه :" ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ، ولا شريعة على التأبيد ، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي ، والتوبة مبسوطة ، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وصارت الأرض كلها مباحة ".
…ونقل مجتهد الزيدية السيد محمد بن إبراهيم اليمني ( المتوفى سنة 840هـ) في كتابه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ( 1:141ـ142) قول الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي الشيعي في كتابه سرح العيون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك لعثمان ، قال ابن الوزير : إن المتعزلة والشيعة من الزيدية يلزمهم قبول هذا الحديث وترك الاعتراض على عثمان بذلك ، لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة ، ثم بسط ابن الوزير الكلام على هذا الموضوع بحجج واستدلالات ـ استغرقت ثلاث صفحات ـ دفاعاً عن أمير المؤمنين عثمان في رده الحكم ، وهذه الحجج من أحد أئمة الزيدية ومجتهديهم ـ بعد روايته ذلك الحديثق عن الإمام المتعزلي المتشيع ـ لها دلالتها الخاصة ، مع الذي سمعته من إمامي أهل السنة شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي ابن العربي ، ومن إمام أهل الظاهر أبي محمد بن حزم .(69/35)
.
…8ـ وأما ترك القصر فاجتهاد ، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر ، وفعلوا ذلك في منازلهم ، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة ، فتركها مصلحة خوف الذريعة (1)مع أن جماعة من العلماء : قالوا إن المسافر مخيّر بين القصر والإتمام ، واختلف في ذلك الصحابة (2)
__________
(1) 1 ـ كان ذلك في منى في موسم الحج سنة 29هـ وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى ، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في العام الماضي : إن الصلاة للمقيم ركعتان ، وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين : ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف : وقد اتخذت بمكة أهلاً ( أي أنه صار في حكم المقيم ، لا المسافر ) فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود :" الخلاف شر ، قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً ". فقال عبد الرحمن بن عوف :" قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف يكون الذي تقول " يعني : نصلي معه أربعاً [ الطبري 5:56ـ57)
(2) 2 ـ نقل محمد بن يحيى الأشعري المالكي المعروف بأبن بكر ( 674ـ 741) في كتابه ( التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان ) وهو من مخطوطات دار الكتب المصرية ( برقم 22/تاريخ ) أنه روى عن جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر ، منهم عائشة وسلمان وأربعة عشر من الصحابة . وفي أبواب التقصير من صحيح البخاري حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت :" الصلاة أول ما فرضت ركعتان ـ فأقرت صلاة السفر ـ وأتمت صلاة الحضر " قال الزهري فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم ؟ قال : تأولت ما تأول عثمان . وفي مسند أحمد 4:94) عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : لما قدم علينا معاوية حاجاً قدمنا معه مكة ؛ فصلى بنا الظهر ركعتين ، ثم انصرف إلى دار الندوة . وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الاخرة أربعاً أربعاً . فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة ، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة . فلما صلى بنا ( أي معاوية ) الظهر ركعتين نهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته ، قال لهما : وما ذاك ؟ فقالا له : ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة ( فذكر لهما أنه صلاهما مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ) قالا : فإن ابن عمك أتمها ( والظاهر أن معاوية رأي أن القصر رخصة ، وأن المسافر على التخيير ، فصلى العصر أربعاً ) .(69/36)
.
…9ـ وأما معاوية فعمر ولاّه ، وجمع له الشامات كلها ، وأقره عثمان بل إنما ولاّه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لأنه ولى أخاه يزيد ، واستخلفه يزيد ، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له ، فتعلق عثمان بعمر وأقره . فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها أبداً بعدها (1)
__________
(1) 1ـ إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الذروة في العزة ، وكانت مضرب الأمثال في الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع ، لأن أبا بكر وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن السجايا في أهلها وعناصر الرجولة في الرجال ، فيوليانهم للقيادة ، ويبوئانهم مقاعدة السيادة ، ويأمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما يعلمان أنهما مسئولان عن ذلك بين يدي الله عز وجل ، وقد رأيت في هامش ص 47 أن يزيد بن أبي سفيان وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي بكر الصديق الذين اختارهم لحمل أعباء الأمة في حربها وسلمها فأحسن بذلك كل الإحسان ، ولما ولي يزيد قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه ماشياً ( الطبري 4 : 30) ومعاوية مذكور في التاريخ بعد أخيه يزيد لأنه أصغر منه سناً ، لا لأنه أقل منه في استكمال صفات القيادة والسيادة ن وقبل أن يكون معاوية من رجال الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين استعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعان بهم ، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان ـ ومعاوية يأكل ـ ويلح في دعوته ويرسل إليه المرة بعد المرة يستعجله المجي إليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ولي معاوية شيئاً من عمله قبل أن يوليه أبو بكر وعمر ، وولى يزيد بن أبي سفيان أيضا كما في فتوح البلدان للبلاذري ( ص 48 طبع في مصر سنة 1350هـ ) والذين يضطغنون البغضاء والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ولا سيما بني أمية منهم ـ لم يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل معاوية في الكتابة له فقالوا إنه كان يكتب ولكنه لم يكن يكتب الوحي ، وهم يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان ، وليس في يدهم نص تاريخي أو دليل شرعي يرجعون إليه ، فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يميز بين كتبته في أمور دون أمور لتواتر ذلك عنه ولنقله الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا شأناً ، سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال : ما تقول في معاوية ؟ فقلت له : ومن أنا حتى تسألني عن عظيم من عظماء هذه الأمة وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إن مصباح من مصابيح الإسلام ، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها نوره ، نقل الحافظ ابن كثير في ( البداية والنهاية 8: 133) عن الليث بن سعد ( وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة 175) قال : حدثنا بكير ( وهو ابن عبد الله بن الأشج المدني ثم المصري المتوفى سنة 127هـ قال عن الإمام النسائي : ثقة ثبت ) عن بسر بن سعيد المدني ( المتوفى سنة 100هـ قال عنه ابن معين : ثقة ، وقال عنه الليث بن سعد : كان من العباد المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع ) أن سعد بن أبي وقاص ( أحد العشرة المبشرين بالجنةى ) قال : " ( ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ) يعني معاوية وروى ابن كثير أيضاً ( 8 :153) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ ( وكان ينسب إلى التشيع ) ، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم اليمني وكان أحد الأعلام ، عن همام بن بن منبه الصنعاني وكان ثقة قال : سمعت ابن عباس يقول : " ما رأيت رجلاً أخلق بالملك من معاوية ". وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلاً حكيماً ، يحسن الدفاع عن ملكه ، ويستعين الله في نشر دعوة الناس في الممالك الأخرى ، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها ؟ والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يلام عثمان على توليته ؟ ويا عجباً كيف يلام عثمان على توليته وقد ولاه من قبله عمر ، وتولى لأبي بكر من قبل عمر ، وتولى بعض عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي بكر وعمر وعثمان ، إن المخ الذي يعبث به الشيطان فيسول له مثل هذه الوساوس لا شك أنه مخ فاسد ، يفسد على الناس عقولهم ، ومنقطهم قبل أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم ، فمن الواجب على محبي الحق والخير أن يتحاموا كل من يحمل في رأسه مثل هذا المخ الفاسد كما يتحامون المجذوم .
روى الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين ـ وأعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء أن عمر ابن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية ـ قال الناس : عزل عميراً وولى معاوية ( قال البغوي في معجم الصحابة : وكان عمير يقال له " نسيج وحده " . قال ابن سيرين : ( إن عمراً كان يسميه بذلك لإعجابه به وكان عميراً من الزهاد ) فقال عمير : لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" اللهم اهد به " ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين عمر ، فإن كان هو الذي شهدها له وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأن يهدي الله به فذلك أمر عظيم لعظم مكانة عمر ، وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد الأنصاري ـ مع أنه هو المعزول بمعاوية عن ولاية حمص ـ فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت الشهادة لمعاوية من عمر ، وقد علمت أن عميراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه = من زهاد الأنصار . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 :189) وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سيرة الولاة ، وكان رعيته يحبونه ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " ولم يتسع المقام هنا لأكثر من هذا ، وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر خلافته ، لتعلم إلى أي حد كنا مخدوعين بأكاذيب أعداء الصدر الأول للإسلام .(69/37)
.
…10ـ وأما عبد الله بن [ عامر بن ] كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمّات والخالات(1)
__________
(1) 1 ـ هو عبشمي الآباؤ ، هاشمي الخئولة . فإن أم أبيه أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم . ولما ولد أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبني عبد شمس :" هذا أشبه به منه منكم " ثم تقل في فيه فازدرده ، فقال صلى الله عليه وسلم :" أرجو أن يكون مسقياً " ؟ فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر منها الماء ونشأ سخياً كريماً شجاعاً ميمون النقيبة كثير المناقب . أفتتح خراسان كلها ، وأطراف فارس ، وسجستان ، وكرمان حتى بلغ أعمال غزنة ، وقضى على يزدجرد ابن شهريار آخر ملوك فارس ، ويعتقد الإيرانيون أن سلسلة ملوكهم بدأت بآدمهم الذي يسمونه ( جيومرت ) فلم يزل ملك أولاده منتظماً على سياق إلى أن كان القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة أمير المؤمنين عثمان بجهاد هذا العبشمي الآباء الهاشمي الخئولة عبد الله بن عامر بن كريز ، وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على الإسلام والبغض والدسائس ، وعلى عثمان ، وابن كريز ، فهم يحقدون على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب ، والبغض الدسائس ، وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة ، أما صادقوا الإسلام ممن أنجبت إيران أيام كانت شافعية المذهب ، ولما كان ينبغ منها علماء السنة المحمدية قبل ذلك ، وفيهم كبار الأئمة والمحدثون والفقهاء ، فقد نزهوا قلوبهم عن أن يكون فيها غل للذين آمنوا وجهادوا بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله الأقطار على أيديهم ، وهدى الأمم بسببهم ، فهم يحبونهم ويجلونهم على أقدارهم ، ونحن لا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتوقع الخطاء من كل إنسان ، صحابياً كان أو من التابعين أو الذين يتبعونهم بإحسان ، ولكن الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها الجبال ، فإن الذي يعمي عنها ، ويدس أنفه في مرمى القاذورات ليستخرج منها ما يذم العظماء به ، وإن لم يجد يختلق ويكذب ، فإن كرامة المسلم على نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء والانخداع لهم . ودع عنك فتوح عبد الله بن عامر بن كريز التي وصلت إلى أٌقصى المشارق ، وتقويضه أخر للإمبراطورية المجوسية ، فإن حسناته الإنسانية أيضاً جديرة بالتسجيل ، قال ابن كثير في البداية ( 8 :88) إنه " أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام وأجرى إليها الماء المعين ". وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3: 189ـ 190) : " إن له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر " ومثل هؤلاء الرجال لو كانوا من سلف الإنكليز أو الفرنسيين لخلدوا عظمتهم في كتب الدراسة والثقافة والتهذيب ، فتهافت وزارت معارفنا على نقل ذلك عن كتبهم إلى كتبنا المدرسية ، ليؤمن جلينا بعظمة أسلاف المستعمرين . أما عظمة أسلافنا نحن فقد سلط الشيطان عليها قلوباً فاسدة تفيض بالسوء ، وصدّق أكاذيبها الأكثرون منا فأمسينا كالامة التي لا مجد لها ، بينما هي نائمة على تراث من المجد لا تحلم الإنسانية بمثله .
…(69/38)
… 11 ـ وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس ـ على فساد النيات ـ أسرعوا إلي السيئات قبل الحسنات. فذكر الإفترائيون انه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به قال عثمان ما وليت الوليد لأنه أخي (1)، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه . وسيأتي بيانه إن شاء الله (2)
__________
(1) 2 ـ هو أخوه لأمه أروى بنت كريز ، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم .
(2) 3 ـ قد يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد ابن عقبة من عرض الطريق فولاه الكوفة ، أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي بكر تلفقت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر ، وأول علمل له في خلافة أبي بكر أنه كان في موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12هـ( الطبري 4 : 7 ) ، ثم وجه مدداً إلى قائده عياض غنم الفهري ( الطبري 4 :22) وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات = قضاعة ، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنه بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة ، فكتب إلى عمرو ابن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد ، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين ، وسار الوليد بن عقبة قائداً إلى شرق الأردن ( الطبري 4 : 29ـ 30) ، ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ أميراً على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة (4: 155) يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم ن فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم ، وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولا يته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان ـ مع جهاده الحربي وعمله الإداري ـ داعياً إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب ، وهربت منه أياد إلى الأنضول وهو تحت حكم البيزنطيين ، فحمل الوليد خليفته عمر على كتابة كتاب تهديد إلى فيصر قسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة الإسلامية ، وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية بين شبابها وأطفالها ، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي وقال فيهم كلمته المشهورة :
إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ فغيّك منى تغلب ابنة وائل
وبلغت هذه الكلمة عمر ، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب فيفلت من يده زمانهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة ، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم ، وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له وكان من خير ولاتها عدلاً ورفقاً وإحساناً ، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق المشرق فاتحة ظافرة موفقة على ما سنذكره فيما بعد .(69/39)
.
والولاية اجتهاد (1)
__________
(1) 1 ـ للمؤلف في أواخر هذا الكتاب ص 243فصل عنوانه ( نكتة ) أشار فيه إلى المعاني والحقائق التي يلاحظها ولي المر عند " اجتهاده " في تولية الولاة وعزلهم ، وذلك لفقه عظيم ومعارف بديعة بينها أئمة الإسلام وعلماؤه في الفصول التي عقدوها لفمامة وسياسة الدولة وفي كتبهم المصنفة في أصول الدين ، وقد زعم طاغية الشيعة ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه منهاج الكرامة أن عثمان ولي أمر المسلمين من لا يصلح للولاية ، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية في ( منهاج السنة 3 : 173ـ176) والمنتفى منه للذهبي ( 382ـ383) أن علياً رضي الله عنه ولي زياد بن أبي سفيان وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء ، ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم . قال : ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية ، ومعلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه ، فولى عبد الله عباس على اليمن ، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس ، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس ، وأما البصرة فولى عليها عبيد الله ابن عباس ، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره ( لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيراً ) . ثم إن الإمامية تدعي أن علياً نص على أولاده في الخلافة ـ أو على ولده ، وولده على ولده الآخر وهلم جرا ـ ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً ، فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال . . . وإذا قال القائل : لعلي حجة فيما فعله ـ قيل له : وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحو مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين ، كان ما يدعى لعثمان من " الإجتهاد " الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول . . . ثم قال : إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته ، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم : أبو بكر وعمر ، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول صلى الله عليه وسلم اكثر من بني عبد شمس ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان فيهم شرف وسؤدد ، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية ، واستعمل خالد بن سيعد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء واليمن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستعمل عثمان ابن سعيد بن العاص على تيما وعلى خيبر وقرى عرينة ، واستعل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي ( حليف بني أمية ) حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول عثمان : أنا لا أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم ، وكذلك أبو بكر وعمر بعده . . . فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من= بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل ، وذلك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل ( وانظر أيضا منهاج السنة 3 : 236ـ237) والذي يستعرض حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في الذروة العليا من رجال الدولة ، ولا يتردد في أنهم من بناة الأساس الأقوم في مجد الإسلام الإداري والعسكري ، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح وانتشار دعوة الإسلام بما يعده التاريخ من معجزاته الخارقة للعادات .(69/40)
وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقدم أقل منه درجة.(1)
…12ـ وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم وحكمهم عليهما بالفسق
فسق منهم
مروان رجل عدل ، من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه(2) وأما التابعون فأصحابه في السن وان كان جازهم باسم الصحبة في أحد القولين(3)
__________
(1) 1ـ كان ذلك سنة 21هـ والذين تولوا بعد سعد : عبد الله بن عبد الله بن عتبان ( وفي زمانه كانت وقعة نهاوند ) ثم زياد بن حنظلة ( وألح في الاستعفاء فأعفي وولى بعدهما عمار بن ياسر 4 : 246وما قبلها )
(2) 2 ـ وروايته عنه في صحيح البخاري وغيره .
(3) 3 ـ وفي طليعة من ورى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط ، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2 :123) والحافظ بن حجر في الإصابة ، وترى تفصيله في طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي في ترجمة اللغوي الشهير أبي منصور محمد بن أحمد بن الأزهر صاحب تهذيب اللغة ( 282ـ370) و ممن نص الحافظ ابن حجر على روايتهم عن مروان : سعيد بن المسيب رأس علماء التابعين وإخوانه من الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وعروة بن الزبير ، وأضرابهم كعراك بن مالك الغفاري المدني فقيه أهل دهلك وكان يصوم الدهر ، وكعبد الله بن شداد بن الهاد أحد الرواة عن عمر وعلي ومعاذ ، وأن رواية عروة بن الزبير عن مروان في كتاب الوكالة من صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد (4: 321و323و326و328و 5 ـ189) ورواية عراك عن مروان نقلها إمام أهل مصر الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب في مسند أحمد ( 7 :317و323) والذي يتأمل الأحاديث المروية عن مروان يجد جملتها من الأئمة الثقات تتسلسل روايتهم عنه مدة جيلين وأكثر وكلهم أعلى مرتبة في الإسلام من الذين يبردون الغل الذي في قلوبهم بالطعن في مروان ومن هو خير من مروان ، بل في رواة أحاديث مروان عبد الرزاق إمام أهل اليمن وكانت فيه نزعة تشيع ، وفي مسند أحمد ( 6: 212) حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه كان رسول مروان إلى أم المؤمنين أم سلمة في تحقيق بعض الأحكام الشرعية وفي 6: 299 من مسند أحمد نموذج لعظيم عناية مروان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يمكن أن يصدر عن أئمة المسلمين وأمرائهم .(69/41)
وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون
على أقدارهم .
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين ان الله سماه فاسقا في قوله {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة } [ ا لحجرات 6] فإنها ـ في قولهم ـ نزلت فيه أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق فاخبر عنهم انهم ارتدوا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله وقد اختلف فيه فقيل نزلت في ذلك (1)
__________
(1) 4 ـ كنت في ما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقاً ، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ وأوردنا الأمثلة عليها في هامش سابق عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاماً قبل أن يوليه عثمان الكوفة ، إن هذا التناقض ـ بين ثقة أبي بكر و عمر بالوليد بن عقبة ، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه قاسقاً ـ حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه ، لا استبعاداً لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقاً ولكن استبعاداً لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عز وجل بعد رسوله صلى الله عليه وسلم من هو أقرب إلى الله منهما وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية { إن جاءكم فاسق بنبأ . . . } فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد ، أو قتادة أو ابن أبي ليلى ، أو يزيد بن رومان ، ولم يذكر أحد منهما أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث ، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة وإن الذين لهم هوى في تشويه سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاماً من الوليد قد ملأوا الدنيا أخباراً مريبة لها قيمة علمية ، وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ، حتى ولا أسمائهم [ شيئاً ] ، فمن غير الجائز شرعاً وتاريخاً الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة ، وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم ن فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال ، بل لم أجده وفي قفصي الاتهام أعني ( ميزان الاعتدال ) و( لسان الميزان ) وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحداً واحداً فلم أجد فيها هذا الخير بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابت ، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر ـ إن صح عنها ـ ولا سبيل إلى أن يصح عنها ـ إن الآية نزلت في الوليد بل قالت ـ أي قيل على لسانها ـ " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رجلا ) في صدقات بين المصطلق " . والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه لأن ابن سعد لما توفي بغداد سنة 23هـ كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلده آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم ، إلا أن هذه السلسة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم ( وبعد كتابة ما تقدم للطبعة الأولى من كتابنا تبين لي أن ابن سعد الذي ورى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي ن وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه ( سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ) انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1 :263) فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مجاهد كان موقع ثقة أبي بكر وعمر وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدث فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية .(69/42)
وقيل في علي والوليد في قصة أخرى وقيل إن الوليد سيق يوم الفتح في جملة الصبيان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رؤوسهم وبرك عليهم إلا هو فقال انه كان على رأسي خلوق فامتنع صلى الله عليه وآله وسلم من مسه فمن يكون في مثل هذه السن يرسل مصدقا؟!(1)
__________
(1) 1 ـ هذا الخبر عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح مكة رواه الإمام في مسنده ( 4 : 32 الطبعة الأولى ) عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني هو ( عبد الله بن مالك بن الحارث ) عن الوليد بن عقبة ، والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة ، فتسلسلت رواية الخبر في الروااة الرقيين وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم وعبد الله الهمداني ثقة لكن التبس اسمه في غر هذه الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك بن الحارث ( أي على اسم والد عبد الله الهمداني ) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبياً عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) هو شخص آخر ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه سمعة هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة وأصل هذا الخبر ـ إن صح ـ مقدم فيه اسم عمارة على اسم الوليد وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته وأي مانع يمنع قدوم الوليد= =صبياً بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان ؟ فقول الوليد إنه كان في سنة الفتح صبياً ليس في خبر قدومه مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة ما يمنعه أو يناقضه فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية { إن جاءكم فاسق بنبأ } لا يجوز علمياً أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي ، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح ، يتبين لك بعد ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما به واعتمادهما عليه مع أنه كان لا يزال في صدر شبابه .(69/43)
وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية وكيف يفسق رجل يتمثل هذا الكلام ؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
…وأما حده في الخمر ، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله
ثم قيل إنه صالحه(1) وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة(2)
__________
(1) 1 ـ قدامة بن مضعون الجمحي أحد السابقين الأولين ، هاجر الهجرتين وشهد بدراً وكان صهر أمير المؤمنين عمر على أخته ، وقيل بل هو خال أم المؤمنين حفصة بنت عمر وأخيها عبيد الله ، وفي إمارة قدامة على البحرين في خلافة عمر قدم الجارود سيد بني عبد القيس على عمر من البحرين وادعى أن قدامة شرب فسكر ، فقال له عمر : من يشهد معك ؟ قال : أبو هريرة فاستشهد أبا هريرة فقال : لم أره شرب ، ولكني رأيته سكران يقئ فقال له عمر : لقد تنطعت في الشهادة واستقدم قدامة من البحرين فقال الجارود لعمر : أقم على هذا كتاب الله فقال له عمر : أخصم أنت أم شهيد ؟ فقال شهيد فقال عمر : قد أديت شهادتك فصمت الجارود ، ثم غدا على عمر فقال : أقم على هذا حد الله ، فقال عمر : لتمسكن لسانك أو لأسوأنك . فقال : يا عمر ، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوؤني ثم جئ بزوجة قدامة فأقامت الشهادة على زوجها ، وأراد عمر أن يقيم عليه الحد فقال له الصحابة : لا نرى أن تحده ما دام مريضاً ثم عادوه فقالوا له كما قالوا من قبل فقال عمر : لأن يلقى الله تحت السياط احب إلى من أن ألقاه وهو في عنقي ، وجلده فغاضبه قدامة وعند قفولهما من الحج جئ به إلى عمر فكلمه عمر واستغفر له ، ومن حسن حظ قدامة بن مضعون انه قرشي من بني مذحج ولو أنه كان قرشياً من بني عبد شمس لانطلقت ألسنة السوء بالبذاءة عليه واختراع الأكاذيب فيه ما دام في الدنيا كذب .
(2) 2 ـ هذا حق ، ولكن في مثل ما تقدم عن قدامة بن مضعون ، وفي مثل ما هو مشهود عند الناس عن أبي محجن الثقفي الشاعر الفارسي الذي كان له يوم أغر في حرب القادسية أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم ( الذي كان منه لأمته كل ما استطاع من عمل طيب ، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم ، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع ، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر ) فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرناً فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجاجه أراد الوليد بن عقبة ـ منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان ـ أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامة للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته ، الحاملين لرايته الناشرين لرسالته وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره ـ إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة ـ ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أولا يعرف ، فكان يغشاها كل من شاء متى شاء من ليل أو نهار ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس .
………فالستر دون الفاحشات ولا يلقاك دون الخير من ستر
…وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة وأدخل على الناس خيراً حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد ، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير ان ينقص مواليهم من أرزاقهم وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه إلا أن فريقاً من الأشرار وأهل الفساد أصاب نبيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد فقفوا حياتهم على ترصد الأذى له ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي وآخر يسمى أبا مورع وثالث اسمه جندب أو زهير ، فبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا فيها على ابن الحيسمان داره وقتلوه وكان نازلاً بجواره رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل السابقة وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو المشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام ، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان ، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة ، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته ، وكان بيته مفتوحاً دائماً وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانياً في أخواله من بني تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانياً لا بد أن يكون يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما ، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد ولم يكن لداره باب فلما فوجئ بهم نحى شيئاً أدخله تحت السرير ، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار ، فلما أخرج ذلك الشئ من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل ، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم ، وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر ، ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح فخرج بقية القوم ، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه فسأل عنه زوجتيه ـ وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر ـ فقالتا إن آخر من بقي في الدار رجلان ، وذكرنا صفتيهما وحيلتهما للوليد ، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع ، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيتاها فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة ، وكان قد سافرا تواً إلى المدينة ، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر ( واكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مضعون في خلافة عمر ( فقال كنا من غاشيته فدخلنا عليه وهو يقئ الخمر فقال عثمان ما يقئ الخمر إلا شاربها فجئ بالوليد من الكوفة فحلق لعثمان وأخبره خبرهم ، فقال عثمان : " نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنار " .
…هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 هـ من تاريخ الطبري وليس فيها ـ على تعدد مصادرها ـ شئ غير ذلك وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعادت شواهد غلهم عليه ، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعاً ، وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب ، فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر ( أحد أتباع علي ) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد ، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه ( كتاب الحدود ) بلفظ " شهدت عثمان ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ( ركعتين ) ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان بأنه تقياً أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد اخر أنه أنه راه يتقيأ ) فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين ، ولم يكن حضين من الشهود ، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم ، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مروياً عن حضين ، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند احمد بمواضعه الثلاثة ، فالموضعان الأول والثاني ( ج1 ص82 و140 ) ليس فيهما ذكر الصلاة عن لسان حضين فضلاً عن غيره ، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد ، وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد ( ج1ص 144 ) فقد جاء على لسان حضين " أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعاً ، وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم ، ففي إحدى الروايتين تحريف [ و ] الله أعلم بسببه.
وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عنه أنه كلام حضين وحضين ليس بشاهد ، ولم يرو عن شاهد ، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه ، وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه ، أزيدك علماً بأمر حمران [ المذكور في الرواية ] وهو عبد من عبيد عثمان كنا قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول ، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة ، فجاء الكوفة يعيث فيها فساداً ، ودخل على العبد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم عليهم بما يشاء ، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع ، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله ، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من اكمل خلفاء الإسلام ابي بكر وعمر وعثمان ، وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض فأين مدحه فيها للوليد بقوله :
……ورأوا شمائل ماجد أنف بعطي على الميسور والعسر
……فنزعت مكذوباً عليك ولم تردد إلى عوز ولا فقر
من بقية الأبيات التي فيها :
……نادى وقد تمت صلاتهم أأزيدكم ثملا وما يدري
…فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحاً وذاماً في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات : وقد كانت لي مقالة مطولة عن ( التخليط في الشعر ) ضربت فيها الأمثلة على دس الأبيات غريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها .
وعلى كل حال فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الاخر والآن أقولها لوجه الله صريحة ومدوية إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدوه قديساً لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام ، والعجب لأمة تسئ إلى أبطالها وتشوه جمال تاريخها وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا ، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق .(69/44)
وقد قيل لعثمان إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فقال بل لأنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حكيم البيضاء جدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي حرج على المرء ان يولي أخاه أو قريبه ؟
13ـ وأما إعطاؤه خمس أفريقية لواحد فلم يصح (1)على أنه
__________
(1) 1 ـ والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور ، ثم عاد فاسترده منه .
…جاء في حوادث سنة 27هـ من تاريخ الطبري أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن بي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: " إن فتح الله عليك غداً إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين من الغنيمة نفلاً " فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض أفريقية وفتحوها سهلها وجبلها ، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ الخمس وبعث أربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري ، فشكا وفد ممن معه ما أخذه عبد الله بن سعد ، فقال لهم عثمان : أنا أمرت له بذلك ، فإن سخطتم فهو رد ، قالوا : إنا نسخطه ، فامر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده ، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي صلى الله عليه وسلم [ أنظر المنتقى للمجد ابن تيمية 4314 وفي غزوات أخرى 4319، 4321)(69/45)
…قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى في الخمس ، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده ، وان إعطاءه لواحد جائز ، وقد بينا ذلك في مواضعه ( 1 ) .
وأما قولهم إنه ضرب بالعصا ، فما سمعته ممن اطاع أو عصى ، وإنما هو باطل يحكى ، وزور ينثى ( 2 ) ، فيا لله وللنهي .
واما علوه على درجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما سمعته ممن فيه تقية . وإنما هي إشاعة منكر ، ليروى ويذكر ، فيتغير قلب من يتغير ، قال علماؤنا : ولو صح ذلك فما في هذا ما يحل دمه ولا يخلو أن يكون ذلك حقاً فلم تنكره الصحابة عليه ، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب أقتضى ذلك . وإن كان لم يكن فقد أنقطع الكلام ( 3 ) .
واما أنهزامه يوم حنين ، وفراره يوم أحد ، ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان ، فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شان البيعة وبدر وأحد . واما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع
-------------------------------------(70/1)
( 1 ) أي في مولفاته الأخرى عند بسطه هذه المسألة من أحكام الفقه الإسلامي قال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي : (( إنما القطائع على وجه النقل من خمس ما أفاء الله )) قال : (( وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو : وأقطع ( أي عمر ) أبا مفزر دار الفيل )) . وممن أقطعهم عمر بن الخطاب نافع أخو زياد وأبي بكرة لأمهما ، أقطعه أرضاً في البصرة لخيله وإبله مساحتها عشرة أجربة ( أنظر ترجمة نافع في الإصابة ) قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج ( ص 61 ) وقد أقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتألف على الإسلام أقواماً ، وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحاً ( وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك ) . وانظر باب القطائع في ص 77 – 78 من كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية . وذكر الإمام الشعبي بعض الذين أقطعهم عثمان فقال : (( وأقطع الزبير ، وخباب ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وابن هبار أزمان عثمان ، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا )) ( الطبري 4 : 148 ) . وأقطع على بن ابي طالب كردوس بن هانئ الكردوسية ، واقطع سويداً بن غفلة أرضاً لداذويه . فكيف ينكرون على عثمان ويسكتون عن عمر وعلى . وللقاضي أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج ( ص 60 – 62 طبعة السلفية سنة 1352 ) ، وما زعمه الزاعمون من أن عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم من فضائله ، وعلى أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم ، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله : (( وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم فإني إنما أعطيهم من مالي ، ولا استحل أموال المسلمين لنفسي ، ولا لأحد من الناس ، وقد كنت اعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وانا يومئذ شحيح حريص ، أفحين أتت على اسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال(70/2)
الملحدون ما قالوا ؟ )) . قال الطبري ( 5 : 103 ) : وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية ، وجعل ولده كبعض من يعطي ، فبدأ بيني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف فأخذوا مائة الف ، واعطى بني عثمان مثل ذلك ، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب بل تمادى شيخ الإسلام ابن تيميه مع أوسع الاحتمالات فذكر في منهاج السنة ( 3 : 187 –188 ) أن سهم ذوى القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قاله الحسن أبو ثور ، وان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي اقاربه بحكم الولاية …و قيل هو لمن ولى الأمر بعده … قال : وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية أو بمال . ثم قال ( في 3 : 237 ) : (( إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ : أحدها أنه عامل عليه ، والعامل يستحق مع الغنى . الثاني أن ذوى القربى هم ذوو قربى الإمام . الثالث أنهم ( أى ذوو قربى عثمان ) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر ، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطاؤهما . وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به )) .
( 2 ) نثى الخبر والحديث : أذاعة وأظهره . والثنا مثل الثناء . إلا أنه في الخبر والشر ، والثناء في الخير خاصة .(70/3)
( 3 ) كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيق المساحة في عصر النبوة وخلافة أبي بكر ، وكان من مناقب عثمان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى من ماله مساحة من الأرض وسع بها المسجد النبوي ، ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب . ثم زاد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها فوسعه أمير المؤمنين . عثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه . فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه .(70/4)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولكن لم يجر في الآمر تفسير من بقى معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم ، فناهيك بهذا الاختلاف ، وهو أمر قد أشترك فيه الصحابة ، وقد عفا الله ورسوله ، فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون ، أخرج البخاري ( 1 ) : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان ، فذكر عن محاسن عمله وقال : لعل ذلك يسوؤك ؟ قال : نعم . قال : فأرغم الله بأنفك ! ثم سأله عن علي ، فذكر محاسن عمله وقال : وهو ذاك بيته أوسط بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال : لعل ذلك يسوؤك ؟ قال : أجل . قال (( بنى الإسلام على خمس )) زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان ( 2 ) . وقد أخرج البخاري أيضاً ( 3 ) من حديث عثمان بن عبدالله أبن موهب قال : جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت ، فرأى قوماً جلوساً ، فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء قريش . قال : فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا : عبد الله بن عمر . قال : يابن عمر ، إني سائلك عن شئ فحدثني عنه . هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . فقال : تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد : قال ؟ نعم . قال : هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : اله أكبر ! قال ابن عمر ، تعا أبين لك . اما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له . وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه ( 4 ) .
…واما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان ( 5 ) وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة ( 9 ) ، فقال رسول الله
------------------------------
( 1 ) في كتاب فضائل الصحابة ( ك 62 ب 9 – ج 4 ص 208 ) من حديث سعد بن عبيدة .(70/5)
( 2 ) لعل المؤلف إلى حديث ابن عمر في كتاب التفسير من صحيح البخاري ( ك 65 ب 2 تفسير البقرة الحديث 30 ج 5 ص 157 ) .
( 3 ) في كتاب فضائل الصحابة ( ك 62 ب 7 – ج 4 ص 203 – 204 ) .
( 4 ) وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ببشرى النصر في بدر مع زيد بن حارثة إلى عثمان في المدينة . قال أسامة بن زيد – فيما رواه الطبري 2 : 286 - : (( فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى كانت عند عثمان ابن عفان ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفني عليها مع عثمان )) ثم في ربيع الأول من السنة التالية لغزوة بدر تزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخلت عليه في جمادى الآخرة .
( 5 ) وقيل أن يبعث عثمان دعا عمر بن الخطاب لبيعته إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : يارسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس في مكة من نبي عدى بن كعب أحد يمنعني . ولكني أدلك على رجل هو أعز مني فيها : عثمان بن عفان . فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش . ويوم تدون الدول الإسلامية تاريخ السفارات في الإسلام ، سيكون اسم عثمان أول سفراء الإسلام في التاريخ .(70/6)
( 6 ) لأن عثمان لما أدى رسالته في السفارة التى بعث لها أحتبس اياماً . فلم يعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الموعد الذى كان يقدر له أن يعود فيه ، فوصل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن سفيره قتل ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيعة الرضوان ، انتصاراً لعثمان ، على نية أن يذهب بالصحابة إلى مكة فيناجز المشركين لما بلغه عن قتلهم عثمان . فبيعة الرضوان كانت رمزاً من رموز الشرف لعثمان ، واي شرف أعظم من اجتماع قوى الإسلام بقيادة الرسول الأعظم للأخذ بثأر الرجل الحبيب إلى المسلمين ، والرفيع المنزلة عند سيد الأولين والآخرين ؟ ثم لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - - في اللحظة الأخيرة التى اجتمع فيها الصحابة لعقد البيعة – أن عثمان حى ، مضى في إتمام البيعة على سنته - صلى الله عليه وسلم - في أنه إذا بدأ بخير يمضى في إكماله ولو زال سببه . وحينئذ كان لعثمان الشرف المضاعف بأن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نابت عن يده في عقد البيعة عنه . فبيعة الرضوان كانت انتصاراً لعثمان ، وجميع الصحابة بايعوا بايدى أنفسهم إلا عثمان فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا هذا لكفاه .
- صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى : (( هذه يد عثمان )) فضرب بها على يده فقال : (( هذه لعثمان )) . ثم قال له ابن عمر : اذهب بها الآن معك ( 1 ) .(70/7)
…واما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان فإن ذلك باطل ( 2 ) . فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون ، والأمر في أوله ، وقد قيل : إن الهرمزان سعى في قتل عمر ، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه ( 3 ) ، وكان قتل عبيد الله له عثمان لم يل بعد ، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً ، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله ( 4 ) ، وأيضاً فإن أحداً لم يقم بطلبه . وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح ؟ .
-------------------------------
( 1 ) لو أن أمير المؤمنين عثمان كان من حواريى المسيح عليه السلام ، وكانت له من سيدنا عيسى بن مريم مثل هذه المنقبة التى كرمه بها من نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لعبدته النصارى لأجلها . فالعجب لأمة يكون فيها جهلة يعيبون على عثمان – في زمانه – غيبته عن بيعة الرضوان ، ويكون فيهم من يستشعر الشجاعة في نفسه عند الإقدام على سفك دم هذا الخليفة الرحيم لأمور هذا منها ، ثم يحمل مثل هذا الجهل في دماغه رجل جاء يعبد الله باداء فريضة الحج فيواجه به جماعة الصحابة من قريش ورئيسهم عبد الله ابن عمر . ثم تمس الحاجة إلى التعرض لبيان هذه الحقائق في عصر القاضي أبي بكر بن العربي ، ثم يشعر أمثالنا في عصرنا بأن عثمان لا يزال من بعض أمته في موقف يحتاج فيه إلى إنصافه ودفع قاله السوء عنه . حقاً إننا أمة مسكينة …. ولأمر ما بلغ بنا الحال بين الأمم إلى ما كنا فيه ، وإلى ما لا تزال غارقين فيه { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } .(70/8)
( 2 ) بشهادة ابنه القماذبان . روى الطبري ( 5 : 43 – 44 مصر و 1 : 2801 طبعة أوروبا ) عن سيف بن عمر بسنده إلى أبي منصور قال : سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه …. قال : (( فلما ولى عثمان دعاني فأمكنني منه )) ( أي من عبيد الله بن عمر بن الخطاب ) ثم قال : (( يا بني هذا قاتل أبيك ، وانت أولى به منا ، فاذهب ، فاقتله )) . فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي ، إلا أنهم يطلبون إلى فيه . فقلت لهم : آلى قتله ؟ قالوا نعم . وسبوا عبيد الله . فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا . وسبوه . فتركه لله ولهم . فاحتملوني . فواللهما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم )) . هذا كلام ابن عمر في عنق الهرمزان ، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا آلة في يد هذا السياسي الفارسي وإن موقف عثمان وإخوانه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة الإنسانية .
( 3 ) وقد تصرف عثمان في هذا الآمر بعد أن ذاكر الصحابة فيه . قال الطبري ( 5 : 41 ) جلس عثمان في جانب المسجد ودعا عبيد الله وكان محبوساً في دار سعد بن ابي وقاص ، وهو الذي نزع السيف من يده ، فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : أشيروا علي في هذا فتق في الإسلام ما فتق . فقال علي : أرى أن تقتله . فقال بعض المهاجرين : قتل عمر أمس ، ويقتل ابنه اليوم ؟ فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك ، قال عثمان : أنا وليهم ، وقد جعلتها دية ، واحتملتها في مالي .(70/9)
( 3 ) وفي تاريخ الطبري : ( 5 : 42 ) حديث سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق قال غداة طعن عمر : (( مررت على ابي لؤلوة عشى أمس ، ومعه جنيفة ( وكان نصرانياً من أهل الحيرة ظئراً لسعد بن أبي وقاص ) والهرمزان ، وهم نجى ، فلما رهقهم ثاروا ، وسقط منهم خنجر له راسان نصابه في وسطه . فأنظروا بأي شئ قتل ؟ وخرج في طلبه رجل من بني تميم ، فرجع إليهم التميمي وقد كان ألظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه . وجاء بالخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر . فسمع بذلك عبيد الله بن عمر ، فأمسك حتى مات عمر ، ثم اشتمل على السيف فأتى الهرمزان فقتله .(70/10)
( 4 ) وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رأى جواز قتل علوج الفرس الذين في المدينة بلا استثناء . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 : 200 ) : وقد قال عبد الله ابن عباس لما طعن عمر – وقال له عمر : كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة – فقال ( أي ابن عباس ) : (( إن شئت أن نقتلهم )) فقال عمر : (( كذبت ، أفبعد أن تكلموا بلسانكم ، وصلوا إلى قبلتكم ؟ )) . قال ابن تيمية : فهذا ابن عباس – وهو أفقه من عبيد الله ابن عمر وأدين وأفضل بكثير – يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة ، لما اتهموهم بالفساد ، اعتقد جواز مثل هذا …. وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك . ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله ، لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة ، صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل ( يعني عن عبيد الله بن عمر ) قلت : وإلى هذا ذهب عثمان في أكتفائه بالدية واحتملها من ماله الخاص . ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – بجميع ظروفه – وقع في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان من الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم .
وأما تعلقهم بان الكتاب وجد مع راكب ، أو مع غلامه – ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه ( 1 ) – إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه ( 2 ) ، فقد قال لهم عثمان : إما أن تقيموا شاهدين على ذلك ، وإلا فيميني أنى ما كتبت ولا أمرت ( 3 ) . وقد يكتب على لسان الرجل ، ويضرب على خطه ، وينقش على خاتمه ( 4 ) .(70/11)
…فقالوا لتسلم لنا مروان . فقال : لا أفعل . ولو سلمه لكان ظالماً ( 5 ) وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه ، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق . ومع سابقته وفضيلته ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب فضلاً عن قتله .
…وامثل ما روى في قصته أنه – بالقضاء السابق – تالب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها : ممن طلب أمراً فلم يصل إليه ، وحسد حسادة أظهر داءها ، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين ،
---------------------------------(70/12)
( 1 ) وإنما قالوا إنه غلام الصدقة ، أى أحد رعاة إبل الصدفة ؟ وإبل الصدقة ألوف كثيرة لها مئات من الرعاة . وإن صح أنه من رعاة إبل الصدقة فهؤلاء لكثرتهم وتبدلهم دائماً بغيرهم لا يكاد يعرفهم رؤسائهم عن أن يعرفهم أمير المؤمنين وكبار عماله وأعوانه . ومع افتراض أنه من رعاة إبل الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء البغاة لغرض من أغراضهم ، وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عن رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه ، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار ، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابة مصلحة في تجديد الفتنة ؟ وكم لهم من حيل أكثر التواء من استئجار راع يرعى إبل الصدقة . بل لقد ذكروا عن محمد بن ابي حذيفة ربيب عثمان الآبق من نعمته أنه كان في نفس الوقت موجوداً في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين ويزور الكتب على لسان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأخذ الرواحل فيضرمها ويجعل رجالاً على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم تلوح المسافر ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا رسلاً يخبرون عنهم الناس ليستقبلونهم …. فإذا لقوهم قالوا إنهم يحملون كتباً من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشكوى من حكم عثمان ، وتتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على ملإ الناس وهي مكذوبة مزورة وحملتها كانوا في مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز ( أنظر كتاب الأستاذ المحقق الشيخ صادق عرجون عن (( عثمان بن عفان )) ص 122 – 133 ) فتزوير الكتب في مأساة البغي على أمير المؤمنين عثمان كان من أسلحة البغاة أستعملوه من كل وجه وفي كل الأحوال وقد تقدم المثال على ذلك في صفحة 59 ، وسيأتي طرف منه فيما بعد .(70/13)
( 2 ) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن ابي سرح وقد أذن له بالمجئ إلى المدينة ويعلم أنه خرج من مصر ( الطبري 5 : 122 ) وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد ابن ابي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة : ومضمون الكتاب المزور قد أضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه . وسيأتي الكلام على ذلك كله فيما بعد .
( 3 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 188 ) : كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ، ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب . وقد سعوا في قتله ( أي في قتل أمير المؤمنين عثمان ) ودخل عليه محمد فيمن دخل ، وهو لا يامر بقتالهم دفعاً عن نفسه ، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم .
( 4 ) وقد حدث مثل ذلك في زمن عمر ، كما رواه البلاذري في فتوح البلدان ( ص 448 – طبع سنة 1350 ) والحافظ ابن حجر في الإصابة ( 3 : 528 طبع سنة 1328 ) .
( 5 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 3 : 189 ) بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو اولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان . لن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله . وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم أحد ولا إقامة حد . وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن ابي بكر ، ولا هو ( أي ابن أبي بكر ) أشهر بالعلم والدين منه ( أي من مروان ) : بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان ، وله قول مع أهل الفتيا ، وأختلف في صحبته . ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس …. ومروان من أقران ابن الزبير ….. إلخ .
وإيثار العاجلة على الآجلة ( 1 ) . وإذا نظرت إليهم دللت صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم ( 2 ) .
كان الغافقي المصري أمير القوم ( 3 ) ، وكنانة بن بشر التجيبي ( 4 ) وسودان بن حمران ( 5 )
-------------------------------------(70/14)
( 1 ) بمثل هذه الأوصاف وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطبة التى خطبها على الغرائر في معسكره بالكوفة عندما كان الصحابي الفارس المجاهد القعقاع بن عمرو التميمي بإتمام المهمة التى جاءت عائشة وطلحة والزبير لإتمامها ، فروى الطبري ( 5 : 194 ) أن علياً ذكر إنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه . وقال على مسمع من قتلة عثمان - : (( ثم حدث هذا الحادث الذي جره على الأمة طلبوا هذه الدنيا ، حسدوا من أفاء الله عليه على الفضيلة ، وأرادوا رد الأشياء على ادبارها )) ثم ذكر أنه راحل غداً إلى البصرة ليجتمع بام المؤمنين وأخويه طلحة والزبير وقال : (( ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان - رضي الله عنه - بشئ في شئ من أمور الناس ، وليغن السفهاء عني أنفسهم )) .
( 2 ) أجملنا في هامش ص 58 أوصاف البارزين ممن خرج على عثمان . أول من أكتشف سريرتهم ، ونظر إلى وجوههم بنور الله فتشاءم منهم ، رجل الإسلام المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفراسة التى لا تخطئ . روى الطبري ( 4 : 86 ) أن عمر لما أستعرض الجيوش للجهاد سنة 14 مرت أمامه قبائل السكوت اليمينية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها ، فاعترضهم عمر ، فإذا فيهم فتية دلم سباط ، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض ، حتى قيل له : مالك ولهؤلاء ؟ فقال : إني عنهم لمتردد ، وما مر بي قوم من العرب أكره إلى منهم ، فمان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملحم ، وكلاهما من البغاة على عثمان .(70/15)
( 3 ) هو الغافقي بن حرب العكي من أبناء وجوه القبائل اليمينية التى نزلت مصر عند الفتح . فلما نظاهر ابن سبأ بالتشيع لعلى . ولم يجد مرتعاً لفساده في الحجاز ولا في الشام أكتفى باصطناع بعض الأعوان في البصرة والكوفة ، واختار الإقامة في الفسطاط ، فكان الغافقي هذا من قنائصه ، وقد استمالوه من ناحية تهافته على الرئاسة والجاه . وكان محمد ابن أبي حذيفة بن عتبة الأموي ربيب عثمان الآبق من نعمته هو اليد اليمنى لتنفيذ خطط السبإيين في مصر ، الغافقي للتصدر والظهور . وفي شوال سنة 35 أعدوا عدتهم للزحف من مصر على المدينة بأربع فرق مجموع رجالها نحو ستمائة ، وعلى كل فرقة رئيس ورئيسهم العام الغافقي هذا . وتظاهروا بأنهم يقصدون الحج ، وفي المدينة تطورت حركاتهم إلى أن أستفحل الأ/ر ومنعوا عثمان من الصلاة بالناس في المسجد النبوي فصار الغافقي هو الذي يصلي بالناس ( الطبري 5 : 107 ) ، ثم لما أقنعهم الشيطان بالجرأة على الجناية الكبرى كان الغافقي أحد المحبرئين عليه وضربه بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار ( الطبري 5 : 130 ) وبعد قتل عثمان بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب الطبري ( 5 : 155 )(70/16)
( 4 ) وهذا أيضاً كان من قنائص ابن سبا في مصر . ولما أرسل عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال ، واستماله السبإيون ، وكنا كنانة بن بشر هذا واحداً منهم ( الطبري 9905 ) . وعندما جمعوا أو شاب للقبائل للزحف على المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 أنقسموا في مصر إلى أربع فرق على كل فرقة أمير ، وكان كنانة بن بشر أميراً على إحدى هذه الفرق ( الطبري 5 : 103 ) ثم كان في طليعة من أقتحم الدار على عثمان وبيده شعلة من نار تنضح بالنفط ، فدخل من دار عمرو بن حزم ودخلت الشعل على اثره ( الطبري 5 : 123 ) . ووصل كنانة التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصاً ( أي نصلاً طويلاً عريضاً ) فانتضح الدم على آية ( فسيكفيكهم الله ) ، ( الطبري 5 : 126 ) وقطع يد نائلة زوجة عثمان ، وأتكأ بالسيف على صدر عثمان وقتله ( الطبري 5 : 131 ) ، قال محمد بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفي سنة 43 قال : الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبى ( الطبري 5 : 132 ) . وفيه يقول الوليد بن عقبة بن ابي معيط :
…ألا إن خير الخلق بعد ثلاثة قتيل التجيبى الذي جاء من مصر
وكانت عاقبة كنانة هذا وقوعه قتيلاً في الحرب التى نشبت سنة 38 في مصر بين محمد بن ابي بكر الديق نائب على وبين عمر بن العاص ومن معه من جيوش معاوية ابن حديج السكوني ( الطبري 6 : 58 – 59 و 60 ) .(70/17)
( 5 ) السكوني ، من قبائل مراد اليمينية النازلة في مصر ، وقد تقدم في هامش ص 122 أنه كان – في سنة 14 – أحد الذين قدموا في خلافة عمر للجهاد مع جيوش اليمن بقيادة حصين بن نمير ومعاوية بن حديج ، فلما استعرضهم أمير المؤمنين عمر وقع نظره على سودان بن حمران هذا ولعى زميله خالد بن ملجم فتشاءم منهما وكرههما . ولما أرسل أمير المؤمنين عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له مصدر الإشاعات الكاذبة التف السبإيون بعمار وكان سودان بن حمران منهم ( الطبري 5 : 99 ) , ولما سير السبإيون متطوعة الفتنة من أوشاب القبائل اليمنية التى ظهرت في مصر في شوال سنة 35 نحو المدينة وجعلوهم أربع فرق كان سودان قائد إحدى هذه الفرق ( الطبري 5 : 103 ) ، ولما وصل متطوعة الفتنة إلى المدينة وخرج لهم محمد بن مسلمة ليعظهم لهم حق عثمان وما في رقابهم من البيعة له رآهم ينقادون لأربعة هذا واحد منهم ( الطبري 5 : 118 ) . وفي 5 : 131 من تاريخ الطبري وصف تسور سودان ومعه آخرون من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان . وفي 5 : 130 بعض تفاصيل ما وقع من سودان عند ارتكابهم الجناية العظمى . ولما أنتهوا من قتل أمير المؤمنين خرج سودان من الدار وهو ينادي : قد قتلنا عثمان بن عفان ( الطبري 5 : 123 ) .
وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ( 1 ) . وحكيم بن جبلة من أهل البصرة ( 2 ) .
…ومالك بن الحارث الأشتر ( 3 ) في طائفة هؤلاء رؤوسهم ، فناهيك بغيرهم …….
وقد كانوا أثاروا فتنة ، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد ، وصاروا في جماعتهم
------------------------------(70/18)
( 1 ) كان أبوه رجلاً مسناً من مسلمة الفتح . وورد ذكر عبد الله بن بديل في الفتنة العظمى على امير المؤمنين عثمان ، فذكر الطبري ( 5 : 124 – 125 ) أن المغيرة بن الأخنس ابن شريق الثقفي حليف بني زهرة خرج هو وعبد الله بن الزبير ومروان وغيرهم يدافعون عن أمير المؤمنين على باب الدار ، فحمل عبد الله بن بديل على الأخنس بن شريق وقتله ونقل الحافظ ابن حجر في ترجمته في الإصابة ( 2 : 280 ) عن ابن الكلبي أن عبد الله ابن بديل وأخاه عبد الرحمن شهدا صفين مع علي وقتلا بها . والظاهر أن أخاه قتل قبله فقد نقل ابن حجر ( في الإصابة 2 : 281 ) عن ابن إسحاق في كتاب الفردوس أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قدم الكوفة 0 أي مع جيش أهل الشام – لقى عبد الله بن بديل ، فنصح له ابن بديل بأن لا يهرق دمه في هذه الفتنة ، فاعتذر عبيد الله بن عمر بأنه يطلب قتل ظلماً , وكيف يكون أخوه قتل ظلماً وقد قتل في فتنة تطوع للمساهمة فيها مختاراً ، بينما عثمان وهو أمير المؤمنين الذي له حق الولاية عليهم كان مبغياً عليه من ابن بديل وامثاله ومن هم اقل منه شأناً ، ومع ذلك لم يقاتل أحداً ، ولم يدافع عن نفسه ، ونهى الناس عن أن يدافعوا عنه أو باشاً قدموا إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مختلف البلاد ليرتكبوا الشر والإثم . وأين عثمان الذي ملآت حسناته الأرض وتعطرت بأريحها السماء ، من عبد الرحمن بن بديل الذي لا يكاد يعرف له التاريخ عملاً .(70/19)
( 2 ) حكيم بن جبلة العبدي من قبائل عبد القيس ، وأصلهم من عمان وسواحل الخليج الفارسي ، وتوطن بالبصرة بعد تمصيرها . وكان حكيم هذا شاباً جريئاً ، وكانت الجيوش الإسلامية التى تزحف نحو الشرق لنشر الدعوة والفتوح تصدر عن البصرة والكوفة ، فكان حكيم بن جبلة يرافق هذه الجيوش ، ويجازف في بعض حملات الخطر ، كما تفعل كتائب ( الكوماندوس ) في هذا العصر . وقد استعملته جيوش امير المؤمنين عثمان في إحدى هذه المهمات عند محاولتها استكشاف الهند كما نوهت بذلك في مقالة ( طلائع الإسلام في الهند ) . ويؤكد شيوخ سيف بن عمر التميمي ( وهو أعرف المؤرخين بتاريخ العراق ) على ما نقله عنه الطبري ( 5 : 90 ) أن حكيم بن جبلة كان إذا قفلت الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع . فشكاه أهل الذمة واهل القبلة إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر أن أحبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه ( أي منعه من مبارحة البصرة ) . فلما قدم عبد الله بن سبأ البصرة نزل على حكيم بن جبلة ، واجتمع إليه نفر ، فنفث فيهم سمومه ، فأخرج ابن عامر عبد الله بن سبأ من البصرة ، فأتى الكوفة فأخرج منها ، ومن هناك رحل ابن سبأ إلى الفسطاط ولبث فيه وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم . وذكر الطبري ( 5 : 104 ) أن السبإرية لما قرروا الزحف من الأمصار على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عدد من خرج منهم من البصرة كعاد من خرج من مصر ، وهم مقسمون كذلك إلى أربع فرق ، والأمير على إحدى هذه الفرق حكيم بن جبلة ، ونزلوا في المدينة في مكان يسمى ذا خشب ، ولما حصبوا أمير المؤمنين عثمان وهو يخطب على المنبر النبوي كان حكيم بن جبلة واحداً منهم ( الطبري 5 : 106 ) ولما رحل الثوار عن المدينة في المرة الأولى بعد مناقشتهم لعثمان وسماعهم دفاعه شبهة قوية بان لهما(70/20)
دخلاً في أفتعال الكتاب المزور على أمير المؤمنين . ولما جاءت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة وأوشكو أن يتفاهموا مع أمير المؤمنين علي على رد الأمور إلى نصابها كان حكيم بن جبلة هو الذي أنشب القتال لئلا يتم التفاهم والاتفاق ( الطبري 5 : 176 وما بعدها ) . وارتكب دناءة قتل امرأة من قومه سمعته يشتم أم المؤمنين عائشة فقالت له : يا ابن الخبيثة أنت أولى بذلك . فطعنها فقتلها ( الطبري 5 : 176 ) ، وحينئذ تخلى قومه عن نصرته إلا الأعمار منهم ، وما زال يقاتل حتى قطعت رجله ، ثم قتل وقتل معه كل من كان في الواقعة من البغاة على عثمان ، ونادى منادى الزبير وطلحة بالبصرة : (( ألا من كان في الواقعة من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم )) فجئ بهم كما يجئ بالطلاب فقتلوا : فما أفلت إلا حرقوص بن زهير السعدي من بني تميم ( الطبري 5 : 180 ) . روى عامر بن حفص عن أشياخه قال : ضرب عنق حكيم رجل من الحد أن يقال له ضخيم فمال رأسه فتعلق بجلده فصار وجهه في قفاه ، الطبري ( 5 : 182 ) .(70/21)
( 3 ) من النخع، وهي قبيلة من قبائل مذحج ، بطل شجاع من أبطال العرب ، كان أول مشاهدة الحربية في اليرموك ، وفيها فقد إحدى عينيه ، ثم شاء الله أن يكون سيفه مسلولاً على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة . ولو أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان ، وكتب الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة الإسلام وتوسيع الفتوح ، لكان له في التاريخ شأن آخر . والذي دفعه في هذا الطريق غلوه في الدين وحبه للرئاسة والجاه ، ولست أدرى كيف اجتمعا فيه . والأشتر أحد اللذين اتخذوا الكوفة دار إقامة لهم ، فلما كانت إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه بانه أهل للولاية والرئاسة ، فأنزلق مع العائبين على الدولة ورجالها ، من الخليفة الأعلى في المدينة إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة . ولما سرق أبو زينب وابو مروع خاتم الوليد من منزله وذهبا به إلى المدينة فشهدا على الوليد بشرب الخمر كما تقدم في ص 96 أسرع الأشتر وآخرون معه بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة ، حتى إذا عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص عاد الأشتر مع سعيد إلى الكوفة ( الطبري 5 : 63 ) . وكان عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي ، فمن كانت له أرض من ألفئ في مكان بعيد عنه يبادل عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين المتبادلين . بهذه الطريقة تخلى طلحة بن عبيد الله عن أسهمه في خيبر وأشترى بها من في أهل المدينة بالعراق أرضاً يقال لها التشاستج اثني رجل على طلحة بن عبيد الله بالجود والناس عنده النشاستج لأعاشكم الله عيشاً رغداً . فقال له عبد الرحمن بن خنيس الأسدي : وددت لو كان هذا الملطاط لك ، والملطاط أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى . فغضب الأشتر واصحابه ==(70/22)
عند معاوية ( 1 ) ، فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة ( 2 ) ، حتى قال له زيد صوحان – فيما يروى ( 3 ) : (( كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش ، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار ( 4 ) )) . فقال له معاوية : (( لا أم لك . أذكر بالإسلام وتذكرني بالجاهلية ! قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم ، فما أنتم ممن ينفع أو يضر . أخرجوا عني ( 5 ) )) .
-----------------------------------(70/23)
== وقالوا للأسدى : تتمنى له من سوادنا ؟ ! فقال والده : ويتمنى لكم أضعافه . فثار الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في مجلس الإمارة حتى غشى عليهما . وسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن رجليهما ، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة بحكمته ، ورد بني أسد عن الأشتر وجماعته : وكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج هؤلاء المشاغبين من بلدهم ، فأرسلهم إلى معاوية في الشام ( الطبري 5 : 85 – 86 ) ثم أخرجهم معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، إلى أن تظاهروا بالتوبة ، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى عثمان توبتهم ، فرضي عنه عثمان وأباح له بالذهاب حيث شاء ، فاختار العودة إلى زملائه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة ( الطبري 5 : 87 –88 ) . وفي الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه وذلك في سنة 34 كان السبإيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة والبصرة بان يثوروا على أمرائهم واتعدوا يوماً ، فلم يستقم ذلك إلا لجماعة الكوفة ، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي ( الطبري 5 : 101 ) . ولما وصل الأشتر من المدينة إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد وجد بين أيديهم كتاباً من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه : لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا . فتشاءموا من هذه الدعوة وآثروا البقاء ، وخالفهم الأشتر فرجع عاصياً بعد توبته ، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في الجرعة مكان مشرف على القادسية ، وهناك تلقوا سعيد بن العاص أمير الكوفة وهو عائد من المدينة قردوه ، ولقى الأشتر مولى لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه . وبلغ عثمان أنهم يريدون لإقالة سعيد بابي موسى الأشعري فاجابهم إلى ما طلبوا ( الطبري 5 : 93 – 94 ) . ولما فشل موعد سنة 34 وأقتصرت الفتنة على ما كان في الجرعة ، واتعد السبإيون للسنة التى بعدها ( سنة 35 )(70/24)
ورتبوا أمرهم على التوجه إلى المدينة مع الحجاج كالحجاج ، وكان الشتر مع خوارج الكوفة رئيساً على فرقة الأربع ( الطبري 5 : 104 ) : وبعد وصولهم إلى المدينة ناقشهم أمير المؤمنين عثمان وبين لهم حجته في كل ما كانوا يظنونه فيه ، فاقتنع جمهورهم بذلك وحملوا رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان وارتحلوا من المدينة للمرة الأولى . إلا أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة ولم يرتحلا معهم ( الطبري 5 : 120 ) . ولما وصل المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم راكب مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم ، وسيأتي الحديث عن ذلك في ص 126 . ونقل الطبري ( 5 : 194 ) أن الأشتر كان في مؤتمر السبإيين الذي عقدوه قبيل ارتحال على من الكوفة إلى البصرة للتفاهم مه طلحة والزبير وعائشة . فقرر السبإييون في مؤتمرهم هذا أن ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل أن يصطلحا عليهم . وفي وقعة الجمل اطصرع عبد الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال عبد الله بن الزبير كلمته المشهورة : (( اقتلوني ومالكاً )) فأفلت منه مالك الأشتر ، روى الطبري ( 5 : 217 ) عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك ، ولو قال ابن الزبير (( اقتلوني والأشتر )) وكانت للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها شئ ، وما زال يضطرب في يدى ابن الزبير حتى افلت ابن عباس على البصرة بلغ الأشتر الخبر باستعمال علي بن عباس فغضب وقال : (( على م قتلنا الشيخ إذن ؟ ! اليمن لعبيد الله ، والحجاز لقم ، والبصرة لعبد الله ، والكوفة لعلى ! )) ثم دعا بدابته فركب راجعاً . وبلغ ذلك علياً فنادى : الرحيل ! ثم أجد السير فلحق به فلم يره أنه بلغه عنه وقال : (( ما هذا السير ؟ سبقتنا ! )) . وخشى إن ترك والخروج أن يوقع في نفس الناس شراً . ثم اشترك الأشتر في حرب صفين . وولاه على إمارة مصر بعد صرف قيس بن سعد بن عبادة عنها . فلما وصل القلزم ( السويس ) شرب شربة عسل فمات ، فقيل إنها كانت مسمومة(70/25)
، وكان ذلك سنة 38 ( الإصابة 3 : 482 ) .
( 1 ) أثاروا الفتنة يوم ضربوا عبد الرحمن بن خنيس الأسدي وأباه وهم في دار الإمارة بالكوفة ، فكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان بإخراجهم إلى بلد آخر ، فسيرهم إلى معاوية في الشام . والذين سيروا إلى معاوية : هم الأشتر النخعي ، وابن الكواء اليشكري ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، وأخوة زيد ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وثابت بن قيس ابن منقع ، وعروة بن الجعد البارقي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي .
( 2 ) نص كلام معاوية كما رواه الطبري ( 5 : 86 ) : (( إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم ، وحويتم مراتبهم ومواريثهم . وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً ، وإن قريشاً لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم . إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة ، فلا تسدوا عن جنتكم . وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور ، ويحتملون منكم المؤؤونة . والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسمونكم ثم لا يحمدكم على الصبر ، ثم تكونون شركاؤهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم )) .
( 3 ) بل القائل أخوة صعصعة .
( 4 ) وقال أيضاً لمعاوية : (( وأما ماذكرت من الجنة ، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا )) أي قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا . ولو ان هذه الكلمة قالها ثائر وهو في قبضة حاكمه – منذ بدأت الحكومات إلى أن تقوم الساعة – ما وجد من حاكمه حلماً وسعة صدر كالذي وجده صعصعة من معاوية مع قدرته عليه .
( 5 ) وجواب معاوية على كلام صعصعة في وصف قريش ومكانتها طويل ونفيس وقد أورده الطبري ( 5 : 86 ) .(70/26)
وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم ( 1 ) ، فكتب إلى عثمان يخبره بذلك ، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه . فأخرجهم معاوية ( 2 ) ، فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( 3 ) ، فحسبهم ، ووبخهم ، وقال لهم : (( اذكروا ما كنتم تذكرون لمعاوية ( 4 ) )) . وحصرهم ،وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول ( 5 ) .
وكتب إلى عثمان بخبرهم ، فكتب إليه أن سرحهم إلى . فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة ، وحلفوا على صدقهم ، وتبرأوا مما نسب إليهم ( 6 ) وخيرهم حيث يسيرون ، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد : كوفة وبصرة ، ومصر ، فأخرجهم . فما أستقورا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا ، حتى انضاف إليهم جمع ( 7 ) .
وساروا إليه ( 8 ) : على أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي ( 9 ) .
-----------------------------
( 1 ) قال ابن الكواء فيما نقله الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق ( 7 : 299 ) وابو جعفر الطبري في تاريخه ( 5 : 92 ) يصف لمعاوية أهل الأحداث من أهل الأمصار : (( أما أهل الأحداث من اهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر ، وأعجزهم عنه . وأما أهل الأحداث من اهل الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير ، وأركبه لكبير . وأما أهل الأحداث من اهل البصرة فإنهم بردون جميعاً ويصدرون شتى . واما أهل الأحداث من أهل مصرفهم أو في الناس بشر ، واسرعه ندامة . وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم ، وأعصاه لمغويهم )) .
( 2 ) وكتب فيهم إلى عثمان : (( إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام ، وأضجرهم العدل . لا يريدون الله بشئ ، ولا يتكلمون بحجة . إنما همهم الفتنة ، وأموال أهل الذمة . والله مبتليهم ومختبرهم ، ثم فاضحهم ومخربهم وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم . فإنه سعيداً ومن قبله عنهم ، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير )) ( الطبري 5 : 87 ) .(70/27)
( 3 ) وكان يلي حمصاً لمعاوية . ويتبعه منطقة الجزيرة حران والرقة .
( 4 ) وذلك بعد قوله لهم : (( يا ألة الشيطان ، لا مرحباً بكم ولا أهل . وقد رجع الشيطان محسوراً وانتم بعد نشاط . خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم . يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم ، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون لمعاوية . انا ابن خالد بن الوليد ، انا ابن من عجمته العاجمات ، انا ابن فاقئ الردة . والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم امصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى )) ( الطبري 5 : 87 ) .
( 5 ) كان كلما ركب أمشاهم ، فإذا مر به ( صعصعة ) قال : يا ابن الحطيئة ، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ؟ مالك لا تقول كما كان بلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية ؟ فيقول ، ويقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله ( الطبري 5 : 87 – 88 ) .
( 6 ) الذي قدم إلى امير المؤمنين عثمان في المدينة هو الأشتر النخعي محده ، وهو الذي ناب عن ابني صوحان وابن الكواء والأخرين في تجديد التوبة التى أعلنوها من قبل لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد : غير أن الفتنة لم تكن مقتصرة على هؤلاء ، بل كانت جرثومتها في يد ابن سبأ الذي اختار الإقامة في الفسطاط ، وكان لها جناح في البصرة ، وللأشتر وإخوانه بقية في الكوفة . بينما كان الأشتر يجدد توبته وتوبة إخوانه في المدينة كان اعوان ابن سبا يكاتبون البصرة والكوفة في موعد يثبون فيه على ولاتهم ، فما رجع الأشتر بتوبته إلى إخوانه الذين كانوا عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى وجد عندهم كتاباص من إخوانهم في الكوفة يدعونهم للأشتراك فيما اتعدوا له، فلم يبتهج بهذه الدعوة إلى الفتنة والشر إلا الأشتر الذي لم يكن قد نسى توبته بعد ، فأسرع إلى الكوفة وانضم إلى الفتنة التى تسمى في التاريخ ( يوم الجرعة ) وكان ذلك في سنة 34 .(70/28)
( 7 ) لما خفق السبإيون في الوثوب على ولاتهم سنة 34 في الموعد الذي وقعت فيه فتنة يوم الجرعة ، اتعدوا لفتنة أخرى بمقياس أوسع يقوسون بها في العام التالي ( سنة 35 ) عند استعداد حجاج بيت الله لقصد الحرمين الشريفين من مصر والبصرة والكوفة ، فيذهب الحجاج للقيام بطاعة الله ، ويذهب داعة الفتنة للمجاهرة بمعصية الله . وقد نظموا أنفسهم في أثنتى عشرة فرقة : أربع فرق من مصر ، وأربع من البصرة ، وأربع من الكوفة . وفي كل فرقة نحو مائة وخمسين مفتوناً ، أي من كل بلد نحو ستمائة رجل .
( 8 ) أي إلى أمير المؤمنين عثمان في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
( 9 ) فارس شاعر ، نزل مصر مع جيش الفتح ، ولم يعرف له في سيرته شئ أنفرد بالامتياز به غير اشتراكه في هذه الفتنة ، مع دعواه أنه كان من الدين بايعوا تحت الشجرة . وأظنه لم يكن من الرءوس المدبرين للفتنة ، ولكن مدبريها استغلوا ميلة إلى الرئاسة ، واستفادوا من سنة ووجاهته بين فرسان القبائل العربية بمصر ، وولوه القيادة على إحدى الفرق الأربع التي خرجت من مصر إلى المدينة ( وقادة الفرق الثلاث الأخرى : كنانة بن بشر التجيبى ، وسدودان بن حمان السكوني ، وقتيرة السكوني . ورئيسهم الأعلى الغافقي بن حرب العكي ) . وكان عبد الرحمن بن عديس في مدة الحصار شديد الوطأة ==
وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة ( 1 ) ، وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك ابن الحارث النخعي ( 2 ) . فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ( 3 ) .(70/29)
فاستقبلهم عثمان . فقالوا : ادع بالمصحف . فدعا به ، فقالوا : افتح التاسعة ( 4 ) – يعني يونس – فقالوا : اقرأ . فقرأ حتى انتهى إلى قوله { آلله أذن لكم أم على الله تفترون } قالوا له : قف . قالوا له : أرأيت ما حميت من الحمى ، أذن الله لك أم على الله أفتريت ؟ قال : أمضه ، إنما نزلت في كذا . وقد حمى عمر ، وزادت الإبل فزدت ( 5 ) . فجعلوا تيبعونه هكذا ، وهو ظاهر عليهم . حتى قال لهم : ماذا تريدون ؟
فاخذوا ميثاقه ، وكتبوا عليه ستاً أو خمساً ( 6 ) : أن المنفي يعاد والمحروم يعطي ، ويوفر الفئ ، ويعدل في القسم ، ويستعمل ذو الأمانة والقوة . فكتبوا ذلك في كتاب . وأخذ عليهم ان لا يشقوا عصاً ولا يفرقوا جماعة . ثم رجعوا راضين ( 7 ) . وقيل أرسل إليهم علياً فاتفقوا على الخمس المذكورة ، ورجعوا راضين . فبينما هم كذلك ( 8 ) ، إذا ركب يتعرض لهم ( 9 ) .
-----------------------------------
== أمير المؤمنين عثمان وأهل بيته . ثم كانت عاقبته القتل في جبل الجليل بالقرب من حمص ، لقبه أحد الأعراب ، فلما أعرتف له بأن من قتله عثمان بادر بقتله على ( معجم البلدان لياقوت : الجليل ) : والخطأ من نسب ابن عديس إلى تجيب ، فإنه بلوي من قضاعة . اما تجيب بنت ثوبان المذحجية فلا ينسب إليها إلا بنو والديها سعد وعدي ابنى اشرس بن شبيب بن السكون من كندة ، واين كندة من قضاعة ! .
( 1 ) تقدم التعريف به . وهو أمير إحدى الفرق الأربع البصرية ( والثلاثة الآخرون : ذريح بن عباد العبدي ، وبشر بن شريح (( الحطم )) وابن المحرش الحنفي . ورئيسهم الأعلى حرقوص بن زهير السعدي .
( 2 ) تقدم التعريف به . وهو أمير إدى الفرق الأربع الكوفية ( والثلاثة الآخرون : زيد بن صوحان العبدي ، وزياد بن النضير الحارثي وعبد الله بن الأصم . ورئيسهم الأعلى عمرو بن الأصم .(70/30)
( 3 ) نزلوا خارج المدينة على ثلاث مراحل منها ، ثم تقدم ثوار البصرة فنزلوا في ذي خشب ، ونزل ثوار الكوفة الأعوص ، ونزل عامتهم بذي المروة .
( 4 ) كذا في المطبوعة الجزائرية ( 2 : 117 ) ولعله خطأ صوابه (( السابعة )) كما في تاريخ الطبري ( 5 : 107 ) ، ويقال إن ذلك ترتيب سورة يونس في مصحف ابن مسعود على ما في الفهرست لابن النديم ص 39 طبع مصر .
( 5 ) تقدم الكلام على الحمى في ص 72 – 73 بقدر ما يحتمل هذا المختصر .
( 6 ) أي اشترطوا عليه شروط أو خمسة في المعاني الآتية .
( 7 ) كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فريقين : رؤساء خادعين على درجات متفارقة ، مرءوسين مخدوعين ، وهم الكثرة التى بثت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك منفيين مظلوميين ومحرومين سلبوا حقهم … الخ . وقد رأيت في ص 54 – 55 شهادة أصدق شاهدين في العراق حينئذ وهما الحسن البصري وصنوه ابن سيرين عن وفرة الأعطيات والأرزاق وأنواع الخيرات ، حتى كان منادي عثمان ينادي بدعوة الناس لها فلا يمنع عنها أحد . ورأيت في ص 100 شهادة الإمام الشعبي عن تعميم الرزق والخير حتى إلى الإماء والعبيد . ولما أصغى عامة الثائرين إلى أجوبة عثمان وعرفوا الحقيقة اقتنعوا ورجعوا ، وكان رجوعهم من طريقين مختلفين باختلاف اتجاه أمصارهم ، فالمصريون اتجهوا شمالاً لغرب ليسايروا ساحل البحر الأحمر إلى السويس ومصر ، والعراقيون من بصريين وكوفيين اتجهوا شمالاً لشرق منجدين ليبلغوا البصرة والكوفة من أرض العراق .
( 8 ) أي فينا العراقيون من بصريين وكوفيين في طريقهم نحو الشرق إلى الشمال والمصريون في طريقهم نحو الغرب إلى الشمال ، وبين الفريقين مراحل بعيدة لأنهما تقدما في السير والمسافة تزداد بعداً بينهما .
( 9 ) أي المصريين وحدهم .(70/31)
ثم يفرقهم ، مراراً ( 1 ) قالوا : مالك ؟ قال : أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ( 2 ) . ففتشوه ، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم و أرجلهم ( 3 ) .
…فأقبلوا حتى قدموا المدينة ( 4 ) ، فأتوا علياً فقالوا له : ألم تر إلى عدو الله .
…كتب فينا بكذا ؟ وقد أحل الله دمه ، قالوا له : فقم معنا إليه ، قال : والله لا أقوم معكم ، قالوا : فلم كتبت إلينا ؟ قال : والله ما كتبت إليكم ، فنظر بعضهم إلى بعض ( 5 ) ، وخرج علي من المدينة .
----------------------------------
( 1 ) ولا يتعرض لهم ثم يفرقهم ويكرر ذلك إلا ليفلت أنظارهم إليه ، ويثير شكوكهم فيه . وهذا ما أراده مستأجرو هذا الرجل لتمثيل هذا الدور ، ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن صرفها الله وأراح المسلمين من شرورها . ولا يعقل أن يكون تدبير هذا الدور التمثيلي صادراً عن عثمان أو مروان أو أي إنسان يتصل بهما ، لأنه لا مصلحة لهما في تجديد الفتنة بعد ان صرفها الله ، وإنما المصلحة في ذلك للدعاة الأولين إلى إحداث هذا الشغب ، ومنهم الأشتر وحكيم بن جبلة اللذان لم يسافرا مع جماعتهما إلى بلديهما ، بل تخلفا في المدينة ( الطبري 5 : 112 ) ولم يكن لهما أي عمل يتخلفان في المدينة لأجله إلا مثل هذه الخطط والتدابير التى لا يفكران أن يؤمئذ في غيرها .
( 2 ) وقد صرحوا بأنه عبد الله بن سعد بن ابي سرح ( الطبري 5 : 120 ) ولا يعقل أن يكتب إليه عثمان أو مروان ، لأنه كان عقب حركة الثوار من مصر متوجهين إلى المدينة كتب إلى عثمان يستأذنه بالقدوم عليه ( الطبري 5 : 122 ) ، وخرج بالفعل من مصر نحو العريش وفلسطين وايلة ( العقبة ) وتغلب محمد بن ابي حذيفة على الحكم في مصر ، وهو عدو لله ورسوله ، وخارج على خليفة المسلمين . فكيف يكتب عثمان أو مروان إلى عبد الله بن سعد وعندهما كتابه الذي يستأذن به في القدوم إلى المدينة ؟ .(70/32)
( 3 ) الأخبار التى جاء فيها أن الراكب غلام عثمان ، وان الجمل جمل الصدقة وان عثمان اعترف بذلك ، كلها أحبار مرسلة لا يعرف قائلها . او مكذوبة اذاعها رواة مطعون في صدقهم وامانتهم . ومضمون الكتاب اضطربت الروايات فيه ، ففي بعض الروايات (( إذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة واحلق رأسه ولحيته واطل حبسه حتى ياتيك أمري . وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك . وسودان بن حمان مثل ذلك . وعروة بن التباع الليثي مثل ذلك )) . وفي رواية (( إذا أتاك محمد بن ابي بكر الصديق – وفلان وفلان – فاقتلهم وأبطل كتابهم وقر على عملك حتى ياتيك رايي )) : وفي رواية ثالثة أن مضمون الكتاب امر عامله بالقتل والقطع والصلب على هؤلاء الثوار . وهذا الاختلاف في مضمون كتاب واحد مما يزيد الريبة في امره .(70/33)
( 4 ) وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين التى كانت متباعدة في الشرق عن قوافل الثوار المصريين في الغرب عادتاً معاً إلى المدينة في آن واحد ، أي أن قوافل العراقيين التى كانت بعيدة مراحل متعددة عن قوافل المصريين ولا علم لها بالرواية المسرحية التى مثلت في البويب رجعت إلى المدينة من الشرق وقت رجوع المصريين من الغرب ووصلتا إلى المدينة معاً كأنما كانوا على ميعاد ! ومعنى هذا أن اللذين استأجروا الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل المصريين استأجروا راكباً آخر خرج من المدينة معه قاصداً قوافل العراقيين ليخبرهم بأن المصريين اكتشفوا كتاباً بعث به عثمان إلى عبد الله ابن سعد في مصر بقتل محمد بن أبي بكر . قال الطبري ( 5 : 105 ) . فقال لهم على : (( كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر ، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا ؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة ! )) ( يشير كرم الله وجهه إلى تخلف الأشتر وحكيم في المدينة ، وأنهما هما اللذان دبرا هذه المسرحية . قال الثوار العراقيون بلسان رؤسائهم : (( فضعوه على ما شئتم . لا حاجة لنا إلى هذا الرجل . ليعتز لنا )) وهذا تسليم منهم بان قصة الكتاب مفتعلة ، وان الغرض الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين عثمان وسفك دمه الذي عصمه الله بشريعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .(70/34)
( 5 ) الطبري ( 5 : 108 ) . وهذا الحوار بين على والثوار مجمع عليه في كل الروايات وهو نص قاطع على أن اليد التى زورت الكتاب على عثمان وبعث إلى العراقيين تخبرهم بذلك وتطلب منهم أن يعودوا إلى المدينة ، هي اليد التى زورت على علي كتاباً إلى الثوار العراقيين بان يعودوا . وقد قلنا في ص 125 أن الثوار فريقان – خادع ومخدوع – فالذين نظر بعضهم إلى بعض عندما حلف علي بانه لم يكتب إليهم هم من الفريق المخدوع يتعجب كيف لم يكتب علي إليهم وقد جاءهم كتابة . ومن ذا الذي يكون قد كتب الكتاب على لسانه إذا لم يكن هو الذي كتبه ؟ وسيأتى في ص 136 أن مسروق بن الأجدع الهمداني – وهو من الأئمة الأعلام المقتدى بهم – عاتب أم المؤمنين عائشة بانها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان ، فأقسمت له بالذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سواداً في بياض . قال سليمان بن مهران الأعمش – أحد الأئمة الأعلام الحفاظ - : (( فكانوا يرون أنه كتب على لسانها )) . أيها المسلمون في هذا العصر وفي كل عصر ، إن الأيدى المجرمة التى زورت الرسائل الكاذبة على لسان عائشة وعلي وطلحة والزبير هي التى رتبت هذا الفساد كله ، وهي التى طبخت الفتنة من أولها إلى آخرها ، وهي التى زورت الرسالة المزعومة على لسان أمير المؤمنين عثمان إلى عامله في مصر في الوقت الذي كان يعلم فيه أنه لم يكن له عامل في مصر ، وقد زورت هذه الرسالة عل لسان عثمان بالقلم الذ زورت به رسالة أخرى على لسان ==
فأنطلقوا إلى عثمان فقالوا له : كتبت فينا كذا . قال لهم إما أن تقيموا أثنين من المسلمين ، أو يمينى – كما تقدم ذكره – فلم يقبلوا ذلك منه ( 1 ) . ونقضوا عهده ( 2 ) وحصروه .(70/35)
وقد روى أن عثمان جئ إليه بالأشتر ، فقال له : يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك ، أو تقص منها ، أو يقتلوك ! فقال : أما خلعى فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض . وأما القصاص ، فصاحباي قبلى لم يقصا من أنفسهما ، ولا يحتمل ذلك بدني ( 3 ) .
وروى أن رجلاً قال له : نذرت دمك . قال : خذ جبتى . فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه ، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين ( 4 ) .
ولقد دخل عليه ابن عمر ، فقال [ له عثمان ] : أنظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك ، قال له [ ابن عمر ] : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا : هل يزيدون على أن يقتلوك ؟ قال : لا . قال : هل يملكون لك جنة أو ناراً ؟ قال : لا . قال : فلا تخلع قميص الله عنك ، فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ( 5 ) .
وقد أشرف عليهم عثمان ، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رجف بهم أحد . واقروا له به في اشياء ذكرها ( 6 ) .
--------------------------------
== على ، كل ذلك ليرتد الثوار إلى المدينة بعد ان اقتنعوا بسلامة موقف خليفتهم ، وان ما كان قد اشيع عنه كذب كله ، وانه كان يتصرف في كل أمر بما كان يراه حقاً وخيراً .
ولم يكن صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبشر منه بالشهادة والجنة هو المجني عليه وحده بهذه المؤامرة السبإية الفاجرة ، بل الإسلام نفسه كان مجنياً عليه قبل ذلك . والأجيال الإسلامية التى تلقت تاريخ ماضيها الطاهر الناصع مشوهاً ومحرفاً هي كذلك ممن جني عليهم ذلك اليهودي الخبيث ، والمنقادون له بخطام الأهواء والشهوات .
( 1 ) لأنهم ما جاءوا ليقبلوا حقاً أو يرجعوا إلى شرع ، وإنما جاءوا ليخلعوه أو يسفكوه دمه .
( 2 ) الذي تقدم في ص 125 أنهم قطعوه على أنفسهم بان لا يشقوا عصاً ولا يفرقوا جماعة .(70/36)
( 3 ) هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 117 – 118 ) ، وفي البداية والنهاية ( 7 : 184 ) ، وفي أنساب الأشراف للبلاذرى ( 5 : 92 ) .
( 4 ) هذا الخبر في كتاب ( التمهيد ) للإمام ابي بكر الباقلاني ص 216 . وأعجب من ذلك ما رواه الطبري ( 5 : 137 – 138 ) أي عمير بن ضابئ البرجمي وكميل ابن زياد النخعي حضرا إلى المدينة ليغتالا عثمان تنفيذا لقرار اتخذوه في الكوفة مع بقية عصابتهم ، فلما وصلا إلى المدينة نكل عمير ، وترصد كميل للخليفة حتى مر به ، فلما التقيا ارتاب منه عثمان ، ووجأ وجهه فوقع على إسته ، فقال لعثمان : أوجعتنى يا أمير المؤمنين ، قال عثمان : أو لست بفاتك ؟ ! قال : لا والله لا إله إلا هو . فاجتمع الناس وقالوا : نفتشه يا أمير المؤمنين فقال : لا . قد رزق الله العافية ، ولا أشتهى أن أطلع منه على غير ما قال . ثم قال لكميل : (( إن كان كما قلت فاقتد مني ( وجثاً ) فوالله ما حسبتك إلا تريدني )) وقال : (( إن كنت صادقاً فأجزل الله ، وغن كنت كاذباً فأذل الله )) وتعد له على قدميه وقال (( دونك ! )) فقال كميل : (( تركت )) . أيها القارئ الكريم ، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة فضلاً عمن دونه ، بل هو موقف المتخلقين بأخلاق الأنبياء . على أن الله يمهل ولا يهمل . فقد جاء الحجاج بعد أربعين سنة فقتل ضائباً وقتل كميلا بما أراداه في هذا الحادث من الفتك برجل خلق قلبه من رحمة الله ، و (( إن الله ليملى للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته )) .(70/37)
( 5 ) أورد البلاذرى هذا الخبر في انساب الأشراف ( 5 : 76 ) من حديث نافع عن ابن عمر . وقبل أن يفتى ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه التضحية النبيلة كان عثمان على بينة من ذلك ونور من الله ، فقد أخرج بن ماجة في مقدمة سننه ( رقم 112 الباب 11 ج ص 41 ) من حديث النعمان بن بشير عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعثمان : (( يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه )) يقول ذلك ثلاث مرات . وفي مسند الإمام أحمد ( ج 6 الطبعة الأولى : ص 75 و 86 و 114 و 149 ) حديث عائشة هذا بالفاظ مختلفة يرويه عنها ابن أختها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهما .
( 6 ) أنظر في مسند الإمام أحمد ( 1 : 59 الطبعة الولى رقم 420 الطبعة الثانية ) حديث ابي سلمة بن عبد الرحمن . وسنن النسائي ==
…وقد ثبت أن عثمان اشرف عليهم وقال : أفيكم ابناً محدوج ؟ أنشدكما الله الستما تعلمان أن عمر قال : إن ربيعة فاجر أو غادر وإني واله لاأجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر ، وغنما مهر أحدهم عند طبيبة . وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة ، حتى ألحتهم بهم ؟ قالوا : بلى .
…قال : أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما ، إن كندة أكلة راس ، وغن ربيعة هي الرأس ، وغن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما ؟ قالا : بلى .
…قال ، اللهم إنهم كفروا معروفي ، وبدلوا نعمتى ، فلا ترضهم عن إمامهم ولا ترض إماماً عنهم .
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه ( 1 ) . ثم قال : قم يا ابن عمر – وعلى ابن عمر سيفه متقلداً – فأخبر به الناس ( 2 ) . فخرج ابن عمر و [ الحسن بن ] علي . ودخلوا فقتلوه ( 3 )(70/38)
…وجاء زيد بن ثابت فقال له : إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون : إن شئت كنا أنصار الله
[ مرتين ] . قال [ عثمان ] لا حاجة لى في ذلك كفوا ( 4 ) .
-----------------------------
== ( 2 : 124 – 125 ) وجامع الترمذي ( 4 : 319 – 320 ) * وفي مسند أحمد ( 1 : 70 الطبعة الأولى رقم 511 الطبعة الثانية من حديث الأحنف بن قيس التميمى . وسنن النسائي مطولاً ومختصراً ( 2 : 65 – 66 و 123 – 124 ) * وفي تاريخ الطبري ( 5 : 225 ) من حديث أبي سعيد مولى أبي سيد الأنصاري .
( 1 ) الذي ديل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من امر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار ، هو أنه كان يكره الفتنة ، ويتقى الله في دماء المسلمين . إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يابها البغاة ، فيرتدعون عن بغيهم ، بلا حاجة إلى أستعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة . وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته ، فأبى أن يضيق على اهل دار الهجرة بجند يساكنهم ( الطبري 5 : 101 ) . وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم اول مهاجر إلى الله في سبيل دينه . فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافاً ، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف . والأخبار بذلك مستفيضة في مصدر أولياته وشانئيه . على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيب تقف في وجوه البغاة ، وتضع حداً لغطرستهم ، لارتاح عثمان لذلك وسر به ، مع ما هو مطمئن إليه من انه لن يموت إلا شهيداً .
( 2 ) في البداية والنهاية ( 7 : 182 ) عن ( مغازي ابن عقبة ) أن ابن عمر لم يلبس سلاحه إلا يوم الدار في خلافة عثمان ، ويوم أراد نجده الحرورى أن يدخل المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن الزبير .(70/39)
( 3 ) في تاريخ الطبري ( 5 : 129 ) : كان آخر من خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير إلى أبيه بوصيته التى كتبها استعداداً للموت ، أمره ان يأتى أهل الدار ( أى المدافعين عنه في ساحة القصر ) فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم . فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم ، فما زال يدعى بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر مامات عليه ، وإنما أوصى عثمان إلى الزبير لأن الزبير كان محل الثقة من كبار الصحابة . روى الحافظ ابن عساكر ( 5 : 362 ) أن سبعة من الصحابة أوصوا به : عثمان وعبد الرحمن ابن عوف ، وابن مسعود ، والمقداد ، ومطيع بن الأسود ، وأبو العاص بن الربيع ، فكان ينفق على ايتامهم من ماله ، ويحفظ لهم اموالهم .
( 4 ) أورده البلاذري في انساب الأشراف ( 5 : 73 ) من حديث ابن سبرين أخرج الحافظ ابن عساكر عن مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدى ( الذي قال فيه الإمام مالك : عليكم بمغازي ابن عقبة ، فإنه ثقة ، وهي أصح المغازي ) أن أبا حبيبة الطائي ( وهو ممن بروى عنهم أبو داود والنسائي والترمذي ) قال : لما حضر عثمان جاء بنو عمرو بن عوف إلى الزبير فقالوا يا أبا عبد الله نحن نأتيك ثم نصير إلى ما تامرنا به ( أى من الدفاع عن أمير المؤمنين ) قال أبو حبيبة : فارسلنى الزبير إلى عثمان فقال : أقرئه السلام وقل (( يقول لك أخوك : إن بنى عمرو بن عوف فأكون رجلاً من اهل الدار يصيبني ما يصيب أحدهم ، فعلت . وغن شئت انتظرت ميعاد بنى عمرو فأدفع بهم عنك فعلت )) قال أبو حبيبة : فدخلت عليه – أي على عثمان ==
…وقال له أبو هريرة : اليوم طاب الضرب . قال : عزمته عليك لتخرجن ( 1 ) .
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده ، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان ، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم ، ولزوم بيوتهم .
فقال له ابن الزبير ومروان : نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح . ففتح عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال ( 2 ) .(70/40)
فقتله المرء الأسود ( 3 ) .
وقيل : :أخذ ابن أبي بكر بلحيته ، وذبحه كنانة ( 4 ) ، وقيل : رجل من اهل مصر يقال له حمار ( 5 ) ، فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله { فسيكفيكم } فإنها كا حكمت إلى الآن .
وروى أن عائشة - رضي الله عنه - قالت : (( غضبت لكم السوط ولا أغضب لعثمان من السيف ! ؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى ، ومصتموه موص الإناء ، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه ( 6 ) .
--------------------------------------
== فوجدته على كرسي ذي ظهر ووجدت رياطاً مطروحة ومراكن مغلوة ، ووجدت في الدار الحسن بن علي ، وابن عمر وأبا هريرة ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، فأبلغت عثمان رسالة الزبير ، فقال : (( الله أكبر ، الحمد لله الذي عصم أخي . قل له : إنك إن تأت الدار تكن رجلاً من المهاجرين ، حرمتك حرمة رجل ، وغناؤك غناء رجل . ولكن انتظر ميعاد بنى عمرو بن عوف فعسى الله أن يدفع بك )) . قال : فقام أبو هريرة فقال : أيها الناس ، لقد سمعت أذناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( تكون بعدي فتن واحداث )) فقلت : وأين النجاء منها يا رسول الله ؟ قال : (( الأمير وحزبه )) واشار إلى عثان . فقال القوم : أئذن لنا فلنقاتل ، فقد أمكنتنا البصائر . فقال [ عثمان ] : (( عزمت على أحد كانت لى عليه طاعة ألا يقاتل )) . فبادر – أي سبق – الذين قتلوا عثمان ميعاد بنى عمرو بن عوف فقتلوه ( وأنظر الخبر مختصراً في كتاب (( نسب قريش للزبيرى ص 103 )) .
…وبنو عمرو بن عوف قبيل كبير من الخزرج ، احد فرعي الأنصار ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى المدينة مهاجراً من مكة نزل ضيفاً عليهم ثلاثة أيام ثم أنتقل إلى نبي النجار .
( 1 ) هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 129 ) .
( 2 ) أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 : 128 ) عن سيف بن عمر التميمى عن أشياخه .(70/41)
( 3 ) كذا في مطبوعه الجزائر . والذي في تاريخ الطبري ( 5 : 135 ) (( الموت الأسود ، والأصول التى طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول التى طبع عليها كتابنا في الجزائر ، ومن الثابت أن أبن سبا كان من ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة ( الطبري 5 : 103 – 104 ) وهو في كل الأدوار التى مثلها كان شديد الحرص على ان يعمل من وراء ستار ، فلعل (( الموت الأسود )) اسم مستعار له اراد أن يرمز به ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام .
( 4 ) هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبى قائد إحدى الفرق المصرية الأربع وكان قبل ذلك أحد الذين التفوا بعمار بن ياسر في الفسطاط ليجعلوه سبإياً ، وهو أول داخل إلى دار عثمان بالشعلة من النفط ليحرق باب الدار ، وهو الذي أخترط السيف ليضعه في بطن امير المؤمنين ، فوقته زوجته نائلة فقطع يدها واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وكانت عاقبة التجيبى القتل مخذولاً في المعركة التى نشبت في مصر بين محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص سنة 38 .
…وقد تحرف (( كنانة )) في مصبوعة الجزائر برسم (( رومان )) ومطبوعة الجزائر كثيرة التحريف .
( 5 ) لم أر هذا الاسم فيمن اجترأوا على ارتكاب الجريمة العظمى ، ولعل النساخ حرفوا اسم سودان بن (( حمران )) ، او اسم عمرو بن (( الحمق )) .
( 6 ) قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة عائدة من الحج ، فاجتمع إليها الناس وخطبت فيهم خطبة بليغة وردت هذه الجملة في آخرها ( الطبري 5 : 165 –166 ) . والمرص : الغسل بالأصابع . والقند : عسل قصب السكر إذا جمد .
…قال مسروق ( 1 ) : فقلت لها : (( عملك ، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه )) . فقالت عائشة : (( والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سواداً في بياض )) . قال الأعمش : فكانوا يرون أنه كتب على لسانها ( 2 ) .
وقد روى أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر .(70/42)
…قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : فهذا أشبه ما روى في الباب وبه يتبين – وأصل المسالة سلوك سبيل الحق – أن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ، ولا قعد عنه . ولو أستنصر ما غلب الف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً أو أكثر من ذلك ألقى بيده إلى المصيبة ( 3 ) .
…وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها : هل يلقى بيده ، او يستنصر ( 4 ) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقى بيده أقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الفتنة ( 5 ) .
…قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر ، وأشتد الخطب على أهل الغضب ، وعظم على الفسقة الكرب ، فتألبوا وألبوا ، وثاروا إلى ، فاستسلمت لأمر الله ، وأمرت كل من حولى ألا يدفعوا عن داري ، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا على ، وأمسيت سليب الدار ، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار ( 6 ) .
…
------------------------------------
( 1 ) هو من أئمة التابعين المقتدي بهم ، توفى سنة 63 . وهو الذى قال لعمار بالكوفة قبل يوم الجمل : يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان ؟ قال : على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا فقال مسروق : والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين ( الطبري 5 : 187 ) .
( 2 ) كما كتب على لسان لعى ولسان عثمان .
( 3 ) لأنه أختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين ، وعثمان أفتدى أمته بدمه مختاراً فما أحسن الكثيرون منا جزاءه ، وإن أوربا وأمريكا تعبدان بشراً بزعم الفداء ولم يكن فيه مختاراً .
( 4 ) من سياسة الإسلام أن يختار المرء في كل حالة أقلها شراً وأخفها ضرراً ، فإذا كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا تردد .(70/43)
وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته – كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه – فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله مقامه في دار الخلود .
( 5 ) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - على ما رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب ( ك 61 ب 25 – ج 4 ص 177 ) وفي كتاب الفتن ( ك 92 ب 9 – ج 8 ص 92 ) من صحيحة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعى . ومن يشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به )) . وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة الجمل أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الطبري 5 : 188 ) .
( 6 ) أشرنا إلى ظروف هذا الحادث في ترجمة المؤلف أول هذا الكتاب ( ص 26 ) .
وكان الذي حملنى على ذلك ثلاثة أمور : أحدها وصاية النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدمة ( 1 ) ، والثاني الاقتداء بعثمان ، الثالث سوء الأحدوثة التى فر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالوحي ( 2 ) . فإن من غاب عنى ، بل من حضر من الحسدة معى ، خفت أن يقول : إن الناس مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم .
وامر عثمان كله سنة ماضية ، وسيرة راضية . فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك ، وانه بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، وانه شهيد ( 3 ) .
وروى أنه قال له في المنام : إن شئت نصرتك ، أو تفطر عندنا الليلة ( 4 ) .
وقد اتنبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا : إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغباً مؤلباً ، وبما جرى عليه راضياً . واخترعوا كتاباً فيه فصاحة وامثال كتب عثمان به مستصرخاً إلى علي . وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين(70/44)
( 5 ) قال القاضي أبو بكر : فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم ، محجوج بغير حجة ( 6 ) . وان الصحابة براء من دمه باجمعهم ، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له راية في إسلام نفسه .
----------------------------------
( 1 ) وقد نقلناها آنفاً من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ، ومن حديث أبي موسى في الكوفة قبل وقعة الجمل .
…( 2 ) وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني المصطلق (( إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأراد عمر أن يقتله فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : (( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )) .
…( 3 ) تقدم بيان ذلك في ص 55 و 56 .
…( 4 ) هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سلام في البداية والنهاية ( 7 : 182 – 183 ) ، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف للبلاذري ( 5 : 82 ) وفي مسند أحمد ( 1 : 72 الطبعة الأولى ، رقم 526 الثانية ) من حديث مسلم ابي سعيد مولى عثمان قال . إن عثمان أعتق عشرين مملوكاً ، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام ، وقال . إنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة في المنام ورايت ابا بكر وعمر ، إنهم قالوا لي : (( اصبر ، فإنك عندنا القابلة . ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقتل وهو بين يديه . وروى الإمام أحمد هذا الحديث عن نائلة زوجة عثمان ( 1 : 73 رقم 536 ) بقريب من هذا . وفي البداية والنهاية ( 7 : 182 ) من حديث أيوب السخيتاني عن نافع عن عبد اله بن عمر بن الخطاب ، ومن طرق اخرى متعددة . وأنظر تاريخ الطبري ( 5 : 125 ) .
…( 5 ) هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها اسفار الأخبار وكتب الأدب . ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان : احدهما طريق أهل الحديث في أن لا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم يستعرضون أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلون من صادقهم ، ويضربون وجه الكذاب بكذبه .(70/45)
والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجايا من يخبر عنه ، ويقارنوه بسيرته ، وهل هو مما ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا ، وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معاً يقوم بهما علماء راسخون فيهما .
( 6 ) كما تبين في هذا الكتاب باسانيده القاطعة وأنظر كتاب ( التمهيد ) للإمام أبي بكر الباقلاني ( ص 220 – 227 ) .
ولقد ثبت – زائداً إلى ما تقدم عنهم – ان عبد الله بن الزبير قال لعثمان : إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم . فائذن لنا . فقال : أذكر الله رجلاً أراق لى دمه ( أو قال دماً ( 1 ) ) .
وقال سليط بن أبى سليط : نهانا عثمان عن قتالهم ، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها ( 2 ) .
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن لى عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه ، فإن أفضلكم غناءً من كف يده وسلاحه ( 3 ) .
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار ، فقال عثمان : أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم ( 4 ) .
فلما قضى الله من أمره ما قضى ، ومضى في قدره ما مضى ، علم أن الحق لا يترك الناس سدى ، وان الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه . ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً وتقى وديناً ، فانعقدت له البيعة . ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلى لجرى على من بها من الأوباش مالا يرقع خرقه . ولكن عزم عليه المهاجرين والأنصار ، ورأى
--------------------------------(70/46)
( 1 ) ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة ابن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي ، فأدرك عثمان قبل أن يقتل ، وشهد المناوشة على باب دار عثمان ، فجلس على الباب من داخل وقال : ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع الا ندعهم حتى نموت . وكان أول من برز للبغاة المهاجمين وقاتل حتى قتل . وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن ابي طالب وهو يقول في تسفيه عمل البغاة .
لا دينهم ديني ولا أنا منهم حتى أسير إلى طمار شمام
أي إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه . وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله - وكان يعرف بالسجاد لكثرة عبادته - وهو يقول :
أنا ابن من حامى عليه بأحد ورد أحزاباً على رغم معد
أنظر تاريخ الطبري ( 5 : 128 – 129 ) .
( 2 ) رواه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب ( 2 : 118 – 119 هامش الإصابة ) من حديث ابن سبرين عن سليط . وأورده الحافظ ابن حجر مختصراً في الإصابة ( 2 : 72 ) .
( 3 ) وفي تاريخ الطبري ( 5 : 127 ) أن عثمان دعا عبد الله بن عباس فقال له : أذهب فأنت على الموسم ( أى على إمارة الحج ) فقال ابن عباس : (( والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلى من الحج )) . فأقسم عليه لينطلقن ابن عباس على الموسم تلك السنة .(70/47)
( 4 ) وفي البداية والنهاية ( 7 : 181 ) : كان الحصار مستمراً من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة . فلما كان قبل ذلك بيوم ، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار – وكانوا قريباً من سبعمائة ، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله ابن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه - : (( أقسم على من ولى عليه حق ان يكف يده وان ينطلق إلى منزله )) قال لرفيقه (( من أغمد سيفه فهو حر )) ، فبرد القتال من داخل ، وحمى من خارج . حتى كانت الساعة التى تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه فانتدب للخليفة رجل من البغاة فدخل عليه البيت فقال : أخلعها وندعك ، فقال : (( ويحك )) والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ، ولا تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا وضغت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله عز وجل . وأنا على مكاني حتى يكرم الله اهل السعادة ويهين أهل السقاء ( الطبري 5 : 130 ) . ويكفى لبيان ما كان لهذه الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف ( 5 : 103 ) عن المدائني عن سلمة ابن عثمان عن على بن زيد عن الحسن قال : دخل علي يوماً على بناته وهن يمسحن عيونهن فقال : ما لكن تبكين ؟ قلن : نبكى على عثمان . فبكى وقال : ابكين …..
ذلك فرضاً عليه ، فأنقاد إليه ( 1 ) .
…وعقد له البيعة طلحة ، فقال الناس : بايع علياً يد شلاء ، والله لا يتم هذا الأمر ( 2 ) .
…فإن قيل : بايعاً مكرهين ( 3 ) . قلنا : حاشا لله أن يكرها ، لهما ولمن بايعها . ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك ، لأن واحداً أو أثنين تنعقد البيعة بهما وتتم ، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له ، وهو مكره على ذلك شرعاً . ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما ، ولا في بيعة الإمام ( 4 ) .(70/48)
…واما من قال يد شلاء وأمر لا يتم ، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ، ولم يكن كذلك ( 5 ) .
…فإن قيل : فقد قال طلحة : (( بايعت واللج على قفى ( 6 ) )) . قلنا : اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (( القفا )) لغة (( قفى )) كما يجعل في (( الهوى )) : (( هوى )) وتلك لغة هذيل لا قريش ( 7 ) فكانت كذبة لم تدبر .
…
-----------------------------------
…( 1 ) في تاريخ الطبري ( 5 : 155 ) عن سيف بن عمر التميمى عن أشياخه قالوا : بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه : يأتى المصريون علياً فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة ( أي يختبئ في بساتينها ) فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالهم … فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا : إنك من اهل الشورى فرأينا فيك مجتمع . فأقدم نبايعك . فبعث إليهم : وإنى وابن عمر خرجنا منها ، فلا حاجة لى فيها . ثم إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا : انت ابن عمر فقم بهذا الآمر . فقال : إن لهذا الأمر انتقاماً ، والله لا أتعرض له فألتمسوا غيري . وأخرج الطبري ( 5 : 156 ) عن الشعبي قال : أتى الناس علياً وهو في سوق المدينة وقالوا له : ابسط يدك نبايعك . قال : لا تعجلوا ، فإن عمر كان رجلاً مباركاً ، وقد أوصى بها شورى ، فأمهلوا يجتمع الناس ويتناشرون . فارتد الناس عن على . ثم قال بعضهم : إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الآمر لم نامن اختلاف الناس وفساد الأمة . فعادوا إلى على ، فأخذ الأشتر بيده ، فقبضها علي . فقال أبعد ثلاثة ؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حيناً . فبايعته العامة . وأهل الكوفة يقولون : أول من بايعه الأشتر . وروى سيف عن ابي حارثة محرز العبشمى وعن ابي عثمان يزيد بن أسيد الغساني قالا : لما كان يوم الخميس 0 على راس خمسة أيام من مقتل عثمان جمعوا أهل المدينة ، فوجدوا(70/49)
سعداص والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له … فلما أجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : انتم أه الشورى وانتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة ، فأنظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع . فقال الجمهور : على بن أبي طالب نحن به راضون …. فقال على : دعوني والتمسوا غبرى …. فقالوا : ننشدك الله ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخالف الله ؟ فقال : إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فإنما أنا كأحدكم ، إلا أنى أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، ثم أفترقوا على ذلك واتعدوا الغد ( أي يوم الجمعة ) : فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد ، جاء على حتى صعد المنبر فقال : (( يا أيها الناس عن ملأ واذن . إن هذا أمركم ، ليس لأحد على أحد )) فقالوا (( نحن على ما فارقناك عليه بالأمس )) . وهذه الوقائع على بساطتها تدل على ان بيعة على كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرها وفي إبانها ، وانها مستمدة من رضا الأمة في حينها ، لا من وصية سابقة مزعومة ، أو رموز خيالية موهومة .
…( 2 ) قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب . رواه الطبري ( 5 : 153 ) عن أبي المليح الهذلي .
…( 3 ) يعني طلحة والزبير .
…( 4 ) القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة ، لا على أنه رأى له وللإمام ابي بكر الباقلاني كلام سديد في ( التمهيد ) ص 231 . وانظر ص 167 – 169 من كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) لابن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتابه ( الفصل ) .
…( 5 ) وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر كان أول من بايع . ولو كانت يد طلحة هى الأولى في البيعة لكانت أعظم بركة ، لأنها يد دافعت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم إمامة الشهيد المبشر بالجنة .
…( 6 ) أى : والسيف على قفاى ، لحالة الإرهاب التى كانت سائدة على المدينة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان .(70/50)
…( 7 ) بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل ، فقد قال ابن الأثير في النهاية ( مادة لجج ) انها لغة طائية ، يشددون ياء المتكلم .
وأما قولهم (( يد شلاء )) لو صح فلا متعلق لهم فيه ، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم لها كل أمر ، ويتوفى بها من كل مكروه ( 1 ) . وقد تم الأمر على وجهه ، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه .
فإن قيل : بايعوه على ان يقتل عثمان . قلنا : هذا لا يصح في شرط البيعة ، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق ، وهو ان يحضر الطالب للدم ، ويحضر المطلوب ، وتقع الدعوى ، ويكون الجواب ، وتقوم البينة ، ويقع الحكم . فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق ، او فعل غير محقق ، أو سماع كلام ، فليس ذلك في دين الإسلام ( 2 ) قالت العثمانية : تخلف عنه من الصحابة ، منهم سعد بن ابي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر ، وأسامة بن زيد وسواهم من نظراتهم .
قلنا : أما بيعته فلم يتخلف عنها . وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم ، لأنها كانت مسالة اجتهادية ، فاجتهد كل واحد وأعمل نظرة و أصاب قدره ( 3 ) .
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلى أستأذن طلحة والزبير علياً في الخروج إلى مكة ( 4 ) .
---------------------------------(70/51)
…( 1 ) كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت يوم أحد حين انهزم المسلمون ، فصبروا ولزموا . ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وكان لا يخطئ رميه – فاتقاه طلحة بيده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان ذلك سبب الشل في يده من الخنصر . وأقبل رجل من بني عامر يجر رمحاً على فرس كميت أغر مدججاً من الحديد يصبح : أنا أبو ذات الودع دلوني على محمد . فضرب طلحة عرقوب فرسه ، فاكتسعت . ثم تناول رمحه فلم يخطئ به عن حدقته ، فخار كما يخور الثور ، فما برح طلحة واضعاً رجله على خده حتى مات . قالت بنتاه – عائشة وأم إسحاق - : جرح أبونا يوم أحد أربعاً وعشرين جراحة في جميع جسده ، وقد غلبه الغشى ، وهو مع ذلك محتمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كسرت رباعيتاه يرجع به القهقري ، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رأى طلحة : (( من احب أن أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )) رواه أبو نعيم الأصبهاني . وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كان يوم طلحة . وسمع علي بن ابي طالب رجلاً يقول بعد يوم الجمل . ومن طلحة ؟ فزبره علي وقال : إنك لم تشهد يوم أحد ، لقد رايته وإنه ليحترس بنفسه دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن السيوف لتغشاه وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أخرج الحافظ ابن عساكر ( 7 : 78 ) من طريق ابن مندة عن طلحة قال : سماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ( طلحة الخير ) ، وفي غزوة العسرة ( طلحة الفياض ) ويوم حنين ( طلحة الجود ) .(70/52)
…( 2 ) وانظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 231 و 235 و 236 : وحقيقة موقف على من قتلة عثمان عند البيعة له كانوا هم المسئولين على زمام الأمر في المدينة وفي حالة الإرهاب التى كانت سائدة يومئذ لم يكن في استطاعة على ولا غيره أن يقف منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان . مع الفارق العظيم بين دم أمير المؤمنين الخليفة الراشد ، والأسير الحربي المجوسى الذى قال إنه أسلم بعد وقوعه في الأسر . ولما أنتقل علي من المدينة إلى العراق ليكون على مقربة من الشام أنتقل معه قتلة عثمان ولا سيما أهل البصرة والكوفة منهم ، فلما صاروا في بصرتهم وكوفتهم في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، ولا شك أن علياً أعلن البراءة منهم وأراد أن يتفق مع أصحاب الجمل على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن ، فأنشب قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر اصحاب الجمل ، وتمكن أصحاب الجمل من قتل البصريين من قتلة عثمان إلا واحداص من بني سعد ابن زيد مناة بم تميم حمته قبيلته فلما أتسعت الأمور وسفكت الدماء كانت على في موقف يحتاج فيه إلى بأس هؤلاء المعروفين بانهم من قتلة عثمان وفي مقدمتهم الأشتر وامثاله ، وان كثيرين منهم أنقلبوا على علي بعد ذلك وخرجوا عليه كفره . ويقول علماء السنة والمؤرخون : إن الله كان بالمرصاد لقتلة عثمان ، فانتقم منهم والنكال واحداً بعد واحد ، حتى الذين طال بهم العمر إلى زمن الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم جزاء بما قدمت أيديهم والله أعدل الحاكمين .
…( 3 ) وأنظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 233 – 134 .(70/53)
…( 4 ) وممن استاذنه في الخروج إلى مكة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وسبب ذلك أن علياً لما تمت له البيعة عزم على قتال أهل الشام . وندب أهل المدينة إلى الخروج معه فابوا عليه ، فطلب عبد الله بن عمر وحرضه على الخروج معه فقال : إنما أنا رجل من اهل المدينة إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة ، لكن لا أخرج للقتال في هذا العام ، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة ( ابن كثير 7 : 230 ) وكان الحسن بن علي مخالفاً لأبيه في أمر الخروج لمقاتلة أهل الشام ومفارقته المدينة كما ترى فيما بعد .
…فقال لهما على : لعلكما تريدان البصرة والشام فأقسما ألا يفعلا ( 1 ) .
…وكانت عائشة بمكة ( 2 ) .
…وهرب عبد الله بن عامر عثمان على البصرة إلى مكة ، ويعلى ابن أمية عامل عثمان على اليمن .
…فاجتمعوا بمكة كلهم ، ومعهم مروان بن الحكم . واجتمعت بنو أمية . وحرضوا على دم عثمان . وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة الف درهم . وأعطى لعائشة (( عسكراً )) جملاً أشتراه باليمن بمائتي دينار . فأرادوا الشام ، فصدهم ابن عامر وقال : لا ميعاد لكم بمعاوية ، ولى بالبصرة صنائع ، ولكن إليها .
…فجاءوا إلى ماء الحوأب ( 3 ) ، ونبحت كلابه ، فسألت عائشة فقيل لها : هذا ماء الحوأب . فردت خطامها عنه ، وذلك لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ( 4 ) ، التى تنبحها حلاب الحوأب ؟ )) فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب ، وخمسون رجلاً إليهم
( 5 ) ، وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام ( 6 ) .
…وخرج على إلى الكوفة ( 7 ) ، وتعسكر الفريقان والتقوا ( 8 ) ، وقال عمار – وقد دنا من هودج عائشة - : ما تطلبون ؟ قالوا : نطلب دم عثمان .
-----------------------------------
…( 1 ) قول على لهما وقسمهما له من زيادات مرتكبي ( القاصمة ) ورواتها .(70/54)
…( 2 ) ذهبت إليها وامهات المؤمنين لما قطع البغاة الماء عن أمير المؤمنين عثمان وأخذ يستسقى الناس ، فجاءته أم حبيبة بالماء فأهانوها ، وضربوا وجه بغلتها ، وقطعوا حبل البغلة بالسيف ( الطبري 5 : 127 ) ، فتجهز أمهات المؤمنين إلى الحج فراراً من الفتنة ( ابن كثير 7 : 229 ) .
…( 3 ) الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة . قاله أبو الفتوح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري فيما نقله عنه ياقوت في معجم البلدان . وقال أبو عبيد البكري في معجم ما أستعجم : ماء قريب من البصرة ، على طريق مكة إليها . سمى بالحوأب بنت كلب ابن وبرة القضاعية .
…( 4 ) الأديب : الأدب ( أظهر الإدغام لأجل السجعة ) ، والأدب : كثير وبر الوجه . قاله ابن الأثير في النهاية .
…( 5 ) لم يشهدوا ، ولم تقل عائشة ، ولم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسنين ذلك في موضعه من ( العاصمة ) ص 161 – 162 .
…( 6 ) شهادة الزور تصدر عن رعاع لا يخافون الله كأبي زبيب وابي المورع كما تقدم في ص 96 – 97 ، تصدر عمن يزعم لنفسه أنه قادر على خلق شخصية لم يخلقها الله كالذي أخترع اسم ثابت مولى أم سلمه كما تقدم في ص 91 ، وأما طلحة والزبير – المشهور لهما بالجنة من نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى – فكأنا أسمى أخلاقاً وأكرم على أنفسهما وعلى الله من ان يشهدا الزور . وهذه الفرية عليهما من مبغضى اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست أول فرية لهم في الإسلام ، ولا آخرها ما يفترونه من الكذب عليه وعلى اهله .(70/55)
…( 7 ) خرج من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة 36 ، ليكون على مقربة من الشام . وكان ابن هالحسن يود لو بقى بالمدينة قيتخذها دار خلافته على مقربة من قبله فلا يبرحها ( الطبري 5 : 171 وأنظر 5 : 163 ) وقد سلك علي من المدينة إلى العراق طريق الربذة وفيد والثعلبية والأساود وذي قار . ومن الربذة أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فرجعا إليه وهو في ذي قار بأن أبا موسى وأهل الحجى من الكوفيين يرون القعود ، فأرسل الأشتر وابن عباس ، ثم أرسل بنه الحسن وعماراً لأستمالة القوم إليه . وبينما هو في الطريق انشب عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة القتال مع أصحاب الجمل . وفي الأساود جاءه خبر مصرع حكيم بن جبلة وقتلة عثمان . ثم جاء عثمان بن حنيف إلى علي وهو في الثعلبية منتوف اللحية ومغلوباً على امره . وفي ذي قار أقام على معسكره ، ثم سار بمن معه إلى البصرة وفيها أصحاب الجمل .
…( 8 ) بعد وصول علي إلى ذي قار وقيام القعقاع بن عمرو بمساعي التفاهم تقدم علي بمن معه إلى البصرة فأسرع قتلة عثمان إلى إحباط مساعي افصلاح بإنشاب القتال .
…قال : قتل الله في هذا اليوم الباغى والطالب بغير الحق ( 1 ) .
…والتقى علي والزبير ، فقال له علي : أتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك تقاتلني ؟ فتركه ورجع . وراجعه ولده ، فلم يقبل . وأتبعه الأحنف من قتله ( 2 ) .
…ونادى علي طلحة من بعد : ما تطلب ؟ قال : دم عثمان . قال : قاتل الله أولانا بدم عثمان . ألم تسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ، (( اللهم وال من ولاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله )) وانت أول من بايعنى ونكث ( 3 ) .
عاصمة
…اما خروجهم إلى البصرة لا إشكال فيه .
…ولكن لأي شئ خرجوا ؟ لم يصح فيه نقل ، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله ، وكلام المتعصب لا يسمع . وقد دخل على المتعصب من يريد الطعن في الإسلام واستفاض الصحابة .(70/56)
…فيحتمل أنهم خرجوا خلعاً لعلى لأمر ظهر لهم ( 4 ) ، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة ، وقاموا يطلبون الحق .
…ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان ( 5 ) .
…ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين ، وضم نشرهم ، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا . وهذا هو الصحيح ، لا شئ سواه ، وبذلك وردت صحاح الأخبار .
…فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة :
…اما بيعتهم كرهاً فباطل قد بيناه ( 6 ) .
…واما خلعهم فباطل ، لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع ، فيمكن أن يولى واحد أو إثنان ، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان ( 7 ) .
-------------------------------
( 1 ) كان الفريقان يطلبان التفاهم وجمع الكلمة ، أما الباغي فهم قتلة عثمان ، وقد قتلهم الله جميعا إلا واحد منهم ، وسيأتي بيانه .
( 2 ) الذي قتل الزبير عمير بن جرموز وفضاله بن حايس ونفيع التميمي . والأحنف أتقي الله من أن يأمرهم بقتله ، بل سمعوه يتذمر من قتال المسلمين بعضهم مع بعض فلحقوا بالزبير فقتلوه ( الطبري 5 : 198 ) .
( 3 ) كان طلحة أصدق إيمانا وأسمي أخلاقا من أن يبايع وينكث . وإنما كان يريد جمع الكلمة للنظر في أمر قتلة عثمان ،استجاب علي لهذه الدعوة كما سيأتي ص 156 ، ولكن الذين جنوا علي الإسلام أول مرة بالبغي علي عثمان كانوا أعداء الله مرة أخري بإنشاب القتال بين هذين الفريقين من المسلمين .
( 4 ) وهذا الاحتمال بعيد عن هؤلاء الأفاضل الصالحين ، ولم يقع منهم ما يدل عليه ، بل الحوادث كلها دلت علي نزاهتهم عنه . وإلي هذا ذهب الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13 – 41 : 42 ) فنقل عن كتاب ( أخبار البصرة ) لعمر بن شبة قول المهلب : " لإن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا إلي أحد منهم ليولوه الخلافة " .(70/57)
( 5 ) وهذا ما كانوا يذكرونه ، إلا أنهم يريدون أن يتفقوا مع علي علي الطريقة التي يتوصلون بها إلي ذلك . وهذا ما كان يسعي به الصحابي المجاهد القعقاع بن عمرو ، ورضي به الطرفان كما سيأتي .
( 6) في ص 143 – 144 .
( 7 ) انظر ( التمهيد ) للباقلاني ص 211 – 212 وص 232 في موضوع الخلع .
…وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان ، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة ، ويمكن أن يجتمع الأمران ( 1 ) .
…ويروي أن في تغيبهم ( 2 ) قطع الشغب بين الناس . فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم - رجاء أن يرجع الناس . إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم . واحتجوا عليها ( 3 ) بقوله تعالي : { لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ،
( النساء : 114 ) . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلح وأرسل فيه . فرجت المثوبة ، واغتنمت القصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها .
…وأحس بهم أهل البصرة ، فحرض من كان بها من المتألبين علي عثمان الناس ، وقالوا : اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه . فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن حبلة ( 4 ) فلق طلحة والزبير بالزابوقة ، فقتل حكيم ( 5 ) ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا ( 6 ) لما أصابه شيء . وأي خير كان له في المدافعة ، وعن أي شيء كان يدافع ؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة ، وإنما جاءوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة ، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم ، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد .
…
-------------------------------------
…( 1 ) واجتماع الأمرين هو الذي كاد يقع ، لولا أن السبإبين أحبطوه . فأصحاب الجمل جاءوه في قتل عثمان ، ولم يجيئوا إلا لذلك . إلا أنهم أرادوا أن يتفاهموا عليه مع علي لأن التفاهم معه أول الوسائل للوصول إلي ما جاءوا له .
…( 2 ) أي تغيب طلحة والزبير وعائشة عن المدينة .
…( 3 ) لما أقنعوها بالخروج إلي البصرة .(70/58)
…( 4 ) عثمان بن حنيف أنصاري من الأوس ، كان عند هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي المدينة أحد الشبان الأوسيين الخمسة عشر الذين انضموا إلي عبد عمرو يسمي في الجاهلية الراهب فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الفاسق ( الطبري 3 : 16 ) . والظاهر أن عثمان ابن حنيف عاد من مكة وأسلم قبل وقعة أحد لأنها أول مشاهدة ( الإصابة 2 : 459 ) وتزعم الشيعة أنه شاغب علي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق في أول خلافته ( تنقيح المقال للمامقاني 1 : 198 ) وأعتقد أن هذا من كذبهم عليه ، وقد تولي لعمر مساحة أرض العراق وضرب الجزية والخراج علي أهلها ، فلو صح ما زعموه من شغبه علي أبي بكر لتنافي هذا مع استعمال عمر له ، إلا أن يكون تاب . ولما بويع لعلي آخر سنة 35 واختار ولاته في بداية سنة 36 ولي عثمان بن حنيف علي البصرة ( الطبري 5 : 161 ). ولما وصل أصحاب الجمل إلي الخفير علي أربعة أميال من البصرة أرسل إليهم علي خزا عه يوم الفتح ليعلم له علمهم ، فلما عاد إليه وذكر له حديثه مع أصحاب الجمل قال له عثمان بن حنيف : أشر علي يا عمران . وأشار عليه هشام بن عامر الأنصاري – أحد الصحابة المجاهدين الفاتحين – بأن يسالمهم حتى يأتي أمر علي ، فأبي عثمان بن حنيف ونادي في الناس ، فلبسوا السلاح ، وأقبل عثمان علي الكيد ( الطبري 5 : 174 – 175 ) ، وكانت العاقبة فشله وخروج الأمر من يده إلي أيدي أصحاب الجمل . ووقع ابن حنيف في أسر الجماهير فنتفت لحيته ، ثم أنقذه أصحاب الجمل منهم فانسحب إلي معسكر علي في الثعلبية ثم في ذي قار . هذا هو عثمان بن حنيف وموقفه من أصحاب الجمل . أما حكيم بن جبلة فالقارئ يعلم أنه من قتله أمير المؤمنين عثمان ، وقد تقدم التعريف به في ( ص 115 – 116 ) .(70/59)
…( 5 ) الزابوقة : موضع قريب من البصرة كانت فيه وقعة الجمل في دورها الأول بعد أن خطب طلحة والزبير وعائشة في المربد . أما مصرع حكيم بن جبله فكان بعد المعارك الأولي التي انتهت بغلبة أصحاب الجمل واستيلائهم علي الحكم في البصرة ، فتمرد حكيم بن جبله علي هذه الحاله الجديدة وقاتل مع ثلاثمائة من أعوانه حتى قتل .
…( 6 ) أي مقاتلا .
فلما واصلوا إلي البصرة تلقاهم الناس بأعلي المربد مجتمعين ( 1 ) ، حتى لو رمى حجر ما وقع إلا علي رأس إنسان . فتكلم طلحة ( وتكلم الزبير ) وتكلمت عائشة - رضي الله عنه - ( 2 ) .
وكثر اللغط ( 3 ) وطلحة يقول (( أنصتوا ! )) فجعلوا يركبونه ولا ينصتون ، فقال (( أُف ، أُف . فراش نار ، وذباب طمع )) . وأنقلبوا على غير بيان ( 4 ) .
وانحدروا إلى بني نهد ، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل ( 5 ) .
والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف – عامل علي على البصرة – وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال ، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا ، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم على ( 6 ) .
وروى أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ . فقتل بعد الصلح ( 7 ) وقدم على البصرة ( 8 ) ، وتدانوا ليتراءوا ( 9 ) ، فلم يتركهم أصحاب الأهواء وبادروا بإراقة الدماء . واشتجر الحرب .
----------------------------------(70/60)
( 1 ) مربد البصرة : موضع كانت تقام فيه سوق الإبل خارج البلد ، ثم صارت تكون فيه مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء . ثم أتسع عمران البصرة فدخل المربد في العمران فكان من أجل شوارعها ، وسوقة من أجل أسواقها ، وصار محله عظيمة سكنها الناس . ولما انحطت منزلة البصرة وهرم عمرانها تضاءلت فأمسى المربد بائناً عنها حتى كان بينه وبين البصرة في زمن ياقوت ثلاثة أميال ، والمربد خراب . كالبلدة المفردة في وسط البرية . وكان موضع البصرة يؤمئذ قريباً من موضع ضاحيتها الزبير في أيامنا هذه .
( 2 ) كان أصحاب الجمل في ميمنة المربد ، وعثمان بن حنيف ومن معه في ميسرته ، وقد لخص الطبري ( 5 : 175 ) خطب طلحة والزبير وعائشة راوياً ذلك عن سيف ابن عمر التميمى عن شيوخه ، وهم أعرف الإخباريين بحوادث العراق .
( 3 ) لأن الذين في الميسر كانوا يقولون تعليقاً على خطبتي طلحة والزبير : فجراً وغدراً ، وقالا الباطل ، وأمر به . قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان . والذين كانوا في الميمنة : صدقا ، وبرا ، وقالا الحق ، وأمرا بالحق ، وتحادثى الناس وتخاصبوا وأرهجوا . إلا أنه لما أنتهت عائشة من خطبتها ثبت الذين مع أصحاب الجمل على موالاتهم لهم ، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين فقالت فرقة : صدقت والله وبرت وجاءت بالمعروف ، وقال الآخرون : كذبتم ما نعرف ما تقولون . فتحادثوا وتحاصبوا وأرهجوا .
( 4 ) لما رأت عائشة ما يفعل أنصار عثمان بن حنيف أنحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقتين لابن حنيف حتى وقفوا في موضع آخر . ومال بعض الذين كانوا مع ابن حنيف إلى عائشة وبقى بعضهم مع عثمان بن حنيف ( الطبري 5 : 175 ) .(70/61)
( 5 ) حفظ لنا الطبري ( 5 : 176 – 177 ) وصفاً دقيقاً نقله سيف بن عمر التميمى عن شيخيه محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة وطلحة بن الأعلم الحنفي عن الموقف السلمى لأصحاب الجمل في هذه الوقعة ، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال . قالا : وامرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بنى مازن ثم حجز الليل بين الفريقين . وفي اليوم التالى أنتقل أصحاب الجمل إلى جهة دار الرزق ، وأصبح عثمان بن حنيف وحكيم ابن جبلة فجددا القتال ، وكان حكيم يطيل لسانه بسبب أم المؤمنين ، ويقتل من يلومه على ذلك من نساء ورجال ، ومنادى عائشة يدعو الناس إلى الكف عن القتال فيأبون ، حتى إذا مسهم الشر وعضهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح .
( 6 ) ونص كتاب الصلح في تاريخ الطبري ( 5 : 177 ) ولما بلغ علياً ما وقع كتب إلى عثمان بن حنيف بصفة بالعجز . وجمع طلحة والزبير الناس وقصدوا المسجد وانتظروا عثمان بن حنيف فأبطأ ولم يحضر ، ووقعت فتنة في المسجد من رعاع البصرة أتباع حكيم بن جبلة ، وكان لها رد فعل من اناس ذهبوا إلى عثمان بن حنيف ليحضروه فتوطأ ه الناس وانتفوا شعر وجهه ، أمرهم بذلك مجاشع بن مسعود السلمى زعيم هوازن وبنى سليم والأعجاز من قبائل البصرة ( الطبري 5 : 178 ) .
( 7 ) وبيان ذلك في تاريخ الطبري ( 5 : 179 – 182 ) وأنظر كتابنا هذا ص 116 .
( 8 ) فنزل مكاناً منها يسمى الزاوية . وكان أصحاب الجمل نازلين مكاناً منها يسمى الفرضة .(70/62)
( 9 ) عند موضع قصر عبيد الله بن زياد ، وكان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 ( الطبري 5 : 199 ) . وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمى قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة ، فاستجاب له اصحاب الجمل وأذعن على لذلك ، وبعث على إلى طلحة والزبير يقول : (( إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فنظر في هذا الأمر )) ، فأرسلا إليه : (( إنا على ما فارق عليه القععقاع بن عمرو من الصلح بين الناس )) . قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 7 : 239 ) : فأطمانت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق باصحابه من الجيشين ==
وكثرت الغوغاء على البوغاء . كل ذلك حتى لا يقع برهان ، ولا يقف الحال على بيان ، ويخفى قتلة عثمان . وإن واحداً في الجيش يفسد تدبيره ، فكيف بالف ! .
وقد روى أن مروان لما وقعت عينه في الاصطناف على طلحة قال : لا نطلب أثراً بعد عين ، ورماه بسهم فقتله ( 1 ) . ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب ، ولم ينقله ثبت .
وقد روى [ أنه ] اصابه سهم بامر مروان ، لا أنه رماه ( 2 ) .
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن يريقوا دماءهم ( 3 ) فأصابه سهم غربٍ فقتله ( 4 ) ، ولعل طلحة مثله ، ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود ، من حل العرى ونقض العهود . وكانت آجالا حضرت ، ومواعيد انتجزت ( 5 ) فإن قيل : لم خرجت عائشة - رضي الله عنه - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لهن في حجة الوداع
----------------------------------(70/63)
== فلما امسوا بعث على عبد الله بن عباس إليهم ، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى على وعولوا جميعاً على الصلح ، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا للعافية . وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط ، قد اشرفوا على الهلكة . وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر ، واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر . فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم ، وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالاً ( وأنظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير تاريخ الطبري 5 : 202 – 203 ومنهاج السنة 2 : 185 و 3 : 225 و 341 والمنتقى منه للذهبي 223 و 404 ) . وهكذا أنشبوا الحرب بين على وأخويه الزبير وطلحة ، فظن أصحاب الجمل أن علياً غدر بهم وظن على ان إخوانه غدروا به ، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في االجاهلية ، فكيف بعد ان بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن .
( 1 ) آفة الأخبار رواتها . وفي العلوم الإسلامية علاج آفة الكذب الخبيثة ، فإن كل راوى خبر يطالبه الإسلام بأن يعين مصدره على قاعدة (( من أين لك هذا ؟ )) . ولا نعرف أمة مثل هذه الدقة في المطالبة بمصادر الأخبار كما عرفه المسلمون ، ولا سيما أهل السنة منهم . وقد أشاد بهذه المزية لعلماء السنة الدكتور أسد رستم في كتابه ( مصطلح التاريخ ) ، وهذا الخبر عن طلحة ومروان (( لقيط )) لا يعرف أبوه ولا صاحبه ، وما دام لم ينقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات فإن للقاضي ابن العربي أن يقول بملء فيه ، ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب ؟ ! .
( 2 ) وهذا الزعم كالزعم اسابق في ص 150 عن الزبير أن الأحنف هو الآمر بقتله .
( 3 ) كعب بن سور الأزدي أول قضاة المسلمين على البصرة ، ولاه أمير المؤمنين عمر . قال الحافظ ابن عبد البر : كان مسلماً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه لم يره .(70/64)
( 4 ) قال الحافظ ابن عساكر ( 7 : 85 ) في ترجمة طلحة : وقالت عائشة لكعب ابن سور الأزدي : (( خل يا كعب عن البعير ، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه ، ودفعت إليه مصحفاً واقبل القوم وأمامهم السبإية يخافون أن يجرى الصلح ، فاستقبلهم كعب بالمصحف ، وعلى من خلفهم يزعم ويأبون إلا إقداماً . فما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً فقتلوه ثم راموا أم المؤمنين …. فكان أول شئ أحدثته حين أبوا قالت : (( يا أيها الناس ، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم )) وأقبلت تدعو ، وضج أهل البصرة بالدعاء وسمع علي الدعاء فقال : ما هذه الضجة ؟ فقالوا : عائشة تدعو ويدعو الناس معها على قتلة عثمان واشياعهم : فأقبل علي يدعو وهو يقول : (( اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم )) . قلت : وهكذا اشترك صالحو الفريقين في لعن قتلة أمير المؤمنين الشهيد المظلوم في الساعة التى كان فيها قتلة عثمان ينشبون القتال بين صالحي المسلمين .(70/65)
( 5 ) نقل الحافظ ابن عساكر ( 7 : 86 – 87 ) قول الشعبي : رأى على ابن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية ، فنزل فمسح التراب عن وجهه ثم قال : (( عزيز على ابا محمد أن أراك مجدلا في الأودية وتحت نجوم السماء . إلى الله أشكو عجزي وبجرى )) ( قال الأصمعي : أي سرائري وأحزاني التى تجول في جوفي ) . وقال : (( ليتنى مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة )) . وقال أبو حبيبة مولى طلحة : دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل ، فرجت بعمران وأدناه وقال : (( إنى لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال فيهم { ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } وكان الحارث الأعور ( * ) جالساً في ناحية فقال (( الله أعدل من أن نقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة )) ، فقال له على : (( قم إلى أبعد أرض الله واسحقها ، فمن هو ذا إن لم أكن أنا وطلحة في الجنة ؟ )) وذكر محمد بن عبد الله أن علياً تناول دواة فحذف بها الأعور يريده بها فأخطأه . وقال له ابن الكواء ( ** ) (( الله أعدل من ذلك )) فقام إليه على بدرة فضربه وقال له (( انت – لا أم لك – واصحابي تنكرون هذا ؟ ! )) .
-----------------------------------
( * ) هو الحارث بن عبد الله الهمداني الحوثي أبو زهير الكوفي الأعمور أحد كبار الشيعة . قال عنه الشعبي وابن المديني : كذاب . قلت وإنما كان يدفعه إلى الكذب تجزبه وتشيعه ، فالحزبية والتشيع والتعصب المذهبي من مدارج الباطل ، والإسلام دين الاعتدال ، والإنصاف والصدق وان تقول بالحق ولو على نفسك .
( ** ) ابن الكواء : عبد الله بن أبي أونى اليشكري أحد القائمين بالفتنة على عثمان وبعد صفين والتحكيم كان على راس الخوارج على علي . فلما حاجهم على وابن عباس رجع إلى علي قبل وقعة النهروان .(70/66)
(( هذه ثم ظهور الحصر ( 1 ) )) . قلنا : حدث حدثين امرأة ، فإن أبت فأربعة . يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترون أحاديث البهتان ، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان ( 2 ) ، فلم تقولون مالا تعلمون ؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون ؟ { إن شر الدواب عن الله الصم البكم الذين لا يعقلون } .
…وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب ، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب ( 3 ) . ما كان قط شئ كما ذكرتم ، ولا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحديث ، ولا جرى ذلك الكلام ، ولا شهد أحد بشهادتهم ، وقد كتب شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون ( 4 ) . ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق ( 5 ) : هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام ، وهؤلاء يدعون إلى التمكين عن قتلة عثمان ويقولون : لا نبايع من يؤوى القتلة ( 6 ) .
-------------------------------
( 1 ) في مسند أحمد ( 2 : 446 الطبعة الأولى ) من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - لما حج بنسائه قال (( إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر )) . وفيه ( 5 : 218 الطبعة الأولى ) من حديث واقد بن ابي واقد الليثى عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه في حجته (( هذه ثم ظهور الحصر )) ، وحديث أبي واقد في باب فرض الحج من كتاب المناسك بسنن ابي داود ( ك 11 ب 1 ) . والحصر جمع حصير ، اى لزوم المنزل . ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 215 ) على أنه إشارة نبوية إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - بنعى لهن نفسه ، وان هذه آخر حجة له - صلى الله عليه وسلم - ، وليس فيه امر منه بأن لا يزيلن الحصر إلى حج أو مصلحة أو إصلاح بين انلاس . فاستشهاد أعداء الصحابة بهذا الحديث على المنع مطلقاً عدة القاضي ابن العربي من البهتان ، لأنه استشهاده به لغير ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - .(70/67)
( 2 ) روى الإمام ابن حزم في بحث (( وجوه الفضل والمفاضلة )) من كتاب ( الإمامة والمفاضلة ) المدرج في الجزء الرابع من ( الفصل ) ص 134 عن شيخه أحمد بن محمد الخوزي عن أحمد بن الفضل الدينورة عن محمد بن جرير الطبري أن على بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة ، فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد ، فخطبهم عمار ، وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم : (( إنى أقول لكم ، ووالله إنى لأعلم أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هي زوجته في الدنيا ، ولكن الله ابتلاكم بها لتطعيوها أو لتطيعوه )) فقال له مسروق ( ابن الأجدع الهمداني ) أو أبو الأسود ( الدؤلى ) : (( يا ابا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له )) فسكت عمار ! .
( 3 ) الحوب : الإثم .(70/68)
( 4 ) تقدم في ص 148 بيان موضع الحواب . وأن الكلام الذي نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة . وقد راينا خبره عند الطبري ( 5 : 170 ) فرأيناه يرويه عن إسماعيل بن موسى الفزارى ( وهو رجل قال فيه ابن عدي : أنكروا منه الغلو في التشيع ) ، ويرويه هذا الشيعي عن على بن عابس الأزرق ( قال عند النسائي : ضعيف ) وهو يرويه عن أبي الخطاب الهجري ( قال الحافظ ابن حجر في تقرب التهذيب : مجهول ) وهذا الهجري المجهول يرويه عن صفوان بن قميصة الأحمسى ( قال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : مجهول ) . وهذ هو خبر الحوأب . وقد بنى على اعرابي زعموا أنهم لقوه في طريق الصحراء ومعه جمل اعجبهم فارادوا أن يكون هو جمل عائشة فاشتروه منه وسار الرجل معهم حتى وصلوا إلى الحوأب فسمع هذا الكلام ورواه ، مع أنه هو نفسه – أي الأعرابي صاحب الجمل – مجهول الاسم ولا نعرف عنه إن كان من الكذابين أو الصادقين . ويظهر لي أنه ليس من الكذابين ولا من الصادقين ، لأنه من أصله – الثاني عشر – مرهوم لم يخلق ، ولأن جمل عائشة واسمه (( عسكر )) جاء به يعلى بن أمية من اليمن وركبته عائشة من مكة إلى العراق ، لم تكن ماشية على رجليها حتى اشتروا لها جملاً من هذا الأعرابي الذي زعموا أنهم قابلوه في الصحراء ، وركبوا على لسانه هذه الحكاية السخيفة ليقولوا إن طلحة والزبير – المشهود لهما بالجنة ممن لا ينطق عن الهوى – قد شهدا الزور . ولو كنا نستجيز نقل الأخبار الواهية لنقلنا في معارضة هذا الخبر خبراً آخر نقله ياقوت في معجم البلدان ( مادة الحوأب ) عن سيف بن عمر التميمي أن المنبوحة من كلاب الحوأب هي أو زمل سلمى بنت مالك الفزارية التى قادت المرتدين ما بين ظفر والحوأب فسباها المسلمون ووهبت لعائشة فأعتقتها ، فقيلت فيها هذه الكلمة . وهذا الخبر ضعيف والخبر الذي أورده عن(70/69)
عائشة أضعف منه . وما برح الكذب بضاعة يتجر بها الذين لا يخافون الله .
( 5 ) في موضع يسمى ( صفين ) بقرب الرقة على شاطئ الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام . سار إليها على بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36 .
( 6 ) لما انتهى على من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الثنين 12 من رجب ، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام واستشارهم فيما يطلب على ، فقالوا : لا نبايعه حتى يقتل قتلة ==
…وعلي يقول لا أمكن طالباً من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم . ومعاوية يقول : لا نبايع متهماً أو قاتلاً له ، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه ، وهو خليفة عدا وتسور .
…وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى أستفعال رسائل ( 1 ) واستخراج أقوال ، وإنشاء أشعار ، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف ، يقرها الخلف وينبذها الخلف ( 2 ) .
عاصمة
…اما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعاً ، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعاً ، وأما الصواب فيه فمع علي ، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم ، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه ، بل يطلب [ الحق ] عنده ، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر ، فكم من حق يحكم الله فيه . وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه ، فيقوم له عذر في الدنيا ( 3 ) .
---------------------------------(70/70)
== عثمان ، أو يسلمهم إلينا . فرجع جريدر إلى على بدلك ، فاستخلف على على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر ، وخرج منها فعسكر بالنخيلة اول طريق الشام من العراق ، وقد أشار عليه ناس بأن يبقى في الكوفة ويبعث عيره إلى الشام فأبى . وبلغ معاوية أن علياً تجهز وخرج بنفسه لقتاله فاشار عليه رجاله أن يخرج هو ايضاً بنفسه ، فخرج الشاميون نحو الفرات من ناحية صفين ، وتقدم على بجيوشه إلى تلك الجهة . وكان جيش على في مائة وعشرين ألفاً وجيش معاوية في تسعين ألفاً ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشات ومبارزات ، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37 وأستؤنف القتال بعده ، وقتل في هذه الحرب سبعون ألفاً، وكانت الوقائع والاتصال عند التهادن والراحة . ثم كتب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37 على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة الجندل بمكان منها يسمى أذرح .
( 1 ) أي أنتحالها زوراً ولا اصل لها . وأكثر ما تجد ذلك فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة مجهولين أو كذابين . وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط بن يحيى ، قال عنه الحافظ الذهبي : (( أبو مخنف أخباري تالف ، لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره )) . وقال فيه ابن عدى : (( شيعى محترق صاحب أخبارهم )) ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شراً على على تاريخ افسلام من لوط . فأفسدوا على الأمة معرفتها بماضيها .
( 2 ) الخلف ( بفتح الخاء وسكون اللام ) : الصالح . وفي التنزيل { فخلف من بعهدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } . والخلف ( بفتح الخاء واللام ) : الصالح . ومنه الحديث (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، يفنون عن تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين )) .(70/71)
( 3 ) وجود قتلة عثمان في معسكر على حقيقة لا يمارى أحد فيها ، بل إن الأشتر وهو من رءوس البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معسكر علي والذين في معسكر معاوية . ولما طالب على معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه أحتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم أو ان يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم حد الله . وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين على في هامش ص 146 بان قتلة عثمان لما صاروا مع على في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، فكان على يرى – بينه وبين نفسه – أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سده بعد ذلك . وقد أنتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمى وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة والزبير فاذعنوا لها وعذروا علياً ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة ، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين . فالمطالبون بإقامة حد الله على قتله عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق ، سواء كانوا من أصحاب الجمل ، أو من اهل الشام . وتقصير على في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة . ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين ، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين . وكان سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي كارهاً خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام ، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد والفتوح . ولو أن علياً لم يتحرك من الكوفة استعداداً لهذا القتال لما حرك معاوية ساكناً . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 219 ) : (( لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال 249 و 251 و 262 . ومع ذلك فإن(70/72)
هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التى جرى فيها المحتار بأن معاً على مبادى الفضائل التى يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرون وغن كثيراً من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون ولولا وقوع هذه الحرب ولله في كل أمر حكمة .
…ولئن أتهم علي بقتل فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو متهم به ، أو قل معلوم قطعاً أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفاً ( 1 ) .
…وهبك أن علياً وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان ، فباقى الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته ؟
…ولا يخلو أن يكون لأنهم راوا أولئك طلبوا حقاً وفعلوا حقاً ، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام . وغن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين ، وانهم لم يكن لهم رأى في الحال ، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجرى فيه من أختلال ، فهي ردة ليست معصية . لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر ، وغن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأى ذنب لهم فيه ؟ وأي حجة لمروان – وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره ( يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح – والطالبون ينظرون ؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحداً أن يراه منهم ولا يدخله ، وإنما كانوا نظارة ، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن الزبير ما جسروا ، ولو قتلوهم ما بقى على الأرض منهم حي .
ولكن عثمان سلم نفسه ، فترك ورأيه . وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا ( 2 ) .(70/73)
وأي كلام كان يكون لعلي – لما تمت له البيعة – لو حضر عنده ولى عثمان وقال له : إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه ، وهم معلومون . ماذا كان يقول إلا : اثبت ، وخذ ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقاً للقتل ( 3 ) .
وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبداً ، وكان يكون الوقت
----------------------------------
( 1 ) ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم علياً بقتل عثمان ، لا في زماننا ولا في زمانه ، وقد مضى الكلام على ذلك في هذا الكتاب . وكل كا في الأمر وجود قتلة عثمان مع علي ، وموقف على منهم ، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا . فنحن جميعاً على رأى القعقاع ابن عمرو بأن موقف علي موقف ضرورة . غير أن الحمقى من إخباريي الشيعة دسوا على علي أخباراً تشعر بغير ما كان في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد لعثمان أثناء محنته فاساءوا بذلك إلى علي من حيث يريدون الإساءة إلى عثمان . اما معاوية وفريقه فلم يذكروا علياً في أمر البغي على عثمان إلا لمناسبة أنضواء قتلة عثمان إليه واستعانته بهم . فقتلة عثمان هم الذين أساءوا إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضاً : فالله حسيبهم . ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حزمه – قبل أن يستفحل الفتنة ويفلت الزمام من ايدى العقلاء – لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه .
( 2 ) في ص 137 ، وأنظر هامش ص 132 .(70/74)
( 3 ) المؤلف معترف بان الإثبات كان في متناول اليد ، لأن الجريمة مشهودة والمجرمون أعلنوا فيها فجورهم فلم يتكتموا . ولكن كيف يكون التنفيذ ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول مستكينة تحت وطأة الإرهاب ؟ ومن ذا الذي يضمن لعلى حياته إذا أصدر هذا الحكم ؟ أليس هؤلاء هم الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في ذي قار بعد خطبة علي التى ألقاها على الغرائر قبيل مصيره إلى البصرة ( الطبري 5 : 165 ) ألم يسخط الأشتر على أمير المؤمنين على بعد وقعة الجمل لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على البصرة ولم يولها الأشتر ، ففارقه غاضباً ، ولحق به على فتلافى ما يكون منه من الشر ( الطبري 5 : 194 ) ، وانظر هامش 119 من هذا الكتاب ) . والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة ؟ ولما قتل على ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل به عثمان ؟
أمكن للطالب ، وأرفق في الحال ، أيسر وصولاً إلى المطلوب ( 1 ) .
…والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحداً إلا بحكم ، إلا من قتل في حرب بتأويل ، أو دس عليه فيما يقال ( 2 ) . حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج ، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة ( 3 ) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون .
…والذي تثلج به صدوركم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ف الفتن و أشار وبين . وأنذر بالخوارج وقال(70/75)
(( تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ( 4 ) )) فبين أن كل طائفة [ منهما ] تتعلق بالحق ، ولكن طائفة على أدنى إليه ( 5 ) . وقال تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ، [ سورة الحجرات : 9 ] فلم يخرجهم عن (( الإيمان )) بالبغي بالتأويل ، ولا سلبهم اسم (( الإخوة )) بقوله بعده { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ،
[ الحجرات : 10 ] .
--------------------------------
( 1 ) كان يكون الوقت أمكن للطالب لو وجدت في المدينة القوة التى كان يتمناها عثمان . ويقال إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة المدينة ، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين عثمان رجعت من الطريق ، فبقيت المدينة خاضعة لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي ، وهم إن نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه عليهم لا ريب أنهم ينقلبون وحوشاً ضارية لو صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما ارتكبوا من جرم شنيع .
( 2 ) إن سطو الله وعدله الأعلى نزلاً بأكثر قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا المشرد الخائف الباحث عن حجر يختبئ فيه ، وبزوال سطوتهم وتقليص شرهم فلم يبق بمعاوية حاجة إلى تتبعهم .
( 3 ) يشير المؤلف إلى حادثة عمير بن ضابئ وكميل النخعي ، وقد تقدم خبرهما في ( ص 129 – 130 ) .
( 4 ) في صحيح مسلم ( ك 12 ج 150 – ج 3 ص 113 ) من حديث ابي سعيد الخدري : (( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها اولى الطائفتين بالحق )) .(70/76)
( 5 ) أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن علياً ومعاوية ،ومن معها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا جميعاً من أهل الحق ، وكانوا مخلصين في ذلك . والذي أختلفوا فيه إنما أختلفوا عن اجتهاد ، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه . وهم – لإخلاصهم في اجتهادهم – مثابون عليه في حالتى الإصابة والخطأ ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطئ ، وليس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر معصوم عن أن يخطئ وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى ، وكذلك الآخرون . اما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان فلا يعد من إحدى الطائفتين التين على الحق وإن قاتل معها والتحق بها ، لأن الذين تلوثت أيديهم وأنيابهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان – كائناً من كانوا – استخقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولى الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع . وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي – كما قعلوا في وقعة الجمل وبعدها – يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ماداموا على ذلك ، فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته - صلى الله عليه وسلم - من التابعين ، ونرى ان علياً المبشر بالجنة أعلى مقاماً عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول رب العالمين ، وكلاهما من اهل الخير . وإذا أندس فيهم طوائف من اهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره . نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 7 : 277 ) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني قاضي إفريقية المتوفي سنة 56 كان رجلاً صالحاً من الآمرين بالمعروف – وذكر أهل صفين – فقال : (( كانوا عرباً يعرف بعضهم بعضاً في الجاهلية ،(70/77)
فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام ، فتصابروا ، واستحيوا من الفرار ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في عسكر هؤلاء ، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم )) ، قال الشعبي : (( هم أهل الجنة ، لقى بعضهم بعضاً ، فلم يفر أحد من احد )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في عمار : (( تقتله الفئة الباغية ( 1 ) )) .
وقال في الحسن (( ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )) ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه ( 2 ) .
…وكذلك يروى أنه اذن – في الرؤيا – لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة ( 3 ) .
فهذه كلها امور جرت على رسم النزاع ، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه ، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجراً واحداً ( 4 ) ، وما وقع من روايات في كتب التاريخ – عدا ما ذكرنا – فلا تلتفتوا إلى حرف منها ، فإنها كلها باطلة .
قاصمة التحكيم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله . وإذا لحظتموه بعين المروءة – دون الديانة – رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين ، وفي الأقل جهل متين .
---------------------------------(70/78)
…( 1 ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لما كانوا يبنون المسجد ، فكان الناس ينقلون لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه هذه الكلمة على مارواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس ولعلى بن عبد الله بن عباس . والخبر في كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري ( ك 56 ب 17 – ج 3 ص 207 ) . وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغى في حرب صفين ، لأنه لم يردها ، ولم يبتدئها ، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج على من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام كما تقدم في ص 162 – 163 ، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية (( إنما قتله من أخرجه )) وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدى المسلمين منذ قتل عثمان فإنما إثمه على قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة . ولأنهم واصلوا تسعير نارها ، لأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض ، فكما كانوا قتلة عثمان فإنهم كانوا للقائلين لكل من قتل بعده ، ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار كطلحة والزبير ، إلى ان أنتهت فتتهم لكل من قتل بعده ، ومنهم عمار ومن هم افضل من عمار كطلحة والزبير ، إلى أن انتهت فتتهم بقتلهم علياً نفسه وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التى كان قائماً عليها . فالحديث من أعلام النبوة , والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا من المؤمنين . وعلى افضل من معاوية . وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن دعائم دولة الإسلام ، وكل ما وقع من الفتن فإثمه على مؤرثي نارها لأنهم السبب الأول فيها ، فهم الفئة الباغية التى قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرغ عنهما .
…( 2 ) سيأتى الكلام على هذا عند الكلام على الصلح بين الحسن ومعاوية .
…( 3 ) مضى الكلام على ذلك في ص 138 – 139 .(70/79)
…( 4 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 2 : 219 – 220 ) : (( ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، بل كان من أشد الناس حرصاً على أن لا يكون قتال ، وكان غيره أحرص على القتال منه . وقتال صفين للناس فيه أقوال : فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهداً مصيباً ، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول : كل مجتهد مصيب ، ويقول : كانا مجتهدين . وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم ، وهو قول كثير من اصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم ، وتقول الكرامية : كلاهما إمام مصيب ، ويجوز نصب إمامين للحاجة . ومنهم من يوقل : بل المصيب أحدهما لا بعينه ، وهذا قول طائفة منهم . ومنهم من يقول : على هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة . وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من اصحاب الإمام أحمد وغيره . ومنهم من يوقل . كان الصواب أن لا يكون قتال ، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين ، فليس في الاقتتال صواب ، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية ، والقتال قتال قتنة ، ليس بواجب ولا مستحب ، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين مع أن علياً كان أولى بالحق ، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء ، وهو قول اكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهو قول عمران بن حصين - رضي الله عنه - وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال : هو بيع السلاح في الفتنة . وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمرو وسعد بن ابي وقاص وأكثر من بقى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنه - . ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد يثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومجبتهم )) .(70/80)
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط ( 1 ) الدارقطني ( 2 ) : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم – وهو الثلاثاء – على الماء فغلب أهل العراق عليه ( 3 ) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ( 4 ) ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على ان تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة على أبو موسى ( 5 ) ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .
وكان أبةو موسى رجلاً ثقفاً فقيهاً عالماً حسبما بيناه في كتاب ( سراج المريدين ) ، وأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمرو واثنى عليه بالفهم ( 6 ) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبلة ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وان ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات . وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى ، وإنما بنوا على ان عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.
وقالوا : إنما لما أجتمع بأذرح من دومة الجندل ( 7 ) .
----------------------------------
( 1 ) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري ، أحد أوعية العلم ، ومن شيوخ الإمام البخاري . قال عنه ابن عدى : هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة . توفى سنة 240 .(70/81)
( 2 ) هو الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني ( 306 – 385 ) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية ، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر . وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله . قال الحافظ عبد الغنى بن سعيد (( أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة . علي بن المديني في وقته ، وموسى بن هارون القيسي في وقته . والدارقطني في وقته )) .
( 3 ) لم يكن القتال على الماء جدياً ، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ (( ليس النصف أن نكون ريانين وهم عطاش )) . والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أن يذكروهم بمنعهم الماء عن امير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي أشترى بئر رومة من ماله ليستسقى منه إخوانه المسلمون وبعد إشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنة 37 ، ووقعت وقائع شهر صفر التى سيشير إليها المؤلف .
( 4 ) وكانت تسمى (( ليلة الهرير )) اقتتل الناس فيها حتى الصباح .(70/82)
( 5 ) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان والياً على الكوفة ، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعداداً لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة ، ثم مع أنصار معاوية في الشام . فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين ان تسفك بتحريض الغلاة ، ويذكر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقول نبيهم في الفتنة (( القاعد فيها خير من القائم )) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي ، واسرع إلى دار الإمارة فاحتلها . فلما عاد غليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له : اعتزل إمارتنا . فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عرض بعيداً عن الفتن وسفك الدماء . فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحاً في نهيهم عن القتال طلبوا من على أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في امر التحكيم ، لأن الحالة التى كان يدعو إليها هي التى فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته .
( 6 ) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وىدابه وقواعده .
( 7 ) أذرح : قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين اراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام .
وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ( 1 ) . فقال عمرو لأبي موسى : أسبق بالقول فتقدم : إنى نظرت فخلعت علياً عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعت سيفى هذا من عنقي – أو من عاتقي – واخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فاثبت معاوية في الأمر ( 2 ) كما اثبت سيفي هذا في عاتقي . وتقلده . فأنكر أبو موسى . فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .
عاصمة(70/83)
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط . وإنما هو شئ أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ( 3 ) .
--------------------------------
( 1 ) من الحقائق ما إذا أسئ التعبير عنه شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشا عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه . ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن ابا موسى وعمراً اتفقا على خلع الرجلين ، فخلعهما أبو موسى ، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية . وأصل المغالطة من تجاهل أن معاوية لم يكن خليفة ، ولا هو ادعى الخلافة يؤمئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه . بل إن ابا موسى وعمراً اتفقا على ان يعهدا بامر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من اعيان الصحابة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم . واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول على الذين اشتركوا في قتل عثمان . فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين ، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئاً واحداً هو الإمامة . اما التصرف العملى في غرادة البلاد التى كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقى كما كان : علي متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، ومعاوية متصرف في البلاد التى تحت حكمه ، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة . وكان يكون محل للمكر أو الغفلة لو أن عمراً أعلن في نتيجة االتحكيم أنه ولي معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين ، وهذا ما لم يعلنه عمرو ، ولا ادعاه معاوية ، ولم يقل به احد في الثلاثة عشر قرناً الماضية . وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي ، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية ، ومن ذلك اليوم فقط سمى معاوية أمير المؤمنين . فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ، لأنه لم يعط معاوية شيئاً جديداً ، ولم يقرر في(70/84)
التحكيم غير الذي قرره أبو موسى . ولم يخرج عما اتفقا عليه معاً ، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها ، وأى ذنب لعمرو في اى شئ مما وقع ؟ إن البلاهة لم تكن من ابي موسى ، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه . فليفهمها كل من شاء كما يشاء . اما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي .(70/85)
( 2 ) أى أمر ؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التى تحت يده ، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معاً ، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده . وإن كان المراد بالمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماماً – أي خليفة – حتى يثبته عمرو كما كان . وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة . وهذه هي نقطة المغالطة التى هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بان هناك خليفتين أو أمير للمؤمنين ، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معاً ، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذاً للاتفاق ، وأن عمراً خلع أحدهما وابقى الآخر خليفة خلافاً للاتفاق ، وهذا كله كذب وإفك وبهتان . والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قمطير وبقى أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقاً على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا . وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من ابي موسى ولا من عمرو ، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ، ولا أبديا راياً فيها . ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ . وإن الأجيال التى بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخرة التى كتب الله له بها النجاح والسداد ، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيدة بلاب بن ابي بن أبي موسى :
أبوك تلافى الدين والناس بعدما تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر
فشد إصار الدين أيام أذرح ورد حروباً قد لقحن إلى عقر(70/86)
( 3 ) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بنى امية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله . فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف : طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه . وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم ، ولا يكون التقرب إلى الله ، إلا بتشويه سمعة ابي بكر وعمر وعثمان وبنى عبد شمس جميعاً . وطائفة ثالثة من أهل الإنصاف والدين – كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير – رأت أن من الإنصاف أن تجمع اخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب – كلوط بن يحيى الشيعي المحترق ، وسيف ابن عمر العراقي المعتدل – ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها . وقد أثبت أكثر من هؤلاء أسماء رواة الأخبار التى أوردوها ليكون ==
…وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما أجتمعا للنظر في الأمر – في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه – عزل عمرو معاوية ( 1 ) .(70/87)
…ذكر الدارقطني بسنده إلى حصين بن المنذر ( 2 ) : لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حضين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية ، فبلغ نباه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغنى عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا ( 3 ) ، فأذهب فانظر ما هذا الذي بلغنى عنه ، فأتيته فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وابو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا ( 4 ) ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال : إن يستعن بكما ففيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال : فكانت هي التى قتل معاوية منها نفسه : فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حضين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه . فأرسل إلى ابي الأعور الذكواني ( 5 ) فبعثه في خيلة ، فخرج يركض فرسه ويقول : أين عدو الله أين هذا الفاسق ؟ .
…قال أبو يوسف ( 6 ) : اظنه قال (( إنما يريد حوباء نفسه )) فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عرياناً ، فخرج العلبة ، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة ( 7 ) )) فقال معاوية (( أجل ، وتربذ الحالب فتدق أنفه ، وتكفأ إناءه ( 8 ) )) .
------------------------------(70/88)
== الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث على حال راويه . وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا ، بل على إنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا ، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع ، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع ، مكتفياً بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها . وغن الرجوع إلى كتب السنة ، وملاحظان أئمة الأمة ، مما يسهل هذه المهمة . وقد آن لنا ان نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء ، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بنى امية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعمانى في انتقاده لكتب جرجى زيدان ، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق ، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة ، ولا يبعد – إذا أستمر هذا الجهاد في سبيل الحق – أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ، ويدركوا أسرارها ما وقع في ماضيهم من معجزات .
…( 1 ) أب بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة .
…( 2 ) قال الدارقطني : حدثنا إبراهيم بن همام ، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ، حدثنا الأسود بن شيبان ، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر ( وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه ) .
…( 3 ) أى عزله علياً ومعاوية ، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة .
…( 4 ) أى أنهما لم يعزلا ، ولم يوليا ، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة .
…( 5 ) هو أبو الأعور السلمي ( وذكوان قبيلة من سليم ) واسمه عمرو بن سفيان كان من كبار قواد معاوية . وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده . أنظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 264 .
…( 6 ) أى الفلوسي راوى هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين .(70/89)
…( 7 ) الضجور : الناقة التى ترغو وتعربد عن الحلب . و (( قد تحلب الضجور العلبة )) مثل ، ومعناه : إن الناقة التى ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة ، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن . يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين ، وللبخيل قد يستخر منه المال .
…( 8 ) ربذت يده بالقداح أى خفت : والربذ خفة القوائم في المشي ، وخفة الصابع في العمل . وفلان ذو ربذات : أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه .
…قال الدارقطني – وذكر سند عدلاً ( 1 ) : ربعى عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال : (( والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شئ لقد غبنا ونقص رأيهما . وآيم الله ما كانا مبغونين ولا ناقصى الرأى . ولئن كانا أمرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا . وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا ( 2 ) )) .
…فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه . فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين . وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين . وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد هلك من كل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه . ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى . وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً . ولا تسترسلوا بالسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق أتخذ الدين هملاً ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً . ورحم الله الربيع بن خثيم ( 3 ) فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم . فقال { اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ، انت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } ( الزمر : 46 ) . ولم يزد على هذا ابداً . فهذا العقل والدين ، والكف عن احوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .
قاصمة(70/90)
…فإن قيل : إنما يكون ذلك في المعاني التى تشكل ، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على استخلاف على بعده فقال (( انت منى بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ( 4 ) )) ، [ وقال ] : (( اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ( 5 ) )) ، فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند .
…
---------------------------------
( 1 ) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن غبراهيم ودعلج بن احمد قالا : حدثنا محمد ابن أحمد بن النضر ، حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الله بن عمر عن ربعي …. ألخ وربعى هو ابن حراش العبسى أبو مريم الكوفي .
( 2 ) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه السلف .
( 3 ) هم من تلاميذ عبد الله بن مسعود وابي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وابو بردة . قال له ابن مسعود لو رآك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحبك . توفى سنة 64 .
( 4 ) في كتاب المغازي من صحيح البخاري ( ك 64 ب 78 – ج 5 ص 129 ) وفي فضائل الصحابة من صحيح مسلم ( ك 44 ح 31 – ج 7 ص 120 من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال على : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ قال : (( ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بني بعدي )) . وانظر المناقشة في هذا الحديث بين السيد عبد الله بن الحسين السويدي سنة 1156 وبين الملاباشي على أكبر شيخ علماء الشيعة ومجتهديهم في زمن نادر شاه في كتاب ( مؤتمر النجف ) ص 25 – 27 طبع السلفية .(70/91)
( 5 ) في مسند أحمد ( 1 : 84 ، 88 ، 118 ، 119 ، 152 الطبعة الولى رقم 641 ، 670 ، 950 ، 961 ، 1310 . وفي 4 : 281 ، 368 ، 370 ، 372 الطبعة الأولى و 5 : 347 ، 366 ، 370 ، 419 الطبعة الأولى ) . وانظر تفسير الحسن المثني ابن الحسن السبط ابن على بن أبي طالب لهذا الحديث في ص 185 – 186 ، وسيأتى كلام المؤلف على الحدثين في ص 192 .
فتعدى عليه ابو بكر واقتعد في غير موضعه .
…ثم خلفه في التعدى عمر .
…ثم رجى أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق ، فأبهم الحال ، وجعلها شورى قصراً للخلاف ، للذي سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
…ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان .
…ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة ، وصار الأمر إلى على بالحق الإلهي النبوي ، فنازعه من عاقدة ، وخالف عليه من بايعه ، ونقض عهده من شده .
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين ، بل كفر ( 1 ) .
وهذه حقيقة مذهبهم ( 2 ) ، وأن الكل عندهم كفرة ( 3 ) ، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب
( 4 ) . وكذلك تقول هذه الطائفة التى تسمى بالإمامية : إن كل عاص بكبيرة كافر ( 5 ) على رسم القدرية ( 6 ) ، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين ( 7 ) ومن ساعدهم على أمرهم ، و أصحاب محمد
---------------------------------------(70/92)
( 1 ) كل هذه الفقرات من هذيان مرتكبي (( القاصمة )) وشيعتهم . وقد أجاب المؤلف في (( العاصمة )) التالية مدحضاً سخافاتهم ، ولكن أتسع عليه ميدان القول ففاقه الكلام عن موقف أهل الشام من هذه الفتن التى وقعت في الإسلام . وقد رأيت في ص 121 قول ابن الكواء أحد زعماء الفتنة وهو يصف اشباهه في الأمصار الكبرى : (( وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم ، واعصاهم لمغويهم )) . وإذا كان أهل الأحداث في الشام هكذا على ما شهد به زعيم من زعماء الفتنة ، فغن أهل العافية والإيمان منهم قد شهد لهم أمير المؤمنين على فيما نقله ابن كثير في البداية والنهاية ( 8 : 20 ) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ ، عن شيخه معمر بن راشد البصري وهو ايضاً من الأعلام ، عن الزهري مدون السنة وشيخ الأئمة ، ان عبد الله ابن صفوان الجمحي قال : قال رجل من صفين (( اللهم العن أهل الشام )) فقال له علي : (( لا تسب أهل الشام )) فإن بها الأبدال ، فإن بها الأبدال ، فغن بها الأبدال )) وروى هذا الحديث من وجه ىخر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى أبو أدريس الخولاني وهو من اعلام حملة السنة والشريعة ومن شيوخ الحسن البصري وابن سيرين ومكحول واضرابهم أن ابا الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بينا انا نائم رايت الكتاب احتمل من تحت راسي ، فظننت أنه مذهوب به ، فأتبعه بصري فعمد به إلى الشام . وإن الإيمان – حين تقع الفتنة – بالشام )) . وروى هذا الحديث من الصحابة – غير أبي الدرداء – أبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص . ولمقارنة بين اهل الشام والذين كانوا يحاربون تنقل عن ابن كثير ( 7 : 325 ) خبر الأعمش بن عمرو بن مرة ابن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال : خطبنا علي يوم جمعة فقال ، نبتت أن بسراً قد طلع اليمني ، وغني والله لحسب ان هؤلاء القوم سيظهرون عليكم وما يظهرون عليكم(70/93)
إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم ، وبخيانتكم وامانتهم وإفسادكم في ارضكم وإصلاحهم . وقد بعثت فلاناً فخان وغدر وبعث فلاناً فخان وغدر وبعث المال إلى معاوية . لو أئتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته . اللهم سئمتهم وسئمونى ، وكرهتهم وكرهوني . اللهم فارحهم منى وارحنى منهم . بهذا وصف على جيشه وشيعته وبعكسه في الفضائل وصف أهل الشام الذين اضطروا إلى أن يقفوا من طائفته موقف المحارب . وليس بعد وصف علي لأهل الشام بالطاعة والأمانة والإصلاح ، إلا الضرب بهذه القنبلة في وجوه واصفيهم بالكفر والفسوق في الدين .
( 2 ) أى حقيقة مذهب الشيعة واعداء الصحابة .
( 3 ) يستثنون منهم – بعد علي وبعض آله – سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد ابن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابا الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة ابن الصامت وابا أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبا سعيد الخدري . وبعض الشيعة يرى ان الطيبين من اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عدداً من هؤلاء .
( 4 ) ومن مذهبهم أن علياً وأحد عشر من آلة معصومون عن الخطأ ، وانهم مصدر تشريع . ويقبلون التشريع الذى ينسبه إليهم رواة يشترط فيهم التشيع والموالاة ، وغن عرفهم الناس بما ينافي الصدق أو يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة .
( 5 ) ومدلول الكبيرة عندهم غير مدلولها عند المسلمين .
( 6 ) أى الذين ينكرون القدر . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 24 ) : (( كان قدماء الشيعة متفقين في دولة بنى بويه )) . ثم فجروا وجعلوا ( الغلو ) من ضروريات مذهبهم من زمن الدولة الصفوية إلى الان .
( 7 ) وهم أبو بكر وعمر وعثمان .
- صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على دنيا ، وأقلهم حمية على دين ، واهدمهم لقاعدة وشريعة ( 1 ) .
عاصمة(70/94)
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : يكفيك من شر سماعه ، فكيف التململ به . خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا – لا ننقص منها يوماً ولا نزيد يوماً – وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص ؟ .
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حين حكموا عليهم بانهم قد اتفقوا على الكفر والباطل ( 2 ) . فما يرجى من هؤلاء ، وما يستبقى منهم ؟ وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم . وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } ، ( النور : 255 ) ( 3 ) ، وهذا قول صدق ، ووعد حق . وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين ، ولا أمن ولا سكون ، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة .
ودق اجمعت الأمة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نص على أحد يكون من بعده ( 4 ) . وقد قال العباس لعلى – فيما روى عنه عبد الله ابنه – قال عبد الله بن عباس : خرج علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئاً . فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : انت والله بعد ثلاث عبد العصا . وإني لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوفى من وجعه هذا . إنى لأعرف وجوه بنى عبد المطلب عن الموت . اذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنسأله : فيمن يكون هذا الآمر بعده ،
-----------------------------------(70/95)
( 1 ) ومع ذلك يوجد فيمن ينتمى إلى الآزهر ، وإلى السنة ، من يوالى دار التقريب بين المذاهب التى تأسست في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية ، ويتسلى بصرف بقية عمره في الاختلاف إليها وتبادل التقية مع القائمين عليها .
( 2 ) أخرج الحافظ ابن عساكر ( 4 : 165 ) أن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن على بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة . (( والله لئن أمكننا الله منكم لتقطعن أيديكم وأرجلكم ، ثم لا نقبل منكم توبة )) . فقال له رجل . لم لا تقبل منهم توبة ؟ قال : نحن أعلم بهؤلاء منكم . عن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم ، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا ان ذلك يستقيم لهم في ( التقية ) . ويلك ! إن التقية هي باب رخصة للمسلم ، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله ، وليست باب فضل ، إنما الفضل في القيام بامر الله وقول الحق . وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله )) …
( 3 ) انظر ص 51 – 53 .
( 4 ) نقل الحافظ ابن عساكر ( 4 : 166 ) عن الحافظ البيهقي حديث فضيل ابن مرزوق أن الحسن المثني ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب سئل فقيل له ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من كنت مولاه فعلى مولاه )) ؟ فقال : (( بلى : ولكن والله لم يعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الإمارة والسلطان . ولو أراد ذلك لفصح لهم به ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أنصح للمسلمين . ولو كان الأمر كما قيل لقال : يا أيها الناس هذا ولى أمركم والقائم عليكم من بعدي ، فاسمعوا له واطيعوا . والله لئن كان الله ورسوله أختار علياً لهذا الآمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك على امر الله ورسوله ، لكان على اول من ترك أمر الله ورسوله )) .ورواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد .(70/96)
فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا . فقال على : إنا والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده ، وإني والله لا اسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( 1 ).
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : رأى العباس عندي أصح وأقرب إلى الآخرة ، والتصريح بالتحقيق . وهذا يبطل قول مدعى الإشارة باستخلاف على ، فكيف أن يدعى فيه نص ؟ ! .
فأما أبو بكر ، فقد جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها ان ترجع إليه . قالت له : فإن لم أجدك – كانها تعنى الموت – قال : تجدين أبا بكر ( 2 ) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبى بكر كلام ، فتعمر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3 ) ، حتى أشفق من ذلك أبو بكر ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( هل انتم تاركو لي صاحبي ( مرتين ) . إني بعثت إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر صدقت . إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ( 4 ) )) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لو كنت متخذاً في الإسلام خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن أخي ، وصاحبي ( 5 ) )) .
وقد أتخذ الله صاحبكم خليلاً . لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ( 6 ) .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( بينما أنا نائم رأيتنى على قليب ( 7 ) عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين ( 8 ) وفي نزعه ضعف والله يغفر له ، ثم استحالت غرباً ( 9 ) ، فأخذها ابن الخاب ، فلم ار عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن ( 10 ) )) .
-----------------------------------(70/97)
…( 1 ) رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه ( ك 64 ب 83 – ج 5 ص 140 – 141 ) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 227 و 251 ) من حديث الزهرى عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس . ورواه الإمام أحمد في مسنده ( 1 : 263 و 325 و 2374 و 2999 ) .
…( 2 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 191 ) من حديث جبير بن مطعم قال . أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فامرها أن ترجع إليه قالت : أرأيت إن جئت ولم اجدك – كأنها تقول الموت – قال - صلى الله عليه وسلم - (( إن لم تجديني فأتى أبا بكر )) .
…( 3 ) متعر وجهه : تغير ، وذهب كا كان فيه من النضارة ، وإشراق اللون .
…( 4 ) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 192 ) عن ابي الدرداء مطولاً .
…( 5 ) في الباب المذكور من كتاب مناقب الصحابة في صحيح البخاري ( ج 4 ص 191 ) من حديث عكرمة عن ابن عباس .
( 6 ) في هذه الجملة اضطراب ونقص . وانظر لهذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري في ذلك الموضع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 190 – 191 ) ، وحديث ابن عباس في مسند أحمد ( 1 : 270 رقم 2432 ) ، والبداية والنهاية ( 5 : 229 و 230 ) .
( 7 ) القليب : البئر غير المطوية .
( 8 ) الذنوب : الدلو العظيمة إذا ملئت ماء . وابن أبي قحافة هو ابو بكر .
( 9 ) أي ثم عظمت فصارت كالدلو الواسعة التى تتخذ من جلد الثور لكبرها .
( 10 ) أى حتى اتخذ الناس حولها مبركاً لإبلهم لغزارة مائها ، والحديث في ذلك الموضع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 193 ) من حديث سعيد بن المسيب عن ابي هريرة .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فرجف بهم : فقال (( اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ( 1 ) )) .(70/98)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد كان فيمن كان قبلكم من نبي إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكون أنبياء ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ( 2 ) )) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنه - في مرضه : (( ادعى لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول : أنا أولى . ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ( 3 ) )) .
وقال ابن عباس : إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، وأني أرى الليلة في المنام ظلة تنظف السمن والعسل ، فأرى الناس يتكففون بأيديهم ، فالمستكثر والمستقل . وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فغلوت ، [ ثم اخذ به رجل آخر فعلاً به ، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ] ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ، ثم وصل له فعلاً ( وذكر الحديث ) . ثم عبرها ابو بكر فقال : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه ، فأخذته فيعليك الله . ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به ( 4 ) )) .
وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم : (( من رأى منكم رؤيا )) فقال رجل : أنا رأيت ، كأن ميزاناً نزل من السماء ، فوزنت أنت وابو بكر فرجحت . ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر . ووزن عمر وعثمان فرجح عمر . ثم رفع الميزان . فرأينا الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( 5 ) .
وهذه الأحاديث جبال في البيان ، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله . ولو لم يكن معكم – ايها السنية – إلا قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني أثنين إذ هما في الغار } ( التوبة : 40 ) فجعلها ( 6 ) في نصيف ، وجعل ابا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة .
-------------------------------(70/99)
( 1 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم ( ك 62 ب 5 – ج 4 ص 197 ) من حديث قتادة عن انس بن مالك .
( 2 ) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 6 – ج 4 ص 200 ) من حديث ابي سلمة عن أبي هريرة .
( 3 ) في مسند أحمد ( 6 : 144 الطبعة الأولى ) من حديث الزهري عن عروة ابن الزبير عن عائشة ، وانظر المسند ايضاً ( 6 : 47 و 106 ) وطبقات ابن سعد 3 ( 1 : 127 ) ومسند أبي داود الطيالسى : الحديث 1508 .
( 4 ) في كتاب التعبير من صحيح ( ك 91 ب 47 – ج 8 ص 83 – 84 ) من حديث عبد الله بن عباس ، وفي كتاب الرؤيا من صحيح مسلم
( ك 47 ح 17 – ج 7 ص 55 – 56 ) من حديث ابن عباس ، وفي مسند أحمد ( 1 : 236 الطبعة الأولى رقم 2113 ) من حديث ابن عباس .
( 5 ) في كتاب السنة من سنن ابي داود ( ك 39 ب 8 ح 4634 ) من حديث ابي بكرة . وفي كتاب الرؤيا من جامع الترمذي ( الباب 10 ) من حديث ابي بكر أيضاً . وأنظر في مسند أحمد ( 5 : 259 الطبعة الأولى ) حديث أبي أمامة عن رجحان كفة ابي بكر بكفة فيها جميع الأمة …. ألخ .
( 6 ) أى الأمة .(70/100)
وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصاً وعموماً . وقد قال الله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، ويعبدونني لا يشركون بي شيئاً } ( سورة النور : 55 ) . وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ ؟ وإذا لم يكن فيهم فيمن يكون ؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم تثقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا ، ومن بعد مختلف فيه ، وأؤلئك مقطوع بهم ، متيقن إمامتهم ، ثابت نفوذ ، وعد لهم ، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين ، وقاموا بسياسة الدين . قال علماؤنا : ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم اركان الملة ، ودعائم الشريعة ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من أسترشد إلى الله . فأما من كان من الولاة الظلمة فضررة مقصور على الدنيا وأحكامها .
واما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله ، وهم اربعة اصناف :
الصنف الأول : حفظوا اخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش .
الصنف الثاني : علماء الأصول : ذبوا عن دين الله أهل العناد واصحاب البدع ، فهم شجعان الإسلام ، وابطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال ( 1 ) .
الصنف الثالث : قوم ضبطوا أصول العبادات ، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات ، واحكموا الخراج والديات ، وبينوا معاني الإيمان والنذور ، وفصلوا الأحكام في الدعاوي ، فهم – في الدين بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال .
الصنف الرابع : تجردوا للخدمة ، وادبوا على العبادة ، واعتزلوا الخلق . وهم – في الآخرة – كخواص الملك في الدنيا .
وقد أوضحنا في كتاب ( سراج المريدين ) في القسم الرابع من علوم القرآن أى المنازل افضل من هؤلاء الأصناف ، وترتيب درجاتهم .(70/101)
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : وهذه كلها إشارات أو تصريحات او دلالات أو تنبيهات . ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى ، وتحقيق ما كان من العقلاء .
ونقول – بعد هذا البيان – على مقام آخر : لو كان هنالك نص على ابي بكر أو على علي ، لم يكن بد من احتجاج علي به ، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار . فأما حديث
--------------------------------
…( 1 ) المداعسة : المطاعنة ، المدافعة .
غدير خم ( 1 ) فلا حجة فيه ، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته – عند سفره للمناجاة – على بنى إسرائيل . وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة ؟ .
…وأما قوله (( اللهم وال من والاه )) فكلام صحيح ، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة ، فإنهم أنزلوه في غير منزلته ، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته . والزيادة في الحد نقصان من المحدود . ولو تعدى عليها ابو بكر ما كان المتعدى وحده ، بل جميع الصحابة – كما قلنا – لأنهم ساعدوه على الباطل .
…ولا تستغربوا هذا من قولهم ، فإنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مدارياً لهم ، معنياص بهم على نفاق وتقية . وأين أنت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع قول عائشة - رضي الله عنه - : مروا عمر فليصل بالناس (( إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس ( 2 ) )) . وما قدمنا من تلك الأحاديث ( 3 ) .(70/102)
…لقد اقتحموا عظيماً ، ولقد افتروا كبيراً . وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبأبي بكر ، إذ قال : (( إن استخلف فقد أستخلف من هو خير منى ، وإن لم استخلف فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف ( 4 ) فما رد هذه الكلمات أحد . وقال : (( أجعلها شورى في النفر اللذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ( 5 ) )) . وقد رضى الله عن اكثرهم منهم ، ولكنهم كانوا خيار الرضا ، وشهد لهم بالأهلية للخلافة .
…واما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان ، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه ( 6 ) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول ، فالحول والقوة لله . وقد علم كل أحد أن لا يليها إلا واحد ، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر – بعد أن أخرج نفسه
-----------------------------
…( 1 ) الذي مضى في القاصمة ص 181 ، وأنظر في ص 185 – 186 تفسير الحسن المثنى لهذا الحديث .
…( 2 ) صحيح البخاري ( ك 10 ب 39 و 46 و 67 و 68 و 70 – ج 1 ص 161 – 162 و 165 ، و 174 – 176 ) من حديث عائشة وأبي موسى الأشعري .
…( 3 ) في ص 187 – 190 .
( 4 ) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم ( ك 33 ح 11 و 12 – ج 6 ص 4 – 5 ) من حديث عروة بن الزبير عن ابن عمر ، ومن حديث سالم عن ابن عمر . وفي مسند أحمد ( 1 : 43 رقم 299 ) عن عروة عن ابن عمر ، و ( 1 : 46 رقم 322 ) عن حميد ابن عبد الرحمن عن ابن عباس ، و ( 1 : 47 رقم 232 ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر .
( 5 ) من حديث عمرو بن ميمون المطول في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 8 ج 4 ص 204 – 207 ) ، وانظر كتابنا هذا ص 52 – 53 .(70/103)
( 6 ) بل إلى الله وإن الله هم الموفق لابن عوف وسائر إخوانه الصحابة حتى كانوا في ذلك الموقف على ما اراده الله لهم من صفاء النية وإخلاص القصد والعمل لله وحده فكان من اختيار خليفة عمر في حادث الشورى مثلاً أعلى النفس الإنسانية عندما تكون في اعلى مراتب النبل ، والتجرد عن جميع خواطر الهوى .
على ان يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد ، فكان كما فعل ، وولاها من استحقها ، ولم يكن غيره أولى منه بها ، حسبما بينا في (( مراتب الخلافة )) من ( أنوار الفجر ( 1 ) ) وفي غيره من [ كتب ] الحديث .
…وقتل عثمان ، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي ، فجاءته علي قدر ، في وقتها ومحلها . وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله ان يبين . وقد قال عمر (( لولا على لهلك عمر ( 2 ) )) . وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة – من استدعائهم ومناظرتهم ، وترك مبادرتهم ، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه : لا نبدأ بالحرب . ولا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا تهاج امرأة ، ولا نغتم لهم مالا – وامره بقبول شهادتهم ، والصلاة خلفهم ، حتى قال أهل العلم : لولا ما جرى ما عرفناه قتال أهل البغي .
…وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه ( 3 ) .
وأما تكفيرهم للخلق ، فهم الكفار ، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التى ليس منها سب في غير ما كتاب ، وشرحناها في كل باب .(70/104)
فإن قيل : فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعلياً أختصما عند عمر في شان أوقاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال العباس لعمر : يا امير المؤمنين ، أقض بينى وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر ( 4 ) . فقال الرهط لعمر : يا أمير المؤمنين ، أقضى بينهما وارح احدهما من الآخر . فقال عمر : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا نورث ، ما تركناه صدقة )) يريد بذلك نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك . فأقبل العباس وعلى فقال : أنشدكما الله ، هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال عمر : إن الله خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفئ بشئ لم يعطه أحداً غيره ، فعمل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته ، ثم توفى ، فقال أبو بكر : أنا ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول
------------------------------------
…( 1 ) هو التفسير الكبير لابن العربي في ثمانين مجلداً . تكلمنا عليه في ص 27 .
( 2 ) هذا مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : (( أول من يصافحه الحق عمر )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به )) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لو كان من بعدي نبي لكان عمر )) .
( 3 ) وانه كان خوجاً للتفاهم والتعاون على إقامة الحدود الشرعية في مقتل أمير المؤمنين عثمان ، أنظر ص 150 – 152 .(70/105)
( 4 ) تقدم في ص 49 – 50 ذكر هذا التقاضي بين العباس وعلى عند أمير المؤمنين عمر من حديث مالك بن اوس بن الحدثان النصري في صحيح البخاري . قال الحافظ ابن حجر في فتح البارى ( ك 57 ب 1 – ج 6 ص 125 ) : زاد شعيب ويونس : (( فاستب على وعباس )) وفي رواية عقيل ابن شهاب في الفرائض : (( اقض بينى وبين هذا الظالم . استبا )) وفي وراية جويرية (( وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن )) . قال الحافظ : ولم أر في شئ من الطرق انه صدر من على في حق العباس شئ ، وبخلاف ما يفهم من قوله في رواية عقيل (( استبا )) . واستصوب المازرى صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال : لعل بعض الرواة وهم فيها وغن كانت محفوظة ، فأجود ما يحتمل عليه ان العباس قالها دلالا على علي ، لأنه كان عنده بمنزلة الولد ، فأراد ردعة عما يعتقد أنه مخطئ فيه .
الله - صلى الله عليه وسلم - . وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن ( 1 ) ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق …. وذكر الحديث .
قلنا : أما قول العباس لعلى فقول الأب للأبن ، وذلك على الرأي محمول ، وفي سبيل المغفرة مبذول ، وبين الكبار والصغار – فكيف الآباء والأبناء – مغفور موصول ، وأما قول عمر أنهما اعتقد ان أبا بكر ظالم خائن غادر ، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام ، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا ، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا ، ولم ير العباس وعلى ذلك . ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه . وأما المحكوم عليه فرأي أنه قد وهم ، ولكن سكت وسلم .(70/106)
فإن قيل : إنما يكون ذلك في اول الحال – والأمر لم يظهر – غذ كان الحكم باجتهاد ، وأما [ بعد أن ] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا نورث ما تركناه صدقة )) وعلمه أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه العشرة وشهدوا به ، فبطل ما قلتموه ( 2 ) .
قلنا : يحتمل ان يكون ذلك في أول الحال – والأمر لم يظهر بعد – فرايا أن خبر الواحد في معارضته القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر ، فلما تقرر سلما وانقادا ، بدليل ما قدمنا من الحديث الصحيح إلى آخره ، فلينظر فيه . وهذا ايضاً ليس بنص في المسالة ، لأن قوله (( لا نورث ، ما تركناه صدقة )) يحتمل أن يكون : لا يصح ميراثنا ، ولا أنا أهل له ، لأنه ليس لي ملك ، حكم ، وقوله (( ما تركناه صدقة )) حكم آخر معين اخبر به انه قد أنفذ ذلك مخصوصاً لما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، واكن له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة . ويحتمل أن يكون (( صدقة )) منصوباً على ان يكون حالاً من المتروك . إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة ، وهو ضعيف ، وقد بيناه في موضعه . بيد ان يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف ، ومحل الاجتهاد ، أنها ليست بنص من النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله اعلم .
-------------------------------
( 1 ) قال الحافظ ابن حجر ( 6 : 125 ) : وكان الزهرى يحدث به تارة فيصرح وتارة فيكنى ، وكذلك مالك ، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه افسماعيلي وغيره ، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلى … ألخ .
( 2 ) أنظر ص 48 – 51 .
قاصمة
ثم قتل علي . قالت الرافضة : فعهد إلى الحسن ، فسلمها الحسن إلى معاوية ، فقيل له
(( مسود وجوه المؤمنين ( 1 ) )) وفسقته جماعة من الرافضة ، وكفرت طائفة لأجل ذلك .
عاصمة(70/107)
قال القاضي أبو بكر ( - رضي الله عنه - ) : أمنا قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل . ما عهد إلى أحد ( 2 ) . ولكن البيعة للحسن منعقدة ، وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره ، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفتنة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة ، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الآمر صيانة لحقن دماء الأمة ( 3 ) ، وتصديقاً لقول نبي الرحمة حيث قال على المنبر : (( ابنى هذا سيد )) ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (4)
-------------------------------(70/108)
( 1 ) من عناصر إيمان الرافضة – بل العنصر الأول في إيمانهم – اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه واخيه ، وتسعة من ذرية اخيه . ومن مقتضى عصمتهم – وفي طليعتهم الحسن بعد ابيه – أنهم لا يخطئون ، وان كل ما صدر عنهم فهو حق ، والحق لا يتناقض وأهم ما صدر عن الحسن بن على بيعته لأمير المؤمنين معاوية ، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة ، وان يؤمنوا بانها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم . لكن المشاهد من حالهم انهم كافرون بها . ومخافون فيها لإمامهم المعصوم . ولا يخلو هذا من أحد وجهين : فإما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الإثنى عشر ، فينهار دينهم من اساسه ، لأن عقيدة العصمة لهم هي اساسه ، ولا اساس له غيرها . وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن ، وأ، بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم ، لكنهم خارجون على الدين ، ومخالفوة للمعصوم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به . ويتواصلون بهذا الخروج على الدين جيلاً بعد جيل ، وطبقة بعد طبقة ، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر . ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة اكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر ، ولا ثالث لهما . فالذين قالوا منهم إن الحسن (( مسود وجوه المؤمنين )) لا يحمل كلامهم إلا على اأنه (( مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت )) اما المؤمنون بنبوة جد الحسن - صلى الله عليه وسلم - فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من أعلام النبوة ، لأنها حققت ما تنبا به - صلى الله عليه وسلم - في سبطه سيد شباب أهل الجنة من انه سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سياتى بيانه . وكل الذين استبشروا بهذه النبوة وبهذا الصلح يعدون الحسن (( مبيض وجوه المؤمنين )) .(70/109)
( 2 ) روى الإمام أحمد في مسنده ( 2 : 130 برقم 1078 ) عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن ابي الجعد عن عبد الله بن سبع قال : سمعت علياً يقول ( وذكر أنه سيقتل ) قالوا : فاستخلف علينا . قال : (( لا ، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . قالوا . فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : (( أقول : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتني إليك وانت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإ، شئت أفسدتهم ، وروى أحمد مثله ( 1 : 156 برقم 1339 ) عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة ابن كهيل عن عبد الله بن سبع . والخبران إسناد كل منهما صحيح . ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 : 250 – 251 ) عن الإمام البيهقي من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الإمام الشعبي عن ابي وائل شقيق بن سلمة الأسدي أحد سادة التابعين أنه قبل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ قال : (( ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستخلف ، ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدى على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم )) ، وهذا الحديث جيد الإسناد . ونقل ابن كثير أيضاً ( 7 : 323 ) عن الإمام البيهقي حديث حبيب بن أبي ثابت الكاهلى الكوفي عن ثعلبة بن يزيد الحماني ( وهو من شيعة الكوفة وثقة النسائي ) أنه قيل لعلى : ألا تستخلف ؟ فقال : (( لا ، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . وأنظر السنن الكبرى للبيهقي 8 : 149 .(70/110)
( 3 ) حكاية الوساطة بين الحسن ومعاوية وصلحهما رواها الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه ( ك 53 ب 5 9ج 3 ص 169 ) عن الإمام الحسن البصري قال : استقبل – والله – الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال . فقال عمرو بن العاص : إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين : أى عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لى بأمور الناس ، من لى بنسائهم ، من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس – عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله ابن عامر بن كريز – فقال : اذهبا إلى هذا الرجل ( أى الحسن بن على ) فاعرضا عليه ( أى ما يشاء ، وقولا له ( أي ما يرضيه ) ، واطلبا إليه ( أى ما تريان فيه المصلحة ، فأنتما مفوضان ) . فأتياه ، فدخلا عليه ، فتكلما ، وقالا له ، وطلبا إليه . فقال لهما الحسن ابن على : إنا بنو عبد المطلب قد اصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ( أى فيحتاج إرضاؤها في دمائها إلى مال كثير ) قال : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك . قال : فمن لى بهذا ؟ قالا : نحن لك به . فما سألهما إلا قال : نحن لك به . فصالحه
( 4 ) رواه البخاري مع الحديث السابق عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة وأن أبا بكرة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر والحسن بن على إلى جنبه فقال ذلك ، رواه البخارى أيضاً في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة من صحيحه ( ك 62 ب 22 – ج 4 ص 216 ) ، وأنظر البداية والنهاية ( 8 : 17 – 19 ) وابن عساكر ( 4 : 211 – 212 ) .
فنفذ الميعاد ، وصحت البيعة لمعاوية ، وذلك لتحقيق رجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمعاوية خليفة ، وليس بملك ( 1 ) .(70/111)
فإن قيل : فقد روى عن سفينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تعود ملكاً )) فإذا عددنا من ولاية ابي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يوماً ، قلنا :
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
هذا الحديث ( 2 ) في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه ، لجريان الصلح بين يديه ، وتسليم الأمر لمعاوية ، عقد منه له ( 3 ) .
وهذا ( 4 ) حديث لا يصح ( 5 ) . ولو صح فهو معارض لهذا الصلح المتفق عليه ، فوجب الرجوع إليه ( 6 ) .
فإن قيل : ألم يكن في الصحابة اقعد بالأمر من معاوية ؟
قلنا : كثير ( 7 ) . ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال : وهي أن عمر جمع له الشامات كلها
--------------------------------
( 1 ) سيأتى الكلام على هذا الموضوع في ص 207 – 210 .
( 2 ) أى حديث (( أن بنى هذا سيد )) الذى رواه البخارى البصرى عن أبي بكرة .
( 3 ) أى عقد بيعة من الحسن لمعاوية . وكان ذلك في موضع يقال له (( مسكن )) على نهر دجيل في ربيع الأول سنة إحدى واربعين ، فسمى ذلك العام (( عام الجماعة )) لاجتماع المسلمين بعد الفرقة ، وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح ونشر دعوة الإسلام بعد أى عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجاداً لا يستطيع غيرهم مثلها في خمسة قرون . ولله في كل شئ حكمة .
( 4 ) أى حديث سفينة .(70/112)
( 5 ) لأن رواية عن سفينة سعيد بن جهمان ، وقد اختلفوا فيه : قال بعضهم لا بأس به ، ووثقة بعضهم ، وقال فيه الإمام أبو حاتم (( شيخ لا يحتج به )) . وفي سنده حشرج ابن نباتة الواسطى وثقة بعضهم ، وقال فيه النسائي (( ليس بالقوى )) . وعبد الله بن أحمد ابن حنبل يروى هذا الخبر عن سويد الطحان قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب . (( لين الحديث )) . وهذا الحديث المهلهل يعارضه ذلك الحديث الصحيح الصريح الفصيح في كتاب الإمارة من صحيح مسلم ( ك 33 ح 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 – ج 6 ص 3 – 4 ) عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول : (( إن هذا الآمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم أثنا عشر خليفة )) قال : ثم تكلم بكلام خفى علي ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : (( كلهم من قريش )) . وانظره في كتاب الأحكام من صحيح البخارى ( ك 93 ب 51 – ج 8 ص 125 – 127 ) وفتح البارى ( 13 – 162 وما بعدها ) وفي سنن ابي داود ( ك 35 ح 1 ) وفي جامع الترمذي ( ك 31 ب 46 ) وفي مسند الإمام أحمد ( 1 : 398 و 406 برقم 3781 و 3859 ) من حديث الشعبي عن مسروق بن الأجدع الهمداني الإمام القدوة قال كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ك يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله ابن مسعود : ما سالنى عنها أحد منه قدمت العراق قبلك . ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( أثنا عشر ، كعدة نقباء بنى إسرائل )) . والحديث في مجمع الزوائد ( 5 : 90 ) . وفي مسند أحمد ( 5 : 86 ، 87 بثلاث روايات و 88 ، 89 ، 90 بثلاث روايات و 92 بثلاث روايات و 93 بروايتين و 94 و 95 و 96 بروايتين و 97 بروايتين و 98 بثلاث روايات و 99 بثلاث روايات و 100 ، 101 بروايتين و 106 بروايتين و 107 بروايتين و 108 ) وفي مسند أبي داود الطيالسى ((70/113)
ح 967 و 1278 ) .
( 6 ) أى إلى العقد من الحسن لمعاوية ، فهو متفق عليه ، وتناوله البشرى النبوية بالثناء والرضا . قال شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة ( 2 : 242 ) ، وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحاً يحبه الله ورسوله ، وان ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التى أثنى بها عليه - صلى الله عليه وسلم - . ولو كان القتال واجباً أو مستحباً لم يثن النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك واجب أو مستحب …. الخ .
( 7 ) كسعد بن أبي وقاص المجاهد الفاتح أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وعبد الله ابن عمر بن الخطاب عالم الصحابة الثابت على قدم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في جليل الأمور ودقيقها ، وغيرهما من هذه الطبقة وقريب منها ، وهؤلاء هم الذين ترك لهما الحكمان – أبو موسى وعمرو – أمر الإمامة بعد حرب صفين ليروا فيها رأيهم ، فما رأوا اجتماع الأمة كلها على معاوية دخلوا كلهم في أمامته وبايعوه . بعد أن كانوا معتزلين الفتنة من بعد عثمان ( أنظر فتح البارى 13 : 50 ) . ومعاوية نفسه يعرف للناي أقدارهم . فقد جاء في البداية والنهاية ( 8 : 134 ) عن ابن دريد عن ابي حاتم عن العتبي ان معاوية ==
وافرده بها ( 1 ) ، لما رأى من حسن سيرته ( 2 ) وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور ( 3 ) ، وإصلاح الجند والظهور على العدو ( 4 ) وسياسة الخلق ( 5 ) .
…وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه ( 6 ) ، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناساً من امته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكاً على الأسرة ، او مثل الملوك على الأسرة ، وكان ذلك في
--------------------------(70/114)
== خطب فقال : (( يا ايها الناس ، ما انا بخيركم ، وإن منكم لمن هو خير منى : عبد الله ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو وغيرهما من الأفاضل . ولكن عسى أن أكون انفعكم ولاية ، وأنكاكم في عدوكم ، وأردكم حلباً )) . ورواه ابن سعد عن محمد بن مصعب عن أبي بكر ابن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول ذلك .
( 1 ) فأصبحت تحت قيادته وبحسن سياسته أقوى في الإسلام ، وهي في طليعة جيوش الجهاد والفتوح الظافرة الداعية إلى الله بأخلاقها وسيرتها قادتها وصدق إسلامهم .
( 2 ) تقد م في ص 82 حديث الليث بن سعد إمام أهل مصر بسنده الوثيق إلى سعد ابن ابي وقاص فاتح العراق وإيران ومبيد دولة كسرى أنه ما رأى بعد عثمان أقضى بالحق من معاوية . وحديث عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى حبر الأمة ابن عباس أنه ما رأى رجلاً أخلق بالملك من معاوية . وفي ص 83 قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، كانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة ، وكان رعيته يحبونه ، وقد ثبت في صحيح مسلم ( ك 33 ح 65 و 66 ) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خيار ائمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم . وفي الطبرى ( 6 : 188 ) رواية مجالد عن الشعبي أن قبيصة بن جابر الأسدى قال : ألا أخبركم من صحبت ؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رايت رجلاً أفقه ولا أحسن مدارسته منه ، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رايت رجلاً اعطى للجزيل من غير مسألة منه ، ثم صحبت معاوية فما رايت رجلاً أحب رفيقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه .(70/115)
( 3 ) وقد بلغ من همته وعظيم عنايته بذلك أن ارسل يهدد ملك الرومو – وهو في معمعة القتال مع علي في صفين – وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة فكتب إليه يقول (( والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك ، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك ولأخرجنك من جميع بلادك ، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت )) فخاف ملك الروم وانكف ( البداية والنهاية 8 : 119 ) .
( 4 ) في البر والبحر ، فكانت رايات الإسلام تحترق الآفاق بأيدى جنده ممثلة العزة التى ارادها الله لدينه ورسالة رسوله وللمؤمنين بها . وكما أن فتح مصر ودخولها في الإسلام والعروبة من عمل عمرو بن العاص وحده ، فإن تأسيس الأسطول الإسلامي والفتوح البحرية الأولى من عمل معاوية وحده . ومما ينبغي للمشغل بتاريخ العروبة والإسلام أن يعلمه أن معاوية مفطور على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم ، أخرج ابن كثير في التاريخ ( 8 : 135 ) عن هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم ان عبد الله ابن عمرو بن العاص قال : (( ما رأيت أحداً أسود من معاوية )) . قال جبلة بن سحيم . قلت ولا عمر ؟ قال : (( كان عمر خيراً منه ، وكان معاوية أسود منه )) . ورووا مثل هذه الكلمة في معاوية عن عبد الله بن عمر بن الخطاب . وتقدم قول عبد الله بن عباس (( ما رايت رجلاً كان اخلق بالملك من معاوية )) .(70/116)
( 5 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في ( منهاج السنة 3 : 185 ) لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ، إذا بسبت ايامه إلى من بعده . وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل . وقد روى أبو بكر الثرم – ورواه ابن بطة من طريقة – حدثنا محمد بن عمرو ابن جبلة ، حدثنا محمد بن مروان ، عن يونس ، عن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدى . وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال : لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدى . وروى الأثرم : حدثنا أحمد بن جواس ، حدثنا أبو هريرة المكتب قال : كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : لا والله ، بل في عدله . وقال عبد الله بن احمد بن حنبل : :اخبرنا أبو سعيد الشج ، حدثنا أبو أسامة الثقفى ، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر فقال : لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم : كان المهدى . وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الخليفة الصالح يوم قال - صلى الله عليه وسلم - (( اللهم اجعله هادياً ، مهدياً ، واهد به )) وهو من اعلام النبوة .(70/117)
( 6 ) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 28 ج 4 ص 219 ) حديث ابي مليكة ان ابن عباس قيل له : (( هل لك في أمير المؤمنين ومعاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة . فقال : إنه فقيه )) . وفي كتاب المناقب من جامع الترمذي ( ك 46 ب 47 ) حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاوية (( اللهم اجعله هادياً مهدياً وأهد به )) ورواه الطبراني من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي – وكان لأهل الشام كالإمام لأهل المدينة – عن ربيعة بن زيد الإيادى أحد الأئمة الأعلام عن عبد الرحمن بن ابي عميرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاوية (( اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب )) . واخرجه افمام البخاري في التاريخ قال : قال لى أبو مسهر ( وذكره بالنعنعه ) . وتقدم في ص 83 حديث عزل عمير بن سعد الأنصارى عن ولاية حمص في خلافة عمر وتوليته معاوية والشهادة له بان النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بان يهدى الله به . ورواه الإمام أحم من حديث العرباض بن سارية السلمى . ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي ، ورواه اسد بن موسى وبشر بن السرى وعبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح الإسناده . وزاد في رواية بشر بن السرى (( وأدخله الجنة )) . ورواه ابن عدى وغيره عن ابن عباس . ورواه محمد بن سعد بسنده إلى مسلمة ابن مخلد احد فاتحى مصر وولاتها . ورواة هذه الداعي النبوي لمعاوية من الصحابة أكثر من أن يحصوا . ( وانظر البداية والنهاية 8 : 120 – 121 . وانظر ترجمة معاوية في حرف الميم من تاريخ ==
ولايته ( 1 ) .
…ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية : خلافة ، ثم ملك . فتكون ولاية الخلافة للأربعة ، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية ( 2 ) . وقد قال الله في داود – وهو خير من كل معاوية - :
----------------------------(70/118)
== دمشق لابن عساكر . ومن لم يصدق هذا الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الإسلام . وفي الشيعة المبغضين لمعاوية اللاعنين له من يزعمون أنهم منتسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل تراهم يحقدون على جدهم - صلى الله عليه وسلم - لرضاه عن معاوية واستعاته به ودعائه له ؟ (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) وروى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعه الرازى أنه قال له رجل : إنى ابغض معاوية . فقال له : ولم ؟ قال : لأنه قتل علياً . فقال له أبو زرعة : (( ويحك ، إن رب معاوية رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم ، فإيش دخولك أنت بينهما ، - رضي الله عنه - ؟ )) .
…( 1 ) أم حرام بنت ملحان صحابية من الأنصار من أهل قباء ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء استراح عندها ، وهي خالة خادمة انس بن مالك . روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه ( ك 56 ب 3 – ج 3 ص 201 ) ومسلم في كتاب الإمارة ( ك 33 ح 160 ) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام عندها القيلولة ثم أستيقظ وهو يضحك لأنه رأى ناساً من أمته غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر – أى وسطه ومعظمه – ملوكاً على السرة . ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى . فقالت له أم حرام : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال لها (( أنت من الأولين )) . قال الحافظ ابن كثير ( 8 : 229 ) يعني جيش معاوية حين غزا قبرس ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان ( بقيادة معاوية عقب إنشائه الأسطول الإسلامي الأول في التاريخ ) . وكانت معهم ام حرام في صحبة زوجها عبادة بن الصامت . ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وابو ذر وغيرهما . وماتت أم حرام في سبيل الله وقبرها بقبرس إلى اليوم . وقال ابن كثير : ثم كان أمير الجيش الثاني يزيد بن معاوية في غزوة القسطنطينية . قال : وهذا من اعظم دلائل النبوة .(70/119)
( 2 ) الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تنكيف في التاريخ باعتبارها مدلوها العملى ، والعبرة دائماً بسيرة المرء وعمله . ومعاوية قد ولى الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة ، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن على له ، فكان في الحالتين قواماً بالعدل ، محسناً إلى الناس من كل الطبقات ، يكرم اهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم ، ويسع بحمله جهل الجاهلين بذلك نقائصهم ، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان . يؤمهم في صلواتهم ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم ويقودهم في حروبهم . وفي منهاج السنة 3 : 185 والمتنقى منه ص 389 قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام (( ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا )) يعني معاوية . وقد رأيت في ص 205 قول الأعمش اللذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله : (( كيف لو ادركتم معاوية ؟ )) قالوا : في حلمه ؟ قال : (( لا والله ، بل في عدله )) وق\ بلغ من استقامته على جادة الإسلام أنه قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وابي إسحاق السبيعي – وكلهم من الأئمة الأعلام - : كان معاوية هو المهدى ( أنظر ص 205 ) . والذي يتبع سيرة معاوية في حكمه يرى ان حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدل والتراحم والتآسى . لم يخبر بين الطيب والأطيب إلا أختار الأطيب على الطيب . فإذا كان هذا المسلك في اربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضوه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة ، ومن سماه ملكاً لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم ، كنا ايام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون فيه موضوع سيرة معاوية وخلافته . وكان ذلك في ايام السلطان عبد الحميد . فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل – وكان شيعياً – فقال : (( انتم تسمون(70/120)
سلطاننا خليفة ، وأنا أخوكم لشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة واصدق عملاً بالشرع المحمدى من خليفتنا ، فكيف بأبيه معاوية )) . على أن معاوية كان يقول عن نفسه – فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة ابن شوذب - : (( انا أول الملوك وآخر خليفة )) ، وتقدم في ص 77 حديث معمر عن الزهري (( أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه )) . وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتاثيره في أنظمة الحكم ، بل أن معاوية نفسه ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم ، فاستنكر عمر ذلك ، واعتذر له معاوية بقوله : إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة ، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام واهله ونرهبهم به )) . فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر : (( ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين )) فقال عمر : من اجل ذلك جشمناه ما جشمناه )) ( البداية والنهاية 8 : 124 – 125 ) ، وسيرة عمر التى حاول معاوية أن يسير عليها سنتين كانت المثل الأعلى في بيته ، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها . روى بن ابي الدنيا عن أبي كريب محمد ابن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري عن بكير بن الأشج المخزومي المدني ثم المصري أن معاوية قال ليزيد : كيف تراك فاعلاً إن وليت ؟ قال : كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب . فقال معاوية : سبحان الله يا بنى ، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما اطلقها ، فكيف بك وسيرة عمر ( ابن كثير 8 : 229 ) . والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم : إنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين . روى الإمام أحمد في كتاب الزهد ( ص 172 طبع مكة ) عن ابي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن على بن أبي حملة عن أبيه قال : رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع . وأخرج ابن كثير ( 8 : 134(70/121)
) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد ( وهو من شيوخ الإمام الأوزاعى ) قال : رأيت معاوية في سوق دمشق ، وهو مردف وراءه وصيفاً وعليه قميص مرقوع الجيب ، يسير في اسواق دمشق . وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بها ، فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها . روى الدارقطني عن محمد بن يحيى بن غسان أن القائد الشهير الضحاك بن قيس الفهرى قدم المدينة ، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر ، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية ، رآه أبو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابياً من عامة الناس ، حتى رضى أبو الحسن البراد أن يدفع ==
{ وآتاه الله الملك والحكمة } ( 1 ) . ( البقرة : 251 ) فجعل النبوة ملكاً . فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومتنها ( 2 ) .
…ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان – والله أعلم – رأى آخر للجمهور ، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التى شاءها الله ، على الوجه الذي وعد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادحاً له ، راضياً عنه راجياً هدنة الحال فيه ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ( 3 ) )) .
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو افضل منه ، فليست المسألة في الحد الذي يجعلها فيه العامة ، وقد بيناها في موضعها ( 4 ) .
فإن قيل : قتل حجر بن عدى – وهو من الصحابة مشهور بالخير – صبراً أسيراً يقول زياد ، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله ، قلنا : علمنا قتل حجر كلنا ، واختلفنا : فقاتل يقول قتله ظلماً ، وقائل يقول قتله حقاً ( 5 ) .
------------------------(70/122)
== له ثلاثمائة دينار . فانطلق به الضحاك بن قيس إلى بيت حويطب بن عبد العزى فليس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد بلا ثمن وقال له (( قبيح بالرجل أن يبيع عطافه ، فخذه فالبسه )) فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول مال أصابه ( ابن عساكر 7 : ص 6 ) وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التى كان أعداؤه واعداء الإسلام يصورونه بها ، فمن شاء بعد هذا أن يسمى معاوية خليفة واميراً للمؤمنين ، فغن سليمان بن مهران الأعمش – وهو من الأئة الأعلام الحافظ ، وكان يسمى (( المصحف )) لصدقه – كاد يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله . ومن لم يملأ عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب ، فإن معاوية مضى إلى الله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح وعمله ، وكان وهو في دنيانا لا يبالى أن يقلب بالخليفة أو الملك ، وإنه في آخرته لأكثر زهداً بما كان يزهد به في دنياه .
( 1 ) إن داود في نبوته – كما يعرفها المسلمون في دينهم – تجعله خيراً من كل معاوية واما داود اليهود – كما يعرفه الناس من توراتهم الموجودة الآن في الأيدى – فإن معاوية خير منه . ومن شقاء اليهود ألا يعرفوا للقرآن والإسلام فضلهما عليهم في تنزيه أنبياء بنى إسرائيل عما وصموا به في كتبهم .
( 2 ) يشير إلى حديث سفينة ، وقد مضى الكلام عليه في ص 201 .
( 3 ) تقدم الكلام على هذا الحديث في ص 200 .(70/123)
( 4 ) أى من مؤلفاته الأخرى . وهذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي الممحصة المبنية أحكامها على النصوص والسنن والأسس الشرعية التى قام الدين على مثلها في باب جلب المصالح ودرء المفاسد وتقدير الضرورات بأقدرها . والقاضي أبو الحسن الماوردى في الأحكام السلطانية ( ص 5 ) لم يذكر مخالفاً في جواز إمامة المفضول إلا الجاحظ ، وما يضر أئمة الدين إذا خالفهم الجاحظ ، وهل العباسيون الذين عرف الجاحظ بالتقرب إليهم في حياتهم كانوا أفضل معاصريهم ؟ أما جمهور الفقهاء والمتكلمين فقالوا تجوز إمامة المفضول وصحت بيعته ، ولا يكون وجود الأفضل مانعاً من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصراً عن شروط الإمامة ، كما يجوز – في ولاية القضاء – تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار ، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق ، ونحيل القارئ على كتاب (( الإمامة والمفاضلة )) لأبي محمد بن حزم المدرج في الجزء الرابع من طبعة (( الفصل ، ولا سيما الفصل المعقود فيه لأمامة المفضول ( ص 163 – 167 من طبعة مصر سنة 1320 ) .(70/124)
( 5 ) حجر بن عدى الكندى عدة البخارى وآخرون من التابعين . وعدة البعض الآخر من الصحابة . وكان من شيعة على في الجمل وصفين . وروى بن سيرين أن زياداً – وهو أمير الكوفة – خطب خطبة اطال فيها ، فنادى حجر بن عدى (( الصلاة ! )) فمضى زياد في خطبته ، فحصبه حجر وحصبه آخرون معه . فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغى حجر على أميره في بيت الله ، وعد ذلك من الفساد في الأرض . فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إلى …. فلما جئ به إلى معاوية أمر بقتله . فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون : ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع ، مندفعاً بعاطفة الحزبية والتشيع . والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون كان ينبغى لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه . ويجيبهم الآخرون بان معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغى عليه في شخصه . فأما البغى على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو مالا يملك معاوية أن يتسامح فيه ، ولا سيما في مثل الكوفة التى اخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح ، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها ==
فإن قيل : الأصل قتلة ظلماً إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله : قلنا : الأصل أن قتل الإمام بالحق ، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل ولو كان ظلماً محضاً لما بقى بيت إلا لعن فيه معاوية . وهذه مدينة السلام دار خلافة بنى العباس – وبينهم وبين بنى أمية مالا يخفى على الناس – مكتوب على أبواب مساجدها : (( خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم على ، ثم معاوية خال المؤمنين - رضي الله عنه - ( 1 ) )) .(70/125)
ولكن حجراً – فيما يقال – رأى من زياد أمور منكرة ( 2 ) ، فحصبه ، وخلعه ، وأراد ان يقيم الخلق للفتنة ، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً .
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني وحجراً حتى نلتقى عند الله . وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدى الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين ، وما انتم ودخولكم حيث لا تشعرون ، فما لكم لا تسمعون ؟
فإن قيل : قد دس على الحسن من سمه .
قلنا : هذا محال من وجهين : أحدهما أنه ما كان ليتقى من الحسن باساً وقد سلم الأمر . الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه – بغير بينة – على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل ، بين ايدى قوم ذوى أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغى ، فلا يقبل منها إلا الصافى ، ولا يسمع فيها إلا من العدل المصمم (3)
فإن قيل : فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل ( 1 ) .
-----------------------------
== او أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من اهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب . وكما كانت عائشة تود لو أن معاوية شمل حجراً بسعة صدره ، فغن عبد الله بن عمرو كان يتمنى مثل ذلك . والواقع ان معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه ، إلا أنه مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جرى إليه تمادى الذين اجترأوا عليه .
( 1 ) المؤلف قام في بغداد زمن الدولة العباسية كما ذكرنا في ترجمته ، فهو يعرف مساجدها معرفة مشاهدة وعيان . ومعاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان المشهرة بكنيتها ( أم حبيبة ) .(70/126)
( 2 ) كان زياد في خلافة علي والياً من ولاته ، وكان حجربن عدى من اولياء زياد وانصاره يؤمئذ ، ولم يكن ينكر عليه شيئاً . فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب والتشيع . وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد ، فلمعاوية عذر إذا رأى أن حجراً ممن سعى في الأرض فساداً .
( 3 ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 2 : 225 ) فيما تزعمه الشيعة من أن معاوية سم الحسن : (( لم يثبت ذلك ببينة شرعية ، ولا إقرار معتبر ، ولا تقل يجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم )) . قال : وقد رأينا في زماننا من يقال عنه سم ومات مسموماً من الأتراك وغيرهم . ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذ مات فيه والقلعة التى مات فيها ، فتجد كلا منهم يحدث بالشئ بخلاف ما يحدث به الآخر )) . وبعد أن ذكر ابن تيميه أن الحسن مات بالمدينة وان معاوية كان بالشام ، وذكر للخبر احتمالات – على فرض صحته – منها أن الحسن كان مطلاقاً لا يدوم مع امرأة …. الخ ( وأنظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 266 ) .
( 4 ) إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ ابي بكر وعمر في مجموع سجاياهما فهذا مالم يبلغه خليفة في تاريخ الإسلام ،ولا عمر بن عبد العزيز . وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن الاستقامة في السيرة ، والقيام بحرمة الشريعة والعمل بأحكامها ، والعدل في الناس ، والنظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم وتوسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بافرادهم وجماعاتهم ، فغن يزيد يوم تمحص اخباره ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، واجزل الثناء عليهم .(70/127)