و لا يسعنا إغفال دور أعيان البوسنة في خدمة وحفظ تراث الصوفية العلمي، والعناية بكتبهم، الأمر الذي نوثقه بإلقاء نظرة على إحدى وقفيات الكتب في البوسنة وهي وقفية درويش باشا الموستاري، حيث ذكر في وقفيته التي كتبها بيده واحداً وأربعين كتاباً تشمل علوم مختلفة ويظهر من عناوينها عظم اهتمامه بكتب الصوفية، وظهور نسبتها بين ما أوقفه من كتب أكثر من تسعة أعشارها في الأوراد والكرامات وأحوال أهل الطرق(1).
لا بد من الإشارة هنا إلى أنَّه على الرغم من الدعم الرسمي الذي قدَّمته الدولة العثمانيَّة، ومن بعدها الأنظمة العلمانية التي تسلطت على البوسنة، فإنَّ قدراً من التصدي للصوفيَّة قد كان موجوداً بين علماء البوسنة.
و قد كان لخصوم التصوف في البوسنة منطلقان في مقاومته:
…المنطلق الأوَّل: وهو باعتبار الطرق الصوفيَّة طرقاً مبتدعةً في الدين، وفيها مخالفاتٌ كثيرة للكتاب السنة، ولما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، في العلم والعمل، التي ربَّما أدَّت بصاحبها إلى المروق من الإسلام.
…و قد عرف بالتصدي للتصوف والصوفيَّة من هذا المنطلق عددٌ من علماء الإسلام البشانقة، ومن أشهرهم العلاَّمة حسن كافي الآقحصاري، الذي سبقت الإشارة إلى موقفه من الحمزويين، حيث حكم بكفرهم، ودعا إلى مجاهدتهم، وكان سبَّاقاً إلى ذلك.
__________
(1) انظر: نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك: 290- 296.(61/9)
لقد صنَّف الشيخ حسن كافي الآقحصاري كتاب: (روضات الجنات في أصول الاعتقادات)، وشرحه فيما بعد في كتاب سمَّاه: (أزهار الروضات في شرح روضات الجنَّات): لنقض أوهام فرقة (الحمزوية)، التي أنكر منكرها بيده حين خرج في تلاميذه لجهادهم، ثم بقلمه من خلال التأليف والتصنيف، فعمد إلى الكتابة، وآثر أن يعتمد على مؤلَّفات السابقين، في تقرير ما أراد لأنَّ ((التأليف الجديد سيجد صعوبة بالغة في تقبل الناس له، بل سيجد معارضة شديدة منهم، حيث كانت كتب المتون القديمة المشهورة قد انتشرت ودُرِّسَت في جميع المدارس، فجَمَعَ تلك المتون في كتابٍ واحد، وشرحه شرحاً أضاف به إليها صبغة
جديدة …))(1).
و في هذا الكتاب قرَّر الشيخ مسائل العقيدة ابتداءً، مع الاعتداد – أحياناً – بالأدلَّة العقليَّة، التي تنقض دعاوى (الحمزويَّة) القائمة أصلاً على حجج المعقول، ولا حظ لها في المنقول.
أمّا من بعد الشيخ حسن كافي فلم يكونوا على نفس المكانة العلمية أو العملية في التصدي للتصوف والصوفية.
و في العصر الحديث نزع كثيرٌ من البوسنويين إإلى اعتبار التصوف مكمِّلاً للعلوم الشرعيّة الأخرى، وعدّوا العلم بدونه قشور، والتصوف المجرَّد من العلم الشرعي ضلال، وأن الإسلام الحق مضيّعٌ بين تفريط مفرّط، وإفراط مُفرط.
يقول الأستاذ حسين جوزو: ((غلا الفقهاء من جهةٍ، والصوفيَّةُ من جهةٍ أخرى، فحوَّل علماء الظاهر الإسلام إلى مجرَّد قشور، بينما أفرط علماء الحقيقة في الجانب الروحي))(2).
__________
(1) انظر: مقدمة الدكتور زهدي عادلوفيتش، لكتاب نور اليقين، ص: 56.
(2) حسين جوزو: الإسلام والعصر، ص: 135.(61/10)
أما المنطلق الثاني: فهو باعتبار المتصوِّفة والطرق الصوفية، حجر عثرة في طريق الدعاة إلى الجهاد، والمتعطشين إلى إقامة مجتمع إسلامي بين البوشناق، وتحرير المسلمين من سلطة النصارى التي أخضعتهم أكثر من قرن، عملت خلاله على مسخ شخصيَّتهم الإسلاميَّة، وإبعادهم عن دينهم، وتجريدهم حتى من العادات والتقاليد التي تمت إلى الإسلام بصلة ما.
و من أبرز المتصدِّين للتصوف من هذا المنطلق الرئيس علي عزَّت، الذي ما لبث يؤكِّد في كتاباته على اعتبار الصوفية مثبِّطة عن الجهاد في سبيل الله، ومبرِّرة للخنوع والخضوع الذي كان عليه مسلمو البلقان تحت الحكم الشيوعي.
فهو يعتبر ((الفلسفة الصوفية والمذاهب الباطنية تمثل بالتأكيد نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً ولذلك يمكن أن نطلق عليها (نصرنة) الإسلام، إنها انتكاسة بالإسلام من رسالة محمد إلى عيسى عليهما السلام))(1).
كما يجمع بين أهل التصوُّف المذموم والعقلانيين باعتبار دورهم في حصر الإسلام في بعض جوانبه، في قوله ((لقد أكد المتصوفة باستمرار على الجوانب الدينية - فقط - للإسلام، بينما أكد العقلانيون على الجانب الآخر، وكلا الفريقين لم يكن طريقه مع الإسلام ميسراً))(2).
__________
(1) الإسلام بين الشرق والغرب ص: 287، 288.
(2) المرجع السابق، ص: 35.(61/11)
و إذا جاز أن يُقال: إنَّ الإسلام جاء ليحض على العبادة وتقويم السلوك، وليس لتقديم نظام سياسي، فإنَّما يجوز ذلك عند من يرى الإسلام مرحلته المكيَّة، ويجهل أو يتجاهل المرحلة المدنيَّة من تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث شُرع الجهاد وقامت دولة الإسلام، وهذا يدُلُّ على تطوُّر الإسلام، لا على جموده الذي يروِّجُ له دعاة فصل الدين عن الدولة فلقد ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء صائماً متنكساً متصوفاً حنيفاً، وكان في مكة داعياً إلى فكرة دينية، أما في المدينة، فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية … فهناك وليس في مكة بداية ومصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله … لقد بدأ الإسلام صوفياً وأخذ يتطور حتى أصبح
دولة))(1).
و يجمع الرئيس بين الصوفيَّة وعموم الواقفين في وجه الإسلام فيقول محذراً: ((لقد انشطرت وحدة الإسلام على يد أناس اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية … ذلك لأن المسلمين عندما يهملون دورهم في هذا العالم … تصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها، في حين يبدأ الدين (الخامل) يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون، ورجال الكهنوت والفرق الصوفية، والشعراء السكارى الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام))(2).
و قريباً من هذا المذهب يقف الأستاذ حسين جوزو، حيث يقول: ((لا يمكننا التسليم بقول الصوفيَّة: إن العلم يمكن تحصيله بطريق الكشف … لأنَّه في الوقت الذي كانوا يذكرون فيه الكشف والكرامات الواقعة على أيدي بعض المشائخ، ومنها إحياء الموتى (!) كان العالم الإسلامي يتعرَّض لصنوف المحن والشدائد.
ألم يكن غزو المغول ووحشيَّتهم، والحروب الصليبيَّة، والعدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف وقيمة الكرامات !!
__________
(1) المرجع السابق، ص: 279.
(2) الإسلام بين الشرق والغرب ص: 287.(61/12)
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات والحكايات المختلقة عن الكشف والكرامات، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة))(1).
و من هذين المنطلقين وقف عدد من الكتَّاب المسلمين من أبناء البوسنة في وجه المد الصوفي الكاسح، ولكن جهودهم لم تكن كافية لوقف مده، أو الحد من انتشاره.
و لا يعني هذا أنه استمرَّ في الانتشار، بل على العكس من ذلك، كاد التصوف يتلاشى نهائيَّاً من الوجود في المجتمع البوسنوي، حيث نفر المسلمون منه كما نفروا من كلِّ ما يمت إلى الإسلام بصلة بتأثير حملات التغريب التي قام بها الشيوعيُّون بين مسلمي يوغسلافيا عامة ومسلمي البوسنة على وجه الخصوص.
فلقد اختفت الطرق الصوفيَّة حينما اختفت المدارس الشرعية، ولوحق مشائخها ومرشدوها عندما لوحق علماء يوغسلافيا ومفكروها، وحوت السجون الجميع دون تفريق، أمَّا التكايا والزوايا فقد آلت إلى حالٍ لا تختلف كثيراً عن الحال التي آلت إليها المساجد والمصلَّيات، فأغلق الغالب منها، وحول بعضها إلى مرافق عامة كالمتاحف واصطبلات الخيول، أمَّا ما تبقى منها فرُصد روَّاده من المسلمين، وضيِّق عليهم حتى حصروا في ثلَّة من المشائخ الرسميين، والعجزة , وكبار السن.
هذه هي الحال التي كانت عليها الصوفيَّة في البوسنة والهرسك منذ العهد العثماني، وحتى نشوب الحرب الأخيرة التي آذنت بعودة جديدة للإسلام، كان من بين مظاهرها عودة البعض إلى التصوُّف من جديد، ومن هؤلاء طلاَّب علم لقيت بعضهم في دمشق والقاهرة، وعلمت منهم أنَّ المشيخة الإسلاميَّة قد ساعدتهم على الرحلة في طلب العلم والتتلمذ على مشائخ الصوفيَّة في العالم العربي بعد أن شعرت بقوَّة المد السلفي في البوسنة الذي ترفده هيئات خيرية، وجامعات سلفيَّة في منطقة الخليخ العربي وخارجه.
__________
(1) حسين جوزو: الإسلام والعصر، ص: 153.(61/13)
كما لقيت في دمشق وحلب طائفة من دعاة البوسنة المعاصرين يتتلمذون على بعض مشائخ الصوفيَّة في دمشق، ويدرسون فيما يدرسون كتاب (الرسالة القشيريَّة) في التصوُّف، ومنهم الدكتور شفيق كورديتش أستاذ الحديث النبوي وعلومه في الأكاديمية الإسلاميَّة في زينتسا، والحافظ خليل مهتيتش مفتي وسط البوسنة السابق، علماً بأنَّهما ومن كان معهما يُحسبون في البوسنة على الاتجاه السلفي، وقد أوذي بعضهم بهذه الذريعة.
انتشار البدع في حياة مسلمي البوسنة والهرسك
لا يخلو مجتمعٌ يعاني من الجهل بالدين والبعد عن تعاليمه الحقة ما عاناه ويعانيه المجتمع البوسنوي المسلم من شيوع البدع وانتشار الخرافات بين أفراده، وكفى للدلالة على ذلك أنَّ من البوشناق من خلطوا بين الأديان في بعض مراحل تاريخهم، فخرجوا بعقائد لم يسبقوا إليها.
و هذا أخطر بكثير من شيوع البدع التي قد تكون في فروع الدين، وليس بالضرورة أن تكون مكفِّرة مخرجةً من الملَّة.
و شأن البوسنة في ذلك شأن سائر ولايات الدولة العثمانيَّة، فما من بدعةٍ ظهرت في دار الخلافة إلاَّ وكان لها وجود - متفاوتٌ في حجمه - في مختلف أنحاء السلطنة.
و من البدع التي لها وجود ملحوظٌ في البوسنة والهرسك أكتفي بذكر ما هو لافتٌ واسع الانتشار:
المبالغة في الاهتمام والعناية بالأضرحة وقبور الصالحين، وبناء القبب عليها واتخاذها مساجد تنشر في كلِّ مكان، ويعيَّن عليها قيِّمون، وتخصَّص لها أوقاف، وتجبى إليها نذور وقرابين.(61/14)
و ربَّما كان بناء القباب على القبور بحرصٍ على تنفيذ وصيَّة من صاحب القبَّة نفسه، وللتمثيل على ذلك تحسن الإشارة إلى وقفيَّة المحسن سنان بيك في بلدة جاينتسة (Cajnice) التي جاء فيها: ((أوصى الواقف ابنه سليمان أن يبني له ضريحاً من الحجر من موارد نقوده الموقوفة، كما أوصى أن يعيَّن في ضريحه حارسٌ وفرَّاش، وقرَّاءٌ للقرآن، ومشرف على هؤلاء الموظَّفين))(1).
كما ((كان الواقف كثيراً ما يوصي بدفنه بجانب مؤسَّساته الخيريَّة، مع أهله وأقربائه ثمَّ أصحاب المحلَّة المشهورين.
و بجانب الجوامع الكبيرة كان مؤسسوها يبنون المقابر الخاصَّة على شكل أضرحةٍ تسمى في البوسنة (تربةً)، وهي عبارة عن بناء صغير مكشوفٍ أو مسقوفٍ، وهندسته في الغالب مأخوذة من فن المعمار العثماني.
و هناك عددٌ غير قليل من هذه الأضرحة في البوسنة حول المساجد والزوايا، وغيرها من المؤسَّسات الدينية، دُفنت فيها شخصيَّات من الطبقات المختلفة.
كما بني عدد من الأضرحة الخشبيَّة المسقوفة التي بناها الناس للأفراد الذين استُشهِدوا في الدفاع عن الإسلام، أو شيوخ الطرق الصوفيَّة أو مريدوهم أو
العلماء.
و لم تكن تمضي سوى مدَّة قصيرة حتى تشيع بين الناس الحكايات أو الأساطير حول أصحاب هذه الأضرحة، حتى تصبح موضع الزيارات والاحتفالات الشعبيَّة التي تقام حول بعضها.
و حسب الروايات المحلِّيَّة فإنَّ كثيراً من الأضرحة القديمة يرجع إنشاؤه إلى أيَّام الفتح العثماني للبوسنة))(2).
__________
(1) نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك، ص: 216.
(2) المرجع السابق، ص: 191.(61/15)
و لم يحدَّ من انتشار الأضرحة والغلو في أصحاب القبور موقف بعض العلماء المتأخرين، حتى وإن اعتبروا بعض ما يجري عند الأضرحة والمزارات شركاً مخرجاً من الملَّة، كقول الأستاذ حسين جوزو: ((لا أثر للاختلاف في التسمية، فقد كانت الأوثان في عصر النبوَّة تسمى لات وعزَّى، ونحو ذلك، وتسمى اليوم مزاراً أو ضريحاً أو مرشداً أو تميمة، أو غير ذلك، وكلُّها أوثان، لأنَّ الناس يقصدونها لطلب المدد، ويسألونها الشفاعة))(1).
ربَّما لما عرف عن المشائخ المعارضين لما يجري عند الأضرحة والمزارات من تجاوزات، وأفعال مخالفة للشرع الحنيف، من سكوتٍ عن منكرات كانت شائعة في زمانهم، أو ممالأة للحكم الشيوعي الذي عاصروه.
أو لأنَّ هذه الدعوات جاءت متأخرةً جداً، وبعد أن فقد كثيرٌ من المسلمين أبسط مظاهر انتمائهم إلى الإسلام، ممَّا جعل المتعلِّقين بالأضرحة لا يعرفون من الإسلام إلاَّ تعلُّقلهم واستغاثتهم بالأموات، ظناً منهم أنَّ هذا السلوك هو ما تبقى من الإسلام، ويجب عليهم أن يتمسَّكوا به مهما اشتدَّت المعارضة لهم أو تعالى النكير عليهم.
عُرف عن أهل البوسنة بالإضافة إلى غلوِّهم في الصالحين، واهتمامهم المفرط بأضرحة الأولياء، تمسُّكهم ببعض المظاهر البدعيَّة في دفن موتاهم، ومن
ذلك(2):
نقش رموز مختلفةٍ على قبور موتاهم مثل الهلال والنجوم والسيف والقوس، وفي بعض الأحيان أجزاء من جسم الإنسان كالرأس واليد، وما إلى ذلك.
و جود المقابر القديمة للمسلمين بالقرب من مقابر النصارى، الأمر الذي يستدلُّ به بعض الكتَّاب على أنَّ أصحابها من حديثي العهد بالإسلام كانوا يحرصون على البقاء على مقربة من أقربائهم النصارى حتى بعد الموت.
حرص المسلمين البوشناق على دفن موتاهم حول المساجد.
__________
(1) حسين جوزو: الإسلام والعصر، ص: 150.
(2) نياز شكريتش: انتشار الإسلام في البوسنة والهرسك ص: 190، 191.(61/16)
الوصيَّة بقراءة القرآن (و خاصَّة أم الكتاب) لقاء أجرٍ ماديٍ معلوم، وثمَّ جعل ثواب القراءة هبةً للميِّت، وقد كان هذا لدى البشانقة من الكثرة بمكان، حيث كان يكتب في الوصايا، ويصرف عليه من الأوقاف التي خلَّفها الميِّت، أو من أوصى بالقراءة له، وأمثلة هذا كثيرة في البوسنة، ومنها:
جاء في وقفيَّة درويش بايزيد آغا الموستاري تخصيص أربعة دراهم يوميَّاً لفرَّاش الجامع لقاء قيامه بالتنظيف وقراءة الفاتحة لروح الواقف(1).
و جاء في وقفيَّة خدا وردي ابن علي المعروف باسم محمد بيك غلام شاهي، تعيين خمسة قرَّاء يقرأون القرآن لروح الواقف يوميَّاً، لقاء درهمٍ ونصف لكلِّ واحدٍ منهم، ودرهمين لرئيس القرَّاء يوميَّاً. كما وقف على قراءة القرآن على قبر أخيه ثمانيةً وأربعين درهماً سنويَّاً، ولقراءة القرآن لروح زوجته شريفة بنت أوكوز مثل ذلك(2).
و جاء في وقفيَّة الحاج مصطفى آغا كزلر آغا في مدينة يايتسة (Jajce) حيث عيَّن قرَّاءاً لتلاوة القرآن الكريم لروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولروح الواقف وأقربائه، وخصًّص له من وقفه ثلاثةً وعشرين درهماً، كلَّ يوم(3).
__________
(1) انظر: وقفيَّة إبراهيم باشا، المحفوظة بمكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو ضمن سجلِّ الوقفيَّات رقم (1) ص: 66.
(2) انظر: وقفية خُدا وردي بن علي (المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم 110).
(3) انظر: وقفية الحاج مصطفى آغا كزلر آغا (المحفوظة في مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو تحت رقم
263).(61/17)
من كبريات البدع، وأوسعها انتشاراً في البوسنة والهرسك ما يُعرف عند البشانقة باسم (الحج الأصغر)(1)، حيث يؤُمُّ البوشناق المسلمون بمختلف طبقاتهم الاجتماعية بلدة آيفاتيفيتسا (Ajvatovica)، قرب مدينة آقحصار الشهيرة، في يومٍ محدَّدٍ من كلّ عام تحت تغطية إعلاميَّة واسعة، وتشجيعٍ كبيرٍ من المشيخة الإسلاميَّة، ورئاسة العلماء، والسلطات الرسميَّة في البلاد.
و في محفل عظيم ينظم في ذلك المكان بحضور عشرات الآلاف، تختلط المشاعر القوميَّة والدينية لدى البوشناق، فبينما يشهد بعضهم هذه المناسبة باعتبارها موسماً من مواسم الخير، ومن مظان البركة والقبول، يستغل الساسة ورجال الحكم تجمع الناس لإثراء الانتماء القومي البوشناقي، والحفاظ على وحدة هذا الشعب الصغير.
و هكذا يتواتر الساسة، ورجال المشيخة الإسلاميَّة علماء ومدرِّسين وأئمة مساجد وطلبةً في الكليَّات والمعاهد العليا والمدارس الإسلاميَّة، من أقطار البوسنة وبلدان مجاورة منها صربيا، وكرواتيا، وألبانيا، وغيرها، على حضور هذه المناسبة، التي يطلقون عليها أسماء من قبيل: يوم الدعاء المقدَّس، والاجتماع الديني ويتجرَّأ بعضهم فيسمي المكان (كعبةً مصغَّرةً)، فضلاً عن تسمية المناسبة عند العامَّة بالحج الأصغر، كما أسلفنا.
__________
(1) انظر: مجلَّة الصف، العددان (8 و19).(61/18)
و لهذه البدعة أصل من الخرافة لم يوثِّقه أحدٌ من علماء البوسنة، وهو كما أخبرني به غير واحدٍ ممَّن يشهدون المناسبة، ومنهم الشيخ الحافظ خليل مهتيتش، أنَّ أهل تلك البلدة قنطوا ذات يومٍ، وتأخَّر عليهم القطر من السماء، ولم يرفع عنهم العناء إلا عقب رؤيا رآها أحد الأولياء المعروفين في تلك المنطقة، وهو أيفاز ديدو، بعد أن توجَّه إلى الله بالدعاء ليسقي قومه، ثمَّ صلَّى الفجر واضطجع، فرأى فيما يراه النائم أنَّ كبشين ينتطحان في موضع معلوم من القرية وبينهما صخرة عظيمة تتفتت فينبع الماء من تحتها، ثمَّ أفاق مذعوراً، وقصد المكان الذي رآه وهو نائم فإذا بالماء يتدفَّق.
و من يومها اتخذ البشانقة المكان عيداً يتجمَّعون فيه مرَّة في العام عند الضحى فيدعون الله، ويردِّدون أذكاراً خاصَّةً بهذه المناسبة، حتى أذان الظهر، حيث يصلِّي من كان منهم من أهل الصلاة، ثمَّ ينصرفون.
و إلى جانب المشروع من العبادات والأذكار يتوجَّه جلُّ الحضور إلى القبور بالدعاء والتبرُّك والتوسُّل، بينما ينزع بعضهم من حجارة الجبل، ويغترفون من تربته ما يقوون على حمله، التماساً للبركة وإبراء المرضى، وقضاء الحوائج.
و يجري ذلك كلُّه اليوم في جوٍّ مشحون باختلاطٍ الرجال بالنساء، وتبرُّج الفتيات، ممَّا يجرِّد المناسبة من صفتها الدينيَّة (المبتدعة) التي كانت عليها في الأصل.(61/19)
و قد حاول بعض الدعاة الشبَّان من أبناء البوسنة التصدِّي لهذه البدعة ولكنَّهم أخفقوا، كما أخفق آخرون تجريدها من الصفة الدينيَّة لتخفيف النكير على ممارسيها(1)، لأنَّ ما استقرَّ في أذهان البوشناق عبر مئات السنين يستحيل أن يتلاشى أمام نكير الأفراد، أو معارضة من يسمِّيهم خصومهم بالشبَّان المتهوِّرين، ويتَّهمونهم بالسلفية والتكفير ونحو ذلك.
انتشار البدع وخطره على التمسك يالسنة النبويّة
مما لا ريب فيه أنَّ من آثار شيوع البدع بين المسلمين إماتة السنن وتعطيل العمل بها فيما بينهم.
لذلك يذهب كثير من العلماء إلى تعريف البدعة بأنها ما قابل السنة، ويقولون: إن البدعة هي خلاف السنة، فما خالف النصوص فهو بدعة، باتفاق المسلمين(2).
و هذا المذهب يكتسب وجاهة خاصة من علاقة التضاد بين السنة والبدعة، فالفعل الواحد ذاته، لا يمكن أن يكون بدعة وسنة في وقت واحد.
لأن السنة جاءت بذم البدع، ودعت إلى الإعراض عنها، ومحاربتها، والتبرئ منها ومن أهلها، فلا يمكن أن تقوم بدعة قبالة السنة و؛ لأن القلب لا يتسع إلى الأمر ونقيضه.
__________
(1) من الاقتراحات التي تقدَّم بها بعض المعاصرين بهذا الخصوص ؛ اقتراح الشيخ نصرت أفندي، الذي أيده عدد من الدعاة الشباب أمثال زهدي عادلوفيتش، وشفيق كرديتش، بإجراء تغيير داخلي في هذه الظاهرة بجعلها ذات صبغة عسكريَّة جهاديَّة تستغل في تجنيد الشبَّان وتدريبهم على حمل السلاح، وإعدادهم للجهاد في سبيل الله، بدلاً من إلغائها بالكلِّيَّة، لأنَّ ذلك قد يثير فتنةً، وفرقة بين مسلمي البوشناق.(الباحث).
(2) انظر: السنة والبدعة، للحضرمي، ص: 104.(61/20)
فكلما شاعت البدع، انزوت السنن، حتى تموت السنن، وتفشوا البدع(1)، لأنه ما ظهرت بدعة إلا وماتت سنة من السنن، في مقابلها وما أشيعت إلا بعد أن تخلى الناس عن السنة الصحيحة، وفسدت نفوسهم، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة(2).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((لا يأتي على الناس زمان الإ أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن))(3).
و كان محمد بن سيرين يقول: (ما أحدث رجل بدعة فراجع السنة)، وفي رواية: (ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة)(4).
و قد يكون اعتماد من قرن بين شيوع البدع، وموت
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى: 20/163.
(2) البدعة والمصالح المرسلة، لتوفيق الواعي، ص: 210.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " 10/319، وابن وضاح في " البدع " ص 25 – 26، وابن بطة في
" الإبانة " 1/176 (10)، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (124 و125) من طرق عن عبد المؤمن بن عبيد الله، عن مهدي بن أبي مهدي، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به. وفي بعض ألفاظه:
(ما من عام إلا وتظهر فيه بدعة، وتموت فيه سنة، حتى تظهر البدع وتموت السنن).
قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/188: (رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون).
قلت: رجاله كلهم ثقات، سوى مهدي بن أبي مهدي، وهو: ابن حرب الهجري، روى عنه اثنان، وقال ابن معين: (لا أعرفه). وذكره ابن حبان في " الثقات "، وصحح ابن خزيمة حديثه. كما في " تهذيب التهذيب "10/324.
و قال فيه ابن حجر في " التقريب " (6928): (مقبول).
(4) أخرجه الدرامي (208) في المقدمة، باب كراهية أخذ الرأي، والهروي في " ذم الكلام " (756)، من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن ليث، عن أيوب، عن ابن سيرين به.
و أورده السيوطي في " الأمر بالاتباع " ص 17، وأبو شامة في " الباعث " ص 16.
قلت: ورجاله ثقات سوى ليث، وهو ابن أبي سليم " ضعيف " كما سبق.(61/21)
السنن على ما روي عن غضيف بن الحارث(1)، قال: بعث إليَّ عبد الملك بن
مروان(2) فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما ؟ قال رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما مثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما، قال: لم ؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أحدث قوم بدعة، إلا رفع مثلها من السنة))(3)
__________
(1) 4غضيف بن الحارث - رضي الله عنه -، هو: السكوني الكندي، ويقال الثمالي، أبو أسماء الخمصي، مختلف في صحبته ؛ والراجح ثبوتها، وإنما وقع الخلاف بسبب جمع بعضهم بينه وبين غطيف بن الحارث.
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/429، تاريخ أبي زرعة الدمشقي 388، 603، 604، معجم الطبراني الكبير 18/264، تهذيب الكمال 23/112، سير أعلام النبلاء 3/453.
(2) 1…عبد الملك بن مروان، هو: ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الخليفة الفقيه، أبو الوليد الأموي، تملك بعد أبيه الشام ومصر، ثم حارب ابن الزبير الخليفة، وقتل أخاه مصعباً في وقعة مسكن، واستولى على العراق وجهز الحجاج لحرب ابن الزبير، فقتل ابن الزبير سنة 72هـ/691 م، واستوثقت الممالك له. توفي سنة 86هـ/705 م.
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/223، تاريخ بغداد 10/388، سير أعلام النبلاء 4/246، ميزان الاعتدال 2/664، البداية والنهاية 8/260 و9/61.
(3) إسناده ضعيف:
أخرجه أحمد في " المسند " 4/105، والبزار في " مسنده " (1/82 – كشف)، والطبراني في " الكبير " 18/99 (178)، وابن قانع في " معجم الصحابة " 2/316 (855)، وابن بطة في " الإبانة الكبرى " 1/176 (10)، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1/90 (121) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن حبيب بن عبيد، عن غضيف بن الحارث به.
وصحف اسم (غضيف) في المعجم الكبير للطبراني، وقد نبه على ذلك ابن حجر في " الإصابة "
5/276.
قال ابن حجر في " الفتح " 13/ 253: (و قد أخرج أحمد بسند جيد، عن غضيف..) فذكره.
قلت: وفيه نظر ؛ لما سيأتي.
و نقل المناوي في " فيض القدير " 5/412، 471 عن المنذري، قال: (سنده ضعيف).
و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/188: (رواه أحمد والبزار، وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث).
قلت: ومدار الحديث عليه، وقال ابن حجر في " التقريب " (7974): (ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط).(61/22)
. فتمسك بسنة خير من إحداث سنة.
و هذا الحديث لا يسلم من طعن، فلا حجة فيه، على أن المعنى المراد منه صحيح تشهد له عمومات الأدلة الشرعية.
و قال حسان بن عطية(1): ((ما ابتدع قوم في دينهم بدعة إلا نزع الله مثلها من السنة ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة))(2).
و إذا أريد للسنة أن تحيا فلا بد في المقابل من إماتة البدعة، فكما أن هجر السنة يحيي البدع، لا ريب أن التمسك بالسنة يميتها.
قال شيخ الإسلام: ((إن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة والمستحب واجباً))(3)، وكفى بهذا خطراً على الإسلام، وجناية على الشريعة.
و قد حرص سلفنا الكرام على التصدي لكل ما من شأنه أن يفتح الباب أمام إشاعة البدع، وإماتة السنن، وكفى مثالاً على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب والتقنع به، ويضرب على ذلك، فقد روي عن أنس - رضي الله عنه -، أنه قال: ((رأى عمر أمة لنا مقنعة، فضربها، وقال: لا تشبهن
بالحرائر))(4)
__________
(1) 1…حسان بن عطية، هو: الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم، الدمشقي، أحد العباد، تابعي روى عن أبي أمامة الباهلي، وثقه أحمد، وابن معين.
انظر ترجمته في: الجرح والتعديل 3/236، حلية الأولياء 6/70، سير أعلام النبلاء 5/466، تهذيب التهذيب 2/251.
(2) 2أثر حسان صحيح:
أخرجه الدارمي (99) في مقدمة " سننه "، وابن وضاح في " البدع " ص 44، وابن بطة في " الإبانة الكبرى " (228)، وأبو نعيم في " الحلية " 6/73، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (129)، والهروي في " ذم الكلام " (913) من طرق عن الأوزاعي، عنه.
(3) 3مجموع الفتاوى 22/67.
(4) صحيح:
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 2/41 عن وكيع، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - به.
قلت: وإسناده صحيح، رجاله ثقات أعلام، رجال الشيخين. =
=…و تابع شعبة: معمر عند عبد الرزاق في " المصنف " 3/136 (5064)، وله طرق أخرى عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة.
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 1/224: (أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح).
و قال البيهقي: (الآثار عن عمر بذلك صحيحة).
و قال ابن المنذر: (ثبت أن عمر قال لأمة رآها مقنعة: اكشفي رأسك، ولا تشبهي بالحرائر، وضربها بالدرة). انظر: إرواء الغليل للألباني 6/203.(61/23)
.
و قال أنس - رضي الله عنه - أيضاً: ((كن إماء عمر - رضي الله عنه - يخدمننا كاشفات عن شعورهن، تضطرب ثديُّهن))(1).
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله(2): فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده، وأن لا يظن الناس أن الحرة والأمة في الستر سواء، فتموت سنة، وتحيا بدعة. اهـ(3).
فانظر رحمك الله إلى ورع القوم وقد أخذوا الإسلام غضاً طرياً، كيف كانوا يخافون على السنة ويخشون عليها من الزيادة واللبس، وقف حيث وقفوا فإنك في زمن عزَّت فيه السنن.
جهود علماء البوسنة ودعاة الإسلام فيها في إحياء السنن والتصدي للبدع
إذا أريد للسنة أن تنبعث من جديد في البوسنة والهرسك، وأن يعزَّ أهلها، ويظهروا على من ناوأهم، ويصدعوا بدعوتهم في وجوه المخالفين، فلا بد لهم من أن يأتموا بالسلف الصالح - رضي الله عنهم - في التمسك بالسنة والاعتصام بها، والتخلي عن البدع والبراءة من أهلها , وقد كان لسلفهم مواقف جليلة في هذا المجال , ومنها:
موقف الشيخ حسن كافي من أهل الأهواء والبدع
__________
(1) إسناده جيد:
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2/227 من طريق حماد بن سلمة، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جده أنس - رضي الله عنه - به.
و قال البيهقي: (الآثار عن عمر بذلك صحيحة).
(2) 2الطرطوشي، هو: محمد بن الوليد بن خلف، أبو بكر الأندلسي، الفقيه المحدث، عالم الإسكندرية، وطرطوشة: هي آخر مدن المسلمين من شمالي الأندلس، الإمام الزاهد، القدوة الفقيه، شيخ المالكية، دين ورع، صاحب رحلة، توفي بالإسكندرية سنة 520هـ/1126 م.
انظر ترجمته في: الصلة لابن بشكوال 2/575، بغية الملتمس ص 135 – 139، معجم البلدان 4/30، وفيات الأعيان 4/262 – 265، سير أعلام النبلاء 19/490، حسن المحاضرة 1/452.
(3) الحوادث والبدع، للطرطوشي، ص: 114.(61/24)
عرف الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله تعالى وأتباعه في البوسنة بالتمسك بمنهج السلف الصالح في هذا المجال، ويحسن هنا أن نشير إلى موقفهم هذا ليكون نبراساً يتأسى به من بعدهم.
لقد أكَّد الشيخ حسن كافي رحمه الله في موقفه من أهل الأهواء والبدع على عدة أمور، تعتبر بحقٍ معالم رئيسة في ما يعتقده الشيخ في هذا الباب، ومن أبرز هذه المعالم:
البراءة من البدع وأهلها.
تقسيم البدع إلى مكفِّرة وغير مكفرة.
الحكم على الظواهر، وترك السرائر إلى الله تعالى.
اعتقاد إمكان اجتماع السنة والبدعة، والخير والشر، في الشخص الواحد، وبالتالي فهو يستحق الولاء والبراء معاً بمقدار ما فيه من موجب كلٍّ منهما.
التفريق بين الكرامات، وبين ما يقع على أيدي أهل البدع من خوارق العادات.
و فيما يلي أقتطف من كلام الشيخ رحمه الله ما يؤكِّد التزامه بهذه القواعد، والدعوة إلى التزامها قولاً وعملاً:
يقرر الشيخ رحمه الله أن أهل السنة يحكمون على أهل المعاصي، والأهواء والبدع، بما ظهر من أحوالهم، ويوكلون سرائرهم إلى من يعلم السرَّ وأخفى، ويذهب مذهبهم في ذلك.
و في هذا المعنى جاء قول الإمام الطحاوي رحمه الله: ((و نسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبيُّ معترفين، وبكلِّ ما قال وأخبر
مصدِّقين))، وقول شارح (الطحاوية) الشيخ حسن كافي: ((المراد بأهل القبلة من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة، ولم يكذِّب بشيءٍ مما جاء جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي … فنراعي ظواهرهم، ونكل إلى الله ضمائرهم))(1).
…و لكن هذا القول ليس على إطلاقه، بل هو مُقيَّدٌ بما إذا كانت البدعة غير مكفِّرة، ولذلك عقَّب على كلامه وكلام الماتن المتقدم، بقوله:
__________
(1) نور اليقين في أصول الدين، ص: 183.(61/25)
((و في قول الشيخ إشارةٌ إلى أنَّ مجرَّد التوجه إلى قبلتنا، لا يدلُّ على حقيقة الإيمان فإنَّ كثيراً من الناس يتوجهون إلى قبلتنا، وليسوا على ديننا، كالغلاة الذين يدَّعون نبوة علي - رضي الله عنه -، وكمن يدعي منهم أنه إله، وكالقدريَّة الذين يزعمون وجود كثيرٍ من الأشياء من غير مشيءة الله، وكمن يدَّعي الخالقيَّة لكلِّ فاعلٍ مختار، وكمن يزعم أنَّ صانع العالم جسم على صورة البشر، وكمن يدعي أنَّ المحبة تزيل التكليف وكمن يقول: إنَّ لله حلولاً واتحاداً بالأنفس، ونحو ذلك من أقاويل أهل الضلالة والإلحاد))(1).
و ينكر رحمه الله على غلاة الصوفية وجهالهم، فساد أحوالهم وفعالهم، مع زعمهم أنهم أهل كرامة، وسالكون سبل الولاية، وهم في غاية البعد عنه، فيقول رحمه الله:
((أما الذين يتعبَّدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، وكذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله، ولم يكن في الصحابة من يفعل ذلك ولو عند سماع القرآن))(2).
و كلُّ من ادعى الكرامة، ولم يسلك سبيل الاستقامة، فهو دعيٌّ، لأنه ((لا يصل أحد إلى الله ورضوانه وجنته وكرامته، إلا بمتابعته الرسول ظاهراً وباطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر، وملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون وليَّاً ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، فإنه من الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقرِّبة من سخطه وعذابه))(3).
__________
(1) المرجع السابق، ص: 183، 184.
(2) المرجع السابق، ص: 264 – 265.
(3) نور اليقين في أصول الدين، ص: 266.(61/26)
و هؤلاء المتنكبون عن طريق الهدى، يجب أن لا يُغترَّ بما قد يجري على أيديهم من أحوال ظاهرها خرق العادة، فهم إلى الأحوال الشيطانية مستدرجون، وعن الشريعة الربَّانية زائغون، وعلى هذا المعنى يَحمل الشيخ حسن كافي رحمه الله قول عبد الله بن المبارك:
و هل أفسد الدين إلاَّ الملوك وأحبار سوءٍ ورهبانها
فيقرر أن الرهبانية في هذه الأمَّة، يمثلها أهل الجهالة والضلالة من المتصوفة، بقوله:
((الرهبان هم جهَّال الصوفيَّة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات الفاسدة، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيِّه … وقد قال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدَّمنا الذوق والكشف. نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين، والعصمة بالله ربِّ
العالمين))(1).
…و يُقابل أهل الضلال والبدع، أهلُ السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة(2)، التي لم يُغفل الشيخ ذكرها، وبيان صفات أهلها، ليحظى من وفَّقه الله بنهج نهجهم، والردّ إلى ما كانوا عليه قبل أن يفترقوا، وهم: ((الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا على ملَّته، ودانوا بها، ودعوا سائر الأمم إليها حتى صار إجماعهم حجة من حجج الله، موجبةً للعلم قطعاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم))(3).
و كما تجب البراءة من أولئك الأدعياء وبغضهم، تجب موالاة هؤلاء الأصفياء، وحبهم.
قال حسن كافي الآقحصاري في شرح نص الطحاويَّة: (نحب أهل العدل والأمانة):
__________
(1) نور اليقين في أصول الدين، ص: 153.
(2) المرجع السابق، ص: 100 و268.
(3) المرجع السابق، ص: 106.(61/27)
((و هم أهل السنة والجماعة، ومن سلك مسلكهم من المسلمين، والمتمسكون بالعدل من ولاة أمور الدين، فمحبتهم من كمال الإيمان وتمام العبوديَّة، لأنها تتضمن محبة الله ومحبة رسوله، لأن الله يحب المحسنين ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ومن كمال محبة الله للعبد أن يحب العبد من أحبَّه الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يُبغضه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، فهو موافق لمحبوبه في كلِّ حال))(1).
و قال في شرح نص الطحاوية: (نُبغض أهل الجور والخيانة):
((و هم أهل الخلاف والعصيان، والجائرون من الولاة، والله تعالى لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يُحب المستكبرين، فنحن لا نحبهم، بل نبغضهم موافقة لله تعالى))(2).
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية والعداوة، قد تجتمعان في الشخص الواحد، وكذلك الحب والكره، فيقول:
((إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، وسبب الحب وسبب البُغض، فيكون محبوباً من وجه، ومبغوضاً من وجه، والحكم
للغالب))(3).
…و حيث يتعذَّر على كلِّ أحد التمييز بين الصنفين، فعلى كاهل أهل العلم، المهتمين بالكتاب والسنة، تقع مسؤولية مقارعة أهل الباطل، والتصدي للمبتدعة، ولا يقوى على القيام بهذا الواجب الكفائي، إلا من وفَّقه الله وسدَّده، ليكون من دُعاة السنَّة الذين من أخصِّ صفاتهم، العلم والتثبت، المنافيان للابتداع والتحريف.
يقول الشيخ حسن كافي رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص: 206، 207.
(2) المرجع السابق، ص: 207.
(3) المرجع السابق، ص: 207.(61/28)
((و كلَّما بعُد العهد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ظهرت البدع وكثر التحريف إلا أن الله تعالى قد منَّ على أمته بجعل علمائهم، كأنبياء بني إسرائيل، فلا تزال طائفة منهم قائمين على الحق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم)(1)، فعيَّنوا طريق الفرقة الناجية، وبينوا طريق الأمة الهادية، ليحق الحق، ويزهق الباطل، وليتميز العالم من
الجاهل))(2).
و يُعرِّف الشيخ حسن كافي " الولي " فيقول:
((هو العارف بالله وصفاته، حسب ما أمكن، المواظب على الطاعات، المتجنب للمعاصي والانهماك في اللذات والشهوات))(3)، والوليُّ في نظره ((إنما يستحق الولاية والكرامة باتباعه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - واقتدائه به في طاعة الله تعالى على
شريعته))(4).
أما أدعياء الكرامة، وزاعموا الولاية، فقد عرف عن الشيخ صلابة موقفه، في التصدي لهم، وكشف ضلالهم، وبيان فساد ماهم عليه، حيث وضع الميزان الشرعي لتقييم ما هم عليه، بعرضه على الكتاب والسنة، فقال:
__________
(1) حديث صحيح: تقدم تخريجه.
(2) نور اليقين، ص: 100، 101.
(3) المرجع السابق، ص: 252.
(4) المرجع السابق، ص: 253.(61/29)
((الواجب عرضُ أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قُبِل، وما خالفها رُدَّ … فلا طريقة إلاَّ طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا حقيقة إلاَّ حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد إلى الله ورضوانه، وجنته وكرامته، إلا بمتابعة الرسول ظاهراً وباطناً فمن لم يكن مصدقاً له فيما أخبر، وملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون وليَّاً ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، فإنه من الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقرِّبة من سخطه وعذابه))(1).
و يقول رحمه الله في بيان حال وحكم أدعياء الكرامة والولاية من غلاة الصوفية وغيرهم:
((أما الذين يتعبَّدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات فهم من الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، وكذلك الذين يُصعقون عند سماع الأنغام الحسنة مبتدعون ضالُّون، إذ ليس للإنسان أن يستدعي ما ما يكون سبب زوال عقله، ولم يكن في الصحابة من يفعل ذلك ولو عند سماع القرآن))(2).
و الشيخ الآقحصاري يرى أن الولاية والعداوة، قد تجتمعان في الشخص الواحد، وكذلك الحب والكره، فيقول: ((إنَّ العبد قد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، وسبب الحب وسبب البُغض، فيكون محبوباً من وجه، ومبغوضاً من وجه، والحكم للغالب))(3).
و إلى جانب تحذيره رحمه الله من الحوادث والبدع، فقد كان للشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله موقف صلب في مواجهة الفرق الضالة، والمذاهب البدعيّة، كفرقة الحمزوية – التي سبق ذكرها وبيان موقفه منها، وجهاده في القضاء عليها – والرافضة التي قال عنها:
__________
(1) المرجع السابق، ص: 265.
(2) المرجع السابق، ص: 264 – 265.
(3) المرجع السابق، ص: 207.(61/30)
((أصل الرفض إنَّما أحدثه منافقٌ زنديق، قصد إبطال دين الإسلام، والقدح في الرسول، كما فعل بولُص(1)بدين النصارى، وذلك المنافق هو عبد الله بن سبأ(2)، أراد أن يُفسد دين الإسلام، ويُلقي الفتنة بين المسلمين، فأظهر الإسلام والتنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقَتْلِه، ثم لما قدم الكوفة، أظهر الغلو في علي، ليتمكن بذلك من اعتراضه وبلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب، وخبره معروفٌ في التواريخ، أخزاه الله تعالى))(3).
__________
(1) 1بولص، هو: قس يهودي اسمه الأصلي شاؤول، ولد في طرسوس، ونشأ في أورشليم، كان في أول حياته من أشد أعداء المسيحية، يكيد لها، ثم تظاهر بالمسيحية وادعى الانتساب إليها بقصد التحريف فيها، فاستطاع أن يصل إلى رتبة كبيرة عندهم، حتى صار من الرسل الملهمين الذين ينطقون بالوحي، فأدخل المعتقدات الباطلة في المسيحية ؛ كالتثليث، وألوهية المسيح، وغير ذلك من الخرافات والتحريفات.
انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/29، 6/428، محاضرات في النصرانية ص 81، المسيحية لأحمد شلبي ص 90.
(2) 2عبد الله بن سبأ، هو: الضال المضل، رأس الطائفة السبئية، من غلاة الزنادقة، أصله من اليمن، كان يهوديا فأظهر الإسلام، وطاف ببلاد المسلمين ليفتنهم عن طاعة الأئمة، دخل دمشق أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فأخرجوه، فانصرف إلى مصر، وجهر ببدعته، وهو الذي قال بتأليه علي - رضي الله عنه -، وبرجعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأن القرآن جزء من سبعة أجزاء، مات سنة 40هـ/660 م.
انظر ترجمته في: البدء والتاريخ 5/129، تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران 7/341، ميزان الاعتدال
2/426، لسان الميزان 4/292 – 293.
(3) نور اليقين في أصول الدين، ص: 251.(61/31)
كما حذر رحمه الله من المقالات الفاسدة وأهلها الذين ابتليت بهم الأمة عبر التاريخ، وبالغ في التحذير منهم، وحكم بكفر من قال بخلق القرآن، وخروجه من الملة(1)، وكذلك من أتى بغيرها من البدع المكفرة.
تصدي أهل البوسنة والهرسك للحوادث والبدع وأهلها في العصر الحاضر
لا بدَّ من توحيد الجهود، والوقوف صفاً واحداً يجمع الشباب المتحمس لدعوة أهل السنة والجماعة، ودعاة المؤسسات الرسمية الذين يعتبرون الحفاظ على الإسلام في تلك البلاد واجبهم الأوَّل، فيدعوا جميعاً إلى الله على بصيرة.
و إن كان هؤلاء الدعاة الشبان قد عجزوا عن إنكار البدع منفردين، والجهر بإنكارها في وجه مخالفيهم من العامَّة والعلماء (الرسميين) على حدٍ سواء، فإنَّ البلاد لم تخل من غيارى على الإسلام يحذِّرون من انتشار البدع وتفشِّيها، يدرأ عنهم لوم المعارضين، وتصدي المخالفين، ما ألقاه الله في قلوب البشانقة من قبولٍ لهم، ورضاً بما يصدر عنهم.
ومن هؤلاء الرئيس علي عزَّت بيك الذي تقيه مغبَّة الانتقاد والردّ مكانته الفكرية والاجتماعيَّة والسياسية الرائدة في البوسنة، وهو يعتبر البدعة والخرافة نقيضين للعلم والمعرفة، ويدعو إلى محاربتهما، وتسليح المسلمين بالعلم في مواجهتهما فيقول:
((لقد أقام الإسلام حرباً على الشرك، وقضى عليه بحركةٍ واحدة في مناطق شاسعةً من العالم، لأنَّه وضع حداً فاصلاً بيناً بين الإيمان والخرافة، ولكنَّ الخرافة وجدت لها مرتعاً في بيوت وقلوب كثيرٍ من المسلمين، ثمَّ ظهرت في صورة التمائم والطلاسم، وما شابه ذلك، لتمهد الطريق للتجارة الرابحة بالدين، لأنَّه إذا لم يقض الدين على الخرافة قضت الخرافة على الدين.
__________
(1) انظر: الدكتور عمر ناكيجيفيتش: حسن كافي الأقحصاري رائد العلوم العربية والإسلامية , ص 179 نقلاً عن نسخة خطية لكتاب: روضات الجنات.(61/32)
و قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم المسلمين، حتى في أيام الحرب الضروس إذ جعل تعليم كلِّ عشرة من المسلمين فدية لأسير من أسرى بدر(1)))(2).
ثم يبدي تألُّمه لما آل إليه حال المسلمين اليوم من إعراضٍ عن سنَّة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، وبعدهم عن هديه في كافَّة شؤون حياتهم، فيقول:
((نعم، هناك بين المسلمين أمورٌ كثيرة تقشعرُّ منها الجلود، وحتى غير المسلمين يدركون ويلاحظون ذلك. لو قام محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبره، ورأى كم بدَّل أتباعه دينه، لتغيَّر وجهه غضباً، ولعن كلَّ من شارك في تلك البدع، كما يقول لوثورب ستودارد(3)))(4).
و هذا الصوت الشجاع في مواجهة البدع والتحذير من شررها المستطير، من رجل عاش للإسلام مجاهداً بكلمته، وقلمه، وموقفه، يحتاج إلى أمرين يؤازرانه كي يساهم في القضاء على البدع والخرافات قضاءً مبرماً:
أمَّا الأمر الأوَّل فهو اجتماع العلماء البوشناق حوله كما أسلفت، والتأكيد على ضرورة التصدي للبدع، باعتبار ذلك واجباً لا مناص منه لمن يريد للسنة أن تحيا وتنبعث من جديد، بعد ما أماتتها قرون من الغفلة والجهل الذي لفَّ العالم الإسلامي.
و أما الأمر الثاني فهو اتخاذ مواقف فعليَّة تتجاوز التنظير والكلام في التصدي للبدع، بمعارضتها، وعدم المشاركة في أيٍ منها تحت أي مبرر، وتقديم البديل عنها، من السنَّة النبويَّة الصحيحة.
و في ذلك الخير كلُّ الخير للإسلام وأهله، حيث ((لا يصلح آخر هذه الأمَّة إلاَّ بما صلح به أوَّلها)) كما قال إمام دار الهجرة رحمه الله(5)
__________
(1) 1تقدم لفظ هذا الأثر وتخريجه.
(2) مجموعة مقالات الرئيس علي عزَّت بيك، ص: 22.
(3) 3هو صاحب كتاب " حاضر العالم الإسلامي "، ولم أعثر على هذا الكلام فيه.
(4) المرجع السابق، ص: 23.
(5) 1صحيح ثابت عن مالك:
نقله عنه القاضي عياض في " الشفا " 2/87 – 88، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 1/353: الثابت المنقول عنه – يعني مالك – بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي، وغيره – فذكره.
و انظر أيضا: مجموع الفتاوى 27/118، والفتاوى الكبرى 4/362، واقتضاء الصراط المستقيم 2/285.(61/33)
.
الفصل الرابع
التأثر بمنهج المدرسة العقلية الحديثة
المدرسة العقليَّة الحديثة في البوسنة وموقفها من السنة النبوية
مكانة العقل في الشريعة الإسلامية:
لم يهمل الإسلام العقل قط، بل وجهه إلى النظر والتفكير، والبحث والتدبير. وتوجه بالخطاب إلى أهله، يحثهم على تحكيمه فيما أشكل عليهم.
ووجه الخلق إلى التفكر والتدبر في غير آية من آيات الكتاب العزيز.
قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو
الألباب } [ ص: 29 ].
و قال سبحانه: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد:
24 ].
و وصف عباده المؤمنين به بالمداومة على ذكره والتفكر في خلقه فقال:
{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } [ آل عمران: 191 ].
و دعا سائر الخلق إلى ذلك فقال: { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهم إلا بالحق وأجل مسمى } [ الروم: 8 ].
و قال أيضاً: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف - وإلى السماء كيف رفعت - وإلى الجبال كيف نصبت - وإلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية: 17-20 ].
و كرم الله العقل أفضل تكريم حيث وجهه إلى طلب العلم، ورفع قدر العلماء.
قال تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة: 11 ].
و وصفهم سبحانه بالخشية فقال: { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر: 28 ].
و من هذا المنطلق أقبل المسلمون على علوم الدين والدنيا، ينهلون منها ويعلمون، ويأخذون ويعطون، حتى علا قدرهم في المعارف كافة، وأصبحت حواضر البلدان الإسلامية مراكز ثقافية، وقامت فيها جامعات علمية يؤمها الطلبة من مختلف أنحاء العالم، وغدت مكتباتها مراجع ينهل منها بنهم كل من عرف قيمة الكتاب، بعد أن جلبت إلى خزائنها نوادر المخطوطات، ونفائس المصنفات، وترجمت إلى اللسان العربي من مختلف اللغات في عهد بني العباس فمن بعدهم.(61/34)
نشأة المدرسة العقلية في المشرق الإسلامي:
لا زالت شمس الإسلام تسطع على العالم كله يوم كانت لأبنائه الريادة في المجالات العلمية على تنوعها، فانطلقت الفتوحات الإسلامية تملأ الأرض نوراً وعدلاً وبلغت أوجها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله الذي حاز فضيلة فتح القسطنطينية والتوغل من بعد في عمق البلدان الأوربية عبر بوابة البلقان.
و مع تقدم الزمن دبَّ الضعف في جسد الأمة، وبدأت ريادة العالم العلمية تنتقل تدريجياً إلى الغرب الأوربي، يحملها طلاب درسوا في الأندلس واسطنبول وغيرهما من الحواضر الإسلامية، ولصوص محترفون سرقوا من العالم الإسلامي نفائس المخطوطات وأمهات الكتب.
و أثناء هذا التحول عني العثمانيون بتسليح الشعوب الخاضعة لهم، واهتموا ببسط نفوذهم والحفاظ على سلطتهم البسيطة، فيما بدأ الغرب النصراني يبني نهضة ماديَّة تقنية، ويوحد صفوفه في مواجهة دولة الخلافة المتقهقرة..
و لا زال الغرب ينمو ويتقدم بتخليه عن ماضيه وخروجه على سلطة الكنيسة ورجالها، والشرق الإسلامي يتردى ويتحطم بتنكره لأصوله وتخليه عن دينه وشريعة ربه، حتى جاءت اللحظة الفاصلة فسقطت الخلافة، وتداعت الأمم على ديار الإسلام تستولي وتستعمر، وتشغل معاول التجهيل والتغريب في أبناء المسلمين، حتى اتسعت الهوَّة بين المسلمين وكلٍ من دينهم، والحضارة التي أحرزها عدوُّهم، فيما كان للغرب الصليبي سبق لا ينكر في المجالات المادية، والصناعات التقنية.
و فقدت الأمة الإسلامية استقلالها، فأمست تابعة مسودة مقودة، يسيرها أعداؤها كما يشاؤون، ويعاني أبناؤها من عقدة التخلف والتبعية.
و قد تمخض هذا الواقع عن ظهور ثلةٍ من المفكرين والكتاب والعلماء الداعين إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية، لتجديد فهم الإسلام، وتطوير أحكامه بما يتناسب وظروف الزمن الراهن.(61/35)
و كان في طليعة هؤلاء العلماء المجددين كلٌ من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا، وآخرون ممَّن كانت لهم الشهرة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
وقد نادى هؤلاء المجددون بإدخال إصلاحات جذرية في علوم الشرع وأحكامه لتواكب العصر، وكانت باكورة عملهم الدعوة إلى إصلاح الأزهر الشريف بصفته المرجعية العليا لغالبية المسلمين في تلك الفترة.
انتقال فكرة التجديد ودعوة العقلانيين إلى البوسنة:
تأثر بفكر التجديد، ودعاوى العقلانيين طائفة من الطلاب الذين وفدوا من أقطار الدنيا لطلب العلم الشرعي في الأزهر الشريف، وعادوا إلى بلادهم يدعون إلى الإصلاح والتجديد، وكان فيهم بلا ريب عدد لا يستهان به من أبناء البلقان.
و مع سقوط الخلافة العثمانية انقطعت جسور التواصل بين مسلمي البوسنة وإخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي، وفرض عليهم أسلوب جديد في العيش والتفكير المتحرر من الواجبات الدينية والثوابت العقدية.
و قد ساعد الوضع الجديد هذا على ظهور طائفة من الكتاب المسلمين البوسنويين لا تخفي اعجابها بالحضارة الغربية وتأثرها بدعوات التجديد التي ظهرت في الشرق الإسلامي، وتدعو إلى مجاراة الغرب المتمدن باسم التطور والإصلاح الديني والدنيوي معاً تحت شعار (التوفيق بين الأخلاق الإسلامية والمادية الغربية الممثلة في العلم والتقنية)(1).
و من أبرز هؤلاء الكتَّاب:
محمد بيك قبطانوفيتش (1255 – 1320هـ/1839 -
1902 م).
قوت بيك باشاغيتش (1287 – 1353هـ/1870 -
1934 م).
عثمان نوري حاجيتش (1286 – 1356هـ/1869-
1937 م).
أدهم ملابديتش (1279 – 1374هـ/1862 - 1954 م).
محمد جمال الدين تشاوشيفيتش رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة في زمنه.
__________
(1) حركة إصلاح التشريع الإسلامي , ص: 216.(61/36)
و إضافة إلى تسخير منابر المساجد التابعة للمشيخة للدعوة إلى التجديد، أسس هؤلاء الكتاب مجلة (بهاء) النصف شهرية سنة 1900م/1318هـ، وشحنوها بمقالاتهم الهادفة إلى مجاراة الغرب، والاقتباس من حضارته مع الحفاظ على روح الإسلام وحضارته بعد تطويره وتطويعه لروح العصر، باعتبار أن البوسنة بلد أوربي، وليس شرقياً.
ثم أسست مجلة (البلاغ) الناطقة باسم رئاسة العلماء، والمعبرة عن آراء واجتهادات دعاة المشيخة الإسلامية، وجلهم من أتباع المدرسة العقلية الحديثة، وقد اشتهر بينهم في أواخر القرن الثالث عشر الهجري الأستاذ حسين جوزو الذي يعتبر أحد رواد التجديد في البوسنة.
ثم مجلة (البحوث الإسلامية)، الصادرة عن كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، والمهتمة بنشر أبحاث وإسهامات أعضاء هيئة التدريس وخريجي الكلية.
و أخيراً مجلة (الفكر الإسلامي) التي صدرت بمبادرة من الدكتور أحمد إسماعيلوفيتش وتوقفت عن الصدور مع بداية الحرب الأخيرة في البوسنة.
و قد كانت هذه المجلات مسرحاً فسيحاً لأفكار دعاة التجديد، وأتباع المدرسة العقلية الحديثة، تنشر ما يعلنونه من أهداف، ومن ذلك(1):
أ – قبول الحضارة الغربية والتفاعل معها.
ب - العودة إلى المصادر الأصلية للتشريع وهي الكتاب والسنة.
ج – تجديد المفاهيم الإسلامية وتطويرها.
__________
(1) انظر: نصرت عيسانوفيتش: تحديات الفكر الإسلامي الحديث (مقال نشرته مجلة البلاغ، في عددها الثالث سنة 1411هـ/1990م) ص: 13 وما بعدها.(61/37)
…أمَّا أهدافهم غير المعلنة فكثيرة، منها خدمة أعداء الإسلام عن سذاجة وحسن نيَّة تارة، وعن مكرٍ وسوء طويَّةٍ تارةً أخرى، وقد كشف بعضاً من هذه الأهداف دفاع عددٍ من أعلام مدرسة التجديد عن الاستعمار المتسلِّط على بلدان العالم الإسلامي، وانتساب عددٍ منهم إلى المحافل الماسونية(1).
…غير أنَّ ما يعنينا في هذا المقام هو موقف هؤلاء العقلانيين من السنَّة النبويَّة، حيث عرف عنهم إنكار حجيَّتها، والإعراض عنها، استناداً إلى شبهٍ أوهن من بيت العنكبوت، كقولهم: إنَّ في التمسُّك بكتاب الله ما يغني عن الالتفات إلى ما في سواه سنَّة كان أو قياساً أو غير ذلك.
…و أصل هذه المقولة الفاسدة قديم عرفته الأمَّة من أيَّام السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وقد جاء التحذير منها ومن أهلها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدَّة تبيِّن خبثهم، وأنَّهم سيعمُّون على الناس بلبوس العلم، ومزاعم النصح لدين الله، والتستر بدعوى الاعتصام بكتاب الله.
و الأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ منها:
__________
(1) 1انظر مثلاً ما قيل حول الشيخ محمد جمال الدين الأفغاني، وانتسابه إلى محفل (كوكب الشرق) الماسوني الانجليزي في مصر في مؤلَّفات من كشف حقيقته، مثل:
حقيقة جمال الدين الأفغاني، وهو كتاب باللغة الفارسية لابن أخت الأفغاني ميرزا لطف الله خان الأسد آبادي، وقد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبدالمنعم حسين الأستاذ بقسم اللغات الشرقية وآدابها بكلية الآداب في جامعة عين شمس.
و: الماسونية والماسونيون في الوطن العربي، تأليف حسين عمر حمادة، ص: 221 وما بعدها.
و: صوت الماسونية، تأليف زكي إبراهيم، ص: 162 وما بعدها.(61/38)
…عن أبي رافع مولى رسول الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري ممَّا أمرت به، أو نهيت عنه. فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه))(1).
و معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ألفينَّ) أي: لا أجدنَّ، وهذه الصيغة تفيد المبالغة في النهي، ومعنى قوله (أريكته) أي: سريره المزخرف، وهو إشارةٌ إلى أنَّ إنكار الحديث إنَّما يأتي من المترفين الذين شأنهم التنعم وحب الشهوات، وعدم الالتفات إلى أحكام الشريعة أو علومها.
و عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه، وإنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله))(2).
…لقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف، أنَّه سيظهر في أمته من ينكر سنته، متعللاً باتباع القرآن الكريم، ثمَّ بين - صلى الله عليه وسلم - أن ما حرَّمه فهو وما حرَّمه الله في الحكم سواء، لأنَّه لا ينطق عن الهوى، مكتفياً بذكر أحد المتقابلين عن ذكر الآخر، حين أشار إلى ما حرَّم ولم يُشر إلى ما أحلَّ.
__________
(1) حديث صحيح: تقدم تخريجه.
(2) حديث صحيح: تقدم تخريجه.(61/39)
…و إخباره - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين بظهور منكرة السنة، قبل ظهوره علمٌ من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أوردهما وبوَّب عليهما الإمام البيهقي رحمه الله في كتابه (دلائل النبوَّة)، فقال: باب ما جاء في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بشبعان على أريكته يحتال في ردِّ سنَّته بالحوالة على ما في القرآن من الحلال والحرام دون السنة، فكان ما أخبر، وبه ابتدع من ابتدع، وظهر الضرر(1).
…و قد تصدى السلف الصالح رضوان الله عليهم لمنكري السنة وحذَّروا منهم فور ظهورهم، وحكموا بكفرهم.
…فعن عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَه قال: ((من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب))(2).
…و معنى قوله: (كفر بالرجم)، أي أنكر وجوب رجم الزاني المحصن، وهو حكم ثبت بالسنَّة، وسكت عنه القرآن الكريم.
…قال أيوب السختياني(3)
__________
(1) انظر: دلائل النبوَّة، للإمام البيهقي: 6/549.
(2) إسناده صحيح:
أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " 4/275 (7161) في الرجم، باب: تثبيت الرجم، وفي 6/333 (11139) في التفسير، سورة المائدة آية (15)، والطبري في " تفسيره " (11609 و
11610)، وابن حبان في " صحيحه " (4430)، والحاكم في " المستدرك " 4/359 من طرق عن الحسين بن واقد، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه).
(3) أيوب السختياني، هو: أيوب بن كيسان السختياني البصري، أحد أئمة الإسلام الكبار، ومن صغار التابعين، مولده عام توفي ابن عباس - رضي الله عنه - سنة 68هـ/687 م، ولقي أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وكان حافظاً ورعاً، قال عنه الإمام مالك رحمه الله: (كان أيوب من العالمين العاملين الخاشعين)، توفي سنة 131هـ/749 م.
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/246 – 251، حلية الأولياء 3/2 – 14، تذكرة الحفاظ 1/130، سير أعلام النبلاء 6/15 – 26، تهذيب التهذيب 1/ 397.(61/40)
: ((إذا حدَّثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا، وحدِّثنا من القرآن، فاعلم أنَّه ضالٌ مضل))(1).
…و قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله: ((لو أن امرأً قال: لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمَّة))(2).
موقف دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة من أخبار الآحاد:
الخلاف حول الاحتجاج بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد قديم قدم الفِرق والنحل الإسلامية، وهذه المسألة متفرعة من مسألة تقديم العقل على النقل التي عرف بها المعتزلة(3)، الذين حدوه بما لا يعلم كونه صدقاً أو كذباً(4)
__________
(1) أثر أيوب، إسناده صحيح:
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث "، ص: 65، والخطيب في " الكفاية "، ص: 49، والهروي في " ذم الكلام " (208) من طرق عن الأوزاعي، عن مخلد بن الحسين، عنه.
قلت: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات أفاضل.
(2) الإحكام، لابن حزم: 2/80.
(3) 1…المعتزلة: فرقة كلامية، رأسها واصل بن عطاء، وقد سموا بالمعتزلة بعد ان اعتزل واصل مجلس الحسن البصري رحمه الله، وقوله: (إن صاحب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر). ومن مشائخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (ت: 415هـ/1024 م)، وأبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي (ت: 303هـ/915 م)، وأبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري (ت: 436هـ/1044 م). وأصول دعوة المعتزلة خمسة يتفق بعضها في الاسم مع ما عند أهل السنة والجماعة، ويفترق عنه في المضمون، وهي التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بيمن المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
انظر: الملل والنحل، للشهرستاني: 1/48 وما بعدها.
(4) 2انظر: شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار الهمذاني (نشر مكتبة وهبة، القاهرة 1384هـ /
1965 م)، ص: 769.(61/41)
، واتفقوا على عدم الاحتجاج بما جاء في باب العقائد، وما خالف العقل منه، وإن حكم أهل الصنعة الحديثية بصحته(1).
بينما ذهب بعضهم إلى إنكار حجيته في أمور الدين أصوله وفروعه مطلقاً(2)، وعدّ – عند المعتزلة - متساهلاً في ذلك من قبله بشروط كانضمام خبر أخر من أخبار الآحاد إليه، أو اعتضاده بموافقة ظاهر الكتاب، أو ظاهر خبرٍ آخر، آو انتشاره بين الصحابة، أو عمل بعضهم بمقتضاه(3).
و على الرغم من أن مدرسة الاعتزال قد اندرست باعتبارها إحدى الفرق التي كان لها شأن أيام العباسين، إلا أن بعض آرائها تناقلتها الأجيال، وظل يتشبث بها البعض حتى يومنا هذا.
و من هذه الآراء إنكار حجية أخبار الآحاد، وهو ما ارتضته المدرسة العقلية الحديثة في تعاملها مع السنة النبوية، فردت أحاديث عديدة بدعوى أنها أخبار آحاد، لا يعتد بها في تقرير مسائل الاعتقاد.
قال الشيخ محمد عبده: ((و أما ما ورد في حديث مريم وعيسى، من أن الشيطان لم يلمسهما(4)
__________
(1) 3انظر: الأمين الصادق الأمين: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية (الطبعة الأولى، مكتبة الرشد، الرياض 1418هـ/1998 م): 1/129، 130
(2) 4انظر: المرجع السابق، ص: 126.
(3) 5انظر: المرجع السابق، ص: 131.
(4) 1حديث صحيح، متفق عليه:
أخرجه البخاري (3286) في بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، وفي (4548) التفسير، سورة آل عمران، باب: قوله تعالى { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران: 36 [، ومسلم (2366) في الفضائل، باب: فضل عيسى عليه السلام، وغيرهما من طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته ؛ إلا مريم وابنها)). وفي رواية: ((ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: اقرؤا إن شئتم: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران: 36 [)).(61/42)
، وحديث إسلام شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، وإزالة حظ الشيطان من قلبه(2)
__________
(1) 2حديث صحيح ثابت:
روي هذا الحديث عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن مسعود، وشريك بن طارق - رضي الله عنهم - أجمعين:
فأما حديث عائشة رضي الله عنها:
أخرجه مسلم (2815) في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قرينا، ولفظه:
((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: مالك يا عائشة ؟! أغرت ؟ " فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوقد جاءك شيطانك ؟ قالت: يا رسول الله ! أو معي شيطان ؟ قال نعم قلت: ومع كل إنسان ؟ قال: نعم قلت: ومعك يا رسول الله ؟! قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)).
و أما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: =
=…أخرجه مسلم (2814) في صفات المنافقين، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأحمد في " مسنده " 1/385 و397 و401 و460، وغيرهما، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن))، قالوا: وإياك، يا رسول الله ؟! قال: ((و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)).
أما حديث شريك بن طارق - رضي الله عنه -:
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 4/239، وابن حبان في " صحيحه " (6416)، والبزار
(2439)، والطبراني في " الكبير " (7222 و7223) من طريقين عن زياد بن علاقة عنه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((ما منكم أحد إلا وله شيطان))، قالوا: ولك يا رسول الله ؟! قال: ((و لي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم)).
(2) 1حديث صحيح:
أخرجه مسلم (162) (261) في الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد 3/121 و149 و288، وأبو يعلى في " مسنده " (3374 و3507)، وابن حبان في " صحيحه " (6334 و
6336)، وغيرهم، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال:
((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق قلبه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لامه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني: ظئره – فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه منتقع اللون.
قال أنس - رضي الله عنه -: قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم -)).(61/43)
، فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن، لقوله تعالى: { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم: 28 ]، فإننا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا))(1).
و ذهب مثل هذا المذهب أتباع المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة، وفي مقدمتهم الأستاذ حسين جوزو، رئيس علماء البوسنة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري.
وترتب على إنكار حجية أخبار الآحاد عند حسين جوزو ومن وافقه من علماء البوسنة مقالاتٌ فاسدة من أبرزها:
إنكار ما ثبت من خوارق العادات بما فيها معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الإيمان بإمكانية وقوعها أصلاً، ورد النصوص الواردة في ذلك.
فهاهو الأستاذ حسين جوزو ينكر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - جملةً وتفصيلاً، ويقول: ((بنزول القرآن الكريم تفقد المعجزة المادية أهميتها والقرآن هو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحيدة … ولا مبرر لتصديق بعض الروايات الضعيفة التي تنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزات غير القرآن، لأن كل أخبار المعجزات … لا ترتقي إلى درجة الصحة التي تلزمنا بقبولها))(2).
و يقول أيضاً: ((إنَّ الإسلام لم يستخدم المعجزة في إثبات نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن المعجزة لا أهمية لها في عهد القرآن. لقد انتهى دور تلك المعجزات في زمن الإسلام، وبدأ عصر الإعجاز العلمي))(3).
و يُضيف قائلاً: ((من المعروف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يستعن بالمعجزات أبداً في دعوته، وما جاء من روايات تثبت بعض معجزاته مجرَّد حكايات لا أصل لها))(4).
و في مقام آخر يخاطب الشيخ حسين قراءه متهكّماً بمن يؤمن بكرامات الأولياء بقوله:
__________
(1) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا 3/392.
(2) الفتاوى المعاصرة، لحسين جوزو، ص: 48.
(3) حسين جوزو: الإسلام والعصر، ص: 160.
(4) المرجع السابق، ص: 185.(61/44)
((ألم يكن غزو المغول ووحشيَّتهم، والحروب الصليبيَّة، والعدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف وقيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات والحكايات المختلقة عن الكشف والكرامات، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة))(1).
فهو إذن ينظر إلى الكرامات بعقله المجرّد، فلا يرى لها أثراً ملموساً في حياة الناس، ويرى هذا دليلاً كافياً على كونها ضرب من الخيال الذي يتردد في أذهان المتخلّفين.
كما يلاحظ أنه يقرن بين الكشف والكرامات وكأنهما مسميان لذات الشيء، وفي هذا مغالطة علميّة، إذ إن الكشف عند من يعتقده نوع من الاطلاع على المغيبات، والقول به مما ينافي عقيدة أهل السنة، ولا صلة له بما يثبتونه من كرامات للأولياء ألبتة.
إنكار جملةٍ من علامات قيام الساعة الثابتة بصريح وصحيح السنة النبوية الشريفة، كمسألة نزول عيسى عليه السلام، وظهور مهدي آخر الزمان.
يقول الأستاذ حسين جوزو:
((هناك عدد كبير من الأحاديث التي تذكر نزول عيسى عليه السلام ثانية إلى الأرض، وحكمه بالشريعة الإسلامية، وعملاً بتلك النصوص أصبح الاعتقاد بنزول عيسى عليه السلام حقيقة، وورد ذكره في كافة كتب العقيدة))(2).
ثم يستدل على إنكار هذه العقيدة بكلام ينسبه للشيخ محمد الخانجي رحمه الله يذكر فيه ما ذكره أهل العلم من علامات قيام الساعة كنزول عيسى عليه السلام، وقتله الدجال، وظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
__________
(1) المرجع السابق: 153.
(2) انظر: الفتاوى المعاصرة لحسين جوزو، ص: 48.(61/45)
و يستغرب الشيخ الخانجي - فيما ينسبه إليه حسين جوزو - اعتقاد المسلمين بنزول المسيح وظهور المهدي رغم أن ما ورد في نزول عيسى عليه السلام - بما في ذلك حديث رواه البخاري في صحيحه - أخبار آحاد، وليست من قبيل التواتر، فلا تصلح لإثبات العقائد(1).
أما ظهور المهدي فالأدلة عليه أضعف مما ورد في إثبات نزول المسيح عليه السلام، وما قصة ظهور المهدي إلا ضلالة من الضلالات وخرافة من الخرافات يجب تحرير العقيدة الإسلامية منها ومن آثارها السلبية في حياة المسلمين بحسب رأي الأستاذ حسين جوزو، الذي لا يخفى تأثره بدعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر فيما ذهب إليه، حيث ينسب إلى الشيخ محمود شتلوت(2) ومحمد عبده، والشيخ المراغي(3)
__________
(1) أحاديث نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان كثيرة وصحيحة، منها ما هو في الصحيحين أو أحدهما، وقد عدَّها بعض العلماء من قبيل المتواتر كما فعل الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، الذي جمعها في جزءٍ، عنوانه (التصريح بما تواتر في نزول المسيح).
(2) محمود شلتوت: تخرَّج في الأزهر، ودرَّس في القسم العالي بالقاهرة، ثمَّ عين وكيلاً لكلِّية الشريعة. له عضويَّة في هيئة كبار العلماء بمصر، ومجمع اللغة العربيَّة بالقاهرة، تولى مشيخة الأزهر حتى وفاته سنة 1383هـ/ 1963 م. من آثاره: الإسلام عقيدة وشريعة، والفتاوى، وتوجيهات الإسلام.
انظر ترجمته في: المستدرك على معجم المؤلفين، لكحالة: ص 774، الأعلام للزركلي 7/173.
(3) الشيخ المراغي، هو: محمد بن مصطفى بن عبد المنعم المراغي، مفسرٌ وفقيه، حنفي المذهب، يأخذ من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر والمصلحة، ولد بالمراغة من صعيد مصر، ونشأ بها، ثمَّ انتقل إلى القاهرة وتتلمذ فيها على الشيخ محمد عبده، اشتغل بالقضاء، وتولى مشيخة الأزهر حتى وفاته سنة 1364هـ/1945 م. من آثاره: بحوثٌ في التشريع الإسلامي، وتفسير سورة الحجرات.
انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 7/324، معجم المؤلفين، لكحالة: 12/34.(61/46)
، ورشيد رضا القول بأن عيسى عليه السلام قد توفي وفاة طبيعية وعليه فلا معنى لاعتقاد نزوله في آخر الزمان.
أما عن المهدي فيرى - تبعاً لأحمد أمين - أن الإيمان بظهوره آخر الزمان عقيدة شيعية انتقلت إلى أهل السنة، وعليه فمن الواجب إخراجها من عقائد المسلمين(1).
و يوافق الأستاذ حسين جوزو في نفي ظهور مهديِّ آخر الزمان غير واحدٍ من العلماء والكتَّاب البوسنويين، ومن أبرزهم الرئيس علي عزَّت القائل: ((و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه (أرض الميعاد) أو (زمن المعجزات) ولا يوجد المهدي الذي ننتظر وعده))(2).
غير أن ثمة فارق بين دوافع الإنكار لدى كلٍ من الأستاذ حسين جوزو والرئيس علي عزت، إذ ينطلق الأول من منطلق علمي بدافع ما يعتبره تنقية الإسلام ممَّا علق به ولا أصل له فيه، أمَّا الثاني فباعثه على ما قال هو الاصلاح الذي يدعوا إليه، ويرى أن من واجبه في ذلك تخليص الأمة من المثبطات التي جعلتها تركن إلى الواقع، وتتعلق بالأوهام، رافضةً بذل أي جهد – وإن كان بوسعها – بانتظار غائبٍ مرتقب.
__________
(1) انظر: الفتاوى المعاصرة، لحسين جوزو، ص: 48-52.
(2) انظر: النص العربي للبيان الإسلامي، تعريب: جميل روفائيل (جريدة الحياة، لندن، عدد 10812 الأربعاء: 19/3/1412هـ/16/9/1992م).(61/47)
و ممن تأثر بهذا الاتجاه العقلي، فوقع في نفي بعض الأحاديث الدكتور عمر ناكيجفيتش(1)، عميد كلية الدراسات الإسلامية في يومنا هذا، حيث أنكر على الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله ذكره بعض ما يكون بين يدي الساعة مما دلَّت عليه السنة الصحيحة، فقال: (نجد أن صاحبنا حسن كافي ذكر … بعض علامات يوم القيامة التي تخالف العقل، وحتى النقل إذا فهمناها بمعنى ظاهري، ولكن إذا نظرنا إلى معناها المجازي فيمكن فهمها، غير أن صاحبنا لا يميل المعنى
المجازي … وقد ذكر من بين تلك العلامات خروج يأجوج ومأجوج … وخروج الدجال … ووصف دابة الأرض بأوصاف غريبة)(2).
و زاد الدكتور عمر - غفر الله له - في الإنكار على الشيخ حسن كافي، وصرَّح بأنه يأخذ عليه (ذكره بعض الأشياء التي ليست بعيدة عن القصص والخرافات مثل توالد الشياطين، ووصف الدجال)(3)
تقديم العقل على النقل عند دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة:
عرف عن دعاة المدرسة العقدية الحديثة، ما عرف عن أسلافهم الأقدمين من تحريف الأدلة من نصوص السنة النبوية عن مواضعها، كالتحريف في ((وجه دلالة النص ومعناه، بإخراجها عن حقائقها مع الافتراء، بمعنى صرف الأدلة عن وجوه الاستدلال بها... ومنه في المدرسة العصرانية ضغط النص للواقع))(4).
__________
(1) الشيخ عمر ناكيجفيتش: شيخ جليل، ومربٍ فاضل، وقد شرُفتُ بالتدريس في كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو بعد أن أجازني لذلك، وهو ممَّن أوذي في الله فاعتقل وعُذب فصبر سنين عددا، غير أن إقراري بفضله وجلالة قدره، لا يبرر التغاضي عمَّا أراه من زلله وهفواته، التي أسأله تعالى أن يغفرها له، وأن يعذره باجتهاده فيها، لأننا نحب الرجال، ولكنا نحب الحق أكثر من الرجال. (الباحث).
(2) انظر: الدكتور عمر ناكيجيفيتش: الشيخ حسن كافي الآقحصاري، ص: 181.
(3) انظر: المرجع السابق، ص: 184.
(4) 3الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد: الردود، ص: 157، 158.(61/48)
و من أنواع تعدي العقلانيين على السنة، تحريفها بالطعن فيها(1) وإبطال ثبوتها، ومنه الطعن بحديث الآحاد في أبواب الاعتقاد(2).
يقول الأستاذ حسين جوزو: ((إن مما يدل على أهمية العقل والعلم في الإسلام أنه إذا تعارضت نصوص القرآن الكريم مع العقل، أو مع نظرية علمية،
وجب تقديم العقل، وتأويل النص))(3) .
و من الأمثلة على موقفهم هذا ما يلي:
أولاً: قول الأستاذ حسين جوزو: ((الحياة في تطور مستمر، ومتطلباته متطورة أيضاً فإذا كان إخراج ربع العشر كافياً لسد احتياجات مجتمع بدوي متخلف قبل ألف وأربعمائة سنة، فإن ذلك لا يكفي اليوم، وعليه فلا أظنني مخطئاً حينما أعيد النظر في نسبه زكاة المال، ونصاب صدقة الفطر))(4).
الخلط في فهم نصوص السنة النبوية عند العقلانيين في البوسنة:
يضطرب دعاة المدرسة العقلية عموماًعندما يواجهون بما يرد عليهم، أو يفند آراءهم الشاذة، وأمام عجزهم عن القول برد السنة النبوية بالكامل، نجدهم يسلمون بصحة ما ووجهوا به، ويأولونه بأهوائهم تهرباً من القول بمقتضاه ويظهر ذلك جلياً في:
أولاً: رفض فهم السلف الصالح لكثير من الأحاديث النبوية:
يقول حسين جوزو بعد الإشارة إلى فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لبعض نصوص الشريعة وتطبيقهم لها: ((إن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كان ينظر إليها على أنها ملزمة للأجيال اللاحقة، ولكن هل يمكن أن يظل الأمر كذلك إلى الأبد ؟ ألم يكن من بينها ما هو خاص بعصرهم، ومناسب لظروفهم
فقط ؟))(5).
__________
(1) 4انظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم: 1/ 217.
(2) 5انظر: الدكتور بكر أبو زيد: الردود، ص: 159.
(3) الإسلام والعصر، ص: 161.
(4) المرجع السابق، ص: 513.
(5) المرجع السابق، ص: 14.(61/49)
…و يقول في موضعٍ آخر: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطبق قواعد الإسلام وأحكامه في بيئة معيَّنة، وفترة زمنيَّة محددة، ولا شك في أنَّ ذلك التطبيق كان ملائماً لتلك البيئة ومستواها الحضاري … ويجب علينا الإقرار بأنَّ تنزيل أحكام الإسلام على الواقع أمرٌ اجتهادي … وكيفيَّة تطبيقها تتغيَّر بحسب ظروف العصر، وتطور المجتمع))(1).
…و انطلاقاً من هذا الفهم لا يستطيع الأستاذ حسين جوزو أن ينظر إلى السنة إلا بعتبارها نموذجاً لتطبيق الإسلام، لا يلزم الأجيال اللاحقة التقيُّد به، وأنَّ ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده ليس حلاً نهائياً لا يمكن تغييره أو تطويره، ولكنَّه مجرَّد رأيٍ يمكننا أن نرى غيره مما يتناسب مع العصر الذي نعيشه، والحضارة التي نتعامل معها، وننتسب إليها(2).
…و المثال الذي غالباً ما يضربه دعاة التجديد لتغير الأحكام بتغيُّر الظروف والأزمان هو قضيَّة تعدُّد الزوجات، الأمر الذي يسعون جاهدين لتحريمه، والقضاء عليه، بدعوى عدم صلاحيَّته لهذا الزمان، وفي هذا يقول الشيخ محمد عبده:
((لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، حتى يعيد العلماء النظر في هذه المسألة، خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر، وعلى رأيهم الحكم، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل المصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله رفع الضرر والضرار، فإذا ترتبت على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله، فلا شك في وجوب تغيير الحكم، وتطبيقه على الحال الحاضرة))(3).
…و مقتضى كلامه هو أنَّ مسألةً – كمسألة تعدد الزوجات – لا يمكن تطبيقها في زمانٍ كزماننا، ولا تناسب ظروفنا ومستوى ثقافتنا، وإن كانت صالحة للتطبيق في العصور الغابرة، ومقبولةً بحسب فهم الأجيال السابقة.
__________
(1) المرجع السابق: 29.
(2) انظر: المرجع السابق: 49 وما بعدها.
(3) تفسير المنار: 4/349 – 350.(61/50)
و ما هذه النظرة المتنكرة لفهم السلف لنصوص الشرع، وتطبيقهم لها، بل ولعمل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه، إلاَّ نتيجة لرأي العقلانيين القائل: إنَّ الالتزام بالسنة والعمل بالحديث على منهج السابقين يعني أننا ((حفرنا للحديث قبره، ووأدناه فيه))(1).
…و ينتهي الأستاذ حسين جوزو إلى أنَّ على المسلمين في مرحلة التجديد والنهضة الإسلاميَّة على طريق العودة إلى الإسلام أن لا نقف عند أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفعالٍ، بل أن ننظر إلى كيفية فعله لها، وكيفيَّة تطبيقه للقرآن الكريم، وتعامله مع القضايا الواقعة والأمور المستجدَّة في عصره، علماً بأننا لن نجد في شيءٍ من ذلك حلولاً لكثيرٍ من قضايانا المعاصرة، لأنه كان يحلُّ قضايا عصره وبيئته، وعلينا نحن أن نجد الحلول المناسبة لقضايا عصرنا ومجتمعاتنا(2).
ثانياً: عدم الدقة في رواية الحديث وفهم معناه الموجب للتسليم والعمل بمقتضاه:
و من ذلك إشارة الشيخ حسين جوزو إلى حديث ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها))(3) بقوله: ((لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي كل مائة عام من يجدد هذا الدين بفهم جديد، وتطبيق جديد ومناسب))(4).
…و فضلاً عن عدم ضبط الأستاذ حسين جوزو لمتن الحديث، يبالغ في الانتصار لمذهبه، بإدراج ما يخدم توجهه فيه، بزيادة ((بفهمٍ جديد، وتطبيق جديد
مناسب))، وهو بذلك ينفرد بفهم جديد لمعنى التجديد الوارد في الحديث، والذي فسَّره به الشرَّاح السابقون بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنَّة والأمر بمقتضاهما، فالمجدد هو الذي يبين السنة من البدعة، وفي عصر التجديد يكثر العلم ويقوى أهله، وتقمع البدع ويكسر أهلها(5).
__________
(1) حسين جوزو: الإسلام والعصر: 31.
(2) المرجع السابق، ص: 50 وما بعدها.
(3) صحيح: تقدم تخريجه.
(4) الإسلام والعصر، ص: 14.
(5) انظر: عون المعبود: 11/ 386.(61/51)
…و استدلاله على أنَّ الإسلام قد ساوى بين الرجل والمرأة، وأنَّ المساواة بينهما لا تكون إلا بتأهيل المرأة وتسليحها بالعلم، بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة))، ومعلوم أنَّ لفظ (و مسلمة) مدرجٌ في الحديث، وليس منه(1)
__________
(1) انظر: حسين جوزو: الإسلام والعصر، ص: 476.
قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 277: (قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث " ومسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحا).
قلت: والحديث بدون هذه الزيادة روي عن عدد من الصحابة، من طرق كثيرة لا يخلو إسناد منها من ضعف، فقد نقل المناوي في " فيض القدير " 4/267 عن السيوطي قوله: (جمعت له خمسين طريقا).
قلت: وبانضمام هذه الطرق بعضها إلى بعض يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى، وقد حسنه بعض الأئمة، وصححه غيرهم، أذكر عنهم طرفا من ذلك:
قال الذهبي في " تلخيص العلل المتناهية " (26): (روي عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وأبي سعيد - - رضي الله عنهم -، وبعض طرقه أولى من بعض، وبعضها صالح، والله أعلم).
و قال المزي فيما نقله عنه الزركشي ووافقه في " اللآلئ المنثورة " ص 43: (روي من طرق تبلغ رتبة الحسن).
و قال العراقي فيما نقله السخاوي في " المقاصد " ص 276: (قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه، كما بينته في تخريج الإحياء).
و حسنه السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 130. بل نقل عنه المناوي في " الفيض " 4/267 قوله: (و حكمت بصحته لغيره، ولم أصحح حديثا لم أسبق إلى تصحيحه سواه).
قلت: وفي ذلك نظر، لما نقلناه عن العراقي قبل.
و نقل ابن عراق في " تنزيه الشريعة " 1/258 عن الحافظ العراقي الشافعي قوله:(حديث حسن غريب). =
=…و قال الزرقاني في " مختصر المقاصد " (614): (حسن، وقيل: صحيح).(61/52)
، ولو اقتصر من يروون الحديث بهذه الزيادة على ما روي مسنداً حسنا، لكانوا أبعد عن الشبهة، وأبلغ في التعبير عن المراد، حيث قرر أهل العلم أنَّ الخطاب عامٌ يشمل الرجال والنساء، وإنمَّا يرد بصيغة التذكير للتغليب لا للتخصيص.
ثالثاً: التقليل من شأن السنة النبوية:
…و ذلك باعتبار أنَّ الحديث النبوي عبارةٌ عن اجتهاداتٍ بشرية من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس وحياً غير متلوٍ كما يقول كثيرٌ من العلماء.
فهاهو الأستاذ حسين جوزو يتساءل: هل كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاده البشري ؟ أم أنَّها وحيٌ ربَّاني ؟
ثم يجيب على تساؤله هذا بالقول: ((إنَّ إدعاء أن السنَّة نوعٌ من الوحي زعمٌ لا دليل عليه، حتى في قوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى - إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى } [ النجم: 2، 4 ]، فالذي ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم الموحى إليه ولا ريب أن المقصود في الآية هو القرآن الذي كان يتلوه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيِّنه للناس الذين اتبعوه بافترائه من عند نفسه … والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع الحديث إلى منزلة الوحي، بل كان يرى أنَّ القرآن من الله، وأنَّ الحديث من البشر، ولو لم يكن الأمر كذلك لأمر بتدوين السنَّة كما أمر بكتابة القرآن الكريم))(1).
موقف دعاة السنة في البوسنة من المدرسة العقلية الحديثة:
لقد أخرج الله تعالى من أبناء البوسنة أنفسهم من ينقض دعاوى الشيخ حسين جوزو وأترابه، ويبين فسادها في ضوء القرآن الكريم الذي يزعم العقلانيُّون أن لا وحي غيره.
__________
(1) حسين جوزو: الإسلام والعصر: 266 وما بعدها.(61/53)
و من هؤلاء الأفاضل الأستاذ مصطفى كاراليتش الذي تولى إحقاق الحق في هذه المسألة في بحث نُشر في العدد الثاني والأربعين من مجلَّة (الفكر الإسلامي)، الصادر في شهر (6) سنة 1982م، وضمَّنه مسألتين هامتين على صلة بمسألة حجية السنة التي تناولها المؤلف في الجزء السابق وهما:
مسألة كون السنة وحياً غير متلو، وذكر الخلاف في ذلك مرجحاً كونها وحياً من عند الله تعالى القائل: { وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحيٌ
يوحى } [ النجم: 2، 4 ] وراداً على من زعم أنَّها مجرَّد اجتهادات بشرية لا يؤخذ بها في الأحكام الشرعيَّة.
أما المسألة الثانية ففيها زيادة تفصيل وبيانٍ لسابقتها، حيث سار المؤلف على منهج الإمام ابن قتيبة في كتاب (تأويل مختلف الحديث) فقسَّم السنة إلى ثلاثة أقسام(1).
و لا أعرف أحداً من البوسنويين كتب في مثل هذه المسائل، راداً أقوال العقلانيين ومثبتاً أقوال العلماء الراسخين، رغم خطورة ذلك تحت الحكم الشيوعي سوى الأستاذ مصطفى كاراليتش جزاه الله خيراً.
أما بعد انقضاء الحرب الأخيرة، فقد كثر الدعاة إلى الكتاب والسنة، وأجرى الله على أيديهم الخير الكثير، فكانوا شوكة في حلوق العقلانيين، يغصون بها كلما ارتفعت عقيرتهم بدعوى فاسدة، أو رأي غير سديد.
__________
(1) 1قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ص 132 – 134: (السنن عندنا ثلاث: سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى، كقوله: لا تنكح المرأة على عمتها... والسنة الثانية: سنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة والعذر، كتحريمه الحرير على الرجال، وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به... والسنة الثالثة: ما سنه لنا تأديباً، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله، كأمره في العمة بالتحلي، وكنهيه عن لحوم الجلالة، وكسب الحجام).(61/54)
الطريقة الختمية
الشيخ / محمد مصطفى عبد القادر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ،
اعلم أخي المسلم بأن من أعظم الفتن التي أبتلي بها المجتمع المسلم ما يسمى بالتصوف أو الفكر الصوفي ، ذلك الفكر الذي يعمل على هدم الإسلام بإسم الإسلام ، وقد انخدع به كثير من المسلمين منهم من ينتسب إلى العلم وكثير منهم لا يعلمون وهذه سلسلة رسائل تحت شعار احذروا التصوف نكشف فيها عن مخالفات الطرق الصوفية للشريعة الإسلامية من خلال كتبهم ونبين الأدلة من الكتاب والسنة على بطلانها استنادا على قوله تعالى " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " وكل ذلك بايجاز شديد غير مخل بالهدف المنشود والله نسأل القبول والهدى والسداد وهذه مخالفات الطريق الختمية للشريعة الإسلامية .
الشيخ/ محمد مصطفى عبد القادر -السودان
المخالفة الأولى :
يزعم الشيخ الميرغني السيد محمد عثمان شيخ الطريقة الختمية " أن الله كلمه وقال له أنت تذكرة لعبادي ومن أراد الوصول إلىَّ فليتخذك سبيلا وأن من أحبك وتعلق بك هو الذي خلد في رحمتي ومن أبغضك وتباعد عنك فهو الظالم المعدود له العذاب الأليم، وهذا في كتاب الطريقة الختمية بعنوان ( الهبات المقتبسة – تأليف الشريف السيد محمد عثمان ) ص 76.
وأما الرد على ذلك الإفتراء على الله والتضليل بعباده من وجوه :-
أولاً :
كيف يدعي الميرغني أن الله كلمه وخاطبه هل هو نبي أم رسول ؟ يقول الله تعالى ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم ) سورة الشورى (51)
ثانياً :-(62/1)
كيف يدعي الميرغني أنه هو السبيل إلى الله وقد بين الله في كتابه الكريم أن سبيل التقرب إليه عن طريق كتابه وسنة نبيه وليس الطريقة الختمية حيث يقول الله تعالى ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ) الأنعام (155) ويقول الله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) سورة الحشر (7) وقد جاء في حديث ، أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى وسنة رسوله ) رواه الترمذي وقد بين الله تعالى أن كل طريق غير هذا فهو من طرق الشيطان صوفياً كان أو غيره وذلك في قوله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) سورة الأنعام (153) وقد بين النبي صلى الله عيه وسلم في حديث ابن مسعود في تفسيرها أنه خط خطاً مستقيماً على الأرض وقال هذا صراط الله وهذه هي السبل وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه فنعوذ بالله من طرق الشيطان .
ثالثاً :-
كيف يتجرأ الميرغني ويزعم أن الله قال له من أحبك يخلد في رحمتي ومن أبغضك فله العذاب الأليم ؟ إن المعلوم في الشريعة أن الحب في الله والبغض في الله عبادة يتقرب بها إلى الله وقد جاء في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال:" ان أوثق عرى الايمان الحب في لله والبغض في الله " رواه البيهقي ولكن هذا لايبنى على الهوى وإنما يرجع فيه لاحكام الشرع فمن التزم باحكام الشرع تلزم محبته في الله ومن أختلف مع أحكام الشرع يلزم بغضه في الله وهنا يرد السؤال هل وافق الميرغني في قوله هذا وهل اتفقت طريقته مع الكتاب والسنة ؟ الجواب إنها قد إختلفت تماماً مع الكتاب والسنة وهنا يلزم بغضه في الله وبغض طريقته والكشف عن زيفه وهذا من أعلى مقامات التقرب إلى الله .
المخالفة الثانية :(62/2)
يزعم الميرغني " أن رسول الله قال له من صحبك ثلاثة أيام لايموت إلا ولياً وأن من قبل جبهتك كأنما قبل جبهتي ومن قبل جبهتي دخل الجنة ومن رآني أو رأى من رآني إلى خمس لم تمسه النار، وهذا في كتاب الطريقة الختمية بعنوان مناقب صاحب الراتب تأليف السيد / محمد عثمان الميرغني ص 102 .
أما الرد على ذلك الإفك والدجل من وجوه :
أولاً : -
أين ومتى إلتقى بالنبي صلى الله عيه وسلم حتى قال له ذلك ؟ لاشك أن ذلك كذب جلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويكفي ما جاء في مقام الوعيد لأمثال هؤلاء ما أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال:" بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" .
ثانياً :-
من هو الميرغني حتى يكون من صحبه ثلاثة أيام لا يموت إلا ولياً ؟ وهل ضمن لنفسه أنه من أولياء الله ناهيك عن من يصحبه ؟ قال تعالى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) البقرة 111 ويقول تعالى في تكذيبه وإدعائه ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن إتقى) " سورة النجم 32 .
ثالثاً :-
كيف يزعم ويفتري الميرغني أن من رآه أو رأى من رآه إلى خمس يدخل الجنة وهل هو ضمن الجنة لنفسه ومعلوم أن النبي صلى الله عيه وسلم قد رآه كثير من اليهود والنصارى والمشكرين وماتوا على الكفر فهل ياترى هو أفضل من رسول الله صلى الله عيه وسلم ؟ وكيف يحكم المفتري هذا على خاتمة أناس بمجرد رؤيته فقط وقد علَّمنا النبي صلى الله عيه وسلم أن لا تحكم على خاتمة المرء مع عمله وذلك في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عيه وسلم قال:" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" . (رواه مسلم ) .
المخالفة الثالثة :-(62/3)
" يزعم الميرغني أنه أعطى راتباً لا يقدر على قراءته أحد غير النبي صلى الله عيه وسلم والمهدي " وهذا في كتاب الطريقة الختمية بعنوان رسالة الختم تأليف السيد / جعفر بن السيد محمد عثمان ص 111 .
وأما الرد على ذلك السخف والدجل من وجوه،
أولاً:
قال أعطيت راتباً ولم يبين من الذي أعطاه ولاشك في أن الذي أعطاه إياه هو شيطانه وإلا لو كان من شريعة الإسلام يلزمه أن يبين أهو من الكتاب والسنة حتى نعرفه وذلك لقوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولو الأمر منكم فإن تنازعتم في شئٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (سورة النساء )
ثانياً :-
مما يدل على أنه ليس من الدين أن الله جعل التكليف على وسع البشر وذلك لقوله تعالى ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) (سورة البقرة 276)
ثالثاً :-
انه يزعم أنه لا يستطيع قراءته غير النبي والمهدي وهذا يعني أنه حتى هؤلاء لا يستطيعون قراءته فما الفائدة إذا من هذا الراتب .
المخالفة الرابعة :-
الختمية يزعمون لو كان نبي بعد النبي لكان محمد عثمان الميرغني حيث ورد في كتاب الطريقة الختمية بعنوان رسالة الختم تأليف السيد / جعفر بن السيد محمد عثمان الميرغني ص 115 – 116 ما يأتي في مدحه أن الرسول قال ذلك وقدمها مادحهم في قوله :-
ولو كان بعدي يأتي نبي *** فعثمان كان له أُوحِيَ
وهذا إفتراء واضح وكذب صريح يختلف مع قول النبي صلى الله عيه وسلم فيما أخرج الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال:" لو كان نبي بعدي لكان عمر" وفي رواية اخرى" لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر" .
المخالفة الخامسة :-(62/4)
يزعم الختمية انه لايجوز زيارة المريد للشيخ إلا على طهارة وأن حضرة الشيخ هي حضرة الله وذلك في كتاب منحة الأصحاب تأليف أحمد بن عبدالرجمن تلميذ السيد محمد سر الختم الميرغني ص 67 حيث ورد الآتي في آداب المريد مع الشيخ " وأن لا يزور المريد الشيخ إلا على طهارة لأن حضرة الشيخ هي حضرة الله " وفي هذا يتعجب العقلاء فكيف يتطهر لزيارة الشيخ وقد أشارت النصوص إلى أحكام الطاهرة ما يجب وما يستحب ومن حيث لا يوجد دليل للطهارة في زيارة الأشخاص حتى ولو كان في درجة رسول وقد أخرج البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عيه وسلم في بعض طرق المدينة فانخنس منه فقال له النبي صلى الله عيه وسلم:" أين كنت يا أباهريرة قال كنت جنباً فكرهت أن أجالسك فقال النبي صلى الله عيه وسلم سبحان الله إن المؤمن لاينجس
" . فهل ياترى مشايخ الصوفية أفضل أم النبي صلى الله عيه وسلم.
المخالفة السادسة :-
يزعم الختمية بأنه عند الشدائد ينبغي أن تلجأ إلى الميرغني من دون الله وهذا ضلال يتفق عليه المتصوفه أجمعهم حيث ورد في كتاب الطريقة بعنوان تجمع الأوراد الكبير ص 147 تأليف محمد عثمان الميرغني في قوله :
ومهما أتاك خطب جليل *** فقم وناده وقل يا ميرغني
وأما الرد على ذلك الضلال فيكذبه قوله تعالى ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) سورة غافر 60 وقوله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإن قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان) سورة البقرة 186 وقول النبي صلى الله عيه وسلم من حديث بن عباس" إذا سألت فأسأل الله وإذا إستعنت فإستعن بالله" رواه الترمذي وقوله تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لايستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) الأحقاف (5) .
المخالفة السابعة :-(62/5)
الختمية يذكرون الله بأسماء ما انزل الله بها من سلطان ويسمونه بأسماء غير أسمائه الحسنى وقد ذكر في أذكارهم في دعوة البرهتية عن السيد محمد الحسن الميرغني في كتاب مجمع الأوراد الكبير ص 116 " أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلى آله على سدنا برهتيه ، تبتليه طوارك ، مزحل ، برهشب ، خوطر ، قلينهود ، برشا كطهير بانموا شلخ ، شماهير ، شمها حيرحورب النور الأعلى عبطال فلا إله إلا هو رب العرش العظيم " وهذا الذكر فيه تلبيس للحق بالباطل وقد قال تعالى ( ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) سورةالبقرة 42 وتلك الكلمات ليست أصل في الكتاب والسنة ولاشك أنها من وحي الشياطين وقد قال تعالى ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسماءه سيجزون ما كانوا يعملون) سورة الأعراف 180 .
المخالفة الثامنة :-
يزعم الختمية انه يجب على المريد طاعة شيخه وإن خالف الشرع وذلك حيث ورد في كتاب الطريقة بعنوان منحة الاصحاب تأليف احمد عبدالرحمن تلميذ السيد محمد سر الختم ص 67 ما يأتي( فإذا قال الشيخ للمريد اقرأ كذا أو صم كذا أو قال له وهو صائم افطر أو قال له لا تقم الليلة فإنه يطيعه ، قال سيدي أبو يزيد البسطامي لتلميذ له أفطر ولك أجر يوم فأبى وقال ولك أجر جمعة فأبى فقال ولك أجر شهر فأبى وقال ولك أجر سنة فأبى فقال له بعض الحاضرين مخالفتك هذه تضرك فقال الشيخ دعو من سقط من عين الله )
وأما الرد على ذلك الضلال :-(62/6)
مفهوم ان الشريعة جاءت تدعو العباد للأعمال الصالحة يقول الله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " سورة الكهف 107 ويقول تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) سورة العصر وقد كان النبي صلى الله عيه وسلم يرغب الصحابة في الأعمال الصالحة وقد جاء فى الحديث أن الرسول صلى الله عيه وسلم قال :"نعم الرجل الصالح عبدالله بن عمر لو كان يقوم الليل ، قال ابن عمر ما تركت قيام الليل بعد ذلك" . (رواه أحمد) . وفي الحديث أيضاً عن أبي امامة "أن رجلاً قال يارسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال عليك بالصوم " (رواه الترمذي) فكيف ينهى الشيخ المريد من العمل الصالح مثل قيام الليل والصيام كما يزعم المتصوفة وكيف يحق للمريد أن يطيع شيخه ، فالتصوف في منهجه يمثل استعباد الشيوخ لمريديهم وليعلم هؤلاء المساكين أنهم على ضلال ، وأن الإسلام قد جاء لتحرير العباد من هؤلاء الشيوخ وأمثالهم ، ومن هنا كان قول النبي صلى الله عيه وسلم "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " رواه أحمد . وفي رواية أخرى إنما الطاعة في المعروف (رواه البخاري) . أما عن قصة أبي يزيد البسطامي الذي أمر التلميذ بالفطر وضمن له الأجر فهي تمثل قمة الضلال بإسم الدين فإنه لم يكتفي بأمره له بالفطر بل تعدى إلى أكبر من ذلك وضمن له أجراً وكأنه هو الإله الذي يصام له ويملك الثواب سبحانك ربي هذا بهتان عظيم .
هذه بعض مخالفات الطريقة الختمية للشريعة الإسلامية وإن كانت المخالفات كثيرة . وبهذا يلزم كل مسلم إن كان من أصحابها أن يتركها وعلى الجميع أن يحذرها ويُحذر منها
.والله نسأله قبول العمل والتوفيق والسداد ،،،
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
.............(62/7)
شكر الله للشيخ السوداني الفاضل محمد مصطفى عبدالقادر على نصحهِ للمسلمين ، وفضحه للمتلبسين الملبسين ، دُعاة الباطل بثياب الدين ، ونشر الفرقة بين المسلمين ، باتخاذ طرق تفتت جمع المسلمين ، إلى طرق وفرق ما أنزل الله بها من سلطان(62/8)
الطريقة السمانية
الذكر عند الطريقة السمانية :
إذا كان هنالك عائلة في السودان لا يوجد بها صوفي واحد فهي عائلة غير سودانية ..
هذا ما يقوله الدكتور حسن الفاتح قريب الله ، شيخ الطريقة السمانية ، في الخرطوم ، وهذا شيء معلموم لكل سوداني.
إن التصوف ليس شيء شعبي عادي أو جزء من نقاش عام ، ولكنه قوة مؤثرة في المجتمع بشكل عام.
وبعد أن يتكلم الكاتب عن التصوف ونفوذه في المجتمع وبين الشخصيات ذات النفوذ السياسي يصف لنا طريقة الذكر وهذا ما يهمنا هنا :
في ظهيرة جمعة أقفل أحد شوارع الخرطوم عن المرور ، وفرشت السجاجيد ، وتجمع مئات التابعين من الطريقة السمانية ، واقفون في صفوف مواجهة لبعضها البعض للذكر ، وهو طقس مهم من طقوس الصوفية..
حيث يقضون كل ظهيرة يوم عطلتهم الوحيدة وهم يحنون ظهورهم مئات المرات مرددين كلمة " لا إله إلا الله " أو كلمة " الله " يكررونها طوال الوقت تحت إرشاد شيخهم وهم يدورون من جهة لأخرى ، ويقفزون للأعلى وللأسفل ...
http://www.internationalspecialreports.com/africa/01/sudan/zikrbowing2%20.jpg
ولا ترى أي كلام جانبي أو شيء يشتت التركيز ، فقط المريد والشيخ والله على خلفية أصوات الرجال الذين يقودون الترانيم الصوفية.
http://www.internationalspecialreports.com/africa/01/sudan/zikr%20shback.jpg
والذكر يجمع الترانيم والصلوات والتأمل ، إذ أن الذكر مع كل حركات الجسم يؤدي لذوبان الشخص في تمجيد الله وعبادته.
إن الذكر يحتاج لقدرة كبيرة على الاحتمال ليستمر ست ساعات ، وخصوصاً في درجة حرارة فوق الأربعين درجة مئوية.
http://www.internationalspecialreports.com/africa/01/sudan/zikr%20Shjumping.jpg
في الصورة السابقة لاحظوا الرجلين في وسط الصورة أمام الشيخ والآخر بجواره وهم يقفزون .. !!(63/1)
ولكن الجزاء كما يقول الشيخ قريب الله هو الإحساس بالسعادة والمرح ، وهو – أي الشيخ – عندما يندمج في الذكر يكون تركيزه بأن الله قريب منه ، إن لمن الصعب أن تكون قريب من الله كما يقول.
إن تحمله الجليل ، ووجهه الروحاني يعبر عن نتيجة هذه الجهود.
http://www.internationalspecialreports.com/africa/01/sudan/63.jpg
لقد كان أبيه وجده من شيوخ السمانية ، ويرجع أصلهم لرجل مريد للسمانية أدخلها للسودان ، وهي طريقة صوفية في المدينة " منذ زمن طويل قبل وجود الوهابيون وتحكمهم في المملكة العربية السعودية ، الذين أزالوا الصوفية تماماً ومنعوها "
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا .. !!
هل اُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع الصحابة في الشارع أو في المسجد ليتقافزوا ويديروا رؤوسهم مرددين كلمة الله ولا إله إلا الله .. ؟؟
وهل جهل الرسول بذكر الصوفية بطبولهم أو بدونها وعلمه مشايخ الطرق الصوفية .. ؟؟
هذا السؤال الذي أتحدى أي صوفي أن يرد عليه .. !!
من موضوع للسيد البرقعي حفظه الله
كيف يؤدي الصوفية طقوس ذكرهم .. ( وصف بقلم صوفي ) .. !!
http://www.d-sunnah.net/forum/showthread.php?s=&threadid=7888&perpage=10&pagenumber=1
عنوان الفتوى: الطريقة السمانية الصوفية وضم الذكر بضرب الدف وغيره
اسم المفتى: سماحة العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله
نص السؤال
عندنا في السودان شيخ له أتباع كثيرون يتفانون في خدمته وطاعته والسفر إليه معتقدين أنه من أولياء الله فيأخذون منه الطريقة السمانية الصوفية ، وتوجد عنده قبة كبيرة لوالده يتبرك بها هؤلاء الأتباع ويضعون فيها ما تجود به أنفسهم من النذور ، ويضمون الذكر بضرب الدفوف والطبول والأشعار ، وفي هذا العام أمرهم شيخهم بزيارة قبر شيخ آخر فسافروا رجالا ونساء في مائة سيارة فكيف توجهونهم . ؟
نص الفتوى
الحمد لله(63/2)
هذا منكر عظيم وشر كبير فإن السفر إلى زيارة القبور منكر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى). ثم إن التقرب لأصحاب القبور بالنذور أو الذبائح أو الصلوات أو بالدعاء والاستغاثة بهم كله شرك بالله عز وجل ، فلا يجوز لمسلم أن يدعو صاحب قبر ولو كان عظيما كالرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولا يجوز أن يستغاث بهم كما لا يجوز أن يستغاث بالأصنام ولا بالأشجار ولا بالكواكب .
أما لعبهم بالدفوف والطبول وتقربهم بذلك إلى الله سبحانه فهو من البدع المنكرة وكثير من الصوفية يتعبدون بذلك فكله منكر وبدعة وليس مما شرعه الله ، وإنما يشرع الدف للنساء في العرس خاصة إظهارا للنكاح وليعلم أنه نكاح وليس بسفاح .(63/3)
كذلك من البدع ووسائل الشرك البناء على القبور واتخاذها مساجد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها ، كما روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه). وقال عليه الصلاة والسلام : (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). فيجب أن تكون القبور ضاحية مكشوفة ليس عليها بناء ولا يجوز التبرك بها ولا التمسح بها ، كما لا يجوز دعاء أهلها والاستغاثة بهم ولا النذر لهم ولا الذبح لهم ، فكل هذا من عمل الجاهلية ، فالواجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك ، والواجب على أهل العلم أن ينصحوا هذا الشيخ ، وأن يعلموه أن هذا العمل عمل باطل ومنكر ، وأن ترغيبه للناس في الاستغاثة بالأموات ودعوتهم من دون الله أن هذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله ، ويجب على المسلمين أن لا يقلدوه ولا يتبعوه ولا يغتروا به ، فالعبادة حق الله وحده وهو الذي يدعى ويرجى قال الله تعالى : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. وقال سبحانه : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فسماهم كفرة بدعوتهم غير الله من الجن والملائكة وأصحاب القبور والكواكب أو الأصنام ، كل هؤلاء دعوتهم مع الله شرك أكبر يقول الله تعالى : {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني المشركين ، وعلى جميع من يستطيع إنكار هذا المنكر أن يساهم في ذلك ، وعلى الدولة إن كانت مسلمة أن تمنع ذلك وأن تعلم الناس ما شرع الله لهم وأوجبه عليهم من أمر الدين حتى يزول هذا الشرك وهذا المنكر . نسأل الله الهداية للجميع .(63/4)
http://www.al-eman.com/Ask/ask3.asp?id=10382&hide1=2&Next=10&select1=*&select2=*&rad1=&dbegin=&mbegin=&ybegin=&dend=&mend=¥d=&rad2=MOF&idser=&wordser=الصوفية
وهناك كتاب قيم في كشف عقيدة هؤلاء
اسم الكتاب
الإطاحة
بعرشِ أكابر الدجالين في الساحة
للشيخ هاشم الحُسين رجب وفقه الله
ولعلنا في الأيام القادمة نقطف مقتطفات من هذا الكتاب .. أو قراءة تلخيصيه منه
.........
جمع هذه المادة
أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(63/5)
الطريقة النقشبندية
بين ماضيها وحاضرِها
الشيخ فريد الدين آيدن
Feriduddin AYDIN
http://www.ikraislam.com
موقع للسلفيين الأتراك
http://www.saaid.net/
مقدّمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ هذا الكتاب يضمّ بين دفّتيه دراسةً هامّةً في معرض فرقةٍ من الفِرَقِ الصوفيّة. لقد بذل المؤلّف جهدًا بالغًا في سبيل هذه المهمّة، فانطلق بعزيمة الباحث المدقّق المنظّم في أعماله. لا غرو إنّه من فرسان هذا الميدان. فنذر من وراء هدفه أغلى أيامه منذ عنفوان شبابه وهو يتباحث من غير ملل، ويطارد المصادر، ويجمع الوثائق، ويطالع وينسّق ويسجّل ويسهر عليها، حتّى أثمر سعيه المتواصل عن هذا السِّفْرِ الجليل. كلّ ذلك ليكشف العَتَمَةَ عن أهمِّ سببٍ من تلك الأسباب الّتي أحاطت بالمسلمين منذ قرونٍ فعرقلتهم، وحالت دون تقدّمهم، وشوّهت الكثيرَ من جمال الإسلام.
تُقَدِّمُ هذه الدراسةُ ما تُقَدِّمُ من معلوماتٍ تفصيليةٍ منظّمةٍ وموثّقَةٍ مع ذكر مصادرها والإشارة إلى أرقام الصحف لكلّ نصٍّ منقولٍ منها، وأحيانًا مع ترجمتها. وذلك تسهيلاً للباحثين ورجال العلم في مهامّهم عند مراجعتها.
ليس الهدف من تقديم هذه الدراسةِ إلى جماهير المسلمين إلاّ إعلامهم عن حدثٍ هامٍّ من واقع تاريخهم، غفلوا أو تغافلوا عن حقيقتها؛ ليستبصروا نتائجَهُ من خلال بحثٍ علميٍّ رصين، ووثائِقَ مضبوطةٍ؛ وليتمكّنوا بذلك من مقارنة الإسلام الّذي نفهمه من الكتاب والسنّة، مع الإسلام الّذي اخْتَلَقَتْهُ العقليّاتُ عَبْرَ عصور الظلام. عسى أن يستوحي منه العبرةَ كلُّ مَنْ يطّلع عليها من أهل الإيمان والإخلاص؛ وأنْ يتحمّل المسئوليةَ لإحياء أمّة الإسلام ثانيةً بعد أن اختفت بمقتل آخر الخلفاء الراشدين.(64/1)
ونتضرّع إليه تعالى أن يبارك في خطوات كلِّ مؤمن مخلص يسعى إلى تحقيق هذه الغاية العظمى بدءًا بالفهم الصحيح مع العلم التامّ بأنّ من أراد عملاً يتقرّب به إلى الله مما لم يشرعه الله ورسولُهُ فهو مردودٌ ووبالٌ على صاحبه.
هذا وتقدّم مؤسّستنا شكرَهُ وتقديرَهُ لمؤلّفِ هذا الكتابِ فضيلةِ الشيخ فريد الدين بن صلاح بن عبد الله بن محمّد الهاشمي المعروف بلقبه الخاص: Feriduddin AYDIN في تركيا؛ وبالله التوفيق.
الْعِبَر
للطباعة والنشر والتوزيع
مقدّمة المؤلّف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنّ كثيرًا من المسلمين -وحتّى العلماءَ والباحثين منهم-، لا تتعدّى معرفتهم بالنقشبنديّة المعلوماتِ المحدودةَ، والملاحظاتِ البسيطةَ، غالبها لا تتّصف بالعلميّة والواقعيّة، بالرغم من انتشار هذه الطريقة بين عشرات الملايين من الناس في الشرق الأوسط.
لم أستغرب هذه الحقيقةَ منذ عَلِمْتُهَا. لأنّي ولدتُ ونشأتُ في أسرةٍ ذات شهرةٍ واسعة النطاقِ، تتمتّع بالزعامة لقطاعٍ كبيرٍ من هذه الطائفة الصوفيّة. وبالتالي كنتُ على علمٍ بأنّ جانبًا خاصًّا من التفسير الروحانيِّ لعقائدها، لا يقف عليه أحدٌ بسهولةٍ؛ إلاّ عدد من شيوخها المتمتّعين بصفاتٍ مخصوصةٍ، ومُلزَمين بعهودٍ باطنيّةٍ مستورةٍ، أخذها عليهم أسلافهم الّذين قلّدوهم أزِمَّةَ هذه الطائفة، وهم قليلون جدًّا.(64/2)
فلمّا وجدتُ تفاوتًا كبيرًا واختلافًا كثيرًا بين معتقداتِ شيوخِ هذهِ الفرقةِ، وتأكّدتُ من أنّ المشهورين منهم يتواطئون علي إخفاء شطرٍ مما في صدورهم...وكتمانِهِ عن بقية الشيوخ، فضلاً عن جماعة المريدين من الطبقة العامّيّةِ، بدأتُ أشكُّ في أمرهم؛ وخاصّةً عندما ثبت لي بالتحقيق، ورأيتهم يطعنون في كلِّ مَنْ يحارب عقيدة الشرك ويعادونه، ويقفون منه موقف المؤمن من الكافر، أو ربما بالعكس، زادني الشكّ فيهم وتضاعف مع الزمان حتّى دفعني الأمرُ أنْ انطلقتُ باحثًا حقيقةَ ما توارى خلف الصورة الظاهرة لهذه الفرقة من أمورٍ خطيرةٍ لا يمكن الإطلاع عليها بطرق عادية. ولهذا أرى المناسبةَ للإشارة إلى أنّ مشاهير الباحثين في الطريقة النقشبنديّة وهم بالتحديد: الأستاذ الدكتور حميد آلغار، والأستاذ الدكتور بطرس أبو منه، والأستاذ الدكتور شريف ماردين، والشيخ عبد الرحمن الدمشقيه؛ لم يقفوا على كثير من جوانب هذه الطريقة، بالقدر الّذي تمكنتُ بعون الله من الإحاطة بها. فدرستُ تاريخَها، وعقائدَها، واتّجاهاتها، وتطوّراتها بعمق ومن خلال وثائقها والاتّصال بصناديدها المعاصرين بحكمةٍ وجرأةٍ وصبرٍ إلى ما شاء الله أنْ فرغتُ من هذه الدراسة بعد ثلاثة وعشرين عامًا.(64/3)
فقد رتّبْتُ الكتابَ على خمسةِ فصولٍ. بدأتُ بنقل ما تيسّر من تاريخ هذه الفرقة والتطوّرات الّتي حدثتْ في تعاليمها من مرحلةٍ إلى أخرى، وذلك في الفصل الأوّل؛ وشرحتُ عقائدَها وطقوسَها، وما استحدَثَتْ من آدابٍ وأركانٍ، في الفصل الثاني؛ وذكرتُ ما وضعتْها من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ هامّةٍ، في الفصل الثالث؛ ونقلتُ تراجمَ رجالِها في الفصل الرابع؛ وأثبتُّ تأثيرَهَا في الحياة الاجتماعية وما تمخض عنها من نتائج مختلفة في عقلية المجتمع وثقافته وسلوكه ضمن الفصل الخامس؛ ثم أتبعتُها بفهارس غنيّةٍ: الأوّل منها لأسماء الأعلام؛ والثاني للمصطلحات والمفاهيم والتعبيرات الخاصّة المبعثرة في ثنايا الكتاب، مع ذكر أرقام الصفحات الّتي وردَتْ فيها كلّ على حدة؛ والثالث لأسماء الأماكن من المدن والمناطق؛ والرابع للمراجع الّتي اطّلعتُ عليها، سواء نقلتُ منها أو لا. كلّ منها معدٌّ بِتَرْتِيبٍ مُعْجَمِيٍّ. وما ألوتُ جهدًا ولا ادّخرتُ وسعًا في ركوب كلّ صعبٍ وذلولٍ للحصول على أدنى وثيقةٍ تمتُّ بهذه الفرقة، فوقفتُ على كثير منها؛ خاصّة وأنّ معرفتي باللّغتين الفارسيّة والتركية أغنتني عن الحاجة إلى غيري في دراسة وثائقهم الّتي غالبها مدوَّنة بتلكما اللّغتين. لأنّ الأكثرية العظمى للنقشبنديّين هم من عناصر غير عربية.
احتسبتُ لله تعالى احتمالَ الْعبءِ الثقيل لهذه الدراسةِ الهامّة راجيًا عفوَه. ولم يكن قصدي من هذا الإقدامِ إلاّ إظهارَ ما قد بقي خافيًا على غالب المسلمين من أمورٍ خطيرةٍ اُسْتُحْدِثَتْ باسم الدين ونُسبتْ إلى الإسلام. فأردتُ عرضَها على علماء هذه الأمة ليروا فيها رأيَهم، وليتمكّنوا بذلك من تصحيحِ الفاسدِ ممّا اعْتَقَدَهُ جُمْهُورٌ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ، وظنّوه من عقائد الإسلام.(64/4)
وقد أجريتُ هذه الدراسةَ بأسلوب نقديٍّ وتحليليٍّ. وهذا لا يعني أنّي ضربتُ عن الموضوعية صفحًا. يبرهن على ذلك ما نالَتْ من القبولِ والإعجابِ لَدىَ نُخْبَةٍ من العلماءِ، خَاصّةً منهم العلاَّمة الفاضل الأسْتَاذ محمّد نافع المصطفى الّذي قامَ بِمُرَاجَعَتِهَا. فجاءت مُنقّحةً خَالِيَةُ من العيوبِ والأخْطَاءِ اللُّغويَّةِ بفضله. فله الشّكر الجزيل، وجزاه الله تعالى خيرًا. فانتهتْ تلك المسيرةُ الطويلةُ والجهودُ المبذولةُ هكذا بتوفيق الله تعالى وأثمرَتْ بهذا السِّفْرِ الّذي بين يدي القارئِ. عسى أن يجدَ فيه الباحثون ورجالُ العلم ضالّتَهم، كما أرجو الله تعالى أن يجعل منه بصيصَ نورٍ يستضئُ به كلُّ مَنْ واجه عَقَبةً تصدّه عن سبيل الله وهو لا يقصد إلاّ الهداية والحق.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فريد الدين آيدن
إسطنبول. 28/يونيو/1997م.
الفصل الأوّل
النقشبنديّة، ظهورها وتطوّرها ومناطق انتشارها
أهم الأسباب الّتي عملتْ على ظهور الطريقة النقشبنديّة :
السبب الأول......................................................................................................
السبب الثاني.......................................................................................................
السبب الثالث......................................................................................................
السبب الرابع......................................................................................................
السبب الخامس.....................................................................................................
السبب السادس....................................................................................................(64/5)
التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة التركية...............................................................
المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها ...............................................
الفصل الأول
النقشبنديّة: ظهورها وتطوّرها، ومناطق انتشارها.
النقشبنديّة طريقةٌ صوفيةُ تُنسب إلى رجل اسمه محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المولود عام 717 من الهجرة، والمتوفى سنة 791هـ. وسيأتي ذكره بالتفصيل في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
أما لفظ "نقشبند" فهو مصطلحٌ فارسيٌّ مركّبٌ من كلمتين: إحداهما عربيةٌ؛ وهي "نقش" والثانية فارسيةٌ، وهي "بند" (بفتح الباءِ وسكون النّون والدّال).
وكان يُطْلَقُ اسم »نقشبند« على الرسّام والنقّاش الّذي يعمل الوشي والنمنمة على الأقمشة في اللّهجة التركية القديمة. والمناسبةُ في أخذ هذه الكلمة وإطلاقها على هذه النحلة واضحةٌ. ذلك، يزعمون أنّهم يسعون إلى نقش محبة الله في قلوبهم بالذكر المتواصل والسلوك المأثور من سادتهم، ولربما هذا اللّقب لم يكن قد أُطلق على محمّد البُخَاريّ في حياته، ولا طريقتُهُ كانت مشهورةً بهذا الاسم. ذلك من ميّزات الطرُقِ الصوفيّة أنّها غير مستقرة. فتتغّير أسماؤها من بُرْهَةٍ إلى أخرى. وتتبدّل آدابها وأركانها على حسب ما يرى كبراؤها، وهي شبيهة بالسيل الجارف الّذي يحمل الغَثّ والسمين عَبْرَ مسيله، كما سيأتي تفصيل هذه الطبيعة للطّرق الصوفيّة عامّةً وللنّقشبندية خاصّة في بابه إن شاء الله تعالى.
***
أهم الأسباب الّتي لها أثر على ظهورالطريقة النقشبنديّة(64/6)
لا شكّ من أنّ الفكرة الصوفيّة لم تكن شيئًا مذكورًا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. فلم نجد في ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه نطق بكلمة التصوف ولا صحابته. أما بقية مصطلحات الطرق الصوفيّة وآدابها وأركانها ومقولاتها الفلسفية مثل الرابطة والختم الخواجكانية، واللّطائف الروحانية، وتعداد ألفاظ الورد بالحصى أو بالمسبحة وبكميات معينة، وحبس النفَسِ أثناء الذكر، والمبادئ الأحد عشر، وفكرة وحدة الوجود ووحدة الشهود وما إليها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يكون قد أشار إلى شيء منها. وفي هذا برهان قاطع على براءة الإسلام من التصوف، كما يدلّ على أنّ الصلة المزعومة بين التصوف والإسلام لا تقوم على أساس من الصحة.
أما الّذين ربطوا التصوف للإطلاع على ما ورد من أقوالٍ مختلفةٍ في تعريف التصوّف وماهيته ومنشاءه واشتقاق هذا المصطلح، راجع المصادر الآتي ذكرها:
* أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 138. الطبعة 2. القاهرة/1959م.
* أبو يحيى زكريا الأنصاري، منتخبات (هامش الرسالة القشيريّة) ص/ 8.
* أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تلبيس إبليس ص/ 161. مكتبة الشرق الجديد، بغداد بلا تاريخ.
* عبد الرحمن الوكيل، هذه هي الصوفيّة (الكتاب بتمامه). دار الكتب العلمية، بيروت-1984م.
* الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 65-98. مكتبة الغرباء إسطنبول-1992م.
* سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/14-29. (والكتاب بتمامه على وجه العموم). دار الكتب اللبناني- المصري/1985م.
* عبد القادر بن حبيب الله السندي، التصوف في ميزان البحث والتحقيق ص/ 31-43. مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة - 1990م.(64/7)
* محمّد صالح بن أحمد الغرسي، مقدمة كتاب بغية الواجد (لجامعه محمّد أسعد الصاحب)؛ النسخة المطبوعة عام 1985. قزلتبه – ماردين.
* Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 36, 53 Istanbul-1994
*Prof. Dr. Fuad Koprulu, Turk Edebiyatinda Ilk Mutasavviflar Pd. 16. Ankara-1993 بأهل الصفّة فلا حجّة لهم في إثبات ما ادّعوه بتاتًا. فمنهم من تعمّد ذلك عن حظّ نفس، واتّباع هواى، ومنهم من اغترّ بغيره عن جهل فاخطأ، ولم تكن دعواهم في ذلك إلا أنْ يجعلوا للتّصوف أساسًا من الزهد والتقوى. وهما روح الإسلام ومخه، إلا أنّه شتّان بين التصوف والزهد والتقوى، وما بينهما بُعْد السماء عن الأرض.
لقد طال الجدل بين العلماء قديمًا وحديثًا، وبذل الباحثون جهدًا بالغًا في مسألة اشتقاق كلمة التصوف ومصدر هذه الحياة الروحانية ممّا يُغْني ذلك عن إضافة كلام آخر إلى ما قد كتبوه وصنّفوه في هذا الباب إلاّ ما سوف يقتضي ذكره بالقدر اللاّزم في مواطنه. ولهذا يكفي التركيز في هذا الفصل على أهمّ الأسباب الّتي قد مَهَّدَتْ السبيلَ لوجود ظروفٍ مُلائمةٍ أولدَتْ الطريقة النقشبنديّة، وذلك على سبيل الإيجاز.
* السبب الأوّل منها، يرجع إلى حدث عظيم شاهده آباء الأتراك الأوّلون قبل أربعمائة وخمسين عامًا من تأسيس هذه الطريقة على أيدي أحفادهم. ألا وهو اعتناقهم التقليديُّ للدّين الإسلاميّ وتصرّفهم فيه.
إذن ينبغي أولاً أن نرجع إلى هذا الحدث فننظر فيه نظرةَ الباحث المدقّق حتّى تتبَلور لنا نتائجه الّتي أسفرت عن اختلاق معتقَداتٍ خطيرةٍ وظهور نزعاتٍ غريبةٍ على الإسلام. ولكن تبنّاها رجالٌ، وتشرّبتْها عقولٌ، واعتنقَتْها جماعاتٌ وطوائفُ، واحتسب في الدفاع عنها آلافٌ مؤلّفةٌ من الناس عَبْرَ الأجيال من هذا الشعب.(64/8)
لقد ورد في المصادر الّتي صنّفها علماء الأتراك بالذات؛ أنّ الإسلام انتشر بين صفوف الّذين اعتنقوه من آبائهم الأوّلين بغير الوجه الّذي انتشر بين غيرهم من الشعوب والأمم. فاختلف فهمُهم لهذا الدين بعكس ما أدركه العرب وعلِموه وتذوّقوه وتعاطوه عقيدةً وسلوكًا. وهذا أمر جدير بالبحث الدقيق في جوانبه الّتي لم يتوقّف عليها كثير من علماء التاريخ وخبراء علم الاجتماع. لقد كان اعتناق الأتراك للإسلام أمرًا غريبًا من منطلق العاطفة وليس عن رويّةٍ. يبرهن على ذلك إقبالهم على الدّين الجديد عن طيبة نفسٍ، دون أن يتحسّسوا معالِمَهُ. ذلك أنّ اختلاف لغتهم، وسذاجة طباعهم، وبساطة عقولهم لم تسمح لهم يومئذٍ ليتأكّدوا من أحكام هذا الدّين وضوابطهِ التي يحدّد موقف العبد أمام ربّه على أساسِ مبدأ التوقيفية. ولكنّهم لمسوا الإسلامَ وكأنّه نسيمٌ يهبّ من رياض الجنّةِ على نفسهم لتطمئنّ بها، فاستقبلوه كمصدرٍ للتسلية والعزاء والدّعاء والابتهال والاتصال بأرواح الآباء. فما لبس هذا الدّين حتىّ امتزج بعقائدهم القديمة، فتحوّل إلى طرائق صوفيةٍ وطقوسٍ روحانيةٍ وتمائم وألغاز وشعوذةٍ وحلقاتِ ذكرٍ موروثةٍ من مجوس الهندِ، وخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان. فنشأت الطريقة النقشبنديّة كنتيجةٍ تمخّضت عن هذه التطوّرات، حتّى فصلَتْهم عن الإسلام وأبعدَتْهم عن حقيقة الإيمان بالله وتوحيده. ولهذا حار المُصلحون ورجال الإرشاد في محاربة الفساد والبدع الّتي انتشرت بين الأتراك والطوائف التابعة لهم من الأكراد والظاظا والشراكسة والبوشناق والأقلية العربية في العصر الحاضر، من جرّاء الطريقة النقشبنديّة. لأنّ الإصلاح يتوقّف على معرفة أسباب الفساد وجذوره وطرق انتشاره وضروب كفاحه... وإنّما بهذا النّوع من المعرفة يتمكّن الْمُصلِحُ من كشفِه وتعرِيَتِه وقمعه. فما دام المعروفون بِسِمَةِ العلم والقائمون بمهمّة الدعوة والإرشاد؛ مادام هؤلاءِ أنفسهم(64/9)
يجهلون مسيرةَ فساد شعبهم العقديّ خلالَ الأزمنة التاريخية، إذن فلا يُعقل أنْ تكون لهم قدرة على تصحيح ما قد فسد من عقائد بني قومهم ولو بذلوا قصارى جهودهم بمجرّد النكير على البدع والأباطيل.
نعم، لقد غفل كثيرٌ من رجالِ العلمِ عن كيفيةِ اسلامِ الأتراك، ومدى ادراكِهِمْ لِحقيقةِ هذا الدينِ في أوّل أمرهم معه، وعلى أيّ دينٍ كانوا قبل ذلك، وهل علقتْ بهم معتقداتٌ من دياناتهم السابقة وأبقتْ أثرًا في طوائفهم التي دخلت تحت حكمهم وسلطانهم وما إلى ذلك من أمور...
لقد ثبت بالدلائل القاطعة أنّ الغالبية العظمى من الأوّلين الّذين أسلموا من هؤلاء القوم لم يدخلوا سَاحَتَهُ عن روّيةٍ، ولم يتلمّسوه بتدبّرٍ، ولم يتلقّوا تعاليمه بتعقّلٍ وإمعانٍ. وإنّما أقبلوا عليه إقبالَ القطيع الظمآن على الماء العذب الفرات وقد أضناه العطش، فما كاد يرتوي من زلاله حتّى صدّه الراعي فسقاه ملحًا أجاجًا؛ وهذا يعني أنّ قبائل الأتراك على كثرة عددها أقبلت على الإسلام في أوّل أمرها، فجاء إسلامهم تقليدًا أعمى لمن كان يرأسهم ويتزعّمهم. فما زال كثيرٌ منهم يتقلّب بين ما ورثه من معتقداتٍ شامانيةٍ ونزعاتٍ برهميةٍ وتقاليدَ مانويةٍ ومزدكيةٍ. ذلك لأنّ الأتراك يمتازون بشدة الانقياد إلى ملوكهم وزعمائهم في كلّ دهر، سواء أكانوا على الحق أم على الباطل. فلم تتغيّر هذه الخصلةُ فيهم إلى يومنا هذا. مما يدلّ على ذلك تمسّكهم بزعيمهم الّذي شارك في القضاء علي الدولة العثمانيّة ذاتِ الطابع الإسلاميّ. فأراد أن يخلع رِبْقَةَ الإسلام من أعناقهم، فلم يزدهم ذلك إلا محبةً فيه على الرغم من اعتزازهم بالإسلام؛ مع علمهم بأنّه ينحدر من سلالة خزرية تشرّبت العقيدةَ اليهوديةَ منذ قرون. ولكن ما دام أنّه تركيّ الأصل فباتت صلتهم به قويّة حتّى اتّخذوه إلهًا كما قد اتّخذوا شيوخَهم آلهة من دون الله.(64/10)
نعم إن الأتراك استقبلوا الإسلام في أوّل أمرهم طيّيةً به نفوسهم؛ فلمّا أسلم ملكهم صتُوك بُوغْراخان (ت. 348 هـ.) Meydan Larousse 11/31, 12/34 ?stanbul-1969 ملك الدولة القَرَاخانية التركية، وتَسَمىَّ بعبد الكريم. دخلوا معه في دين الله أفواجًا، وأسلموا عن بكرة أبيهم.
هذا، وقد أسلمت جماعات غفيرة من مختلف الأجناس البشريّة عَبْرَ التاريخ، إلاّ أنّه لم تسبقهم أمة بتمامها في الدخول إلى حظيرة الإسلام، ولم تظفر بهذا الفضل والشرف العظيم غير الأتراك الّذين اعتنقوا الإسلام في أوّل أمرهم،
لابدّ وقد أثار الإسلامُ يومئذٍ هيجانًا في نفوسهم، ودبّتْ في جميع مجالات حياتهم حركةٌ انسحبوا معها إلى منعطفات خرجوا بذلك عن الخطّ الإسلاميِّ المستقيم دون أن يشعروا بخطورة الأمر؛ لأنّهم كانوا يومئذ في بداية الطريق، ينظرون إلى هذا الدين الجديد كعادتهم في النظر إلى دينهم القديم بفروق بسيطة. ثم إنّ ذلك التدفّق الكلّي والاندفاع الجماعيّ إلى هدي الإسلام، لم يترك لهم فرصةً في الوهلة الأولى ليتدبّروا حقيقة الدين الحنيف إلا قلة منهم. فيبدو أنّهم قد اعتنقوا الإسلام على همجيةٍ وسطحيةٍ من العقلية المتخلفة والجهل المتفشّي بين جمهورهم وهذا أفضى إلى التشبث بما كانوا عليه في سابقهم من رواسب الشرك ومخلّفات الوثنية وتقاليد الكفرة من آبائهم الأولين.(64/11)
لمّا نُقارن بين السابقين الأوّلين من الأتراك ومشركي قريش في موقفهم من الدعوة الإسلامية الأولى نجد بُعدًا كبيرا بين الفريقين في ذلك. فإنّ الأتراك أقبلوا على الإسلام كالسيل العارم منذ أوّل تبشير تلقّوه من دعاةٍ لا شهرة لهم في سجلّ التاريخ. بينما الكتب حافلة بما ابتلى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المحنة والأذى على يد قومه الّذين وقفوا في وجه الإسلام وقوف العدوّ اللّدود. واستعملوا العنف والشدة ضد أصحابه، وأذاقوهم ألوانا من التعذيب والنكال. ولكنّ أكثرهم في نهاية المطاف أسلموا لله وأقاموا حدوده واتخذوا دينه نظامًا لحياتهم؛ وضربوا من البسالة والبطولة والفداء في سبيله أمثالاً لم يدانيهم فيها قوم لا قبلهم ولا بعدهم.
ولهذا، تشرّبت العربُ الإسلامَ عن حقيقته ولم يتغيّر تفسيرهم للّدين حتّى يومنا هذا، على الرغم من ضلالة حكامهم وسفه زعمائهم فيما اقتبسوه من الأمم الكافرة لشعوبهم من سياسات ضالّةٍ وأنظمةٍ فاسدةٍ.
أما الأتراك، فيبدو أنهم في غمرة تلك الضجة الّتي ثارت في صفوف مجتمعهم على أثر الدعوة الموجّهة إليهم لم يفطَنوا إلى حقيقة ما يهتف به الإسلام من التوحيد الخالص لله رب العالمين. فظنّوا أنّه دينٌ كسائر الأديان، وإن كان يمتاز ببعض تعاليمه الخاصّة الّتي أعجبتهم واتفقت مع طبيعتهم. كالطهارة وصلاة الجماعة، لأنّ الأتراك أشدّ الناس اهتمامًا بالنظافة وأفضلهم نظامًا في الحياة الاجتماعية، فتأثّروا بضوابط الإسلام وقوانينه وتشريعاته، قبل أن يتأثّروا بعقائده ووُجْدانياته. ولهذا، لم يهتمّوا بمسائل التوحيد في الخطوة الأولى من إسلامهم، وإنما الْتَهَوْا بما شرعه الإسلام من صلاة الجمعة والجماعة والطهارة وطاعة أولي الأمر، وآداب المعاشرة وما أشبه ذلك من أمور العبادة، وما يختصّ بتنظيم الحياة الاجتماعية والعلاقات البشرية.(64/12)
وبهذا، يتبين لنا أنّه لمّا غفل المسلمون الأوّلون من الأتراك عن حقيقة توحيد الله تبارك وتعالى (وهو لُبُّ الإسلام ومفتاح الخلاص ووسيلة النجاة والسعادة في الدارين). وبذلوا اهتمامهم فيما يظهر من الدين ويتّفق مع طبيعتهم، وَجَدُوا صلةً بين هذه الأمور وبين ما كانوا عليه في سابق أمرهم؛ لأنّهم كانوا على دينٍ اسمه »الشامانية« فكانوا يعتقدون في رهبانهم أنّهم ينفعون ويضرّون من دون الله، ويشفعون لهم عند الأرواح الإلهية المهيمنة ويتصرّفون عنها في الكون. وكذلك كانوا يتأمّلون ويتفكّرون في حكمة الله على أساليب الديانة البوذية والبرهمية.
فما كان منهم إلاّ أن استحدثوا طرقًا صوفيةً ورتّبوا لها آدابًا وأورادًا وأذكارًا مزَّجوا فيها بين أمور أخذوها من الإسلام. مثل كلمة التوحيد، واسم الجلالة، والتحميد، والتسبيح، والتكبير... وأخرى ورثوها من دياناتهم السابقة من الشامانية والبوذية والزرادشتية والمزدكية والمانوية Ahmet Ya?ar OCAK, Menâkibnâmeler, s.10 وورثوا منها رواسبَ وثنيةً مثل:» هوُشْ دَرْدَمْ، ونَظَرْبَرْقَدَمْ، وسَفَرْدَرْوَطَنْ... إلخ« فخلطوا هذا بذاك بعد أن أتخموها بتفسيراتهم الشاذةِ الغريبة، ورتّبوها ودَوَّنوها في أسفارٍ وأقاموها على هيئةٍ من الآداب والدعاء والتعبد كالرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجُّه، والسلوك والرهبنة... فكانت من أهم نتائجها الطريقة التقشبندية.
* السبب الثاني في ظهور هذه الطريقة: هو الخلفيّات التاريخية والاجتماعية السائدة في الفترة والمنطقة اللّتين نشأت فيهما هذه الحركة الصوفيّة.
لا شكّ في أنّ الأحداث متسلسلة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. فلابدّ إذن أن يكون لِماَ وقع في سالف العصور آثارٌ وعواقبُ انعكستْ على ما تلاها. أو لابدّ أن يكون لكلّ حدثٍ أصلٌ وسبب؛ بل أسباب يرجع إليها . وهذه سُنّة الحياة.(64/13)
فما دامت الطريقة النقشبنديّة هي حدثٌ من الأحداث الهامة، وواقعٌ أشغلَ العقولَ والضمائرَ منذ حقبة تقرب من سبعة قرونٍ، إذن لابد من أن نتناولها، فنعود بها إلي أيّام نشوئها من خلال الحلقات المتسلسلة الّتي تربط حاضرَها بماضيها، وأن نتباحث في الوقت ذاته بظروف المنطقة الّتي عاش فيها الأتراك قبل دخولهم في الإسلام وبعده.
إن المنطقة الّتي كان يسكنها آباء الأتراك الأولون (وهم الهَيَاطِلَةُ) تبدأ من تخوم الهند شرقًا، وتنتهي عند ضِفاف
بحيرة آرَالْ على امتداد الساحة الواقعة بين النهرين الشهيرين سَيْحون وجَيْحون. تضمّ هذه المنطقةُ عددًا من المدن العريقة، مثل بُخَارَى وسمرقند وطاشكند وفرغانة، وأجزاء من بلاد خُوَارِزمْ.
أما تاريخ المنطقة، فيشوبه غموض حتّى ميلاد عيسى عليه السلام، لأنّ أيّامَ الأتراك قبل الإسلام قد خلتْ من الحركات العلميةِ والثقافية والحضارية. وبذا كانت المصادر شحيحةً بين أيدي الباحثين ولم تمدّهم بما كان عليه الأتراك في تلك القرون الخالية. ولم يؤرّخ لهم قوم بالقدر الّذي كتب عنهم علماء العرب المسلمين كأحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى:1/322 . بيروت/1993. وأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المصدر السابق 3/190.وابن الأثير عزّ الدين أبي الحسن على بن أبي الكرم الشيباني المصدر السابق 2/523. وأبي الفداء اسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير المصدر السابق 1/373. وغيرهم. ولعلّ العالِمَ الروسيَّ فريديريك وِلْهَلْمْ رَادْلُوفْ :Friedrich Wilhelm Radlof(64/14)
مستشرق روسي من أصل آلماني. ولد في برلين، و مات في بيتروجرادPetrograd . تخرج من جامعة برلين، وحاز شهادة الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة جينا عام 1858م. على أثر نجاحه في تأليف رسالة تحت عنوان: (أثر الدين في مجتمعات آسيا Ubar Den Einfluss der Religion auf die Worker Aslens) له بحوث و مؤلّفات عدة. قد أولى الحياةَ الدينيةَ عند الأتراك في جاهليتهم بحديث واسع أكثر من أيّ باحث آخر.
فقد ثبت من خلال ما عثر عليه الباحثون وما شرحه علماء التاريخ أنّ الأتراك قد اعتنقوا دينا بعد دين عَبْرَ تاريخهم. وكلّما وجدوا مساغًا ليبدّلوا دينهم نزحوا من ساحته - وهم يحملون جلّ آثاره - وركنوا إلى دين آخر فخلطوا بينهما، فتقلّبوا هكذا في أمواج الديانات والمعتقَدات بصرف النظر عما بينها من التناقض والتضارب حتّى وجدوا أنفسهم في رحاب الإسلام بدءًا من النصف الثاني للقرن الأوّل من الهجرة النبوية. فلم يكن تعاملهم مع الإسلام مختلفا عن تعاملهم مع دياناتهم السابقة. فحملوا جمًّا من معتقَداتهم الوثنية، وتقاليدهم الموروثة من عهد الجاهلية الأولى، كما سوف نشرحه إن شاء الله تعالى عَبْرَ الفصول التالية.
لقد كان الأتراك يقدّسون موتاهم في القرون الأولى من جاهليتهم، ويعبدونهم. نشأ هذا الاعتقاد وهم على دينٍ اسمه الشامانية، خاصّة فانّهم كانوا يقدّسون الشامانَ. والشامانُ عندهم كالعزيز أو القِدِّيسِ عند النصارى فكانوا يعتقدون أن الشامان يعلم الغيب ويتصرف في أحوال الجوّ؛ فَيُنَزِّلُ الْغيثَ، ويُرْسِلُ الرياحَ متى شاء، ويمنع الآفات، أو يسلّط المصائبَ والأهوالَ على من يشاء.(64/15)
ومن جملة ما كانوا يعتقدونه أيضًا في شامانيهم: أنّهم يتّصلون بإله السماء فيتلقّون منه الوحي. أمّا من أراد أن يكون له حظّ من هذه المكانة بينهم، نزحَ إلى خلوةٍ ومارسَ الرياضة على الطريقة الصوفيّة فأصبحَ شامانَ بعد مدة، يحذر الناس من لعنته وينظرون إليه نظرة الإجلال والتوقير. فلما ارتدّ هؤلاء القوم عن الشامانية إلى البوذية، ازدادوا تمسُّكًا واعتقادًا برهبانهم في الدين الجديد، ذلك أنّهم تمكّنوا عن طريق الترجمة من الإطّلاع على مناقب رهبان البوذية وما قيل فيهم من كرامات ومعجزات وآثار. فتجمّع في عقولهم رُكامٌ هائلٌ من الأساطير التي تمكّنت من ديانتهم، واستيقنتها أنفسهم، حتّى إذا أسلموا وجدوا ضالّتهم المنشودة فيما سمعوا من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاتّخذوا منها مُنطلقًا ليصبغوا ما في قلوبهم من رواسب الشرك بصبغة الإسلام. فلم يلبثوا أن اعتقدوا في بعض الصالحين كما كانوا يعتقدون في شامانيهم ورهبانهم سابقًا من بركات وكرامات وخوارق؛ فأقاموا على أضرحتهم بُنيانًا لم يعهده المسلمون قبل إسلام الأتراك.(64/16)
ثم حرّفوا مفهوم لفظة الوليّ في القرآن بتفسير لم يرد عن السلف الصالح. إذ أنّ الوليَّ ليس هو الّذي يتصرّف في قدر الله، وينوب عنه في إدارة الكون، ويعلم الغيب، وينزّل الغيث، ويمنع الآفات، أو يسلّط العذاب على من يشاء كما يزعمون. وإنّما أولياء الله، هم الّذين قال تعالى فيهم: {أَلاَ إنَّ أَوْلِياَءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذينَ آمَنُوا وَكاَنُوا يَتّقُونَ. } سورة يونس/ 62، 63. ولكنّهم حرّفوا المعنى بتأويلاتهم وتفسيراتهم الّتي بنوها على معتقَداتهم الموروثة من العهد الوثنيِّ. وهكذا نشأت معظم الطرق الصوفيّة على يد الأتراك كنتيجةٍ للأسباب الّتي ما زلنا نواصل شرحها. ومن أهمّها، تلك الخلفيات التاريخية الّتي تراكمت في عقلية هؤلاء القوم، وانحدرتْ عَبْرَ أطواره حتّى طغتْ على المفاهيم القرآنية بتفسيراتٍ باطنيةٍ متطرّفةٍ، فشوّهت محيّاها، وأذهبت الكثيرَ من جمالها وطلاقتها و واقعيتها.
* السبب الثالث في ظهور الطريفة النقشبنديّة: هو بُعْدُ المسافة بين مراكز الحكم والعلم وبين المنطقة الّتي نشأت وانتشرت فيها الطريقة.
لمّا انتزع الإسلامُ جذورَ الشرك وأزاحه عن مهبط الوحي والإلهام، وبدأتْ أنوارُ التوحيد تُشرق من الحرمين على أطراف الجزيرة العربية، فنبعتْ مناهلُ الحكمة وتدفّقتْ من صدور أئمة السلف وانصبّتْ على صفحات الكتب بمداد العلماء من التابعين؛ فلم يلبث أن سادت دولة العلم في بلاد اليمن والعراق والشام ومصر في مدّة أقلّ من خمسين سنة بعد الهجرة النبوية. وفي أثر ذلك أصبحت كلّ منطقة من هذه البلاد مركزًا للعلوم والفنون الإسلامية.(64/17)
ولقد كان المسلمون الأوائل أشدّاء على الكفّار والمشركين ومن كان على نهجهم من المستحدثين في الدين والمتلاعبين بنصوصه من خلال تأويلات ماكرة. ولا يُستَبْعَدُ أن يكون أهل الحلّ والعقد منهم قد أحبطوا أيّة بدعة قد ظهرت في أيامهم بسرعة وعنف. فهكذا كانوا حتّى في العهد الأمويّ، وكذلك في المرحلة الأُولى من العهد العباسيّ. إذ يبرهن على ذلك موقف الخليفة المقتدر من حسين بن منصور الحلاّج لمّا علم أنه زنديق يتربّص بالإسلام ليعبث به ثأرًا لدين آبائه المجوس الّذين قضى عليهم المسلمون، فأمر به فقُتِلَ. راجع قصّته في المراجع الآتي ذكرها:
* عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/645 . بيروت - 1993م.
* أنور الجندي، المؤامرة على الإسلام ص/ 57، 174. دار الاعتصام، الطبعة الثانية. القاهر- 1978م.
* عبد القادر حبيب الله السندي، التصوّف ص/636، 716. مكتبة ابن القيم الطبعة الأولى. المدينة المنوّرة - 1990م.
* سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 307. دار الكتب اللبنانية، الطبعة الثانية. بيروت - 1985م.
وما أن اتّسعت أرض الإسلام، ودانت به فئاتٌ غيرُ ذاتِ رشدٍ وذوقٍ سليمٍ من أهالي المناطق النائية عن مراكز الحكم والعلم والحضارة الإسلامية وخاصةً بعد فتح خراسان وبلاد ماوراء النهر؛ سرعان ما بدأ الانحراف عن الخط الإسلاميّ المستقيم، وصار يدبّ هذا الانحراف وينتشر بين الناس كلّما وجدوا هرطقةً تُذَكّرُهم بماضيهم نزعت إليها نفوسهم ظنًا منهم أنّها من صميم الإسلام. وربما لم تكن الدولة يومئذ تتمتّع بالقدرة والهيمنة الكافية لكبح جماح المبتدعين والمستحدثين بسبب بُعْدِ المسافة بين مراكز الحكم وبين تلك المناطق المترامية القاصية؛ أوربما لم يكن لأصحاب السلطةِ اهتمامٌ بسلامةِ الدينِ، وقصرِ تعاليمِهِ على الكتابِ الكريمِ، والسنّةِ المُطهَّرَةِ كما فهمها سلفنا الصالحُ رضوان الله عنهم.(64/18)
فهذه أيضًا من الدواعي الّتي أسفرت عن انتشار حياةٍ روحانيّةٍ غريبةٍ عن الإسلام تحت ستار الزهد والاستغناء عن الدنيا، وممارسة الرياضة والتقشف ولبس المسوح. ثم تطوّرت الأوضاع حتّى ظهر عدد كبير من الطرق الصوفيّة في القرون التالية، وانتشر بعضها على ساحات واسعة فأقبل عليها جمهور من الناس وطاشت حكمة العلماء في وجهها، إمّا مخافةً أوعجزًا أو جهلاً؛ إلى أن قويت صولة هذه المنظمات الصوفيّة وتضاعفت قوّتها. وغلبت على العاقل والغافل محبّتُها بالرغم من نبوغ شخصيّاتٍ من أهل العلم والفضل في تلك المناطق من أمثال: الإمام الهرويِّ إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحمن القرّاب راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/356 ترجمته. ، وعليّ بن محمّد بن الحسين البزدويّ المصدر السابق 2/501. ، وشمس الأئمّة محمّد بن أحمد بن أبي بكر السرخسيّ المصدر السابق 3/52.، وأبي حفص عمر بن محمّد النسفيّ المصدر السابق 2/571.، والإمام الرازي فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الّتيميّ البكريّ المصدر السابق 3/558.، والعلاّمة مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازانيّ المصدر السابق 3/849. وغيرهم.
فيبدو هكذا بوضوح، سببٌ ثالثٌ من أسباب ظهور الطريقة النقشبنديّة في بلاد ماوراء النهر، ولكنّها كانت محصورة في تلك المناطق طوال سنوات عديدة؛ إلى أن اعتنقها الأتراك العثمانيّون ومَنْ كان تحت حكمهم من الأكراد والقلةِ من حثالة العرب الّذين يقطنون في المنطقة الكرديّة . وذلك بعد الحملة الّتي قام بها خالد البغداديّ المصدر السابق 1/667. لنشر هذه الطريقة في لباس جديد وباستيحاءٍ من الديانات الهندية، وبمساعدةٍ ودعمٍ من السلطة العليا للدولة العثمانيّة كما سنشرحه في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.(64/19)
* السبب الرابع في انتشارِ النزعاتِ التصوفيةِ عامّةً وظهورِ الطريقة النقشبنديّة خاصّة في بلاد الأتراك هو جهلُهُمْ بلغة القرآن كما هي الحالة نفسها بالنسبة للأكراد وغيرهم من سائر العناصر العجمية.
أسلم الأتراك وهم لا يفهمون شيئًا من القرآن لاختلاف اللّغة. ويبدو أنّهم تلقّوا الضرورات من الدين عن طريق الترجمة في الخطوة الأولى من إسلامهم. أمّا الترجمة وإن كان لها أثرٌ ودَوْرٌ في تبليغ الرسالات، إلاّ أنّها قد لا تفي بالحاجة خاصّة لتفصيل الأمور الدقيقة لأنّ فهمَ المعاني المقصودة في مثل هذه الأحوال يزداد أهمّيّة ويتوقّف على كفاءة المترجم وصحّة الترجمة. إذًا فمتى كان المترجم قاصرًا، أو غيرَ ذي مهارةٍ وحُنكةٍ في مهمّته جاءت الترجمة مشوبةً بأخطاء، ومعيوبةً بغموض؛ فتعقّد الأمر على المخاطب.
هذا، ولا ندري هل كانت الترجمة يومئذ وافية لأداء مهمّة التبليغ والقيام بأعمال التعليم أم لا. خاصّةً فانّ تعليم مسائل التوحيد للإنسان الّذي عاش في ظلمات الشرك طوال عمره، وفوق ذلك يجهل لغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فانّ تعليمه من أشدّ الأمور صعوبة وتعقيدًا.
وإلى جانب هذا، فانّ الأتراك يختلفون عن كافة المجتمعات بموقفهم السلبي من اللغات الأجنبية؛ فتجاوز الأمر إلى لغتهم؛ حتّى أصبحت هي نفسها بعد إهمالهم إيّاها وتلاعبهم بها عُرْضَةً لنكبات الدهر. ولا يزالون يعانون شتات شملها إلى اليوم. وربما يرجع سبب هذا الموقف إلى الروح العسكريَّةِ الراسخةِ فيهم من قديم الزمان. فإنّ الأتراك يعتزّون دائمًا بأنّهم قومٌ مقاتلون، وبأنّهم لم يخضعوا لسيادة قوم آخرين عبر تاريخهم. فإنّ تفاخرَهم بأمجادِهم وتشاغلَهم بذكريات أيامِ عزّهم بصورةٍ دائمةٍ قد جعلهم يحتقرون بقيّةَ الشعوب وما يميّزها عنهم من صفات القومية كاللّغة والدين وبعض التقاليد.(64/20)
وإنما هذا الموقف هو الّذي جعلهم لا يهتمّون باللّغة العربية من قديم الزمان؛ ما عدا قِلَّةٍ من علمائهم الّذين اقتصروا على حفظ قواعد الصرف والنحو، فاتّخذوا العربية لغة القراءة لنصوص الدين فحسب، دون الكتابة والحوار. ويجري تسميتها بـ "لغة القرآن" على لسان المعتزّين منهم بالإسلام تناسيًا لصلتها الخاصّةِ بالشعب العربي. فقد أسفر عن هذا الشعور نتيجةٌ غريبةٌ وهي أنّ أكثر المقرّين منهم بالانتماء الإسلاميِّ يقدّسون اللّغة العربيةَ فلا يرو من السهل مزاولَتَها، أو من الأمور الجائزة لغير رجال الدين!
لهذا، قام بعض الجهلة منهم المنتحلين سِمَةَ العلم، فتصدّوا للعبث بمسائل الدين واختلقوا أنواعًا من البدع. فانتشرت بسهولةٍ، لجهل المجتمع بلغة القرآن. لأنّه لم ينتبه كثير من الناس، إلى أن هذه الأمور المستحدثة لا تمتّ بصلةٍ إلى الإسلام، أو أنها مستورثة من الشامانية والبرهمية والمزدكية والمانوية وغيرها من أديانهم السابقة فزادت هذه الخزعبلات انتشارًا، وازداد الناس إقبالاً عليها إلى أن استغلّها بعض الصوفيّة. فوجدوا فيها ضالتهم، ورتبوا على أساسها طرقًا ومذاهب شتّى مثل البكتاشية، والبنجرية، والبيرمية، والحروفية، والخفيفية، والخلوتية، والجراحية، والكُلْشنية، والروشنية، ممّا هي جميعًا من صنع الأتراك كما يبدو من أسمائِها التركية، إلى جانب ما أسّستها أعجام الفرس فجاءتْ من جملتها الطريقة النقشبنديّة.
* السبب الخامس في ظهور الطرُقِ الصوفيّة، ومنها النقشبنديّة، هي الفتن الّتي حدثت في عصر الصحابة وأثّرتْ على النفوس حتّى نشأت من جرّائها بعد القرون فِرَقٌ وأحزابٌ باطنيّةٌ ومذاهبُ غاليةٌ عديدةٌ كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.(64/21)
الفتنة الأولى والكبرى في تاريخ المسلمين لاشكّ هي مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه. ثم تليها الحروب الّتي جرت بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبين ومعاوية بن أبي سفيان؛ ثم اغتيال عليّ بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.
دخل الشقاق بدواعي هذه الفتن صفوفَ المسلمين وهم من الطبقة الأولى من أمّة الإسلام. بيد أنّهم لم يختلفوا يومئذ إلا في المسائل السياسية والاجتهادية بالاستناد إلى الكتاب والسنّة، تجمعهم العقيدة الحنيفة إذ ذاك، مهما تفرّقت كلمتهم؛ فانقسموا إلى فِرَقٍ ثلاثٍ: الشيعة، والخوارج، والزهّاد الّذين تورّعوا وصبروا، واستأنسوا بِرَوْحِ الله وعكفوا على العبادة هرباً ممّا وقع فيه غيرهم من الطمع والافتتان بحطام هذه الدنيا وملذّاتها ومناصبها؛ كما يُقِرّ ويعترف بهذه الحقيقة أحد أعلام الصوفيّة في عصرنا السيد محمود أبو الفيض المنوفي إذ يقول: »وأمّا سبب شيوع التصوف في الإسلامية، فهو أنه لمّا حصل الخلاف على الخلافة والنزاع بين عليٍّ ومعاويةَ، ثم الخلاف بين بني أُمَيَّةَ وبين العباسيّين؛ قد صارت الخلافة ملكًا عضوضًا وسلطانًا يتنافس عليه أهل النفوس الضعيفة المحبّة للدّنيا ومتاعها الزائل، ترفّعَ البقيّة المخلصة الباقية من الصحابة والتابعين عن إيثار ما يفنى على ما يبقى، ورجعوا إلى أنفسهم عاكفين على مدارسة الكتاب الكريم.« السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله ص/ 49. دار نهضة مصر للطبع و النشر. القاهرة - 1969م.(64/22)
وإذا كان لموقف كلّ قرفةٍ من هذه الفرق الثلاثِ شأنٌ انطلقت منه فئاتٌ غاليةٌ ممّن جاء بعدها فانّ صوفية كلِّ عصرٍ قد تشبّهوا بالزاهدين السابقين من أمثال: أبي عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوريّ الكوفيّ راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/771؛ وعبد الله ابن المبارك المروزيّ وهو تركيّ الأصل المصدر السابق 2/271.؛ والفضيل ابن عياض بن مسعود التميميّ اليربوعيّ راجع ترجمته في الأعلام، خير الدين زركلي 5/153. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛وأبي محفوظ معروف بن فيروز الكرخيّ المصدر السابق 7/269.؛ وأبي نصر بشر بن الحارث بن عليّ بن عبد الرحمن المروزيّ الحافيّ المصدر السابق 2/54.؛ وأبي الحسن سَرِيّ ابن المغلِّس السقَطيّ راجع ترجمته في وفيات الأعيان، لابن خلّكان، تحقيق الدكتور حسان عباس 2/357. دار الصادر. بيروت - 1978م. ؛ وأبي محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التسْتَرِيّ المصدر السابق 2/429.؛ِّ ومن كان على نهجهم من الورع والتقوى رحمة الله عليهم أجمعين.(64/23)
أنتحل صوفية العراق مذهبَ هؤلاء الصالحين بعدهم في القرن الثاني من الهجرة. وصوفيةُ العراقِ جلّهم من أصولٍ مجوسيّةٍ من العنصر الفارسيِّ، لا صلةَ لهم في حقيقة الأمر بالزاهدين المذكورين سابقًا، وإنّما انتحلوا أسلوبهم في الإعراض عن الدنيا بظاهرهم وهم يتَبَنَّونَ أغراضًا خطيرةً في باطنهم. دفعتهم النزعة الشعوبية إلى هدم الدين الحنيف بدسّ سموم الشرك في العقيدة الإسلامية، ولكن بأسلوبٍ أكثر خبثًا ومكرًا ودهاءً وهو الأسلوب الصوفيّ بخلاف ما كان عليه الزنادقة من الشعراء والأدباء ذوي الأصول الفارسيّة بإيقاع الفتنة بين المسلمين وتشكيكهم، عن طريق تصوراتٍ فلسفيةٍ ظاهرة المعالم. كعبد الله ابن المقفّع راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/31؛ وأبي عبيدة معمّر بن المثنّى المصدر السابق 3/901. ؛وأبّان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقّاشي المصدر السابق 1/7.؛ وأبي نوّاس الحسن بن هناء بن عبد الأوّل بن صباح المصدر السابق 1/596.؛ وأبي العاتية إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان المصدر السابق 1/374.. كان هولاء الشعوبيون مجاهرين بأفكارهم وتصوراتهم بخلاف الصوفيّة. أمَّا الصوفيّةُ، فإنَّ السرِّيَّةَ الّتي كانت أعمالُهم تتوارى بقناعِها، تجعلُهم في أمانٍ من أيِّ شكٍّ قد يثور حولَهم؛ بل غالب الناس كانوا يعظّمونهم ويعدّونهم من أصحاب الفضائل والكرامات لما يرون من إعرضهم عن زينة الحياة الدنيا وطيّباتها. لأنَّ كراهيةَ نِعَمِ اللهِ كانت هي القسطاس الّذي يُقَيِّمُ الناسُ به مستوى الفضيلة والسموّ الروحيِّ والأخلاقيّ يومئذ.ِ.(64/24)
هكذا استطاع صوفية العراق منذ بداية ظهورهم أن ينجحوا في تشويه الوجه المشرق للإسلام بهذا الأسلوب الدسّاس، على حين غفلة من المسلمين الّذين هجمت عليهم الفتن يومئذ من كل حدب وصوب وهم في وسطٍ من الفوضى من أمرهم. فاستمرّت حياكة الدجل والكذب على لسان السابقين من أهل الزهد وهم برآء من الصوفيّة وضلالاتهم، حتّى أسلم الأتراك.
فما لبث أن برزت جماعة حشوية بينهم من أهل خراسان وبلاد ماوراءالنهر. فزادوا على هذه الأكاذيب والأراجيف ما تمجّه الأسماع. ثم تطوّر منها فنٌّ من فنون التحريف والتبديل والتضليل، وهو ما يسمى بمناقب الأولياء.
وأخطر ما وضعه الصوفيّة من الأمور الهدّامة للدّين الحنيف بدعة »السلسلة« الّتي اختلقها بعضهم في عصور الظلام، وربما ليجعل منها صلة يدّعي بها الانتساب والانتماء إلى الصحابة والتابعين ليستغلّ بها ضمائر الناس وليتدرّج بمساعدتهم إلى تحقيق ما هو من ورائه. فسيأتي شرحها إن شاء الله تعالى. وهي أيضًا من صنع زنادقة العجم، اغترّ بهم الصوفيّة والمشعوذون من قدماء الأتراك لجهلهم.
* السبب السادس في ظهور الطريقة النقشبنديّة هي الدواعي النفسيّة المتخفّية للأتراك من وراء الصراع التاريخيّ الّذي طالما يجري بينهم وبين العرب على احتكار الإسلام واستغلاله في كسب المصالح السياسية.(64/25)
إنّ من أهمّ ميّزات الأتراك، أنّهم لا يذعنون لسيادة من ليس من قومهم. ولا ينقادون إلى رئاسة أجنبيٍّ. وكأنّهم قد جُبِلوُا على الأنِفَةِ والحميّة وحبّ الرياسة والسياسة. قد يختلفون فيما بينهم أشدّ الاختلاف. ولكن سرعان ما يلتفّون حول الرجل القويّ من بينهم، وينهضون بأمره في وجه العدوّ نهوض الرجل الواحد. والغريب، أن المُقِرَّ منهم بالانتماءِ الإسلاميِّ، ينتصر للكافر والفاسق من بني جلدته في وجه المؤمن التقيِّ من غير قومه أو من غير حزبه. يبرهن على هذه الحقيقةِ ما أخذتْهُ الحكوماتُ التركيةُ من الأُهْبَةِ في سياستها ضدَّ المُعتزّين بالإسلام في الداخل والخارج وباستمرار. ومن آخر عكوسِ هذه السياسةِ، قيامُها بمساعدة المنشقّين من العناضر ذات الأصول التركيةِ في أفغانستان ضدّ حكومةِ (طالبان) طالبان: إسمٌ أطلِقَ على الحكومة الأفغانيةِ التي شكلتها جماعة من طلبةِ الجامعات الإسلامية ذات الطابع القديم والمتخلّف في باكستان. الإسلامية عام 2001م. إنّ الحكومةَ التركيةَ لم تقم بدعم الأتراك الأُزبك في أفغانستان لِمُجَرَّدِ ماكانت حكومةُ (طالبان) تمارس التعسُّفَ والتّطرُّفَ في سياستها، بل كان ردَّ فعلٍ من مُنطَلَقِ العصبيّةِ التركيّةِ انتصارًا للأتراك الأفاغنةِ ضدَّ خصومهم البشتون.
هذه الخصلة جعلتهم ينافسون العرب في السياسة والسيادة، ويصارعونهم على السلطة في الوهلة الأولى من إسلامهم. غير أنّ الأتراك قد وجدوا أنفسهم دائمًا أمام عَقَبَتَين في وجه العرب.(64/26)
العقبة الأولى: هي اللّغة العربية. لأنّ العربية غلبت على جميع لغات الشعوب الّتي دخلت في الإسلام بحكم كونها لغة القرآن والعلم والحضارة. فلم يستقم اعوجاج اللّغة التركية تحت هذه الغلبة على امتداد تاريخ الأتراك المسلمين وخاصّةً لمّا زادت اللّغة الفارسيّة من حيفها على اللّغة التركية وابعادًا للعربية، فقدت التركية أهمّيتها حتّى اختنقت وتفرقت إلى لهجات، بل إلى لغات مختلفة. ويشهد اليوم على هذه الحقيقة استخدامُ الترجمة في الحوار بين رؤساء بعض الدول الترّكية في الملتقيات والاجتماعات الدولية. مثل تركيا وكازاخستان. كما لا تتّفق أبجديّات هذه الدول بخلاف العرب. فانّهم بالرغم من شتات شملهم والشقاق الّذي بينهم على الصعيد السياسيِّ والدوليِّ، ما زالوا يتكلّمون بلغةٍ واحدةٍ، ويستخدمون أبجديةً واحدةً.
وإذ نعود إلى موضوع النقشبنديّة، فإنّ هذه الطريقة أسّسها الأتراك قبل سبعة قرون قي مدينة بُخَارَى، وهي عاصمة وطنهم القديم. ولا شك أنّهم أسّسوها لتكون نسخةً أخرى للإسلام، ليتميّزوا به عن العرب والفرس في عبادة الله. فاتّخذوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه رمزًا لطريقتهم، كي يُلمحوا بذلك أنّهم على نقيضٍ للفرس الشيعة، كما اتّخذوا اللّغة الفارسيّة كَلُغَةِ العبادة في هذ الدين المُخْتَلَقِ لعدم الكفاءة في لغتهم. ووضعوا لهذا الدين آداباً ومبادئَ تختلف تمامًا عن أركان العبادة والدعاء في الإسلام بغية أن يستقلّوا بوُجْهَة نظرهم إلى الإسلام بخلاف ما يفهمه العرب.(64/27)
أما العقبة الثانية: الّتي يعانيها الأتراك هو مفهوم الدين. ومع أن الإسلام دين عالميٌّ لا يجوز أن يستغلّه شخص أو قوم لِيُتَاجِرُوا به أو ليطبِّعوه في أشكال خاصّة، كما لم يفكّر به العرب، -ولم يتمكّنوا من ذلك لو أرادوا أن يحصروه في نطاق قوميتهم- إلا أنهم كانوا ولا يزالون أكثرَ فهمًا لمعاني القرآن، ولا غرو أنّه نزل بلغتهم. أمّا الأتراك وتُبَّاعهم من أقلياتٍ عجميةٍ فإنّهم لا يفهمونه إلا عن طريق الترجمة الكتابية أو بالاستماع إلى علمائهم.
ولا شكّ أن لهاتين العقبتين تأثيرًا عظيمًا على أحاسيسهم وإن لم يجهر به عامّتهم. ولا يُستَبْعد أن يكون في باطنهم ما قد يثيرهم بدافع هذين الأمرين حتّى يتخلّصوا من تأثير العرب بلغةٍ قويةٍ ودينٍ مستقلٍ دونما ارتدادٍ عن الإسلام، ولكنْ مختلفٍ عن إسلام العرب! لا شكّ أيضًا أنّ الأتراك ( ونعني بهم بقايا العثمانيّين من أصحاب السيادة في تركيا اليوم) قد عملوا الكثيرَ لتحرير لغتهم من قيود العربية والفارسيّة، ولكن لم يتمكّنوا من ذلك. كمالم يتمكّنوا من توفير أسباب الاستقرار لها. فانّ ظهور الطرُقِ الصوفيّة هي في الواقع من نتائج هذه المُنْطَلَقَاتِ العصبية والعرقية، وانعكاسٌ لأغراضٍ قوميةٍ وعنصريةٍ. خاصّة الطريقة النقشبنديّة، فإنّ في ثنايا آدابها ومعاملة أتباعها وانتمائهم أماراتٍ ومعالمَ تُنْبئ عن حقيقة منْطَلَقَاتِ هذه الطائفة وأغراضها العصبيّة القومية في صور غير خافية على أهل البصيرة. ولربما هي من أقدم أسبابها؛ وفي ذلك شواهدُ عديدةٌ، حسبنا الاستدلال بواحد منها:(64/28)
نقل عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ المصدر السابق 2/310. بطريق الرواية عمن تُنسب إليه الطريقة النقشبنديّة وهو محمّد بهاء الدين البُخَاريّ راجع ترجمته في الفصل الرابع.. نَقل أنه قال: »نمتُ ليلةً فرأيتَ الحكيمَ آتا قدس سره. وكان من أكابر مشائخ التُّرْكِ وهو يوصي بي درويشًا. فلمّا انتبهتُ بَقِيَتْ صورة الدرويش في مخيِّلَتي. وكانت لي جدةٌ صالحةٌ فقصصتُ عليها هذه الرؤيا، فقالت: سيكون لك يا ولدي من مشائخ التُّرْكِ نصيبٌ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاّء النقشبنديّة ص/ 129. القاهرة - 1308 هـ.
إن هذه الكلمات، تُعَبِّرُ عن حقيقةِ ما قد تبنَّتْ هذه الطريقة التركية عَبْرَ تاريخها بصورة ملخّصة، وقد تحقق ذلك. وهو أن المجتمعَ التركيّ قد حدّدَ وجهةَ نظرهِ في الإسلام منذ القديم بتفسيره الباطني المتمثّل في تعاليم هذا المذهب الصوفيّ على وجه الخصوص وبموقفه العصبيِّ.
***
التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة.
إنّه يُستَبْعَدُ أن تكون الطريقة النقشبنديّة قد اشتهرت بهذا الاسم في حياة محمّد بهاء الدين البُخَاريّ الّذي تُنْسَبُ إليه الطريقةُ. لأنّ الطرقَ الصوفيّةَ إنما تُدعى بأسماء مؤسِّسيها بعد موتهم عادةً. وهذا يُعتَبَرُ من جملة الإشارات الّتي تُنبئ عن تغيُّراتٍ عديدةٍ طرأت على الطريقة النقشبنديّة، وتدلّ في الوقت ذاته على أنّ الطرقَ الصوفيّةَ عامّةً والنقشبنديّةَ خاصّةً، لا تقوم آدابُها وأركانُها وطقوسُها على نصوصٍ من الكتاب والسنّة. بل إن كانت لها أصولٌ ومبادئ، فإنها في الحقيقة ليست إلا من صنع الروحانيّين الّذين استطاعوا أن يفرضوها على أتباعهم بحكم شهرتهم. ثم اقتنع بها المريدون والمفتتنون ممن حولهم فاتّخذوها مناسكَ لهم، وعملوا بها حتّى ظنّ معشرٌ من رعاع الناس أنها فرائض أو سنن من صميم الدين.(64/29)
ثم لم يلبث أن تولّى رئاسةَ الطريقة رجالٌ روحانيّون آخرون، زادوا على ما اختلقهُ السابقونَ من الآداب والشروط. فزادوا عليها تارة، وحذفوا منها تارة إذا زيّنتْ لهم أنفسهم ذلك. وهكذا جرت عادتهم من القديم إلى اليوم.
وجدير بالإشارة أنّه لا يتأتّى ذلك إلا لمن يمتاز بالمهارة واللّباقة في إقناع النفوس ويملك زمام الآلاف فيتمكّن من إلقاء هيبته ومحبّته في قلوبهم، بحيث لا يجدون مساغًا ليتساءلوا عن حقيقة هذه المستحدثات والبدع؛ وهل لها أساس من الدين أم لا؟ إذ أنّ لِبعض شيوخ الطريقة فنونًا من الحيل يسحرون بها حتّى عقول العلماء، فضلاً عن الجهلاء؛ كما قد نجحوا في الاستيلاء على الشريف الجرجانيِّ راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/515. بالرغم من باعه الطويل في العلوم. إلاّ أنّ هذه الصفة لا تشمل جميع شيوخ الصوفيّة. بل إنّ بعضًا آخر منهم لم يعرفوا الخدعة في حياتهم ولم يتصوّروها لحظة - ليس ذلك لِمَا فيهم من السمو الروحيِّ والأخلاقِ العاليةِ، والسلوك الرفيع، بل – لاستغراقهم فيما يسمّونه »العشقَ الإلهيَّ« وربما هي حالة من الجنون. لذلك مَنْ رآهم من الجهلة، أو من ذوي العاطفة، أعجب بهم، واغترَّ بما هم فيه من الغياب والتقشُّف، والعزلة عن الناسِ، والشعوذة، وإهمال أمور الدنيا. فظنّ المعجِبون بهم أنّهم أولياء الله وخاصّته، ووصفوهم بالعِفّة والقناعة وعزّة النفس، فبالغوا في توقيرهم وتعظيمهم، حتّى أسندوا إليهم ما لم يكن فيهم من الفضائل والبركة والكرامة. كلّ ذلك من جهل الناس بمفهوم الزهد والتقوى. أمّا في الحقيقة فليس لهما صلة بالعزلة من الناس، وإهمال أمور الدنيا، وحالاتِ الجنون الّتي يصفها العامة بالاستغراق والعشق الإلهيِّ. خاصّة فان أكثر شيوخ الطريقة النقشبنديّة يتّصفون بالطبيعة الجامدة، والصمت الطويل، والمسكنة والطأطأة. تلك عادتهم تسري فيهم عبر الأجيال خلفًا عن سلف.(64/30)
لأنّ من أراد منهم أن يختار له خليفةً من بين خاصّته آثر منهم المتميّز بالصفات المذكورة. أمّا من كان على نقيض تلك الصفات فلا حظّ له من هذه الفرصة غالبًا. وهذا ما قد أفضى إلى اغترار كثير من جهلة الناس بالمظاهر التقليدية للشيوخ النقشبنديّة. فهابوهم حتّى الْتَبَسَتْ عليهم تلك الصورة الجامدة بالوقار والسكينة. كماَ الْتَبَسَ عليهم الحق بالباطل لاستسلامهم لهذا التأثير، واقتناعهم بكلّ ما قرع سمعهم من هفوات الشيوخ وخزعبلاتهم. وهذا ما زاد في جرأة الروحانيين حتّى تصرّفوا في أمور طريقتهم بالذات، كما تصرّفوا في تعاليم الإسلام بالتأويل والتحريف.
ومما يؤكّد أن الطريقة النقشبنديّة تعرّضت للعبث – وكل ما فيها لون من ألوان العبث -، فزيدت فيها شعارات ومقولات وتفسيرات وتعدّدت فيها هرطقات وبدع ومستحدثات مع الزمان؛ أنها تسمّت من بُرهة إلىأخرى بأسماء مختلفة كما يشهد على ذلك رجل من أكابر المتأخّرين لهذه الطريقة وهو محمّد بن عبد الله الخانيّ المصدر السابق 3/460. مؤلّف كتاب »البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة«. يُقِرّ المؤلّف بهذه الحقيقة مستدلاًّ بعبارة نقلها من كتابِ »الحديقة الندية في آداب الطريقة النقشبنديّة« لمؤلّفه محمّد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيديِّ البغداديِّ المصدر السابق 3/331 جاء في مستهلّ هذا المقطع: » اعلم أن ألقاب السلسلة تختلف باختلاف القرون...إلخ« راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبدلله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 12. طبعة مصر - 1241 هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 22، 23. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.(64/31)
* عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 709، 723، 725. بغداد - 1973. فبلغ ما ذكره المؤلفان من هذه الألقاب الّتي اختلفت عَبْرَ القرون إلى ثمانيةِ أسماءَ متباينة وهي: الصدِّيقية، والطيفورية، والخواجكانية، والنقشبنديّة، والأحرارية، والمجدّدية، والمظهرية، والخالدية.
ومن اختلاق بعض الشيوخ في هذه الطريقة: أنهم استحدثوا جملةً من المفاهيم والمعتقَدات الّتي جعلت من هذه الطريقة دينًا مستقلاً عن الإسلام، وهي الرابطة، والختم الخواجكانية، وبدعة الذكر مع حبس النفَسِ، وعدّ الأوراد بالحصى وبإعدادٍ معينةٍ، وملاحظة الصورة الفتوغرافية لشيخ الطريقة، والاتصال بموتى الروحانيّين ما يسمّونه "الأوسِية" راجع الفصل الثالث، باب الأويسية. وبعضٌ من آداب المريد مع شيخه عندهم راجع الفصل الثاني، باب آداب المريد مع شيخه..وتصوّراتٌ فلسفيةٌ استورثوها من الأديان السالفة، فقرّروها شيئًا فشيئًا عَبْرَ القرون؛ كفكرة "وحدة الوجود" و"وحدة الشهود" والحلول والاتحاد والفناء والبقاء؛ وغيره كثير ومفصّلٌ في كتبهم كما سيأتي شرح هذه الأمورِ وتحليلها في الفصول الآتية إن شاء الله.
وكلّ ذلك، وضعوه لتمكين هيبة الشيخ في نفوس الناس من المريدين وغيرهم، لتذلّ له رقابهم، وتخشع لعظمته قلوبهم؛ على أنّه ينوب عن الله في أرضه، ويتصرّف في ملكه وخلقه، حتّى أصبح كثير من الجهلة العوامّ لا يكادون يصدّقون أن الشيخ أيضًا يبول ويتغوّط ويمارس الجنس كأحد من الناس.
***
* المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها.(64/32)
إنّ هذه الطريقة لم تحظَ باهتمامَ الناس من أيّ شعبٍ في أرض الإسلام بالقدر الّذي نالت من الإقبال بين الأتراك. ولا عجب أنهم مختلقوها ومؤيّدوها منذ البداية إلى اليوم. فانتشرت في المناطق الّتي قام فيها حكمهم، واستحكم فيها سلطانهم بعد انهيار الدولة العبّاسية وظهور السلاجقة الأتراك على مسرح التاريخ.
يقول الشيخ قسيم الكُفْرَويّ في رسالة أعدّها باللّغة التركية تحت عنوان »النقشبنديّة ظهورها وانتشارها« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? (Intiodaction)
Türikiyat Enst. no. 337 Istanbul-1949
وكان الشيخ قسيم هذا، من أعلام المثقفين ومن أشهر مشائخ هذه الطائفة في تركيا. يقول في افتتاحية كتببه: »إن القدماء من شيوخ النقشبنديّة كانوا من أهالي تركستان وما وراء النهر. ولذلك تسرّبت عاداتُ هذه المنطقة وتقاليدُها إلى الطريقة النقشبنديّة«.
فإذا أنعمنا النظر في هذا المقال وجدنا فيه ثلاث نقاط هامّة وجديرة بالدراسة والتحليل.
النقطة الأولى: كون الطليعة من رجال هذه النحلة قد ظهروا في منطقة تركستان وهو الموطن الأصليّ للأتراك.
والنقطة الثانية، أنّ الطريقة قد امتصّت الكثيرَ من مخلَّفات الأديان والعادات والتقاليد المتّبَعَةِ في هذه المناطق عَبْرَ القرون.
والنقطة الثالثة، أن الطريقة قد انتشرت في الوهلة الأولى على ساحةِ المنطقةِ نفسِها بحكم ظهور مؤسِّسِهَا في تلك النواحي.
إذًا، نستطيع أن نقول إنّ الطريقة النقشبنديّة قد بدأت في توسّعها من الموطن الأصليِّ للأتراك منذ أيام ظهورها. ثم انتشرت في كلّ ساحة قام عليها حكمهم بدايةً من بلاد ما وراء النهر، وخراسان، فمرورًا بالمناطق الهندية. ثم بعد تقدُّمِ السلاجقة إلى الأناضول لأوّلِ مرّةٍ يَمَّمَتْ الطريقةُ وجهَهَا إلى هذه الأرض الّتي إستقرّ الأتراك فيها وأقاموا عليها الدولةَ العثمانيّةَ بعد أن زالت دولة بني سلجوق.(64/33)
جاء في بعض المصادر للباحثين الأتراك أنّ الشيخ عبد الله الإلهي هو الّذي قام لإوّل مرةٍ بنشر الطريقة النقشبنديّة في المملكة العثمانيّة ما بين 1481-1512م. وقام بمحاولة التأليف بين الطريقة النقشبنديّة والطريقة الملاميَّة وعاش في عهد السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمّد الفاتح، ثمّ تابعه حيدر بابا في نشر هذه الطريقة أيّام السلطان سليمان القانوني. مع هذا يقول الدكتور رشاد أونكوران، »لقد كان من المعروف - إلى الآونة الأخيرة -: أنّ الطريقة النقشبنديّة دخلت منطقةَ آناضول لأوّل مرةٍ على يد مُلاّ إلهي، هو خليفة عبيد الله الأحرار. راجع ترجمةَ الأحرار في الفصل الرابع، الحلقة الثامنة عشرة من سلسلة الطريقة النقشبنديّة. كما كان من المعروف أيضًا؛ أنّ أوّل تكيةٍ للنقشبنديّين في هذه الساحة هي الّتي بُنيتْ في سِيماوْ من ضواحي مدينة الكُدَاهِيّة؛ إلاّ أنّ حسين حسام الدين أفندي المعروف بعبدي ذاده قد سجّلَ في تاريخه أنّ أوّل تكيةٍ للنقشبنديّين في البلاد العثمانيّة هي الّتي بُنيتْ في مدينة آماسيا عام 1404-1405م. باسم تكيّة محمود شلبي؛ واحتلّ منصبَ المشيخة لأوّل مرةٍ في هذه التكية الخواجه ركن الدين محمود البُخَاريّ الّذي كان من خلفاء شاه نقشبند« Dr. Re?at ?ng?ren, XVI. As?rda Anadolu’da Tasavvuf: TDV. ?SAM. TEZ 297.7
على الرغم من دقّة أسلوب الباحث رشاد أونكوران، فقد وردت كلماتٌ له يدّعي فيها ما يؤدّي إلى الشكِّ من حقيقة كلِّ ما جاء على لسانه حول الطريقة النقشبنديّة. وهذه كلماته:
»إنَّ الطريقة النقشبنديّة الّتي أسّسها الشيخ بهاء الدين نقشبند، لها سلاسلُ، تتصل عن طريقها بأبي بكرٍ وعليٍّ« المصدر السابق ص/88.(64/34)
يستند الدكتور رشاد في هذا الإدّعاء الجريء إلى أربعةِ مراجعَ من كتب المتأخّرين؛ وهي في حدِّ ذاتِها خاليةٌ من القيمة العلمية في مثل هذا الإسناد. وبالنسبة لمزعمة »سلسلة السادات«، فسنشرحها في بداية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
ورد في »موسوعة إسطنبول« Dünden Bugüne ?stanbul Ansiklopedisi - مادة النقشبنديّة - أنّ هذه الطريقة بدأت تدبُّ في صفوف المجتمع العثمانيّ منذ أواخر عهد السلطان محمّد الفاتح. واستقى كَاتِبُ هذهِ المادَّةِ أكرم إيشن، من كتابٍ اسمه:Otman Baba Velâyetnâmesi. وأفاد فيه أنه كانت للنقشبنديّين في تلك المرحلة تكيةٌ بمدينة آق سراي (وهي في أواسط آناضول على مقربةٍ من مدينة قونية)؛ ولكنه يعترف في الوقت ذاته بعدم أيّ معلومات تذكر النشاطات الأولى للطائفة النقشبنديّة على الساحة العثمانيّة.
كذلك ورد في نفس الموسوعة أنّ السلطان محمّدًا الفاتح »إنّما اهتمَّ بالنقشبنديّين الّذين كانوا يومئذ خارجَ مملكتِهِ، وتولّى حِمَايَتَهُمْ، وقام بدعوة بعض مشاهيرهم من أمثال نور الدين عبد الرحمن الجامي وعبيد الله الأحرار، ليتمكّن بذلك من الوقوف أمام تهديدات الشيعة الإيرانيين...« وردعًا لانتشار عقائدهم بين السنِّيِّين الأتراك. كما يبدو موقفه السلبيُّ المحتقِرُ من الشيعة من تسميته ولدَه أبا يزيد، ذلك ليغيظهم ويجرح مشاعرهم!
نفهم من عبارات الكاتب أكرم إيشن في هذه الموسوعة أنّ الطريقة النقشبنديّة لم تتجاوز حدود العاصمة العثمانيّة (اسطنبول) في مراحلها الأولى وحتّى ظهور الخالديّين. ومهما كانتْ، فإنّ أوّلَ شيءٍ من آثار هذا الّتيار الصوفيّ بمدينة إسطنبول تعود إلى جهود عبد الله الإلهي وخلفائه الخمسة وهم:
1
. أحمد البُخَاريّ،
2. عابد شلبي،
3. لطف الله الأسكوبي،
4. بدر الدين بابا،
5. مصلح الدين الطويل.(64/35)
لقد استطاع مصلح الدين الطويل أن يحبّب هذه الطريقة إلى السلطان أبي يزيد بن السلطان محمّد الفاتح الّذي عُرِفَ فيما بعد بلقب »الصوفيّ أبي يزيد الولي«؛ وبذل عابد شلبي جهودَهُ في سبيل التأليف بين الطريقتَين النقشبنديّة والمولوية. إلاّ أنّ ترسيخَ دعائم الطريقة النقشبنديّة الأحرارية بمدينة إسطنبول في تلك المرحلة إنما تحقّق بجهود أحمد البُخَاريّ الّذي يُعْتَبَرُ من أبرز خلفاء عبد الله الإلهي. وهو أصلاً زميله ورفيقه الّذي سافر معه إلى سمرقند وانخرط في سلك هذه الفرقة معه؛ ولكن يبدو أنّ عبيد الله الأحرار قد أخضعه لأوامر عبد الله الإلهيِّ عندما كلّفهما بنشر طريقته في إسطنبول. فلما عزم عبد الله الإلهيّ على السفر إلى المناطق الغربية من المملكة العثمانيّة لنشر الطريقة استخلفه في إسطنبول.
دخلت الطريقة النقشبنديّة في لباس جديد وتحت اسم "المجدديّة" إلى إسطنبول بدلالة رجل مشلول الساقين اسمه مراد بن علي بن داود الأُزبكي؛ كان من خلفاء معصوم الفاروقيّ. على الرغم من الشلل الّذي كان قد أصابه منذ طفولته قام برحلاتٍ طويلةٍ وطاف أهمّ العواصم من البلاد الإسلامية مات في إسطنبول عام 1720 من الميلاد.
***(64/36)
أمّا دواعي انتشار هذه الطريقة؛ فهي أمور مثيرة للاستغراب جدًّا؛ فمن أهمّها، أنّ هذه النحلة تتميّز من سائر الفِرَقِ الصوفيّة بآدابها وأركانها وطقوسها الّتي قَلّ من يملك نفسَه من موالاتِها بعد ممارسته لهذه الآداب. لأنّها تبعث في قلب المبتدئ شوقًا لاحدّ له، خاصّة إذا كان قليل الثقافة، عاطفيًّا، ضعيف المنطق، متخلّف العقلية، أو يعاني مشكلةً؛ كما إذا كان مهجورًا، أو من مُدْمِني الكحول والمخدِّرات، أو أصابته نكبة؛ سرعان ما ينجذب إلى هذه الطريقة ويجد في رحابها ما يسليه ويخفف من كربه وآلامه. فينخرط في سلكهم. ومنهم من تأخذه الحيرة والإعجاب، فينبهر بما يشهد من توقير المريدين وإجلالهم لشيخ الطائفة وتفانيهم في سبيله واستعدادهم الأكيد لتحقيق أوامره بأدنى إشارةٍ منه، فيتابع أنفاسه عندما يقابل شيخ الجماعة وهو يُقْبِلُ في هيئته الخاصّة ومظهره النورانيّ الساحر، كأنه يهبط من السماء بأجنحة من النور الأخضر يتلألأ في موكب من الملائكة، فيتجلّى في صورة لطيفة شعشعانية مقدّسة لكلّ واحدٍ من جمهور أولئك الحافّين من حولِهِ والمفتتنين به من فقراء العلم والمعرفة الحيارى،
لذا، لم ينضم إلى هذه الطائفة أحد من أصحاب الشخصية الهزيلة والرأي الضعيف، إلا ورضي بالخضوع والعبودية والتذلّل والفناء لشيوخها. فلا يكاد ذهنهُ يخلو من تصوّرهم ولا قلبهُ من محبّتهم، ولا لسانهُ من ذكرهم، فينبهر لعظمتهم الموهومة عقلُهُ حتّى يراهم في درجة الأنبياء والمرسلين ويُقسِمُ بِهامَتِهِمْ، ويقشعرّ جلده عند ذكر أسمائهم مع يقينه الكامل بهم أنّهم ينوبون عن الله في أرضه ويتصرّفون في ملكه وخلقه. تعالى ربّنا عما يصفه الفاسقون.
ومن أسباب انتشارها، جهلُ عامّة الأتراك ومن يليهم من الأكراد، وحثالةِ العرب الّذين يقطنون في المنطقة الجنوبية من تركيا. جهلُهم بلغة القرآن، وجهلُهم بحقيقة التوحيد ومخاطر الشرك.(64/37)
ومن أسباب انتشارها، العصبيةُ القوميةُ الّتي تتمثّل في احتقار كلّ ما يمتُّ للعرب من عادة ومظهرٍ واتجاهٍ؛ كنتيجةٍ للّدعايات الكثيرة الهدّامة الّتي قام ولا يزال يقوم بها يهود سالونيك منذ مائة وخمسين عامًا، مما شجّع كثيرًا من رجال السياسة والمثقّفين على إثارة تتريك الدين الإسلامي بين الفينة والأخرى، وتضليل الناس بأنّ الإسلام الّذي تدين به الأكثريةُ السنِّيَّةُ إنما هو دينٌ عربيٌّ بحتٌ، لا يفهمه ولا يطمئن إليه أبناء الشعب التركيّ.
إن هذه المؤامرات الخطيرة في الحقيقة وإن لم تكن للنقشبنديّين بها علاقة مباشرة، ولكن الّذين يبذلون جهودهم في حِيَاكَتِهاَ، يستغلّون هذه الطائفة دائما في اكتساب القوة والهيمنة لتوجيه الشعب وترويضه على سبل المروق، وسلخه عن الإسلام تمامًا.
ولا يخفى أنّ عددًا كبيرًا من الشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب، يستعرضون مكرهم في مواسم الانتخابات لاستمالة مشائخ الطريقة النقشبنديّة كي ينالوا مساعدتهم وتأييدهم في اغتصاب الحكم واحتلال المناصب؛ وليتمكّنوا بذلك من توجيه الشعب وترويضه واستخدامه ضدّ الإسلام والمسلمين. لأنّهم لا يجدون لتحقيق أهدافهم ما يحتاجون إليه من مالٍ ورجالٍ إلا عند شيوخ الطريقة النقشبنديّة. ولهذا يعملون على إشاعةِ صِيتِ مَنْ يمكن التعاون معه من هؤلاء الشيوخ. ولا يتكلّف الجانبان من ثمن هذا التعاون، سوى ما ينفقه السياسيون في سبيل الدعاية للشيخ، فيتواطأ معهم عدد من رجال العمل الأثرياء، يُذيعون شهرته في المجالس والمحافل بوسائل مختلفة. ويستخدمون في هذه الحملة بُلَغَائَهُمْ من رجال الخطابة والكتابة. فما يلبث حتّى تزدحم القوافل في الطرق المؤدية إلى تكيَّتِهِ وتلتفّ الساق بالساق في سباق التبرك بتقبيل »اليد المباركة الناعمة الّتي لا عظم فيها« - على حدّ زعمهم -.(64/38)
فبحكم الطبع، لا يزور أحد من العوامّ شيخًا في تلك الزحمة الّتي يرى فيها آلافًا يتلهّف كلّ واحد منهم ليمسّ يده بشفتيه إلا عَلِقَتْ به نفسه، ونزعتْ إليه عواطفه، وامتلأ بمحبته قلبه، فكاد أن يسجد له لولا مخافةَ مقتٍ يُصيبه.
يرجع السبب في ذلك إلى ما ذكرنا آنفا من المظاهر الخلاّبة الجذّابة الّتي يتراءى الشيخ فيها للنّاس من اللّباس والحشم والجماهير الملتفّة حوله بالإضافة إلى ما يفعله من طأطأة الرأس وقلّة الكلام، والزهد المتصنّع وكثرة العبادة والآداب الّتي يفرضها على المريد.
فقد انتبه سلاطين الأتراك، ورجالات السياسة منهم خاصّة في المرحلة الأخيرة من الحكم العثمانيّ أنّ الطريقة النقشبنديّة تتّصف بسحر وجاذبية في جلب قلوب الناس وتسخيرهم. ولهذا قد اهتمّ خلفاء بني عثمان بمشائخ هذه الطائفة بداية من السلطان محمود الثاني. وقد تابعهم في هذه السياسة رجال السلطة اليهودية أيضا في العهد الجمهوريّ. فأدىّ هذا الاهتمام إلى انتشار الطريقة على ساحات شاسعة من البلاد.
وإذا مرّتْ بهذه الطريقة فترات زادت في بعضها نشاطًا وانتشارًا وفي بعضها انحطاطًا وتقلّصًا فقد بسطت سلطانها اليوم على أرض تركيا وهي تستغلُّ جهلَ الناس وحرصَ رجال السياسة، كما تهدّد العقيدة الحقّة، والقلةَ المؤمنةَ من أبناء هذه الديار.
***
الفصل الثاني
آدابُ الطريقةِ النقشبنديّةِ، ومَصَادِرُهَا، وميّزاتُها.
* البيعةُ وآدابُ المشيخةِ، وآدابُ المريدِ مع شيخهِ عند النقشبنديّين، والغايةُ منها.............
* آدابُ الذكر عندهم.....................................................................................................
* الذكرُ بلسان القلب......................................................................................................(64/39)
* الرابطةُ.....................................................................................................
* شروطُ الرابطة وصورة أدائها.......................................................................................................
* أوّلُ مَنْ أحدث الرابطة.....................................................................................................
* الغايةُ من الرابطة.....................................................................................................
* عقوبةُ المخلّ بآداب الرابطة.....................................................................................................
* أسلوبُهم وطريقةُ استدلالهم في إثبات الرابطة، ومقالاتهم في الدفاع عنها،
* وما قيل في ردّها.......................................................................................................
* مِنْ أهمّ ما كُتب في مسألة الرابطة.....................................................................................................
* مِنْ آدابهم: الذكرُ على أساسِ اللّطائفِ الخمس...............................................................................
* الحلقةُ السريّةُ الّتي تُسمّىَ "ختم خواجكان..........................................................................................
* المصطلحاتُ الفارسيّةُ في الطريقةِ النقشبنديّةِ وأسرارُها................................................................
مبادئُ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة، وهي أحد عشر مبدءًا
1. هُوشْ دَرْدَمْ.......................................................................................................(64/40)
2. نَظَرْ بَرْ قَدَمْ........................................................................................................
3. سَفَرْ دَرْوَطَنْ.....................................................................................................
4. خْلَوْت دَرْ أَنْجُمَنْ......................................................................................................
5. يَادْ كَرْدْ........................................................................................................
6. بَازْ كَشْتْ......................................................................................................
7. نِكَاهْ دَاشْتْ......................................................................................................
8. يَادْ دَاْشْت......................................................................................................
9. وُقُوفِ زَمَانِي.......................................................................................................
10. وُقُوفِ عَدَدِي......................................................................................................
11. وُقُوفِ قَلْبِي........................................................................................................
الفصل الثاني
آدابُ الطريقةِ النقشبنديّةِ، ومَصَادِرُهَا، وميّزاتُها.(64/41)
لحق التطوّر هذه الطريقةَ خلال القون السبعة الماضية ما لم يعرفه الأوّلون من أمورٍ سمُّوها آدابًا وأركانًا على حساب الإسلام. وقد ألغوا بعضَ ما أقرّه أسلافهم. وهذا من طبيعة التصوف الّذي انبثقت منه سائر الطرق الباطنيّة والمذاهب الغالية، والجماعات الإباحية والتنظيمات الإرهابية، وفرختْ زنادقةً أرادوا هدم الإسلام وإثارة الفتن بين صفوف المسلمين.
اتّخذتْ الطريقةُ النقشبنديّةُ اللّغةَ الفارسيّة كأداةٍ للدّعاء والعبادة؛ ولا غرابة في ذلك. إذ أنّ قدماء الأتراك كانوا يسكنون بلاد ما وراء النهر وهي مجاورة للمنطقة الإيرانية الّتي تحول بينها وبين بلاد العرب، فتأثّروا بثقافة الفرس وحضارتهم تأثُّرًا بالغًا لأسباب عدّة:
منها، أن الفرس كانوا قد أسلموا قبلهم؛ ومنها أنّ الشعبَ الفارسيَّ يمتاز بحضارة عريقة، بينما الأتراك لم تكن لهم ثقافةٌ ولا حضارةٌ توحّد صفوفهم، وتجمع كلمتهم، وهم قوم لا أبجدية له, بل كانوا قبائل متفرقةً بدوِيَّةً تنتقل من مكان إلى مكان آخر تبعًا للظروف المناخيّة، يعيشون تحت خيامٍ من لِبادٍ، ويتتبّعون المراعي لأنعامهم. كانت قبائل الأتراك في القرون الوسطى متمايزةً جدًّا، لا تجمعهم لغةٌ واحدةٌ ولا دينٌ واحدٌ، ولذلك كانوا أسوأ حالاً من عرب الجاهليّةِ في النزاع والقتالِ. ولقد كانت الحروبُ سجالاً بينهم حتّى بعد إسلامهم. فلمّا اعتنقوا الإسلامَ تأثّروا فورًا بالثقافة الفارسيّة وحضارتها بحكم الجوار بعد أن جمع الإسلام بين صفوفهم وجعل منهم مجتمعا قويًّا. غلبت بذلك اللّغةُ الفارسيّة على لغتهم الأصليّة حتّى صارت هي اللّغةَ الرسميةَ للدّولة السلجوقية التركية يقول الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد كوبرولو: "إنّ الأتراك قد أخذوا الكثير من تعاليم الإسلام بوساطة أعجام الفرس، وليس من العرب مباشرة." وهذا نص كلامه باللّغة التركية:(64/42)
Türkler, ?slâmiyetin birçok unsurlar?n? do?rudan do?ruya Araplardan da?il, Acemler vas?tas?yla ald?lar. Türk Edebiyat?nda ?lk Mutasavv?flar, 8. Edition Pg. 21.
Department of Religius Affairs, Ankara-1993.
ولأهمية ما في هذا النص فقد نقله الباحث عمر دميرجان نقلا حرفيّا إلى ثنايا كتابه الّذي ألفه حول دراسة اللغات الأجنبية في تركيا تحت عنوان:
Dünden Bugüne Türkiye’de Yabanc? Dil.
فقد ورد في كتب رجال النقشبنديّة ما يبرهن على إقرارهم هذه اللّغة. منها ما جاء في كتاب »البهجة السنيّة« لمؤلفه محمّد بن عبد الله الخانيّ. إذ يقول في أوَّلِ مقاطعه : »وأكثر كلام أهل الطريقة معرّبٌ من اللّغة الفارسيّة«. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3. طبعة مصر - 1241هـ. بينما لغة الإسلام هي العربية بقرينة كونها لغة القرآن قال الله تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ اْلأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اْلمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.} سورة الشعراء/193، 194، 195. وقال تعالى: {لِسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِيٌن.} سورة النحل/103. وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اْلوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقوُنَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.} سورة طه/113.
هذا، وفى كتاب الله آيات أخرى تبرهن على أنّ لغة الإسلام هي العربية. كما يجب على أهل العلم وضع مصطلحاتهم باللغة العربية في كلّ مجالات الحياة المختلفة، وخاصّةً ما يمتّ لمسائل الدين بوشيجة. وهي لغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوقت ذاته. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرسوُلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ له اْلهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اْلمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَائَتْ مَصِيرًا.} سورة النساء/115.(64/43)
ومع هذا، فان قدماء النقشبنديّة قد أصطلحوا لمناسكهم أسماء غريبة كما سنشرحها فريبًا إن شاء الله تعالى؛ تلك الأسماء الّتي وضعوها على غير سبيل المؤمنين اختلاقًا من تلقاء أنفسهم ونزعةً وحنانًا واشتياقًا إلى ماكان عليه أسلافهم قبل الإسلام؛ وربما تقليدًا لمن كانوا يجاورونهم من رهبان البرهمية، إعجابًا بخشوعهم في ذكر الله. لأن رهبان البرهمية يضربون مثالاً عجيبًا من الخشوع أثناء الذكر كما أنّهم أزهد الناس في الدنيا وأقلّهم طمعًا وأطولهم صبرًا على الجوع والرياضات الشاقّة المنصوصة في الديانة البرهمية.
***
إن للّطريقة النقشبنديّة آدابًا غريبة وأركانًا عجيبة يختلط فيها الحق بالباطل، ويلتبس فيها المعاني على الغافل والجاهل، بل على العالم والعاقل، ولا يُدرِكُ مقاصدَهَا ولا مصادرَهَا إلا من وفّقه الله للهداية والإيمان الصادق ورزقه المعرفة بِكُنْهِ المستنقعات الّتي استقى منها أئمّة هذه الطريقة.
أمّا هذه الآداب، فإنها تنحصر في ثلاثة أبواب رئيسة: آداب المشيخة، وآداب المريد مع شيخه، وآداب الذكر. إلاّ أنّهم يشترطون البيعة قبل كل شيء. وهي الركن الأعظم عندهم.
***
البيعةُ، وآدابُ المشيخةِ، وآدابُ المريد مع شيخه عند النقشبنديّة، والغايةُ منها...
البيعة أو المبايعة. معناها: المعاقدة والمعاهدة. فيرونها شرطًا لا مناص منه لمن يريد الدخول في الطريقة. وبذلك يكون المريد قد أعطى ميثاقّا غليظًا للشّيخ الّذي اتّخذه مرشدًا لنفسه فيلتزم القيام بعده بكل ما يأمره به شَيْخُهُ أن يفعل، وإن كان حرامًا. للإطلاع على أقوالهم في موضوع انقياد المريد للشيخ بصورة مطلقة، راجع المصادر الآتية:
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 528. طبعة مصر - 1384 هـ.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 20. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.(64/44)
* غلام علي عبد الله الدهلويّ، مكاتيب شريفة: المكتوب السادس عشر، ص/ 33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 20 مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
ومن الغريب أنّه لا يقتصر هذا الشرط على مريد الطريقة فحسب. بل يجب على كلّ أحدٍ أن يبايع شيخًا، ويستسلم له تمامًا. »لأنّ العبد، بينه وبين ربه حجاب يمنعه من الاستفاضة« (حسب اعتقادهم.) يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ في هذه المسألة : »فالشيخ العارف الواصل وسيلةُ المريد إلى الله، وبابُهُ الّذي يدخل منه على الله. فمن لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان راجع موضوع ضرورة الانتساب إلى شيخ من شيوخ الطريقة في اعتقاد النقشبنديّين ضمن المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 26 مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 36. مخطوطة 1249 هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 39. مخطوطة. بغداد/1234هـ. مستنسخة من قبل مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 61، 116. ط. 1276 هـ.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 4 طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 525. طبعة مصر - 1384 هـ.
* أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المنتخبات، المكتوب رقم/61
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 12. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 133 إسطنبول-1994م.
* A. Faruk Meyan, ?ah-? Nak?ibend. Pg. 35 Cile Publishing ?stanbul-1970«(64/45)
ومعنى هذا؛ أنّ كلّ من لم ينخرط في سلكهم ولم يستسلم لشيخ من مشائخهم فهو تابع للشّيطان. أي إنه ضالّ ومضلّ، كما يعدّون خروج المريد من عهد الشيخ خروجًا من الإسلام.
فهذا رأيهم في جميع المسلمين وإن كذّبوا ذلك ودافعوا بأنّ غرضهم هو أنّ الإنسان لا محالة يحتاج إلى من يعلّمه الضروريات من الدين والدنيا حتّى يتبيّن له الحقُّ من الباطل وليميّز بين الحلال والحرام فيعمل المعروف ويجتنب المنكر. فانّ دفاعهم بمثل هذا الأسلوب لا يطابق ما يقصدونه من مفهوم البيعة. وأمّا المرشد عندهم في الحقيقة ليس هو الأستاذ الّذي يعلّمُ الفقهَ والعقيدةَ والفنونَ ويهذّبُ الأخلاقَ. بل إنّما هو -على حد قولهم- »العارف بالله والواصل إلى الله.« وما أكثر وصفهم لشيوخهم بهذه الكلمات. مع أنه لم يرد في الكتاب ولا في سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يفيد أن العبد مأمور ومكلَّفٌ بمعرفة الله، أو يمكنه أو يجوزُ أن يعرف الله حق معرفته، أو يصل إليه وصولاً في منتهى الغاية. بل قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} سورة النمل/93. إذًا فان معرفة الإنسان تنحصر في حدود رؤيته لآيات الله دون أن تتجاوز إلى ذات الله سبحانه. كما أنّ وصول الإنسان إليه محال. تعالى ربّنا عن ذلك علوًّا كبيرًا. وإنّمَا الإنسان مأمور ومكلّفٌ بعبادة الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات/56.
مع هذا البيان الواضح بشهادة آيات الله، فان عامَّةَ الصوفيّة بما فيهم النقشبنديّون، يعتقدون المعرفةَ باللهِ أمرًا جائزًا للإنسان، وأنه بإمكان العبد أن يتعرّف إلى ذات اللهِ؛ فيشترطون لذلك أمورًا يمارسه المريد بعد أن يبايع شيخًا ويأخذ منه الميثاق الّذي سموه "البيعة".(64/46)
أمّا مسألة البيعة، فإنّها من أهمّ مسائل الفقه الإسلاميّ تتعلّق بنصب إمامٍ للمسلمين، متّصفٍ بالإسلام والعقل والذكورة والبلوغ والشجاعة والكفاءة وسلامة الأعضاء؛ يقوم بمصالحهم وتنظيم أمورهم، وبإقامة العدل وتنفيذ الأحكام بإنصاف المظلومين، والدفاع عن أرض الإسلام وعِرض المسلمين بميثاق يتعهدون على أساسه أن يُطيعوه في حكمه ويناصروه في دفاعه تطبيقًا لما جاء في كلامه تعالى { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطَيعُوا الرسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوُه إِلَى اللهِ وِالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.} سورة النساء/59.
أما النقشبنديّة فقد تأوّلوا هذا المفهوم بما يتعارض والنصوص القرآنية. فقد جعلوا منها ميثاقًا يتعاقد على أساسه مريد الطريقة مع شيخ الطائفة على أن يقوم بكل ما يأمره ولو كان حرامًا.
وَيأتي على رأسِ مَنْ عبثوا بمفهوم البيعةِ رجلٌ هندِيٌّ اسمه أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدّين. فقد بالغتْ الصوفيةُ في تفخيم هذا الروحاني الهندِيِّ حتىّ لقّبوه بشاه وليّ الله الدّهلويّ. يقول في ثنايا كتابٍ له، سمّاهُ: القول الجميل في بيان سواءِ السّبيلِ:(64/47)
»فالحقّ أنّ البيعة أقسام: منها بيعة الخلفاءِ، ومنها بيعة التّمسُّكِ بحبل التّقوى، ومنها بيعة الهجرةِ والجهاد، ومنها بيعة التوثّق في الجهاد. وكانت بيعة الإسلامِ مَتْرُوكَةً في زمن الخلفاءِ. أمّا في زمن الرَّاشدين منهم، فلأَنَّ دخولَ النّاس في الإسلامِ في أَيَّامهم كان غالبًا بالقهرِ والسيفِ، لا بالتأليفِ وإظهار البرهانِ ولا طوعًا ولا رَغبةً. وأمَّا في غيرهم، فلأَنَّهُمْ كانوا في الأكثرِ ظَلَمَةً فَسَقَةً لا يهتمّونَ بِإقامة السّننِ. وكذلكَ بيعة التّمسُّكِ بحبل التقوى كانت مَتْرُوكَةً. أمَّا في زمن الخلفاء الرّاشدين، فلكثرة الصّحابة الّذينَ استناروا بصحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَأَدَّبوا فيِ حضرته، فَكَانوا لاَ يَحْتَاجونَ إلى بيعةِ الخُلفَاءِ... « أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين (شاه عبد الله الدهلوي)، القول الجميل في بيان سواء السبيل: قونية – 2001. الإتصال: 22 76 251 (0332)(64/48)
يتّخذ الدَّهلويُّ سبيلَ الدّخولِ فيِ مسألةِ البيعةِ سربًا ومكرًا من خلال هذه الصيغة الْمُلْتَوِيَةِ المارجة، ويُرَاوغُ بهذه العفعفةِ ليختلقَ صِلةً بينَ ما صدر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بالمعروفِ والنّهيِ عن المنكرِ وبين ما يأمر بِهِ شيوخ النقشبنديةِ من تعاليم البوذيةِ والبرهميةِ؛ ثمَّ يتناسى أنّ الرسولَ الكريمَ - صلى الله عليه وسلم -، إنما كانَ أصحابُهُ يُبَايِعُونهُ ليتولّىَ أمورَهُم، وخاصَّةً لِيُجَنِّدَهُمْ بِصِفَتِهِ رئيسًا يَمتَازُ بِشَخصيتِه السياسيةِ والعسكريةِ والروحيةِ. وأين هذه الصفات للشيوخ النقشبندية؟ فهل يُتصور لعاقل أن يقارن بين هذه الشخصية العالميةِ العظيمةِ وَبين أيِّ شيخٍ من شيوخ النقشبنديةِ الخاملينَ المعزولين البعيدين عن كل مجالات الحياةِ ونشاطاتِها. وهل لِهَؤُلاَءِ المساكين سُلْطَةٌ سياسيةٌ، وقوةٌ يستخدمونها في تنفيذ الأحكام، وانصاف المظلومين حتىّ يجوز مبايعتهم؟ وهل استطاع أحد منهم حتى اليوم أن يمنع الكفار والمنافقين من الظلم والقهر والقتل والإبادة ضد المسلمين؟!!! تُرَى مَنْ يكونُ هؤلاِ الشيوخ، ومَنْ يَعْتَدُّ بهم حتي يبايعهم الناسُ فيولّوهم أمورَهم؟!(64/49)
فإنّ الدّهلويَّ يتعمّد فيما سبق من كلماته ليدسَّ في مفهوم البيعة ما لايمتُّ به صلةً أبدًا، وأبعد من ذلكَ فإنه يكتم حقيقةً عظيمةً أجمع عليها علماءُ التاريخ: وهي إنعقادُ مبايعةِ جمهورِ الصحابةِ للخلفاء الراشدين. نعم لم يتولَّ أحدُهُمْ أمرَ المسلمين إلاَّ بعد مبايعة جمهور الصحابةِ له (وإن تأخرتْ عنها جماعة منهم لأسبابٍ). إذًا فقد جاء الدّهلويُّ بكذبٍ ظاهرٍ بشهادة البراهين التاريخيةِ حين قالَ: »فلكثرة الصحابة الّذين استناروا بصحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتأدّبوا في حضرته، فكانوا لا يحتاجونَ إلى بيعة الخلفاءِ. « وقد تكونُ العباراتُ الّتي نَقَلْنَاهَا آنِفًا من الكتابِ المسمىَّ (القول الجميل في بيان سواء السبيل)، موضوعةً على لسانِ مؤلِّفِهِ، وَكَذِبًا وزُورًا عليهِ. لأنّ هذا الكتابَ قد تعرّضَ لِتَحْرِيفٍ شنيعٍ، خَاصَّةً في طَبْعِهِ الَّذي تولاَّهَا بعضُ الأتراك في مدينةِ قُونْيَا التُّرْكِيَّةِ بعنوان (الفكر الإسلاميّ عند الإمام وليّ الله الدّهلويّ وما ابتكره من العمل النموذجيّ). وقد تهرَّبَ الناشر عن تسجيل اسمهِ واسمِ المطبعةِ ودارِ النّشرِ في الكتاب. وإنّما ظَهَرْت لنا حقيقةُ هذا التّحريف حين فُجِئْنَا بحذفِ مَقَطِعَ هَامَّةٍ مِنْ كلامِ الدّهلوِّيِّ في الرّابطةِ. (لمزيد من المعرفةِ حول هذا التحريف، راجع المبحث: خالد البغداديّ ومعارضوه)
***(64/50)
لقد أفرد محمّد أمين الكرديّ الأربليّ بابًا في كتابه »تنوير القلوب« يشتمل على اثنين وعشرين شرطًا يجب أن تتوفّر فيمن يتصدّر لأخذ العهد على المريدين وقبولهم في الطريقة النقشبنديّة. ومن هذه الشروط ما ينسجم مع روح الإسلام ويقع موقع القبول عند المسلمين. كقوله في الشرط الأول »أن يكون عالمًا بما يحتاج إليه المريدون من الفقه والعقائد بقدر ما يزيل الشبه الّتي تعرض للمريد في البداية ليستغنى به عن سؤال غيره محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.«
ولعلّ كثيرًا من الناس يقتنعون بمثل هذا المقال الّذي لا تخلو عبارات شيوخ هذه الطريقة منها؛ يقينًا بأنّ غايتهم لا تتجاوز إجماع أهل العلم والبصيرة في حاجة الإنسان إلى مَنْ يُعلِّمُهُ ويَدَرِّبُهُ ويُهَذِّبُهُ بالطرق المتعارف عليها. إلا أنّك إذا تابعتَ كلماتِهم واستقصيتَ ما ينطوي عليه بعضُ المقاطع من إفاداتهم، ظهرت لك حقيقة ما يقصدون من وراء ذلك مما قد سنّها لهم بعض كُبَرَائِهِمْ الّذين وقعت عظمتهم في قلوب العامّة حتّى أذعنت لهم، بحيث لم يشكّ أحد في صدقهم وأمانتهم وورعهم وعلوِّ مكانتهم عند الله رجما بالغيب؛ فاتّبعهم الخلفُ من شيوخ هذه الطريقة تقليدًا صرفًا. وأقوى دليل على هذ الواقع الخطير قول المؤلّف وهو يشرح الشرط الرابع عشر من آداب المشيخة - وهذا نصه: »يجب عليه أن يمنع المريدين عن التكلُّم مع غير إخوانهم إلا لضرورةٍ« المصدر السابق ص/ 526.
والغرض من قوله »غير إخوانهم« هم الّذين ليسوا من أتباعه؛ سواء أكانوا من المنتسبين إلى غيره من مشائخ الطرق الصوفيّة أم كانوا ممن لم يدخلوا في سلك الطريقة أصلا.(64/51)
ومن أين لشيخ الطريقة أن يفرض سلطانه على جماعةٍ من الناسِ فيتحكّمَ بها، فيمتلك إرادة أفرادِها ويُحَرِّمَهُمْ من الحديث مع غيرهم؟ من أين له هذا التحكّم أو الوصاية؟ وما حجّته في ذلك من الكتاب والسنّة؟ وأين هذا الكلام من قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا الله لَعَلّكْمْ تُرْحَمُونَ} سورة الحجرات/10. فهل من مقتضى الإصلاح أن يمنع شيخ الطريقة أتباعه من التكلم مع مَنْ ليس من جماعته من المسلمين، أم إنه من دواعي الشقاق وتفريق ذات بين المسلمين؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسهَرِ وَالْحُمَّى« البُخَاريّ، رقم الحديث: 5552؛ مسلم، رقم الحديث: 4686 فهل يمكن ذلك إذا منع شيخ الطريقة أتباعه من مجالسة الناس ومعاشرتهم، بل وحتّى من التكلُّمِ معهم؟ إذًا فما السبيل لقيام الناس بالتعاون فيما بينهم امتثالاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة/2. إذا منع كلّ شيخ جماعته من التكلُّمِ مع غير إخوانهم؟
يظهر من كلّ هذا أن شيوخ الطريقة النقشبنديّة قد ألغوا المؤاخاة الّتي عقدها الله بين المؤمنين فضربوها بعرض الحائط بإقرار محمّد أمين الكرديّ عليهم: بأنّه يجب على شيخ الطريقة أن يمنع المريدين من التكلُّمِ مع غير إخوانهم. وهذا يعني، أنّ جماعة كلّ شيخٍ إخوةٌ فيما بينهم؛ أمّا من سواهم، فانهم أجانب.(64/52)
يتابع الكرديّ مقالته في سرد شروط المشيخة، فيقول في الشرط الرابع عشر: »أن يجعلَ له خلوة ينفرد بها وحده، ولا يمكّنَ أحدًا من مريديه أن يدخلها إلاّ مَنْ كان خصّيصًا عنده« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 506، 526. طبعة مصر/1384هـ. طبعة مصر/1384هـ. يقول في الشرط السادس عشر: »أن لا يمكّنَ مريدًا من أن يطّلع على حركة من حركاته أصلا، ولا يعرف له سرًّا، ولا يقف له على نوم ولا طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فانّ المريد إذا وقف على شيء من ذلك ربما نقصت عنده حرمة الشيخ« المصدر السابق ص/ 526. لمزيد من المعرفة حول أقوالهم في آداب المشيخة، راجع المصادر التالية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 28. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 524 طبعة مصر/1384 هـ.. طبعة مصر1384هـ
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 9. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 13. إسطنبول-1994م.
* Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Ziyaüddin Gümü?hanevî. Pg. 237-246 ?stanbul-1984
إذًا يتّضح من هذه التوجيهات أنّ الغاية من وراء ما يُضمره شيوخ النقشبنديّة بهذه الآداب، ليس إلا إلقاء الهيبة في نفوس الجمهور وتسخير قلوبهم، وليشتغل الناس بذكرهم، ولتخضع وتذلّ الرقاب لعظمتهم. وليس أدلّ على هذا، ما جاء في فصل آداب المريد مع شيخه من كلام المؤلّف نفسه إذ يقول:(64/53)
»واقتصرنا على بعض المهمّات، وأعظمُها أن يُوَقِّرَ المريدُ شيخَهُ، ويعظّمه ظاهرًا وباطنًا معتقِدًا أنّه لا يحصل مقصوده إلاّ على يده. وإذا تشتّت نظره إلى شيخ آخر، حرّمه من شيخه، وانسدّ عليه الفيض. ومنها أن يكون مستسلمًا منقادًا راضيًا بتصرّفات الشيخ، يخدمه بالمال والبدن. لأنّ جوهر الإرادة والمحبّة لا يتبيّن إلا بهذا الطريق. ووزن الصدق والإخلاص لا يعلم إلا بهذا الميزان. ومنها أن لا يعترض عليه فيما فعله، ولو كان ظاهره حرامًا. ولا يقول: لم فعلت كذا؟ لأنّ من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبدًا...إلخ. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، ص/ 528. طبعة مصر/1384 هـ.. طبعة مصر/1384 هـ.
ثم يسجّل المؤلّف نقلاً عن بعضهم شعرًا في هذا الصدد، ومطلعه:
»وكن عنده كالميّت عند مغسل * يقلّبه ما شاء وهو مطاوع« المصدر السابق ص/ 528.(64/54)
نعم هكذا ينصح شيوخ الطريقة النقشبنديّة. وبهذا الإقرار والاعتراف يتبيّن أنّ موقفَهم من المريد ليس كموقف الأستاذ المعلّم من تلميذه. إذ يبذل الأستاذ للطّالب من حصيلة علمه، ويلقنّه القواعدَ، ويشرح له ما يخفى عليه من غريب الموضوع لدروسه، ويبسط له من دقائق مسائلها. ويقوم بحلّ عويصاتها وهو لا يألو جهدًا في الإجابة على سؤاله، ويتحمّل المشقّةَ حرصًا منه على تعليمه وتأديبه وتهذيبه ليحلَّ محله في إرشاد الناس، ولينطلقَ بإرادتِهِ الحُرَّةِ في وجوه الخير مستنيرًا ومنيرًا بالعلم والمعرفة. ولكن شيوخ النقشبنديّة يريدون أن يصبّوا المريدَ في قالب هذه الطائفة ويصهروه في بوتقتها ليُدخِلوه تحت رقابتهم المطلقة بما يسمّونه آدابَ الطريقة. فيصبح المريد بذلك مُعَرَّضًا للإستغلال بشخصيته وبكل ما يملك من مالٍ وجاهٍ؛ وقد يُستخدَمُ في تحقيق آمالٍ لا يمكن ضبطها وتحديدها. ولا يخفى دور المريدين بعد تسخيرهم في نشر الطريقة، وإذاعة شهرة شيخ الجماعة وإلقاء هيبته وعظمته في قلوب الناس وبسط سلطانه على المجتمع.(64/55)
ومن شاء أن يتأكّد من هذا الواقع فله أن يزور تكيةً التكيّة: قيل أصله "التكيئة"؛ من وكأ-يكأ. كوطأ-يطأ. جمعها: تكايا. ومنه اتكأ -على شئ- أي اعتمد وتحمّل عليه. و أوكأ إيكاءً: أي نصب له متّكأً. ومنه توكّأ. كما جاء في الآية الكريمة: {قَالَ هِيَ عَصَايَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا...}(20/18). يغلب أنّ مصطلح التكيّة، وضعها الصوفيّة انطلاقًا من هذا المعنى؛ بعد أن استوحاه الواضع من الكلمة المذكورة. لأنّ مفهوم التكيّة. يشمل هذا المعنى أيضًا. ولأنّ التكيّة مكان خاصٌّ، تجتمع فيه الصوفيّة. وهي بمنزلة المُتّكأ لهم. إذ يأوون إليها. و يقومون بإجراء حفلاتهم و طقوسهم فيها. هذه الكلمة شائعة بين صوفية الأتراك. يقابلها كلمة “الرباط" بين صوفية العرب، وكلمة "خانقاه" بين صوفية الفرس والهند. ظهرت التكايا بعد عصر السلف الصالح مع بداية الانحراف عن التوحيد الخالص، بدافع تقليد الأعجام الّذين اعتنقوا الإسلام بدون روية. فطبّعوه بتصوّراتهم. وابتدعوا ما ليس منه. فظهرت التكايا على غرار الصوامع الّتي يتعبد فيها الرهبان. كانت التكايا قد تطوّرت في أواخر العهد العثمانيّ، وأصبحت مجمّعات كبيرة من المباني والمرافق. تضمّ عددًا من الغرف و الحجرات. منها الصحن الرئيس الّذي فيه المحراب و مقام الشيخ، والمحفل المفصول بالشبّاك. وهو القفص الّذي يجلس فيه السلطان أثناء الحفلة. إنّ عدد التكايا الموجودة فقط بإسطنبول في عهد السلطان عبد الحميد، كان قد بلغ 311 تكيّةً. وكان يقوم بتنظيم شؤون التكايا على مستوى المملكة العثمانيّة مرجع روحانيّ بعنوان "المجلس الأعلى لمشائخ الطرق الصوفيّة". ثم أُلغي هذا المجلس وجميع التكايا والزوايا في بداية العهد الجمهوريّ يوم 30. نوفمبر. 1925م. بقانون رقم/677. من تكاياهم ثم يقارن بينها وبين أيّ بيتٍ من بيوت العلم.
***
آداب الذكر عند النقشبنديّة.(64/56)
الذكر في اللّغة: هو استحضارُ شيءٍ في الذهن معهودٍ فيما سبق؛ أو النطقُ به. وهو تحريك اللّسان لأداء المنطوق به ولو بصوتٍ خافضٍ. وفي الاصطلاح: هو ترديدُ أسمٍ من أسمائه تعالى أو النداءُ به، أو قراءةُ شيءٍ من القرآن الكريم في أوقاتٍ معيّنةٍ. والذكر توقيفيٌّ كسائر العباداتِ، لا يجوز إلاَّ بالكيفية الّتي وردت في السنّة. وضوابطها منصوصة في آثار السلف الصالحِ.
أمّا عند النقشبنديّة فله تعريفٌ يتعجّب منه العاقل المنصف العارف بمعنى كلمة الذكر ومفهومها. وله آداب يستغربها كل من له علم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإنما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم دونما حجّة يعتمدون عليها، وقد استوحاها بعض كبرائهم من الأديان القديمة، فبناها المتأخرون منهم على أثر سادتهم، زعموا أنّ الله أمر بالذكر على هذه الصورة المزيّفة.
***
الذكر بلسان القلب عند النقشبنديّة
يقول أحد رؤسائهم -وهو يشرح كيفية الذكر عندهم- ويزعم أنّ له اثنين وعشرين أدبًا؛ يقول في سياق كلامه:
»الثالث عشر: تغميض العينين، وإلْصاق اللّسان بسقف الحلق، والأسنان بالأسنان، والشفة بالشفة، وإطلاق النَفَسِ على حاله.«؛
»الرابع عشر: ذكر الله الله... بلسان القلب الخياليّ فقط، بلا ملاحظة نقشٍ ولا حبسِ نَفَسٍ أصلا. أعني أن يتخيّل لقلبه لسانًا يقول الله الله... وهو يسمع.«؛(64/57)
»الخامس عشر: استحضار مسمّى هذا الاسم المقدّس، وهو الذات العليّة الإلهية في القلب عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 3. مكتبة الحقيقة. إسطنبول – 1992م. « نعم هذه كانت نُبْذَةً من آداب الذكر عند هذه الطائفة. والله سبحانه برئ من ذلك. إذ يقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلَ بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ، وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} سورة الأعراف/205. فتبيّن أنّه لا يتم الذكر إلاّ بالقول. أي بإخراج الحروف من مخارجها مع صوتٍ أدناه أن يُسْمِعَ الذاكرُ نَفْسَهُ. وإلا بطل الحكم بالقول، واختفت الحكمة، واقتصر الأمر على مجرد التصور والتفكر؛ مع أنّ المراد من الآية الكريمة هو القول دون الجهر، وليس التصور والتفكر؛ وان كان المطلوب من الذاكر أن يكون حاضر القلب متأمِّلاً في معنى كلّ كلمة يذكرها. وفي هذا الباب يقول الإمام النووي رحمه الله: »اعلم أنّ الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبةً كانت أو مُسْتَحَبّةً، لا يُحْسَبُ شيء منها ولا يُعْتَدُّ بِهِ حتّى يتلفَّظ به بحيث يُسمِعَ نفسَه إذا كان صحيح السمع لا عارض له« محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ الدمشقيّ (631-676هـ.)، الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار ص/ 14؛ مع مختصر شرح بن علاّن. دار العربية للطباعة والنشر. بيروت.؛ نسخة أخرى بعنوان: حلية الأبرار و شعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار المعروف بالأذكار النواوية، ص/ 42. تحقيق علي الشربجي وقاسم النوري. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى بيروت-1992م.(64/58)
إذًا فالذكر شيءٌ والفكر شيءٌ آخر. وقد جمع الله بين هذين المفهومين في آيةٍ واحدةٍ وهو مثالٌ رائعٌ من الإعجاز القرآنيّ، وإفحامٌ لمن عمي قلبه فالْتبس عليه الأمران. وبيّن سبحانه وتعالى الفرق بينهما في مضمون قوله:
{إِنّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاِت وَاْلأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي اْلأَلْبَابِ* الّذينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ} سورة آل عمران/190، 191. أمّا الذكر بالقول »دون الجهر«، ففيه تعظيم لجنابه تعالى. إذ يعلم الله ما يجول في خلد الإنسان وما ينطق به لسانه سرًّا كان أو جهرًا. وكذلك فيه اجتناب من السمعة والرياء.
وما جاء في الآية المذكورة من قوله »ودون الجهر« فليس معناه تعطيل اللّسان من الذكر وإنما فيه توضيح لوصف طريقة الذكر وذلك أن لا يكون جهرًا ولا خفاءً بل يكون دون الجهر، وفوق الخفاء.
أمّا ما استحدثته النقشبنديّة من بدعة الذكر القلبيّ فان فيها سرًّا لا يكاد يطّلع على حقيقته أحد من متأخري مشائخ هذه الطائفة لجهلهم بما تعرّضت له طريقتهم من استحالات وتبدّلات، وما استوحت من الأديان والفلسفات من أفكار وتفسيرات، وما تسرّب إليها مع الزمان من مصطلحات دخيلة وتعبيرات غريبة.(64/59)
ذلك أن الطريقة النقشبنديّة قفزت إلى الهند في القرن العاشر الهجريِّ، فاستوحتْ من الديانة البرهمية والبوذية بعد أن نشأتْ في بلاد ما وراء النهر وتأثّرَتْ هناك بالشامانية والمزدكية، والمانوية في سابقها خاصّة فإنّ رجال هذه الطائفة، بدءًا من محمّد الباقي الكابُليِّ ومَنْ بعده إلى عبد الله الدهلويّ المعروف بشاه غلام علي، كلّهم من أهل الهند، وكلّهم متأثّرُونَ بالرهبنة الهندية بإقرار مشاهيرهم. ومنهم قسيم الكُفْرَويّ. إذ ينقل لنا صورةً جليّةً من حياة الروحانيّ الشهير بين أهل هذه النحلة، شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جَانِ جَانَان. وهو من الطبقة الثانية عشرة بعد محمّد بهاء الدين البُخَاريّ مؤسس هذه الطريقة. يقول الكُفْرَويّ: »إنه كان يقتصر على التغذّي من العُشب والثمرات، ويعيش في أماكن خالية من البشر، ولا يرتدي إلا قميصا« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? (Intiodaction)
Türkiyat Enst. no. 337 Istanbul-1949
إذًا يتبيّن لنا بوضوح أنّ هذا الرجل لم يكن على سنّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - بل كان على سنّة بوذا الراهب مؤسّس الديانة البوذية.
وإذا كانت حياة رجال هذه الطائفة صورةً من حياة رهبان البرهمية والبوذية، فلا محالة أنّ عقائدهم وعباداتهم أيضا كانت طبق عقائد أولئك الرهبان وعباداتهم ومناسكهم، خاصّة بعد أن قامت عشراتٌ من الدلائل القاطعة على ذلك. فثبت أن موضوع الذكر في الطريقة النقشبنديّة، وإن كان يتناول اسم ذات الله تبارك وتعالى أو كلمة التوحيد؛ إلا أن أسلوب أداء الذكر فيها مأخوذ من الديانة البوذية والبرهمية على الطريقة الجوكية (أي اليوغية) كما سيأتي شرحه في باب الرابطة إن شاء الله تعالى.
تدعو المناسبة هنا (وقبل الانتقال إلى مسألة الرابطة) أن نتطرّق ثانية إلى موضوع الذكر القلبيّ عند النقشبنديّة مع »حبس النفَسِ« وهي نقطة هامّة جدًّا.(64/60)
فعندما نعود إلى المصدر السابق أي إلى كتاب (السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة) لأديب الطائفة عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، نجد أنفسنا أمام ذلك التعريف الغريب نفسه للذّكر القلبيِّ مع إضافة شروط أخرى أشدّ غرابة من الشروط السابقة.
يباشر عبد المجيد الخانيّ في تعريف هذا الشكل من الذكر القلبيِّ فيقول:
»الثاني، ذكر النفي والإثبات. والمراد بالنفي والإثبات، كلمة التوحيد (لا إله إلا الله ). وهذا الذكر المبارك يعلّمه المرشد للمريد بعد ذكر اسم الذات باللطائف والتمكن من سلطان الذكر. وآدَابُهُ، هي آدابُ الذكر الأوّل؛ غير أنه بعد أن يلصق اللسان والأسنان والشفة كالأوّل، يحبس النفَسَ تحت سرّته ويتخيّل منها نقش (لا) ممتدّة إلى منتها دماغه، ويتخيّل من دماغه نقش (إله) ممتدّة إلى كتفه الأيمن، ويتخيّل من كتفه الأيمن نقش (إلا الله) مارًّا بها على اللّطائف الخمس ضاربًا بلفظ الجلالة على القلب منفذّا إلى قعره بقوة يتأثّر بحرارتها جميع البدن مع ملاحظة معنى هذه الجملة. وهو أنّه لا مقصود إلا ذات الله تعالى. وينفي بشق النفي جميع المحدثات الإلهية. وينظرها بنظر الفناء ويثبت بشق الإثبات ذات الحق تعالى. وينظره بنظر البقاء. ويقول في آخرها بلسان القلب (محمّد رسول الله). ويقصد بها أنه متبع له ويكرّرها على قدر قوّة نَفَسِهِ، ويُطلق نَفَسَهُ من فمه على الوتر من العدد. وهو المسمّى عند ساداتنا بالْوُقُوفِ العدديّ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/32-33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول – 1992م.
"الوقوف العدديّ"، مصطلح من مصطلحات النقشبنديّة. وهو اسم ركن من أركان السلوك عندهم، و عددها أحد عشر ركنًا. سيأتي شرحها قريبًا إن شاء الله تعالى في باب "مبادئ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة" في نهاية هذا الفصل.(64/61)
كان هذا تعريفُ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ للذكر القلبيِّ عند النقشبنديّة، دون أن يكون لهم سندٌ يُثبِتون به صلةَ هذا الشكل من الذكر مع القرآن والسنّة.
ولكن ما دام المؤلّف يرشد الناس إلى ذكر الله بهذه الكلمات »وذكر الله أفضل كل شيء« إذن فلا غرابة فيها عند أي إنسان ساذج جاهل بهذا الأسالوب الماكر، ولا بطُرُقِ الدسّ وتأثيراتها، واستحالة الأمور إلى صورٍ وأشكالٍ مشوّهةٍ مع الزمان؛ وكيف يلتبس الحق بالباطل على الناس من حين إلى آخر.
نعم قد لا يستغرب كثير من جهلةِ الناس هذا التعريف الدجليَّ المدلّس ولا يقدِّرُون خطورته »لأنّ اليهود والنصارى والمجوس أيضا يذكرون الله ويحبّونه ويعبدونه كالمسلين« فما عسى الغرابة في هذا التعريف؟(64/62)
ولكن أهل الإيمان الصادق والتوحيد الخالص والعلم الغزير لابد وأن يستغربوه ويتسائلوا عن »حبس النفَسِ« خاصّة أثناء الذكر. هذا ومن الأهمية بمكان، ومن الغرابة جدًّا، أن علماء المسلمين لم ينتبهوا إلى هذه الهرطقة مع أنها قديمة علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/41. صاري كز، إسطنبول-1291هـ. في عقائد الطائفة النقشبنديّة. يدل ذلك على غفلة كثير من أهل العلم عَبْرَ عصور الظلام. فلم نَعْثُرْ على شيء عن هذه المسألة في مؤلّفاتهم ومصنّفاتهم سوى ما قد سجَّلَهُ العلاّمة أبو الحسن الندويّ بإيجاز في ثنايا الجزء الثالث من كتابه »رجال الفكر والدعوة في الإسلام«. إذ يقول في مقطعٍ منه وهو يشرح التطورات الّتي حدثت في الطرق الصوفيّة المنتشرة على الساحة الهندية وخاصة الطريقة الشطارية وفرعَيْها؛ فيقول: »وينتمي الفرع الثاني إلى شيخ علي بن قوّام الجنبوريّ - المعروف بشيخ علي عاشقان السرائي ميري - بينه وبين الشيخ عبد الله الشطّاري واسطتان. قد مزجت هذه الطريقة لأول مرة تعاليم "يوكا" بالتعاليم الصوفيّة، واختارت من الأولى بعض الرياضات والأوراد، وحبس النفَسِ، ولقنت هذه التعاليم المريدين والسالكين كما ضمّت إلى الطريقة "علم السمياء" وقد جاءت تفاصيل هذه الأوراد وشروح الرياضات الخاصة في الرسالة الشطّارية الّتي ألَّفها الشيخ بهاء الدين الأنصاري القادري. وتوجد قصيدة للشّيخ محمّد الشطّاري في كتابه "كليد مخازن" ـ مفتاح الخزاين ـ تفيد عقيدة وحدة الوجود، وعدم التفريق بين المسجد والبيعة والمسلم والبرهميّ« أبو الحسن علي الحسني الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص/ 3/27، 28. دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية. الكويت-1994م.(64/63)
يقول الندويّ قي مقطعٍ آخر من كتابه المذكور: »وهنا في الهند -الّتي كانت منذ آلاف السنين مركز اليوك، والتنسّك والرهبانية- واجه الصوفيّة الواردون من الخارج، اليوكيّين المحنّكين المرتاضين الّذين كانوا ضاعفوا قوة نفوسهم ومتخيّلتهم عن طريق حبس الأنفاس والتأملات اليوكيّة المعروفة لديهم. فتعلّم بعض المتصوفة المسلمين منهم هذا الفن« المصدر السابق ص/217.
إلاّ أن مسألة »حبس النفَسِ لمزيد من المعرفة في مسألة "حبس النفَس والذكر القلبي" راجع المصادر الآتية:
* علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/41. صاري كز، إسطنبول-1291هـ.
* خالد البغداديّ، الرسالة الخالدية ص/ 67. (ترجمة: شريف أحمد بن علي؛ النسخة المتداولة بين أتباع محمود أسطى عثمان أوغلو في إسطنبول)
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 48. مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 48. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 81. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، ص/ 514. طبعة مصر - 1384 هـ.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول- 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 13، 26، 39-48. إسطنبول-1994م.« تحتاج إلى شيء من التوضيح هنا بمناسبة المقام، تمحيصًا للموضوع، وإجلاءً لأيّ شكٍّ قد يُخاتِلُ ذهن الباحث عن حقيقة هذه النحلة.(64/64)
من المعلوم أنّ الإنسان قد اكتشف ببحوثه وتحرّياته وتجاربه منذ الماضي السحيق إلى اليوم آلافًا من اساليب المعالجة لأزماته. ولا شكّ من أنّه قد حقّق أهدافًا عملاقةً يتمتّع بما قدّمت له في العصر الحاضر من السرعة والرفاهية والرخاء. إلا أنّه مع هذا قد وجد نفسه في وسطِ ضجّةٍ هائلةٍ من الأحداث الّتي هي في الحقيقة صنيعة يديه. وهو أمام هذه العاصفة في ارتباكٍ غريبٍ، ومعاناةٍ شديدةٍ واضطّرابٍ رهيبٍ لا يدري كيف ينجو من وطئته.
ومن جملة ما اهتدىَ إليه العقلُ البشريُّ من أساليبِ توفير الطمأنينة والهدوء، ثمّة تطبيقات غريبة من الطبِّ البديلِ وأشكال من الرياضة الذهنية، اكتشفها رهبان الديانات الهندية في القرون الماضية من خلال ممارستاهم وتجاربهم عَبْرَ فَتَرَاتٍ طويلة من التقشّف والإنزواء والتأمّل والتركيز، وما أشبه ذلك. فأضفوا عليها صبغةً من التصوف والروحانية؛ وذلك على سبيل المحاولة للاتّصال بما وراء الطبيعة، حتّى غدت تلك الممارسات من الآداب والأركان في الديانات البرهمية، واعْتَقَدَهَا مجوسُ الهندِ. وسُمِّيَتْ أخيرًا "اليوغا" "اليوغا" بتعبير أهله: "هي رياضة جسدية نفسية فكرية؛ فيها يخضع الإنسان جسده بوظائفه الإرادية طبعًا واللاّإرادية بالسيطرة العصبية إلى محض إرادته. وبواسطتها تتصل روحه بروح الربّ مسيّر الكون العظيم. فهي، أي اليوغا إذن (صلة الوصل) بين الإنسان وخالقه. وأصل الكلمة من اللّغة السنسكريتيّة الهندية القديمة؛ و تعني هذا المعنى". هذا التعريف مقتبس من كتاب اليوغا للمؤلِّفَيْن: المستشرق ج. توندريو، و ب. ريال. مكتبة المعارف. بيروت-1988م. يقول المؤلِّفان في مقدّمة نفس الكتاب: "فاليوغا طريقة مدهشة تُعَلِّمُنا فَنَّ اكتساب الصبر والهدوء والسيطرة، والمراقبة الذاتية، و تُكسِبُنا التركيز وحسن التفكير...إلخ."(64/65)
إنّ الضبط الشائع لهذه الكلمة في جميع المصادر المدوّنة بالحروف اللاّتينية ورد على شكل "يوغا"؛ والّذي يمارس هذه الرياضة يسمىّ "يوكي" أو "يوكين". أما في كتب الباحثين والمتصوّفة من العرب والمستعربين، فقد جاءت هذه الكلمة على اختلافٍ من الضبط. مثل: "الجوك" و “اليوك" و“اليوكا". وردت هكذا في بعض أعمال العلاّمة أبي الحسن الندويّ. وجاءت هذه الكلمة علي شكل "اليوغا" في ترجمة إلياس أيوب للكتاب الّذي ألفه ج. توندريو و ب. ريال. تحت عنوان: The Yoga. والممارس لهذه الرياضة، فقد جاء التعبير عنه مختلفًا أيضًا. مثل "الجوكي" وجمعه "الجوكية"؛ كما وردت التسمية بهم على هذا الشكل في رسالة الشيخ معروف النودهي البرزنجيّ الّذي طعن بها في خالد البغداديّ؛ و كذلك "اليوك" و"اليوكية" و "اليوكيّون-اليوكيّين" هي صيغ الجمع لـ "اليوكي"؛ أمّا الصيغة الشائعة للمفرد هي "اليوغي". وجمعها "اليوغية-اليوغيّون-اليوغيّين"؛ واسم هذه الرياضة "اليوغا". و للإطاع على مواقع هذه الكلمة في المصنّفات راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 6. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 304. دار الفكر المعاصر؛ بيروت..
* TDV ?SAM. 922.97 HAFT.T. 29819-1 ?stanbul-1949
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 33. مخطوطة (مصوّرة) ضمن مجموعة الزمرد العنقاء.
* TDV. ?SAM. 297-7 N?M. Z 46644
* أبو الحسن الندوة، رجال الفكر والدعوة في الإسلام. 3/27، 42، ، 217.
* Hüseyin Hilmi I??k, Vahhabiye Nasihat Pg. 105. Edition II. ?stanbul-1970
*Erich Fromm. Zen Budhism and psycoanalyses (All of them)
* Sir James Bolevard, Meditation )All of them)(64/66)
* منير بعلبكي، موسوعة المورد (إنجليزي-عربي)، 10/187. دار العلم للملايين؛ الطبعة الثانية. بيروت-1992م
*Feriduddin Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendilik. Pg. 269. Edition II. Süleymaniye Fondation. ?stanbul-2000 وقد اختلف فيها الناس: هل أنها دينٌ، أم أشكالٌ مستحدَثةٌ من الرياضة الذهنية والنفسية، منها »حبس النفَسِ«؛ وما عسى الحكمة والفائدة في حبس النفَسِ؟ وهو في الحقيقة إحراج البدن وإرغامه على فعل يخالف طبيعته. لا جرم أنّ هذا السؤال يخامر الإنسان بحكم الطبع. لأنّ في حبس النفَسِ مضايقة على الرئتين وإخناق لهما وتعطيل لوظيفة هامّة تقومان بها في سبيل استمرار الحياة.
إلاّ أنّ الأمر ليس في هذا المستوى من البساطة والسطحية كما تظنّه العامّة. بل إنّ »حبس النفَسِ« وبالأحرى »المراقبة على عمل التنفّس« من وجهة نظر الطب النفسيّ الجسديّ، هو أمر هامّ جدًا وخطوةٌ أساسيةٌ في تمرينات "اليوغا" الّتي هي في حدّ ذاتها رياضةٌ ذهنيةٌ ونفسيةٌ يمارسها كثير من الناس بصورة عقلانية صرفة دونما إلحاقِ صفةٍ دينيةٍ أو روحانيةٍ بها. ذلك للتّخلّص من الاضطرابات النفسية، ولتوفير الطمأنينة والهدوء والصحة البدنية والعقلية كما أنّها تروّض الإنسان على الصبر والسيطرة على الأعصاب بصورة طبيعيّة قد أقرّها علماء الطب المعاصر.
يقول شخصيتان من خبراء هذا الفن في وصف نمط من أنماط هذه الرياضة:
»إنّه شكل لا يبحث عنه إلاّ القليل من الناس وهو يتطلّب شروطًا خاصّة من الحياة. ولا يدركه إلا المتصوفون العظام؟ اليوغا، ج. توندريو-ب. ريال؛ تعريب: إلياس أيوب ص/ 29. مكتبة المعارف بيروت-1988. «(64/67)
يجب هنا أن لا نتغافل عما يتداعى هذا التوضيح الّذي انطلق قدماء النقشبنديّين من منهله في حقيقة الأمر فبنوا على جذور هذه الفكرة شطرًا من تعاليمهم. وجعلوا ما استقوا منها أدبًا من آداب طريقتهم في الذكر القلبيّ، وزعموا أنّ له أساسًا من الكتاب والسنّة وذلك بهتان عظيم.
إن »حبس النفَسِ« في مصطلح النقشبنديّين معناه إمساك النفَسِ داخل الرئتين قدر لحظات وهو »التنفّس اليوغيّ« الموزون المتواقت بعينه في الأصل والمنشأ كما يقول المستشرق ج. توندريو وزميله -عالم النفْس- ب. ريال:
»ولا بد للتّنفّسِ اليوغيِّ من أهمية في احتفاظ هواء الشهيق داخل الرئتين لفترة معينة« المصدر السابق ص/ 47.
وإليك وصفه على لسانهما ـ بشرط أن تتذكّر الآن ما نقلناه سالفًا من كتاب »السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة« لأديب هذه الفرقة، عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ حتّى تتمكّن من الوقوف على المشابهة التامّة بين »حبس النفَسِ« في الذكر النقشبنديّ وبين »التنفّس اليوغيّ« الهنديّ البرهميّ بالمقارنة بينهما. يقول الباحثان:
»إجلِسْ منتصبَ الجسمِ متدلِّيَ الذراعين. شهيق مع تركيزِ فكرِكَ على طريق الهواء (حسبما ورد أعلاه) إحتفظ بهواء الشهيق لمدة ثانيتين، أو ثلاث ثواني على الأقل. وهذا هو سِرُّ وميِّزة هذه الطريقة عن سابقها. لا حظ بأنّك تصبح أثناء هذا الاحتفاظ متوتِّرًا. فترتفع كتفاك ويَنْشَدّ جسمك. جرّبْ واستَرْخِ. اِزْفِرْ الهواءَ خارجًا من الأنف دومًا. إحتفظ برئّتيك فارغتين لمدّة ثانيتين أو ثلاثة. ثم أعد الكرّة من جديد بالشهيق الواعي. هذا التمرين يسمح لك بصورة خاصّة أن تدرك الفكرة، ولم يبق لك سوى التنفيذ حوالي عشر مرات يوميًا« المصدر السابق ص/ 48، 49.(64/68)
أليس هذا الّذي جعله النقشبنديّون مبدءًا من مبادئ ذكرهم؟ وهل يكتمونه عنادًا ومكابرةً حتّى لا يدخلوا بذلك في عداد المشركين من اليوغية الهندوس عن وعيٍ واختيارٍ وقصدٍ؟ كلا والله! ولكن الجهل قد بلغ بهم إلى حدّ، لو سمع منك غوثهم الأعظم كلمة "اليوغا" لتعجّب واستغرب؛ ولربما ظنّ أنّها اسم لنوع من الوحش أو النبات، أو العقاقير (كما حدث ذلك أثناء حوار مع أحد شيوخهم). ولو سألتَ أحدًا منهم عن معاني كلمات:
Nirvana, Meditation Trence, Mantra, وما شاكَلَهَا من مصطلحات مجوس الهند، لرأيته شاخصًا عينيه إليك وقد بُهِتَ؛ ولكنّه يكاد يُزْلِقُكَ بنظره الحادّ وقد خيّم عليه صمتٌ من حيرةٍ مشوبةٍ بالحقد، تُعَبِّرُ عما في ضميره من تساؤلات وأحاسيس غريبة، وهواجس معقّدَة، وتصورات وأفكار؛ حتّى هو بالذات لا يدري كيف يتخلّص من المأزق الّذي انحبس فيه أمام هذا السؤال الطارئ بسبب جهله معاني هذه الكلمات التافهة أو ربما طأطأ رأسه وكأنّه يستشير الشياطين ليستوحي منهم أخبث ما في قاموسهم من كلمات الشتم واللّعن والتهكّم ليقذفك بها بعد قليل انتقامًا منك على سؤالك؛ وتهدئةً للنار الّتي تتوقّد في صدره غضبًا عليك!
إذًا كيف بشيوخ النقشبنديّة مع هذا الجهل أن يتحقّقوا مما تسرّب إلى طريقتهم من تعاليم الديانة البرهمية عَبْرَ القرون؟
أما »حبس النفَسِ« أو المراقبة عليها بشروطٍ حدّدها، وأقرّها علماء الطبِّ النفسيِّ الجسديِّ بعد دراسات وبحوث وتجارب كما هو منصوص في مصنَّفاتهم فانّه حقيقة عقلانيّة تجربيّة وعلميّة ثابتة بالبراهين، ولا صلة بين هذه الحقيقة مباشرة وبين الجانب الروحانيِّ من الدين الإسلاميّ كما لا يعقل أن تمتَّ إلى التصوّف بشيءٍ.(64/69)
أما تطبيق هذه الطريقة العلميّة لأغراض صحيّة، فإنّ الحديث عنه ليس من اختصاص بحثنا، وإنما هو موضوع الطبِّ النفسيِّ الجسديِّ. إلاّ أنّ هذه الظاهرة الغريبة الّتي انتشرت في الآونة الأخيرة، ترجع في الأصل إلى تعاليم الديانتين الوثنيتين: البوذية والهندوسية. وهي من الأعمالِ ذات الصلة الوثيقة بالصهيونية، تُستعرض في أشكالٍ وأنماطٍ من الرياضة البدنية والروحية، وقد افتتحت منظمة اليوجا فرعًا لها في القاهرة عام 1975، وكان يقوم بالتدريب به شاب من الفليبين وفتاة أمريكية، وقد استطاع الاثنان أن يجذبا إلى مقر هذه المنظمة عددا من الشباب الجامعي للتدريب على اليوجا والإعداد للقيام بنشاط اجتماعي لتوعية أهالي القرى والمدن. وفى 16/7/1975 قبض رجال الأمن على الفتى والفتاة بعد أن اتضح قيامهما بنشاط ديني وسياسي والدعوة لتمييع الأديان والانتقاص من القيم الروحية، واتّضح أن هذه المنظمة تموّلها جهات صهيونية وأنّها فرع لمنظّمةٍ مركزها الرئيس في إسرائيل.
ولكن ينبغي هنا التأكُّيد على أن »حبس النفَسِ« ليس هو الأمر الوحيد الّذي استقاه قدماء النقشبنديّة من تعاليم اليوغية البرهمية؛ بل تركيزُ الفكر على جسمٍ بعينه أو تخييلُهُ من غير اتصال، أيضا هو من الأمور الّتي أخذتها الطائفة النقشبنديّة من تقاليد الهندوس دون أدنى شكّ، وهو المعبَّرُ عنه عندهم باستحضار صورة الشيخ في الخيال، والمصطلحُ في عقائدهم باسم "الرابطة"
***
الرابطة.
وما أدراك ما الرابطة؟ ألا إنّها لفتنة عظيمة انفجرت في العراق فنشبت بشرارة طارت إليها من الهند بعد عودة خالد البغداديّ من مدينة دلهي عام 1226هـ.(64/70)
كان قد سافر إليها من العراق سنة 1225هـ.علمًا بأنّ هذه الرحلة وقعت في مرحلة استيلاء الإنجليز على الساحة الهندية حيث يأبى دماغ الرجل المسلم الواعي أن يصدّق بمصادفة هذا الأمر دون برنامج سابق! فجاء بأفكار جديدة وآراء غريبة مستوحاة من البوذية والبرهمية. فبدأ يبثُّ النقشبنديّة على أساسها باسم الطريقة الخالدية. وابتدع لها ركنًا سمّاها "الرابطة"، بعد أن لم تكن الرابطة شيئًا معهودا ولا مسموعًا في الطرق الصوفيّة المنتشرة بين المجتمعات العجمية في المملكة العثمانيّة. فأثار البغداديّ ضجّة في مختلف أنحاء البلاد بهذه البدعة الخطيرة، وما دسّ معها من مستحدثات منكرة لم يكن القصد منها في الحقيقة إلا ضرب الإسلام من أساسه. فالقصّة طويلة سنشرحها في ترجمة خالد البغداديّ ضمن الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
أمّا الرابطة في عقيدة البغداديّ فهي من أعظم الأركان في الطريقة الّتي استحدثها بعنوان "الخالدية" إذ يغضب أشدّ الغضب على من وصفها بالبدعة فيقول:
»إنّ بعض الغافلين عن أسرار حق اليقين يعدّون الرابطة بدعة في الطريق ويزعمون أنّها شيء ليس لها أصل ولا حقيقة. كلاّ! إنها أصل من أصول طريقتنا العليّة النقشبنديّة. بل هي أعظم أسباب الوصول بعد التمسّك التامّ بالكتاب العزيز وسنّة الرسول« ورد نصّ هذه الرسالة ضمن المصادر الآتي ذكرها:
* محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 313. دار الفكر المعاصر؛ بيروت
* علماء المسلمين والوهّابيّون (مجموعة فيها خمس رسائل، من منشورات I??k Kitabevi). الرسالة الأخيرة منها. إسطنبول- 1978م.
* رسالة تذكار الرجال، الجزء الأوّل ص/ 44. جمعها عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)(64/71)
* كذلك نسخة منها موجودة بهامش كتاب الرشحات مع شرحها باللغة التّركية، طبعة صاري كز/ إسطنبول-1291هـ.
جاءت هذه الكلمات في مستهلّ رسالةٍ بعثها إلى محمّد أسعد أفندي الإسطنبولي، إذا صحَّ ممّن أسندها إليه. فقد عبث المؤلّف في هذه الرسالة بالمفاهيم، فجمع فيها بين كلماتٍ ومصطلحاتٍ شتّى؛ وآرء متباينة ومتناقضة وهو يحاول أن يجعل بين طريقته وبين الإسلام صِلَةً. وذلك من أساليب الباطنية. لأنهم يتعرّضون في كل عصرٍ لهجماتٍ عنيفةٍ من علماء المسلمين، فإذا عجزوا عن مقاومتهم لَجَأوا إلى مدِّ الجسور بين مذاهبهم وبين الإسلام ليبرّروا بها حجّتهم.
فقد شنّ البغداديّ هجومًا على من عدَّ الرابطة بدعةً، ثم دافع عنها بقوله: »كلاّ، إنّها أصل من أصول طريقتنا...إلخ«. قد يكون البغداديّ صادقًا في هذا المقطع من كلامه. لأنّه ما يسمى "الطريقة"، فإنها من صنع الصوفيّة بجميع مباديءِها وفلسفتِها وطقوسِها وصورةِ أدائِها. إذًا لا غرابة في إضافة أشكالٍ أخرى من البدع إلى مبادئ الطريقة وأصولها متى شاء زعيمها الّذي يُذعن له جمهورُ المريدين.
أمّا قوله »بل هي أعظم أسباب الوصول...إلخ«، فإنها جرأةٌ على الله وجنايةٌ على الإسلام، وبهتانٌ عظيمٌ على كتاب الله وسنّة رسوله! - صلى الله عليه وسلم -
نعم، يجوز عقلاً أن تكون الرابطة أصلاً من أصول الطريقة النقشبنديّة. إذ هي في الحقيقة ديانة مستقلّة بأصولها وآدابها وأركانها وطقوسها ولكن طُلِيَتْ من خارجها بصبغة من الإسلام. إذن فلا مانع من أن يضيف إليها الروحانيون ما طاب لهم من آدابٍ وأصولٍ أو يلغوا منها شيئًا.(64/72)
أمّا محاولة البغداديّ من وُجْهَةِ نظر الإسلام في قوله: »بل هي أعظم أسباب الوصول...إلخ« فانّ ذلك رأيُهُ الخاصُّ. وقد اعتاد رجال الطرق الصوفيّة هذا الأسلوبَ قديمًا. وغايتهم منها أنّ المريد إذا سلك ما أشار عليه به شيخه طبقًا للخطّة الّتي تنصّ عليها فلسفة التصوف، ظَفَرَ بالوصول إلى الله ! بينما الكتاب والسنّة، لا نجد فيهما شيئا يؤكّد على وصول العبد إلى الله بإجراء آداب الصوفيّة واشتراكه في طقوسهم. بل الّذي يظفر به العبد ويحظى من الفوز (بالعمل الصالح) هو رحمةُ الله ومغفرتُهُ ورضوانهُ والأجرُ الحسنُ والجنّةُ ونعيمُها كما قال تعالى: {الّذينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ الله أُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} سورة التوبة/20، 22. وقال تعالى: {وَعَدَ الله الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} سورة المائدة،/9 وقال تعالى: {إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ نَعيِمٌ * خَالدِينَ فِيهَا، وَعْدَ اللهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزيِزُ الْحَكيِمُ} سورة لقمان/8، 9.(64/73)
هذا، وفي كتابِ اللهِ آياتٌ كثيرةٌ غيرها. ثم المراد من مفهوم »العمل الصالح« واضحٌ في منتهى الوضوح من خلال ما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وهي أداءُ الفرائض من الصلاةِ والصومِ والحجِّ والزكاةِ والجهادِ وما يتّصل بها من السننِ والنوافلِ والصدقاتِ؛ وكذلك تزكية النفس الإنسانية بالفضائلِ والسيرةِ الحسنةِ والسلوكِ المثاليِّ الرفيعِ، كالصبرِ، والقناعةِ، والزهدِ، والعفّةِ، والحيطةِ، والتبصُّرِ، والوعيِ والجرأةِ، وحبِّ التعلُّمِ، وحبِّ النظافةِ، وصفاءِ السريرةِ، وتوقيرِ ذي الشيبِ من المؤمنين، والرحمةِ بالصغارِ والضعفاءِ والمرضى، والشفقةِ على خلق الله من سائر الإنس والأحياء -بشروطها- واللّطافةِ والحلمِ ولينِ الجانبِ في المعاملةِ، وتشميتِ العاطسِ، وإفشاءِ السلامِ، وبشاشةِ الوجهِ، ومواساةِ المغمومين، وتعزيةِ المحزونين، وتسليةِ المهمومين، والإحسانِ بالجودِ والكرمِ والافتداءِ؛ والتحلِّي بالأدبِ والوقارِ، والتعاونِ مع أهل التوحيدِ، ومشاركةِ المؤمنين في السرّاءِ والضرّاءِ، ومساعدتِهم على تحقيق كلِّ هدفٍ يخدمُ وحدةَ المسلمين، ويجمعُ صفوفَهم ويمهِّدُ السبيلَ لتوفيرِ الحرّيّةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ والأمنِ والسلمِ والهدوءِ والطمأنينةِ والسعادةِ والرخاءِ والازدهارِ على وجه البسيطة..
هذه كلّها، هي المراد بها من كلمة »العمل الصالح« الواردة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم وعلى صِيَغٍ مختلفةٍ يضيق المقام من حصرها.
أمّا قيام العبد بإجراء مراسم النقشبنديّة على وفق ما ورد في شرح مصطلحاتهم »هُوشْ دَرْدَمْ، و نَظَرْبَرْقَدَمْ، و سَفَرْدَرْوَطَنْ، و خَلْوَتْ دَرْأَنْجمَنْ... إلخ« بقصد العبادة فانّه خروج على الإسلام لا جرم، وتحريف لدين الله!(64/74)
ومن جملة ما عبث به البغداديّ وخلط في عباراته المذكورة أيضا: أنّه اختلق صلةً موهومةً بين الرابطة وبين كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فحاشا لله، أن يكون في كتابه، أو في سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أدنى شيء يشير إلى رابطة الباطنيّة. بل كتاب الله برئ من هذه الفرية. { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنِ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. سورة فصّلت/42.
كانت هذه خلاصةٌ لنشوب فتنة الرابطة منذ أن أصبحت ركنًا من أركان هذه النحلة بعد عودة خالد البغداديّ من بلاد الهند، فشوهد تطوّرٌ كبيرٌ وتغيُّرٌ جذريٌّ في عقائد الطائفة النقشبنديّة عقب هذا الحدث كما أثار خلافًا كبيًرا ونزاعًا شديدًا بين هذه الفرقة، وبين رجال الطريقة القادرية. وهي أيضًا فرقة من الفرق الباطنيّة.
أما تعريف الرابطة، فقد جاء في الرسالة المذكورة نفسِها لخالد البغداديّ، وهو يقول:
»إذ هي في الطريقة عبارة عن استمداد المريد من روحانيّة شيخه الكامل الفاني في الله بكثرة رعاية صورته ليتأدّب، ويستفيض منه في الغيبة كالحضور. ويتمّ له باستحضاره الحضور والنور وينزجر بسببها من سفاسف الأمور« خالد البغداديّ، رسالة في تحقيق الرابطة (ضمن كتاب: علماء المسلمين والوهّابيّون -مجموعة فيها خمس رسائل، من منشورات إيشيك كتاب أوي). الرسالة الأخيرة منها. إسطنبول-1978م.
لقد ورد في هذا المقطع من كلام البغداديّ ثلاثُ نقاطٍ خطيرةٍ لا تتمّ الرابطة إلاّ بها عند النقشبنديّة: أُوّلُهاا: أن يستمدّ المريد من روحانيّة شيخه؛ وثانيها: أن يكون الشيخ فانيا في الله (؟!)؛ وثالثها: أن يستحضر المريدُ صورةَ الشيخ في ذهنه. وهكذا تظهر خطورة هذه العقيدة بتمام معناها؛ خاصّة عندما يدّعي أصحابها أنّهم مسلمون!
***
شروطُ الرابطة وصورةُ أداءِها.(64/75)
فقد جاءت تعريفاتٌ متفرّقةٌ في رسائلَ مختلفة لمتأخّري شيوخ النقشبنديّة حول شروط الرابطة وصورة أدائها. فالحقيقة، وإنْ كان عددٌ منهم قد دوّنوا آدابَ طريقتِهم، كخالد البغداديّ ومن سار على أثره من أمثال محمّد بن عبد الله الخانيّ وحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، ومحمد أمين الكرديّ، وجماعة من الترك؛ إلاّ أنّنا لم نَعْثُر لأحد منهم حتّى الآن على كتابٍ يضمّ بين دفتيه جميعَ ما أُدْخِلَ في عقيدةِ هذهِ الطائفةِ منذ بدايتها إلى اليوم. ولهذا نجد شروطَ الرابطة وصورةَ أدائِها متفرقةً في رسائلَ مختلفةٍ جمعناها في هذا الباب. وهو دليلٌ آخرُ على أنّ كلَّ من أراد من الشيوخ أنْ يَفْرِضَ هيمنتَه على جماعةٍ من هذه النحلةِ جاء بشيء جديد. وهكذا استمرّت مسيرةُ هذه الطريقة ومصيرُ أهلِها على أيديهم، يتصرّفون في توجيههم، وفي آداب ما تلقوه من ساداتهم؛ يزيدون فيها تارة، وينقصون منها تارة أخرى، ممّا لا يستقرّ الأمر معهم حتّى يتمكن أحد من جمع مبتدعاتهم في كاتب واحد.
***
وخلاصة ما قيل في صورة أداء الرابطة وشروطها:
أوّلها: أنْ يكونَ المريدُ قد بايع »شيخًا فانيًا في الله« -على حدِّ قولهم- وقد وقعوا هنا في تلفيق شديد ينافيه العقل السليم. إذ أنّ المريد الّذي يقصد شيخًا ليبايعه، فهو ما زال جاهلاً بأمور الطريقة عندهم. إذن فكيف به أن يتأكّد من أنّ الشيخَ الّذي قصده قد فني في الله؟! فضلاً عن أنّ مثل هذه الهرطقة حربٌ علىالحنيفية.
هذا هو أسلوبهم المضّطرب المتذبذب في الصياغة والتعبير عمومًا وفِي اخْتلاق الآداب والأركان لِطَرِيقَتِهِمْ خاصّة. يُطلقون الكلمة على عواهنها بصرف النظر عمّا سوف يطّلع عليها أهل العلم والخبرة فيفتضح أمرهم؛ وذلك إمّا عن جهلٍ أو إمّا عن حظِّ نفسٍ والله أعلم بما في صدورهم.(64/76)
ثانيها: أن يكون المريد طاهرًا من الحدث الأكبر والأصغر. وإنّما اشترط من اشترط منهم الطهارة مكرًا، ليواري هذه البدعة بلباسٍ من شعار الإسلام، وهو الوضوء، ولتكتسب الرابطة بذلك صفةً شرعيةً، وصورةً من صور العبادة، تفاديًا لأيّ شكّ قد يدبّ في مشاعر المسلمين وتضليلاً للغافلين. على الرغم من أنّه لم يتصدّ أحدهم قائلا بأنّها عبادة إلاّ رجل من أصل تركيّ اسمه مصطفى فوزي. وهو من أتباع أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ. راجع ترجمتهما بالتفصيل في المصدر التالي:
Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Ziyaüddin Gümü?hanevî, Hayat? ve Eserleri. قال في بيت من رسالته المنظومة باللّغة التركية تحت عنوان »إثبات المسالك في رابطة السالك« ومآله بالعربيّة:
»الرابطة فريضة من جملة الفرائض الّتي عَدَدُهَا أربعة وخمسون فريضة، وهي دليل العاشقين« النصّ التركيّ للبيت المذكور باللهجة العثمانيّة و بالحروف العربية: "أللي درت فرضدن بريدر رابطه * أهل عشقك رهبريدر رابطه." مقتبس من رسالة إثبات المسالك في رابطة السالك لناظمها مصطفى فوزي، ص/ 19. إسطنبول- 1324هـ.
وثالثها: أن يكون الباب مغلقا. يستدلّون في ذلك بحديثٍ. جاء في تنوير القلوب لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ في فصل "ختم الخواجكان". قال: "إغلاق الباب. ويعضده حديث الحاكم عن يعلى بن شداد، قال: هل فيكم رجل غريب؟ قلنا لا يا رسول الله! فأمر بغلق الباب و قال ارفعوا أيديكم." ص/ 521. وحقيقة الأمر ليس كذلك؛ وإنّما ابتدعوا هذا الشرط أسوة بِرُهْبَانِ البرهمية الّذين ينزعون إلى الخلوات استعدادًا للّتأمّل والتركيز. علمًا بأن العبادة في الإسلام عَلَنِيَّةٌ كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة والأضحية والجهاد بمختلف أشكالها. وإنّ في ذلك لحكمةً بالغةً ودروسًا وعِبَرًا وتعليمًا وتهذيبًا للجمهور.(64/77)
أمّا إغلاق الباب، فانّه من أمر البرهمية والرهبانيّةَ. والرهبانيّةُ سلوكٌ روحانيٌّ متطرّف، وجمود، وخمول وعزلة وتقشّف. لها أشكال متباينة من الرياضة الذهنيّة والبدنيّة؛ مؤدّاها الكراهيّة للحياةِ ونضرتِها وجمالِها ونعيمِها الّتي خلقها الله ليتمتّع بها عباده بوجوه مشروعة. ولا تمتّ الرهبانيّة بصلةٍ إلى الإسلام. وإنّما الإسلام دين حنيف، ربّانيّ، عَلَنِيٌّ، ونظامُ حياةٍٍ؛ وسلوكٌ رفيعٌ؛ وعبادةٌ، وطهارةٌ، وفضيلةٌ، وسياسةٌ، ودراسةٌ، وعلمٌ، وبحثٌ، ومعرفةٌ، وهدايةٌ، ونورٌ من وحيه تعالى. {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله اْلأمْثَالَ للنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ.} سورة النور/35.
أما التركيز فما هو بشيء في الإسلام؛ وليس له أدنى علاقة بما جاء في مواطن كثيرة من القرآن الكريم كقوله تعالى { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.} وقوله تعالى { لَعَلَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.} وما في هذا المعنى؛ إنّما هو نوع من تمارين اليوغا، كما سبق البحث عنه في موضوع »حَبْسِ النَّفَسِ«. وأمّا ما يتعلق بمفهوم "التركيز"، فيقول المؤلِّفان: المستشرق ج. توندريو، وعالم النفس، ب. رئال في كتابهما "اليوغا".
»التركيز: وهو تثبيت الفكر على نقطة واحدة، أو شيء، أو فكرة، أو عن المطلق«. ويقولان أيضًا: »هو مقدرتك على تثبيت الفكر على نقطة خاصّة معيّنة« ج. توندريو- ب. رئال، اليوغا، ص/ 30، 36. تعريب: إلياس أيوب. مكتبة المعارف بيروت-1988م.(64/78)
فتبيّن بهذا أنّ التركيز، ليس شكلاً من أشكال العبادة؛ ولا فيه طلب لمرضاة الله تعالى بمحض هذا المعنى، وإن كان مُسْتَوْحى من الديانات الهنديّة. وإنما هو بمجرّد فعله تمرينٌ ذهنيٌّ عقلانيٌّ غايته: السيطرة على الأعصاب، ليتحكّم الإنسان بها على نفسه، فيقودها إلى ما فيه صلاحه. وقد تكون فيه مصالح كثيرة - على أنْ لا يتعدّى هذا الحد غايته- كترويح الذهن، وإجلاء الهموم والغموم، ورفع الأعباء عن العقل والجسم، خاصّة وفي عصرنا الّذي تعاني نفسيّة الإنسان في ظروفه القاهرة المدمّرة للأعصاب من جرّاء ما يشاهد، أو يقرع سمعه من أحداثٍ داميةٍ، وقلاقلَ واضطراباتٍ وضجيج. فقد شاع بين الناس استعمال العقاقير والمخدِّرات والكحول؛ وانهمكوا في اللّهو والمجون والدعارة كنتيجة لهذه الأسباب. لأنّ الإنسان المعاصر التعيس الّذي لم يعد يحظى من قوّة الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد ضعفت صلتُهُ وثقتُهُ بربّه وتلاشت معنويّاته، وبالتالي أصبح في دوامة عمياء تساوره الهواجس، وينتابه القلق، وتزدحم أفكار رهيبة في ذهنه.
فإذا كان مراده الخلاصَ من مشاكله النفسية، والقضاءَ على ما يعاني من التوتّر والأرق والخوف والقلق، كحلٍّ طبّيٍّ؛ لا نجد في الإسلام ما يمنعه من القيام بتمارين رياضية لا تتعارض في شكلٍ من أشكالها مع شيء من تعاليم الإسلام.
ولكن شيوخ النقشبنديّة قد جاوزوا به هذا الحدّ إلى تثبيت الفكر على صورة الشيخ. فجعلوا منه شرطًا أساسيًّا للرّابطة.
أمَا مَنْ رأى منهم إغلاقَ الباب أقرب إلى الإخلاص في العبادة، فانهم أصلا لا يعبدون الله وحده -وإن نفوا هذا الاتهام بشدَّةٍ- بل موقفهم من مشائخهم يتميّز بإجلالٍ خَاصٍّ، يظهر من خلال ما يصفونهم ويرابطونهم في صورة من الإشراك بالله.(64/79)
هذا ولا يتمّ الإخلاص لله سبحانه إلاّ بالتوحيد الْخالص ونفي جميع الأنداد. إذ لا إخلاص مع الشراك. ثمّ إنّ الإخلاص لا يتوقّف على الإسرار في العبادة، وإلاّ وجب حظر الإعلان في سائر الطاعات وذلك مخالف للشّرع، إلا في أمورٍ خاصّة ونادرةٍ، كالتطوُّع والتصدُّق، تفاديًا للسمعة والرياء. وهذا لا يسحب على سائر العبادات.
ورابعها: أن يختار المريد محلاًّ تغلب فيه الظلمة إذا كان الوقت نهارًا. أو يعدّه بصورة خاصّة، كإسدالِ الستائرِ على النوافذِ أو إطفاءِ المصابيحِ إذا كان الوقت ليلاً.
وخامسها: أن يغمض المريد عينيه أثناء الرابطة.
وسادسُها : أن يراقبَ أنفاسَه في كل زفيرٍ وشهيق.
وسابِعُها: أن لا يتحرّك من مكانه.
وثامِنُها : أن يستحضر صورةَ شيخِهِ في خياله على المنوال الّذي سبق في موضوع التركيز. وعلى هذا الشرط مدارها.
وتاسِعُها: أن يستمدَّ من روحانية شيخه. والمريد مُلْزَمٌ بأداء الرابطة لشيخه في معظم أوقاته. وإلاّ فهو مُهَدَّدٌ بانقطاع البركة عنه!
فإنّ جميع هذه الأمور مستوحاة من الديانات الهندية ما عدا الشرط الثاني لسببٍ ذكرناه آنفا.
***
أوّل مَنْ أحدث الرابطة.(64/80)
إنّ أوّل مَنْ تصوّر هذا الشكلَ المخصوصَ لربط المريد بالشيخ في الطريقة النقشبنديّة. هو عبيد الله الأحرار وإن كانت جماعةٌ من هذه الطائفة تدّعي أنّها مأثورة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فلا نعثر على اسم من نطق بهذه الكلمة قبل الروحاني المعروف بـ "الأحرار" وذلك، ورد بحث الرابطة مرتين في كتاب الرشحات. علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/ 354، 360. صاري كز، إسطنبول-1291هـ. جاء فيهما أن الأحرار أوصى بها فحسب. ولم يزد المؤلّف على ذلك مما يدل على أنّ الرابطة لم تكن أمرًا هامًا ولا »ركنا عظيمًا« من أركان هذه الطريقة يومئذ كما يدلّ على أنّ هذه الفكرة تطوّرت مع الزمان وخاصّةً بعد أن قفزت الطريقة النقشبنديّة إلى الهند في عهد الباقي بالله الكابُليِّ ثم بعد ذلك تناولها شيوخ هذه الطائفة الّذين نشأوا في تلك البلاد، وبنوها على أسس مستوحاة من البرهمية والبوذية المنتشرتين في الهند. إلا أنّ الرابطة لم تكن أمرًا هامًّا في عهدهم أيضًا إذ لم يتناولها إلاّ رجلان منهم. أحدهما أحمد الفاروق السرهنديّ المعروف بين أتباع هذه النحلة بـ "الإمام الربّانيّ" فقد جاء في رسالة فارسية له، بعثها إلى شخص اسمه أشرف الكابُلي، جاء فيها:
»إنّ هذه الرسالة موجّهة إلى خواجه أشرف الكابلي في بيان أن الرابطة أنفع للمريد من الذكر. أمّا الّتي كتبها الأصدقاء، فقد نظرتُ في مضمونها، واطّلعت على الأحوال المسطورة فيها. واعلموا أن رابطة الشيخ لكلّ مريد بلا تكلّف ولا تصنّع هي دلالة على مناسبةٍ تامّة بين المرشد والمريد. وهي سبب للإفادة والاستفادة ولا طريق للوصول أقرب من طريق الرابطة. ومن سلكها فهو سعيد.«(64/81)
»لقد ورد في كتاب الفقرات لخواجه أحرار... أنّه قال: القول هنا باعتبار النفع. يعني ظلّ المرشد أنفع للمريد من أن يشتغل المريد بذكر الله...إلخ« و هذا النصّ الأصليّ باللّغة الفارسيّة للرسالة المذكورة ورقمها: 187. : "بخواجة محمّد أشرف كابلي صدور يافته؛ در بيان آنكه طريق رابطه، أقرب طرق موصله است. و در بيان آنكه رابطه نافع تر است مريدرا از ذكر كفتن. أو كتابت كه بيارانرا نوشته بودند بنظر در آيد. أحوال مسطورة مطّلع كشت. بداند كه حصول رابطهء شيخ هرمريدرا بي تكلّف و بي تعمّل علامت مناسبت تام است در ميان بير و مريد كه سبب افاده و استفاده است. و هيج طريقي اقرب بوصول از طريق رابطه نيست. تا كدام دولتمندرا بان سعادت مستعد سازند. حضرت خواجه أحرار… در فقرات مي آرند كه سايهء رهبر به است از ذكر حق. به كفتن باعتبار نفع است. يعني سايهء رهبر نافع تر است مريدرا از ذكر كفتن...إلخ" نسخة كراتشي.ص/301. 1392 هـ.(64/82)
إذًا يتّضح لنا أنّ الرابطة لم تكن في عهد الربّانيّ ركنًا من أركان الطريقة النقشبنديّة؛ فضلاً عمّا قبله. وإنّما خالد البغداديّ هو الّذي وضع لها تعريفًا خاصًّا، وزاد على هذا التعريف منَ جاء بعده من خلفائه كما وضعوا لها شروطًا ورتّبوها على هيئة من النسك حتّى اعتقدها جماعة من أتباعهم أنّها شكل من أشكال العبادة. وسعى كثير منهم لأدائها والدفاع عنها تقرّبًا إلى الله. وهم يجهلون أنّه لا يتقرّب العبد إلى الله إلا بما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أشكال العبادات كما يجهلون أنّ الكتب المنزلة قبل سيّدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - إنّما حرّفها اليهود والنصارى بأمثال هذه البدع {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْمَلُونَ} وقد قال الله تعالى فيهم: { فَوَيلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} سورة البقرة/75-79.
أما الرجل الثاني الّذي تناول الرابطة بعد عبيد الله الأحرار، هو تاج الدين بن زكريا بن سلطان الهنديّ زميل أحمد الفاروقيّ. جاءت في عجالّتين له عبارات مختصرة حول الرابطة. منهما الرسالة المعروفة بـ"التاجية". قال في مقطع منها:(64/83)
»الطريقة الثانية: طريقة الرابطة بالشيخ الّذي وصل إلى مقام المشاهدة وتحقّق بالتجليات الذاتية. فإنّ رؤيته بمقتضى -هم الّذين إذا رأوا ذكر الله- تفيد فائدة الذكر. وصحبته بموجب -هم جلساء الله- ينتج صحبة المذكور، وإذا تيسّر صحبة مثل هذا العزيز، ورأيت أثره في نفسك، فينبغي لك أن تحفظ ذلك الأثر الّذي تشاهد فيك بقدر الإمكان. وإن حصل لك ببركة ذلك الأثر. هكذا تفعل مرة بعد أخرى، متى تصير تلك الكيفية ملكة لك. وإن لم يظهر من صحبة ذلك العزيز أثر، ولكن حصلت به محبة وانجذاب، فينبغي أن تحفظ صورته في الخيال وتتوجه للقلب الصنبوريِّ، حتّى تحصل لك الغيبة والفناء عن النفس. وإن وقفت عن الترقي، فينبغي أن تجعل صورة الشيخ على كتفك الأيمن في خيالك وتعتبر من كتفك إلى قلبك أمرًا ممتدًّا. وتأتي بالشيخ على ذلك الأمر الممتّد وتجعله في قلبك فانّه يرجى لك بذلك حصول الغيبة والفناء« تاج الدين بن زكريا الهنديّ، الرسالة التاجية. مكتبة جامعة إسطنبول- خزانة الآثار النادرة، رقم/3640
***(64/84)
وقال تاج الدين بن زكريا فيما دوّنه تحت عنوان »آداب المشيخة والمريدين«: »فطريق الرابطة -وهي رابطة القلب مع الشيخ-: فرؤيته بمقتضى -الّذين إذا ذُكر الله- تحصل لهم الفائدة كما تحصل الفائدة من الذكر بموجب -هم جلساء الله- لأنّ الشيخ كالميزاب، ينزل الفيض من بحره المحيط. وإنْ وجد الفتور في الرابطة، فيحفظ صورة شيخه في خياله بموجب -المرء مع من أحب- فيحفظ الصورة، يتحقق ويتّصف المريد بأوصافِ وأحوالِ الشيخ كما كان له« من المصدر السابق أيضًا؛ إلاّ أنّ عبارات هذا الشيخ الهنديّ قد جاءت في منتهى الركاكة و التكلّف؛ تدلّ على قريحته العجمية و طبعه الجلف و حظّه التافه من العلم. و بالتالي يبرهن على أنّ الخلط و العبث والتحريف الّذي تعرّضت له المفاهيم الإسلامية الأصيلة، إنما هي صنيعة أصحاب تلك الطبيعة الغليظة الّتي لم يتمكّنوا بسببها من المعرفة الصحيحة بحقيقة الإسلام حتّى دفعهم هواهم إلى اختلاق بدعٍ وهرطقاتٍ استقوها من عقائد أهل الشرك . فدسّوها إلى الدين الحنيف جهلاً أو قصدًا، والله أعلم بنيّاتهم.
هكذا يبدو أن الرابطة لم تَعْدُ هذا الحدّ من التطّور إلا بعد مضيِّ ثلاثمائة عام على موت عبيد الله الأحرار؛ أوّلِ من نطق بهذه الكلمة حتّى جاء خالد البغداديّ فبناها على شروطٍ عدةٍ ذكرناها آنفا؛ وجعل منها »أصلاً من أصول الطريقة النقشبنديّة«
***
الغاية من الرابطة
الرابطة من حيث الغاية ليست إلاّ وسيلة لترويض المريد على تبعية الشيخ بكلّ ما يملك من نفس ومال ومقدرة. ويؤكّد على هذه الحقيقة ما قد ورد في مقولات شيوخ الطريقة من ترغيب المريد على الاستسلام المطلق للشّيخ. بل وإنّ طاعة المرشد عند هذه الطائفة، من أهمّ آداب المريد مع شيخه. وقد جعلوها شرطًا مفروضًا على كلّ من ينخرط في سلكهم كما مّر ذكره في باب "البيعة". كذلك رابطة الشيخ (أي استحضار صورته في الذهن) أفضلُ من ذكر الله عندهم، كما ورد في فقرات الأحرار.(64/85)
إذًا يجب هنا التفريق بين كلمتي "التبعيّة" و "الإتّباع" إذ لا مجال للإتّباع في »آداب المريد مع شيخه« وإنّما المطلوب من المريد أن يكون تَبَعِيًّا وليس مُتّبِعًا لأنّ المتَّبِع يتماشى مع المتَّبَع عن وعيٍ ويوافقه عن فكرٍ وتعقُّلٍ بعد استكشاف العلل ومقارنته الأسبابَ، وبحثه في المقدمات؛ ليستخلص النتائج منها بالحكم والتصديق وهذا من صفات المؤمنين بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ كأصحاب سيّدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم -، ورضوان الله عليهم أجمعين. أمّا الإنسان التبَعيُّ فليس أمره كذلك. وإنّما هو مسلوب الإرادة، مضطرّ لا خيار له، ولا علم له بما قد سُلب منه. ولكّنه ليس كمن هو مضطهَدٌ مقهورٌ ومكرَهٌ على فعل شئ أو تركه؛ ولا كمن تحكّم فيه ظالم لا طاقة له به؛ ولا كمن هو مولعٌ بشخص لحسنه وجماله؛ ولكنّه مغفَّلٌ مطبوعٌ، جذبه دجّالٌ من ورائه، فألقى عليه محبَّتَه وهيبتَه بدعاياتٍ خلاّبةٍ ودعواتٍ ماكرةٍ وحِيَلٍ شيطانيةٍ كما يفعله بعض شيوخ الصوفيّة من طأطأة الرأس. والتصنع في اللّباس والكلام، وأَمْرِ المريدين بأورادٍ غريبةٍ ومناسكَ دخيلةٍ مثل عدّ الأذكار بالْحُصِيِّ والمسبحة، وبكميات معينة يحدّدها لهم. ذلك أنّ لِلْكثرة والحجم تأثيرًا عظيمًا على نفسية الإنسان الجاهل. إنّه يوقّر الهامةَ الضخمةَ، خاصّة إذا كانت فوقها عمامة من لفائف مكدّسة؛ يتهيّب الزحام، وينجرف من وراء الدهماء وهو دومًا ذَنَبٌ؛ لا رأي له يستقلّ به؛ وهو رمز الحماقة في التصفيق عندما يصفّق الناس، وإن كان لا يدري لماذا يصفّقون، ولماذا يطبّلون! ولهذا يجوز أن نقول إن الرابطة وسيلةٌ خاصّة لاصطياد هذا النوع من العامّة ورَبْطِهِ بالشيخ بحيث لا يكاد ينفكّ منه. وإنْ رآه يرتكب الحرام، راجع موضوع البيعة ويطيعه في معصية الله مع أنه »لاَ طَاعَةَ فيِ مَعْصِيَةِ اللهِ، إنَّمَا الطاعَةُ فيِ مَعْرُوفٍ« عن علي ابن أبي طالب. رواه مسلم. رقم الحديث:3423.(64/86)
***
عقوبة المخلّ بآداب الرابطة عند النقشبنديّة.
تتميّز الطريقة النقشبنديّة بين سائر الطرق الصوفيّة بنظامها وآدابها الّتي ساعدتها على التوسّع والانتشار في صفوف ملايين الناس عَبْرَ القرون. وهي كفيلة حتّى هذه الساعة بفرض هيمنتها على القلوب وترسيخ عقائدها في قريرة النفوس. ويعود السبب الأساسيُّ في ذلك إلى الآداب الّتي تقوم عليها علاقة الخلف بالسلف وموقف المريد من الشيخ في هذا المذهب الخطير.
لقد سبق الكلام في باب تعريف الرابطة وشروطها، بأنّ المريد يجب عليه أن يكون على صلة دائمة مع شيخه بأداء الرابطة له. »وإلا انقطعت البركة عنه« فهو يرى نفسه مهدّدا بذلك إذا فتر باله عن شيخه ولو لحظة. هذا من جملة اعتقادهم في مسألة الرابطة. وقد أحدث بعض المتأخرين من شيوخ هذه الطائفة شرطًا آخر في الطريقة ليتأكّد به صلة المريد بالشيخ أكثر مما هي في البداية. وذلك أن يحمل المريد نسخةً من الصورة الفوتوغرافية لشيخهِ معه. فينظر إليها كلّما وجد فرصةً. وهم أتباع سليمان حلمي طوناخان، وأتباع الملا عبد الحكيم البِلوانِسيّ.
وإذا كانت الرابطة من أعظم أركان الطريقة النقشبنديّة، فانّ القاعدة الأساسيّة فيها (بالنسبة للخليفة المأذون) أن لا يأمر المريدين برابطة نفسه، إذا كان شيخه لا يزال على قيد الحياة. بل يجب عليه أن يأمرهم برابطةِ مَنْ أذن له بالخلافة.
أما إذا خالف النائبُ هذه القاعدةَ فإنّه يُعَدُّ ممّن نقض العهدَ. ويحكم عليه شيخه بالطرد من الطريقة. وهو أشدّ عقوبة عندهم. لأنّ من طُرِدَ من الطريقة، فإنّه يُعَدُّ كذلك مطرودًا من باب الله ومن باب رسوله في اعتقادهم؛ فيتبرّؤن منه، وإنْ لم يَرِدْ في مدوَّناتهم ما يفيد أنهم يحكمون عليه بالكفر.(64/87)
وبهذا يفتضح سرٌّ آخر من أسرارهم بأنهم يتقلّبون في أمواج من التعارض والتناقض وتزداد الشقّة بذلك بينهم وبين الإسلام. لأنّ المسلم لا يجوز له أن يتبرّأ من المسلم ما لم يجده قد خلع رقبة الإسلام من عنقه.
أما الطرد في الطريقة النقشبنديّة، كما شرحناه فيما أصدرنا تحت عنوان: »موقف ابن عابدين من الصوفيّة والتصوف« رسالة تحليلية و انتقادية رددنا فيها على ما جاء في رسالة "سلّ الحسام الهنديّ لنصرة مولانا خالد النقشبنديّ" للمؤلّف المذكور. فإنه موضوع هامٌّ وعقوبة شديدة عند هذه الطائفة.
ويبدو أنّ الّذي أحدث هذه القاعدة هو خالد البغداديّ. فقد جاء فيما كتبه بعض النقشبنديّين، أنّ خالدًا طرد عبد الوهّاب السوسيّ، راجع موضوع "خلفاء خالد البغداديّ، و أسلوب تعامله معهم"، في نهاية الفصل الرابع. إذ كان نائبًا عنه في مدينة إسطنبول. لأن عبد الوهّاب أمر المريدين برابطة صورته، فأصبح بذلك منافسًا لمن يستخدمه. بينما كان يجب عليه حسب آداب الطريقة أن يأمرهم برابطة خالد البغداديّ الّذي أحدث قاعدة الطرد، كما أحدث للّرابطة شروطًا وآدابًا خاصّة. فتطوّر النزاع بينهما إلى حدود خطيرة. كما سنشرحه في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
كذلك نائبه الّذي كان قد أرسله إلى داغستان -وهو إسماعيل الشيرواني- لما بلغ خالدًا أنّ خليفتَه هذا يأمر المريدين برابطة نفسه (بدل أن يأمرَهم باستحضار صورة شيخه -خالد-)، وجّه إليه كتابًا يهدّده فيه. فقد نَقَلَتْهُ جماعةٌ من النقشبنديّين بنصّه الكامل ضمن ما جرت به أقلامهم من رسائلَ دوّنوها في شؤون طريقتهم.
لا شك أن الطريقة النقشبنديّة قد اكتسبت مناعةً بهذه الضوابط الّتي هي بمنزلة نصوص من كتاب الله عندهم. إذ لها حرمة عظيمة في اعتقادهم، كما لها إمكان التنفيذ من قِبَلِ مشائخهم في كلّ ساحة انتشروا فيها.
***
استدلالهم في إثبات الرابطة ومقالاتهم في الدفاع عنها وما قيل في ردّها.(64/88)
لقد حاول عدد من مشائخهم أنّ يدافعوا عن الرابطة، فبذلوا ما عندهم من جهود، وأفرغوا ما يملكون من طاقة تندهش منها العقول. ذلك أَبَوْا إلاّ يكون لها أساس من الكتاب والسنّة؛ فضاق بهم الأمر حتّى استدلّوا بآيتين كريمتين من كتاب الله، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} سورة المائدة/35. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ.} سورة التوبة، / 119. وأَتْبعوهما بحديث »المرء مع من أحبّ« متّفَق عليه. البُخَاريّ، رقم الحديث/5702؛ مسلم، رقم الحديث/4779.
بهذا الأسلوب الغريب أرادوا أن يُثبتوا الرابطة ويجعلوها شكلاً من أشكال العبادة في الإسلام. ولكن فشلوا في محاولتهم. وقام عليهم الدليل من خلال ما استدلوا به. إذ لا نجد بين طبقات المفسّرين من علماء الإسلام أحدًا أشار إلى الرابطة في تفسير الآيتين المذكورتين، ولا محدّثًا رمز إليها بكلمةٍ واحدةٍ من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فيبدو وبكل وضوح أنّ أحدهم لم يرهق نفسه حتّى بمراجعة مصدرٍ واحدٍ من تفاسير علماء الإسلام ليتأكّد من معنى الآيتين المذكورتين.
أمّا انصرافهم عن مراجعة كتب التفسير على كثرة عددها، فليس من علامة ثقتهم بما عندهم، أو لإعجابهم بما سوّلت لهم أنفسهم فحسب، بل يبرهن ذلك على مبلغهم من العلم بطرق الاستدلال. لأنّ من استدلّ بآية كريمة وجب عليه في الخطوة الأولى أن يتأكّد من سبب نزولها. ثم يترتّب عليه أن يتحرّى المناسبة بينها وبين الموضوع الّذي يربطه بها.(64/89)
إن الآية الكريمة { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} هي تتمّة لما قبلها. وهو قوله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الّذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَسْعَوْنَ فيِ اْلأَرْضِ فَسَادًا، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اْلأَرْضِ. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فيِ الدنْيَا. وَلَهُمْ فيِ اْلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاّ الّذينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.} سورة المائدة/33، 34.(64/90)
فقد ورد في عددٍ من مصادر التفسير بأنّ هذه الآيات نزلت في المشركين، وليس فيها أدنى دلالة تَمُتُّ برابطة النقشبنديّين. فالعجب العجب من أمر هذه الطائفة، أنّهم كلّما وجدوا عالمًا من علماء الإسلام يستدلّ بآيةٍ كريمةٍ على شِرْكِِ مَنْ يدّعي أنّه مؤمن وهو يتمرّغ في أوحالِ الزندقة والإشراكِ باللهِ على مرأى من الناس، جن جنونهم، وثاروا عليه، وتصنعّوا بالدفاع عن أنفسهم، أنّ »حَمْلَ هذه الآيةِ الكريمةِ منه على عوام الموحّدين زور وافتراء وتلبيس«؛ وكيف بهم أنّهم قد تشبّثوا بآية كريمة نزلت في المشركين فاستدلّوا بها في إثبات رابطتهم وليس بينهما أدنى قرينة؟!! للإطلاع على نحو هذه المشاجرة بين الأطراف المتنازعة من النقشبنديّين والوهّابيّين، راجع كتاب شواهد الحق لمؤلّفه يوسف بن إسماعيل النبهاني: الباب الثالث. (الرسالة الثانية من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") مكتبة إيشيك طباعات متكررة/إسطنبول. لقد روى البُخَاريّ ومسلم في سبب نزول الآية المذكورة آنفا »من حديث أَبِي قِلاَبَةَ عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَم؛ِ فَاسْتَوْخَمُوا أي استثقلوا الأرض، فلم يوافق هواؤها أبدانهم. اْلأَرْض،َ فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.َ فَقَالَ أَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؟ قَالُوا بَلَى. فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الراعِيَ وَأَطْرَدُوا النعَمَ. أى استاقوها غصبًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِم،ْ فَأُدْرِكُوا. فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِم،ْ فَقُطِّعَتْ(64/91)
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُم؛ْ ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشمْسِ حتّى مَاتُوا« مسلم، رقم الحديث/4779
أمّا الآية الثانية وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} سورة التوبة/119. فقد أجمع العلماء على أنّ هذه الآيةَ وما قبلها نزلت في غزوة تبوك، حيث لا يغيب على ذي لُبٍّ ما تتضمّن هذه الآيات من توبة الله سبحانه على النبي والمهاجرين الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة، وكذلك على الثلاثة الّذين خُلِّفوا. وهم كعب بن مالك، ومرارة بن ربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي.
نعم هذه الحقائق لا تغيب عن أيّ ذي علم بكتاب الله تعالى، ولكن غابت عن شيوخ النقشبنديّة. ولا نقول أنّهم أرادوا بذلك أن يحرّفوا كتاب الله ظلمًا وعدوانًا، فتواطؤا فيما بينهم على تأويل هذه الآية في إثبات الرابطة. ولكن نقول: إنّهم تورّطوا في هذا المأزق اغترارًا بمن افترى على الله كذبًا. واقتفوا أثر من تعمّد بهتانًا عظيمًا. فسوّلت له نفسه أن يستدلَّ بهذه الآية الكريمة ليُلْصِقَ تلك الهرطقة المقلّدة عقيدة سحرة الهند بعقيدة المسلمين. وهذا من غبائهم وإعجابهم بمن وثقوا فيه ثفة عمياء حتى ولو حرّف كتابَ الله! فالتبعوه وخالفوا الجمهور بهذا الرأي السقيم في تفسير الآيتين المذكورتين، وشذّوا بذلك عن الجماعة أيّما شذوذ!
أمّا علماء الإسلام فقد جاءت نظرتهم منسجمة متقاربة في تفسيرهما من حيث الأصل وإن اختلفت ألفاظهم كما ستتبيّن من عباراتٍ نقلناها من تصانيف عدد منهم تمحيصا للأمر:
قال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: اطلبوا القرابة إليه بالعمل بما يرضيه، والوسيلة هي الفعيلة. من قول القائل توسّلتُ إلى فلان بكذا أي بمعنى تقرّبتُ إليه. ومنها قول عنترة:(64/92)
»إنّ الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »وإنّما معنى الكلام {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في الآخرة باتقاء الله في الدنيا (...) فَسَّرَ ذلك مَنْ فَسَّرَهُ من أهل التأويل بأنْ قال معناه: كونوا مع أبي بكر وعمر أو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين رحمة الله عليهم.«
»حدثنا ابن وكيع عن يزيد بن أسلم عن نافع. قال: قيل للثّلاثة الّذين خُلِّفوا { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِين.َ} محمّد وأصحابه« أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن.
ومن هؤلاء المفسرين صاحب الكشاف أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»الوسيلة: كلّ ما يتوسّل به. أي يُتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك. فاستُعيرتْ لما يُتوسَّل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »{مَعَ الصادِقِينِ}...وهم الّذين صدقوا في دين الله قولاً وعملاً أو الّذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله { رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ.}. وقيل هم الثلاثة. أَي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم ونياتهم« أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.
ومن أعلام المفسرين أبي عبد الله فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين الّتيميِّ البكريّ الرازي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة »كونوا متّقين عن معاصي الله متوسلّين إلى الله بطاعات الله.«(64/93)
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات؛ ولا تكونوا متخلّفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت« فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب.
ومن كبار المفسّرين محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة: هي القربة؛ عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء و السدي وابن زيد وعبد الله بن كثير، وهي فعيلة من توسّلتُ إليه أي تقرّبت. قال عنترة:«
»إنّ الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي«
والجمع الوسائل قال:
»إذا غفل الواشون عُدنا لِوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل«
ويقال: منه سلتُ أسأل. أي طلبتُ. وهما يتساولان. أي يطلب كلّ واحد من صاحبه؛ فالأصل الطلب؛ والوسيلة القربة الّتي ينبغي أن يطلب بها. والوسيلة درجة في الجنة وهي الّتي جاء في الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: »فمن سألَ لي الوسيلة حلّت له الشفاعة«
وقال المصنف أيضا في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}
» قال نفر من الجن أسلموا وكانوا يُعبَدون. فبقي الّذين كانوا يَعبُدون على عبادتهم، وقد أسلم النفر من الجن. فاسلم الجنّيون، والإنس الّذين كانوا يعبدون لا يشعرون؛ فنزلت { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة التوبة:(64/94)
»قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية حدّثنا الأعمش عن شقيق، عن عبد الله، وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} أي أصدقوا وألزموا الصدق تكونوا من أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا ومخرجًا. وقال الإمام أحمد، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ الله -هو ابن مسعود- قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:َ عَلَيْكُمْ بِالصدْق.ِ فَإِنَّ الصدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّة،ِ وَمَا يَزَالُ الرجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصدْقَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النارِ وَمَا يَزَالُ الرجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا. أخرجاه في الصحيحين« محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي.
ومن هؤلاء المفسرين، أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة: »{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي ما تتوسّلون إلى قرابه والزلفىَ منه من فعل الطاعات وترك المعاصي. من وسل إلى كذا، إذا تقرّب إليه، وفي الحديث: الوسيلة منزلة في الجنّة«.(64/95)
قال المصنِّف في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: {أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} »هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة -أيهم أقرب- بدل من واو يبتغون. أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله تعالى الوسيلة، فكيف بغير الأقرب! { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} كسائر العباد. فكيف تزعمون أنهم آلهة؟!«
وقال البيضاوي في تفسير الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة التوبة؛ »{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} فيما لايرضاه {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} أي في دين الله نيةً وقولاً وعملاً« أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
ومنهم أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة: »{وَابْتَغُوا إِلَيْهَ الْوَسِيلَةَ} هي كل ما يُتوسّل به، أي يُقترب من قرابة أو صنيعة، أو غير ذلك، فاستُعيرت لما يُتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات.«
وقال في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء: »{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } يعني أنّ آلهتهم أؤلئك يبتغون الوسيلة، وهي القربة إلى الله عز وجل. (أَيّهُمْ) بدل من واو يبتغون. و(أي) موصولة. أي يبتغي من هو
أقرب منهم الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب! أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون. فكأنه قيل: يحرصون أيّهم يكون أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:(64/96)
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ.} في إيمانهم دون المنافقين؛ أو مع الّذين لم يتخلّفوا؛ أو مع الّذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً. والآية تدلّ على أن الإجماع حجّة، لأنّه أمر بالكون مع الصادقين. فلزم قبول قولهم« أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، مدارك التنزيل و حقائق التأويل.
ومنهم علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم الشحي المعروف بالخازن.
قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} أي خافوا الله بترك المنهيات؛ {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} اطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بما يرضى وإنما قلنا ذلك، لأنّ مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين ترك المنهيات، وإليه الإشارة بقوله -اِتَّقُوا اللهَ-؛ والثاني التقرب إلى الله بالطاعات. وإليه الإشارة بقوله -وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ- والوسيلة فعيلة من وسل إليه إذا تقرّب إليه ومنه قول الشاعر:«
»"إن الرجال لهم إليك وسيلة" أي قربة. وقيل معنى الوسيلة المحبّة. أي تحبّبوا إلى الله عزّ وجلّ.«
وقال الخازن في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء:(64/97)
»قال تعالى: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ} أي الّذين يدعونهم المشركون آلهة: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} أي القربةَ والدرجةَ العليا. قال ابن عباس: هم عيسى، وأمه، وعزير، والملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم. وقال عبد الله ابن مسعود: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ، ويعلم الإنس بذلك فتمسّكوا بعبادتهم. فعيّرهم الله وأنزل هذه الآية. وقوله تعالى { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } معناه ينظرون أيّهم أقرب إلى الله، فيتوسلون به. وقيل أيّهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرّب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة.«
وقال المصنف في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:
»قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهََ} يعني في مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم. { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } يعني مع من صدّق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الّذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو« علاء الدين على محمّد بن إبراهيم الشحي المعروف بالخازن، لُباب التأويل ومعاني التنزيل.
ومن مشاهير المفسرين المعوّل عليهم أبي الفداء عماد الدين الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه. وهي إذا قرنت بالطاعة، كان المراد بها الإنكفاف عن المحارم وترك المنهيات. وقد قال بعدها: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة. وكذا قال مجاهد، وأبو وائل، والحسن وقتادة، وعبد الله بن كثير، والسديّ وابن زيد.«(64/98)
قال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: {أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} وهذا الّذي قاله هؤلاء الأئمّة لا خلاف بين المفسرين فيه وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر:
»إذا غفل الواشون عُدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل.«
»والوسيلة: هي الّتي يُتوصل بها إلى تحصيل المقصود. والوسيلة أيضًا عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.«
وقال ابن كثير في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء:
»عن ابن مسعود في قوله: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ، فأسلم الجنيّون والإنس الّذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية.«
قال المصنّف في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة بعد أن نقل حديثًا مطوّلاً عن الإمام أحمد مرفوعًا من طرف كعب بن مالك الّذي نزلت فيه ومن معه الآية {وَعَلَى الثَلاَثَةِ الّذينَ خُلِّفُوا...إلخ } قال عبد الله ابن عمر: »(اِتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) مع محمّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه« أبو الفداء عماد الدين الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم.
ومن علماء التفسير أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب بن محمّد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الدرجة الرفيعة. ويقال اطلبوا إليه القرب في الدرجات، والأعمال الصالحات.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:(64/99)
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ } أطيعوا الله فيما أمركم { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } مع أبي بكر وعمر وأصحابهما في الجلوس والخروج بالجهاد« أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب بن محمّد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي، تنوير المقباس في تفسير ابن عباس.
ومن مشاهير علماء الترك في فن التفسير محمّد بن محمّد بن مصطفى المعروف بابي السعود العمادي قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} لَمَّا ذُكر عِظَمُ شان القتل والفساد وبُيِّنَ حكمُهما، وأشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته، أمر المؤمنين بأن يتّقوه تعالى في كلّ ما يأتون وما يذرون بترك ما يجب اتّقاؤه من المعاصي الّتي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد، وبفعل الطاعات الّتي من زمرتها السعي في إحياء النفوس، ودفع الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. "وابتغوا" أي اطلبوا لأنفسكم "إليه" أي إلى ثوابه والزلفى منه، "الوسيلة" هي فعيلة بمعنى مايُتوسل به ويُتقرّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات، وترك المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرّب إليه بشيءٍ....إلخ«
وقال العماديُّ في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا } خطاب عام يندرج فيه التائبون اندراجًا أوّليًّا. وقيل لمن تخلّف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوك خاصّة -اتقوا الله-في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر المغازي دخولاً أوَّليًّا؛ {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً؛ أو في كل شأن من الشؤون« أبو السعود العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.(64/100)
ومن مصادر التفسير المعتمدة عند عامّة المسلمين وحتّى عند النقشبنديّة أنفسِهِمْ، تفسير الجلالين للإمامين الجليلين، جلال الدين محمّد بن أحمد المحلّي، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. جاء في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة بإيجاز وهذا نصّه:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} أي خافوا عقابه بأن تطيعوه -وابتغوا- اطلبوا -إليه الوسيلة-ما يقربكم إليه من طاعته.«
أما الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة فقد جاء تفسيرها بالنص التالي:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} بترك معاصيه { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق« جلال الدين المحلّي و جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين.
وقد جاء في تفسير هيئة من الشيعة الإماميّة تحت إشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي نحو ما قال المفسّرون من أهل السنّة في تفسير الآيتين المذكورتين. وهذا ما تيسّر تعريبه من عباراتهم -باللّغة الفارسيّة- لتفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة :
»{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي اتّخذوا وسيلةً للتّقرّب إلى الله واختاروها. (...) إن -الوسيلة- في الآية المذكورة أعلاه لها معان كثيرة وواسعة. فإنّ كلّ سعي باعث للتّقرّب إلى الباب المقدّس للرّبّ تشمله الوسيلة. أمّا الأهمّ منه فهو الإيمان بالله ورسوله الأكرم، وكذلك كلّ عمل جميل وخير.«
وقالوا في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة بإيجاز:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } اجتنبوا عن مخالفة أمر الله وكونوا مع الصادقين« تفسير نمونه، بإشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي.
ثم ورد في تفسيرهم تفصيلٌ عن أهل الصدق، وأنّه يجب ملازمتهم.(64/101)
كانت هذه نُبذة من تفسير العلماء البارزين في هذا الفنّ من عناصر مختلفة. وعلى الرغم من اختلاف لغاتهم الأصلية، ومذاهبهم ومواطنهم، فقد أجمعوا على أنّ الوسيلة الواردة في سورتي المائدة والإسراء هي كلّ عمل يقرّب العبدَ إلى الله من فعل الخيرات وترك المعاصي. ولم يربط أحد منهم ولا من غيرهم من علماء التفسير، ولا من علماء الحديث بين كلمة الوسيلة وبين مفهوم الرابطة المعهودة بأدنى صلة، كما هي الحال بالنسبة لقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } الوارد في سورة التوبة. كذلك جاء في تفسير العلماء له على نقيضِ ما جاء في تأويلات النقشبنديّين الّذين بذلوا جهودًا بالغة ليمدّوا الجسر بين رابطتهم المستوحاة من البرهمية، وبين آيات الله بطرق ملتوية يستحيل أن يوافق عليها أهل العلم والبصيرة.
إنّ الخلافَ الذي أثبَتَهُ الباحثونَ بين الصوفية وعلماءِ الإسلامِ قديمًا وحديثًا، في الحقيقةِ لم يقتصر على إمورٍ هامشيةٍ كما يظنُّهُ البعضُ؛ بل تجاوز إلى حدودٍ بعيدةٍ في جميع الوجهاتِ بدءًا من النّظرِ في ذات الله تعالى وانسياقًا إلى التعبير عن أسرار الكونِ والحياةِ وإلى تأويل آيات القرآن من محكماتها ومتشابهاتها خاصّة، كما سبق في تفسيسر الآيتين المذكورتين. فقد ابتدعوا طريقةً خاصّة في تفسير القرآنِ سُمِّيَ بالتفسير الإشاريِّ، فاتّسعوا بذلك في تأويل الآياتِ إلى حدود خرجوا بها عن إجماع أئمّةِ التفسير. ذلك ليستدلّوا بها على صحّةِ ما اختلقوه من معتقداتٍ شاذّةٍ، وما استقوه من مستنقعات الأديان من أفكارٍ وفلسفاتٍ غريبةٍ كلّما أشارت لهم أنفسهم؛ كقراءتهم »كُلُّ شَيْءٍ« -بالرفعِ- في قولِهِ تعالى »إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ«، ليستدلّوا بذلك على صحّةِ فكرةِ »وحدة الوجود«، وليقولوا »إنّ اللهَ هو كلُّ شيءٍ في هذا الكونِ« .(64/102)
لقد جرت أقلام طائفة من متأخّري هذه الفرقة في إثبات الرابطة وهم فريقان: فريق منهم أفردوا الرابطة وحدها في عُجالاتٍ، دون غيرها من مباحثِ هذه النحلةِ؛ وفريق منهم تناولوا الرابطة كشطرٍ من الموضوع، وتطرّقوا إلى ما بدا لهم من شتّى مسائل التصوف على اختلافها.
***
من أهمّ ما كُتِبَ في مسألة الرابطة
أمّا الّذين أفردوا الرابطةَ واقتصروا عليها، فقد عثرنا لهم على تسعِ عُجالاتٍ.
منها، رسالة في تحقيق الرابطة. للإطلاع على المصادر الّتي نُقِلَتْ هذه الرسالة ضمنها، راجع الهامش رقم/83.
لقد سبق فيما ذكرنا أنّ هذه الرسالة خطاب كتبها خالد البغداديّ باللّغة العربية وبعثها إلى أحد مريديه في إسطنبول إذا صحّ الإسناد. وهو السيد محمّد أسعد أفندي نقيب الأشراف ورئيس هيئة المعارف يومئذ، ومؤسّس مكتبة آياصوفيا.
فقد أثارَ المؤلّفُ مشكلةَ الرابطةِ بهذه الرسالة على حين لم يكن لها شأن وذكر في أوساط الصوفيّة حتّى أيّامه، وإنْ ورد شيء بسيط من هذه المسألة في الرسالة التاجية لتاج الدين بن زكريا الهنديّ وعلى الرغم من أنّ المؤلّف لم يزد شيئًا في تعريف الرابطة على ما جاء في التاجية إلاّ أنّه قد بذل جهدًا بالغًا في إثباتها بنقلٍ عشوائيٍّ من أقوال مَنْ سبق من الرجال من أمثال الزمخشري، والإمام أكمل الدين، والغزاليّ، والسهروردي، والشهاب بن حجر، والجلال السيوطي، وغيرهم. فقد اختار من أقوال هؤلاء ما أعجبه، واستدلّ بها على شرعية الرابطة دون أن تكون بينهما أدنى مناسبة أو قرينة. مما يدل ذلك على خبطه في عمياء، كما يثير الشكّ في أنّ هذه الرسالة قد تكون من صنع من أسندها إلى خالد البغداديّ لأغراض لا نعلم حقيقتها؛ فدسّ فيها من أباطيله مالا يُستساغ لأمثال البغداديّ لأنه لم يكن جاهلا إلى هذا الدرك من العمى والضلال.(64/103)
وعلى الرغم من أنّ المؤلّف لم يحدّد شيئًا كشروطٍ للرّابطة ولا ذكر شيئًا لأداء صورتها في هذه الرسالة، فقد اختلقها مَنْ جاء بعده من خلفائه.
من جملة ما دوّنه النقشبنديّون في هذا الموضوع، كتاب »الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة«. كتبه الحسينُ الدوسريّ. قال في مستهلّه:
»أمّا بعد، فهذه الرسالة، قد ألّفتُها سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف. ووريتُ نسبتَها إلى غيري لِغرضٍ قَصَدْتُهُ، والأعمال بالنيات«
يعترف الدوسريّ من خلال هذه الكلمات بحقيقةٍ تبوح بحقائق أخرى رهيبة عن هذه الطائفة وأغراضها. إذ أنّ من وقع نظره على هذه العبارات، فقرأها بوعيٍ، لابدّ وأنْ يتساءل في نفسه عما أجبر الدوسريّ حتّى استباح الكذب لنفسه فاسند هذه الرسالة إلى غيره. وهو الّذي ألّفها بإقراره.
نعم ما الّذي أجبره على هذا التزوير، حتّى تنكّرَ وورى نسبةَ كتابه إلى غيرهِ، مع أنّه من أقدمِ خُلفاء خالد البغداديّ الّذي يعظّمهم النقشبنديّون تعظيم الأنبياء والمرسلين ويعدّونهم من أصحاب الفضائل والأخلاق السامية والصدق والأمانة والبركة والكرامات!
أم تُبَرْهِنُ هذه الحقيقةُ الدامغةُ في واقع الأمر، أنّ الرابطة لم تكن شيئًا معهودًا في المجتمع الإسلامي حتّى جاء بها خالد من ديار الهند؛ فبدأ هو وخلفاؤه يجسّون النبض حول أحاسيس المسلمين، ويتحرّكون بحيطة، وبخطوات مرحلية لتطبيع المشاعر وترويض النفوس، محاذرين من أن يتعرّضوا لردودٍ عنيفةٍ.(64/104)
رتّب الدوسريّ كتابه هذا على سبعة أبواب، وخصّ منها الباب الثالث والرابع والخامس والسادس بالرابطة. ثم تَفَلْسَفَ وعبث وهاجم وحاول في شرح ما هو بصدده راعنًا فيها من منطلق إنسان متطرّفٍ ومُرْتَبِكٍ ومغتاظ؛ كأنه يصرخ، ويسبّ المعارضين لمشربه، مما تذبذب من جرّائهِ كلامُهُ، وتفرّق مرامُهُ. كقوله »أقول لم يقل أحد من أهل التصوف بوجوب الرابطة ولا باستحبابها لِذَاتِهَا« حسين الدوسريّ، الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات و الرابطة، بهامش معرّب المكتوبات للرّبّاني: 1/225. Fazilet Publishing-?stanbul
فجاء كلامه تكذيبًا واضحًا لِمَا زعم مصطفى فوزي في كتابه »إثبات المسالك في رابط السالك«: »أنّ الرابطة فريضة من جملة الفرائض الّتي يبلغ عددها أربعًا وخمسين فريضة.«
ثم قال الدوسريّ: »نحن لا نستدلّ للرّابطة من دليل. ودليل مَنْ قلّدناه من العلماء كاف واف بالمقصود. فالإنكار متوجّه إلى الجنيد والجيليّ والدسوقي ونحوهم الّذين قرّروا الرابطة بكيفيتها« المصدر السابق، 1/129.
لقد انطلق الدوسريّ بهذه الكلمات من منطق رخيص »ليصطاد عصفورين بطلقة واحدة« كما قيل في المثل التركيّ. ذلك ليُثير المعترضَ الغبيَّ فيدفعه إلى مستنقعات الصوفيّة حتّى يتمرّغ في أوحالها فيتباحث عما إذا سبق من الجنيد والجيليّ والدسوقي أنْ تكلَّموا بشيء في رابطة النقشبنديّة ثم يعود صفر اليدين.
إنّ مثل هذه المحاولة، لا يغني شيئًا عن الشاك في أمرهم، إلاّ الخسارة في العمر. لأنّ الدوسريّ لو كان واثقًا من نفسه لما غادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها من أقوال أولئك الثلاثة ونقلها؛ مع أنّها لا تقوم مقام دليل على بِدْعِيَّةِ الرابة إطلاقًا.
وفي الباب الرابع قال الدوسريّ: »إنّ الرابطة من جملة الوسائل الموصلة إلى الحضور في عبادة الله، والوسائل لها حكم المقاصد.«
ثم بعد إسهاب وإطناب في امتداح الرابطة أتى بإجابة على سؤال مفروض. وهو قوله:(64/105)
»فانْ قال الأخ المنكر ـ تاب الله عليه ـ: قد عرفنا على هذا القول، أنّ الرابطة تعلّق القلب. وهذا القول يمنعه. والحبّ في الله واجب ومحبّة الصالحين ثابتة؛ لكن من أين لكم أنَّ استحضارَ صورةِ رجلِ في الذهن ولو كان من الصالحين تحصل به هذه المطالب كلّها، وأنّ استحضاركم بسبب تعلّق القلب، وأنّه جائز؟«
»والجواب عن هذا من وجوه: الأوّل قولك:«
»ـ من أين لكم استحضار صورة رجل في الذهن تحصل به هذه المطالب كلّها؟«
»أقول: إنّ هذه المطالب تحصل لنا بما ذكرناه، كما حصلَتْ لك أضدادُها باستغراقك في معبودك الّذي نبّهناك عليه. ولكنّها تعمى القلوب الّتي في الصدور.«
هكذا يظهر ما في ضمير الدوسريّ فتتطاير من كلماته شرارات الغضب على كلّ من يتساءل عن رابطته، بإزاء ما في أسلوبه من مجازفةٍ وتكلّفٍ وعُنجهيةٍ وعجرفة وتمييع. فيجعل من هذه الرسالة لعنةً يتطاول بها إلى كل من يشكّ في علاقة الرابطة بالإسلام، أو ربما تعود عليه الرسالة نفسُها نقمةً من كلّ من يُلقى نظرةً فيها.
***
ومن هذه العُجالات، وُرَيْقَاتٌ عنوانها »تبصرة الفاصلين عن أصول الواصلين« هي شبه رسالة منضمّة مع لفيف آخر من أمثالها لنفس الشخص/ طبعت في إسطنبول. وفي نهاية بعض هذه الوريقات أنها كتبت عام 1288-1289 هـ. سوّدها رجل لم يَعُدْ قدره’، يدلّ على ذلك ما تبعثرت على هذه الوريقات من عجمةٍ وهفوةٍ وخلطٍ وهَرْجٍ واضطراب.
تخبّط كاتبها التعيس ـ سليمان زهدي ـ وتلجلج فيما قذف على هذه الصحف من كلمات لا تَرَابُطَ بينها ولا نسق، واستهلّ المسكين بالعتاب والنكير على الطاعن في الرابطة. وربما تخيّل خصمًا لا وجود له في الحقيقة. كلُّ ذلك يدلّ على ما ابتليت هذه الطائفة من رعب وفزع وذعر وارتباك. وما استولى عليهم من خوف يتوقعون بسببه في كلّ لحظة أن يداهم المسلمون وهم مستغرقون في رابطتهم!(64/106)
نقل الرجل قسطًا كبيرًا من رسالة الرابطة للبغداديّ. ثم نقل الآيتين المذكورتين وهو يحاول مستميتًا لإثبات الرابطة على أساسهما بتعبيره الّذي نسجه من تركيبات متنافرة، وسياقٍ لا يتفق مع قواعد اللّغة العربية وآدابها، فجاءت كلماتُهُ ركيكةً مُعقَّدةً حالتْ دون ظهور ما هو بصدده لغرابة الإستعمال؛ وأضفىَ أسلوبُهُ الوعرُ غموضًا على كلامه، مع غلظته وقسوته في للّهجهِ فتحوّلت إلى حجةٍ قامت عليه فدلّتْ على ما هو أهله.
***
ومن هذه الرسائل الغريبة أيضًا، كتابٌ منظومٌ باللّغةِ التركيةِ اسمه »إثبات المسالك في رابطة السالك« هي رسالة في سبعين صفحة، ألفاظها تركية، مطبوعة بالحروف العربية سنة 1324 هـ. يشتمل على 1123 بيتا من الرمل. كتبه شاعر متصوّف من جماعة أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ في إسطنبول؛ اسمه مصطفى فوزي راجع ترجمته في الكتاب الآتي ذكره:Dr. ?rfan Gündüz, Gümü?hanevî Ahmed Ziyaüddin, Hayat? ve Eserleri-
Postscript no.I Seha Publishing Istanbul-1994 ورتّبه على ثمانية أبواب بعد توطئة وجيزة استهلّ بها.
يمتاز هذا المتصوّف بدفاعه الشديد عن الرابطة وبتأكيده على أنّها من جملة الفرائض. زعم ذلك في البيت الثامن من كلماته الواردة ضمن الباب السادس تحت عنوان »بيان رابطة المرشد« وانفرد برأيه هذا، عن جميع النقشبنديّين؛ بحيث لم يتصدّ أحد من رجال الطائفة لا قبله ولا بعده بمثل هذا الدعوى.(64/107)
ينتمي هذا الرجل إلى أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، كما ذكرنا آنفا. وهو من الطبقة الثانية بعده. أخذ العهد من حسن حلمي بن عبد الله القسطموني المصدر السابق، ص/ 144، 145. كذلك راجع إرغام المريد للكوثري ص/ 100. الّذي هو من خلفاء الْكُمُوشْخَانَوِيّ. فانخرط بذلك في سلك الخالدييّن. ولا بد هنا من التنبيه على أنّ حسن حلمي المذكور، ليس هو حسن حلمي بن علي، والد الشيخ زاهد الكوثريّ؛ علمًا بأنّ كليهما منتسبان إلى أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ. وقد يلتبس على بعض الباحثين اسمُ أحدهما بالآخر.
للشّاعر مصطفى فوزي صحبة مع الشيخ زاهد الكوثريّ الشهير بتصانيفه وبلهجته القاسية وتطاوله على العلماء.
***
ومن هذه العجلات رسالة أعّدها رجل اسمه عبد الحكيم الأرواسيّ كتبها باللّغة التركية عام 1342 هـ. سمّاها "رابطهء شريفه رسالسي" وهي مطبوعة بالحروف العربية. نسخة منها موجودة في مكتبة بايزيد. إسطنبول-1342 هـ.، تحت رقم/243435. طُبعت أخيرًا بالحروف اللاّتينيّة، بعد أن نقلها الشاعر نجيب فاضل قيصاكوراك، إلى اللهجة التركية المعاصرة. وهو ثاني من ألمّ بآدابِ الرابطة وصورةِ أدائِها بعد محمّد أمين الكرديّ. ثمّ شرحها، وخلط ما خلط في طي هذه الرسالة أكثر من كلّ مَنْ سبقه ومن جاء بعده.(64/108)
قال الأرواسيّ في مستهلّ رسالته بعد ما أورد الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} قال بالحرف الواحد: »الرابطة طريق مستقل للوصول إلى الله« ثم قال على سبيل التعريف لها: »الرابطة هي ربط القلب بإنسانٍ كاملٍ مكمِّلٍ واصلٍ إلى مقام المشاهدة متحقِّقٍ بالصفات الإلهيّة الذاتيّة. وهي عبارة عن حفظ صورة ذلك الشخص في خزانة الخيال بحضوره وغيابه« التزمنا الترجمة الحرفية في تعريب هذه الألفاظ. وهذا نصّها الأصليُّ باللّغة التركية: "رابطه: صفات إلهيهء ذاتيه إله متحقّق، مقام مشاهده يه واصل بر كامل و مكمل إله ربط قلب أيليوب، حضور و غيابنده أو ذاتك صورتني خزانهء خيالده حفظ إيتمكدن عبارتدر." ص/ 14.
وفي رسالة بعثها إلى أحد مريديه، اسمه سعيد، اهتمّ الأرواسيّ بمسألة الرابطة فيها اهتمامًا بالغًا. فعرّفها، وشرح أركانَها، وصورةَ أدائِها، وفوائدَها؛ وقارنها مع الذكر، وحدّد مدَّتَها بِرُبْعِ ساعةٍ من الزمن. المصدر السابق، ص/ 11. بينما يقول الشيخ سَيْدَا الجزري: »لاحدّ لذلك. وأقلّه خمس دقيقات« سعيد سيدا الجزري، الضابطة في الرابطة. ص/ 6. وردت هذه الكلمات في رسالة للجزريِّ سماها »الضابطة في الرابطة« كما سيأتي بيانها.(64/109)
ومن أهمّ ما ورد في رسالة الرابطة للأرواسي أقوال في رابطة المريد للشّيخ الميّت. لأنّ هذه الطائفة تعتقد »أنّ الشيخ إذا مات أصبح طليقًا من قيود الجسد، كالسيف المسلول من غمده. وبذلك ازداد تأثيرًا، وازداد نفعًا للمريد« للمزيد من المعرفة حول هذا المعتقد، راجع موضوع: الولاية، والوليّ، وتصرّف الميّت. من الفصل الثالث وفي هذا الباب نقل الأرواسيّ عن أبي الحسن الشاذلّي، راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/467. بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته. راجع أيضًا: التصوف، عبد القادر السندي ص/ 327-409. مكتبة ابن القيم، المدينة المنوّرة-1960م. يستدلّ بأقواله. عبد الحكيم الأرواسيّ، رابطهء شريفه رسالسي ص/ 19. مكتبة بايزيد، إسطنبول-1342 هـ. رقم/243435 ويحاول إثباتَ الرابطة بها.
***
ومن هذه الرسائل عُجالةٌ لأحدِ المتأخرين من شيوخ الأكراد اسمه سعيد بن عمر الزنجاني. اشتهر باسم الشيخ سَيْدَا الجزري نسبةً إلى جزيرة ابن عمر.
إنّه كتب هذه العُجالة إجابةً على سؤالٍ من شخص اسمه الملاّ محمّد شريف، يستفسره الرابطة. وهذا دليل يؤكّد على أنّ كثيرًا من الملالي (وهم علماء الأكراد مَلاَليِ: جمعُ مَلاَّ، وهي صفةٌ تُطْلَقُ علىَ رجال الدينِ في اللغة الكردية والفارسيةِ بمعنى الشّيخ في اللغة العربية.) لا يزالون يجهلون أمرَ الرابطة بل ويشكّون فيها؛ وأن هذه الهرطقة لا يُقرّها ولا يعتدّ بها أحد سوى النقشبنديّين؛ وأن كثيًرا من الناس يسمعونها لأوّلِ مرةٍ كما نفهم من استفسار الملاّ محمّد شريف، على الرغم من رعونة الجزريِّ في محاولة إقناعه إذ يقول:
»اعلم يا أخي أسعدك الله، أنّ أمرَ الرابطة الشريفة مشهور وسرَّها في الزبر مذكور ومسطور. ولكن نذكر نُبذة من ذلك اطمئنانًا للقلب، واستئصالاً للرّيب، ناقلين من كتاب نور الهداية والعرفان«(64/110)
أما كتاب نور الهداية والعرفان، هذا الّذي استقى منه الجزريّ، فقد ألّفه محمّد أسعد صاحب، وهو ابن أخي خالد البغداديّ كتبه ردًا على محمّد صديق خان بن الحسن البُخَاريّ، وقد تطرق الباحث العراقيّ عباس العزّاويّ إلى هذه المسألة فقال:
»هاجم السيد محمّد صدّيق خان بن الحسن الحسيني البُخَاريّ أمير مملكة بهوبال في الهند (الرابطة والتوجه). فتصدّى للرّد عليه وعلى أمثاله محمّد أسعد صاحب ذاده في كتابه -نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان. أتم تأليفه في دمشق، في أول المحرّم سنة 1305 هـ. وتمّ طبعه في المطبعة العلميّة بالقاهرة في شهر رمضان سنة 1311 هـ« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 717. بغداد
كانت هذه كلمات عبّاس العزّاويّ حول الكتاب المذكور. بيد أنّ لنا مع هذا الكتاب قصّة طويلة نختصرها لتكون عبرة لأُولي الألباب.
فخلاصتها: أن دراسة هذه البدعة لمّا اقتضتْ مراجعةَ عددٍ من المصادر المتوفِّرةِ الّتي لها علاقة بموضوعنا، وعثرنا على اسم هذا الكتاب في مواطن كثيرة من كتب النقشبنديّة كما كنّا نسمعه أحيانًا من خلال حديثهم، قمنا بالسعي في طلبه سعيًا حثيثًا؛ ولكن لم نعثر حتّى على نسخة واحدة منها، على الرغم من تباحثنا عَبْرَ سلسلة المكتبات الرسمية والخاصة بكافة أنحاء تركيا، وما أكثرها!(64/111)
ثم لجأنا في آخر المطاف إلى الشيخ عمر الفاروق أفندي، نجل الشيخ سَيْدَا الجزري الّذي استقى من الكتاب المذكور. فلم يُجْدِ هذا الاتصال أيضًا بنتيجة؛ كما لم نَجِدْ تفسيرًا للاستغراب الّذي أحاط بمشاعرنا أمام هذا اللُّغْز، إلاّ ما قيل: أن مؤلّفَ هذا الكتاب مرفوضٌ عند طائفةٍ من النقشبنديّين في تركيا. فما عثروا على شيء من آثاره إلا محوه وأفنوه بسرعة. ذلك »لأنّه كان متميّزا عن سائر شيوخ هذه الطائفة بتفكيره العلميّ وأسلوبه العصراني.« وهذا يتعارض مع العقلية النقشبنديّة الجامدة!
في الحقيقة عثرنا على سلسلة من مقالاته الّتي نُشِرَتْ في جريدة الرأي العام، وطُبِعَتْ سنة 1334 هـ. مقالات أسعد صاحب، مكتبة السليمانية خزانة جلال أوكتان رقم/292 إسطنبول. يتطرّق في هذه المقالات إلى موضوعاتٍ شتّى، لا يكاد القارئ يشعر بأدنى أمارة بين ألفاظه أنَّ كاتبَ هذه المقالاتِ شيخٌ نقشبنديٌّ، إلا سطوره الأخيرة الّتي ختم بها كلامَهُ؛ وهي قوله: »خادم سجّادة طريقة السادة النقشبنديّة، والقائم مقام الحضرة الخالدية المجددية بدمشق الشام: اسعد صاحب« راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 3/129، 1/351. بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته.
ولكنّ من جانب آخر، تُنبئ هذه الكلمات بصورة جليّة عن مدى إعجاب هذا الرجل بنفسه وتعاظمه وتلوّنه في لباس من التواضع! وربما السبب الّذي أثار المنافسة بينه وبين بقية روؤس النقشبنديّة هو موقفه هذا؛ كما جاء في دراسةٍ للباحث David Dean Commins أنه طرفٌ في هذه المنافسة. David Dean Commins, ?slamic Reform Politic And Social Change in Late Ottoman Syria / New York- 1990.......(64/112)
كتاب »نور الهداية والعرفان«، تسود على أسلوبه محاولة جدلية لإثبات الرابطة، وهذا يخالف مبادئ الصوفيّة الّتي تقوم على التقليد المحض والتطّفل والاستسلام للرّوحانيين السابقين، والتقيّد بمقولاتهم – مع ما فيه من مخالفةٍ صريحةٍ للكتاب والسنّة- علمًا بأنّ النقشبنديّين وإن كانوا يهاجمون من لا يوافقهم، إلا أنّهم يحذِّرون الطريقة الجدلية في مناظرة الخصوم والمعارضين أشدّ الحذر، خوفًا من أن تفتضح أسرارهم بتطوّر الجدال. وإلاّ فانّ تركيا في الحقيقة هي جنّة النقشبنديّين. لهم مؤسّسات إعلامية ضخمة في هذا البلد، تقوم بنشر وتوزيع كمياتٍ عظيمةٍ من كتب الطائفة ومجلاتِها وصحفِها، وبثِّ عقائدِها، والدفاعِ عن سمعتها. لذا لا يجوز عقلاً أن يرفض النقشبنديّون كتابًا يعاضدهم ويؤكّد على صحةّ دعواهم، لولا أسبابٌ لم نتأكد من صِدْقِهَا، غير ما نقلناه منها.
وكلّ هذه، في الحقيقة ما هي إلاّ مؤشّرات تنبئ عمّا تتوارى به الطائفة النقشبنديّة من غموض وكتمان، وما تُضْمِر ضدّ غيرها من أسرار وأفكار لاَ أمان من عواقبها!
ينقل الجزريّ ما ينقل من هذا الكاتب ومن رسالةٍ للبغداديِّ في إثبات الرابطة حتّى ينتهي من عجالته »الضابطة في الرابطة« على طريقة أسلافه من الحشوية؛ ولا يأتي بشيء من تلقاء نفسه إلاّ كلمات في سطور معدودة. وبذلك يفتح بابًا للشّك على نفسه، بالرغم من غزارةِ علمهِ بالعقائدِ وباعِهِ الطويلِ في الفقهِ الإسلاميِّ ومعرفتِهِ الجامعةِ بالآدابِ، وما دوّن فيها ودَرَسَ ودَرَّسَ طوال عمره.
***(64/113)
ومن هذه الرسائل، عجالةٌ أعدّها باللّغة التركية أحدُ أساتذة كلية الإلهيات كلمة "كليّة الإلهيّات" تسمية ماكرة أطلقها حكّام النظام العلماني على كليات العلوم الإسلامية في جامعات تركيا. و هي حلقة من سلسلة المؤامرات الّتي يتعمّدها النظام لتحريف القيم الإسلامية وعزل المسلمين الأتراك عن الحركة الإسلامية العالمية وفقًا للخطّة السياسية الّتي رسمها يهود سالونيك. بجامعة مرمرا في إسطنبول، اسمه عرفان جندوز. فسّماها: Tasavvufi Bir Terim Olarak Râbita أي، الرابطةُ كمصطلحٍ تصوفيٍّ. إلاّ أنّها غير مطبوعة. نسختها الأصلية موجودة في خزانتي.
حاول المؤلّف فيها إثباتَ شرعية الرابطة بمبرّرات منطقية وبأسلوب معاصر. فاستهل بكلام مفاده:
»إنّ في هذا الموضوع شيئًا يظهر كخاصيّةٍ مشتركةٍ بين الثقافات. يجوز انطلاقًا منها ـ أن يقال: إنّ للمسلمين أيضًا طريقةً وأصولاً في هذا الباب، وأنّهم رتّبوا لها نظامًا على هيئة الرابطة« التزمنا الترجمة الحرفية في تعريب هذا المقطع من كلام الدكتور عرفان جندوز. وهذا نصّه باللّغة التركية:
Kültürleraras? ortak bir ?zellik gibi g?züken bu konuda müslümanlar?n da bir yolu ve bir usûlü bulundu?u ve bunu da rab?ta ?eklinde sistemle?tirdikleri s?ylenebilir.(64/114)
يتبيّن من هذه المحاولة بوضوح، أن الْمؤلّفَ يُقَرِّبُ الرابطة إلى عقل الإنسان المعاصر في غلافٍ جديدٍ. وذلك على حدّ قوله: »هي الخاصيّة المشتركة بين الثقافات المتباينة.« وكأنّه يقول: مهما اختلف الناس في عقائدهم فانّهم لا محالة يلتقون في قِيَمٍ متشابهة ويشتركون في أسس متجانسة. فالرابطة إذن هي معدودة من تلك الْقِيَمِ الإنسانيةِ المشتركة، يلتقي بها المسلمون مع بقية المجتمعات الّتي لا تدين بلإسلام! يظهرمن هذه المحاولة بصراحةٍ أنّ المؤلف يرى ما يدعو المسلمين إلى المشاركة مع غير المسلمين في بعض مُعْتَقَداتِهم، ويعدّها من القِيَم الإنسانية المشتركة، وإن كان ذلك خروجًا على الإسلام
ويسترسل المؤلّف على نحو هذا الأسلوب، غير أنّه يعود إلى ضميره برهةً، فيأبى إلاّ أن يعترف بأن »المصادر الّتي تُنْبِئُ عن الرابطة إنّما هي من صنيع الأيدي في الماضي القريب جدًّا«.
انّ هذا الاعتراف لهو أقوى البراهين الّتي تقوم على المتطرّفين من رجال هذه الطريقة الّذين لا يتورّعون عن الاستدلال بكتاب الله وسنّة رسوله على أصالة هذه البدعة ليدُسّوها في الإسلام!
***
وآخر ما صدر في موضوع الرابطة، كتابٌ أعدّهُ أربعةُ أشخاصٍ من بُسطاء النقشبنديّين بالتعاون فيما بينهم. كتبوه بالحروف اللاتينية لأنّهم يجهلون اللّغة العربية، وطبعوه تحت عنوان: Kur’an ve Sünnet I????nda Râb?ta أي »الرابطة والتوسل في ضوء القرآن والسنّة« إلاّ أنّه يضمّ ركامًا من الهفوات والتفسيرات البائسةِ والتأويلات الدجليةٍ، تمخّض الكتاب عنها في قَتَمَةٍ من الأباطيل. أكثره مُقتَبَسٌ من هَذَيَانَاتِ عددٍ من ملالي المنطقة الكرديّة. فهو بهيئته ليس في الحقيقة إلا خليطًا من سؤر متشيّخي الأكراد، أكثر من أن يوصَف بتأليف مدَوَّن في ضوء الكتاب والسنّة.(64/115)
ومِنْ هَرْفِ هؤلاء المنتحلين صفةَ أهلِ التأليفِ، أنّهم ذكروا الغزاليّ مع أولئك الملالي فأنزلوه إلى دركهم, وعدّوا أبا علي الفارمديّ من النقشبنديّين. مع أنه قد مات قبل تأسيس هذه الطريقة بثلاثمائة عام!
***
أمّا الّذين تناولوا الرابطة كشطرٍ من تفاصيل آداب الطريقة النقشبنديّة. فقد عثرنا على نحو ثلاثين رسالة لهم، أقدمها كتاب الرشحات. ضبطه: "رشحات عين الحيات". ألّفه -باللّغة الفارسيّة- علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي.(1462-1533م.)؛ ترجمه إلى اللّغة التركيّ –اللهجة العثمانيّة- قاضي مدينة إزمير في عهد السلطان مراد بن السلطان سليم العثمانيّ. واسم المترجم: محمّد المعروف بن محمّد الشريف العباسي. تمّت الترجمة عام 993 هـ. وقد طبع هذا الكتاب بالحروف العربية في إسطنبول عام 1291هـ. وهو مذكور في كشف الظنون 1/903. و الرشحات كتاب تقدّسه النقشبنديّة. وهو أوّل كتاب دوّنوه في آدابهم. كما هو المصدر الأساسي الّذي تعتمد عليه هذه الديانة الصوفيّة. ألّفه علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي إلاّ أنّ الرابطة لا تَعْدو في هذا الكتاب عن وصيّةٍ بسيطةٍ جدًّا؛ أوصى بها عبيدُ الله الأحرارُ، مُؤَلِّفَ الرشحات، كما لا نجد لها تعريفًا ولا تفصيلاً في هذا الكتاب.
ثم تليه من حيث الأقدميّة رسالتان لتاج الدين بن زكريا الهنديّ وقد مر ذكرهما. وكذلك خطاب لأحمد الفاروقيّ السرهنديّ وجّهه إلى شخص اسمه أشرف الكابلي. مرّ ذكره أيضًا بنصّه الكامل. راجع الهامش رقم/93.
أمّا بقيةُ الرسائل المذكورة للفريق الثاني، فانّ كلَّها مسطورةٌ بعد هذه الأربعة. وهي على سبيل الإجمال:
شرح السلسلة المرادية للدرويش أحمد الطربزوني مدوّنة بالعربية. هي رسالة مخطوطة مسجّلة تحت رقم/721 بمكتبة السليمانية-إسطنبول (خزانة كججي ذاده)(64/116)
الرسالة المدنية، كتبها نعمة الله بن عمر، باللّغة العربية أيضًا. وهي ضمنَ مجموعةٍ من مثيلاتها بين دفتين تحت عنوان »الزمرد العنقاء«. نسخة منها موجودة في خزانتي.
ترجمة الرسالة الخالدية المنسوبة إلى خالد البغداديّ. ترجمها إلى اللّغة التركية (باللّهجة العثمانيّة) رجل اسمه شريف أحمد بن علي. لها شروح كثيرة. منها نسخة مسجّلة تحت رقم/278. بمكتبة السليمانية-إسطنبول (خزانة: دوجوملو بابا)لم نقف على أصلٍ لهذه الرسالة على رغم ما يزعمه النقشبنديّون أنّ أصلها مدوّنة باللّغة العربية.
الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية. كتبها محمّد بن سليمان البغداديّ بالعربية. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. ورد البحث عن هذا الكتاب فبي مصادر عديدة. منها على وجه الخصوص: رسالة ألّفها عباس العزّاويّ بعنون “مولانا خالد النقشبنديّ" وهي مطبوعة ضمن مجلّة المجمع العلمي الكرديّ -العدد الأوّل. بغداد-1973م. تناول المؤلّف الكتاب المذكور في الصفحة رقم: 708. و723 . من هذه الرسالة و الحديقة الندية هي من جملة الكتب الّتي تهتم بطبعِها ونشرِها مؤسّسةٌ ضخمةٌ للنقشبنديّين مركزها في إسطنبول؛ يرأسها عقيد متقاعد مدسوس في صفوفهم من قبل النظام الحاكم.
رسالةٌ في آداب الطريقة النقشبنديّة كتبها بالعربية أحمد خليل البقاعي. وهي أيضًا ضمن مجموعة "الزمرد العنقاء"
صحيفة الصفا لأهل الوفاء. كتبها بالعربية رجل اسمه سليمان زهدي، ولكنه فاشل لجهله بلغة الضاد.
نهجة السالكين وبهجة المُسلكين لنفس الشخص المذكور. وهي وُرَيْقَاتٌ خاليةٌ من القيمة العلمية.
البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، كتبها بالعربية محمّد بن عبد الله الخانيّ. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. لها نسخ منتشرة في المكتبات الرسمية والخاصّة.(64/117)
السعادة الأبديّة فيما جاء به النقشبنديّة كتبها بالعربية عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ وقد نُسبتْ هذه الرسالة إلى جدّه محمّد بن عبد الله الخانيّ وذلك خطأ. أصدرت مكتبة الحقيقة هذه الرسالة بطريقة التصوير ضمن مجموعة أخرى من مثيلاتها (وهي الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة، لمحمد بن سليمان البغداديّ؛ و الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات، لعلي محمّد البلخي؛ ومجامع الحقائق في أصول الحنفية، لشخص غير مشهور اسمه عبد الوهّاب؛ …) ومكتبة الحقيقة هي إحدى المؤسّسات الّتي يديرها عقيد متقاعد من العنصر التركيّ إسمه Hüseyin Hilmi I??k، دسه النظام الحاكم بين صفوف النقشبنديّين لتوجيههم والتمكن من السيطرة عليهم.
الرسالة القدسية. منظومةٌ باللّغة التركية العثمانيّة. تتألّف من 1328 بيتًا. تتولّى طبع هذه الرسالة و نشرها جماعة متعصبة من النقشبنديّين. غالبهم من سلالات حديثة العهد بالإسلام من بقايا الشعب البُنْطُسيّ اليوناني من أهالي مدينة طربزون و ضواحيها الّذين اعتنقوا الإسلام دون رويّة في عهد السلطان محمّد الثاني العثمانيّ. اتخذوا من مسجد إسماعيل آغا بإسطنبول مقرًا و مركزًا. طُبِعَتْ هذه الرسالة أخيرًا بعد الاستنساخ من مخطوطة مع ترجمة الرسالة الخالدية ضمن مجلّد واحد، تتداولها أفراد الجماعة المذكورة. نظمه شخص اسمه عصمت غريب الله. وهو من أتباع عبد الله المكي، خليفة خالد البغداديّ. كان غريبُ الله هذا، رجلاً خاملاً؛ لا يُعُرَف عن حياته شيءٌ. تنتمي إليه جماعة معروفة بالتزمت فيُ إسطنبول. يرأسها حاليًّا رجل اسمه محمود أسطى عثمان أغلوا.(64/118)
المجد التالد نسخة من رسالة "المجد التالد في مناقب الشيخ خالد" موجودة في المكتبة السليمانية بإسطنبول؛ مسجّلة تحت رقم: 1161/4، بخزانة إسماعيل حقي إزميرلي. كتبه إبراهيم الفصيح. و هو من خلفاء خالد البغداديّ. قامت مكتبة الحقيقة بنشرها ضمن مجموعة من رسائل المتأخرين من شيوخ النقشبنديّة في مجلّد واحد تحت عنوان "مكاتيب شريفة" عام 1992م. وقد ورد أيضًا اسم هذه الرسالة في بحوث عباس العزّاويّ ضمن مجلّة المجمع العلمي الكرديّ ص/ 725. كما تطرّق العزّاويّ إلى رسالة تحفة العشّاق في الصفحة: 718 من نفس المصدر. وهي أيضًا من تأليف إبراهيم الفصيح. لهذه الرسالة نسخة أخرى في المكتبة السليمانية مسجّلة تحت رقم/896 بخزانة إزمير. كتبها بالعربية إبراهيم الفصيح، وله تحفة العشاق في إثبات الرابطة أيضًا. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. فقد تحمّس الفصيح في هذه المحاولة فقال:
كتبتُها في إثبات الرابطة الّتي هي من أعظم أركان الطريقة الصوفيّة ومدار أمرهم. (...) مقتصرًا فيها على بيان الأدلة الشرعية الدالة على وجودها في السنّة النبوية«؛
جامع الأصول، كتبها بالعربية أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ وهو خليفة أحمد بن سليمان الأرواديِّ من خلفاء خالد البغداديّ. أكثرُ عباراتِهِ خالصةٌ من آثار العجمة. ورد البحث عن كتاب جامع الأصول في دراسة ضخمة حول شخصية الْكُمُوشْخَانَوِي أعدّها الدكتور عرفان جندوز. و تمّ طبعها ونشرها من قِبَلِ دار السخاء للنشر عام 1984م. في إسطنبول.
رسالة المشغولية. نسخة من هذه الرسالة موجودة في مكتبة جامعة إسطنبول تحت رقم/85253 كتبه شخص اسمه أحمد سعيد المجدّدي. لكنه غير معروف في الأوساط العلمية وحتّى بين الصوفيّة. ترجم هذه الرسالة إلى العربية رجل من مدينة مغنيسيا التركية اسمه علي نائلي. غير أنها أيضًا شبه مجهول، وحتّى لغة التأليف مجهولة.(64/119)
تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب. كتبه باللّغة العربية محمّد أمين الكرديّ الأربليّ. ألّفه من قسمين. الأوّل في فقه الشافعية، والثاني في مسائل التصوف، والطريقة النقشبنديّة. إنّ النقشبنديّين الأتراك لا يهتمّون بهذا الكتاب؛ وهو شبه مرفوض عندهم. مع أنه أفضل الكتب صياغةً؛ وعباراته سلسة مستساغة. أمّا هذا الموقفُ السلبِيُّ للنقشبنديّين الأتراك، فانّ له سببين: أحدهما أنّ المؤلّف كرديّ الأصل وعربي النشأة؛ وهم يكرهون الأكراد والعرب (إلاّ قليل منهم، و هم أهل التوحيد الخالص). وسوف نشرح أسباب هذه الكراهية في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى. والسبب الثاني لهذا الموقف السلبي، هو أنّ المؤلّف شافعيُّ المذهب؛ علمًا بأنّ الأتراك يتعصّبون لمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، إلى حد جعلوا من هذا المذهب دينًا مستقلا عندهم. يعتزون به تمايزًا عن العرب خاصّة.
إرغام المريد. قامت بطبع هذه الرسالة و نشرها مؤسّسة وقفية للنقشبنديّين في إسطنبول عام 1996م. يشرف عليها عقيد متقاعد. وهي مع كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ، ضمن مجلّد واحد .تقوم بتوزيعها مكتبة الحقيقة. كتبه زاهدُ الكوثريّ المشهورُ بتصانيفه وهجماته على العلماء؛ كتبه شرحًا على النظم الّذي أنشأه سابقًا بعنوان »النظم العتيد لتوسّل المريد«. تطرّق المؤلّف إلى موضوع الرابطة في الصفحة 65 من كتابه المذكور.
مقاصد الطالبين. كتبه شخص اسمه محمّد رائف عام 1888 م. باللّهجة العثمانيّة، وقد تمّ نقله أخيرًا إلى اللّهجة التركية المعاصرة. وله نُسَخٌ مطبوعةٌ بالحروف اللاتنية.
الرسالة الأسعدية للشّيخ أسعد الأربليّ. وهو مأذون من طه الحريريّ خليفة طه الهكّاريّ. كتب شطرًا منها بالعربية، وشطرًا بالتركية. نسخة من هذه الرسالة موجودة في مكتبة جامعة إسطنبول، مسجّلة تحت رقم 438/13.(64/120)
مكتوبات أسعد الأربليّ. هي مراسلاتُهُ وخطاباته الكتابية الّتي بعث بها إلى أتباعه. يبلغ عددها 156 رسالة، تتبلور من خلالها العقلية المتخلّفة لهذا الشيخ النقشبنديّ؛ إذ لم يهتم بقضية من قضايا المسلمين في كل هذه الرسائل. وبلغت الغفلة منه عما كان يجري في أيّامه إلى حدٍّ لم يشعر بصراخ الداهية الّتي كانت وشيكة الوقوع، حتّى ذهب هو أيضًا مع الطليعة الأولى ضَحِيَّتَهَا، كما سنشرح عاقبتَهُ في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
جاءت في بعض هذه الرسائل توضيحات له حول آداب الطريقة النقشبنديّة؛ كالرابطة واللّطائف والذكر وما إليها؛ وجاء في عدد منها تفسيراته لرؤيا بعض مريديه.
الأخلاق التصوفية. تطرّق المؤلّف إلى موضوع الرابطة في المجلّد الثاني ص/ 271-275 من هذه السلسلة. تقوم بطبع ونشر هذه الكتب مؤسّسة للنشر بعنوان:دار السخاء في إسطنبول. سلسلة أعدّها محمّد زاهد كوتكو باللّغة التركية، وهي مطبوعة بالحروف اللاّتنية.
ترجمة أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ دراسة أعدّها الدكتور عرفان جندوز باللّغة التركية.
كتاب مدوّن باللّغة التركية اسمه Tarikat-i Nak?ibendiyye Prensipleri. ورد على الغلاف أنّه نُقل إلى التركية بقلم مفتي متقاعد اسمه رحمي سرين؛ وأنّ الاسم الأصليّ للكتاب Risâle-i Bahâiyye. ومؤلّفه علي قدري. غير أن مسألة الترجمة غامضة. لأنّ عملية إجراء التعديل على اللّهجة العثمانيّة أيضًا تعتبر عند بعض الأتراك المعاصرين نوعًا من الترجمة. ولذلك لم نتأكّد عما إذا دوّنه المؤلّف باللّغة العربية (وهذا بعيد الاحتمال)؛ أم كتبه باللّهجة العثمانيّة.
قد طُبع هذا الكتاب في إسطنبول عام 1994م. يتألّف من 293 صفحة، وقد رتّبه المؤلّف على مقدّمة وخمسة فصول. ورد في الصفحات 54-56 شرح في مسألة الرابطة.(64/121)
روح الفرقان. كتاب غريب أقدم على صياغته عدد من النقشبنديّين وعلى رأسهم رجل اسمه محمود أسطى عثمان أوغلو. تصدّوا فيه لتفسير القرآن بأسلوب باطنيٍّ جرئٍ وتأويلاتٍ أثارتْ جمهورَ المسلمين في تركيا عام 1992م. دوّنوه باللّغة. التركية لأنّ معرفتهم بالعربية قاصرة على قراءة نصوص معينة فحسب. أمّا التعبير فانّهم عاجزون عنه تمامّا.
لقد استدلّوا في هذا التفسير الغريب بآيات كريمة على إثبات رابطة النقشبنديّة. وتصرّفوا في تأويل كلام الله حسبما بدا لهم في مواطن كثيرة من هذا الكتاب الخطير الّذي يُتَوَقَّعُ أن يثيرَ ضجةً في صفوف عامّة المسلين إذا ما تُرجم إلى العربية أو شاع ما فيه.
إنّ هذه الرسائل والكتب ليست مما يُلفِت نظرَ العلماء والمثقَّفين؛ ولا لمحتوياتها قيمة في ديوان العلم أو في ميزان العقل، بل ذكرنا أسماءها بالاختصار علي سبيل المساعدة للباحثين. وثمّة موسوعات أخرى غيرها، وردت في سطور قليلة منها تعريفات وجيزة للرّابطة، مع الإشارة إلى أنّها من كلام الصوفيّة وآرائهم، وتأويلاتهم.
***
من الآداب عند النقشبنديّة: الذكر على أساس اللّطائف الخمس.
لقد سبق توضيحٌ ملخّصٌ في آداب الذكر عند النقشبنديّة مع التنبيه في البداية بأنّها أمور يستغربها كلّ من له علم بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويفزع من خطورتها ومن جرأة من استقاها من مستنقعات الشرك وألصقها بعقائد المسلمين.
إلى جانب هذه الآداب، فقد اختلق كبراؤهم مصطلحاتٍ أخرى غريبةً أطلقوها على مُسَمَّيَاتٍ باللّطائف. زعموا أنّها موجودة وموزَّعة في بنية البشر وحمّلوها معانٍ لم نعثر على قرينة تبرهن على وجودها في جسد الإنسان، إلاّ القلب. كما لم نجد لها قرينة بالذكر في الكتاب والسنّة سوى القلب أيضًا. وهذه اللّطائف خمسٌ في اعتقادهم كما جاء في عدد من كتبهم، منها تنوير القلوب لمحمد أمين الكرديّ إذ يقول.(64/122)
»وأوّل تلك اللّطائف، القلبُ. وهو تحت الثدي الأيسر بقدر إصبعين مائلاً إلى الجنب على شكل الصنوبر. وهو تحت قدم آدم عليه السلام؛ ونوره أصفر. فإذا خرج نور تلك اللّطيفة من حذاء كتفه وعلا، أو حصل فيه اختلاج، أو حركة قوية فيلقّن بلطيفة الروح وهي تحت الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم نوح وإبراهيم عليهما السلام. ونورهما أحمر. فالذكر في الروح والوقوف في القلب. فإذا وقعت الحركة فيها واشتعلت، فيلقّن بلطيفة السر، وهي فوق الثدي الأيسر بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم موسى عليه السلام، ونورهما أبيض. ويكون الذكر فيها، والوقوف في القلب فإذا اشتعلت أيضًا فليلقّن بلطيفة الخفيّ، وهي فوق الثدي الأيمن بإصبعين مائلاً إلى الصدر، وهي تحت قدم عيسى عليه السلام، ونورها أسود. فإذا اشتعلت أيضًا فليلقّن بلطيفة الأخفى. وهي في وسط الصدر؛ وهي تحت قدم نبينا محمّد - صلى الله عليه وسلم -. ونورها أخضر. فليشتغل بها كما تقدم« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 513-514. طبعة مصر – 1384. لمزيد من المعرفة حول مسألة اللطائف عند النقشبنديّين راجع المصادر التالية:Dr. ?rfan Gündüz, Gümü?hanevî Ahmed Ziyaüddin Pg. 183-205
Muhammed Es’ad Erbilî, Mektubât 257-403 Erkam Publishing, ?stanbul-1993
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 37. إسطنبول-1994م.(64/123)
إن من يطّلع على هذه الكلمات ويتأمّل فيها، لابد أن يتساءل عن مصدر هذه الأقاويل إذا كان يشعر بمسئولية ما يترتب عليه في وجه كل من يريد أن يعبث بالكتاب والسنّة، ويأتي ما شاء من تلقاء نفسه أو ينقل رواسب الشرك من الديانات والفلسفات فينسبها إلى الإسلام باسم الدين، ثم يدرّب الناس على فعلها زعمًا منه أنها ذكر الله! أليس اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والهندوس وسائر المشركين يعبدون الله ؟ إذن ما الفرق بين المسلم والمشرك إذا أراد المسلم أن يعبد الله كما شاءت له نفسه، وليس كما رسمه الله له وفَعَلَهُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! ألاَ يكون المسلم قد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه إذا سنّ لنفسه عبادةً لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
خاصّة الذكر عند النقشبنديّة على أساس هذه اللّطائف الخمس، فانّ الإنسان يتعجّب عندما يطّلع على صورة أدائها.
أما خطورة هذه البدعة فإنها لا شكّ تزداد عندما نجدها ممزوجة بكلمة التوحيد ومقصودًا بها ذكر الله تعالى كما تظهر فيما ورد ضمنَ رسائلهم.
هل يُعقل أن النقشبنديّين أنفسهم يستطيعون حلّ هذه الألغاز فضلاً عن غيرهم؟ ولعلّ السر في اشتهار بعض السحرة والمشعوذين منهم بصفة أولياء الله بين عوام الناس يكمن في مثل هذه الألفاظ الخرافية المختلقة.(64/124)
ولا يفوتنا الإشارة هنا بالمناسبة إلى أن الإقدام على التصرُّف في مبادئ الطريقة أمر لا يملكه أيُّ شيخ من شيوخ هذه الفرقة إلاّ من غلبت شهرته على أمثاله. كخالد البغداديّ والطبقة الأولى من خلفائه. وإنّما الكلمة النافذة للشّيخ المشتَهَرِ بين عامّتهم. لأنّه بمنزلة المجتهد عندهم. ولهذا نكتشف أن مصدر الشرف والمكانة والكرامة والبركات إنّما هي الشهرة الغالبة في هذه الطريقة. فمن ملكها ملك أمر الطائفة كلّه. وإلاّ ليس بإمكان أيّ شيخ من شيوخ النقشبنديّة أن يقوم بوضع مثل هذه الألفاظ من تلقاء نفسه إلا أن يكون قد سيطر على دماغه أحد من أباطرة هذه الفرقة الّذين نسجوا لهم ألوانًا من الأساطير بأمثال تلك الحيل نفسها على يد من سبقهم. وهكذا بالتسلسل خضع الخلف للسّلف بالطاعة العمياء. واعتقد اللاحقون بالسابقين ما يعتقد النصارى في رهبانهم أنّهم ينوبون عن الله في مغفرة الآثام. بل ازدادوا على النصارى أنّ شيوخهم يتصرفون في ملك الله وملكوته وكتابه وكلامه.
إنّ هذه العقيدة تنبت في قلب كل نقشبندي نحو شيخه وتتحول إلى إيمان راسخ لا يشوبه وَهْمٌ ولا شكٌّ. ولهذا لا يستغرب ما يأمره به شيخه إطلاقًا ولواستبدل دينه كل يوم بدين جديد!
***
الختم الخواجكاني
وكذلك من طقوس هذه الطائفة أنّهم يقيمون حلقةً سريّةً في أوقات معيّنة يسمّونها »خَتْمِ خُوَاجَكَان« وكلمة »خُوَاجَكَان«: -كما يترجمها محمّد أمين الكرديّ- »جمع فارسيّ لِ "خُوَاجَهْ" بواوٍ ثم ألفٍ. ولا تُقرأ الواو، وإنّما أوتي بها لتفخيم المدّ. والخواجه بمعنى الشيخ« المصدر السابق ص/ 520.(64/125)
وأما رأيهم واعتقادهم المتعلّقان بهذه الحفلة وآدابها على لسانهم، فيقول في ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ »اعلم أنّ لهذ الختم المبارك شرطين : الأوّل أنْ لا يحضر فيه أَمْرَدٌ ولا أجنبيٌّ، ليس داخلاً في طريقتنا لأَلاّ يُخِلّ نِظَامَهُ. الثاني: أنْ يغلق الباب. وله آدابها. منها تغميض العينين؛ والاستغفار خمسًا وعشرين مرةً؛ والجلوس متورِّكًا عكس تورّك الصلاة كما تقدّم؛ وملاحظة الرابطة الشريفة الآتي بيانها. وأركانه قراءة الفاتحة سبع مرات؛ ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة مرة؛ ثم قراءة "ألم نشرح" تسعًا وسبعين مرةً؛ ثم سورة الإخلاص ألف مرة وواحدة؛ ثم الفاتحة أيضًا؛ ثم يهدي ثواب ذلك إلى صحيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى آله وأصحابه والأولياء والمشائخ الكرام« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 15
كذلك ورد مثل هذا الكلام في بعض وريقات لمتأخّري هذه الطائفة ممّن عاشوا بعد خالد البغداديّ فاقتبس بعضهم من بعض كما يبدو. ويستدلّون على شرعية هذه الحفلة بحديث كما مر في باب الرابطة.(64/126)
إلاّ أنّ حقيقة هذه الحفلة ليست كما يشرحها النقشبنديّون في مثل ما سجلناه آنفا من عباراتهم. بل هي شكل من تقاليد الباطنيّة، بَقِيَتْ بظاهرها في حدود هذا الرمز. إذ من الواضح البيّن أن إغلاقَهم للباب راجع الهامش رقم/89. عادةٌ استورثوها من قدمائهم من رؤوس الباطنية الّذين كانوا يقومون بعقد اجتماعات سريّة لضرب المسلمين وإفساد عقيدتهم، وهدم دولتهم ولكنّهم وضعوا لها آدابًا من الذكر والتلاوة والصلوات، تقيّة وحذرًا من أن تفتضح أسرارهم إثر مداهمةٍ قد تقوم بها سلطات المسلمين. ثم شاء الله أنْ اختفت المقاصد مع الزمان، وبقيت الآداب على هيئتها بعد أن تعرضت الطريقة النقشبنديّة لاستحالات وتغيّرات عديدة على حسب اتجاه الروحانييّن الّذين آلت إليهم أخيرا أَزِمَّةُ الطريقة، وهم من أهل التقشّف والعزلة والرهبنة. يجهلون ما مرّت بها طريقتهم عَبْرَ القرون من ألوانِ التبدّلات. إنّما هذا الجهل هو الّذي يؤدّي بهم حتّى يدّعي المعاصرون من أئمتهم، أنّ عقائدهم وعاداتهم وحفلاتهم متواترة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم غافلون بذلك عن أنّ طريقتهم تتميّز عن الإسلام حتّى بِلُغَتِهَا.
يذكر الكرديّ في مقالته السابقة آنفًا أنّ كلمة "خواجه" فارسيّة. وهذا يُْنِبِئُنَا مرةً أخرى بأنّ للفرقة النقشبنديّة لُغَتُهَا الخاصّة في مناسكها، ودعائها، وطقوسِها... تختلف عمّا للمسلمين كما سَبَقَتْ الإشارة إليها في بداية الفصل الثاني. إذ يعترف بهذه الحقيقة كثير من رجالهم. ومنهم محمّد بن عبد الله الخانيّ، يتطرّق إلى هذه المسألة في فصلٍ خاصٍّ فيقول:
»إن للقوم مصطلحات لابدّ لسالكي طريقتهم من ضبطها ومعرفتها والعملِ بمضمونها. ولما كانت هذه الطريقة الشريفة قد ظهرت في بلاد ماوراءالنهر واشتهرت فيها، وكان أعزّة تلك البلاد يتكلّمون بالفارسيّة جرى أكثر تلك المصطلحات على لسانهم بتلك اللّغة.«
***(64/127)
المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة وأسرارها.
ثم يشرع الخانيّ في سرد هذه المصطلحات المُخْتَلَقَةِ والموضوعةِ باللّغة الفارسيّة، وهي مبنىَ طريقتهم. وقبل أن ندخل في بيان المقاصد الحقيقية للنقشبنديّين من هذه المصطلحات، وإفشاءِ ما أكنّه صناديدُ الطائفة في بطونهم من أغراضٍ، وما يتربّصون من وراء الرابطة خاصّة، يجب أن نؤكّد على أنّ جميعَ ما أحدثه النقشبنديّون باسم الذكر وما أقرّوه من أورادٍ وآدابٍ وشرائطَ في السير والسلوك الروحانيِّ، كلّها تختلف إختلافًا كبيرًا عن أذكار النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ونوافله الشريفة ومناسكه الطيّبة الطاهرة. إذ لم يكن بين دعائِهِ وأذكارِهِ وأشكالِ تَعَبُّدِهِ شيءٌ مّمّا اخْتلقتهُ النقشبنديّة من الرابطة، والختم الخواجكانية، والاستمدادِ من أرواح الموتى وأمثالِها. وإنّما حياته الروحية عليه الصلاة والسلام مشرقة، واضحة، وبيّنة؛ كحياته في أمور دنياه، مضبوطة في كتب الرجال بروايات الثقاة، ومتواترة عَبْرَ الأجيال بين المسلمين.(64/128)
على سبيل المثال فان كتابَ "الأذكار" للإمام الجليل محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، حافلةٌ بباقاتٍ من أزاهير دعائه الطيّبةِ وأذكاره العاطرةِ ونوافلهِ ومناسكهِ الشريفةِ المنسجمةِ مع روح القرآن الكريم؛. فإننا لا نجد في هذا الكتاب القيّم ولا فيما سبقه كـ» عمل اليوم والليلة« للإمام أبي عبد الرحمن النسّائي وكتاب »عمل اليوم والليلة« للإمام أبي بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق السني. لا نجد في هذه المصادر شيئًا اسمه الرابطة. ولا نجد فيها ما تفعله الفرقة النقشبنديّة من الحفلات السرية المعروفة بينهم بـ »الختم الخواجكانية« ولا ما تعتقده من »الاستمداد بالروحانية« و»الإستغاثة بالموتى« والتعبّد على أسلوب الهنادك بالتقشّف والرهبنة. فحاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد عمل شيئّا مّمّا كان يعمله رهبان المجوس والنصارى من أشكال العبادات والنسك.
***
مباني الطريقة النقشبنديّة.
إن كثيًرا من الناس يعتقدون أن الطريقة النقشبنديّة طريقة سُنِّيَّةٌ؛ ولكن "السنِّيَّةَ" المعروفة والمنتشرَة الّتي جعل بعضُ الكلاميّين منها مصطلحًا أطلقوه على السواد الإسلاميّ الأعظم ليميّزوه عن بقيّة الفرق الّتي تدّعي الإسلام؛ نعم هذه السنِّية التقليديّة نفسّها لا تمثّل السنّة في الحقيقة، ولا توافق الإسلام الخالص؛ بل تختلف عنه بكثير من جوانبها؛ وتتضارب مع روح الكتاب والسنّة، فضلاّ عن أنّ بين الطريقة النقشبنديّة والإسلام مقارعة شديدة تتراءى بوضوح إذا ما تمّت أدنى مقارنة بينهما.
هذا بالرغم من أن بعض الروحانيين قد أصرّوا على أنّ الطريقة النقشبنديّة هي الإسلام نفسه، وفي هذا يقول محمّد بن عبد لله الخانيّ:(64/129)
»اعلم أيّها الطالب لمعرفة الله تعال - وفّقنا الله وإياك - أنّ معتقَدَ ساداتِنَا النقشبنديّة قدّس الله أسرارهم الزكية، هو معتقَدُ أهل السنّة والجماعة. ومبنى طريقتهم على حفظ أحكام الشريعة المطهّرة« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 3 طبعة مصر - 1319هـ. بينما هذه الكلمات عينُها تكذّب الناطقَ بها، وتفضحه فيما يدّعيه باشدّ ما يقوم الدليل على صاحبه. ذلك أنّه قد أتى بصيغة غريبة من الدعاء في عباراته. وهي »قدّس الله أسرارهم« إذ لا نعثر على أدنى شئٍ يبرهن على أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحدًا من أصحابه قد نطق بمثل هذه الصيغة في دعائه. بل هذا من أسلوب الغلاة والباطنية. فإنّهم يعظّمون مشائخهم. وربما تكون هذه العادة قد شاعت بين خاصّتهم مع الزمان بتأثير النصارى. لأنّ المسيحيّين يقدّسون رهبانهم ويصفونهم بالقداسة.
وما أدلّ على أنَّ الطريقة النقشبنديّة تتعارض مع الإسلام بكل مُقَوِّمَاتِها ومفاهيمها؛ من اعترافاتهم الّتي تتمثّل في كل كلمة سجّلوها على سبيل التعريف والتوضيح لمصطلحاتهم. منها مثلاً قول بعضهم: »ومبنى هذه الطريقة العليّة على العمل بإحدى عشرة كلمة فارسيّة: ثمانية منها مأثورة عن حضرة الشيخ عبد الخالق الغجدوانيّ. وهي: هُوشْ دَرْدَمْ، نَظَرْ بَرْقَدَمْ، سَفَرْ دَرْ وَطَنْ، خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ، يَادْ كَرْدْ، بَازْ كَشْتْ، نِكَاهْ دَاشْتْ، يَادْ دَاشْتْ« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506-507. طبعة مصر - 1384 هـ. ورد تعداد هذه المباني الأحد عشر في المصادر التالية من كتبهم بما فيها المصدر السابق:
* علي بن الحسين الواعظ، رشحات عين الحيات ص/ 32-41؛
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 50-54 طبعة مصر - 1319هـ؛(64/130)
*عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 112-117؛
Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Z?yâüddîn, Hayat? ve Eserleri. Pg. 234-236 Seha Publishing Istanbul-1984 *
Dr. Selcuk Eraydin, Tasavvuf ve Tarikatlar, Pg. 376-380. Istanbul-1994
Faruk Meyan, Sah-i Naksibend Pg. 69-78 Cile Publishing Istanbul
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 77-93. إسطنبول-1994م.
نعم هكذا يظهر بإقرار أئمّتهم أنّ مبادئ طريقتهم كانت في البداية ثمانية. ثم أضاف إليه محمّد بهاء الدين البُخَاريّ ثلاثةً أخرى فصار بعدها أحد عشر مصطلحًا. وهي تركيبات فارسيّة، فيها أجزاء عربيّة للضّرورة.
فقد ذكر بعضهم هذه المصطلحات على غير الترتيب الّذي جاء في تنوير القلوب، ومنهم محمّد بن عبد لله الخانيّ وحفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ ولكن ترتيب الحفيد أيضًا لم يأت موافقا تمامًا لترتيب جدّه. إذ أورد الحفيد كلمة »نَظَرْ بَرْقَدَم« في المرتبة الرابعة؛ و»هُوشْ دَرْدَمْ« في المرتبة الخامسة في تعداد المصطلحات المذكورة. بينما كان جده قد جعل »هُوشْ دَرْدَمْ« هي الرابعة. و»نَظَرْ بَرْقَدَمْ« هي الخامسة. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 50-52. طبعة مصر - 1319هـ.؛ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 112-117.
ولا نقصد الاستدلال بهذا الخلاف البسيط علي بطلان دعواهم ما دام كلّهم يتّفقون في أصلٍ باطلٍ بُنِيَتْ طريقتهم على أساسه. كما تظهر هذه الحقيقة إلى العيان بوضوح بعد استكشاف المقاصد البعيدة الّتي أكنّها قدماء الطائفة في طيّ شروحهم لهذه المصطلحات.
***
يقول الكرديّ في شرح الكلمة الأولى منها:(64/131)
»أمّا "هُوشْ دَرْدَمْ": فمعناه حفظُ النفَسِ عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما. ليكون قلبه حاضرًا مع الله في جميع الأنفاس. لأَنَّ كلَّ نَفَسٍ يدخل ويخرج بالحضور فهو حيٌّ موصول. وكلّ نَفَسٍ يدخل ويخرج بالغفلة فهو ميّت مقطوع عن الله« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.
لقد يبدو من ظاهر هذه الكلمات أنّها موافقة للحق في الوهلة الأولى؛ إذ فيها حثّ على صحوة القلب، ونكير على الغفلة إلى حدّ يستطيبه المؤمن. ولكن بعد إمعان الفكر في شكل هذا التركيب وأسلوب تفسيره، لا يخفى على العالم الماهر بروح الكلمات أنّ هذه الصيغة ماكرةٌ تُنْبئُ عن ضلالاتٍ دسّتْها الزنادقةُ في ثنايا تلك الألفاظ، مع احتفاظها بمخلّفاتٍ من عقائد البراهمةِ والبوذية. والحال هذه، فقد أنذرنا الله تعالى عن الغفلة بأشدّ وأبلغ ما يتّعظ به الإنسان، فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فيِ نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخيِفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَلِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِنَ} سورة الأعراف/205. كما نهانا سبحانه عن طاعة صاحب القلب الغافل، فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.} سورة الكهف/28. وفي مواطن أخرى كثيرة من كتاب الله ورد التشنيع بالغافلين، مما يؤكّد أنّ المؤمنَ بالقرآن، والمحظوظَ بمعرفة معانيه، والمواظبَ على تلاوته، والمستنيرَ بهديه، لن يفتقر إلى كلمة »هُوشْ دَرْدَمْ«، ليكون حاضر القلب مع الله؛ ولن يلتفت إلى هذه الكلمة الّتي ظاهرها خير من باطنها لأسباب:(64/132)
منها: أنّ واضع هذا المصطلح (حسب إسنادهم) ليس من علماء المسلمين الّذين أعلنتْ الأمةُ عن ثقتها بهم. كالأئمّة الأربعة المجتهدين ومن جاء مِنْ بعدهم من المتقدّمين والمتأخّرين؛ من أمثال محمّد بن إسماعيل البُخَاريّ، ومسلم بن الحجاج القشيريّ النيسابوريّ، ومحمد بن الطيب الباقلانيّ، والإمام النوويّ وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين؛ بل كان صوفيًّا مات في بُخَارَى عام 575 من الهجرة. وقد يكون شخصيّةً خياليّةً لا حقيقةَ لوجوده.
ومن هذه الأسباب: الانحراف عن مسلك السلف الصالح في الأصول. ذلك أنّ جميع العلماء سواءً الفقهاءَ منهم والمحدّثين، حتّى المدلّسين والزهّاد والمعاصرين لهم، لم يختاروا وضعَ مصطلحاتِهم إلاّ باللّغة العربية، بخلاف النقشبنديّين الّذين يدّعون السير علي نهجهم.
فالقشيريّ مثلاً، مع أنّ الطائفة النقشبنديّة تَعُدُّهُ من كبار الصوفيّة وتبالغ في تعظيمه، وتستقي من آثاره في كثير من المناسبات، نعم هذا القشيريّ لم نعثر على شئ في رسالته من هذه المصطلحات الفارسيّة الغريبة. فقد ورد في رسالته الشهيرة من شتّى مصطلحات الصوفيّة كالقبض، والبسط، والجمع، والفرق، والفناء، والبقاء، والغيبة، والحضور، والصحو، والسكر، والذوق، والشرب، والسر والتجلّي، والمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، وللّوائح، والطوالع، واللّوامع، والمجاهدة، والخلوة، والعزلة، والفتوّة، والولاية، والمعرفة، والمحبّة، والشوق وغيرها مما يضيق المكان عن استيعابها، ولكن لا نجد فيها حتّى مصطلحًا واحدًا من تلك الّتي وضعتها زنادقة العجم كقولهم: »هُوشْ دَرْدَمْ، نَظَرْ بَرْقَدَمْ، سَفَرْ دَرْ وَطَنْ، خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ...إلخ.«(64/133)
وكذلك من الأسباب المثيرة للشّكّ فيما يحتويه مصطلح »هُوشْ دَرْدَمْ«، بل وما تبدو من علامات الخطورة فيما يُقْصَدُ من هذا التركيب، أنّه رمز لمرحلة من مراحل الرياضة النفسية والوجدانيّة على طريقة المجوس البرهمية والبوذية؛ يقتنع السالك بعد كمال هذه الرياضة بالاتحاد، وينسلخ من التوحيد تمامًا كما ستبدو هذه الحقيقةُ بعد دراسة البقيّة من هذه المصطلحات، وإظهار ما تتواري خلفها من أغراض مدسوسة.
أمّا خلاصة ما يُقصد من هذه الرياضة الخاصّة (وإنْ كذّبها النقشبنديّون وردّوها بعنفٍ)، فما هي في الحقيقة إلاّ محاولةٌ لتمهيدِ السبيلِ حتّى يَقِرَّ السالكُ في نفسِهِ عند نهاية المطاف: أنّ الله قد حلّ فيه، أو هو حلّ في الله -سبحانه عمّا يصفه الفاسقون- وذلك ليس إلاّ مقدّمة لعقيدة وحدة الوجود كما يبرهن على هذه الخطّةِ إدماج الباطل في قلب الحق ضمنَ مزيجٍ من ألفاظٍ واردةٍ في شرح هذا المصطلح بأسلوبٍ ماكرٍ قلّ من ينتبه إلى الخطورة الكامنةِ فيها، وهي عقيدة »الفناء في الله«
إذًا فلنعد مرةً أخرى إلى ما سجّله الكرديّ من تفسيرٍ لهذا المصطلح تمحيصًا لما نتوقّع فيه من مقاصد خفية تتعارض مع ظاهره.
يقول الكرديّ، »فمعناه: حفظُ النفَسِ عن الغفلة عند دخوله وخروجه وبينهما، ليكون قلبُهُ حاضرًا مع الله.«
حقًّا، إنّ الغفلة عن الله مقبوحة، وقد سبقت الإشارة إليها آنفًا بشهادة الآيات البيّنات من كتاب الله عزّ وجلّ؛ ولكن الاجتناب عنها، هل ينبغي أن يكون بهذه الطريقة، أم للإسلام في ذلك طريقته الخاصّة؟
فإذا طلبنا الجواب عن هذا السؤال وجدناه بصراحةٍ وجزالةٍ في مواطن كثيرة من كتاب الله العزيز.
منها على سبيل المثال قوله تعالى {فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ إنّ ذَلِكَ لَمُحْيي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شئٍ قَدِيرٌ} سورة الروم/50(64/134)
قد أمر الله في هذه الآية الكريمة بالنظر إلى آثار رحمته تحذيرًا عن الغفلة، وترغيبًا في حضور القلب؛ وحثَّ الإنسانَ على ذلك ليعتبر بما خلقه الله وأبدعه، وأنّه كيف يحيي الأرض بعد موتها بقدرته تعالى حتّى يلين قلبه، وتتأثر عاطفته، وليثبت على إيمانه بأنّه الخالق البارئُ الواحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئٌ.
ولكنّ الغاية من كلمة »هُوشْ دَرْدَمْ«، ومتمّماتها ليست هذه بتاتًا. بل الغرض الحقيقي المكنون في عمق هذه الكلمة إنّما هي ترسيخ عقيدة »وحدة الوجود« في قلب سالك الطريقة بترويضه من خلال تمرينات جوكية. وهي كثيرة مشروحة في كتبٍ عديدةٍ بلغاتٍ مختلفةٍ، أقدمها كتاب »السطْرَايَات« للرّاهب الهنديّ باتانجالي (Patanjali). لأنّه لم يرد في كتاب الله ولا في سنّة رسوله صلى لله عليه وسلّم أمرٌ مفروض بمراقبة كلّ نَفَس، ولا بيانٌ فيما أنّ حضور القلب مع الله موقوف على مثل هذه المراقبةِ
وبالخلاصة فمن أرهق نفسه بمقارنة آداب النقشبنديّة مع أمثالها الموجودة في الديانات الهندية، وجد المطابقة التامّة بينهما »وكفى الله المؤمنين القتال.«
» أمّا "نَظَرْ بَرْقَدَم": فمعناه أنّ السالك، يجب عليه أن لا ينظر في حال مشيه إلاّ إلى قدميه؛ ولا في حال قعوده إلاّ بين يديه. فانّ النظرَ إلى النقوشِ والألوانِ يُفْسِدُ عليه حالَهُ ويمنعه مما هو بسبيله. لأنّ الذاكر المبتدئ إذا تعلّق نظرُه بالمبصَرات اشتغل قلبه بالتفرقة الحاصلة من النظر إلى المبصَرات لعدم قوّته على حفظ القلب.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.(64/135)
كانت هذه ألفاظ محمّد أمين الكرديّ الأربليّ أحد رؤوس النقشبنديّة وهي واضحةٌ إلى حدّ لا يقبل التأويل، إلاّ أنَّ مِنْ وراء هذه الألفاظ غاياتٍ مشبوهةً، ودسائسَ خطيرةً لا يتمكّن من كشف الستار عنها إلاّ مَنْ أنار الله قلبَه بهدي القرآن والسنّة. ذلك أنّ ما جاء في هذه العبارات مِنْ نصيحة المريد المبتدئ »أنْ لا ينظر في حال مشيه إلاّ إلى قدميه ولا في حال قعوده إلاّ بين يديه« لا يتضمّن شيئًا مما جاء في قوله تعالى {وَاقْصِدْ فيِ مَشْيِكَ} سورة لقمان/19. بل لا علاقة بين الأمرين. إذ أنّ القصد في هذه الآية الكريمة، هو الاقتصاد. قال ابن كثير: {وَاقْصِدْ فيِ مَشْيِكَ}: »أي امش مشيًا مقتصدًا ليس بالبطيء المتبثّط، ولا بالسريع المفرط؛ بل عدلاً وسطًا بين بين.«
إنّما قدّمنا هذه المقارنةَ، إحباطًا لما قد يتعمّد أحدهم فيسرعُ إلى الاستدلال بهذه الآية الكريمة لتبرير باطله بالحقّ كما هو دأبهم.
أمّا الغرض الأصليُّ مِنْ هذا المصطلح ليس إلاّ ترويض السالك المبتدئِ على الخنوع والذلّ والمسكنة؛ حتّى يَنْسَدَّ عليه أبواب اليقظة والوعي، فيتقبّل كلَّ ما يأمره شيخُهُ دون اعتراضٍ؛ فيُصْبِحَ في النهاية عبدًا مطيعاً لا يخالفه أبدًا؛ وإنْ كلّفه باقتحام حرمةٍ، أو اقترافِ جريمةٍ؛ كما سبق الحديث عنه في باب آداب المريد مع شيخه.(64/136)
وبجانب هذا، فإنّ إصرار الإنسان على إثبات نظره أمامه، لم يرد إلاّ في الصلاة. وهو مطلوبٌ أيضًا أثناء الدعاء. أمّا في غيرهما من حالات الإنسان، وخاصّة إذا كان مشغولاً بأمرٍ من أمور دنياه فلا. لأنّ الإنسان إمّا يكون في حال السير يتنقّل من مكانٍ إلى آخر لغايةٍ يريد تحقيقها؛ أو يكون جالسًا مع أصحابه أو شركائه أو أهله في غالب الأوقات. و في كلتا الحالّتين ينبغي للإنسان أنْ يلتفتَ إلى جهاتٍ مختلفةٍ عند كلِّ حدثٍ جديدٍ، من صوتٍ أو حركةٍ أو ضوءٍ؛ ليتأكّد ممّا يجرى حوله؛ وليتّخذ الموقفَ اللاّزم مِنْ حيطةٍ أو استعدادٍ على حسب ما يقتضي. ولكنّ الّذي يخفى على غالبية الناس هنا، أنّ إثبات النظرِ إلى أقرب مكان من الأرض نحو الأمام في حالّتي المشي والقعود بصورة متواصلة، لهي من أهمّ الشروط لصلاة اليوغا في الديانات الهندية. وفي ذلك مقاصد: منها ترويض الإنسان على الذلّة والمسكنة. وهما من الفضائل في الديانة البوذية الّتي تستمدُّ من حياةِ بوذا الحكيم Buddha. و»يُقال إنّه رأى وهو في التاسعةِ والعشرين، ولأوّلِ مرّة، عجوزًا خرفًا، ورجلاً مريضًا، وناسكًا مترحِّلاً، وجثّةَ مَيْت. فهالَتْهُ مظاهر الحياة هذه الّتي لم تقع عليها عيناه من قبل، فانسلخ عن ماضيه وتنسّك. ولكنّه ما لبث أن اطّرح، بعد ستّ سنوات، حياة التنسّك الصارم، واستغرق في التأمّل العميق المُفضي إلى التنوّر. وسرعان ما اجتمع حوله عددٌ من المريدين كانوا نواة جماعة "الرهبان المتسوّلين" الّتي أسّسها«(64/137)
إنّ هذه العبارات المنقولة من موسوعة المورد لمنير البعلبكي، تدلّنا إلى طبيعة الرهبنة الهندية على تمامِ حقيقتِها، وما لِسَالِكيِهَا من الإهمال، وإسقاط التدبيرِ، والتأمّل العميق الذي يقتضي إثبات النظر على نقطةٍ معيَّنَةٍ طوال ساعات مديدة... وهذا لاشكّ استخفافٌ ظاهرٌ بسنّةِ اللهِ تعالى. علمًا بأنّ الرهبنة والتسوّل هما الذلّة والمسكنة بعينهما، وهما من العقوبات الّتي أخذ الله بها بني إسرائيل عند ما استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ.} سورة البقرة،/61.
هذا، ومن المعجزات الكامنة في هذه الآية الكريمة، أنّ المجتمع الهنديّ-البرهميَّ قد حكم بالذات على نفسه بالذلة والمسكنة جزاءً بما وقع فيه من الشرك البواح. لأنّ هذا المجتمع يتميّز من جميع أصناف المشركين في العالم بتقاليده الّتي تُعَدُّ من أشد مظاهر المقاومة للفطرة الإنسانيّة السليمة. إذن فأولى بمن تشبّه بهم، أن يأحذهم الله تعالى بنفس العقوبة.
كذلك من المقاصد الّتي تكمُنُ من وراء هذه الرياضة الهندية المتمثّلة في إثبات النظر، هو "التركيز". ومؤدّاه: الانصراف من هموم الدنيا والآخرة، تخلُّصًا من متاعبها ومشاقّها؛ وفقًا لتعاليم »بوذا الراهب الّذي صدمته مشكلة آلام البشريّة، فقرّر أن يقطع صلتَه بالماضي ويبحث عن الحقيقة السامية في التأمُّل." موسوعة بهجة المعرفة، المجموعة الثانية، 3/135. للإطلاع على أقوالهم الواردة حول مفهوم العزلة عند النقشبنديّين راجع المصادر التالية:
أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 54. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 110. ط. 1276 هـ.(64/138)
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة إلى اللّغة التركية: رحمي سرين) ص/ 22. إسطنبول-1994م. " وكان بوذا يعتقد أنّ الألم ينجم عن الرغبة. وأنّ التخلّص من الرغبة يأتي بانتهاج (الطريق الثمانيّ النبيل) الّذي يتمثّل بالسيرة الحسنة، والفعل الحسن، وأنّه من الممكن نتيجةً لذلك بلوغ النرْفاَنَاNirvana . وهي حال من السعادة القصوى.« المصدر السابق ص/ 136.
وأمّا السعادة القصوى (أي النيرْفاَنَا) تلك الّتي طالما تتحدّث عنها البوذيُّون ويسعون من وراءها؛ إنّما هو "الفناء في الله" بعينه عند الصوفيّة.
إذًا يتّضح لنا بصورةٍ جليّةٍ أنّ مصطلحَ "نَظَرْبَرْقَدَمْ" وما يشتمل عليها من المعاني الفلسفية، هو مُقْتَبَسٌ من البوذية دون شكّ. وأنّ الإسلام بريءٌ من هذه الهرطقة؛ كما يبرهن على ذلك حياة النبيّ عليه الصلاة والسلام، وحياة أصحابه عليهم الرضوان. إذ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قام بمهامّ وأعمال عجز العلماء والمؤرِّخون عن حصرها. فقد قاد الجيوشَ، واحتلّ منصبَ أوّلِ رئيسٍ للدولة الإسلامية، وراسل الملوكَ، وهادن العدوَّ، وأبرم العقودَ والمعاهداتِ، وقضى بين الناس، وحكم بالعقوبات، وأمر بتنفيذها إلى غير ذلك من الأمور الّتي تستوجب الحركة والانتباه والالتفات إلى حيث يقتضي. كلّ ذلك يبرهن على أنّ مقولة "نَظَرْبَرْقَدَمْ" بدعةٌ دخيلةٌ استقوها من رهبان البوذية والبرهمية. "ومن تشبّه بقوم فهو منهم«. أبو داود-لباس- رقم الحديث: 3512؛ مسند الكثيرين من الصحابى، رقم الحديث: 4868.
***
"أمّا "سَفَرْدَرْوَطَنْ"، -وهو المبدأ الثالث للطّريقة النقشبنديّة- فيقول محمّد بن عبد الله الخانيّ في تفسير هذا المصطلح: »فالمعنى المراد بها أنه ينبغي أنْ يكون سفر السالك من عالم الخلق إلى جناب الحقّ سبحانه وتعالى« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 52. طبعة مصر - 1319هـ.(64/139)
لقد سلك الخانيّ طريقًا ملتويًا باختيار هذه الكلمات ليستعرض بها من فنون لباقته في التعمية. بيد أنه لا يعزب عن العقول النيّرة »أن السفر من عالم الخلق إلى جناب الحق« عقيدة باطلة، »ما أنزل الله بها من سلطان«. لأنّ قولهم »السفر من عالم الخلق« يعني الخروج والنزوح والتطهّر من الطبيعة المخلوقية، والتدرّج إلى مقام الخالقية، والاندماج في الله! وهذا هو المقصود بعينه من كلمتهم »الفناء في الله«. ولكن جاءت هذه الكلمة في صيغة جديدة كما هو دأبهم.
هذا وقد تناول محمّد أمين الكرديّ كلمة "سَفَرْدَرْوَطَنْ"، وفسّرها بصيغة أكثر مرونةً؛ وربما تفاديًا لأيّ ردٍّ قد يواجهون من جرّاء ما يحتمله تفسير الخانيّ لهذه الكلمة من عقيدة وحدة الوجود، والوصول إلى الله، و»الفناء في الله«.
فقال الكرديّ »فمعناه الانتقال من الصفات البشرية الخسيسة إلى الصفات الملكية الفاضلة.«
غير أنّ هذه الكلمات جاءت على خلاف ما ذهب إليه الخانيّ؛ وهذه من تناقضات النقشبنديّة. وما أكثر من تكذيب أحدهم للآخر. وهي من أعظم الحجج القائمة عليهم.
***(64/140)
وأمّا "خَلْوَتْ دَرْأَنْجُمَنْ": فمعناه "الخلوة في الجلوة" على حسب تعبيرهم. وهو المبدأ الرابع للطريقة النقشبنديّة. فقد راوغ الخانيّ في تفسير هذا المصطلح المشبوه، وتفنّن في تحميل المعاني السامية عليه. فقد جاء في مقطع من كلامه »أنّ الخلوة نوعان: الأوّل؛ الخلوة من حيث الظاهر. وهي اختلاء السالك في بيتٍ خالٍ عن الناس، وقعوده فيه؛ ليحصل له الإطّلاعُ في عالم الملكوت، والشهودُ في عالم الجبروت. لأنّ الحواسّ الظاهرة إنْ احتبستْ عن أحكامها؛ انطلقت الحواسُّ الباطنةُ لمطالعةِ آيات الملكوت، ومكاشفة أسرار الجبروت. والنوع الثاني؛ الخلوة من حيث الباطن. وهي كون الباطن في مشاهدة أسرار الحقّ، والظاهر في معاملة الخلق بحيث لا تُشغِلُهُ معاملة الظاهر عن مشاهدة الباطن. فيكون الكائن البائن. وهذه هي الخلوة في الحقيقة كما أشار إليه تعالى في قوله: { رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.}« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 53. طبعة مصر - 1319هـ.
هكذا استدلّ الخانيّ في النهاية بكلام الله تعالى في غير مورده. لأنّ الآية المذكورة لا علاقة لها إطلاقًا »بمن يختلي في بيت خال عن الناس ويقعد فيه ليحصل له الإطلاع في عالم الملكوت«. واللهُ تعالى يقول، { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ.} سورة الجن/26، 27. وقد خُتِمتْ الرسالة في جنس البشر بمحمّد - صلى الله عليه وسلم -
أمّا الّذين أشار الله إليهم في الآية المذكورة فإنما هم رُسُلُ اللهِ الأمناءُ على سرّهِ المكلّفون بتبليغ رسالاته، وليس أولئك الكهنة الّذين تَنْسُبُ إليهم الصوفيّةُ أنواعَ الكرامات والخوارق.
***(64/141)
وأمّا لفظ "يَادْكَرْدْ": وهو خامس المباني للطريقة النقشبنديّة. فيقول محمّد أمين الكرديّ في تفسيره لهذا المصطلح: »فمعناه تكرار الذكر على الدوام، سواء باسم الذات أو النفي والإثبات« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ. لا شكّ فيما أنّ ذكر الله أفضل الأعمال. وقد قال تعالى: { فَاذْكُروُنيِ أَذْكُرْكُمْ.} سورة البقرة/152. وقال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثيِرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكارْ.} سورة البقرة/152. وقال تعالى: { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتيِلاً.} سورة مزمّل/8 وقال تعالى: { أَلاَ بِذِكْرِْ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوُبُ.} سورة الرعد/78 وجاءت في القرآن الكريم آيات أخرى تحثّ على ذكر الله.
إلاّ أنّ الغرض من الذكر في الطريقة النقشبنديّة يختلف عمّا هو المقصود في القرآن اختلافًا كبيرًا. ولا يَفْطَنُ إلى هذا الاختلاف إلاّ من رزقه الله المعرفة الواسعة بعقائد مجوس الهند، وبِمَدَى تأثيره على الطريقة النقشبنديّة في مسألة الذكر.
لأنّ الذكر في الإسلام بكلّ معناه اللغويِّ والاصطلاحيِّ، ليس هو الذكر الّذي يَقْصُدُ به واضعُ مصطلَحِ "يَادْكَرْدْ". فانّ الذكر في الإسلام هو الصلاة المفروضة والمسنونة، وتلاوة القرآن، والدعاء المأثور عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد يُطلق على أوراد معروفة بترديد أسمائه تعالى الواردة في القرآن الكريم وغيرها من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وما إلى ذلك. ولكن بالأعداد الّتي وردت في السنّة الصحيحة.
فالمقصود بهذا الذكر، ليس إلاّ توحيد الله تبارك وتعالى وتنزيهه من كلّ مالا يليق بشأنه سبحانه، والإقرار بالعبودية له وحده.(64/142)
أمّا الذكر في الطريقة النقشبنديّة بمعناه الحقيقي، فليس هذا الّذي عددناه، ولا الغرض الحقيقي هو توحيد الله أو العبودية له؛ بل المقصودُ الأصليُّ الّذي لا يعرفه إلاّ الروحانيّون منهم، هو طلب "المعرفة بالله" ومحاولة الوصول إليه، كما هو في الديانة البوذية. تعالى ربُّنا عن ذلك علوًّا كبيرًا. ذلك أنّ المعتنقين لشعبة من هذا الدين الوثنيِّ يعتقدون »أنّ الله يحلّ في أيّ صورةٍ يختارها من صور أفراد الإنسان ليكمِّلها ويطهّرها« عبد القادر شيبة الحمد، الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، ص/ 76. ولهم أوراد وأذكار يردّدونها بأعداد كبيرة تُقَدَّرُ بالآلف طلبًا لتلك الغاية مع القيام بعمل التركيز على شئٍ معيَّنٍ.(64/143)
فقد اطّلع بعض رجال الدراسة والبحث على هذه الرياضة البوذية-البرهمية. يقول أحدهم: »أمّا عن ترويض نفوسهم، والتحكّم بقواهم العقليّة، فهم يمارسون بالإضافة إلى تلك الرياضات طرقًا شتّى مثل قطع العلائق والروابط المجتمعيِّ، والخلوة الطويلة في مكان مقفر، وحبس الشهيق في الصدر وتحديق النظر في شئٍ ثابت لا تبارحه العين، وترديد كلمة معيّنة على نغم واحدٍ، وحصر الذهن في موضوع معيّن لا يتعدّاه الفكر... إلى غير ذلك من الممارسات والتجارب الّتي يتوصّلون بها إلى طرد كافّة المؤثّرات والمشاغل عن الأذهان، وإخراج الطاقات البدنية والعقلية عن وظائفها الأساسيّة وتجميعها لحساب غرض واحد: وهو الخروج عن المظهر العامِّ للناس في كلّ شئٍ، واختراق القوانين المألوفة للحياة الطبيعية؛ والعجيب في أمر هؤلاء السحرة الّذين يتّبعون تلك الرياضات البدنية الشاقة والإنتحارات الذهنية المتكررة، أنّ أحدهم يصير بعدها وكأنه قد تلاشت فيه حدود الأشياء، وتساوت في نظره الأضداد؛ فهو لا يحبّ ولا يكره، ولا يعرف ولا ينكر، ولا يسرُّ ولا يحزن، وهو يذهل عن نفسه حتّى لا يشعر بما يصدر عنه من انفعالات أو يدخل عليه من مؤثّرات؛ ولعلّ بفعل ذلك تتولّد عنده القدرة على الإتيان بأعمال السحر أو التخييل أو التنويم، فيراه الناس قادرًا على أن يهدّئ الأسد الغاضب بنظره، ويلاعب النمر الجائع فلا يأكله، ويختفي عن أنظار المشاهدين وهو في وسطهم يحادثهم ويسائلهم، ويقرأ الأفكار في الأذهان حتّى يتوهّم البسطاء أنّه يرى البعيد ويعلم الغيب...« سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام، ص/ 155.(64/144)
فقد اقتبس قدماء النقشبنديّة هذه الظاهرة من البوذية، وقمّصوها مصطلح "يَادْكَرْدْ" وحمّلوها معنى الذكر، وجعلوها ركنًا من أركان طريقتهم. لذا يستحيل على الجهلة بطبائع الأديان منهم أن يكتشفوا سرّ هذا الإقتباس، وخاصّةً الشيوخ المعاصرين من الأتراك والأكراد لهذه الطائفة أغلبهم جهلة لا ثقافة لهم، فلا يتأتّى لأحدهم أنْ يقارن بين الأديان والمعتقدات، فيكشف ما تسرّب من بعضها إلى بعض، وما طغى بعضها على بعض، تجلّى بمعتقداتٍ متباينةٍ وأشكال مختلفة عبر القرون. ومع ذلك لا يُفرّق شيوخهم بين "العبادة لله" و"المعرفة بالله". بينما الأوّل منهما، هو مراد اللهِ الّذي خلق الإنس والجنّ لأجله. أمّا الثاني فهو مستحيل بمعنى التوصّل إلى المعرفة بذات الله.
***
إنّ من الأوراد المعروفة في الديانة الهندية أربع كلمات مقدّسة في اعتقاد الهنادكةِ، وهي: Om, mani, padme, hum. يردّدها دراويشهم ورُهْبانهم بأعداد كبيرة ومحددة تقدّر بالآلاف، بحيث يغيبون عن أنفسهم بتأثير التكرار. وأحيانًا تظهر منهم أفعال غريبة وأطوار عجيبة وخوارق للعادة يتأثّر بها الناظرون ويندهش منها المشاهدون. كالمشي على الجمرِ، وسحق الزجاج بالأسنان وابتلاع مكسّراتها، وطعن الجسمِ بِرُمحٍ أوغيره... فقد شاعت هذه الأشكال من الشعوذة بين الصوفيّة أيضًا، وبخاصّةٍ المنتسبين منهم إلى الطريقة القادريّة والرفاعيّة.
أمّا حال الغياب، فإنها كذلك تعرض لبسطاء النقشبنديّة بعد تكرارهم للأوراد الّتي يكلّفهم بها شيخُهم فيغيبون عن أنفسهم مدّةً ويظنّون بعد الصحوة أن الله قد حلّ فيهم، ويسمّون هذه الحالة »الفناء في الله«. فتتمثّل هذه البدع بكلّ ما سبق الحديث عنه في كلمة "يَادْكَرْدْ".
***(64/145)
أمّا لفظ "بَازْكَشْتْ": فمعناه في اللّغة الفارسيّة، الرجوع. فهو من متمّمات "يَادْكَرْدْ". يقصد النقشبنديّون بهذا المصطلح رجوع الذاكر إلى المناجاة بعد إطلاق النفَسِ. لأنّهم يحبسون النفَسَ أثناء رياضة اليوغا كما تفعله اليوغيّة اثناء صلاة اليوغا. إلاّ أنّ من حِيَلِ رؤوس هذه الطائفة، أنّهم قد سنّوا نداءً يستأنف بها الذاكر رياضته من جديد. وهي قولهم: »إلَهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي«. فقد مزجوا هذه الصيغة في آدابهم، تحسينًا لها، وليجعلوا منها سببًا بين بدعتهم والإسلام؛ وليضفوا عليها سربال الأوراد الشرعيةِ، تعمية على المغفّلين.
أما في الحقيقة، أنّ جميع المصطلحات بما فيها "بَازْكَشْتْ"، لا تمتّ إلى الإسلام بصلة؛ لا لفظًا ولا معنىً. كما يتبيّن ذلك من الأغراض المقصودة من هذه الألفاظ والمعاني الكامنة فيها؛ خاصّة إذا نُزعت منها المفاهيم المُقْتَبَسَةُ من الإسلام.
***
أمّا لفظ "نِكَاهْدَاشْت": فمعناه اللّغويُّ في القاموس الفارسي: الحراسة والحفظ. وعند النقشبنديّين: هو »أن يحفظ المريد قلبه من الخواطر ولو لحظةً«. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ. يقصدون بذلك في ظاهر كلامهم الاحتراز من الغفلة. والحقيقة غير ذلك. فانّ كلمة "نِكَاهْدَاشْت" مبدأٌ هامٌّ في العقيدة النقشبنديّة. وفي الوقت ذاته هو من الشروط المهمّة الّتي يتوقّف عليها "التركيز" لأداء رياضة اليوغا. إذ لا يمكن إطلاقًا أنْ يحقّق الإنسانُ حالة التركيز التامّ إلاَّ بمراعاة خمسة أمور، وبالتزامٍ دقيق.
الأول منها: الجلوس على هيئة معيّنة، وهو الشكل المعروف بـ"اللّوطوس Lotus" عند الجوكية (اليوغية). في مقابلة »الجلوس على عكس التورّك في الصلاة« راجع المصادر التالية لمزيد من المعرفة حول هذا الشكل من الجلوس:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 38.(64/146)
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 42.
* سليمان زهدي، المجموعة الخالدية ص/ 4.
*سليمان زهدي، نهجة السالكين ص/ 30.
* عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 12.
* أحمد ضياء الدين الكموشخانوي، جامع الأصول ص/ 146. عند النقشبنديّة.
والثاني: النفَسُ الموزونُ بإيقاعٍ طبيعيٍّ.
والثالث: تثبيت الفكر على شئٍ بعينه.
والرابع: الاسترخاءُ التامُّ.
والخامس: منع الحواسِّ من التذبذب. وذلك بالابتعادِ إلى مكانٍ لا حركةَ فيه ولا صوتَ ولا ضياءَ.
وقد استوحى النقشبنديّونَ الشروط السالفة من اليوغا، وعليها بنوا أسس طريقتهم، ومنها "نِكَاهْدَاشْت"؛ وهو في مقابلة الشرط الثالث المذكور آنفًا. أي "تثبيت الفكر على شئٍ معيّنٍ" حتّى تتحقّقَ بذلك حالةُ التركيز ومنها تتطوّر إلى حالة أخرى تسمّى »الغيبوبة الواقعة وراء الخبرة البشرية = Transcendental absence.« وهي "الجذبة" عند النقشبنديّة.
أمّا لفظ "يَادْدَاشْتْ": وهو المبدأ الثامن للطريقة النقشبنديّة وآخر الكلمات الثمانية الّتي وضعها عبد الخالق الغجدوانيّ؛ فمعناه على لسان محمّد أمين الكرديّ: هو »التوجّه الصرف المجرّد عن الألفاظ إلى مشاهدة أنوار الذات الأحديّة، والحقّ أنّه لا يستقيم إلاّ بعد الفناء التامّ والبقاء السابغ«
إذًا - بعد هذا القدر من الإطّلاع على الجانب المستور لهذه الطريقة -، من البساطة جدًّا أن يظلَّ الإنسانُ متسائلاً عما إذا كان النقشبنديّون يريدون بهذه الرياضة عبادةَ لله: إقرارًا بأنّه الواحد الأحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئٌ؛ وحاشاه أن يحلّ في شئٍ من خلقه؛ أم يسعون للفناء فيه، والوصول إليه، والانصهار في ذاته، والاتحاد معه؟!!(64/147)
إنّما هذه العقيدة هي خلاصة ما جاء به الْحُلُولِيُّونَ الزنادقةُ من أمثال حسين بن منصور الحلاّج، وفريد الدين العطار، ومحي الدين بن عربي، وعبد الحق بن إبراهيم بن سبعين المرسي، وسليمان بن على بن عبد الله التلمساني، والحسين بن علي بن هود، وعبد الكريم الجيليّ ومَنْ على شاكلتهم من زنادقة العرب والعجم. فقد زعموا أنّ الله عين كلّ شئٍ؛ وهو هذه المخلوقات على كثرتها واختلاف أنواعها وأجناسها وألوانها وأحجامها ومعانيها ومبانيها وأصولها وفروعها من إنسٍ وجنٍّ وملائكةٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ وكبيرٍ وصغيرٍ ورطبٍ ويابسٍ وطاهرٍ ونجسٍ.
إنّ قدماء النقشبنديّين وخاصّتهم لا يختلفون عن هؤلاء في هذا الاعتقاد. ولكن لا يصل إلى ذلك المستوى أحدٌ (في رأيهم) إلاّ إذا التزم آدابَ السير والسلوك وفق المصطلحات الأحد عشر. فمتى تدرّج المريدُ في هذه المراتب وبلغ إلى منتهى المنازل وتحقّقت فيه حالة "يَادْ دَاشْتْ"، أصبح فانيًا في الله وتأكد من أنّ اللهَ قد حلّ فيه، وأنّه جزءٌ منه، وأنّه كلّ شئٍ. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
نعم هذه هي حقيقة مرادهم، وإنْ دافع المتأخّرون المعاصرون من شيوخ النقشبنديّة عن ساداتهم بأنّهم لم يقصدوا ذلك. بلى، إنّهم على هذا الاعتقاد؛ وتشهد عليهم مراسلاتهم الخاصّة وأخبارهم الّتي سجّلها أسلافهم بالذات، ونقلوها عنهم صراحةً. منها ما قد فشت أسرارُها وافتضح، ومنها ما لم تزل تحت ستار الكتمان في ذمّة خواصّهم. أمّا جهل عامّتهم بهذه الحقائق فله أسبابٌ سوف نشرحها في الفصل الرابع إنْ شاء الله تعالى.
***(64/148)
أمّا المباني الثلاثة الأخيرة الّتي وضعها مؤسّسُ هذه الطريقة محمّد بهاء الدين نقشبند؛ فالأوّل منها: هو "الوقوفُ الزمانيُّ". وجاء تفسيره على لسان محمّد أمين الكرديّ »أنّه ينبغي للسّالك بعد مُضِيِّ كلِّ ساعتين أو ثلاث، أن يلتفتَ إلى حال نفسه كيف كان في هاتين الساعتين أو الثلاث.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 507. طبعة مصر - 1384 هـ.
لاشك أنّ هذه المراقبة النفسيّة امتداد للحالات الّتي يمرّ بها السالك (أي المريدُ النقشبنديّ) عبر الرياضه الصوفية وسلوكها وفقًا لما سبق شرحُهُ من آداب هذه الطريقة كما يُفْهَمُ من تعريف الكرديّ لهذا المصطلح. ويعني هذا أنّه لابدّ للدرويش القائم بهذه الرياضة أنْ يتأكّد من نفسه في نهاية كلّ ساعتين أو ثلاثِ ساعاتٍ، هل تحقّق له الفناء في الله والبقاء بالله، أم لا يزال في ريب من ذلك. فإذا وجد أنّه لم يقتنع بعد، وجب عليه أن يواصل رياضته حتّى يَقِرَّ في نفسه أن الله موجود في كلّ ذرّة من الكائنات، وبالتالي فيكون قد حلّ فيه وأصبح السالكُ هو الفاني في الله والباقي به. هذا من أصول اعتقادهم وإنْ كتموا ذلك عند غيرهم واحتاطوا عند العوامّ منهم.
أمّا "الْوُقُوفُ الْعَدَدِيُّ" و "الْوُقُوفُ الْقَلْبِيُّ"، فانّهما من متمّمات "الْوقُوف الزمَنِيِّ". إذ على السالك أن يحافظ على عدد الوتر في الذكر بالنفي والإثبات عَبْرَ مراحل الرياضة. علمًا بأنّ الغرض الأصليَّ من هذا الذكر ليس إلاّ تحقيق حالات نفسية معيّنة. وهي "التركيز الفزيولوجيConsantration physiologic = " ومنه التطوّر إلى حالة "الغيبوبةTranscendental absance = ". لأنّ السالك إنّما يتطبّع تمامًا بالصبغة الّتي يريدها شيخُهُ عندما يكون قد تدرّج إلى هذه الحالة النفسية في نهاية المطاف.(64/149)
كلّ هذه المقولات مشبوهةٌ، مؤدّاها إذلالُ كرامة الإنسانِ، وإلحاق الضمور بغزّته، وتحويله إلى بهيمةٍ مُدَرَّبَةٍ على الطاعة العمياء. وليس فيها شيءٌ ممّا أمر به الإسلامُ من التّواضعِ والإطمئنان والسكينة. وإذا تأمّلنا غاية ما في هذه المقولات من التوجيه على لسان شيوخ النقشبنديةِ، وجدنا الصواب منها ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأفصحِ عبارة وأفضلها وأوجزها، وفي أساليب القرآن من تمام البيان والتحقيق ما ليس في هذه المقولات وغيرها مثله. قال تعالى: وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. سورة الفرقان/33
***
الفصل الثالث
مفاهيم، ومصطلحات، ومعتقدات أخرى عند هذه الطائفة.
* التصوّف....................................................................................................
* السير والسلوك...................................................................................................
* العشق الإلهي.......................................................................................................
* المعرفة بالله.........................................................................................................
* الفناء والبقاء......................................................................................................
* وحدة الوجود.....................................................................................................
* وحدة الشهود.....................................................................................................
* الولاية، والولي، وتصرّف الميّت.......................................................................................................(64/150)
* المُّكاشفة والإلهام، وعلم الغيب......................................................................................................
* الأويسيّة....................................................................................................
* الكرامة، والمناقب....................................................................................................
* مفهوم التوسّل في معتقد النقشبنديّة وما ركّبوا عليه من أمور...................................................
الفصل الثالث
مفاهيم ومصطلحات ومعتَقَداتٌ أخرى عند هذه الطائفة.
إنّ الطرقَ الصوفيّةَ عامّةً، (بما فيها الطريقة النقشبنديّة) هنّ أصلاً منظّماتٌ شبهُ سرّيّةٍ، بل هنّ أديانٌ مشبوهةٌ نشأتْ - في حقيقة الأمر - لضرب الإسلام من الداخل على يد زنادقة متنكّرين بلباس الزهد والعفّة والإخلاص.
لهذا، كلّما تعمّقنا في البحث من وراء حقيقة الطرق الصوفيّة نجد أنفسنا أمامَ رُكامٍ من مخلّفات الأديان والفلسفات تتمثّل في مفهوم التصوف.
***
* التصوّف:
أمّا التصوّف، فانّه نفقٌ مظلمٌ تتزاحم فيه أفكارٌ غامضةٌ وعقائدُ غريبةٌ وتأويلاتٌ خطيرةٌ وفلسفاتٌ دخيلةٌ وألفاظٌ مُعَقَّدَةٌ وأساطيرُ عجيبةٌ وحكاياتٌ رهيبةٌ تراكمتْ في مجَلَّدَاتٍ من كتب الصوفيّةِ وانتشرتْ بين آلافٍ مؤَلّفَةٍ من أصحاب النفوس الضعيفةِ والمغفّلين الّذين لم يفطنوا إلى ما فيه من أخطار على الإسلام والمسلمين ضمنَ ذلك المزيج الباطني المُخْتَلَقِ.(64/151)
»ينبغي أنْ يُفْهَمَ جيّدًا أنّ التصوّف لا يعني الزهد في الدنيا أو تزكية النفس وتصفيتها، وإنّما هو فلسفة كاملة شاملة وعقيدة لها معالمها الخاصّة بها. ولم يكن المتصوّفة هم أوّل من ابتدعوا التصوّفَ واخترعوه، بل هو فكرة فلسفيّة قديمة جدًّا، كان لها أتباعها في اليونان والهند والصين والفارس. وكان في البوذيةِ والهندوسيّةِ واليهوديَّةِ والنصرانيّةِ متصوّفتها الخاصّة بها. ولم يوجد التصوّف بين المسلمين إلاّ بعد ترجمة كتب الفرس واليونان والهنود إلى العربيّةِ. والدارسُ لعقائد الصوفيّة يجد لها أصلا في الديانات السماويّة والوضعيّة الأخرى. فوحدة الوجود عند المتصوّفة مستمدّة من الهندوسيةِ، والحلولُ والفناءُ في ذات الله مستمدٌّ من النصرانيّة الّتي تُؤمن بحلول ذات عيسى البشريّة بالذات الإلهية. وكذلك عقيدةُ الحقيقةِ المحمّديةِ مأخوذةٌ من تصوّرٍ مشابهٍ للنّصرانيّةِ حول عيسى ومكانته في الدنيا...« الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 65، 66؛ الدكتور إسماعيل العربي، معجم الفرق والمذاهي الإسىمية. ص/88
لقد اختلف الباحثون في ردِّ كلمةِ التصوّفِ إلى أصولٍ متباينةٍ، وكلٌّ حمَّلَها معنىً على حسبِ رأيِهِ وظنِّهِ؛ وغَفَلَ جميعُهُمْ عن أصلِها الحقيقيِّ كما سنفضحهم بالدليل القاطعِ في نهاية البحث إن شاء الله تعالى.
زعم فريقٌ منهم: أنّ التصوّفَ مشتقٌّ من الصفاءِ أو الصفوِ. فقد وقعوا بهذا الزعمِ في ورطةٍ كشفتْ عن جهلهم باللّغة العربيةِ؛ إذ أنّ الأصلَ الثلاثيَّ للتّصوّفِ يتركّبُ من الصادِ والواوِ والفاءِ (صَوَفَ)، بينما الأصلُ الثلاثيُّ للصّفاءِ أو الصفوِ يتركّبُ من الصادِ والفاءِ والواوِ (صَفَوَ). وبهذا قد افتضحوا إلى حدٍّ لا مجال للاعتبارِ برأيهم وهم أصحابُ هذا المستوى من السطحيةِ والجهلِ.(64/152)
وقال فريقٌ منهم: إنّ كلمة »التصوّفِ« تعودُ إلى »الصُّفَّةِ« الّتي كانت جماعةٌ من فقراءِ الصحابةِ يأوون إليها؛ بينما الربطُ بين هاتين الكلمتين غيرُ جائزٍ بوجهٍ من الوجوهِ. فالمناسبةُ الاشتقاقيةُ ممنوعةٌ. لأنّ »التصوّفَ« (إذا فرضناه كلمةً عربيةً وهي غيرُ عربيةٍ إطلاقًا كما سيتّضحُ في نهاية البحثِ بالدليل القاطعٍ)، فأصلُهُ الثلاثِيُّ يتركّبُ من الصادِ والواوِ والفاءِ (صَوَفَ). أمّا الأصل الثلاثِيُّ لكلمة »الصُّفَّةِ«، فإنّه يتركّبُ من الصادِ والفاءِ مضعّفًا (صَفَفَ). فالخلافُ بين الكلمتين ظاهرٌ لا يترك المجالَ لأيِ مناقشةِ.
ثم المناسبةُ بين المفهومين من حيث المعنى، ممنوعةٌ أيضًا. لأنّ »التصوّفَ« مصطلحٌ اختلفت الآراءُ في تعريفِهِ وشرحِهِ، وعجز الناسُ عن فهمِ حقيقتِهِ حتّى اليوم. أمّا »الصُّفَّةُ«، فإنّها كانت بيتًا بسيطًا مسقوفًا بقضبان النخلِ يسكن فيه الضعفاءُ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ثم المناسبةُ بين الصوفيّةِ وأهلِ الصُّفّةِ ممنوعةٌ أيضًا. لأنّ الصوفيّةَ يعيشون ويتعبّدون على أساس قهر النفسِ بالجوعِ، والرهبنةِ، ولبس المسوحِ، وترديد الأورادِ على الطريقة البوذيةِ، ورابطةِ الشيخِ، وحلقات الذكر، والسماعِ والرقصِ... لا يعتدّون في كلِّ ذلك بمبدأ »التوقيفيةِ« في الأسلام. بينما كان أصحابُ الصُّفّةِ كلّهم يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سيرهم وسلوكهم وكلامهم، وتعبّدهم وأخلاقهم وتعاملهم.
وقال فريقٌ آخرُ: إنّ أصل التصوّفِ مشتقٌّ من الصوفِ الّذي كان منه لباس رجالٍ رفضوا زينةَ الدنيا وملذّاتِها، وعرفهم الناسُ بالتواضُعِ والقناعةِ والاستقامةِ في أمر الآخرةِ.(64/153)
إنّ الربطَ بين كلمتَيِ الصوفِ والتصوُّفِ بهذه المناسبةِ واهيةٌ جدًّا. لأنّ التواضُعَ والقناعةَ والاستقامةَ لا يتوقّفُ على لبس الصوفِ، ولا على لبس القطنِ؛ بل الأخلاقُ في الإسلامِ سلوكٌ متكاملٌ قد حدّده الكتابُ والسنّة.
أمّا كلمة التصوّفِ، فإنّها في الحقيقةِ منقولةٌ من اللّغة اليونانيةِ. وضبطُها: الثيوصوفيةُ (Theosophy)، على غرارِ كلمة الفلسفةِ. لأنّها أيضًا يونانيةٌ، وضبطُها: الفيلسوفيةُ (Philosophy)، كما جاء في موسوعة المورد لمؤلّفه منير البعلبكي. يقول المؤلّفُ:
"يُقصَدُ بالثيوصوفيةِ بالمعنى العامِّ: معرفة الله من طريق الكشف الصوفيّ أو التأمّل الفلسفيِّ، أو من طريق الكشف الصوفيّ والتأمّلِ الفلسفيِّ معًا. وهي بهذا المعنى ظاهرةٌ قديمةٌ عرفتها الأديانُ على اختلافِها."
هكذا افتضح أصحاب الأسانيد الواهية الّذين بنوا آراءَهم في مسألةِ أصل التصوّفِ، على اجتهاداتٍ ونظرياتٍ وفرضياتٍ لا تقوم على برهان من الكتابِ والسنّة، ولا على دليلِ علميٍّ ثابتٍ؛ ربما لقلة علمهم بالأديان، والفِرَقِ والعقائد وتطوّراتِها، وجهلهم بظاهرة الاستحالة وما يتعرض له المعتقدات من التحريف مع الزمان.
لقد نشأت الطريقة النقشبنديّة كسائر الطرق الصوفيّة في هذا الدهليز وتغذّت من مستنقعات التصوف فتطوّرت عَبْرَ القرون من شكلٍ إلى شكلٍ، وتغيّرت من لونٍ إلى لونٍ؛ كلّما زيد فيها أو أُلْغِيَ منها. فحملت من غُثَاءِ عددٍ من الأديان، وجرفت من قاذوراتِها على امتداد مجراها في تاريخ الشعب التركيّ بعد إسلامهم إلى أنْ امتلأت حاويتُها بأصنافٍ من عقائد الهنود والنصارى واليهود؛ وإن استنكر هذه الحقيقةَ صناديدُ الطائفةِ وعفاريتُها بملامة ومعاتبة وعنفٍ وردود. وما أدلّ على تحريفهم للإسلام ما قد نسبوا إليه من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ ومُعْتَقَدَاتٍ دخيلةٍ لا تمتُّ بصلةٍ إلى الإسلام في واقع الأمر.(64/154)
وقد حان الوقت وناسب المقام لشرح ما تبنّتْهُ النقشبنديّة من أغراضٍ وما اختلقَتْهُ من مفاهيمَ باطنيةٍ أخرى، فأقامتْ على أساسِها سلسلةً من آدابٍ وأركانٍ تعتمد على تلك المفاهيم، وهي: السير والسلوك، والعشق الإلهيّ، والمعرفة بالله، والفناء والبقاء، و وحدة الوجود، و وحدة الشهود، والولاية، والوليّ، وتصرّف الميّت، والإلهام، والأويسية، والكرامة، والمناقب، والاستغاثة بالموتى، وتقديس قبورهم، وزيارتها، والتبرك بها، والتوسّل بها.
***
* السيرُ والسلوك.
أمّا السير والسلوك، فهو مصطلح هامٌّ عند النقشبنديّة. وقد يذكرون واحدًا منهما بقصد الجمع بينهما كما اختاره أحمد ضياء الدين الكُمُشْخَانَويّ. أحمد ضياء الدين كموشخانوي، جامع الأصول ص/ 107.
قال السيد محمود أبو الفيض المنوفي - وهو أحد أدباء المتصوّفة وأعلامهم في عصرنا - قال في كتابه المعروف بعنوان »معالم الطريق إلى الله«:
»معنى سلوك الطريق، التحقّق بمقامات اليقين وأحوال القرب من الله عزّ وجلّ بالعلم والعمل والمقام والحال سلوكًا على يد شيخٍ عارف بمعالم الطريق ومفاوزه، فيدلّ السالك على السبيل الأقرب إلى الله بما يرشده إليه من أنواع الرياضة والذكر والخلوة وغير ذلك.« السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله ص/ 299. دار النهضة-القاهرة.
هذا هو المراد العامّ الظاهر من السير والسلوك في التصوف. أمّا عند النقشبنديّة فينحصر السلوك في الخلوة. وقد أفردها بعضهم في فصلٍ مستقلٍّ كمحمد أمين الكرديّ، إذ يقول:
»اعلم أنّه لا يمكن الوصول إلى معرفة الأصول وتنوير القلوب لمشاهدة المحبوب إلاّ بالخلوة خصوصًا لمن أراد إرشادَ عبادِ الله إلى المقصود.«(64/155)
يتبيّن من كلام الكرديّ هنا مرة أخرى أنهم يختلفون مع جمهور المسلمين في معاملة ربّ العالمين. ذلك أنهم لا يقصدون عبادةَ الله بشهادة هذا الإقرار. وإنما يريدون الوصولَ إليه ويبتغون مشاهدتَهُ. وعلى الرغم من هذا التصريح فانّ فريقًا منهم يُخفون ما في صدورهم، وفريقًا يجهلون الغرض الحقيقيَّ الّذي يُضْمِرُهُ قُدَمَاؤُهُمْ الّذين لهم الهيمنة على نفوس عامّة النقشبنديّين. ألا وهو الحلول والاتحاد.
ولهم في هذه المسيرة طرقٌ ملتويةٌ وآدابٌ مشبوهةٌ تتمثّل في رياضاتٍ هنديةٍ، أحدثوا لها أغلفةً من مفاهيم الإسلام وقِيَمِهِ، بحيث لا ينتبه إلى مقاصدهم مَنْ قَصُرَ علمُهُ أو غلبتْ عليه الثقة فيهم بما يشاهد في مظاهرهم من السكينة والوقار والورع والصلاح.
وهذه الرياضة الّتي يسموّنها (خلوة) يدّعون أنّهم إنّما يمارسونها أسوةً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحواله قُبيل بِعثته. ويقولون: »وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخلو بغار حراء حتّى جاءه الأمر بالدعوة« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 493. ويتناسون أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك بعد البعثة، ولا أمر أحدًا من أصحابه بالخلوة (الّتي تختلف عن الإعتكاف). وإنما كانت خَلَوَاتُهُ قبل البعثة اندفاعًا وُجدانيًّا ينساق معه بتوفيقٍ من الله واستعدادًا لما سوف يتحمّله من أعباء النبوّة؛ وأنّها كانت حالةً استثنائيةً خاصّة به دون غيره، اقتضت في بداية أمره.
أمّا الّذي يريده النقشبنديّون، فليس إلاّ استغلال مفهوم الخلوة بهذه الذريعة، ليتمكّنوا بها من ضمّ شعارات هندية إلى شعائر الإسلام تحت ستار العبادة والتقرّب إلى الله بتقليد السحرة والمشعوذين من الجوكية (اليوغية) والفقراء الهنود.(64/156)
وللخلوة عندهم عشرون شرطًا مشروحةً في كتبهم. المصدر السابق ص/ 493. لا حجّة لهم في إثباتها بشيءٍ من كتاب الله، ولا من سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد باح بالسر المقصود من السير والسلوك بعض المعاصرين منهم، وخاصة جماعة غالية من هذه الطائفة في إسطنبول. وذلك لما وجدوا عامّة المسلمين في شغل عنهم فتصدّوا لتفسير كتاب الله بأسلوبٍ باطنيٍّ، أصدروه باللّغة التركية تحت عنوان »روح الفرقان« عام 1992م.، وتطرّقوا فيه إلى السير والسلوك.
ومن جملة ما جرت به أقلامهم بهذا التفسير الشاذِّ، قولهم (مُعَرَّبًا):
»إنه بعد ما يضمحلّ جميع ما سوى الله من نظر السالك بفضل المولى وكرمه بحيث لا يكاد يرى غير الله شيئًا أجنبيًّا - اسًما كان أو صورةً - تحقق له الفناء في الله، أي الانصهار في ذاته. وحصلت بذلك الدولة، وانتهت الطريقة، واكتمل السير إلى الله (أي المِشْيَةُ المعنوية نحو المولى)« روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/63. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. وهذا نص عبارتهم باللّغة التركية:
Mevlan?n fazl-u keremiyle masiva (Allah Teala’n?n d???ndaki her ?ey) salikin nazar?ndan tamamen kalk?p gayriyi (yabanc?lar?) g?rmekten isim ve resim kalmay?nca muhakkak fenafillâh (Allah-u Teala’da eriyip gitmek) tabir edilen devlet has?l olmu? ve tarikat hali sona ermi? olur. Ve b?ylece seyr-i ilallah , mevlaya do?ru olan manevi yürüyü? tamamlanm?? olur.
كانت هذه ترجمة حرفية لنبذة من كلامهم في تفسير السير والسلوك، ولا يحتاج إلى تعليق. وخلاصة ما ينبغي أن يؤكَّد في النهاية عما يتعلّق بهذا التفسير الجريء، أنهم يختلفون عن المسلمين بعقيدتهم في ذات الله أكثر من اختلاف النصارى عن المسلمين في هذه العقيدة.
***
* العشقُ الإلهيُّ(64/157)
أمّا العشق الإلهيُّ، فهو من أهمّ مباحث الصوفيّة. فقد جرى كلامُهم حوله نثرًا ونظمًا كما في تائيّة عمر بن الفارض، راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/568. بيروت – 1993م. وديوان المُلاّ أحمد الجزري الكرديّ، وأشعار رابعة العدوية. راجع ترجمتها في الأعلام، خير الدين زركلي، الطبعة 11. ص/ 3/10. دار العلم للملايين. كذلك فيه أسماء مصادر ورد فيها ترجمتها. وقد كثرت في هذه المسألة هذياناتهم قديمًا وحديثًا. غير أنّ هذا التعبير لم يكن شيئًا مُتَدَاوَلاً بين قدماء النقشبنديّة، فانتشرت هذه الفكرةُ في أوساطهم منذ أَمَدٍ غير بعيد، وربما بتأثير بعض الشيوخ منهم. إذ أنّ كلّ ما يقوله شيخ الطريقة، ويختلقه من تلقاء نفسه لا يُعدُّ بدعةً عندهم، وإن تعارضت أقواله مع نصوص الكتاب والسنّة؛ ولأنّ شيخ الطريقة لا ينحصر مجاله في حدود اختصاص معيّن، ولا تقتصر مهمّتُهُ في نطاق الاجتهاد والتفسير والتأويل فحسب. بل هو في اعتقاد الطائفة »وكيل الله ونائبه« تفسير "روح الفرقان" باللّغة التركية لجماعة من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/74. إسطنبوا ـ 1992م. يتصرّف كيف يشاء، ويتفوّه بما يبدو له. إذن فله أن يضيفَ إلى مبادئِ الطريقة وآدابِها وأركانِها وطقوسِها ما يشاء، أو أنْ يُلْغِيَ منها ما يشاء. وهذا ما جعل الطريقة تتغيّر فيها أمور بين الفينة والأخرى.
فقد أفرد محمّد أمين الكرديّ فصلاً في المحبة والشوق والوجد. وقال في مقطعٍ منه:
»اعلم أنّ المحبّين على ثلاثة أقسام: عوامٌّ وخواصٌّ، وخواصُّ الخواصِّ. فأما العوامُّ فمحبتهم له تعالى لوفور إحسانه، وأما الخواصّ فمحبتهم خالصة عن الشوائب. وأمّا خواصّ الخواصّ، فمحبتهم عبارة عن التعشّق الّذي به ينمحي العاشق عند تجلّي نور معشوقه.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/487.(64/158)
لقد يظهر من خلال هذه الكلمات أنّ النقشبنديّين اكتشفوا أخيرًا أسلوبًا ثانيًا لتفسير ما يعتقدونه من وحدة الوجود والحلول والاتحاد. ألا وهو "العشق الإلهيُّ". لأنهم يقصدون بذلك الانصهار في ذاته تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
إنّ تشبّثهم بمثل هذه الفكرة تطوّرٌ جديد وغريب. لأنّ النقشبنديّين، من أهمّ مزاياهم الصمت والتأمّل والذكر القلبيّ بالتركيز على أسلوب الجوكية (اليوغية) في الديانة البوذية - البرهمية. وأنهم لم يلتفتوا منذ القديم إلى الأشعار والغزل كما قد اتخذوا موقفًا معارضًا للرقص والسماع عَبْرَ تاريخهم. لأنّ الحركة من أكبر موانع التركيز. وإلاّ ليست معارضتهم للرقص والسماع من منطَلَقٍ إسلاميٍّ صحيح في حقيقة الأمر.
أمّا تعبير العشق في كون الإنسان أن يعشق الله، فقد كان من ضلالات الأقدمين من متصوفة العراق. كانوا يتفوّهون به في غزلهم. ولم يعبأ بهم علماء الإسلام يومئذ لخسة شأنهم وقلة عددهم. ولكن هذه الفكرة قد أصبحت اليوم خطرًا على العقيدة الإسلامية بعد أن تَبَنَّاها النقشبنديّون. علمًا بأن العشق في اللّغة يفيد معنى الاشتياق إلى الجنس المقابل بقصد النكاح والجماع. ولم يرد في الكتاب والسنّة ما يفيد أن العبد يجوز له أن يعشق الله. بل ورد فيهما الترغيب في محبة الله ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إذ قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونيِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.} سورة آل عمرن/31.(64/159)
ورغم السبيل الذي طرقه النقشبنديّون في تأويلهم لمفهمو "العشق الإلهيّ"، فانّه لم يغن عنهم في الوقوع فيما يكتمه خاصّتُهم ويجهله عامّتُهم من نزعات باطنيةٍ بهذا التأويل الشاذّ لمفهوم العشق. لأنّ كلمة العشق تختلف اختلافًا كبيراً عمّا تفيد كلمةُ المحبّةِ في التعبير عن عواطف الإنسان. فانّ المحبّةَ بمعناها المتعارَف هو إحساس عاطفيٌّ نبيل، لا يشوبه ميل شهويٌّ وابتذالٌ جسديٌّ. وأمّا مفهوم العشق، فانه ينبئ عن نزعاتٍ آثمةٍ وهَوَاجِسَ شهويةٍ تثور في النفوس المتلهّفةِ بالغرام والهيام، والمشتاقةِ إلى إشباع الرغبات الجنسية وما يتصل بها.
ولقد دأب شعراءُ الصوفيّة دائمًا على وصف الله بصفات المرأة الجميلة الفتّانة؛ يحملونها عليه أنه يتجلّى في جمالٍ غزليٍّ خلاّب، يفتتن به العاشقون؛ ويتخيّلونه في صورة من الأنوثة بشعور تتلظّى إليها نفوسهم وهي تراودهم عن نفسها. حاشا لله!!!
بينما نجد النقشبنديّين على درجة من الإفراط والمبالغة بأولئك الشعراء المبتذلين من الصوفيّة ويشاركونهم في العقيدة والموقف بإقرارهم لمفهوم العشق الإلهيِّ على غرار ابن الفارض والمُلاّ الجزري وأمثالهما.
***
* المعرفة باللهِ
وأمّا فكرة "المعرفة بالله" عند الصوفيّة، فهي عقيدة خطيرة تبنّاها الأقدمون منهم؛ ثم تطوّرت منها سائر عقائد القوم. إذًا فهي بمنزلة القاعدة الأساسية لها.
فقد أفرد القشيريّ في هذه المسألة بابًا وهو من قدماءِ الصوفيّةِ وأعلامِهم. قال في رسالته المشهورة:
»وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفةُ مَنْ عَرَفَ الحقَّ سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدّق الله في معاملاته. ثم تنقّى عن أخلاقه الرديئة وآفاته...« أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 154. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.(64/160)
من الأهمية بمكان، أنّ هذا التعريف لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية لو لا أنّ القشيريّ تحيّل في إيراد هذه العبارة أنْ جعلها تعريفًا لمفهوم "المعرفة بالله". بل كان أولى به أن يقول
»الإيمان: صفةُ مَنْ أيقن بالحق سبحانه وعَرَفَ أسماءه وصفاته، ثم صدّق الله في معاملاته.«
هكذا يتبيّن بوضوحٍ أنّ الصوفيّة قد حرّفوا عقائد الإسلام بِحِيَلٍ دقيقةٍ قلّ من انتبه إليها في أيامها. وبذلك سنحت لهم الفرصة فطوّروها بتدرّج عبر القرون حتّى التبستْ المفاهيم الدخيلة والعقائد الخطيرة بالمفاهيم القرآنية على عوامّ المسلمين فانحدر من هذا الالتباسِ ركامُ البدعِ والأباطيلِ على كرِّ الزمانِ فتكوّنتْ منها جبالٌ عجز المسلمون في هذا العصر عن التخلّص منها.
أمّا في الحقيقة، فانّ مقولة "المعرفة بالله" ليست من الإسلام في شئٍ، ولا ورد في الكتاب والسنّة ما يؤكّد ذلك. بل دعا اللهُ عبادَه أن يؤمنوا به قبل كلّ شئ. والآياتُ في ذلك كثيرةٌ. ثم أمرهم بالعمل الصالح والتقوى. إذ لم يرد في القرآن أمر بـ "المعرفة بالله" على الإطلاق. بينما الأمر بالإيمان ورد فيه أكثر من أن يُحصى. كقوله تعالى {فآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنوُرِ الّذي أَنْزَلْنَاهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.} سورة التغابن/8. ولم يقتصر الأمر في توجيه الدعوة للكافرين إلى الإيمان فحسب، بل قد أمر الله المؤمنين كذلك أن يؤمنوا به (وإن كان ذلك من باب تكميل الكامل وليس من باب تحصيل الحاصل) فقد قال سبحانه: {يَأَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل،ُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعيِدًا.} سورة النساء/136.(64/161)
هكذا فالآيات في الدّعوةِ إلى الإيمان كثيرةٌ وفي هذا القدر كفايةٌ. كذلك وردت آيات بيناتٌ في الدّعوة إلى عبادةِ اللهِ سبحانه.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدوُا رَبَّكُمُ الّذيِ خَلَقَكُمْ وَالّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقوُنَ. (بقرة/21)
وقال تعالى:
وَاعْبُدوُا اللهَ وَلاَ تُشْرِكوُا بِهِ شَيْئًا... (نساء/36)
وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الّذيِنَ آمَنوُا ارْكعوُا وَاسْجُدوُا وَاعْبُدوُا رَبَّكُمْ وَافْعَلوُا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحوُنَ. (الحج/77)
وقد رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ (رواه البُخَاريّ)
أمّا قوله عليه السلام »فَإِذَا عَرَفوُا اللهَ«، معناه فإذا عرفوه بصفاته التي جاءت في كتابه العزيز، وهو الإيمانُ بهِ، وليس التّعرُّف إلى كنهِ ذاتِهِ.
وهنا يتبادر إلى الذهن أن يُطرَح سؤالٌ هامٌّ، وهو: لماذا دعا اللهُ عبادَهُ للإيمان به عن طريق النظر إلى آثاره والمعرفة بصفاته والعبادةِ له فحسب، ولم يكلّفهم بالتعرّف إلى ذاته ؟(64/162)
لو أنّ المسلمين استيقظوا من غفلتهم واستطاعوا أن يُدْرِكُوا ما لم يدركه أسلافهم في عصور الظلام من أسباب الانحراف، وطرحوا حتّى هذا السؤال البسيط مرة واحدة فحسب؛ لاصطدموا بحقائق مدهشة اختفت عنهم؛ أدناها أنهم قد أصبحوا اليوم قلّةً حتّى بين صفوف المصلّين في مساجدهم. لأنهم إنما يعبدون الله تصديقاً لما جاء من عنده وإقرارًا بالعبودية له؛ بينما تختلف الغاية في محاولة الآخرين من العبادة تمام الاختلاف. لأنهم لا يعبدون الله إلاّ ليتعرّفوا على ذاته وليحلّوا فيه. تعالى رَبُّنَا عن ذلك علوًّا كبيرًا.(64/163)
نعم كيف تجوز المعرفة بذات الله؟ كيف يجوز للإنسان أن يحيط الله الخالق الأزليَّ الأبديَّ، والإنسانُ بِكَامِلِ وجوده حادثٌ ومخلوق؟... هل يجوز أن يتّسع عقل الإنسان المخلوق العاجز المحدود حتّى يستوعب ربّ العزّة بذاته؟ وما دليل من يدّعي ذلك من المنقول والمعقول؟ ألم يَنْهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التفكّر في ذات الله تبارك وتعالى؟ روى أحمد مرفوعًا والطبرانيّ وأبو نعيم عن عبد الله بن سلام. قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أناس من أصحابه وهم يتفكّرون في خلق الله. فقال لهم فيم كنتم تتفكّرون؟ قالوا نتفكّر في خلق الله. قال لا تتفكّروا في الله، وتفكّروا في خلق الله. لأنّ الإنسان عاجزٌ عن الإحاطة بكنه ذاته عزّ وجلّ. وإنما هذا العجز هو ذلك الحاجز الرهيب الّذي يعترض سبيل الإنسان التعيس، ويقف في وجهه على مدى حياته، لا يبرح أمامه في كلّ لحظة. تلك هي المشكلة العظمى الّتي تكمُنُ فيها أسرار الكفر والإيمان، بل وأسرار الكون والحياة بتمامها. ذلك أن الإنسان لو استطاع أن يجد أدنى سبيلٍ للتّحقُّقِ من ذات الله سبحانه عن طريق المشاهدة أو التجربة، لما اضطرّ أن يواجه أعباء الحياة والممات بكلّ مرارتها. ولكن الله تعالى يقول { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاَة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا.ً} سورة الملك/2. وإنما يتوقف حسن العمل ـ أوّلاً وقبل كلّ شئٍ ـ على الإيمان بالغيب. وهو الإيمان بذات الله تعالى في حدود المعرفة بصفاته، وبالنظر إلى خلقه وآثاره دون أن يتعدّى الأمرُ إلى المعرفة بذاته، وهي محال. كذلك قال الله تعالى: { وَلاَ يُحِيطُوَن بشيءٍْ مِنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ.} سورة البقرة/255. إذًا فكيف بالإنسان أن يتمكّن من الإحاطة بذات الله وهو لا يحيط بشيءٍ من علمه إلاّ بما شاء! لأنّ علاقة المؤمن بالله لا تعدو عن التسليم المحض له تعالى؛ وهي منحصرة في حدود اليقين التامّ به(64/164)
والعبادة الخالصة له فحسب.
هذا ويتبيّن جليًّا بأنّ الّذين يرون معرفة الله من الأمور الجائزة والممكنة، يدّعون أنّها قد تحققت لبعض ساداتهم. إذ يخلعون عليهم صفة العارف بالله { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا.} سورة الكهف/5. يتبيّن أنه قد بلغ الحمق والغباء بهم إلى درجة، أنهم يدرسون عقائد المسلمين في مدارسهم ويتداولون كُتُبَ أعلامنا؛ كشرح العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزديّ، وكتاب التوحيد للإمام أبي منصور محمّد بن محمّد الماتريديّ، وكتاب التمهيد من تصانيف أبي بكر محمّد بن الطيب الباقلانيّ ورسالة العقائد النسفية لأبي حفص عمر بن محمّد النسفيّ، وشرح العقائد النسفية للعلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانيّ. ومع هذا، لا ينتبهون إلى أنّ الإيمان ينافي عقيدة "المعرفة بذات الله". إذ أنّ الله سبحانه وتعالى »ليس بِعَرَضٍ ولا جِسْمٍ ولا جَوْهَرٍ ولا مصوَّر ولا محدود.« كما ورد في العقائد النسفية. وخلاصة هذا: أن الإنسان المخلوق الحادث العاجز والمحدودَ، يستحيل عليه أن يحيط بالله، ويتعرّفَ إلى ذاته الأزليّ الأبديّ الّذي ليس بمحدود.
إنّ الصوفيّة قد خبطوا في تناقض شديد إلى درجة أنهم يدرسون كتب المسلمين ويدرِّسونها ويحفظون منها، ثم يعتقدون ما يجعلهم في مقامٍ بين الصدق والكذب، بحيث إذا صدّقوا ما قد درسوا من كتب المسلمين، شهدوا على أنفسهم بالكذب في مصطلحهم ومعتقدهم بما سمّوه "المعرف بالله"؛ وإذا صدّقوا هذه الفريةَ، أصبحوا من المكذّبين لِماَ درسوا من عقائد المسلمين.
هكذا فان النقشبنديّين أيضًا قد تورّطوا في هذا المأزق تبعًا لبقية الصوفيّة. والدليل عليهم، أنهم يُكْثِرُونَ من وصف ساداتهم بـ" العارف بالله."
***
* الفناءُ والبقاءُ.(64/165)
وأمّا "الفناء والبقاء" في عقيدة الخاصّة منهم دون عامّتهم، فإنها بمنزلة الحلقة الأخيرة بعد "المعرفة بالله". ويتصوّرون أنّهم يلتقون فيها بذات الله »لأنهم قد عرفوا الله حق معرفته، فاستحقّوا بذلك أن ينصهروا فيه فيتحقّق البقاء«، حاشا لله!!! وذلك بعد المرور بجميع مراحل السير والسلوك؛ من البيعة والخلوة وممارسة الذكر الخفيِّ والرابطة ومراعاة "المباني الأحد عشر" وما يتصل بها من آدابٍ وأركانٍ سبق شرحها في الفصل الثاني.
إلاّ أنّهم لا يُفشون سِرَّ عقيدةِ الفناءِ بهذا الوضوح تحفُّظًا من استنكار المسلمين وردود فعلهم. بل يمضغون الكلام في هذه المسألةِ وأمثالها احتياطًا وتقيّةً، ويُخفون ما في صدورهم حتّى عن عوامّهم فضلاً عن المسلمين.
إنّ فكرة "الفناءِ في الله والبقاءِ بالله" ليس أمرًا حديثًا عند الصوفيّة. بل تكلّم به الأقدمون منهم كالقشيريّ. إلاّ أنّ عقيدة الفناءِ قد تطوّرتْ عند هؤلاء خاصّة. فانّ النقشبنديّين قد أوّلوها بل حرّفوها عن معناها الّذي أراده السابقون.
وعلى سبيل المثال فقد قال القشيريّ »أشار القوم بالفناءِ إلى سقوط الأوصاف المذمومة، وأشاروا بالبقاءِ إلى قيام الأوصاف المحمودة« أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 39. الطبعة الثانية القاهرة ـ 1959م.(64/166)
إنّ هذه كلمة حقٍّ أرادوا به باطلاً. إذ أنّ إسقاط الأوصاف المذمومة وإبقاء الأوصاف المحمودة قد وصّى بهما الإسلام، ولكنهم لجأوا إلى الإلتواءِ والتلبيسِ عند ما أطلقوا اسم "الفناءِ" على إسقاط الأوصاف المذمومة؛ وأطلقوا كذلك اسم "البقاءِ" على إبقاءِ الأوصاف المحمودةِ. لأنّهم فتحوا بهذا المصطلح المبتَدَعِ بابًا، استغلّه أخلافُهم فأدخلوا منه سيلاً من رموز الزندقةِ والضلالِ كما مرّت الإشارةُ إليها، وهى تنحصر في عقيدة الاتحاد مع الله عند خاصّتهم. والدليل على ذلك نعتهم لساداتهم بصفة »الفاني في الله والباقي بالله«. بينما لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أنه وصف شخصًا بهذا النعت.
لقد تظهر أمارات التطوّر والتحريف في هذا المفهوم أيضًا بعد أن اختلقها قدماؤهم الأوّلون؛ كما قد حرّفوا وطوّروا الكثيرَ مما وضعها ساداتُهم على مدى تاريخ النقشبنديّة. ذلك أنّ الأقدمين منهم عند ما جاؤوا بهذه الزندقة لم يزيدوا على أنها تركُ الأوصاف الذميمة والبقاءُ على الأوصاف الحميدة. علمًا بأنّ هذا البيان لم يكن حافزًا مثيرًا لانتباه المسلمين يومئذٍ. لأنّ الاجتنابَ عن الأوصاف الزميمة والبقاءَ على الأوصاف الحميدة شئ مرغوب فيه، وإن سُمِّيَ بالفناء والبقاء. غير أنّ المسلمين لما سكتوا عن هذه التسمية الشاذة؛ ولم يتوقعوا أنّ من ورائها حيلة سوف تعود بعواقب وخيمة، يتخذها المتأخّرون ذريعة لبناءِ عقائد أخرى باطلة على أساس مفهوم الفناءِ، فتطوّر الأمر حتّى زعم بعضهم »أنّ الفناء هو أن يتخلّص العبد من غائلة ما سوى الله. ومعنى ذلك : أن الفناء هو غياب الصفات البشرية في صفات الحق، كما أنّ الفناء في الرسول، هو غياب الصفات الإنسانية في صفات الرسول.« Dr. Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar Pg. 197 ?stanbul-1994……………………………………………………………
وهذا نص كلامه حرفيًا:(64/167)
Allah’ta fani olmak: be?eri s?fatlar?n, Hakk’?n s?fatlar?nda kaybollmas?;
Resul’de fani olmak ise insanî s?fatlar?n peygamber’in s?fatlar?nda kaybolmas? demektir.
لمزيد من المعرفة حول مفهوم الفناء في اعتقاد النقشبنديّة راجع المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 43. مخطوطة دمشق - 1213 هـ. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") TDV. ?SAM. 297. 7
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 51. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") 46644. TDV. ?SAM. 297. 7
* روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/63. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. لأنّ صفات الرسول أيضًا صفات إلهية عندهم.
إنّ هذه الكلمات في الحقيقة لا تحتاج إلى أيّ تعليق ولا توضيح ولا تفسير. ولقد زاد المتأخرون من تطوير هذه الزندقة حتّى قسموها على ثلاث مراتب: الفناء في الشيخ، والفناء في الرسول، والفناء في الله.
قال نعمة الله بن عمر حول هذه الهرطقة، وهو من معاصري خالد البغداديّ. قال في كتابه "الرسالة المدنية" أصدر كتابه بهذه التسمية على سبيل الانتقاد لأبن عربي في تسميته كتابًا له بعنوان "الفتوحات المكية". فثبت بهذا مرة أخرى أن النقشبنديّين على اختلاف في كثير من حديثهم، وعباراته، ومواقفهم؛ وأنهم في دوّامة خطيرة من التعارض والتناقض والتلفيق والتضارب. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى. في باب الرابطة:
»وإذا تأمّلتَ مجرّدَ ذكر القلب، لا يعدل عليه شئٌ. فهذه النعمة تحصل بالمحبة بين المريد وشيخه من الجانبين. لأنّ الفناء في الشيخ مقدّمة الفناءِ في الرسول؛ والفناء في الرسول مقدمة الفناء في الله والبقاء بالله.« نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 43. (الزمرد العنقاء) TDV. ?SAM. 297. 7 46644(64/168)
هكذا تطوّرت الطريقة النقشبنديّة واستمرّت في مسيرتها بين تبديل وتحريف وزيادة ونقصان واقتباس وتكييف وتأويل وتقليد وتعطيل على يد شيوخ هذه الطائفة إلى أن ألبسوها كسوة من هذا التأويل الخطير للفناءِ والبقاءِ خلافاً لمن وضعهما من قدماءِ الصوفيّة. وبهذا الأسلوب الّذي يدلّ على عدم استقرار الطريقة النقشبنديّة، كتموا تارةً مقصودَهم الحقيقيَّ من هذين المفهومين، وتارةً بَاحوُا به كما جاء في المواهب السرمدية لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ نقلاً عن أحمد الفاروقيّ، وهذا نصُّ كلامهِ:
»وجدتُ الله عين الأشياءِ كما قال أرباب التوحيد الوجوديِّ من متأخري الصوفيّة. ثم وجدتُ الله في الأشياء من غير حلول ولا سريان. ثم ترقيت في البقاءِ. وهو ثاني قدم في الولاية. فوجدتُ الأشياءَ ثانيًا. فوجدتُ اللهَ عينها، بل عين نفسي. ثم وجدتُهُ تعالى في الأشياءِ بل في نفسي؛ ثم مع الأشياءِ بل مع نفسي.« محمّد أمين الكرديّ الأربلى، المواهب السرمدية ص/ 182.
كذلك جاء من نحو هذا في كتاب خطير دوّنته جماعة من النفشبنديين باللّغة التركية تحت عنوان "تفسير روح الفرقان". التفسير المذكور ص/ 2/63.
* وحدة الوجودِ.
أمّا فكرة "وحدة الوجود" فإنها مذهب فلسفيٌّ قديم. قالت بها جماعة من قدماء فلاسفة اليونان. وهم؛ بارمينيديس، وزنون، وأفلطون، وبلوتينوس، وطائفة الرواقيين. ثم اغترّ بهذه الفكرة واعتنقها بعض المتصوّفة؛ كحسين بن منصور الحلاّج، ومحي الدين بن عربي، وسليمان بن على بن عبد الله التلمساني، وفريد الدين العطار، وعبد الكريم الجيليّ، ويونس أمراه التركماني ومَنْ على شاكلتهم.(64/169)
تتمثّل فكرة وحدة الوجود في القول بأنّ كلَّ شئٍ موجودٍ في الكون ليس إلاّ أجزاءً من الله. يستدلّ أصحاب هذه العقيدة من المتصوّفةِ بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلّوُا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.} سورة البقرة/115 يعنون بذلك أنّ كلَّ شئٍ في السماوات والأرض من صغيرٍ وكبيرٍ، وإنسيٍّ وجنِّيٍّ وملائكةٍ ودوابٍّ ونباتٍ وجمادٍ ورطبٍ ويابسٍ وطاهرٍ ونجسٍ، إنّما هي جميعاً أجزاءٌ متفرِّقةٌ من الذات الإلهية؛ وأنواعٌ وألوانٌ وعكوسٌ من سحرهِ وجلالهِ وجمالهِ؛ وهو عينها وحقيقتها؛ وليس في الوجود إلا الله. بهذه العقيدة يتناولون قولَهُ تعالى{ هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظاهِرُ وَالْبَاطِنُ.} سورة الحديد/3. ويتأوَّلونها ويقصدون بهذا في مُعْتَقَدِهِمْ : أنّ الله هو هذه الأشياء والأعيان والكائنات بتمامِها، وهيئاتِها وأشكالِها وأبعادِها وأجسامِها وأحجامِها وهي كثرةٌ في وحدةٍ و وحدةٌ في كثرةٍ. ومن ذلك قول عمر بن الفارض:
وجهٌ تعدّد في المرائي * وبه تحيّر كلّ رائي
فالكائنات بأمره * موج على صفحات ماء
فالأمر أمر واحد * فيه التقارب والتنائي.
ويقول محي الدين بن عربي » ألا ترى الحقّ يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذمّ؛ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أوّلها إلى آخرها، كلّها حقّ له كما هي صفات المحدثات حق للحق«. محي الدين بن عربي، فصوص الحكم ص/ 80.(64/170)
كانت هذه خلاصةٌ لما سبق. وقد عُنِيَ بالموضوع أهل البحث واختلفوا فيه بين رادٍّ ومدافع. ففي مقدّمةِ مَنْ ردّ عليهم، العلاّمة علي القاري. له رسالة قيّمة بعنوان »الردّ علي القائلين بوحدة الوجود«. تحقيق على رضا بن عبد الله بن علي رضا، مكتبة مركز البحوث الإسلامية ـ إسطنبول. TDV. ?SAM.297.7 AL?-R وممن تناول هذا الموضوعَ على سبيل الدفاع عنه، شخصٌ اسمه عمر فريد كام. له »رسالة وحدة الوجود« باللّغة التركية تحقيق الأستاذ المساعد أدهم جبه جي أغلو، منشورات رئاسة الشؤون الدينية رقم: 324/91. أنقره-1994م. تناول المؤلّف هذه العقيدة مقارنًا بين تعريف الصوفيّة وتعريف الفلاسفة لعقيدة وحدة الوجود المعبَّر عنها بكلمةPantheisme. بيد أنه تبنّى في النهاية رأي الصوفيّة فيها ووصفهم بأهل العرفان فأصبح هو الآخر مدافعا من وراء عقيدة وحدة الوجود، ولكن بصيغة تنزيهية لجنابه تعالى. (ص/ 115-121). . وقد تطرّق إلى هذا البحث أبو الحسن الندويّ في المجلّد الثاني من كتابه المعروف »رجال الفكر والدعوة في الإسلام« دار القلم، الطبعة الثانية، الكويت-1994م. ص/ 30، 31، 118، 170، 217، 239، 248، 251، 258.
أمّا موقف النقشبنديّين من هذه المسألة، فانّ تعظيمَهم وإجلالَهم للوجوديين والحلوليين يدل على استحسانهم لفكرة وحدة الوجود والحلول والإتحاد. إذ لا يكاد أحد منهم يرضى بما ورد عن العلماءِ من الطعن في الحلاّج، وابن عربي وغيرهما من الوجوديين والحلوليين. بل يتعاطون حديثَهم في مجالسهم مع الاحترام والتوقير لشأنهم، ويطالعون كتبَهم، ويعدّونهم من أهل الفيوضات الربّانيّة والكرامة والبركة؛ ويقولون عن الحلاّج أنه شهيد، ويصفون ابن عربي بـ"الشيخ الأكبر".(64/171)
والأغلب أنّ ذلك ناشئٌ عن جهلهم بما تتضمّنه عقيدةُ وحدة الوجود من زندقةٍ وإلحاد في صفات الحق سبحانه بما يستحيل عليه، إلى سخافات يتجافى لسان المؤمن عن النطق بها. لأن شيوخ النقشبنديّة - في حقيقة الأمر- هم أبعد الناس من ساحة العلم والمعرفة، وأكثرهم خمولاً، وأشدهم تعصُّبًا، كما سنشرح أحوالهم، ونبيّن سلوكهم، وننقل معلوماتٍ شافيةً عن مستوياتهم وشخصيّاتهم في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
هذا، وإن لم يكن للنقشبنديّين إلمام كبير بعقيدة وحدة الوجود مباشرةً، ولكنّهم يدخلون في عداد مَنْ يُقِرُّ بهذه العقيدة على أقلّ تقدير؛ وذلك لأسباب ثلاثة:
أوّلها: أنّهم يُوَقِّرون مَنْ ذهب هذا المذهب كما سبق الحديث عنه آنفا.
وثانيها: أنّ كثيرًا من عقائدهم منبثقة من الديانة البوذية الّتي تعتمد على عبادة المخلوقات. فالبوذيُّ يعبد الشجر والحجر والقرد والبقر. وكذلك النقشبنديّ يؤلّه الشيخ ويقدّسه في حياته وبعد مماته إلى درجة لا يراه محتاجًا إلى رحمة الله؛ بل يراه مستغنيًا عنها ومُنَزَّهًا من أن يقول في حقه "رحمه الله" أو "رحمة الله عليه" إن كان قد مات. ولكن يقول "قدّس الله سرّه". إذ يعدّه جزءً من الله. يدلّ على اعتقادهم هذا، ما نقله إبراهيم الفصيح في مستهل كتابه "تحفة العشاق" أنه »قال القاضي عياض في الباب الرابع من القسم الثاني في الشفاء نقلاً عن أبي بكر القشيريّ: أن الصلاة من الله لمن دون النبيِّ رحمةٌ؛ وقال الشارح الشهاب: أي طلب أن يرحمه الله. وأما النبيُّ فمرحوم بأعلى أنواع الرحمة، فهو غير محتاج لأن يُدعى له بها.«(64/172)
وقد جاءت عباراتٌ في موسوعةٍ للنقشبنديّين ضمن ترجمة طه الهكّاريّ تفيد أنهم يترحمون على من لا يزال في قيود نفسه، ويقدسون من كان قد حظي بالنجاة من قيودها على حسب زعمهم. كذلك كل شئٍ يتّصل به فهو مقدّس عندهم؛ حتّى كلبه وقطّه، بل حتّى مخاطه وبوله وفضلاته! وكثيرًا مّا يعبّر المريد عن محبّته وصداقته وتفانيه لشيخه بقوله »أنا من كلاب السادات« محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز (ابن عابدين)، "سل الحسا الهنديّ في نصرة مولانا خالد النقشبنديّ" ص/ 37 هذا لفظ خالد البغداديّ بالذات. فما بالك بالمريد البدوي البدائيّ!!
كذلك يعتقد النقشبنديّون بالفناءِ والانصهار في الذات الإلهية. ومعنى ذلك أنّ المخلوق يحلّ فيه، أو هو يحل في المخلوق. إذًا يجوز عندهم أن تكون الأشياء أجزاءً منه؛ أو أن يكون هو هذه الأجزاء المتفرّقة في الكون. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وثالثها، سبب تاريخيٌّ وعصبيٌّ. وهي أنّ الحلاّج كان فارسيَّ الأصل يكره العربَ، ويرى أنَّ دولةَ آبائِهِ انقرضتْ على أيديهم. فكان شعوبيًّا يتعصّب لقومه المجوس، حتّى دفعته أغراضُهُ النفسيةُ وحقدُهُ على إشعال ثورةٍ على الدولة العبّاسية، إستعدادًا للإطاحةِ بها، إلى أن كُشِفَتْ أسرارُهُ ومؤامراتُهُ التى كان يحيكها ويُخفيها من وراء حياةٍ صوفيةٍ متصنَّعةٍ، فقُتل.(64/173)
كذلك النقشبنديّون (الأتراك على وجه الخصوص) يكرهون العربَ، ويعتقدون أنّ جميع العرب وهّابيون وعصاةٌ خارجون على الدولة العثمانيّة "المقدّسة" في اعتقادهم. ذلك لتعصّبهم القومي الّذي أدى إلى نتائج خطيرة. منها أن الأغلبية من العنصر التركيّ اليوم قد أصيبت بمركّب النقص، لغلبة اللّغة العربية على لغتهم عبر حُقبةٍ تقرب من ألف سنة. وهم يبحثون في الآونة الأخيرة عن سبيل التخلّص من هذا التأثير. ويرى الكثير من المارقين من أبناء هذا الشعب »أنّ الخروج من هذا المأزق لا يمكن إلاّ أن يحلَّ المجتمعُ التركيّ ربقة الإسلام من عنقه تمامًا«. وإذا كان اليوم تتحدّى جموع غفيرة من ملاحدة الأتراك بهذه الفكرة الخطيرة عن جدٍّ، واستعدادٍ، فان للتعصّب القوميّ الّذي أثاره النقشبنديّون تأثيرًا كبيرًا في إبداءِ هذه الجرأة والغطرسة. وهذا التعصّب هو القاسم المشترك بينهم وبين الحلاّج. وفي هذا دلائل كثيرة. فقد أفتى شيخ لهم أخيرًا »بأنّ الصلاة باطلةٌ عند الإقتداءِ بإمام وهّابيّ، ولا يجوز الإقتداء بأئمة الحرمين؛ لأنّهم وهّابيّون!« فزجر مريديه عن ذلك وألزمهم بإعادة الصلاة إذا اضطرّ أحدهم أن يقتدي بإمامٍ عربيٍّ في ديار الحجاز.(64/174)
وقد أثّر موقفهم السلبيُّ هذا على معظم الشعب التركيّ، بحيث لا يكاد أحد منهم يشعر في نفسه بمحبّة العرب إلاّ قلّة، ولا يدور حديث العرب في مجلس من مجالس النقشبنديّة الأتراك إلاّ وضربوا مثالاً من قذارتهم وخيانتهم للدولة العثمانيّة. لأنهم يقدّسونها ويعدّونها صانعة أمجادهم على أنهم وَرَثَتُهَا دون بقية العناصر من المسلمين. ولهذا يحمّلون قسطًا كبيرًا من مسؤولية سقوطها على العرب الّذين عملوا على استقلالهم وانفصلوا عن الدولة العثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى؛ كما يقدّسون أضرحة سلاطينها، ويعدّون زيارة قبورهم من القُرُبَات. إذ يعتبرونهم جميعًا من أولياء الله الصالحين. (أى من أولئك الأولياء الموصوفين في عقيدتهم الخاصّة.)
كذلك يوقّرون ابن عربي بسبب المصاهرة. لأنّه أقام في مدينة قونية. وهي من كبريات مدن تركيا منذ القديم. وتزوّج من والدة صدر الدين القُنَوِي الّتي كانت أرملة. والصدر القُنَوِيُّ، من مشاهير متصوّفة الأتراك، الّذين تفخر بهم النقشبنديّة. وهو ممن شرح فصوص الحكم، ونحى منحى مؤلّفه.
تتاكّد الإشارة هنا إلى أنّ الّذين يتعصّبون للحلاّج وابن عربي وابن عطاء الله الإسكندريّ وأمثالهم، إنما يدافعون عنهم وعن أفكارهم لسببين رئيسيّين.(64/175)
أوّلهما، أن فريقًا من المتبحّرين في اللّغة العربية وآدابها الّذين أصبحوا من فحولها، قد غبطوا طائفةً من أُدباء الصوفيّة وشعرائَهم، وافتتنوا بسحر ما نسجته أقلامهم، وأحسّوا بتأثير بالغ في نفوسهم، فانهمكوا في مطالعة تصانيف هؤلاءِ الصوفيّة حتّى خطفت أبصارَهم لمعةُ جمالها الأدبيّ البارع، وحارت عقولهم في عمق معانيها النابعة من حكمة فلاسفة الأغريق، فاهتزّت نفوسهم لهديرها ونبراتها، وحنّّتْ عواطفهم وفارت لاطّراد أبوابها وحسن تراكيبها الموزونة المرصوفة في بناءِ عباراتها وهم قلّة. كجلال الدين عبد الرحمن السيوطيّ، وعبد الوهّاب الشعراني، وعبد الغني النابلسيّ. إنّ هؤلاء الثلاثة الّذين غلبتهم العاطفة في مدح ابن عربي، فقد تحمّسوا في الدفاع عنه، فصنّف السيوطيُّ كتابًا في ذلك تحت عنوان "تبرئة الغبي عن طعن ابن عربي"، ولكن يبدو أنّه قد رجع من رأيه في هذا الدفاع حسبما أثبته بعض المعاصرين من أهل البحث والتحقيق. أمّا الشعرانيُّ فقد أطنب في مدحه لابن عربي بذكر مآثره ما يقوم مقام الدفاع عن عقيدته ضمن كتابه الّذي سماه "الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". وكذلك عبد الغني النابلسي، قد تصدّى بحماس بالغ للدفاع عنه في كتابه الّذي سماه "الراد المتين على منتقض العارف بالله محي الدين " وثم عدد آخر من أمثال هؤلاءِ الثلاثة الّذين جرفتهم العاطفة إلى هذه الساحة، فقد جمع أسمائهم بعض المتصدّرين من الأتراك في عجالة له.(64/176)
ذلك أن مشاهيرَ صوفيّةِ العرب، وعلى رأسهم ابن عربي، قد انتقوا ألفاظًا من قاموس هذه اللّغة كأنّهم استخرجوا الجواهر من بحورها. فكتبوا ببيانٍ زاخرٍ، وأسلوبٍ خلاّب فاخرٍ، نظموا يواقيت الكلام في جيد السطور، ونثروا من درر الكلمات على الصفحات؛ فجاء تعبيرهم ناطقًا عن أروع تصوّرات النفس البشريِّةِ وخيالاتها. فاستطاعوا بذلك أن يدسّوا السمَ في العسلِ، كما سوّلت لهم أنفسهم؛ فنفذوا إلى أعماق قلوبٍ مريضةٍ، وتسرّبوا إلى قرارة نفوسٍ ضعيفةٍ حتّى شاعَ صيتُهم، وبلغتْ شهرتُهم الآفاقَ، فظنّ جمهورٌ من الناس أنّ هؤلاء الصوفيّة هم أحبّاء الله وخاصّته، آتاهم الله الحكمة بهذه البلاغة الّتي تبهر العقول. فلم يكد أحدٌ قادرًا بعد ذلك على إحباط ما أذاعوا من الباطل المنوَّه في صورة الحقّ المشوَّه، فغدا هذا الإعجاب والاعتقاد بهم أمرًا متصلّبًا في ضمير معشرٍ من أُناسٍ عاطفيّين في كل عصرٍ تسلسل عَبْرَ الأجيال حتّى اليوم.
وثاني هذين السببين، أنّ فريقًا آخر من بُسَطَاءِ المتعلّمين المتطبّعين بالتقليد المحض والمحرومين من الذوق والنظر والاعتبار، انخدعوا بما حاكتْ أقلامُ الفريق الأوّل من عبارات الدفاع عن الزنادقة، وما تفوّهوا به من مدائحَ لهم، وما أطنبوا في مناقبهم ومآثرهم المختَلَقَةِ، وما بالغوا في الثناءِ عليهم والإعجاب بهم. فاستيقنتْ أنفسُهم وصاروا لهم من التابعين. وغالب هؤلاء المقلّدين هم الشيوخ الجهلة للطائفة النقشبنديّة.(64/177)
بالإضافة إلى هذا، فانّ فكرة "وحدة الوجود" لها جاذبيّة شديدة في سحر العقول وتشويش العواطف وتخدير الأدمغة فينساق من وراء أحلامها التائهون في دياجي الشبهات، ويلهث المتحيّرون نحو سرابها فيحسبون أنّ هذه الفكرة حكمة منبثقة من الوحي الإلهيِّ انصبّت على قلوب هؤلاء الصوفيّة من ملكوت الله. فلا يتوقَّعون منهم أن كانوا قد نطقوا بشيءٍ فيه معصية اللهِ، لما في قلوبهم من عظمة أولئك الزنادقة، حتّى لو وجدوا في عباراتهم من ألفاظ الكفر والإلحاد، ترى المنبهرين بهم من النقشبنديّين يدافعون عنهم أنّ هذه الألفاظ فيها حِكَمٌ ومعانٍ لا يدركها إلاّ أهلُهُ، أو صدرتْ منهم في حالةٍ من السكر لا يفهمها ولا يقدّرُها غيرهم!
ولكن بالرغم من هذا الدفاع الواله، فانَّ ألفاظَهم مفهومةٌ ومقاصدَهم واضحةٌ كلّ الوضوح كقول الحلاّج:
أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا.
فإذا أبصرتَني أبصرتَهُ * وإذا أبصرتَهُ أبصرتَنا. الحسين بن منصور الحلاج، طواسين ص/ 34. (نقلاً من كتاب اسمه "هذه هي الصوفيّة"، للشيخ عبد الرحمن الوكيل ص/ 53. دار الكتب العلمية، بيروت-1984م.)(64/178)
ومنها ما قال ابن عربي؛ »فانّ العارف من يرى الحقّ في كلّ شئٍ؛ بل يراه عين كلِّ شئٍ.« محي الدين بن عربي فصوص الحكم ص/ 192. (نقلا من كتاب؛ "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 75. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية) وقد فرّط في جنب الله بكلام صريح لا مجال للتأويل فيه. فقال »فهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وعين ما بطن في حال ظهوره، وما ثمّ من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه؛ فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه. وهو المسمّى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماءِ المحدثات.« المصدر السابق ص/ 76، 77. (نقلا من كتاب؛ "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 83. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية)
ولما عرض كتاب "فصوص الحكم" على سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني الصوفيّ وقيل له:
»- كلّ ما في هذا الكتاب يخالف القرآن!«
أجاب بقوله:
»- القرآن كلّه شرك، وإنما التوحيد في قولنا.«
هكذا دافع التلمسانيّ عن ابن عربى وعن فكرة وحدة الوجود في الوقت ذاته. ولمّا قيل له:
»- فما الفرق بين أختي وزوجتي؟«. قال:
»- لا فرق عندنا، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام، قلنا حرام عليكم.« صالح المقبلى، العَلَم الشامخ ص/ 569. نقلاً من كتاب "التصوّف في ميزان البحث والتحقيق" للمؤلّف عبد القادر سندي ص/439.)
كانت هذه عدد من الدلائل الواضحات على عقيدة وحدة الوجود. وهي قطرة من بحر. وما من شخصٍ رزقه الله العقل والبصيرة والمعرفة باللّغة العربية إذ يطّلع على هذه العبارات، فلا يشكّ في أنّ عقيدة وحدة الوجود ليست إلاّ كما قال بعضهم:(64/179)
»وما الكلب والخنزير إلاّ إلهنا * وما الله إلاّ راهب في كنيسة« محمّد بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار. تكملة النفحات الأقدسية في شرح الصلوات العظيمة الإدريسية؛ نقلا من كتاب "هذه هي الصوفيّة" للشيخ عبد الرحمن الوكيل ص/ 64؛ وكتاب "الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة"، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 153؛ (على أنه من كلام فريد الدين العطار)؛ وكتاب: معالم الهدى إلى فهم الإسلام، للدكتور مروان إبراهيم القيسي. ص/ 69.
لذا من زعم أنّ ما جاء في كتب الصوفيّة من أمثال هذه العبارات، إنّما هي كلمات صدرت منهم في حالة سكرٍ وغلبةٍ من العشقِ الإلهيِّ، لا يقف على حقيقتها إلاّ أهلها؛ فقد شهد على نفسه أنّه كاتم لما يُضْمِرُهُ من الحرب على الله كما يفعله قدماء الروحانيّين من النقشبنديّة عن قصدٍ، فيتبعهم بقية الشيوخ وآلاف من المريدين الجهلة تقليدًا بهم في هذا الاعتذار.
لهذا، فانّ النقشبنديّين أيضًا يدخلون في عداد الوجوديّين بالتأكيد؛ لحسن ظنّهم بابن عربي وأمثاله. يدلّ على ذلك تعظيمهم لهذه الطائفة وثناؤهم عليها في مواطن كثيرة من حديثهم، خاصّة مَنْ اشتهر منهم بالعلم والثقافة - وقليلٌ مّاهم –(64/180)
لم ينج أحد منهم من هذا التأثير، لرسوخ نزعة التقليد الأعمى فيهم، فلم تكن محبّتهم أو كراهيتهم لشيءٍ إلاّ تقليدًا بمن اعتقدوا فيه. لذلك تجدهم دائمًا يبالغون في إظهار أحاسيسهم سواء في محبتهم أو في بغضهم وكراهيتهم. كزاهد الكوثريّ. وهو من متعصّبي هذه النحلة كما يبدو ذلك واضحًا من عباراته في كلّ ما قد دوّنه وصنّفه. فقد انعكس إعجابُهُ بنفسه واغترارُهُ بعلمهِ في مواطن كثيرة من كلماتِهِ اللاذعةِ ولهجته القاسيةِ وتحدّياتهِ وهجماتهِ على أهل العلم واحتقاره لهم. لا يخلو كتاب من كتبه إلاّ وفيه استخفافٌ بعالمٍ، أو طعن في رجلٍ من أهل المعرفة والإجتهادِ. وربما كان اتخاذه الموقف المتنافر من أهل التوحيد في كلّ مناسبةٍ، إنتقاماً منهم، ليشفي بذلك غليله وليستريح من كبته بسبب كتمانه لما كان يعتقده من فكرة وحدة الوجود. يبرهن على هذه الحقيقة ما قد سجّله أبو الفضل بن عبد الله القُنويُّ في مقدّمته لكتاب »الردّ على القائلين بوحدة الوجود« تأليف علي بن سلطان القاري. فقال:
»ويحسن بي قبل أن أُنْهِيَ هذا التقديمَ أن أُشِيرَ إلى شيءٍ يهمّ الباحث في ترجمةِ جهميِّ عصرِهِ وسوءِ علماءِ بلدِهِ الكوثريّ وقصته مع مصطفى صبري، وذلك أنه جرت بينهما من الخصومة العلمية ما يجدر أن يُكتَب في كتاب مستقل، ولكني سأذكر من ذلك نبذًا لعلّه لم يشر إليها كاتب قبلي ما علمت:«(64/181)
»فقد أخبرني الأستاذ أمين القدسيّ، وهو كاتب وباحث قونويّ يتقن العربية أنّ الكوثريّ يُبطن اعتقادَ مذهب أهل وحدة الوجود، وبخاصّةٍ يوم هاجر إلى مصر، فبلغ بي العجب يومئذ غايته؛ إذ المعروف عن الكوثريّ أنه حامل لواء التنزيه بزعمه، فكيف يقول بمذهب الوحدة وهو أشنع التجسيم، وأخبث التمثيل؟! وقال لي: إنه سمع ذلك من خاله علي القدسيّ، وهو من علماء الترك الّذين هاجروا إلى دمشق، وإنه جرت مناظرة بين الكوثريّ وعلي القدسيّ في وحدة الوجود، الكوثريّ يؤيّدها والقدسيّ ينكرها، حتّى كان من آخر ما قاله القدسيّ للكوثريّ في المجلس: أنت تقول بقول أهل الوحدة، فأنا أستأذنك لأذهب إلى بيت الخلاء لأقضي حاجتي، فغضب الكوثريّ وعرف مقصده، وقال أمين: إن من أدلة اعتناقه هذا المذهب كتابه (إرغام المريد) في التصوف، فطلبت الكتاب وقرأته، فرأيت من الطامة ما ينضم إلى سجله المحترق تجهمًا فيه من تصديق بدع المتصوّفة وخرافاتهم وتقديس مشائخهم ما شئت.«
***
* وحدة الشهودِ(64/182)
وأمّا فكرة "وحدة الشهود"، فهي أيضًا بدعة فلسفيّة مماثلة لهرطقة "وحدة الوجود". أوّل مَنْ قال بها مِنْ قدماء النقشبنديّة، هو أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بين أتباعه بـ "الإمام الربّانيّ". أثار هذه الفكرة فتذرّع بها للرّدِّ على عقيدة "وحدة الوجود" على حسب ما ادّعى المفتتنون به. يبدو أنّهم قد حاولوا بذلك أن يُبْرِؤُا سَاحَتَهُ ممّا أصاب ابنَ عربي وأمثَالَهُ من الوجوديّين من الطعن بالتكفير والإلحاد، حتّى لا يتعرّض هو الآخر لتشنيغ أهل التوحيد. بينما الفاروقيّ أيضًا تخبّط في متاهاتٍ أخرى لا تقل خطراً عما وقع فيه الوجوديّون قبله. إذ أنّ رسائلَهُ الشهيرةَ المتداولةَ بين المغترّين به، والمعروفةَ بعنوان "المكتوبات" شاهدةٌ على ما قد بثّ ودسّ من أنواع البدع في عقائد المسلمين بهذه الرسائل، وهي أصلاً مستوحاة من ديانات مجوس الهند، كما سنشرحها في ترجمته إنْ شاء الله تعالى.
والغريب، أنّ بعض المغفّلين قد انخدعوا بِدِعَايَةِ: أنّ "وحدةَ الشهود" صيغةٌ دفاعيةٌ عن العقيدة الحنيفة ضدّ هرطقة "وحدة الوجود". بينما هي نفسها هرطقة أخرى وبدعة غالية ليست من الإسلام في شئٍ. إذ أنّ كلمة "وحدةِ الشهود" تعبيٌر غامضٌ، حتّى لو كان المراد به "وحدةَ المشهود"؛ ولكن بأيّ صفة؟ فانّ النقشبنديّين لم يذكروا شيئًا بوضوح يُبيّن لنا أنّ وحدة الشهود يعني: وحدة جميع الأشياءِ المشهودةِ على صفة المخلوقية لله الخالق الواحد المنزّه عن المشابهة بالمشهود.(64/183)
فقد قال رجل من كبرائهم في صدد هذه العقيدة »أنّ الممكن في التوحيد الشهوديِّ، مرآةٌ لشهود ذات الحقّ سبحانه«. غلام علي عبد الله الدهلويّ، مكاتيب شريفه (باللّغة الفارسيّة) ص/ 174. مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. وهذا نص كلامه بالفارسيّة: "در توحيد شهودي، وجود ممكن آينهء شهود حق سبحانه مي شود". ولكن إذا كان مراده من هذه الصيغة: أنّ وجود المخلوق يدلّ على وجود الخالق، فلماذا لم يعبّر عن مقصوده هكذا بوضوح على طريقة علماء الإسلام، ولم يقتبس آية مناسبة للموضوع، مثلا كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...إلخ.}؛ ولكن صاغ عبارتَهُ بذلك الأسلوب الدسّاس الغامض على طريقة الروحانيّين؟!!!
لأنّ عقيدة "وحدة الشهود" في حقيقة الأمر ليستْ إلاّ نسخة أخرى من عقيدة "وحدة الوجود". ولكنهم جاؤا بها في لباسٍ جديدٍ، وتكلّفوا أخيرًا هذه الصيغة الماكرة في الدعاية لها بعد أن فشلوا في محاولة دعوتهم لعقيدة "وحدة الوجود". وذلك ليُلبِسوا الحقَّ بالباطل على البُسِطَاءِ بحيلةٍ أخري في بداية الأمر، إلى حينٍ تتحقّق لهم الهيمنة على دماغ من ينخرط في سلكهم ويعتنق عقيدتهم بعد مرحلة من الرياضة. وهذا دأبهم في الاصطياد الباطني
يشرح السرهنديّ هذه العقيدة الّتي ابتدعها بقوله: »إنّما يتحقّق التوحيد الشهوديُّ بالفناءِ وبنسيان ما سوى الله، فيستطيع السالك أن يتقدّم من البداية إلى النهاية دون أن يظهر له شئٌ من العلوم والمعارف المتعلّقة بالتوحيد الوجودِّ؛ بل يحتمل أن يُنكر هذه العلوم«. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المكتوبات (الرسالة رقم/272.) ص/ 505. باكستان-1392هـ. النسخة الفارسيّة الّتي أعيدت طبعها في تركيا. مكتبة إيشك. إسطنبول-1977م. راجع المصادر الآتية لمزيد من المعرفة حول عقيدة السرهنديّ فيما اختلقه باسم "التوحيد الشهوديّ":
Dr. Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar Pg. 295. ?stanbul-1994(64/184)
A. F. Serhindi, Mektubât (Translation: Abdulkadir Akçiçek) ; V/2. Letter No. 314.
إنّ هذه العبارة المنقولة من إحدى رسائل الفاروقيّ الّتي يردّ بها على عقيدة "وحدة الوجود"، فيها كفاية عن حقيقة وحدة الشهود في الوقت ذاته، وكذلك عن معتقدات الفاروقيّ جملةً وتفصيلاً. إذ يبدو فيها واضحًا أنّه مقرّ بعقيدة الفناءِ في الله ثمّ بالسلوك. وهو فنٌّ ماكر وأسلوب خطير من أساليب المتصوّفة لترويض المبتدئِ على أفكارهم واتجاهاتهم..(64/185)
إنّ مقولة "وحدة الشهود"، في الحقيقة تعبير دخيل مثل كلمة "وحدة الوجود". لا صلة لها الإسلام. إذ لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان؛ أنّهم نطقوا بمثل هذا التعبير. ثم إنّ الغرض الحقيقيَّ من هذا التعبير لا يبدو بسهولة. وهو كلام غامض. يتشوّش فيه المتأمل. بينما الإسلام ومفاهيمه واضحة جليّة، تتبدّى حتّى للأميِّ فضلاً عن العالم؛ كما قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلوُنَ.}؛ سورة أل عمران/118. وقال تعالى، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اْلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلوُن.َ}؛ سورة الحديد/17. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلوُن.}؛ سورة البقرة/242. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ اْلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّروُن.َ}؛ سورة البقرة/266. وقال تعالى، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تهْتَدوُنَ.}؛ سورة آل عمران/.103 وقال تعالى، {هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظةٌ للمتّقين.}؛ سورة آل عمران/138. وقال تعالى، {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَئٍْ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرىَ لِلْمُسْلِميِنَ.}؛ سورة النحل/89 وقال تعالى، {كَذَلِكَ نُفَصِّل اْلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّروُن.َ}؛ سورة يونس/24 وقال تعالى، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.} سورة القمر/17، 22، 32، 40.(64/186)
أمّا بُسَطَاءُ النقشبنديّة فانهم على نقيضٍ من هذه الصراحة اللاّئحة في كلّ آيةٍ من القرآن الكريم. يأتون بكلام غامض ربما لا يفهمونه بالذات. لأنّهم لا يدرون ماذا يقصدون به؛ ولأنّهم كثيرًا ما يطلقون الكلمة من غير تعقّل إمّا لجهلٍ مزدوج: وهو الجهل المركب الّذي لا علمَ لصاحبه بجهل نفسه، أو إمّا بسبب التقليد الأعمى الّذي قد يتعرّض له حتّى الرجل العالم لثقته الشديدة بمن يقلّده كموقفهم من الوجوديين. نراهم يبتدعون فكرة "وحدة الشهود" لكي لا يتورّطوا فيما وقع فيه ابن عربي وأمثالُهُ من الوجوديّين؛ ثم نراهم على أشدّ هيئةٍ من الإجلال والتعظيم لهم.
في الحقيقة، إنّ جميع النقشبنديّين هم بسطاء الصوفيّة وحثالتهم. لذا، هم أقلّ الفرق الباطنية مرونةً، وأشدّهم تقليدًا وتعصّبًا. يبهرون بأخسّ كلمة ينطق بها متحزلقٌ من صناديدهم. فيتأوّلونها، ويشرحونها، ويحشدون في بطنها تفسيرات غريبة يتعجّب الإنسان من محاولتهم.(64/187)
هذه التبعيّة هي الّتي دفعتهم من وراءِ كاهنٍ هنديّ، فظنّوا أنّ بدعته الّتي زيّنها لهم باسم "وحدة الشهود" تعني تنزيهَ الخالق عن صفات المخلوق. بينما هذه التبعية تتجاوز حدودَ حسنِ الظنّ إلى تقليدٍ لا مبرِّرَ له. إذ أنّ الوجوديين والشهوديين لو أخلصوا لله في تنزيهه سبحانه عما يصفون، لتقيّدوا بحدودِ ما قال تعالى عن نفسه، وما ذكر من صفاته؛ كقوله جلّت عظمتُهُ {اللهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيّوُمُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ...}. سورة البقرة/255. وقوله تعالى {وَهَوَ الّذي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكوُنُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فيِ الصورِ عاَلِمُ الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ وَهُوَ الْحَكيِمُ الْخَبيِرُ.}. سورة الأنعام/73 وقوله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقْ أَفَلاَ تَذَكَّرَونَ.}. سورة النحل/17. وقوله تعالى {فَاطِرُ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌْ، وَهُوَ السميِعُ الْبَصيِرُ* له مَقَاليِدُ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَئٍْ عَليِمٌ.}. سورة الشورى/11، 12.(64/188)
نعم لو أنّ النقشبنديّين اقتنعوا بهذه الآيات البيّنات - وما أكثرها في كتاب الله - لكفتهم مؤنة القول بـ "وحدة الشهود" في محاولاتهم لتنزيه الخالق عن صفات المخلوق. ولكن غرضهم في حقيقة الأمر ليس تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بشأنه تعالى. ولأنّهم لو كانوا صادقين في ادّعائهم: أنّ أحمد الفاروقيّ إنما تصدّى بهذه المقولة، ليردّ على ابن عربي؛ لما ثبتوا على تعظيمهم للوجوديين بعد ذلك ومنهم ابن عربي، ولنبذوا ما أضلّهم به سادتهم وكبراؤهم من عقائد البراهمة وتقاليد اليوغيّين؛ ولدخلوا صفوف أهل التوحيد وأخلصوا لهم، وساندوهم في جهادهم ضدّ الفرق الضالّة والمتطرّفين والزنادقة والمشركين.
***
الولايةُ والوليُّ في معتقد النقشبنديّين.
إنّ مفهوم الولاية والوليِّ - بالوصف الصوفيّ - مسألة خطيرة جدًّا؛ أثارها الروحانيّون منذ عصور. وقد نسجوا حولها ما نسجوا من أنواع الأساطير في بطون الكتب مالا يتمكّن الإنسان من إحصائها.
فقد تشبّثوا بآيةٍ من كتاب الله العزيز بالتحديد، فتناولوها بالتأويل على سبيل الإثبات لما أرادوا من وراء هذا المفهوم. وهي قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوَفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنوُنَ.}. سورة يونس/62. إنّ معنى هذه الآية الكريمة واضحة جلية في الحقيقة؛ لا يحتاج إلى أيِّ شرح أو تفسير. فقد بيّن الله سبحانه صفات الوليِّ في آيتين بعدها. قال تعالى {الّذينَ آمَنوُا وَكَانوُا يَتَّقوُنَ* لَهُمُ الْبُشْرىَ فيِ الْحَيَاةِ الدنْيَا وَفيِ الآخِرَةِ لاَ تَبْديِلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ، ذَلِكَ هَوَ الْفَوْزُ الْعَظيِمُ.}. سورة يونس/63، 64.(64/189)
لذا لم يجد علماء الإسلام ضرورة أيّ تفسيرٍ آخرَ بعد هاتين الآيتين غالبًا، لكمال وضوحها وتبادرها إلى الذهن بسهولةٍ. أمّا من أبى منهم إلاّ ليقول شيئًا، فقد اضطر أنْ يُعيدَ الآيةَ نفسها، أو جزءً منها؛ - كما فعل ابن كثير رحمه الله - ولكن ليس ذلك مساعدةً منه للقارئِ على فهم معنى الآيةِ؛ بل تأكيدًا لشأنها، وردعًا لمن قد يهمس إليه الشيطان ليوقعه في العبث بها وتأويلها بما لا تتحمّل. {فَأَمَّا الّذينَ فيِ قُلُوِبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعوُنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيِلِهِ.}. سورة آل عمران/7
لذا قال ابن كثير - رحمه الله - وربما ليس بقصد التفسير، بل تفادياً لأيِّ لبسٍ قد يتورّط فيه قاصر الفهم، وتنبيهًا على تأويلات المشعوذين من الصوفيّة قال:
»يخبر تعالى أولياءَهُ - وهم الّذين آمنوا وكانوا يتّقون - كما فسّر ربُّهم؛ فكُلُّ مَنْ كان تقيًّا، كان وليًّا؛ وأنّه لا خوفٌ عليهم فيما يستقبلون من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما ورائهم في الدنيا.« أبو الفداء إسماعيل عماد الدين بن عمر بن كثير القرشي، تفسير القرآن العظيم 4/213. دار قهرمان إسطنبول-1984م.
نعم كان هذ معنى الآية في حقيقة الأمر. غير أنّ عامّة الصوفيّة وخاصّةً النقشبنديّين لم يتورّعوا عن تحريف معنى هذه الآية الجليلة على الرغم من وضوحها. بل تصوّروا للوليِّ شخصيةً أسطوريةً كما سنشرحها في باب الكرامة عندهم.(64/190)
إنّ الأولياء في اعتقاد النقشبنديّين ليسوا هم الّذين وصفهم الله بأربعة نعوت فحسب، في تلك الآيات الآنفة الذكر. بل هم رجالٌ عمالقةٌ لا تُدرِكُ عقول البشر أسرارهم وجلالة شأنهم. الكائناتُ بأسرها مسخّرةٌ لمشيئتهم. »فالملائكة تهبط إليهم بالطعام والشراب؛ والوحوشُ والكواسرُ تخافهم وتُطَأْطِيءُ رؤوسها لهم، والأرضُ تُطْوىَ لهم، فيطوفون في أرجائها بمثل لمح البصر.« سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 157.(إنما وَصَفَ المؤلّفُ شخصيةَ الوليّ على حسب عقيدة الصوفيّة، أراد أن يفضحهم بالكشف عن عقيدتهم حول هذا المفهوم.)
هكذا، فإنّ تصوّر المتصوّفة للوليِّ أقرب إلى الخيال المحلّق، بل قد يتجاوزه. فلا حقيقة لهذا التصور طبعًا. لأن الخيالَ لا حدودَ له. يسرح الإنسانُ فيه ويحلمُ ما يحلوُ له، وقد يعتادُ على ذلك، وعندها يغدو رهين المرض النفسي الذي يهيمن عليه، فيصدّق كلّ ما يجول في خاطره من وساوس النفس ووحي الشياطين. ومتى بلغ هذا المرضُ فيه مبلغَهُ، صار لايشكّ في صحة شئٍ من تلك الأساطير الّتي نسجتها الصوفيّة؛ بطلت عندئذ سنّةُ الله في نظره. فانه في هذه الحالة سواء زعم أنه مؤمن بالله أو كافر أو مشرك، يعاني ازدواجيةً غريبةً في عقيدته وسلوكه وآرائه وأعماله. وبالتالي لا يكاد يعبأ بالإنسان المتّصف بمجرّد الإيمان والتقوى. وهما من صفات أولياء الله. لأنّ الإيمان والتقوى - بالمنظور القرآنيِّ - لا يكاد يمثّل شيئًا في اعتباره. خاصّة فانّ الإيمان بالله يستوجب القيام بأمور ينافي إيمان الصوفيّ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله على أرضه، والجهاد في سبيله... أمّا الصوفيّ، فانّ إيمانه يأمره بالسير والسلوك اليوغي-البرهميِّ، والعزلة والتقشف، والغياب والتعطيل الّذي يسمونه الفناء والبقاء إلى غير ذلك مما لا مساس له بالإسلام.(64/191)
لهذا، فانّ شخصية الوليّ الّذي وصفه الله بالإيمان والتقوى، وأنه لا يخاف ولا يحزن؛ تختلف اختلافًا كبيرًا عن تلك الشخصية الّتي تتصف بالولاية في عقيدة الصوفيّةِ عامةً والنقشبنديّة خاصّة. لأنه يستحيل في عقيدتهم المزدوجةِ أن يكونَ اللهُ هو المُسَيِّرَ الوحيدَ للكائنات بأجمعها؛ وإنْ هم ينطقون بكلمة التوحيد. فانَّ هذا النطق عادةٌ تقليدية في خاصّتهم وكبرائهم. وربما هي وسيلة للتّقية. والبرهان القاطع على ازدواجية العقيدة خاصّة عند النقشبنديّين أنهم لايشكّون من استقلال أوليائهم عن الله قيد نملةٍ، ولا من استغنائهم عنه بتصرّفاتهم في الكون. يعتقدون »أنّ كلاًّ منهم يُحيي ويُميت ويرزق ويحرّم ويغفر ويعذِّب وهو على كلّ شئٍ قدير!«. لذا لم ترضَ أنفُسهم بأن تقتصر صفات الوليِّ على عدم الخوف والحزن وعلى كونه مؤمنًا تقيّا فحسب، بل تَعَدَّوْها بخلع صفاتٍ ذاتيّةٍ إلهيةٍ على أوليائهم، ونسبة القدرة الخارقة إليهم. ومعنى ذلك أن الوليَّ عند النقشبنديّة »هو وكيلُ الله في أرضه، وخليفتُهُ القائمُ بالتصرّف عنه.« محمود أسطى عثمان أوغلو وعدد من بطانته، تفسير "روح الفرقان (باللّغة التركية) " ص/ 2/74. مكتبة سراج، إسطنبول-1992م. كما جاء في تفسيرٍ لجماعةٍ منهم في إسطنبول. وإنما أرادوا بهذه المقولة: أنّ الوليَّ يتصرّفُ في مُلْكِ الله كما يشاء. وقد أنشد بعضهم باللّغة التركية أبياتًا لا تترك مجالاً للشّكِّ فيما يقصدونه من وراءِ مفهوم الوليِّ. وهذا ما تيسّر لنا تعريبهُ:
إنّ الوليَّ له التصرُّفُ في الحياةِ وبعدها؛
إيّاك قولَ مُعَنِّدِ الْمُغترِّ: - أنّه ميّتٌ.
الروح سيف الله والبدن الْمُكَثَّفُ غِمْدُهُ؛
فالصارم المسلول أنشطُ، والمُغَمَّدُ بيِّتٌ. هذا هو النصّ الأصليُّ باللّغة التركية للأبيات المذكورة المعرّبة:
?ki cihanda tasarruf ehlidir çünkü veli
Deme kim bu mürdedir bunda nice derman ola(64/192)
Rûh ?em?îr-i Hudâd?r ten ?ilâf olmu? ona
Ta ki a'lâ kâr eder bir tî? kim üryan ola
Ahmet Yasar Ocak, Menâkibnâmeler Pg. 7 . Ankara-1992
نعم لا يشُكُّون قيدَ نملةٍ فيما جاء ضمنَ هذه الأبيات. ذلك أنّ الوليَّ في معتقدهم إذا مات خلصتْ روحُهُ من كُدُرات الجسم الكثيف، وتحررتْ من قيودها، وغدت أكثرَ استعدادًا وقدرةً على تنفيذ ما تريده. لذلك يضربون لها المثال بالسيف المسلول.
ولهم عباراتٌ ملفّقةٌ في هذه المسألة. قد مزّجوا فيها بين الحقّ والباطل. يقول بعضهم »فمذهب أهل الحق أنّه تبقى الكرامة بعد الموت كما أنّ النبوة لا تنقطع بعد الموت.« حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر ص/ 15. فشاور/1965م. أعيد طبعه من قِبَل مكتبة الحقيقة في إسطنبول- 1989م.
لقد نَسِيَ المتنطّعُ بهذه الألفاظ أو جَهِلَ، أنه لا وجهَ للتشبيه بين الكرامةِ والنبوّةِ؛ ولا بين الكرامة والإيمان إطلاقًا. وإنّما للتّشبيه وجه بين الولاية والنبّوّة، وكذلك بين الكرامة والمعجزة. لأنّ النبوّة صفة ذاتية كالولاية؛ وليست صفةً فعليةً كالمعجزة (وهي من براهين النبوّة). أمّا الكرامة (بمعنى الخوارق حسب اعتقاد الصوفيّة)، فإنها صفة فعليّة كالمعجزة، وليست صفةً ذاتيّةً كالولايةِ (وهي سبب الكرامة، أي سبب حدوث الخوارق على يد الوليّ في معتقدهم أيضًا). ولأنّ مفهوم الكرامة في مصطلحهم يشتمل على الخوارق الّتي تُمَثِّلُ الصفة الفعلية وليست الصفةَ الذاتيّةَ. فهي بالنسبة للوليِّ عندهم كالمعجزة للنّبيِّ، وكالسحر بالنسبة للساحر. إذًا فكيف يجوز التشبيه بين الكرامة والنبّوّةِ؟!(64/193)
لا شكّ يظهر مستوى هذا الصوفيّ ونصيبُهُ من العلم بوضوح، من خلال تلك المقارنة الواهية. لهذا، فإنّ جماهير أهل العلم والمعرفة لو اجتمعوا ليقيموا الحجّة على كلّ ما ادّعاه الصوفيّة، لعجزوا عن إحصائها، فضلاً عن دحضها وإحباطها. وهذا من أكبر الأسباب الّتي تفسح لهم المجال وتُنْبِتُ في نفوسهم الجُرأة فتُردِيهم في الغيِّ والتمادي.
إنّ الصوفيّة عامّةً والنقشبنديّين خاصّة يُدافعون عن عقيدتهم في مسألة الوليِّ والولاية بإصرار، ويلجأون إلى تأويل الآيات والأحاديث كي تستقيم لإستدلالهم وحجاجهم. فقد أظهر بعضُهم عقيدتَهُ في الولاية بجرأةٍ حيث ادّعى أنّ الولاية أفضل من النبوّة. لمزيدٍ من المعرفةِ حول اعتقادهم في مسألة الوليِّ والولاية، راجع المصادر الآتية:
Hasan Lutfi Sususd, Menâkib-i Evliya Pg. 163 (Terms part) Ist.-195
Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 90-95 Istanbul-1994
Grogp Of Naacshabandis, Ruh’ul-Furkan 2/63 Istanbul-1992
Ali Kadri, Tarikat-i Kaksebekdiyye 154-159 Pamuk Publis. Istanbul-1994 إنهم لا يختلفون أصلاً في هذه العقيدة. ولكنّ شيوخهم يحتاطون في إظهار هذا المعتقد الخطير، خاصّة إذا كان عندهم أحد من المسلمين!(64/194)
ربما لجأ النقشبنديّون الأتراك إلى هذا التصوّر الرهيب، ليتمكّنوا بذلك من التحدّي على أنَّ منهم أولياء، يفوقون الأنبياء بدرجاتٍ؛ ليتخلّصوا بذلك من تبعية العرب في الدين والثقافة. وليبرّروا حجّتّهم في تعظيم كبرائهم والدعاية لهم، ولتستطيعَ كلُّ جماعةٍ منهم العملَ على تصعيد شيخِها وتفخيمهِ إلى أن تعترفَ بقيةُ الْفِرَقِ الباطنية به، فيدخلَ اسمُه في قائمة أولياء الصوفيّة. ولهذا ليس من الأمور الخفيّة (كما ورد بقلم بعضهم)، »أنّ كلَّ مريدٍ لابد يعتقد الولاية في شيخه«. مقتَبَسٌ ومعرّبٌ من الكتاب الصادر بعنوان: Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 93 Istanbul-199 رجمًا بالغيب؛ وبالرغم من أنّ عدمَ إمكان الإطلاع على وجود صفة الوليِّ في شخصٍ بعينه، متَّفَقٌ عليه عند قدمائهم. المصدر السابق والصفحة المذكورة. وهذا برهان أخر على تخبُّطهم جميعًا في عمياءَ، وتقلُّبهم في أمواج من التلفيق والتناقض والتضارب مع أنفسهم.
يتكلّفون كلَّ هذه المحاولة مع ما فيها من المسؤولية العظيمة، ليدّعوا في النهاية أنّ شيخهم قطب الفرد، وغوث الزمان، وغياث الخلائق، تظهر على يده ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت من الخوارق، وأنّه لو أراد أن يقلّب الجبال ذهبًا لفعل، وأنّه إن مشى على البحر لما أصاب نعلَهُ شئٌ من البلل، وأنّه لو دعى على قومٍ لجعل الله عاليهم سافلهم. وأنّه يحضر الصلاة في الأوقات الخمس بالمسجد الحرام في الحين الّذي هو في بلده، ولو كان بينه وبين الحرم بُعْدُ المشرق والمغرب، وأنه يحضر جبهة القتال في طليعة جيوش الإسلام ينصرهم على عدوّهم، وكيت وكيت!(64/195)
يبرهن على هذه الحقيقة ما يُرَدِّدُهُ عوامُّ النقشبنديّة من الأكراد بلغتهم »شَيْخيِ مَهْ دِكَارَهْ صُولِيِ جَنَّتيِ وُ جَهَنَّمِيَانْ زِهَفْ فَرْقْ بِكَهْ.«؛ ذلك يعني: أنّه باستطاعة شيخنا أن يميّز بين نعال أهل الجنّةِ وأهل النارِ. أي له علم بالغيب في هذا التمييز حتّى ولو لم يعاين أصحاب النعال.
إنّ المفتتنين بكلّ شيخ من شيوخ النقشبنديّة يحاولون بمثل هذا التعبير ليذكروا من صفاته الّتي لا يمتاز بها شيخ آخر، اعتزازًا به. وهكذا تجري المنافسة، وأحيانًا يتطوّر الحديث بين الجماعات التابعة لشيوخ هذه الطائفة بالأسلوب نفسه، فيؤدّي إلى مضاعفات من الخصومة والبغض والشحناءِ..
إن هذه المنافسة قد أورثت النقشبنديّين معتقداتٍ غريبةً ومتنوّعةً حول مفهومَيِ الوليِّ والولاية، وفي النظر إلى شخصية شيخ الطريقة. فانهم مختلفون في فهم هذه المسائل، وكذلك مواقفهم وتعاملهم مع مشائخهم بهذا السبب يختلف اختلافًا بارزًا من جماعةٍ إلى أخرى؛ بعضهم يقدّسون مشائخهم ويعظمونهم تعظيم العبد لربِّهِ، وربما يعتقدون فيهم جزءًا من الإلهيةِ؛ وبخاصّةٍ الأكراد من هذه النحلةِ يحلفون برؤوس مشائخهم وبقبورهم وكذلك بأنسابهم. فيقولون:(64/196)
"بِسَريِ شَيْخْ". أي أُقسِمُ بِهامةِ مولانا الشيخ. ويقولون "بِجَديِّ شيخ". أي أقسم بنسب مولانا الشيخ؛ أو أقسم بآبائهِ. ويقولون "بِكُمْبَتَا شَيْخْ". أي أقسم بالقبّةِ الّتي على ضريح مولانا الشيخ. ذلك من عاداتهم الشائعةِ أنّه إذا مات شيخ من مشائخهم أقاموا على قبره قُبّةً - إلاّ من أوصى بخلافه، وقليل مّا هم - ثمّ ركّبوا على لحده صندوقًا من الخشب، فزيّنوه بالأقمشة، وجعلوه مزاراً يشدّون إليه الرحال، ويتبرّكون به، ويحملون إليه مجانينهم ومرضاهم استشفاءً به، كبقية الطوائف من الصوفيّة. ولبعض جماعاتٍ منهم عاداتٌ أخرى؛ كالضرب على الدفوف، والتغنّي بمناقب الشيخ أمام الموكب أثناءَ تشييع جِنازتهِ من المصلّى إلى المقبرةِ. وهي بدعة اعتادها النقشبنديّون من سكّان مدينة سِعِردْ الواقعة بأقصى جنوب شرقي تركيا.(64/197)
وكذلك من صيغ القسم عند الأكراد النقشبنديّين قولهم "بِأُوْجَاخَا شَيخْ" إنّ كلمة (أوجاخ، أو أوجاق) معناها في اللّغة التركية: موقد النار. وهو مصطلح هامٌّ، في معتقد الأتراك وعاداتهم وتقاليدهم. جاءت في ذلك شروح للباحثين وأهل الدراسة. منها ما ورد في موسوعة Meydan Larousseالمجلّد التاسع ص/ 458-462. ورد فيها شرح طويل باللّغة التركية حول هذا المصطلح. وهذا تعريب عباراتٍ يسيرةٍ منها: "الموقد يحتلّ مكانًا هامًّا في معتقد العامّةِ. وهو ملجأ منيع، لاتقترب منه الأرواح المتمرّدة والأجنّةُ والقوى الخبيثةُ الّتي يُفْزَعُ من سوئها، على حسب معتقد الناس. أمّا هذا المعتقد، فهو امتداد لعهد العبادة للنار.". من هذه العبارات أيضًا: "يعتقد أهل الطرق الصوفيّة بأجمعها، وبخاصّةٍ الطريقة البكتاشيةِ والمولويةِ يعتقدون بأنّ الموقد رمز للميمنة والبركة. ويُعتبر جانب الموقد مقام الوليِّ المنعوت "آتش باشي" أي رئيس النار. وإنّما تتم مباشرة العمل في التكيّةِ كل يومٍ بالابتهال إلى الموقد. ويُعتبر حجرُ الموقد أساسًا للتكيّةِ والمكانَ الأقدسَ منها. ويُقَبَّلُ هذا الحجر إذا كان خاليًا من الغبار. أو يُقَبَّلُ اليد عنها بعد مسها إذا كان مغبَّرًا". كما لا يخفى على من له إلمام بالتاريخ، أنّ الجيش في العهد العثمانيّ حتّى زمن السلطان محمود الثاني كان يسمّى "ينكي جري أوجاغي" أى "موقد جيش الإنكشارية" نسبةً إلى الطريقة البكتاشية الّتي يُعتَبَر موقد النار عند أهلها مكانًا مقدّسًا كما مرّ. أي أُقسم بموقده، (كناية عن أسرته). وربما يستمدُّ هذا القَسَمُ من عقائد أسلافهم الّذين كانوا عليها في العهد الوثنيِّ. لأنّ الأكراد كانوا مجوسًا، يعبدون النار ويقدّسون مواقدها قبل الإسلام تبعًا للفرس؛ فتسرّبتْ عكوسُها إلى ما بعد الإسلام، وأخذتْ طابعاً دسّاسًا لا يفطن لحقيقته إلاّ قليل من أهل العلم والبحث.(64/198)
كانت هذه نبذة من ميّزات الوليِّ وصفاته والخوارق المزعومة عن أولياء الصوفيّة وموقفهم من شيوخهم. وليت شعري من راى بعينه ولو شخصًا واحدًا، لعلّ ظهر منه مرّةً واحدةً شئٌ من هذه المزاعم!
وعند ما نتساءل، فنقول:
ـ هل الأولياء، هم الّذين {لاَ خَوَفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنوُنَ * الّذينَ آمَنوُا وَكَانوُا يَتَّقوُن.َ}. كما وصفهم الله تعالى في كتابه؛ أم هم الّذين تُنسَبُ إليهم إظهار الخوارق كأنّهم خُلِقُوا لذلك! كما وصفهم أتباعهم؟!
تختلف إجابةُ كلّ فردٍ من هذه الطائفة عن إجابة الآخر عند مثل هذا السؤال، بحيث يدهش الإنسان من أمرهم ولا يستطيع أن يجدَ الاتفاقَ بين ما يقول اثنان منهم فضلاً عن الاتفاق بين هذه الفِرَقِ المتشابهة في الظاهر. وهذا ما جعل الإثباتَ والتحقّقَ من معتقدات الصوفيّة أمرًا مستحيلاً على الباحثين وأهل الدراسة والتنقيب. ولعلّ اختلاف رجال البحث في تحليل قضايا الصوفيّة. ناشئٌ عن هذه الفوضى السائدة في عالم المتصوّفة.
وبالخلاصة، يبدو وبكلِّ وضوح أنّ الولاية في اعتقاد الصوفيّة ليستْ هي الصفةَ الذاتيةَ الّتي يُكرم الله بها عبدَه المؤمن التقيَّ بما أنه لا يخاف ولا يحزن. بل الولايةُ عندهم هي صفةٌ يكتسبها الإنسانُ بعد مجاهداتٍ ورياضاتٍ شاقّةٍ بتعذيب النفس والجوع والسهر والصمت والعزلة إلى أن يتحقّق له الفناء ثم البقاء، فيكون بذلك من أصحاب النفوس الفاضلة حتّى إذا نُزِعَتْ روحُهُ من بدنه صار من "المدبّرات أمرًا" أي »ملحقة بالملائكة، أو تصلح هي لتكون مدبّرة« حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر ص/ 43. فشاور-1965م. أعيد طبعه من قِبَل مكتبة الحقيقة في إسطنبول-1989م.(64/199)
»فقد ظهر من هذه العبارات أنّ للأولياء بعد الوفاة مدد روحانيٌّ« المصدر السابق ص/ 16. (قد أخطأ المؤلّفُ في إعراب هذه الكلمات، فقد جاء إسم أنّ مرفوعًا بدل أن يكون منصوبًا. والصحيح هو: أنّ للأولياء بعد الوفاة مددًا روحانيًّا ) عند الصوفيّة.
لم تكتف الطائفة بهذا القدر، بل أفرط بعضهم في جنب الله وفي جنب رسوله عليه الصلاة والسلام، حتّى تَقَوَّلَ على لسانه بأنّه قال » إذا تحيّرتم في الأمور، فاستعينوا بأهل القبور«. المصدر السابق ص/ 15. (نقل أحمد الداجوي عن الآلوسيّي كلامًا يُنكر فيه على المستدلّ بالحديث المفترى، ثمّ قال الداجوي: هذا الكلام يشير إلى ضلالة الآلوسيّ) نقلوه على أنّه حديثٌ، كما وردتْ في الصفحة الثانية والثمانين من تفسير "روح الفرقان" بينما يُنكر بعضهم الآخر على من أسندها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرميه بسخافة العقل. ومن جملة ما سفّه بعضهم بعضًا: محاولةُ حمدِ الله الداجويِّ وهو من متصوّفة بلاد الهند. نقل الداجويُّ عن شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي مقطعاً في هذا الصدد. قال فيه »وكذا في حملها على النفوس الفاضلة إيهامُ صحّةِ ما يزعمه سخفة العقول من أنّ الأولياء يتصرّفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أنّه تعالى فوّض إليهم ذلك. ومنهم مَنْ خصّ ذلك بخمسة من الأولياءِ والكلّ جهل، وإن كان الثاني أشدَّ جهلاً.« المصدر السابق ص/ 44.
هكذا أقوالهم وحكاياتهم ونقولاتهم تتناقض وتتضارب وتتذبذب في اضطراب بين الإفراط والتفريط، في كثير من المواطن وإن ظهرت في صورة الحق في بعض الأحيان لقصور النظر فيها؛ كما في مسألة الوليِّ والولاية.
***
المكاشفة والإلهام وعلم الغيب في اعتقاد النقشبنديّين.
إنّ من جملة الصفات التى يعتقدها النقشبنديّون في شيوخهم على سيبل تمييزهم من العامةِ، علمُ الغيب.(64/200)
فقد أفردوا في كتبهم أبوابًا بعنوان الكرامات؛ وذكروا ضمنَ مناقب شيوخهم ما لا يُحصى من قصص المكاشفات والإلهامات وعلم الغيب، تحار منها العقول. منها كتاب »الحدائق الوردية في حقائق أجلاّءِ النقشبنديّة« لرجل من متأخري هذه الزمرة. اسمه عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ. لقد نقل في ثنايا كتابه أفظع ما يمكن أن يتصوّره الإنسانُ من أساطيرَ اختلقها النقشبنديّون عَبْرَ تاريخهم.
يقول في صدد كرامات أحمد الفاروقيّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "الإمام الربّانيّ":
»لقد خصّه الله تعالى بفضيلة نشر العلوم الدينية، والكشف عن أسرار العلوم اللدنّيّةِ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/181.
العلوم اللدنّية هي الّتي يقصد بها الصوفيّة علمَ الغيب. لذا، ميّز الخانيّ بينها وبين العلوم الدينية. وهي العلومُ الإسلاميةُ النابعةُ من قلب القرآن العظيم، المستمدّةُ من الوحي الإلهيِّ، والمعروفةُ بمقدِّماتِها وتفاصيلِها: من توحيدٍ وفقهٍ وتفسيرٍ وحديثٍ وما يتعلّقُ بها.(64/201)
إنّ النقشبنديّين يحتقرون هذه العلوم الشريفةَ كسائر الصوفيّة؛ ويفضّلون عليها ما سمّوهُ بالعلوم اللّدنّية. وهي في اعتقادهم إشراقٌ روحانيٌّ، وعرفانٌ وجدانيٌّ يُفيض على قلب السالك من عند الله بإلقاءٍ ربّانيّ عن طريق الإلهام. ويتفلسفون في تحقير العلوم الدينية المعتمِدة - بجانبها الكسبيِّ - على الحسّ والعقل والتجربة والنظر والقياس. يزعمون أنّ مجرّد المعرفة عن طريق هذه المسمَّيَات لا تؤدّي إلى كنه أسرار الكون والحياةِ وإدراك الحقيقةِ الخفيةِ من وراء الطبيعةِ. فيبلغ تحقيرهم للعلوم القرآنية إلى حدود السخرية بها؛ كما جاء في نفس المصدر المذكور آنفًا ضمنَ ترجمة محمّد زاهد السمرقنديّ أحدِ شيوخِ هذه الطائفةِ في قصةِ اتصاله بعبيد الله الأحرار الّذي نصبه شيخًا على أن يكون خلفًا من بعده على أتباعه. يقول الخانيّ نقلاً عنهُ:
»فلمّا وصلنا إلى قرية شَادْمَانْ، أقمنا فيها أيّامًا من شدّة الحرِّ. فبينما نحن كذلك إذ حضر إلينا سيدُنا الشيخ رضي الله عنه وقتَ العصر فذهبنا لزيارته. فسألني من أين أنت؟ فقلتُ من سمرقند. فطفق يحدّثنا أجمل الحديث. وذكر خلالَ كلامِهِ جميعَ ما أكننتُهُ في سرّي فردًا فردًا. حتّى أخبرني عن سبب سفري إلى هراة. فلمّا وجدتُ ذلك تعلّق قلبي به كلَّ تعلُّقٍ. ثمّ قال لي: إن كان مقصودك طلب العلم فهو متيسّر هنا. فتيقّنتُ أنه ما من خاطرٍ إلاّ وقد اطّلع عليه هذا ولم يخرج من قلبي محبّة السفر إلى هراة. فلمّا كوشِفَ بذلك قال لي أحد أتباعه إنّه مشغول بالكتابة، فتربص قليلاً. فلمّا فرغ قام من مقامه وأقبل نحوي ثمّ قال: - أخبرني بجلية أمرك، هل مرادك من هراة تحصيل الطريق أو العلم ؟ فدهشتُ من جلالته وسكتُّ. فقال له رفيقي: - بل الغالب عليه الطريق، وإنّما جعل العلم تستُّرًا. فتبسّم وقال: - إن كان كذلك فهو أفضل وأحسن.« المصدر السابق ص/175.(64/202)
إنّ هذه العبارات، مَنْ أمعنَ النظرَ فيها، وجد أنّها تُغنيِهِ عن مجلّداتٍ من أساطير هذه الطائفةِ وخرافاتها؛ واحتقارِ شيوخِها للعقل، وسخريتهم من العلم والشريعة المطهّرة. ولا يعزب عن الباحث المحنّك، أنّ غايةَ كبرائهم من مدحهم للشريعة المحمّدية في بعض المواطن من كلامهم، ليست إلاّ وسيلة دعائيّة يلجؤون إليها على سبيل الحيطة، تفاديًا لما يتوقّعون من ردودٍ داخلَ الطائفة وخارجَها. خاصّة فانهم يحذرون انتفاضةَ العلماءِ الّذين تورّطوا بالإنخراط في صفوفهم دون علمٍ بحقيقة تعاليم هذه الطريقة وفلسفتها!
لقد بلغت مجازفات الخانيّيِّ في مسألة الإلهام وعلم الغيب والمكاشفة إلى حدود الازدراءِ بالعقل، فاسترسل في سرد »كرامات مشائخه« ليخلع بها أنماطًا من آيات الثناءِ والمدح على رجلٍ اسمه محمّد زاهد السمرقنديّ. وهو أحد رؤوس هذه الطائفة. ثم استخدم الخانيّ قدرتَهُ الأدبيةَ في تنميق عباراته وتنسيق كلماته فقال:
»فهو المفرد العلم في العلم والقلم الّذي قام بأعباءِ الأسرار والإمداد، وتدبير دولة إرشاد العباد. فتبارك من شيّد بالإلهامات الصادقةِ قدرَهُ، وسدّدَ بالكرامات الخارقةِ أمرَهُ«. المصدر السابق ص/174.
هكذا في اعتقادهم أنّ جميع شيوخهم يطّلعون على الغيب، ويعلمون ما في الصدور بالكشف والإلهام.
أمّا الإلهام، فهو في الحقيقة مفهوم غامض، احتاط العلماءُ في إبداءِ الرأيِ حوله؛ وامتنع الكثير منهم عن الخوض فيه. جاء تعريفه في المعاجم بخلاصةٍ يمكن الجمع بينها تقريبًا: أنّه إلقاءٌ من الله في نفس الإنسانِ أمرًا يبعثه على فعلِ الشيءِ أو تركهِ. كأنه أُلْقِيَ شئٌ في روعه فالتهمه. وكلمة "ألهمه الله" أي لقّنه إيّاه؛ و"ألهمه شيئًا" أي أوعزه إليه وأوحاه.(64/203)
قال مصطفى بن محمّد الكستلّي في حاشيته على شرح العقائد للعلاّمة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني تفسيرًا لقول النسفيِّ »والإلهام عند أهل الحقّ؛ قال إحترازًا عمّا نقل عن بعض المتصوّفة وبعض الرافضة أنّه من أسباب العلم مستدلّين بقوله تعالى {فَأَلْهَمَهَا فَجوُرَهَا وَ تَقْوَاهَا} سورة الشمس/8. والجواب، أنّ المراد إعلامها بإرسال الرسُلِ وإنزال الكُتُبِ، أو بدلالة العقل«.
فقد اتّضح من هذه العبارات مرةً أخرى أنّ علماء الإسلام في كلِّ عصرٍ قد حذّروا المسلمين عن الاغترار بتأويلات المتصوفةِ والرافضة.
***
الأويسيّةُ
أمّا الأويسية: فإنّها مصطلحٌ غريبٌ ومثيرٌ، اختلقها النقشبنديّون ليتّخذوه ضربًا آخر من دعوى علم الغيب لشيوخهم. يزعمون أنّ عددًا من قدمائهم تلقّوا علومَهم من روحانيةِ مَنْ ماتوا قبلهم؛ ويصفونهم بـ "الأويسيّة" فيقولون لكلٍّ منهم "شيخٌ أويسيٌّ" نسبةً إلى أويس القرني. وهو »أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرنيّ، من بني قرن بن ردمان بن ناجية ابن مراد، أحد النسّاك العبّاد المقدّمين من سادات التابعين. أصله من اليمن يسكن القفار والرمال، وأدرك حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. فوفد على عمر بن الخطّاب؛ ثم سكن الكوفة وشهد وقعة صفين مع عليّ رضي الله عنه. ويرجِّح الكثيرون أنّه قُتِلَ فيها." خير الدين زركلي، الأعلام 2/32 قيل أنّه كان يتشوّق لزيارة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فلم يستطع إليه سبيلا. وعلى هذا، زعم النقشبنديّون أنّه تلقّى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علومًا بظهر الغيب. فاتّخذوا من هذه المزعمة ذريعةً ليختلقوا بها ما اشتهته نفوسهم بوضع هذه الأسطورة المتمثّلة في كلمة "الأويسيّة«.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في هذا الصدد:(64/204)
»اعلم أنّ الإمام بهاء الدين الشاه نقشبند أخذ الذكر الخفيَّ عن روحانيّة الشيخ عبد الخالق الغجدوانيّ (...) ولم يجتمع معه في عالم الأجسام. لأنّ بين الإمام بهاء الدين والإمام عبد الخالق الغجدوانيّ (...) خمس وسائط من رجال السلسلة العليّة كما مرّ آنفًا. وكذلك الشيخ أبو الحسن الخرقانيّ المتقدّم ذكره أخذ الطريقة المرضية عن روحانيّةِ الإمام أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطاميّ (...)؛ وذلك في ظهوره له في عالم السير إلى الله تعالى. فانّ الروحانيّات تجتمع في ذلك كاجتماعهم في المنام، وبعد الممات. وهو عالَمُ اللاّهوت الخارج من عالم الأجسام والأرواح. الخلقُ كلّهم - الأحياء والأموات - في ذلك العالم. منهم مَنْ يدبّر الله له جسمًا في عالَمِ الأجسام وهم الأحياء؛ ومنهم من لا يدبّر الله له شيئًا من الأجسام، وهم الأموات. ومن لم يُنفَخ فيه الروح مما لم يُسَوَّ جسمُهُ. ولمّا كان هذا الأحذ من الروحانيّات، نبّهنا عليه. لأنّ أبا الحسن الخرقانيّ لم يجتمع بجسمانية أبي يزيد البسطاميّ (...). لأنّ بينه وبينه زمنًا بعيدًا. فانّ أبا يزيد توفّي سنة إحدى وستّين ومائتين. وقيل أربع وستّين ومائتين. وأبوالحسن ولد بعده بكثير. وأبو يزيد (...) أيضًا لَبِسَ خرقة الطريق ظاهرًا وباطنًا من روحانية الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه كما تقدّم في الشيخ أبي الحسن. وما اشتهر بين بعض أهل الطريق من خدمةِ الشيخِ أبي يزيدٍ (...) للإمام جعفرَ عليه السلام وصحبتِهِ له، غير صحيح. لأنّ وفاة الإمامِ جعفرِ الصادقِ رضي الله عنه، قبل ولادة الشيخ أبي يزيد (...) وكلّ مَنْ أخذ من الروحانيّات، يسمّى أويسيًّا في اصطلاح ساداتنا النقشبنديّة.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 9؛ كذلك راجع الصفحة 128 من نفس المصدر.(64/205)
من أنعم النظر في هذه العبارات، وفي ضوء الإيمان والعلم بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حار لجرأة شيوخ هذه الزمرة على الله تعالى، كيف يَتَقَوَّلُونَ على الدين بهذا القدر من التحرّر من ضوابط الكتاب والسنّة وهما بين أيدينا. ليت شعري إنْ كانوا صادقين مع أنفسهم في القول بهذه المعتقدات الغريبة؛ وهل يتمتّع أحدهم بالفطرة السليمة أو يملك عقلَهُ ووعيَهُ في تلك اللحظة الّتي يتفوّه بمثل هذه الكلمات؟ أليس من العجيب أنهم لا يدّخرون وسعًا في إشعار الناس بتمسّكهم بكتاب الله وسنّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتفكّرون لحظةً عما إذا صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى الأحياءَ بأن يتلقّوا علومهم من الأموات؟ ومن ذا الّذي يعلم شيئًا من أحوالهم سوى الله؟
قال الله تبارك وتعالى {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فيِ الْقُبوُرِ.}. سورة الفاطر/22. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - »إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثةٍ: إلاّ من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفَعُ بِهِ, أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.« مسلم ـ الوصية. فإذا كان عمل الإنسان ينقطع بموته تمامًا إلاّ من هذه الأشياء الثلاثة الّتي ليستْ من نتيجة فعله المباشر، وإنّما هي بالواسطةِ؛ فكيف به أنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ بعد موته كما في حياتِهِ(
ولكنّ النقشبنديّين لم يتوقّفوا عند هذه الحدود، بل لا حدود لتصوّراتهم وخيالاتهم، كما سوف تتبلور أمام عيوننا أكثر وضوحًا عَبْرَ متابعتنا لدراسة بقيّةِ معتقداتهم حول مفهوم الكرامةِ والتوسّلِ والتبرّك بالقبور والاستمداد من الموتى. لمزيد من المعرفة حول هذا الاعتقاد راجع المصادر الآتية:
* خالد البغداديّ، رسالة في تحقيق الرابطة (آخر رسالة من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") ص/ 3، 6، 11. مكتبة إيشك طباعات متكررة. إسطنبول.(64/206)
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 10. (الرسالة الثانية من مجموعة "الزمرد العنقاء") TDV. ?SAM. 297.7 NIM.Z 46644
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة. ص/ 14، 23.
* حمد الله الداجوي، البصائر لمنكري التوسّل بأهل المقابر. (الكتاب بعموم مضمونه)
***
مفهوم الكرامة في معتقد النقشبنديّين.
إن قسطًا كبيراً من نشاطات الطريقة النقشبنديّة يتمثّل في اختلاقِ حكاياتٍ بهلوانيةٍ وأساطيرَ عجيبةٍ دوّنوها بعنوان الكرامات ضمنَ مناقب أوليائهم. وهي مشحونةٌ في بطون كُتُبِهِمْ، لم يطّلع عليها كثير من علماء المسلمين الّذين لم يعاصروهم أو لم يجاوروهم. أمّا المتأخّرون من أهل العلم، فانّ كثيرًا منهم أيضًا لا علمَ لهم بهذا الجانب من الطريقة النقشبنديّة. ذلك لأنّهم لم يعبؤا بهذه الطائفة ولم يخالطوا شيوخها أَنَفَةً واستنكافًا. فَخَلاَ الجوُّ بذلك لأصحاب الأقلام من هذه النحلة وسنحتْ لهم الفرصةُ حتّى نسجوا ما طاب لهم من أفانين القصص الأسطورية، وحشدوا ما استطاعوا منها في طيّات كتبهم على سبيل التنويه بعظمة أسلافهم ومكانتهم عند الله. وقد تأثّر بهذه الكتب كثير من المتعلمين والملالي وجماهير من العوام الّذين وجدوا في حكايات الشيوخ ما تنبهر بها عقولهم البسيطة الساذجة. ولربما سرى ذلك التأثير إلى عدد من متأخري الفقهاء فأظهروا حسنَ ظنِّهم بهذه الطريقة مثل ابن حجر الهيتميّ، وعلي القاري، وغيرهما، لما خفي عليهم من أمورٍ يكتمها كبار زعماء النقشبنديّة ولا يُبْدوُنَها حتّى لمن يليهم من شيوخ الطائفة الّذين هم من الدرجة الثانية؛ خاصّة التطوّرات والتغيّرات الّتي حدثت في عقائدها وآدابها عَبْرَ المرحلة الأخيرة على يد خالد البغداديّ وبطانته، لم يعلمها السابقون. ثم اتّخذ شيوخُ النقشبنديّة أقوالَ بعض أولئك السابقين حجّةً في الدفاع عن طريقتهم؛ ومنهم محمّد بن عبد الله(64/207)
الخانيّ، فقد نقل عبارةً من فتاوي ابن حجر الهيتميّ في الصفحة الثامنة من كتابه البهجة السنيّة جاء فيها: »الطريقة العلية السالمة من كدورات جهلة الصوفيّة، وهي الطريقة النقشبنديّة.«
من كتبهم الّتي حشدوا بين طيّاتها أنواعَ الأساطير باسم الكرامات: »الحدائق الوردية في حقائق الأجلاّء النقشبنديّة«، لعبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ وكتاب »المواهب السرمدية في مناقب السادات النقشبنديّة«، لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ؛ و»جامع كرامات الأولياء«ِ، ليوسف بن إسماعيل النبهانيّ؛ و»الأنوار القدسية في مناقب النقشبنديّة« لمؤلّفه ياسين بن إبراهيم السنهوتي وغيرها. فقد نسجوا على صفحات هذه الكتب ما يُثير غيرةَ كلِّ مؤْمنٍ بالله واليوم الآخر، ولا يُستَبْعَدُ أن يتّخذ نفسَ الموقف منها مَنْ يحترم العقل من غير المسلمين أيضًا.
أمّا الكرامة في حقيقتها، فهي كلّ مِنْحَةٍ يُكرِمُ اللهُ بها عبدَهُ المؤمن التقيَّ ليكافئه بها على سعيه المقبول؛ أو ليجعلها وسيلة الهداية لبعض عباده وعبرةً لأولي الألباب. غير أنّ الكرامة، يستحيل أنْ تكون مخلّةً بسنّة الله، كما لم تكن معجزات الأنبياءِ مخلّةً ومبطلةً لها. لأنّ نواميس الكون والحياة كلَّها جارية على نسق واطّراد وضعها الله سبحانه على شكل مترابط ومتكامل لايتم نظامها وبقاوها إلاّ بهذا الترابط والتكامل؛ بحيث إذا بطل قانون واحد من تلك القوانين اختلّ نظامُ العالمين وسَادَ الفوضى على الكائنات بأسرها وقامت الساعة. كما أنّ المعجزةَ والكرامةَ من تقديره تعالى، وبتدبيرٍ منه تتحقّقان، وبقدرته وهيمنته تتأثران على نفوس مَنْ كُتِبَتْ له الهداية إلى الصراط المستقيم؛ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديِلاً.}. سورة الأحزاب/62؛ سورة الفتح/23(64/208)
إنّ الكرامة مع ندرة وقوعها في صورة حدثٍ خارقٍ للعادةِ قد يستعرضها الوليُّ ليتحدّى بها المنكرين والملحدين على أنّه صادقٌ في دعوته إلى شريعة النبيِّ الّذي يتبعه ما عسى أن يهتدوا للإيمان بالله واليوم الآخر وما جاء به النبيُّ من عند الله. وهذا يبرهن على أنّ الكرامة لا ينبغي إظهارُها للمؤمنين؛ كما لا مساغ للاحتجاج بها في وجههم؛ لأنّهم مؤمنون بجميع ما يؤمن به صاحبُ الكرامة؛ ولأنّ القصدَ لتحصيل الحاصل لغو.
إنّ الكرامة في اعتقاد النقشبنديّين ليست هي مِنْحَةُ الله الّتي يُكرِمُ بها عبدَهُ المؤمنَ التقيَّ ليكافئه على سعيه المقبول، أو ليجعلها وسيلة الهداية لبعض عباده الضالين. بل هي عندهم أنماطٌ من الخوارق وألوانٌ من قبيل السحر؛ يدّعون أنّ شيوخ الطريقة يُظهرونها، فيتميّزون بها عن سائر الناسِ على أنّهم من أولياء الله، ومن خاصّة عبادهِ المصطفين. كما يعتقدون أنّ شيوخهم يتصرّفون بها في ملك الله، تؤيّدهم على دعواهم تلك الأعمال الخارقة الّتي تصدر عنهم. كالمشي على الماءِ، والطيران في الهواءِ، وقطع المسافات الشاسعةِ في لمح البصرِ، وتحقيق النصر للجيوش وغيرها مما لا يمكن حصره.
ولكنّ هذه الأقاويل، لم تتعدّ حدودَ الزعم المحض، ولم يتحوّل شئٌ منها إلى واقعٍ مشاهد حتّى الآن. وذلك حجّةٌ دامغة على كلّ من تورّط فاستسلم لهذا الاعتقاد الباطل؛ سواء أكانت الحجة تتّسم بقيمةٍ في اعتبارهم أم لا. فليس وراء بيان الله ورسوله بيان، ولا قرية بعد عبادان.
لقد دعتْ المناسبةُ هنا أن ننقل من كُتُبِ النقشبنديّين أمثلةً مما كتبوه بعنوان الكرامات وأسندوها إلى شيوخهم؛ ننقلها ليتأكّدَ القارئُ من مدى خيالاتهم وتصوّراتهم، وموقفهم المستخفّ من العقل والحقائق العلمية، واستهزائهم بسنّة الله الّتي خلق الحياة والممات والكون والفساد على أساسها.(64/209)
يقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ - وهو أديب النقشبنديّين وداهيتهم - إذ يترنّم بمدائحه المسجّعةِ لإمام طريقتهم محمّد بهاء الدين المعروف بينهم بـ" شاه نقشبند". يقول »لم يدع نَفْسًا إلاّ بأنفاسه القُدسية زكّاها، ولا نارَ هِمّةٍ إلاّ بأسراره المحمّديةِ أذكاها، ولا ظلمةَ جهلٍ إلاّ بأنواره البهائيّةِ أخفاها، ولا شبهةَ خاطرٍ إلاّ ببراهينه الجليّةِ نفاها، إلى كراماتٍ كريماتٍ وآياتٍ عظيماتٍ طالما أحيتْ من القلوب مواتَها وآتتْ الأرواحَ أقواتَها، ارتضع ثديَ التصرّفاتِ الغوثيةِ وهو في المهد صبيًّا، وتضلّع من رحيقِ مختومِ العلومِ الْختمية بأكواب الإرثية، فلولم تُخْتَمِ النبُوَّةُ لكان نبيًّأ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 125.
هكذا يقول الخانيّ في معرض ترجمته لمؤسّس طريقتهم، وهكذا يعتقد في هذا الشخص الّذي ربما ليس لوجوده أثر من الحقيقة؛ أو قد يكون درويشًا بسيطًا لم يلتفت إليه أحد في حياته أصلا؛ ثم حظي من الشهرة مع الزمان بعد أن اتخذه بعض المتحذلقين رمزًا لِبَثِّ معتقداته بين السفلة والرعاع، فنُسِجَتْ حوله سجلاّتٌ من الأساطير حتّى عظّمَتْهُ آلاف من الناس بالتقليد الصرف، لم يكن عبد المجيد الخانيّ آخرهم.
يواصل الخانيّ في سرد مناقبه فيقول:(64/210)
»وحكى سيّدنا علاء الدين، أنّ الشيخ تاج الدين أحد أصحاب الحضرة البهائية، كان إذا أرسله الشيخ إلى حاجة من قصر العرفان قصر العرفان، اسم للقرية الّتي ولد فيها محمّد بهاء الدين البُخَاريّ على ما يزعمه النقشبنديّون؛ وهي على مقربة من مدينة بُخَارَى، لاتتعدى المسافة بينهما عن حمس كيلومترات؛ وليس قصرًا بمعنى البناية الفخمة كما ظنّه عبد الرحمن دمشقية. فقد أخطأ فيما سجّله في الصفحة 34. زيل رقم/1 من دراسته "النقشبنديّة". دار طيبة، الرياض-1984م. إلى بُخَارَى، يعود ببرهةٍ قليلة. وذلك أنّه كان إذا غاب عن أعين المريدين يطير في الهواءِ. قال وأرسلني يومًا في أمرٍ إلى بُخَارَى، فذهبتُ على هذه الكيفية فوجدتُ الشيخ في طريقي. فرآني على هذه الحالة، فسلبها منّي؛ فلم أقدر بعد ذلك أن أفعلها أبدًا« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 139.
يستطرد الخانيّ في صدد كرامات هذا الشيخ قائلاً:
»ثم إنّ الشيخ سافر إلى خوارزم، وفي خدمته الشيخ شادي. فلمّا بلغا نهر حرام، أمره أن يمشي على الماءِ؛ فخاف الشيخ شادي. فأمره غير مرّةٍ، فلم يفعل. فنظر إليه نظرةً عظيمةً، غاب بها عن نفسه بُرْهَةً. فلمّا أفاق وضع قدمه على وجه الماءِ ومشي والشيخ خلفه. فلمّا جاوزاه، قال انظر هل ابتلّ شئٌ من خفّك أو لا؟ فنظر، فلم يجد فيه بللاً أصلا بقدرة الله تعالى.« المصدر السابق/140.
وينقل الخانيّ عن أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المشهور بين النقشبنديّين بـ"الإمام الربّانيّ" أنّه قال »أطلعني الله على أسماءِ مَنْ يدخلون في سلسلتنا من الرجال والنساءِ إلى يوم القيامة؛ وأنّ نسبتي هذه تبقى بوساطة أولادي إلى يوم القيامة حتّى أنّ الإمامَ المهديَّ سيكون على هذه النسبة الشريفة.« المصدر السابق/182.(64/211)
وقال أيضًا »أطلعني الله على قبور الأنبياءِ المبعوثين إلى أرض الهند بحيث أرى أنوارًا ساطعةً من قبورهم.« المصدر السابق/182.
ويُسجّل الخانيّ أنّ هذا الشيخ »نظر مرةً إلى السماءِ وهي تمطر، فقال لها أقلعيِ إلى وقت كذا، فحبس المطر إلى ذلك الوقت.« المصدر السابق/182
وينقل المؤلّف أيضًا عن الابن الأكبر للسرهندي، محمّد سعيد أنّه قال، »كثيرًا ما كان يخبرني الشيخ بالأمر، خيرًا كان أو شرًّا قبل وقوعه، فيقع كما يقول، بلا تفاوت أصلا.« المصدر السابق/182. لمزيد من الإطلاع على أقوالهم حول مفهوم الكرامة، راجع المصادر التالية:
* أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 173. الطبعة الثانية. القاهرة ـ 1959م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 166. ط. 1276 هـ.
* داوود بن سليمالن البغداديّ، المنحة الوهبية في رد الوهابية ص/ 32. الطبعة الثالثة، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1994م.
* يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياءِ (الكتاب بتمامه).
* مصطفى أبو سيف الحمامي، غوث العباد ببيان الرشاد ص/ 289-296. بشاور-1385 هـ. (مطبوع مع كتاب البصائر لمؤلفه حمد الله الداجوي، ضمن مجلد واحد.)
* خالد البغداديّ، الرسالة الخالدية ص/ 75. (ترجمة: شريف أحمد بن علي؛ النسخة المتداولة بين أتباع محمود أسطى عثمان أوغلوفي إسطنبول.
إنّ هذا الشيخ الّذي كان مطّلعًا على السرائر، وعالمًا بمغيبات الأمور، والّذي »كان يخبر ابنه بالأمر خيرًا كان أو شرًّا قبل وقوعه فيقع«، كما ينقل الخانيّ؛ ليت شعري لماذا لم يهتم بمستقبل المسلمين، ولم يُخبرهم بما سوف يلاقون على أيدي الظلمةِ من الاضطهاد والإرهاب والقمع والإبادة؟! فهلاّ أخبر أمّة الإسلام بالحروب الّتي اندلعت بعده، حتّى يأخذوا حذرهم ولا يذهبوا ضحية ما دارت عليهم رحاها وأُزهقت الملايين من الأرواح البريئة!(64/212)
إنّهم بحكم طبيعتهم لن يسكتوا عن هذه المحاجّةِ، ولربما تراهم يلجؤن إلى الكتاب والسنّة في الحين الّذي يضربونهما بعرض الحائط، وهم يردّون في محاولة المتَّهَم البريء: أنّ الغيبَ لله. ويتناسون بذلك جميعَ ما قاله إمامهم السرهنديّ وغيره من شيوخهم من دعوى علم الغيب!
***
حقيقة مفهوم الغيب.
أما الغيب، فانّه مفهوم هامّ ومعقّد، ومشكلة عظيمة أشغلتْ عقولَ البشر منذ القديم. لقد دار الجدال حول الغيبيّات بمختلف أساليبه بين العلماء والفلاسفة والكلاميين والمتصوّفة، فأعيت فيها مذاهبهم.
الغيب في اللّغة هو عكس الشهادة؛ وهو الأمر الخفيّ وليس العدم. فانّ العدم مفهوم فلسفيّ أخر.
ويختلف الغيب إلى قسمين رئيسيّين باختلاف ماهيته. الأوّل منهما، الغيب الممتنع أو المطلق. وهو ما يستحيل إدراكه على العقل البشرىِّ تمامًا، وإن سُمّيَ، أو أُخْبِرَ عن قرائنه. كالروح، وأحوال ما بعد الموت، وأشراط الساعة وقيامها، وحياة الآخرة؛ بالإضافة إلى كلّ ما هو مستغرق في علم الله وحده على انفراد. وتسمّى هذه الأمور بـ "حقائق ما وراء الطبيعة = Metaphysic". تلك الّتي لا سبيل إلى الإيمان بها إلاّ عن طريق ما أنزل الله على رسله من الوحي. ولا يُدرك الإنسان شيئًا من حقيقة هذه المسمّيات الغيبية في هذه الحياة الدنيا إلاّ ما شاء الله أنْ يُظْهِرَ عليها طائفةً من عباده. وهو{عاَلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضىَ مِنْ رَسوُلٍ.} سورة الجن/26. وهم المكلّفون من الملائكة والبشر خاصّة دون غيرهم من بقية الإنس والملائكة وعموم الجنِّ.(64/213)
أمّا النوع الثاني من الأمور الغيبية، فهو الّذي يجوز إدراكه ببداهة العقل البشريِّ، ولكن بوسائلها الخاصّةِ الّتي لها ضوابطها. إلاّ ما تُكِنُّهُ الصدور {وَاللهُ عَليِمٌ بِذَاتِ الصدوُرِ.}؛ سورة التغابن/4.؛ سورة الملك/13. وكذلك ما هو آتٍ؛ فانّ علمه عند الله {وَيَقوُلوُنَ مَتىَ هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ.} سورة النمل/71.؛ سورة سبأ/29.؛ سورة ياسين/48.؛ سورة الملك/25. {وَيَقوُلوُنَ مَتىَ هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ.} سورة السجدة/28. {وَلاَ تَقوُلَنَّ لِشَيْءٍْ إِنّيِ فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ...} سورة الكهف/23، 24. {وَمَا تَدْرىِ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْريِ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَموُتُ إِنَّ اللهَ عَليِمٌ خَبيِرٌ.} سورة لقمان/34. ويمكن أنْ نسمّي بقية الغيبيّات في هذا الكون المادّيِّ بـ "الحقائق الطبيعية المجهولة" إذ هي خاضعة لنواميس الكون وما يتبعها من قوانين المنطق والعلوم التجربية، دون أية علاقة للكَهَانَةِ بها. وإنّما يتمكّن الإنسان من إدراكِ شئٍ على حقيقته إذا ملك الوسيلة الّتي تُقَرِّبُ ذلك الشيءَ إلى ذهنه؛ فيتحوّلُ من مجهولٍ إلى معلوم. ولكن ليست كلّ هذه الوسائل ميسورةً، مع أنّها ممكنةٌ. بل كثير منها صعب المنال، وبعضها داخل في المجهولات أيضًا. فيتعقّد الأمر هنا، وتشتدُّ الأزمة على بعض الناس عندما تتعرّضُ أموالُهم للسرقةِ وأمثالها وهم يجهلون الفاعل، فيلجؤن إلى السحرة والمشعوذين وشيوخ الطرق الصوفيّة للكشف عن ضالّتهم. فيكلّفهم ذلك مالاً ووقتًا، ويُرهِقُهم. وأحيانًا يضيق الأمر ذرعًا برجال الأمن في إثبات الجرائم والجنايات، فلا تكاد تُسْعِفُهم تلك الأجهزة الفنّية الّتي يستخدمونها للكشف عن أسرار المجرمين؛ فيندفع بعضهم بضغوطِ غرائزهِ الوحشيةِ إلى استعمال العنف والتعذيب لانتشال الاعترافات من المتّهمين بطرقٍ قسريّةٍ.(64/214)
كلّ ذلك ناشئٌ عن جهلهم بأساليب الوصول إلى المجهول الّذي يطاردونه. وقد يكون بسبب عجزهم عن العلم بشيءٍ ممكن في حد ذاته، مستعصٍ عليهم. وكلّما دام العجز عن اكتشاف الوسائل، امتنع العلم بالمجهول. وهذه القضايا مرتبطة أصلاً بقانون السببية؛ وهو في تسلسل دائم ومعقَّدٍ. لأنّ كلّ شئٍ في هذا الكون قائم بشيءٍ آخر، محتاج إليه. فالمحتاج إليه هو السبب؛ - وقد يسمّى علةً في اصطلاح الكلاميين - وأمّا المحتاج فهو المعلول.
وعلى هذا النسق والنظام تجري الأحداث وتتفاعل الأشياء بين تناقضٍ، وتناسبٍ، وتوالدٍ، وتكاثرٍ، وتناقصٍ؛ إلى غير ذلك من التقلّبِ والتغيُّر والتجدُّد والتقادُم والتطوُّر. وهي آيات في آياتٍ دالّةٍ على قدرة الخالق البارئ العظيم، وعجائب تجلّياته، وحسن إبداعه {صُنْعَ اللهِ الّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَئٍْ إِنَّهُ خَبيِرٌ بِمَا تَفْعَلوُنَ.} سورة النمل/88.
ولكنّ النقشبنديّين نراهم غير مقتنعين، لا بِسنُّةِ اللهِ الّتي أقامها سبحانه على أساس الْعِلِّيَّةِ، ولا بالنصوص القرآنية الّتي تُنْبِؤُنا بقانون السببية راجع الآيات الآتية:
* سورة يوسف/68
* سورة الكهف/65، 84، 85، 89، 92.
* سورة الأنبياء 8.(64/215)
* سورة العلق/5. في الحين الّذي تؤكّد على أن الغيب لله وحده. فانّ الأساطير الّتي حشدوها في طيّات كتبهم على سبيل الكرامة لشيوخهم ونسبةِ عِلْمِ الغيب إليهم، شاهدة على موقفهم المتناقض مع ما جاء في كتاب الله من انفراده تعالى وحده بعلم الغيب كقوله سبحانه {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلىَ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبيِ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاء.} سورة أل عمران/179. وقوله تعالى {قُلْ لاَ أَقوُلُ لَكَمْ عِنْديِ خَزَائِنُ اللهِ، وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلاَ أَقوُلُ لَكُمْ إِنّيِ مَلَكٌ؛ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوُحىَ إِلَيَّ.} سورة الأنعام/50. وقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ...} سورة الأنعام/59. وقوله تعالى{قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسيِ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شاء الله، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنيِ السوُءُ، إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذيِرٌ وَبَشيِرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنوَنَ.} سورة الأعراف/188. وقوله تعالى {وَيَقوُلوُنَ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ، فَقُلْ إِنَّماَ الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِروُا إِنّيِ مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِريِنَ.} سورة يونس/20. وقوله تعالى{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فيِ السمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللهُ، وَمَا يَشْعُروُنَ أَيَّانَ يُبْعَثوُنَ.} سورة النمل/65.
لابد وأنّ عددًا من أهل العلم والبحث يتساءلون في أنفسهم عن الحكمة المكنونة في الغيب؛ أي ما هو القصد الحقيقيُّ من وجود عَقَبَةِ الغيب أمام الإنسان تمنعه من العلم بواقعِ كثيرٍ من الأشياءِ والأحداث لا يكاد يتجاوزها، وهو في تساؤلٍ وقلقٍ وجهلٍ وحيرةٍ على كرّ العصور إلى هذا اليوم الّذي يتمتّع فيه باستخدام آلاتٍ وأجهزةٍ رهيبة السرعة في الاتصال والمواصلات؛ ولا يكاد يتمكّن من أن يزعزع هذه العقبة من مكانها بعدُ.(64/216)
لقد فات هؤلاءِ أن يلاحظوا برهةً قليلةً: لو كُشِفَ لهم ما سيلاقونه في مستقبلهم من جميع الأحداث، حلوِها ومرِّها على هيئة شريطٍ سينمائيٍّ. فما عسى كان أمرهم وهم يشاهدون فيها أنفسهم تتقلّب من نعيمٍ إلى عذابٍ وبالعكس! وما رأيُكَ فيما لو كان قد رُفِعَ الحجابُ عنكَ وأنت مراهق، فشاهدتَ يومئذٍ مسبقًا جميع ما سوف يمرّ بك في حياتِكَ من الوقائع حتّى آخر لحظةٍ أنتَ فيها؟!
هل تريد أن تختبر نفسك كما لو اطّلعتَ إلى مُستقبلك بتمامه، فعلمتَ بالتأكيد مثلاً أنّك بعد عشرين سنةً سوف تحتلّ منصبَ رئيس الدولة ثم لم تلبث تتعرض لمؤامرة اغتيالٍ فتذهب ضحيتها بعد أن تقضي أعوامًا في المعتقل، وأيّامًا تحت التعذيب؛ هل تتمكّن بعد العلم بهذا المستقبل الغريب الّذي ينتظرك، أن تملك شعورَك فتستمرّ في مسيرة حياتك بصورة عاديةٍ؟ فما بالك بالناس لو علم كلهم جميعًا بما سوف يلقونه من نعيم وعذاب، ومكاسب وخسارات، وسعادة وشقاءِ! ألا يقتضي ذلك أن يعيش كل فرد من بني البشر بعد العلم بمستقبله في ارتباك وخوف وذعر وفزع؟.. وهل يشهد بعد ذلك عالم البشر إلا الفوضى والجنون والخراب والدمار؟!
إنّ هذه الفرضيّات تقودنا إلى فهم شئٍ من الحكمة المكنونة من حقيقة الغيب. وذلك برهان عظيم على أنّ الغيب لله وحده دون غيره؛ كما هي حجّة دامغة على كلّ من اعتقد علم الغيب في أولياء الصوفيّةِ.
***
مفهوم التوَسُّلِ في معتَقَدِ النقشبنديّين وما ركّبوا عليه من أُمور.
التوسّل لغةً: هو أن يتمسّك الإنسان بشيءٍ يبتغي به الوصول إلى غايتهِ؛ فيكون ذلك الشيءُ هو الّذي يسمّى الوسيلة.
وفي اصطلاح علماء التوحيد والتفسير: هي القربةُ إلى الله. وهو الإيمان الصادق والعمل الصالح. هذا هو المراد من لفظ الوسيلة، كما أثبتنا ذلك بأدلّةٍ واضحةٍ في بابه. راجع الهوامش من رقم/ 104 إلى 115. من خلال تفسيرات منقولة لعدد من مشاهير العلماءِ.(64/217)
يمكن إضافة أضعاف هذه النماذج الّتي تبرهن على اتفاق العلماءِ على تفسير مفهوم الوسيلة والتوسّل في الآيتين المذكورتين كما تبرهن على حصر معنى الوسيلة في القربة والزلفىَ، وأنّ التوسّل منحصر في التقرّب إلى الله بالإيمان الصادق والعمل الصالح فحسب.
غير أنّ النقشبنديّين لا يقتنعون بهذه البراهين؛ لاستخفافهم بعلماءِ الإسلام وعلومهم. وتشهد على ذلك هفواتهم في احتقار العلماءِ؛ كقول محمّد بن سليمان البغداديّ:
»وهؤلاءِ العلماء الّذين تَرْكُ مُخَاَلَطَةِ بعضهم موجبٌ للفتح على القلب في طريق الله تعالى، هم المتفقّهة الّذين قدّمنا ذكرهم قبل ذكر الفقهاءِ. وهم موجودون في كلّ زمان من عصر الإمام الشافعيِّ، بل من قبله إلى يوم القيامة. خذلهم الله تعالى وأذلّهم، إنْ لم يكن لهم نصيب في الْهداية والتوبةِ.« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية ص/ 96، 97. (أعيد طبعه من قِبَلِ مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992.
هكذا يصبُّ جام غضبه على "المتفقّهة". يقصد بهم الّذين لا يوافقونهم، ويستثني طائفةً أخرى يسمّيها "الفقهاء" وهم المتواطؤن معهم على تأويلاتهم الشاذّةِ، وتحريفهم للمفاهيم القرآنية. لعلّ سببَ هذه العداوةِ، هو أنّ النقشبنديّين يجدون في تمسّك العلماءِ بالفقه الإسلاميِّ وبنصوص الكتاب والسنّة، عقبةً كبيرةً أمام محاولاتهم في العبث بِقِيَمِ الدين الحنيف ومفاهيمه. إذ لا يتناولون آيات الله ليتّبعوا ما تشابه منها، إلاّ اصطدموا بهذه العقبةِ كما مرّ في تفسير العلماءِ لكلمة "الوسيلة".(64/218)
يبدو أنّهم سوف يصرّون في عنادهم كسائر أتباع الفرق الباطنية، على الرغم من أنّهم سيلاقون معارضةً شديدةً من علماءِ الإسلام دائمًا ما داموا يتشبّثون بكلّ ما قد وضعها أسلافهم من أشكالٍ غريبة للتّعبُّد. مثل "الرابطة"، و"الختم الخواجكانيّةِ"، وممارسة "الأركان الأحد عشر" وغيرها من أوراد مزخرفةٍ، وأدعيةٍ منفوخةٍ مستحدثةٍ، وأذكارٍ مبتدَعَةٍ؛ يدندنون بها على غرار "المانترا mantra" في الديانات الهندية. بل وقد يتشبّثون بوسائل أخرى على هذا الأسلوب العناديِّ الّذي أبعد الكثيرَ من الناسِ عن ساحةِ الإسلام، كما شرعوا لأنفسهم التوسّلَ بالأمواتِ وقبورِهم، والتبَرُّكَ بها، فزعموا أنّهم لم يقصدوا بكلّ ما ذُكِرَ إلاّ وجهَ اللهِ. مع أنّ طلبَ وجهِ الله لا يجوز إلاّ باتباع ما قد رسمه الله ورسوله من أشكال السعى والعمل، دون غيرها من صُوَرِ التعبُّد والتنسُّك والرهبانية الّتي ابتدعها اليهود والنصارى والمجوس.
هذا وجدير بالإشارةِ إلى أنّ عموم الضلالة - خاصّة في المسائل الإعتقاديّة - ينشأ من التأويل أكثر من التعطيل. وهما من أسباب التحريف. وأثر الجهل فيهما أكثر بأضعاف من أثر القصد والتعمُّد. وأنّ الجاهلَ تابعٌ للمتعمّدِ وبطانتهِ وعملائهِ بالتقليد الأعمى عادةً. وما أكثر أبناء الجهل في كلّ أرض! بذلك يستفحل الأمر. لأنّ الدجاجلةَ يصطادونهم بكلّ سهولةٍ. فيتفاقم الشرّ بسبب انسحاب جماهير البسطاء من ورائهم؛ فيزدادون بهم قوّةً وجُرأةً.
ومن العواقب الوخيمة لجهل الإنسان، وتبعيّته بالتقليد الأعمى فيما يتعلّق بموقفه من الله. إنّه يشعر بضعفٍ بالغٍ أمام مخلوقٍ عَظَّمَهُ الناسُ حتّى جعلوا منه إلهًا؛ فيراه ملاذًا يلجا إليه لِيُنَفِّسَ عنه كربَهُ؛ وليجيره من عدوّه؛ وليفرَّ إليه كلّما استوحش، ويطلب منه الفرج كلما ضاق به الأمر ذرعًا، ويشكو إليه كلّما اشتدّ حزنهُ وآلامُهُ، ليتسلّى به نفسُهُ التعيسة المسكينة.(64/219)
وإنّما فشتْ بين الناس فتنةُ هذا الاعتقاد الفاسد بسبب ذلك الضعف الناشئِ من الجهل بحقيقة ما أنزل الله على سيدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - من آياتٍ عديدةٍ في المشركين كقوله تعالى { قُل أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُم عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، أَغَيْرَ اللهِ تَدْعوُنَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقيِنَ * بل إيَّاهُ تَدْعوُنَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعوُنَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكوُنَ.} سورة الأنعام/40، 41. وقوله تعالى {أَيُشْرِكوُنَ ماَ لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْْ يُخْلَقوُنَ * وَلاَ يَسْتَطيِعوُنَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُروُنَ.} سورة الأعراف/191، 192. وقوله تعالى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فيِ الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعوُنَ إِلاَّ إِيّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلىَ الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكَانَ الإِنْسَانُ كَفوُرًا.} سورة الإسراء/67. وقوله تعالى { يَا أَيّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعوُا له: إِنَّ الّذينَ تَدْعوُنَ مِنْ دوُنِ اللهِ لَنْ يَخْلُقوُا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعوُا له؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذوُهُ مِنْهُ؛ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلوُبُ.} سورة الحج/73. وقوله تعالى {وَالّذينَ تَدْعوُنَ مِنْ دوُنِهِ مَا يَمْلِكوُنَ مِنْ قِطْميِرٍ * إِنْ تَدْعوُهُمْ لاَ يَسْمَعوُنَ دُعَائَكُمْ، وَلَوْ سَمِعوُا مَا اسْتَجَابوُا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُروُنَ بِشِرْكِكُمْ، وَلاَ يُنَبِّؤُكَ مِثْلُ خَبيِرٍ.} سورة الفاطر/14.(64/220)
يدافع النقشبنديّون عن أنفسهم بشدّةٍ عند ما تُتلى هذه الآيات على مسامعهم، فيثورون غضبًا واستنكارًا بأنّها نزلت في المشركين. نعم، ولكن ألا يعلمون أنّه لا يَدْعوُ أحدًا مِنْ دون الله إلاّ مشرك؟! أفلا يكونون قد شهدوا على أنفسهم بهذا الذنب العظيم؛ إذ يصدّقون من تعمّد الكذبَ على لسان النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فزعم أنّه قال »إذا تحيّرتم في الأمور، فاستعينوا بأهل القبور.«
وردت هذه الكلمات في كتابٍ ألّفه محمّد زاهد كوتكو، شيخ جماعةٍ من النقشبنديّين في إسطنبول. M. Zahid Kotku, Tasavvufi Ahlak 2/277.Seha Pub. Ist-1982. فما دامت هذه الطائفة تعتقد أنّ شيخ الطريقة وكيل عن الله، كما ورد ذلك في تفسير "روح الفرقان" لجماعةٍ أخرى منهم؛ روح الفرقان، بقلم جماعةٍ عددُهُمْ ستة أشخاص من النقشبنديّين الأتراك ص/ 2/74. دار سراج إسطنبول ـ 1992م. ما دام هذا اعتقادهم في شيوخهم، وأنَّ جميعَ شيوخهم أولياء الله وخاصّتُهُ - رجمًا بالغيب - إذن فلا مانع عندهم من أن يطلب المريدُ قضاءَ حاجتهِ، ومغفرةَ ذنوبِهِ من شيخه فضلاً عن أن يتوسّلَ به إلى الله في كلّ سؤاله.(64/221)
أمّا موقف بعضهم في الدفاع عن النقشبنديّة في هذا المعتقد كما نقل يوسف بن إسماعيل النبهانيّ راجع ترجمته في الأعلام، خير الدين زركلي 8/218. دار العلم للملايين طبعة 11. بيروت-1995م. عن شيخ آخر على شاكلته »أنّه يجوز التوسّل بأهل الخير والصلاح« يوسف بن إسماعيل النبهاني، شواهد الحق ص/ 142. (الرسالة الثانية من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") مكتبة إيشك طباعات متكررة. إسطنبول. فإنما هو محاولة يمهِّدُ بها السبيل ليقول في النهايةِ »ولا يظنّ عامّيٌّ من العوامِّ فضلاً عن الخواصّ، أنَّ نحو سيّدي أحمد البدوي يُحْدِثُ شيئًا في الكون، وإنّما يرون أنّ رتبتهم تقصر عن السؤال من الله تعالى فيتوسّلون بمن ذكر تبرُّكًا بهم كما لا يخفى.« المصدر السابق/142
هكذا يقولون. لأنّ كلاًّ من أحمد البدوي وأمثاله من الشيوخ مستجاب الدعوةِ عندهم؛ لايشكّ في ذلك أحد منهم؛ ولأنّ كلَّ مَنْ اشتهر بينهم بالولاية - مهما كانت طريقة هذا الاشتهار - حتّى ولو بوساطة المافيا، أو باستغلال رجال السياسة والتجارة - لابد وأنّ الله يستجيب دعوته في اعتقادهم.
أمّا إذا قيل لهم: - أنّ الفلان الّذي تعدّونه من أولياء الله، وتعظّمونه، وتتوسّلون بجاهه، فما دليلكم على صحّة اعتقادكم هذا فيه، وكيف تعلمون أنّ الله لا يردّ دعوته؟ فيكون ردّهم عنيفًا وبلهجة مَنْ رَكِبَ رأسه؛ كقول الخليليِّ:
»ولا يُنكر ذلك إلاّ من ابتلى بالحرمان، أو سوء العقيدة نعوذ بالله!« المصدر السابق 142.
هذا هو المنطق الصوفيّ والمنهج النقشبنديّ عند كلّ موقفٍ. ومن هذا المُنْطَلَقِ فقد خاضَ أديبهم يوسف بن إسماعيل النبهانيّ مثار الدفاع عن التوسّل الفاسد والاستغاثة والتبرّك بالمخلوق حيًّا وميّتًا، وذلك بكتابَيْهِ: شواهد الحق، وجامع كرامات الأولياء. فحشد فيهما ما زيّنت له نفسه من الغثّ والسمين حتّى اشتهر بالشعوذة والتنطّع وإثارة الخرافات.
***(64/222)
الفصل الرابع
حقيقة ما تُسمّيهِ النقشبنديّة »سلسلة خواجكان«، وأسماءُ الّذين هم بمنزلة حلقاتها المقدّسة في اعتقاد هذه الطائفة.
* مزعمة "سلسلة السادات".
* الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة".
* شخصياتهم، ومستوياتهم العلمية والاجتماعية، وترجمة أحوالهم بالتفصيل.
ـــــــــــــــــــــــــ
1.أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه..................................................................................................................
2.سلمان الفارسي رضي الله عنه..................................................................................................................
3.قاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم.....................................................................
4.جعفر الصادق بن محمّد الباقر رضي الله عنهما...............................................................................
5.أبو يزيد البسطاميّ..........................................................................................................................................
6.أبو الحسن الخرقانيّ....................................................................................................................................
7.أبو علي الفارمديّ...........................................................................................................................................
8.أبو يعقوب يوسف الهمدانيّ.........................................................................................................................(64/223)
9.عبد الخالق الغجدوانيّ....................................................................................................................................
10.عارف الريوكريّ.........................................................................................................................................
11.محمود الإنجيرفغنويّ.....................................................................................................................................
12.علي الرامتنيّ............................................................................................................................................
13.محمّد بابا السماسيّ.....................................................................................................................................
14.أمير كلال بن حمزة.......................................................................................................................................
15. محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف بـ "شاه نقشبند".............................................................
16. محمّد علاء الدين العطّار.........................................................................................................................
17. يعقوب الجرخيّ...........................................................................................................................................
18. ناصر الدين عبيد الله الأحرار...............................................................................................................(64/224)
19. محمّد زاهد البدخشيّ...............................................................................................................................
20. درويش محمّد السمرقنديّ......................................................................................................................
21. محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ..................................................................................................................
22. محمّد باقي بالله الكابُليّ.............................................................................................................................
23. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بـ "الإمام الربّانيّ"........................................................
24. محمّد معصوم الفاروقيّ.............................................................................................................................
25. محمّد سيف الدين الفاروقيّ...................................................................................................................
26. نور محمّد البدوانيّ.....................................................................................................................................
27. شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان..........................................................................
28. غلام علي عبد الله الدهلويّ.................................................................................................................
29. خالد البغداديّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "ذي الجناحين"............................................(64/225)
خالد البغداديّ ومعارضوه.........................................................................................................................
خلفاء البغداديّ وأسلوب تعامله معهم...............................................................................................
الفصل الرابع
حقيقة ما تسمّيه النقشبنديّة "سلسلة خواجكان" وأسماء رجالها
مزعمة "سلسلة السادات"؛
الروحانيّون في هذه الطريقة؛ أسماؤهم، وشخصيّاتهم، ومستوياتهم العلمية والإجتماعية.
ـــــــــــــــــ
حقيقة ما تسمّيه النقشبنديّة "سلسلة خواجكان"، أو"السلسلة الذهبية"
يزعم النقشبنديّون أنّ جميعَ معتقداتِهم وأساليبَ تعبّدِهم مأثورةٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه والسلف الصالح عليهم الرضوان. كما يدّعي ذلك محمّد أمين الكرديّ الأربليّ - أحدُ رؤوسِ هذهِ الطائفةِ - فيقول »إنّ طريقة السادة النقشبنديّة هو معتقد أهل السنّة والجماعة. وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم على أصلها، لم يزيدوا فيها، ولم ينقصوا منها.« تجد نفس العبارة في المصادر التالية:
* خالد البغدادي، رسالة في تحقيق الرابطة، ص/13 (راجع: عباس العزّاوي، مولانا خالد النقشبندي، مجلّة المجمع العلمي الكرديّ، ص/708)
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، المواهب السرمدية ص/ 3.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/3 .
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ .3 .(64/226)
هكذا يقولون ليتذرّعوا بهذا الإدّعاء أنّ شيوخهم إنّما تلقّوا هذه الأصناف الدخيلة من المعتقدات والأشكال الغريبة من الطقوس والعبادات؛ إنّما تلقوها بعضًا عن بعض، وطبقةً عن طبقةٍ، متسلسلاً بالتصاعد إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام (على زعمهم) هو الّذي لقّن الطريقة أبا بكر رضي الله عنه لأوّل مرّةٍ! ثمّ تسلسلت منه بالتدريج - كما سننقل من مصادرهم - حتّى وصلت إلى شيخهم الّذي يلازمونه في الوقت الحاضر.
إنّ هذه الدعوى الّتي لا حقيقة لها في ميزان العلم ولا في ميزان الإسلام، يعتقدها كلُّ موُلِعٍ بتعاليم هذه الطريقة اعتقادًا أكيدًا. وكثير منهم يحفظون أسماء كبرائهم بالتسلسل المذكور في مصادر هذه الطائفة، ويسمّونها بـ "سلسلة السادات"؛ وكذلك بـ "السلسلة الذهبية".
***
مزعمة "سلسلة السادات"
يقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، »سمعتُ أسماء سادات سلسلة الطريقة الجليلة؛ جعلتُ أتشوّقُ للوقوف على تراجم أحوالهم المقدّسة مدّةً غيرَ قليلةٍ. وإذ لم أرها مجتمعةً باللّغة العربيةِ في كتاب واحد. لأنّ أكثرهم من بلاد الفرس والهند وتلك المعاهد. عزمْتُ وأنا للعزم بِأَلِفٍ، سنة ثلاث وثلاثمائة وألفٍ. على أن أجمعَ أحوالَ مَنْ ترجموه؛ وأخدمَ بالترجمة مَنْ لم يخدموه، بادئًا بالمبدأ الفياض، وخاتمًا بسيّدي الوالد.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 2.
إنّ من يُلقيِ نظرةً على هذه العبارات، لا يخفى عليه ما قد اعترف صاحبُها، وما أقرّ وشهد على نفسه بالذات وبلسانه وقلمه، حتّى قال أنّه سمع »أسماء ساداته ولم يرها مجتمعةً باللّغة العربية في كتابٍ واحد، لأنّ أكثرهم من بلاد الفرس والهند«. علمًا بأنّ هذا الرجل من أكبر شيوخ النقشبنديّة في أيّامه الّتي عاشها ما بين 1847-1900م. من الميلاد. وهذا مع أنّه من أسرةٍ نقشبنديةٍ شهيرةٍ في بلاد الشام.(64/227)
ألا يبرهنُ هذا الاعترافُ الرهيبُ من رجلٍ بارزٍ بين أساطين هذه النحلة، على »أنّ هذه الأسماء مازالت غريبةً عليه - وعلى النقشبنديّين بأسرهم فضلا عن جمهور المسلمين-؛ وغيرَ مجتمعةٍ باللّغة العربية في كتابٍ واحدٍ«؟! إذًا فكيف بهذه العُصْبَةِ من الصوفيّة المجهولين الخاملين أن يكونوا قد لبسوا الخرقة، وأخذوا العهد خلفًا عن سلف؛ وما عسى دليل النقشبنديّين بعد هذا الاعتراف الصريح أن يكون هؤلاءِ قد نقلوا تلك المعتقدات الدخيلة، والمبادئ والآداب المختلَقَة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَبْرَ هذه السلسلة المزعومة؟! ثم كيف بهؤلاء الدراويش المساكين أن يكونوا بمنزلة أولئك العلماء من سائر الطبقات؛ من المحدّثين والفقهاء والمفسّرين واللغويين والأطباء والرياضيين والأدباء والحكماء الّذين شاع صيتهم، وبلغت الآفاقَ شهرتُهم، بما كتبوا وصنفوا وألّفوا ودرسوا وارشدوا حتّى امتلأت مكتبات العالم بآثارهم القيّمةِ، وانتشرت معارفهم في أرجاء المعمورة، كما تبرهن على هذه الحقيقة ما نشهده اليوم من تطوّراتٍ هائلةٍ في حضارة العصر الحاضر الّتي هي من امتداد علومهم وتأثير جهودهم. وعكوسٍ لامعةٍ من أشعّةِ ذكائهم ودهائهم. فأين أولئك الّذين يتشوّف الخانيّ »للوقوف على تراجم أحوالهم المقدّسة«! أين بهم من هؤلاء الفحول، ومن الأئمة المجتهدين أعاظم الأمّة؟ وما عساها قد عملت تلك الشرذمة العاطلة من صوفية الفرس والهند لأجل أمة الإسلام ومستقبلها ياترى؟!(64/228)
سوف نطّلع إن شاء الله على قائمة أسماء هؤلاء الشيوخ الّذين تُعظّمهم النقشبنديّة، وتَعُدُّهُمْ من الّذين اصطفاهم الله على العالمين حتّى »استطاع بعضهم أن يتّصل بأرواح البعض الآخر في عالم اللاّهوت، ويتلقىَّ منه العلوم والأوامر« (على حدِّ قولهم)؛ فينصبَ نفسَهُ شيخًا على النقشبنديّة. سوف نطّلع على أسمائهم وصفاتهم وشخصيّاتهم وصراعهم مع منافسيهم، ونصيبهم من العلم والهداية؛ كما سوف نطّلع على تصرّفات كلٍّ منهم في هذه الطريقة، وذلك في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.
يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ، »ينبغي للمريدين أن يعرفوا نسبةَ شيخِهم ورجالَ السلسلةِ كلّها من مرشدهم إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. لأنّهم إذا أرادوا أن يطلبوا المدد من روحانيتهم، وكان انتسابهم إليهم صحيحًا حصل لهم المدد من روحانيتهم. فمن لم تتّصل سلسلتُهُ إلى الحضرة النبوية، فإنّه مقطوع الفيض، ولم يكن وارثًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 500. طبعة مصر-1384هـ.
كان هذا هو نموذجًا آخر للمنطق الصوفيّ النقشبنديّ الغريب الّذي لا يحتاج إلى أيِّ تعليق، والّذي تبدو من خلاله نظرتهم إلى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقسطاسهم في تحديد الوراثة له.
أمّا أسماء رجال هذه السلسلة المزعومة، فقد ذكرها عبد المجيد بن محمّد الخانيّ على سبيل الإجمال فقال:(64/229)
»وهي السلسلة المتّصلة من أبي الأرواح الأكبر، الرؤوف الرحيم الأبرّ، سيّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى حضرة الصديق الأعظم؛ إلى سيّدنا سلمان الفارسيِّ؛ إلى سيّدنا القاسم حفيد أبي بكر الصدّيق؛ إلى سيّدنا جعفر الصادق؛ إلى سيّدنا أبي يزيد البسطاميّ؛ إلى سيّدنا أبي الحسن الخرقانيّ؛ إلى سيّدنا أبي علي الفارمديّ؛ إلى سيّدنا يوسف الهمدانيّ؛ إلى سيّدنا عبد الخالق الغجدوانيّ؛ إلى سيّدنا عارف الريوكريّ؛ إلى سيّدنا محمود الإنجيرفغنويّ؛ إلى سيّدنا عليّ الرامتنيّ؛ إلى سيّدنا المير كلال؛ إلى سيّدنا محمّد بابا سماسيّ؛ إنّ هذا الترتيب فيه خطأ بسيط. وهو أنّ محمدا البابا السماسيّ، يجب ذكره قبل المير كلال. ويغلب أن هذا الخطأ جاء في الطباعة وليس من المؤلّف. إلى سيّدنا محمّد بهاء الدين ـ الشاه النقشبند؛ إلى سيّدنا علاء الدين العطار؛ إلى سيّدنا يعقوب الجرخيّ؛ إلى سيّدنا عبيد الله الأحرار؛ إلى سيّدنا محمّد الزاهد؛ إلى سيّدنا الدرويش محمّد؛ إلى سيّدنا الخواجكيّ محمّد الأمكنكيّ؛ إلى سيّدنا محمّد الباقي بالله؛ إلى سيّدنا أحمد الفاروقيّ السرهنديّ؛ إلى سيّدنا محمّد المعصوم؛ إلى سيّدنا سيف الدين؛ إلى سيّدنا نور محمّد البدوانيّ؛ إلى سيّدنا حبيب الله مظهر؛ إلى سيّدنا عبد الله الدهلويّ؛ إلى سيّدنا خالد العثمانيّ؛ إلى سيّدنا الجد محمّد الخانيّ؛ إلى سيّدنا الوالد محمّد الخانيّ«. هذه السلسلة واردة في عدد من كتب الفرقة الخالدية من النقشبنديّين. نقلناها مما عثرنا عليها من تلك الكتب؛ وهذه أسماؤها، مع أرقام الصحف الّتي وردت فيها "السلسلة":
* خالد البغداديّ، ديوان شعره؛ الأبيات: 703-707؛ 1153-1205.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 7-9.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 6.(64/230)
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة ص/ 3-6.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 500.-502.
* زاهد الكوثريّ، إرغام المريد (بتمامه). هذه الرساله، منضمّةٌ إلى كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ في مجلّد واحد؛ تمّ استنساخهما وطبعهما بين دفتين من قِبَلِ مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992م.
أمّا زَعْمُ النقشبنديّين بأنّ طريقتَهم هكذا تسلسلتْ إليهم من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر شيوخهم في كلّ عصر، فانّه كلام باطل لا يُعتدّ به، ولا يستحقّ النظر فيه. فقد وردت على لسان بعض شيوخهم بالذات كلماتٌ شبه اعتراف بهذه المزعمة. ألا وهو الشيخ قسيم الكُفْرَويّ، الّذي احتلّ مكانًا مرموقًا بين جموعٍ كبيرةٍ من النقشبنديّين، ونال شهرةً واسعةً، وقضى حياته في دراساتٍ وبحوثٍ علميّةٍ بجانب ما حَظِيَ من المكانة بين رجالات السياسة والثقافة طوال خمسين عاماً في تركيا.
يقول الكُفْرَويّ في رسالته الّتي حصل بها على شهادة الدكتوراه عام 1949م. بجامعة إسطنبول، يقول، » إنّ أقدمَ الأسانيدِ للسّلسلةِ بين الصوفيّة، هو إسنادُ جعفر الخلدي.« هذا نصّ مقاله باللّغة التركية على حسب ما نقله من محمّد بن إسحاق بن محمّد بن إسحاق النديم، الفهرست ص/ 183.
Sufiler aras?nda g?rülen en eski isnad (silsile) Cafer el-Huldî (?l.348)’nin isnad?d?r.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???. Postscript.
?stanbul-1949Türkiyat Enstitüsü No. 337. ذلك يعني أنّ سلسلتهم منقطعة الأسانيد قبله. هذا، إذا كان الغرض من إسناد الخلديِّ هو السلسلةَ النقشبنديّة خاصّة بغضّ النظر عن سلاسل بقية الطرق الصوفيّةِ. وقد يكون الغرض عامًّا. فيتّفق إذًا جميعهم على هذه المزعمةِ.(64/231)
وعلى الرغم من هذا الاعتراف، فانّه لا يستقيم مع الواقع التاريخيِّ. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة لم تكن قد تكوّنتْ بعدُ في أيّام جعفر الخلديِّ. وذلك أيضًا بإقرارٍ صريحٍ من قسيم الكُفْرَويّ نفسِهِ إذ يقول:
»بما أنّ تاريخَ التأسيس للطريقة النقشبنديّة قد تمّ إثباتُهُ بالاعتماد على المصادر الموجودةِ، أنها قد تكوّنت في عهد الغزنويّين؛ الدولة الغزنوية أسّسها محمود بن سبوك تكين (970-1030م.). كان جريئًا ناجحًا في سياسته. بايع الخليفة العبّاسيَّ القادر بالله، فأقرّه على ملكه. انتصر على ملوك الهند (986م.)؛ ثم على ملك الدولة السامانية؛ فوسّع نطاق بلاده. اهتمّ بحماية السنّية التقليدية في مواجهة نشاطات الشيعة؛ فأتاحت الفرصة بذلك لتطوّر الحركات الصوفيّة الّتي هي الجانب الروحيّ للسّنّية التقليديّةِ. وطغت اللّغة الفارسيّة في عهده على اللّغة التركية حتّى تدهورت هذه الثانية، على الرغم من أنّ محمودًا الغزنويَّ كان تركيّ الأصلِ. راجع ترجمته في المصادر الآتي ذكرها:
* موسوعة ميدان لاروس التركية (مادة محمود غزنلى) 8/242.
* محمود شاكر، التاريخ الإسلامي 6/190.؛ ترجمة فريد الدين آيدن 5/154. فقد ثبت أنّ الطريقة إنّما اكتسبتْ طابِعَها الحقيقيَّ منذ حكم هذه السلالة. ولذا أصبحتْ التطوّرات الّتي مرّتْ بها الطريقة منذ البداية حتّى عهد يوسف الهمدانيّ هي الموضوع الأساسيُّ للدراسة.« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???. (?ntroduction)...................................................................................
Türkiyat Enstitüsü No. 337. ?stanbul-19449
هكذا انقشع الظلام عن أسرارهم بإقرارهم واعترافهم على لسان شخصيةٍ من أعلم رجالاتهم المشهورين في العصر الحاضر، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
***
الروحانيّون.(64/232)
الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة"؛ شخصيّاتُهم، ومستوياتُهم العلميةُ والاجتماعيةُ، ومعتقَداتُهم، واتجاهاتُهم، وترجمةُ أحوالِهم بالتفصيل.
إنّ من أصول الطريقة النقشبنديّة، أخذُ العهد على المريد؛ أى إدخالُه في سلك هذه المنظمة الصوفيّة. وهو من أكبر مهامّ شيخ الطريقة في كلّ بقعةٍ ينشرون فيها دعوتَهم منذ أن شرعوا هذا المبدأ لمذهبهم. وعلى هذا الأساس يدّعي كلُّ مَنْ تصدّى لمشيخة هذه الطريقة أنّه أخذ الإجازة والرخصة للقيام بهذه المهمّةِ كما يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ:
»قد تشرّفتُ بأخذ العهد والإجازة بالتوجّه ثم بالإرشاد وتلقين الذكر بعد السلوك أعوامًا في الطريقة النقشبنديّة عن القطب الأرشد والغوث الأمجد شيخنا وأستاذنا الشيخ عمر... إلخ«؛ ويعدّد أسماء رجال السلسلة الّذين ذكرناهم أنفاً؛ يعدّدهم واحدًا بعد واحدٍ بالتصعيد على غرار سلسلة الرواة عند المحدّثين، حتّى ينتهي إلى اسم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فيقول، »وهو عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/501-502؛ كذا محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 7-9. «
يظهر اعتقادهم من خلال هذه الصيغة بصورة واضحة، أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام، هو الّذي بنى أساس طريقتهم، ونفخ سرّها في روع أبي بكر {إِذْ هُمَا فيِ الْغَارِ، إِذْ يَقوُلُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} سورة التوبة/40. كما يؤكّد ما جاء في الحدائق الورديّة لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ، أنّهم على هذا المعتقد من غير شك. إذ يقول الخانيّ:(64/233)
»ثم سرى هذا السر، وتحوّل من إمام الأمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خليفته الأوّل، ومَنْ عليه في الدين والدنيا المعوَّل، سيّد سادات الطريقة الإمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 88.
لابد وأن نتساءل هنا: أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، ما دام هو الّذي قد بنى أساس الطريقة النقشبنديّة، ووضع اللّبنة الأولى لتكوينها - على حدّ زعمهم واعتقادهم - فهل ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قد نطق حتّى بكلمة التصوّف ولو مرةً واحدةً في حياته الشريفةِ، بغضّ النظر عن أن يكون قد تحدّثَ عمّا ابتدعتْهُ الصوفيّةُ عامةً والنقشبنديّة خاصّة من رموزٍ ومصطلحاتٍ ومبادئَ وآدابٍ وأذكارٍ ومفاهيمَ، حشوا بها بطونَ ركامٍ من الكتب! وهل شهد شاهدٌ من أهل العلم والثقة والإيمان والأخلاق والإخلاص، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تكلّم عن الطريقة النقشبنديّة أو عن أدنى شئٍ من أصولها وآدابها؛ كالرابطة، والختم الخواجكانيّةِ، وعدّ الأوراد بالحصى، والجلوس عكس التورّك في الصلاة، والاستمداد من روحانية الموتى، والتبرك بقبورهم؛ وهل ورد شئٌ من مصطلحاتهم الفارسيّة ولو في حديث واحد من تلك الأحاديث الموضوعة المكذوبة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن الصحاح؟!
إذًا فما حجّة النقشبنديّين فيما يدّعون – بدون تأمّل -: أنّ سرَّ طريقتهم قد انتقل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خليفته أبي بكر الصديق؟ ولماذا يجعلون أبا بكر هو الحلقة الأولى من سلسلتهم، فيحتاطون أن يبدأوا بالنبيّ عليه السلام؟ أم يحذرون من أن ينزلوا به منزلة صوفيٍّ خاملٍ متزمّت!(64/234)
حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوصَفَ بما ينافي جلالةَ قدرهِ؛ بل »كان خلقه القرآن.« عن عائشة رضي الله عنها، رواه مسلم. رقم الحديث/1233. وقد خاطبه الله تعالى بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظيِمٍ.} سورة القلم/4. وكتاب الله بين أيدينا؛ وهو العروة الوثقى، والحبل المتين، والبرهان المؤيّد، والشاهد المجسّد الّذي يخبرنا من خلال إعجازه وتصويره وإيجازه وتفصيله وعكوسه النورانيِّ على مدى كرامة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وشرفه العظيم ومهمّته العالية، ورسالته الخالدة، وقلبه الطاهر وسلوكه الربّانيّ الرفيع، وشخصيته الفذة الّتي ملأت العالمين بأخبارٍ وآثارٍ وأنوارٍ وأطوارٍ لا تسعها كتب الصوفيّةِ؛ ولا تدنو من ساحل بحره المحيط عقولهم. {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيِلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدىَ.} سورة النجم/30.
فهو - عليه أفضل صلوات الله وأتمّ تسليماته - في الحقيقة برئٌ كلّ البراءة من أنه نفخ سرَّ الطريقة النقشبنديّة في روع أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. ولا يكاد يصدّق هذه المقولة أحد اطّلع على شئٍ من سيرته الطيبةِ وعرف مضمونَ النبوة ومفهومَ الرسالة؛ خاصّة فانّ سيّدنا محمّدًا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل النوع البشريِّ وأعظمه وأكرمه؛ اصطفاه الله لحمل آخر رسالاته فقال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلىَ شَريِعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الّذينَ لاَ يَعْلَموُنَ.} سورة الجاثية/18. فهو - لا شك - أجلُّ من أن يفهمه الطائشون المفتتنون بعقائد الهنود، المتربصون في كلّ مُعترك بذريعة الانتساب إليه.
***
سلسلة أسماء الّذين يزعم النقشبنديّون أنّ طريقتهم انحدرت بوساطتهم.
* الحلقة الأولى من هذه السلسلة:(64/235)
يتشبّث النقشبنديّون بأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، على أنّه هو الحلقة الأولى من سلسلة رجالهم؛ ويزعمون » أنّ أَلْقَابَ السلسلة تختلف باختلاف القرون« راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 12. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 21. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 8. وأنّ طريقتَهم كانت تسمّى "الطريقة الصديقية" في مرحلتها الأولى، بدايةً من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى عهد أبي يزيد البسطاميّ. وهو الحلقة الخامسة من هذه السلسلة عندهم.(64/236)
أمّا هذه التسمية، لا شك من أنّها وضعٌ محضٌ؛ لا برهان لهم في إسنادها إلى أبي بكر الصدّيق. ولا في نسبتها إليه قيمةٌ علميةٌ أو دينيةٌ. لأنّ التصوّف لم يكن له أيّ أثرٍ في حياة الصحابةِ رضوان الله عليهم أجمعين. وإنّما كانوا في سلوكهم وتعبُّدهم، وسعيهم ومعاشهم في جميع مجالات الحياة يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ويسيرون على هديه لا محالة. وكانوا كما وصفهم الله في آخر سورة الفتح بقوله تعالى {وَالّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلىَ الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجَّدًا، يَبْتَغوُنَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً، سيِمَاهُمْ فيِ وُجوُهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السجوُدِ.} سورة الفتح/29. ويقول سبحانه فيهم أيضًا {فَالّذينَ آمَنوُا بِهِ وَعَزَّروُهُ وَنَصَروُهُ وَاتَّبَعوُا النوُرَ الّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أوُلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحوُنَ.} سورة الأعراف/157. ويقول تعالى فيهم أيضًا {وَالّذينَ تَبَوّؤوُا الدارَ وَالإيِمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبّوُنَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدوُنَ فيِ صُدوُرِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتوُا، وَيُؤْثِروُنَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.} سورة الحشر/9. كانت حياتهم الروحيّة محدّدةً بضوابط الوحي وإرشادات الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم يكن من شأنِ أحدِهم أن يزيدَ في دين الله شيئًا، أو يُلغِيَ منه شيئًا أصلا. فقد مُثِّلَ التزامهم التامُّ في بيتٍ من تلك القصيدة المشهورة الّتي تَغَنَّى بها أهلُ المدينة يوم طَلَعَ الْبَدْرُ عليهم من ثنيّات الوداع. وهذا قولهم:
وَتَعَاهَدْنَا جَمِيعًا يَوْمَ أَقْسَمْنَا الْيَمِين،
لَنْ نَخُونَ الْعَهْدَ يَوْمًا وَاتَّخَذْنَا الصدْقَ دِين.(64/237)
ومن الحجج الدامغة على النقشبنديّين، عجزُهم عن إقامة أدنى دليلٍ على أنّ أبا بكر الصدّيق قد نطق بكلمة "التصوّف" ولو مرةً واحدةً على مدى حياته؛ فضلاً عما إذا كان له علم بالنقشبنديّة وعقائدها وتعاليمها وطقوسها.
أمّا حياة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنها غنيّةٌ عن الشرح لكثرة ما في بطون الكتب من سيرته الطيّبة الحسنة، وشهرته الواسعة بزهده وتقواه وبطولاته الخالدةِ وشجاعته وافتدائه في سبيل الله، وعقله الراجح في السياسة والتعامل. وهو من السابقين الأوّلين في الإسلام. صَحِبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقٍ وأمانةٍ في جميع المواقف، وآزره ونصره وذاقَ ألوانًا من العذاب على ذلك، وشهد معه المشاهد كلَّها، وثبت في صفوف القتال بجانبه، واحتلَّ مقامَه في القيادة والرياسة للأمة بعد وفاته. هذا هو أبو بكر الصدّيق الصحابيُّ الجليل رضي الله تعالى عنه.
فإنّه برئٌ من أن يتصوّره الإنسان على هيئة صوفِيٍّ جامدٍ صامتٍ مُطَأْطِئٍ ومقبّعٍ على نفسه. بل إنّه بصفته رئيس الدولة الإسلامية بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كان في حركةٍ دائبةٍ ونشاطٍ مستمرٍّ. حملَتْهُ مهمَّتُهُ العاليةُ ومسؤوليّتُهُ العظيمةُ أن يخوضَ مثار الأحداث، وأن يكون على أُهْبَةِ الاستقبال لأيِّ تطوُّرٍ قد يحدث. لذا فهو بعيد كلّ البعد عما يتصوّره النقشبنديّون من الشخصية الصوفيّة فيه. في الحقيقة ليس بينه وبين تلك الشخصية المختلَقَةِ وجه من المشابهة؛ ولا وجود لصلةٍ تربط بينه وبين النقشبنديّين؛ ولا يتعدّى زعمُ شيوخِ هذه الطائفةِ في نسبتهم إليه عن زعم الرافضة في نسبتهم إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله تعالى وجهه. ومثلهم في هذا الإنتماء المزعوم كمثل الوهّابيّين في انتمائهم إلى الأمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه وإلى العلاّمةِ ابن تيمية الحرانيِّ عليه الرحمة والرضوان، وهم في الحقيقةِ أبعد الناس عنها((64/238)
* الحلقة الثانية من سلسلتهم.
يَعُدُّ النقشبنديّون سلمانَ الفارسيَّ رضي الله عنه هو الحلقةَ الثانيةَ من سلسلة ساداتهم. وهذه من ميّزات الفرق الباطنية. فكلّ فرقةٍ منها إمّا تدّعي النسبةَ إلى شخصيةٍ بارزةٍ من الصحابة، أو إلى آل بيت النبيّ الطاهرين، لتخفي بهذه النسبةِ الزائفةِ حقيقتها ومكائدها.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في الحدائق الوردية »ثمّ تلقّى سرّ هذه النسبة الشريفة منه (أي من أبي بكر الصدّيق ) سيّدنا سلمان الفارسيّ رضي الله عنه.«(64/239)
استرسل الخانيّ في قصّة حياته العجيبة وما كان عليه قبل الإسلام وكيف اعتنق المسيحية بعد أن كان مجوسيًّا في شبابه. وذكر ما ذكر من أيام إقامته عند عددٍ من القساوسة في الشام والموصل ونصيبين والعمّورية؛ ثم قصَّ إسلامَه وبقيةَ حياته في الإسلام بالتفصيل؛ نقلا من رواية أبي الفرج »بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 94. حتّى إذا أقترب من نهاية كلامه قال »ثم توفّي رضي الله عنه، وذلك سنة ستٍّ وثلاثين، أو أربعٍ وثلاثين في داء البطن في المدائن في خلافة عثمان رضي الله عنه؛ وعمره مائتان أو ثلاثمائة وخمسون سنةً. أمّا الأوّل، فعليه عند المؤرّخين المعوّل.« المصدر السابق/96. ولم يذكر لنا أسماء هؤلاء المؤرّخين. ولا شك في أنّ هذا القول لا يستقيم، إذ فيه مبالغة يستغربها أهل العلم والخبرة، كما نستغرب نحن : أنّ الخانيّ لم يذكر شيئًا حول تلقّي هذا السر الّذي سرى إلى سلمان الفارسيّ من أبي بكر الصدّيق، وكيف أصبح نقشبنديًّا أو صوفيًّا؛ بعد أن كان صحابيًّا جليلاً، وربما لم يسمع في كلّ حياته الطويلة من أحدٍ نَطَقَ بكلمة التصوّف، فضلاً عن النقشبنديّة ومصطلحاتها الفارسيّة على الرغم من أنه كان فارسيَّ الأصل! وهل كان يتعبّد على أساس الرابطة، والختم الخواجكانية، وعدِّ الأوراد بالحصى؛ وهل كان يعلم شيئًا حول عقيدة الفناء والبقاء والأويسية وما إلى ذلك من تعاليم النقشبنديّة وفلسفتها وطقوسها...
يتبيّن من هذا أيضًا، أنّ نسبة سلمان الفارسيِّ إلى هذه السلسلة باطلة؛ لا برهان لهم في إثباتها بصورة قطعية.
* الحلقة الثالثة من سلسلتهم.(64/240)
ورد في عددٍ من كتابات النقشبنديّين أنّ القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق، هو الحلقة الثالثة من سلسلة ساداتهم. ويعتقدون »أنّه تلقّى سرّ هذه النسبة« من سلمان الفارسيِّ. وهذا يعني بتعبيرٍ آخر: أنّ القاسم رضي الله عنه يُعَدّ من الصوفيّة. بينما تشهد الوثائق أنه كان فقيهًا جليلاً من أولئك السبعة المشهورين بالعلم والفضل. الفقهاء السبعة المشهورون بين سادات التابعين هم: القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق؛ وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري؛ وسعيد بن المسيّب؛ وعروة بن الزبير؛ وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود (وعتبة هو أخو عبد الله بن مسعود الصحابي)؛ وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ( والحرث بن هشام، أخو أبي جهل. هو صحابي أيضًا)؛ وسليمان بن يسار.ولم يتمكّن النقشبنديّون من الاستناد إلى أيّ دليل على أنْ يكون القاسم قد انخرط في صفوف منظّمةٍ باطنيّةٍ سرّيةٍ، كما لم تكن الطريقة النقشبنديّة قد خرجت في عهده إلى حَيِّزِ الوجود بعدُ. ولا نجد في كتبهم أنّه أقرّ شيئًا من تعاليمهم ومصطلحاتهم وطقوسهم بما فيها "السلسلة". وهذا أمر في منتهى الغرابة. لذا تعمّد النقشبنديّون الإغضاء عن نسبة شئٍ من تعاليمهم إليه. بل اقتصروا على مدحه أنّه »العالم المفتيُّ الفقيه الورع الزاهد الحجّة النبيه...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 96. وهذا لا يختلف فيه معهم أحد من أرباب البحث والخبرة بين أهل السنّة والجماعة.(64/241)
وردت ترجمة القاسم بن محمّد في وفيات الأعيان لابن خلّكان أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 4/59. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م. كذلك وردت ترجمته في المصادر التالية: طبقات ابن سعد، 5/187. بيروت-1963م.؛ أبو نعيم الإصفهاني، حلّية الأولياء/183. بيروت-1967م.؛ أبن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 8/333. حيدرآباد-1325هـ.؛ ابن العماد، شذرات الذهب، 1/135. بيروت-1979م.؛ خير الدين زركلى، الأعلام، 5/181. بيروت-1995م. كما وردت في مصادر أخرى، وهي خالية تمام الخلوّ من كلّ ما أُسندَ إليه من أنّه تلقّى سرّ الطريقة أو التصوّف من سلمان الفارسيّ وما يتبع هذا الإسناد من احتمالات أخرى؛ كالتعبّد على أساس الرابطة، والختم الخواجكانية، والتمرينات اليوغية وما إليها.
***
* الحلقة الرابعة من سلسلتهم.
يعتقد النقشبنديّون أنّ الإمام جعفر الصادق بن محمّد الباقر هو الحلقة الرابعة من سلسلتهم؛ كما أشار إلى ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بقوله »ثم سرى سرُّ هذه النسبة الشريفة - أي من القاسم بن محمّد - إلى شبله سيّدنا جعفر الصادق.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 37. ويبالغون في تعظيمه بأوصافٍ يستبشعها أهل المروءةِ والإيمان.
لقد وردت هذه الصفات على لسان عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في قوله »ناهيك بإمامٍ ورث مقام النبُوَّةِ والصدّيقية، فازدهرت في طلعته أنوار العلوم والمعارف الحقيقية.« المصدر السابق، ص/ 37.(64/242)
لا شكّ من أنّ عامّةَ أهل الإسلام يذكرون هذه الشخصيّة الكريمة بالثناء عليه والرحمة له من الله، وينظرون إليه بعين التوقير والإجلال. ولكنّ أهلَ العلم والبحث لم يعثروا على أدنى شئٍ يبرهن على إنتمائه إلى فرقةٍ من الفرَقِ الصوفيّةِ. ولا أثبتَ أحدٌ أنّه تكلّم في التصوّف ومصطلحاته؛ أو تعبّدَ على نحو ما يتعبّد النقشبنديّون. كاستعمال الحصى في تعداد ألفاظ الذكر والتركيز على جسمٍ أو صورةٍ...إلخ.
في الحقيقة أن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، لم يرد في ترجمته أنّه كان يعلم شيئًا عمّا يمارس النقشبنديّون من الرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجّه؛ وما اختلقوها من المفاهيم؛ كالأويسية، والفناء، والبقاء، والاستمداد من روحانيّةِ الشيوخ، وما إلى ذلك من أمورٍ أخرى على كثرة ما قد ترجم له. المصادر الّتي وردت فيها ترجمة الإمام جعفر الصادق: أبو نعيم الإصفهاني، حلية الأولياء 3/192. بيروت-1967م.؛ شمس الدين سامي، قاموس الأعلام 3/820. إسطنبول-1306هـ.؛ محمّد بن سعد، طبقات 5/187. بيروت-1960م.؛ الحافظ الذهبي، تذكرة الحفّاظ 1/166. حيدرآباد-1956م.؛ مؤمن الشبلنجي، نور الأبصار ص/ 60. القاهرة-1948م.؛ ابن خلّكان، وفيات الأعيان 1/327. بيروت-1978م.؛ ابن عماد شذرات الذهب 1/220. بيروت-1979م.؛ عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين 3/145. بيروت-1957م.؛ خير الدين زركلي، الأعلام 2/126. بيروت-1995.
***
* الحلقة الخامسة من سلسلتهم.(64/243)
يزعم النقشبنديّون أنّ أبا يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان البسطاميّ هو الرجل الخامس من سلسلتهم. وبسطام، »يقال انها أوّل بلاد خراسان من جهة العراق وقومس." عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 105. "كان جدّه مجوسيًّا ثم أسلم« أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/531. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م. ويغلب أنّ الخلط والتذبذب الّذي يظهر في مقاطع من كلامه يبرهن على تأثير أسلافه المجوس. لأنّ تأثير المعتقدات والعادات والتقاليد قد يستمرّ عبر حياة الأسرة ويتسرّب إلى طبقاتٍ من أجيالها؛ ولو اعتنق الأحفادُ معتقداتٍ جديدةً تختلف عما كان عليه آباؤهم الأولّون.
وقد يكون أستاذه أبو علي السندي أبو علي السندي رجل لا ذكر له في الأوساط العلمية. ورد اسمه في المراجع التالية ضمن كلمات عابرة: الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة-عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ص/ 101.؛ موسوعة ميدان لا روس التركية، مادة: بايزيد البسطاميّ.؛ 2/219
Ferit Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendilik Edition II. Pg. 148 Süleymaniye Fondation ?st,-2000(64/244)
Ya?ar Nuri ?ztürk, Tasavvuf ve Ruhi Hayat. Pg.44 ?stanbul-1989 هو الّذي أوقعه فيما جعل بعضُ الباحثين يرمونه بالزندقة. ومن هؤلاء الباحثين، عبد القادر بن حبيب الله السنديّ. فقد نقل عن طبقات الأولياء لابن ملقّن مقاطع من مقولات البسطاميّ؛ ينتقده تارةً بالمخالفة الصريحة لسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وتارة يشنّع عليه تمسّكه بالرهبنةِ؛ عبد القادر بن حبيب الله السندي، التصوّف في ميزان البحث والتحقيق ص/224. وتارةً يحمل قوله على الكفر والإلحاد والزندقة؛ واستقى من »البداية إلى النهاية« للإمام ابن كثير، ومن »الميزان« للإمام الذهبي. حيث ينقل بعضهم عن بعضهم في هذه المصادر أنّه »حكي عن البسطاميّ شطحات ناقصات. وقد تأوّلها كثير من الفقهاء والصوفيّة، وحملوها على محامل بعيدةٍ. وقال بعضهم: إنّه قال ذلك في حال الإصطلام والغيبة. ومن العلماء مَنْ بدّعه وخطّأه، وجعل ذلك من أكبر البدع، أنّه تدلّ على اعتقاد فاسد، كامن في القلب، ظهر في أوقاته والله أعلم.« المصدر السابق ص/232.
يعتقد النقشبنديّون فيه أنّه سلطان العارفين، وينقلون عنه أنّه قال: »سبحاني ما أعظم شاْني.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/99.
يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ »كان أبو يزيد البسطاميّ يشير عن نفسه أنّه قطب الوقت.« المصدر السابق، ص/98. غير أنّ له مقولة تبرهن على حسن اعتقاده وكمال معرفته ومتانة أسلوبه على طريقة أهل العلم في توضيحه لمعنى التكبير. فقد قيل عنه - إذا صحّ - »أنّه سمع رجلاً يكبّر. فقال:
»- ما معنى الله أكبر؟
قال:
- الله أكبر من كلّ مَنْ سواه.
فقال أبو يزيد:
- ليس معه شئٌ فيكون أكبر منه!
قال:
- فما معناه؟
قال:
- معناه: الله أكبر من أن يقاس بالناس، أو يدخل تحت القياس، أو يدركه الحواسّ.« المصدر السابق ص/100.(64/245)
لعلّ أقواله الموافقة لحدود الكتاب والسنّة وَرَدَتْ عنه قبل أن يفارق العلماء ويتّصل بالصوفيّة. وعلى الرغم من كلّ ما أُسْنِدَ إليه من الحقّ والباطل لم يثبت عنه بدليلٍ قاطعٍ أنّه ادّعى الأويسيّة، ولا أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّة؛ كالعمل بالرابطة، والختم الخواجكانية، وتعداد الذكر بالحصى وأمثالها... ولو كان قد عمل ذلك، وثبت عنه، لذكروه في كتبهم بالذات على سبيل الحجّة. كما لم يثبت عنه شئٌ يدلّ على أنّه أقرّ سلسلة الطريقة. ولكن المؤلّف يقول »وهو أويسي التربية. فانّه ربّته روحانية سيّدنا جعفر الصادق. ووصل إليه هذا السرّ الجليل منه بالروحانية - كما قدّمنا - لأنّ سيّدنا جعفر، كانت وفاته سنة ثمانٍ وأربعين ومائة. وهي قبل ولادة أبي يزيد بنحو أربعين سنةً كما رأيتَ. ثمّ إنّ كلَّ مَنْ ربّته روحانية أحد السادات، يقال له أويسيٌّ؛ نسبةً لسيّدنا أويس القرني، سّيد التابعين. فانّه على القول بوجوده وهو الصحيح المؤيّد بالأدلة المعتبرة والكشف الصريح؛ ربّته روحانية سيّد العالمين بالخصوص.« المصدر السابق ص/ 105. وردت ترجمة أبي يزيد البسطاميّ في المصادر الآتي ذكرها: أبو عبد الرحمن السلّمي، طبقات الصوفيّة ص/ 67. القاهرة-1969م.؛ أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء. 10/33. بيروت-1967م.؛ أبو القاسم القشيريّ، الرسالة القشيريّة ص/14. القاهرة-1959م.؛ أبو الفرج إبن الجوزي، صفات الصفوة 4/89. حيدرآباد-1355هـ.؛ أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/531. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م.؛ محمّد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، ميزان الإعتدال في نقد الرجال/481. القاهرة-1963م.؛ عبد الله بن أسعد اليافعي، مرآت الجنان وعبرة اليقظان 2/173. حيدرآباد-1339هـ. يبدو أنّ هذا الرأْيَ اختلقه بعض النقشبنديّين على حساب الآخرين دون علمهم، فتقوَّلَ على لسان كلٍ من(64/246)
جعفر الصادق وأبي يزيد البسطاميّ في دعوى هذه النسبة بينهما. وهذا برهانٌ قاطعٌ على المستوى الأخلاقيّ الّذي يتميّز به أفراد هذه الطائفه، حتّى المتعلّمون منهم.
يزعم النقشبنديّون أنّ طريقتهم تسمّتْ بـ"الطيفورية" بداية من عهد أبي يزيد البسطاميّ إلى زمن عبد الخالق الغجدوانيّ؛ نسبةً إلى اسمه (طيفور). بيد أنّ هذه التسميةَ غير موثوقةٍ. إذْ أنّ كلاًّ من هذين اللّقبين: الصدّيقيّة والطيفورية، لم يرد ضمنَ تراجم الشخصيتين المقصودتين بهما على الإطلاق. أمّا التقدير، بأنّهما كانا على أدنى شئٍ من العلم بنسبة الطريقة النقشبنديّة إليهما أو نطقا بهذين اللقبين، أو حتّى سمعا بهما، فانّ ذلك باطل إطلاقاً؛ لن يملكَ أحدٌ من عقلاء النقشبنديّة الجرأةَ على الدفاع عن هذه الدعوى الواهية إلاّ الجاهل منهم !
لقد ثبت هكذا واتّضح مرةً أخرى وبهذه الصراحة، أنّهم قد أضافوا إلى تعاليم الدين مالا يُحصى من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ وعقائدَ اقتبسوها من دياناتٍ مختلفةٍ لا صلة لها بالإسلام؛ كما قد ألغوا مبادئ هامةً من أصوله وأبطلوها؛ وخالفوا مبدأ التوقيفية في الإسلام، وتصرّفوا فيه بدون حدود. كذلك ابتدعوا أسماء جديدةً، ومصطلحاتٍ غريبةً كلما وجدوا لذلك مساغًا من تلقاءِ أنفسهم. وتقوّلوا على بعضهم البعض؛ بل وحتّى على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن يليه من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين؛ كإسنادهم الطريقة النقشبنديّة إلى الصحابة والتابعين؛ وادّعائهم: »إنّ طريقة السادة النقشبنديّة هو معتقد أهل السنّة والجماعة. وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم على أصلها، لم يزيدوا فيها، ولم ينقصوا منها.« راجع الهامش رقم/301.
هكذا فقد دخل النقشبنديّون في دوّامة خطيرة حارت العقول من أمرهم.
***
* الحلقة السادسة من سلسلتهم.(64/247)
تزعم النقشبنديّة أنّ أبا الحسن على بن أبي جعفر الخرقانيّ هو الحلقة السادسة من سلسلتهم. يقول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، »ثمّ تلقّىَ سرَّ هذه النسبة الشريفة من سيدِنا أبي يزيد أيضًا بالروحانية، سيدُنا أبو الحسن الخرقانيّ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/105. »وهو أويسيُّ التربية، رَبَّتْهُ روحانيةُ سيّدَنا أبي يزيد البسطاميّ« المصدر السابق ص/106.
ينقلون عنه أنّه قال: »أطلب القصّةَ لتظهر الدموع. فإن ّالله يحب الباكين.« المصدر السابق ص/105. هذه الكلمة تُذَكِّرُنا بقوله تعالى {فَلْيَضْحَكوُا قَليِلاً وَلْيَبْكوُا كَثيِرًا جَزَاءً بِمَا كَانوُا يَكْسِبوُنَ.} سورة التوبة/82. وذلك إذا كان غرضه من القصّة ما لا يتعارض مع الروح القرآنيِّ.
وينقلون عنه أيضًا أنّه قال »كلّ شئٍ يطلب العبدُ به اللهَ، فالقرآن أحسن منه؛ فلا تطلبوا الله إلا به«. وهذه كلمة حق. فيبدو من هذه المقولات، أنّ الشيخ أبا الحسن الخرقانيّ كان رجلاً من الصالحين بخلاف مَنْ تصفه النقشبنديّة من الشيوخ الروحانيّين. ويحتمل أنهم قد طمعوا في استغلال شهرته فأضافوا اسمَه إلى أسماء مشائخهم دون أن تكون له علاقة بهذه الطريقة. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة لم يكن لها وجود في زمانه. ويغلب أنّه من أصلٍ فارسيٍّ كأبي يزيد البسطاميّ.
قيل أنّه عاصر السلطان الغزنويّ محمود بن سبكتكين، ونال محبّتَه وتوقيرَه. إلاّ أنّه غير مذكور في المصادر الْمُعتَبَرَةِ لِسِيَر الأعلام وتراجم الرجال. ولم يذكره القشيريّ في رسالته ضمنَ الأعلام وهو معاصره. وقد ذكر البسطاميّ؛ (وهو شيخ الخرقانيّ في اعتقاد النقشبنديّين). وبخاصّةٍ فإنّ أبا القاسم القشيريّ هو أستاذ أبي علي الفضل محمّد الفارمديّ الّذي يدّعي النقشبنديّون أنّه تتلمذ على أبي الحسن الخرقانيّ في الوقت ذاته، وصار خليفتَهُ في الطريقة!(64/248)
كلّ هذه المُعطيَات الّتي تبرهن على تعارضٍ رهيبٍ في أقوال النقشبنديّين ودعواهم في نسبة طريقتهم إلى أشخاص، لم تكن فكرةُ النقشبنديّة ولا شئٌ من تعاليمها موجودةً في عهدهم، تدل في الوقت ذاته على أنّه لو كان لأبي الحسن الخرقانيّ وجودٌ حقيقيٌّ، لذكره المصنّفون ضمنَ تراجم الأعلام، وعلى رأسهم القشيريّ.
لذا قد يكون هذا اسمًا مُخْتَلَقًا لشخصيّةٍ خياليّةٍ لا حقيقة لها. وهذا يؤكّد أيضًا على مدى زعم النقشبنديّين في دعواهم عن صحّةِ هذه السلسلةِ.
***
* الحلقة السابعة من سلسلتهم.
يزعم النقشبنديّون أنّ أبا عليّ الفضل بن محمّد الفارمديّ هو الحلقة السابعة من سلسلتهم، وأنّه »تلقّىَ سرَّ هذه النسبة من أبي الحسن الخرقانيّ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/106.
ورد في بعض المصادر »أنّه صَحِبَ القشيريّ، وأخذ عنه حجةُ الإسلام الغزاليّ« المصدر السابق ص/71. ترجمت له جماعة من المصنّفين. منهم؛ تاج الدين السبكي، تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية 5/304. القاهرة-1964. وعبد الحي بن أحمد بن محمّد بن العماد العكبري الحنبلي، إبن العماد، شذرات الذهب في اخبار من ذهب 3/355. بيروت-1969م. وياقوت الحموي، ياقوت الحموي، معجم البلدان 3/829. القاهرة-1325هـ. وعلي بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري المعروف بابن الأثير. إبن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب 2/191. القاهرة-1359 هـ.(64/249)
يغلب الظن أنّ أبا عليّ الفارمديّ هو عربي الأصل كأستاذه أبي القاسم القشيريّ. بيد أنّه تشرّب العقيدة الصوفيّة بدافع نشأته في منطقة خراسان الّتي كانت ملتقى الجموع للعقائد الوثنية منذ القديم. إلاّ أنّنا لا نعثر على أيّ دليلٍ يبرهن على إقراره بهذه السلسلةِ وعن تعبّده على غِرَارِ النقشبنديّة. قيل إنه كان وجيهًا عند الوزير السلجوقيّ حسن بن على المعروف بـ"نظام الملك"، ولكن ابن خلّكان لا يذكره حيث يذكر مكانةَ شيخه أبي القاسم القشيريّ عند نظام الملك. أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان؛ 2/129. تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، بيروت-1978م.
***
* الحلقة الثامنة من سلسلتهم.
هذه الحلقةُ يمثّلها في اعتقاد النقشبنديّين رجلٌ إسمه أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين الهمدانيّ. يزعمون أنه أخذ سِرَّ هذه الطريقة من أبي عليّ الفضل بن محمّد الفارمديّ. فيكون بذلك معاصرًا لمحمد بن محمّد الغزاليّ، ومصاحبًا لنفس الأستاذ الّذي أخذ عنه الغزاليّ، مع ذلك لا نعثر على ما يُثبت اجتماعَهما.. وهذا أمرٌ غريبٌ يبعث الشكوكَ فيما أورده بعض النقشبنديّين من ترجمة هذا الرجل. ذلك من شأنهم أنّهم يحرصون على إشاعة فضائل مشائخهم بكل وسيلة. ولا يألون جهدًا في إسناد ما ليس فيهم من صفات عاليات، ويبحثون عن أدنى قرينة تجمع بين شيوخهم وبين مشاهير العلماءِ. ولا يقصدون من ذلك إلاّ العملَ على توسيعِ نطاقِ الشهرةِ لرجالهم.
هذا، فلو كان الهمدانيّ قد إجتمع بالغزاليّ لظهر ذلك بوضوح من خلال التراجم. - لأنّ الهمدانيّ أيضًا من تلامذة الفارمديّ على حدِّ قول النقشبنديّة - ولكان ذلك وسيلةً لمباهاتهم. لأنهم يملكون الفرصةَ بذلك ليزيدوا من مبالغتهم في المدح والثناء على هذا الرجل بمجرّد صِلَتِهِ بالغزاليّ الّذي ملأ الآفاقَ بشهرته((64/250)
وقيل أنّ الشيخ عبد القادر الجيليّ قد إجتمع به وهو شابٌّ يدرس في النظامية. إنّ هذا الإحتمال يُنبؤنا عن ضعف ما قد نسجه النقشبنديّة حول الهمدانيّ من حكاياتٍ وأقاصيصَ خياليةٍ لا يمكن أن تظهرَ الحقيقةُ من خلالها. كما جاءت تلفيقات بين كلمات المترجمين للهمدانيِّ. فقد ورد في الحدائق الوردية »أنّه تفقّه علي مذهب الإمام الشافعيّ«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 107. مع هذا يدّعي شخصٌ أرّخ لرجال هذه الطريقة »أنّه كان على مذهب الإمام الأعظم«. حسن لطفي ششود، مناقب الأولياء (باللّغة التركية) ص/ 7. مكتبة صلاح بيليجي. إسطنبول-1958م. أي على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. إنّ معظم الأتراك يعتقدون أنّ أبا حنيفة أفضل الأئمة، كما سوف نشرح هذا الإعتقاد في بداية الفصل الخامس إن شاء الله تعالى. ويدّعي الكثير منهم: أنّه تركيّ الأصل رجمًا بالغيب، ولا برهان لهم في ذلك. لأنّه لم يرد عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنّه تكلّم بكلمة تركيّة، أو كتب لفظًا بهذه اللّغة. بل الشائع أنّه فارسي الأصل. و لا نتعجّب مِنْ إدّعاءٍ أشدّ غرابةً منه، عثرنا عليه ، فرأينا بحكم المناسبة أن نذكره. وذلك: أنّ ضابطًا عسكريًّا في الجيش التركيّ برتبة جنرال يُدعى فاروق جوانترك، يقول في كتاب له: "إنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ينحدر من سلالة إبراهيم النبي عليه السلام. أمّا إبراهيم الخليل، فانّه تركيّ الأصل. هاجر من مدينة أورفا (الواقعة بجنوب تركيا) إلى بلاد العرب هاربًا من ظلم نمرود. وبنى الكعبة مع ولده إسماعيل. هذه حقيقة تاريخية. ولهذا فانّ الرسول عليه السلام ينتمي إلى أصل تركيّ." وفيما يلي نص هذه الترجمة باللّغة التركية:(64/251)
Hz. Muhammed, Hz. ?brahim’in neslinden gelir. Hz. ?brahim ise Urfa’dan Zalim Nemrud Elinden kaç?p Arabistan’a yerle?ir. O?lu ?smail ile Mekke ?ehrini kuran bir Türk oldu?u tarihi hakikatlardand?r. Orgeneral Faruk Güventürk, Din D?d?? Alt?nda Nurculu?un ?çyüzü Pg. 69 Ankara-1993
يقول الأستاذ فؤاد كوبرولو (باللغة التركية وقد عرّبناه كما يلي): »أمّا الهمدانيّ، فانّه كان طويل القامةِ، أزهري اللّون، أشقر اللحية، رجلاً نحيفًا، يكتسي ثوبًا من صوفٍ مرقّعٍ. لا يهتمّ بأمور الدنيا ولم يتردّد على الملوك. ينفق كلّ ما يصيب من مالٍ. لم يقبل من أحدٍ شيئًا، ولم تكن له معرفة باللّغة التركية. (...) يصنع العقاقير لتهدئة الآلام ومعالجة الجراح، ويكتب التمائم للشّفاء من الحمّى.« ...........................................Prof. Dr. Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda ?Lk Mutasavv?flar, Pg. 69 Ankara-1993 ويقول المؤلّف أيضًا:
»إنّ الشيخ يوسف الهمدانيّ، الّذي ينتمي إلى أسرةٍ همدانيّةٍ مجوسيةٍ اعتنقت الإسلام منذ ثلاثة أجيال، لم يكن من أولئك المتصوّفة الأعاجم الّذين عملوا على تأليف العقائد الهندية مع العقائد الإسلامية بتصوّراتهم المطلقة من العنان. ولكنّه كان متعمّقًا في العلوم الشرعية، وكان عالمًا بالحديث. ولهذا كان يفضّل الكتاب والسنّة على كلّ شئ.« المصدر السابق ص/115.(64/252)
هذه النقولات تبرهن على شخصية الهمدانيّ من كلِّ وجهٍ وبكلِّ وضوحٍ حيث لا يحتاج إلى أيّ تعليق آخر. وعلى الرغم من كثرة الحكايات المنسوجة حول هذا الرجل، فانّه لم يرد عنه أنّه تكلّم بشئٍ يوهم أساليب التعبُّد المبتدَعَةِ من قِبَلِ الطائفة النقشبنديّة. وجاءت ترجمتُهُ في عدد من المصنّفات. المراجع الّتي وردت فيها ترجمة الهمدانيّ: خير الدين زركلي، الأعلام 8/220.؛ إبن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب 4/110.؛ يوسف بن إسماعيل النبهاني، جامع كرامات الأولياء 2/289.؛ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ً. 106.؛ علي بن حسين الواعظ.؛ رشحات (باللّغة العثمانيّة) ص/ 17
***
* الحلقة التاسعة من السلسلة النقشبنديّة
ورد في مصادر المتاخّرين من النقشبنديّة أنّ الحلقة التاسعة من سلسلتهم هو عبد الخالق الغجدوانيّ. وهو أوّل رجل تركيّ النَشأة بين قدماء هذه السلسلة. وهو الّذي أحدث ثمانية أركانٍ للطريقة كما مرّ في باب »مبادئ الطريقة النقشبنديّة« من الفصل الثاني.
قال محمّد بن عبد الله الخانيّ في هذا الصدد:
»ومن تلك المصطلحات: الكلمات القدسية المأثورة من حضرة الخواجة عبد الخالق الغجدوانيّ، وهي إحدى عشرة كلمة. وعليها مبنى طريقة السادات النقشبنديّة«. * محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/50. وعدّ كلاًّ على حدة كما نقلناها من مصادرهم فيما سبق.(64/253)
جاء في تراجم النقشبنديّين لعبد الخالق الغجدوانيّ أنه ولد في قرية غجدوان - وهي على مقربة من مدينة بُخَارَى - وأنَّ نسبه يتّصل بالإمام مالك بن أنس رضي الله عنه؛ وأنّ والده الشيخ عبد الجميل كان من سكّان مدينة ملاطية (الواقعة اليوم في شرقي تركيا).ثم سافر إلى بُخَارَى. بينما نحن لا نعثر على ترجمة له في التصانيف المعتبرة. وهذا ما يزيد من الشكوك حول كلّ ما قيل عنه خاصّة فيما ورد أنه درس تفسير القرآن العظيم عند الشيخ صدر الدين البُخَاريّ. لأنّ ما ورد عنه من البدع يثير الوهم حول جهله بالإسلام إذا صحّ قول من زعم أنّه الّذي وضع المصطلحات الثمانية. وتؤكّد ذلك روايات غريبة أخرى وردت عنه.
منها »أنّه قال: لمّا بلغتُ اثنين وعشرين سنة أوصى الخضر عليه السلام الغوث الهمدانيّ بتربيتي.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.(64/254)
إن "أسطورة الخضر" الّتي وردت على لسانه ضمن مناقبه المنقولة بقلم عبد المجيد الخانيّ، تبرهن على مدى خرافية ما اختلقه القصاصون من شيوخ النقشبنديّة حول اسم هذا الرجل ليجعلوه حلقةً هامةً من حلقات سلسلتهم. أما هذه الأسطورة، فهي مشهورة و متكررة في كتب الصوفيّة. يقول عبد الرحمن عبد الخالق: "يبدو أنّ أوّل من افترى القصة الصوفيّة للخضر هو محمّد بن على بن الحسين الترمزي المسمى بالحكيم والمتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري ( الفكر الصوفيّ/134). ويقول أيضًا: "لقد تحوّل الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمّونه بالسوبرمان الّذي يطير في كلّ مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخلان في كلّ البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربات، ويلقّن الأذكار و ينشيء الطرق الصوفيّة، ويعمد الأولياء والأقطاب، ويولي من يشاء ويعزل من يشاء". (المصدر السابق). ويقول سميح عاطف الزين: "الخضر، فهو عندهم إمام الأولياء والسالكين، يلتقي به الشيوخ عيانًا كما يزعمون، ويتلقّون عنه الأسرار، لأنّه لم يمت، ولن يموت إلى آخر الزمان؛ وهو يقيم بالمسجد الأقصى، ويطوف بالأكوان، ويحضر في كلّ مكان، ولذلك فهو يلقى الصوفيّة عند ذكره: عليه السلام!!" (الصوفيّة في نظر الإسلام/169). كذلك قد أشار الباحث التركيّ أحمد ياشار أوجاك إلى أنّ هذه الأسطورة مستوحاة من المسيحية. Menâkibnâmeler/ 73. 74.
ورد في مواطن أخرى من تراجم النقشبنديّين له أنّه »جاء الخضر عليه السلام إليه، فقال له أنت ولدي، ولقّنه الوقوف العدديَّ وعلّمه الذكر الخفيَّ؛ وهو أنّه أمره أن يغمس في الماء ويذكر بقلبه لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله. ففعل كما أمره. ودام عليه فحصل له الفتح العظيم، والجذبة القيّومية«. المصدر السابق.(64/255)
لا شك من أنّ الإسلام بعيد كلَّ البُعدِ عن مثل هذه الهرطقة اليوغية؛ كما لا شك من أنّها شعبذة من تمرينات رهبان البرهمية، أثارها الرجل كخطوةٍ أولى لتمهيد السبيل إلى وضع ما أشارت له نفسه من تلك المصطلحات البرهمية، ودسّها في عقائد الإسلام إذا صحّت الروايات أنه الّذي وضعها. وقد تعاقبت بعدها ألوان متباينة من أفانين الشعبذة لرجال هذه الطائفة من أمثاله. فامتلأت كتبهم بها إلى أن وجد المسلمون اليوم هذه الطائفة عقبةً خطيرةً في وجه الإسلام، خاصّة على الساحة التركية حيث لا قبل لهم بها!
يطلَق على هذا الرجل أسم "رئيس الخواجكان" محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 50. أي رئيس شيوخ هذه الطريقة. ويقول النقشبنديّون أنّ طريقتهم أَخَذَتْ اسمَ "الخواجكانية" بدايةً من عهده حتّى زمن محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف عندهم بـ "شاه نقشبند". وكلمة "الخواجكان" فارسية. وهي جمع خواجه »بتفخيم الخاء المفتوحة. وتُرْسَمُ بالواو ولا تُقْرأْ، وإنّما هي علامة التفخيم«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.
ومن الحكايات الأسطورية الّتي نسجتها النقشبنديّة: ما جاء في موسوعة أعدّتها طائفةٌ تركيةٌ من هذه النحلة يطلق عليهم اسم "The Modernist Naacshabandis" أى النقشبنديّين العصرانيّين. ورد في موضع من موسوعتهم »أنّ عبد الخالق الغجدوانيّ كان يصلّي الصلوات الخمس في المسجد الحرام، ويرجع في لمح البصر إلى مدينة بُخَارَى.« ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 5/344
يبدو أنّ عدّة مصطلحات فارسية أخرى قد دخلت في قاموس النقشبنديّة بجهود هذا الرجل. منها كلمة "خانقاه". يقول في ذلك عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ضمنَ ترجمة عبد الخالق الغجدوانيّ:(64/256)
»ثمّ سافر إلى الشام، وأقام بها مدّة أعوام، وبنى ثَمَّ خانقاه. وهي كلمة فارسية بسكون النون بمعنى الزاوية«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/111.
هذا على الرغم من كلّ ما أُسند إليه من حقّ وباطل فانّ عبد الخالق الغجدوانيّ لم تثبت عنه أدنى إشارة توهم الرابطة والختم الخواجكانيّة، وتعداد الذكر بالحصى، والقول بسلسلة الروحانيّين؛ عدا ما أحدث في الطريقة من مصطلحات فارسية ترمز إلى الأركان الّتي أقامها لأوّل مرة.
إلاّ أنّ إحداثَهُ لهذه المصطلحات الغريبة في لباسِ مناسكَ دينيةٍ يبرهن بكلّ وضوح على أنّ الطريقة النقشبنديّة قد أخذتْ من البداية تستقي من فلسفاتٍ ودياناتٍ وعقائدَ شتّى، وأنّها قد استمرت عَبْرَ تاريخها على هذا المنوال.
***
* الحلقة العاشرة من سلسلتهم.(64/257)
جاء في موسوعةٍ النقشبنديّين العصرانيّين، أنّ عارفًا الريوكريّ هو الحلقة العاشرة من سلسلتهم. إلاّ أنّ التصانيف المعتبرة لتراجم الرجال خاليةٌ عن هذا الاسم. وقد لا يتجاوز هذا الاسم عن شخصية خيالية. لأنّ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ الّذي أفرغ طاقته في جمع معلومات حول رجال السلسلة، حتّى هو بالذات عجز عن المعرفة بتاريخ ولادة هذا الرجل وتاريخ وفاته. فسطورُهُ شاهدةٌ على هذا العجز. لأنّه لَمّا استهلّ بخلع آيات الثناء والمدح على هذه الشخصية الغامضة فقال: »عارفٌ ظهر أنوارُ صادقِ فجرِهِ. فأشرقت بعد الغروب شمس المعارف في عصره« ثمّ قال »ولد سنة...« المصدر السابق ص/ 119. ولم يذكر شيئًا بعده؛ فلم يؤرّخ لولادته ولا لموته. كما تؤكّد كلماته الأخيرة على هذا الغموض؛ إذ يقول: »وله عدّة خلفاء. ولم أقف لهم على أسماء«. المصدر السابق ص/119. فكيف به أن يقف على مناقبه وأحواله وأطوار حياته بالتفصيل إذا صح له وجود حقيقي ما دام لم يقف حتّى على اسم من أسماء خلفائه! فعلى الرغم من هذه المناقضة والتعارض، ومن هذا العجز الّذي نلمسه من خلال كلمات الخانيّ وما تتوارى فيه هذه الشخصيةُ من غموض، يحاول المؤلّف ليجعل منه شخصيةً حقيقيةً فيقول: »أصله من بُخَارَى. وكان مستغرقًا في تحصيل علم الظاهر. يطلقون إسم "علم الظاهر " على العلوم المنبثقة من القرآن الكريم والسنّة النبوية. وإنما يستعملون هذه التسمية على سبيل الإستحقار لهذه العلوم الشريفة وأهلها. وتبرهن على هذا، تسميتهم للفقهاء والمحدّثين والمفسّرين بـ"علماء الرسوم". لأنّهم يدّعون علمًا آخر يسمّونه "علم الباطن" أو "العلم اللّدنّيّ". ولهذا تدخل الطريقة النقشبنديّة في عداد "الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ". فلقي الشيخ مرة في السوق، قد اشترى لحمًا وحمله من غرائب هذه الطريقة أنْ يُرْوىَ "أنّ شيخًا من شيوخهم خرج إلى السوق واشترى لحمًا وحمله..." لأنّ كلّ شيخٍ من شيوخهم(64/258)
اليوم يتمتّع بشهرة وجاه يحسده الملوك عليهما. وهذا إلى درجة: أنّه لو أراد أنْ يخرج بمثل هذه الحاجة إلى السوق لاصطدم بمقاومةٍ عنيفةٍ من رجال حاشيته المقربين. ولربما هدّدته بطانته دون أنْ يشعر بهذا النزاع أحدٌ من مريديه العاديّين فضلاً عن غيرهم. وذلك خوفًا على زوال جاهه وشهرته. لأنّ عظمة شيخهم ضمانٌ لمصالحهم، يوفّر لهم إمكانات يستحيل عليهم أنّ يحظوا شئًا منها بطرقٍ عاديةٍ. وهذا يجعلهم أن يحرصوا على محافظة هذه العظمة؛ بل وأن يبذلوا ما لديهم من كلّ وسيلةٍ لإشاعة صيته. لأنّ مصالحهم تنمو وتزداد كلما يتّسع نطاق هيمنته، وتتقلص بتقلّصه. أمّا إذا كان قُدَمَاؤُهم الأوّلون من أهل التواضع، كما ينقلون في تراجمهم؛ فقد أصبح المعاصرون منهم على خلاف أسلافهم بما يتمتّعون من الرخاء والعيش الرغيد؛ وما يملكون من ثروات طائلة، وأموال مدخّرة وقصور وحشم وخدم وشهرة يغتبطها الملوك. وهذا من أكبر البراهين على تناقضهم مع أنفسهم. فقال له أنا أحمل عنك. فأعطاه إيّاه. فلمّا وصل إلى بيته، التَفَتَ إليه وقال له تأتي بعد ساعةٍ حتّى آكل الطعام معك. فلما انصرف، لم يجد في قلبه ميلاً للعلم. بل وجد متصرّفًا لخدمة الشيخ. فعاد إليه في الوقت، فتقبّله. وقال له أنت ولدي. وعلّمه الطريق. فاشتغل به وترك الذهاب إلى أستاذه. فكان كلّما رآه أستاذه عنّفه وشتمه على ترك العلم، وأمره بالحضور إلى المدرسة وهو يُقبِل ولا يجيبه بشيءٍ. فاتّفق أنْ اقترف أستاذُهُ ذات ليلةٍ كبيرةً من الكبائر. فلمّا التقيا في النهار أطال لسانه عليه على العادة. فقال له: - يا سيّدي كنتَ في الليلة كذا وكذا من الفسق، والآن تمنعني عن طريق الحقّ. فخجل الأستاذ خجلاً عظيمًا؛ وعلم مراتب الصوفيّة وأحوالهم. وحضر عند الشيخ عبد الخالق في الحال وتاب وأخذ طريقته وصار من المقبولين لديه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة(64/259)
ص/118.
يحاول الخانيّ بهذه الكلمات ليؤكّد على أنّ هذا الرجل كان يعلم الغيب ويطّلع على عورات الناس في ظلمات الليل ويعلم ما يصنعون وهم في بيوتهم. غير أنّ الخانيّ غفل عمّا حطّ من شأن هذا الرجل عند ما قال: »فلمّا انصرف لم يجد في قلبه ميلاً للعلم (...) وترك الذهاب إلى أستاذه«. المصدر السابق. أى أعرض عن دراسة العلم وانهمك في تقليد الصوفيّة.
كانت هذه خلاصة من قصة الحلقة العاشرة من سلسلة النقشبنديّين على لسانهم بالذات!
***
* الحلقة الحادية عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
ورد في مصادرهم أنّ الحلقة الحادية عشرة من سلسلتهم هو محمود الإنجيرفغنويّ. و إنجيرفغنىَ قرية من ضواحي مدينة بُخَارَى.
يستهلّ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ ترجمته بالمدائح كعادته في ترجمة سائر شيوخ الطريقة. وهذه صيغةٌ من كلماته المسجّعة:
»مرشد تفجّرت من بين أصابعه مياه الحكمة، أنعم الله تعالى بوجوده على قلوب هذه الأمّة (...) فهو أعظم نعمة وأعمّ رحمة«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/119.
ثم يقول »كان مع جلالة قدره يشتغل بصنعة البناء. فلما أقيم مقام سيّدنا الشيخ عارف، انقطع لهداية الخلق إلى الحق، وقد عدل إلى الذكر الجهريِّ منذ مرض أستاذه لمقتضى خُلُقِ الوقت والخلق«. المصدر السابق ص/ 119.
فعلى الرغم من هذا التنطّع الّذي استعرضه الخانيّ لينوّه بمدى تواضع هذا الشيخ الّذي »كان مع جلالة قدره يشتغل بصنعة البناء«؛ على الرغم من هذه المحاولة، لا يكاد يقتنع أيُّ ذي عقلٍ، أنّ الفغنويّ كانت له مكانة مرموقة، وأنّه كان من العلماء فترك مِنَصّة العلم واشتغل بصنعة البناء تواضعًا، أو لأيّ سبب معقول!(64/260)
أمّا الذكر الجهري الّذي يجهله كثير من الناس، فيناسب هنا وبهذا المقتضى أنْ يُسَلَّطَ الضوءُ على هذا النوع من الذكر بأنّه مخالف للكتاب والسنّة. لأنّهم يجتمعون في أوقات معيّنة، ويقيمون حلقاتٍ استعراضيةً في التكايا، يرفعون أصواتهم ويترنّمون بترديد لفظة الجلال أو كلمة التوحيد بإيقاعات ونغمات خاصّة؛ يُشرِفُ عليهم شيخهم أو من ينوب عنه، فيوجّههم بالانتقال من صيغة إلى أخرى، فيستمرّ الذكر على هذا المنوال مدّةً غير قصيرة؛ وقد يُغشىَ على بعضهم بدافع ثوران العاطفة، أو بسبب تراكم مادّة الأُكسيجين في الأوعية الدموية نتيجة السرعة في توالي الشهيق والزفير.
ينحدر الفغنويّ من أصلٍ تركيّ كسائر شيوخ هذه الطريقة الّذين برزوا في منطقة ماوراء النهر المعروفة بـ "بلاد تركستان".
قيل أنه عاش في مدينة بُخَارَى وضواحيها؛ ومات عام 715 من الهجرة. لم يؤرّخ له أحد من مشاهير المترجمين وعلماء التاريخ والأنساب. وإنّما وردت كلمات وجيزة حوله ضمنَ تراجم النقشبنديّين.
***
* الحلقة الثانية عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هو عليّ الرامتنيّ المعروف بـ "خواجه عزيزان". ولد في قرية رامتن الّتي هي على بُعد فرسخين من مدينة بُخَارَى. يدلّ ذلك على أنّه تركيّ الأصل. لم يقف الباحثون على تاريخ ولادته، ولا على معلومات واسعةٍ عن حياته؛ سوى ما قال بعضهم أنّه كان نسّاجًا، عاش مدةً طويلة في هذه المنطقة ومات فيها عام 721 أو 728 من الهجرة. قيل وافته المنية وهو ابن مائة وثلاثين سنةً.
اختلفت الآراءُ فيما إذا كان عليُّ الرامتني من أهل التصوّفِ أم من أهل العلمِ. يبدو هذا الخلاف من مقولةٍ شعريةٍ يردّدها النقشبنديّونَ، وهي قولهم: لَوْ لِحَالٍ لَمْ يَكُنْ فَضْلٌ عَلَى قَالٍ لَمَا * كَاَن أعْيَانُ بُخَارَى عَبْدَ نَسَّاجٍ عَلِي.(64/261)
وعلى الرغم من الغموض الّذي يواري حياة هذا الرجل، فقد وردت مقولات عنه مضيئة تبرهن على سلامة اعتقاده، وعسى أن تكون الرواية صحيحةً.
تُنسَبُ إليه رسالةٌ مسجّلةٌ تحت رقم 265/2 بمكتبة السليمانية - خزانة طاهر آغا - في إسطنبول. ربما ليس من كلامه جميع ما نُقِلَ عنه، ما دامت شخصيّته لا تتبلور بالدلائل القاطعة. كما يغلب أن يكون النقشبنديّون قد طمعوا في نسبته إلى قائمة الروحانيّين بسبب ما كان له من السمعة الحسنة في عهده مع عدم علاقته بهم؛ والله أعلم بالصواب.
هذا ولم يرد عنه أنّه تكلّم بأدنى شئٍ عن الرابطة، ولا عن الختم الخواجكانية، ولا عن تعداد الذكر بالحَصىَ، ولا عن السلسلة النقشبنديّة.
***
* الحلقة الثالثة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
كان للرّامتنيِّ خلفاء أربعة. اسم كلٍّ منهم محمّد. وكان أشهرهم محمّد بابا الّذي حلّ مكان شيخه وأصبح هو الحلقة الثالثة عشرة لهذه السلسلة على ما جاء في الحدائق الوردية لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ.
ولد ونشأ محمّد بابا في نفس المنطقة وهو أيضًا تركيّ الأصل، من سكّان قرية سمّاس الواقعة بقرب مدينة بُخَارَى. وهي على مسافة ثلاثة أميال منها، وعلى ميل واحد من قرية رَامِتَنْ الّتي كانت مقرّ شيخه. ولهذا يسمّى صاحب الترجمة محمدًا بابا السماسيّ.(64/262)
وكلمة "بابا" يعني "الأب" في اللّغة التركية. ومن عادة الأتراك أنّهم ينادون كبار السن بهذه الكلمة على سبيل الاحترام. كما يُطلقونها على بعض رجال الصوفيّة، وعلى بعض أصحاب القبور الّذين تقدّسُهم العامّة، ويتبرّك غالبُ الناس بأضرحتهم في تركيا؛ لاعتقادهم أنّهم أولياء الله وخاصّتُهُ. فيبدو أنّ الشيخ محمدًا، هذا الّذي يعدّه النثشبنديُّون الحلقةَ الثالثةَ عشرة لسلسلتهم هو أيضًا من أولئك الباباوات القدّيسين على غرار عادة النصارى الّذين ينادون أوليائهم بهذا العنوان مما يؤكّد أنّ الطريقة النقشبنديّة قد اقتبست أيضًا من المسيحية قليلاً أو كثيرً؛ وإن لم يكن ذلك بقدر ما استقت من البرهمية والبوذية من أشكال المناسك والتعبُّد.
هذا ومن الغريب أن عبد المجيد بن محمّد الخانيّ قد أراد أن يؤرّخ لولادة محمّد بابا ولوفاته، فقال، »ولد سنة...«؛ ثم قال »توفي سنة...« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/122-123. ولم يسجّل بعدهما شيئا، مما يدلّ على أنّه لم يتمكّن من الوقوف على تفاصيل حياته، وأنّ هذا الاسم قد يكون عَلَمًا على شخصية خيالية لا حقيقةَ لها. لأنّ وثائقهم وحتّى كتاب الرشحات الّذي هو أقدم مصادر النقشبنديّين لا يشتمل على شئٍ يستحق الذكر من أخباره. كما لم يرد عنه أيضًا أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّة، أو تكلّم بشيءٍ عن أشكال عباداتهم كالرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجه، وتعداد ألفاظ الورد بالحصى. قيل توفّي السماسيّ عام 755 من الهجرة بالقرية نفسها.
***
* الحلقة الرابعة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.(64/263)
ورد فيما كتبه النقشبنديّون أنّ الحلقة الرابعة عشرة من سلسلتهم هو رجلٌ اسمه كُلال بن حمزة. ويزعمون أنّه ينحدر من سلالة الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ وأنّ أباه حمزة هو الّذي غادر موطنَه الأصليَّ؛ إذ كان مقيمًا بالمدينة المنوّرة؛ فقصد بلادَ ماوراء النهر، حتّى وصل منطقةَ بُخَارَى، فأقام هناك بقريةٍ اسمها أفْشَنَهْ.
إلاّ أنّ الغموض الّذي يواري حياة رجال هذه السلسلة في تلك الحقبة، يُخَيِّمُ على هذه الأسرة أيضًا؛ فلم تكد تتبلور صورته. فالّذي يتناقله أتباعُ هذه الطائفة عن كُلال بن حمزة، ليس إلاّ لفيفًا من الأساطير. ومن جملة هذه الأقاصيص الّتي وردت في موسوعةٍ لهم باللّغة التركية، حكاية غريبة حول تسمية هذا الشيخ؛ وهي: » أنّ رجلاً من الصالحين نزل ضيفًا عند أبيه حمزة، إذ هو في بطن أمه. فبشّره بغلام ينال شهرةً عظيمةً، وأوصاه أن يسمّيه كُلالاً«.
غير أنّ هذه الكلمة عجميّة تقابل "صانع القُحُف الخزفية" في اللّغة العربية. وهذا الأمر يثير الشكوك في جلّ ما نُقِلَ عن صاحب الترجمة. منها، أنّه اشتغل بصناعة القِحْفِ. وهذا استدلال باطل. لأنّه سُمّيَ بهذا الاسم وهو وليد لا يعلم شيئا من هذه الدنيا؛ لا من قحوفها ولا من تُحَفِهَا. ومنها، أنّ شيوخ النقشبنديّة يأنفون أن يمارسوا حرفةً من حرف العامّة استنكافًا. وذلك للحفاظ على مكانتهم، وشهرتهم، وهيبتهم بين الناس.
إنّ النقشبنديّين إنّما يقصدون بمثل هذه الأقصوصة أن يروّجوا الاعتقاد بين الناس بعلم الغيب لساداتهم، فلا يكادون ينفكّون من هذه النزعة كأنّهم جبلوا على ذلك. ويتورّطون هكذا في تناقضاتٍ كثيرة. منها أنَّ مفهوم الكرامة تكاد تنحصر عندهم في خرق العادة. كالعلم بالغيب، وطيّ الزمان والمكان، والهيمنة على نظام الكون.(64/264)
ينسب النقشبنديّون صفة "الأمير" إلى كُلال بن حمزة في مصادرهم. ولا نجد لهذا الوصف مناسبةً مُلحّةً. إذ لم يسبق أنّه تولّى إمارةً أو مهمّةً سياسيةً أو إداريةً. سوى أنّه كان في شبابه »اشتغل بفنّ المصارعة فكان يجتمع عليه أرباب الشجاعة وأولو المعاركة والنظارة. فاتّفق ذات يوم أنّ رجلاً من الواقفين خطر بباله أنّ هذا سيّدٌ شريفٌ. فكيف يشتغل بالمصارعة، ويسلك سبيل أهل البطالة! فلم يلبث أنْ غلب عليه النوم؛ فرأى في منامه أنّ القيامة قد قامت، وأنّه وقع في وحلٍ عظيمٍ؛ فغرق فيه إلى صدره، واضطرب اضطرابًا عظيمًا؛ وفزع فزعًا كبيرًا. فأتى إليه السيّد الأمير وأنقذه من هذه الورطة. ثمّ أفاق؛ فالْتَفَتَ إليه السيّدُ الأميرُ وقال له:«
»- أرأيتَ همّتي وعلمتَ ما معنى المصارعة؟! « عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/123.
هكذا قد الْتَفَّتْ حول الأمير كُلال بن حمزة أحابيلُ من غرائب الحكايات والأقاويل، ولا يمكن تمييز صحيحها من باطلها.
وقد تكون تسميته بـ »الأمير" بسبب العلاقات الّتي جرت بينه وبين تيمورلنك. إذ ورد في موسوعة النقشبنديّين "أن الأمير كُلالَ بنَ حمزةَ، بعث رسولَه الشيخ منصورًا إلى الملك تيمورلنك، يحرّضه على استيلاء بلاد خوارزم. فامتثل تيمور لأمره فورًا؛ فانطلق زاحفًا بجيشه على منطقة خوارزم. ونجا بذلك من خطّةِ اغتيالٍ كان قد دبّرها أعداؤه. إذ أنّهم وصلوا إلى معسكره وقد غادره. فلم يتمكّنوا منه«. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi, vol.11 Pg.28.
يستدلّ النقشبنديّون الأتراك بهذه القصّة أنّ الملك تيمور عرف أنّه كانت نجاته بفضل كُلال بن حمزة، فيعدّونها من جملة كراماته. ويزعمون أنّ الملك تيمور قد أراد أن ينصبه أميرًا؛ فلم يوافقه استعفافًا وزهدًا في الدنيا وحطامها.(64/265)
وعلى الرغم من كلّ هذه الحكايات، فإنّ كُلالَ بنَ حمزةَ لم يرد عنه أنّه تعبّد على أساليب النقشبنديّين؛ أو تكلّم عن آدابهم ومصطلحاتهم؛ لم يرد عنه ذلك حتّى في الوثائق الّتي خلّفها شيوخ هذه الطائفة.
***
* الحلقة الخامسة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
إنّ هذه الحلقة يمثّلها شخص يعظّمه النقشبنديّون، ويصفونه بأسمى درجات الكمال؛ ويعتقدون فيه أنّه ترقّى إلى أعلى مدارج الولاية وكاد أن يكون نبيًّا! وينسبون إليه طريقتهم ويتسابقون في الثناء عليه.
هذا الرجل هو محمّد بهاء الدين بن محمّد بن محمّد البُخَاريّ المعروف بين هذه الجماعة بلقب "شاه نقشبند" أو "خواجه نقشبند".
يتفنّن عبد المجيد الخانيّ في مدحه وتعظيمه بعباراته المسجّعة، فيقول:
»بحر من العرفان لا ساحل له؛ نسجت أمواج أمواه العلوم الربّانيّة حلله؛ وفاض على العالمين بحر برّه؛ فأروى بأرواح إمداده جميع الكون بحره وبرّه«.
يسترسل المؤلف على هذا النمط إلى أن يقول:
»إرتضع ثدي التصرّفات الغوثية وهو في المهد صبيًّا؛ وتضلّع من رحيق مختوم العلوم الختميّة بأكواب الإرثية؛ فلو لم تُختَم النبوّةُ لكان نبيًّا«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 125.
إنّ هذا الأسلوب الغريب المتكلّف، لغنيٌّ عن أيّ تفسير أو تعليق يُراد به تعريفُ ما يعتقده الشخص النقشبنديّ في هذا الرجل خاصّة، وفي جميع مشائخه عامّةً. وهذا من أقوى البراهين في الوقت ذاته على موقف النقشبنديّين من مفهوم الدين والإيمان والإسلام.(64/266)
على الرغم من أنّ النقشبنديّين قد بالغوا في وصفه ومدحه وكراماته ومناقبه بأقصى جهودهم، فانّ ترجمة هذا الرجل لم يرد في المصادر المعتبرة وكتب ثقاة الباحثين والمؤرّخين. وهذا يثير الشكوك في صحّة ما نُقِلَ حول شخصيته من كلّ الوجوه. وإنّما جميع ما نُقِلَ إلينا عن حياته من الأقاويل والأقاصيص فهو مقتَبَسٌ من كتاب الرشحات لرجلٍ حشويٍّ منهم لم يعاصره.
لا يخفى أنّ مشاهير الرجال من سائر طبقات البشر على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ومُعْتَقَداتهم وثقافاتهم، قد وردت أسماؤهم في كتب الوفيات والتراجم والأنساب والتواريخ. ولم يخلُ عصرٌ ممن أرّخ لأصحاب الشهرة مهما كانت اتجاهاتهم ومُعتقداتهم ومَواقفهم. لذا من الغريب أن يضيق تاريخُ البشر الّذي قد حوى آلافًا مؤلَّفةً من أسماء الأنبياء والعلماء والأُدباء والفاتحين والرواد والمصلحين والعباقرة والثوّار والطغاة؛ وحتّى المشهورين من أهل السفهِ والمجون والخلاعة والبخل والتطفّلِ؛ من الغريب جدًّا أن يضيق تاريخ البشر عن استيعاب مناقب هذا الرجل الّذي بذل النقشبنديّون ما عندهم من طاقات وجهود في الحديث عن عظمته وجلالة قدره. وذلك لإذاعة صيته وإشاعة اسمه وشهرته.
فقد قال عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في علوّ منزلته وشأنه ومكانته:
»فأعظم به من مجدّدٍ خفق قلب الخافقين فرحًا به؛ وأصبحت أكاسرة الملوك وقوفًا في رحابه؛ وملأ صيت إرشاده الملا؛ فلا وربّك لا يبقى أحد إلاّ استمدّ من إمداده حتّى وحوش الفَلا. فهو الغوث الأعظم، وعقد جيد المعارف الأنظم، انزاحت بأنوار هدايته أعيان الأغيار، وعادت الأشرار ببركة أسراره من أخيار الأعيان وأعيان الخيار« المصدر السابق.(64/267)
إلى هذه الدرجة يبالغ الخانيّ في إجلاله، ويتكلّف بهذا الأسلوب المزخرف لغرضٍ لا سند له في إثباته، إذ لا تقوم دعايته هذه على أساس من الحقيقة؛ ولا أصل لما يدّعيه بملءِ شدقيه؛ ولا حتّى لكلمةٍ من مقاله. لأن خواجه نقشبند، لا ذكر له في طبقات رجال العلم. ويُسْتَبْعَدُ أنْ يكون قد اشتهر في حياته. ولربما كان درويشًا مسكينًا يتصدّق عليه الناس؛ فعاش زمنًا في تلك المناطقِ بين قبائل الأتراك يتكفّف من هذا وذاك؛ ثمّ راجت حول اسمه حكاياتٌ نسجها القصّاصون من أمثال الأسرة الخانيّة للوصول إلى مآربهم من جمع المال والثروات، وازدياد الشهرة والجاه، واستغلال الضمائر؛ واستمالة القلوب؛ فتطوّرت الأقاويل؛ وتضخّمت الروايات مع الزمان؛ إلى أن تكوّنت من هذه الحكايات قاعدةٌ بُنِيَ عليها اختلاقُ شخصياتٍ أسطوريةٍ وأشكالٌ من عقائدَ غريبةٍ، ومناسكَ متباينةٍ تختلف عن شعائر الإسلام، سُمِّيَتْ أخيرًا بـ "الطريقة النقشبنديّة". كما يعترف معتنقوها بالذات أنّ هذه التسميةّ وقعت بعد محمّد البُخَاريّ المعروف بـ"شاه نقشبند". راجع المصادر التالية:
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 22.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة صز 12.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 8-9.
إنّ شخصية محمّد بهاء الدين البُخَاريّ أيضًا من خلال ما ورد عنه بقلم أتباعه لهي من أقوى الدلائل على مدى بُعد هذه الطريقة عن حدود الإسلام.
وربما كان خواجه نقشبند رجلاً تقيًا صالحًا ولكنّ أتباعه اختلقوا له صورة غير الّتي كان عليها، فأشاعوها بين جموع البسطاء لإكثار العدد - وهو مطلب كلّ منظّمة -؛ فظهرت شخصيته في صفات رجلٍ مشعوذٍ، مبتدعٍ ومتوغّلٍ في أنواع الضلالات. إذ ينقل عنه الخانيّ أنّه قال:(64/268)
»أمرني (أي أمرني شيخي) أن أشتغل بخدمةِ كلاب هذه الحضرة بالصدق والخضوع، وأطلب منهم الإمداد. وقال لي إنّك ستصل إلى كلب منهم تنال بخدمته سعادةً عظيمةً، فاغتنمتُ نعمة هذه الخدمة ولم آل جهدًا بأدائها حسب إشارته، ورغبةً ببشارته؛ حتّى وصلتُ مرّةً إلى كلبٍ، فحصل لي من لقائه أعظم حال، فوقفتُ بين يديه واستولى علىّ بكاءٌ شديدٌ، فاستلقى في الحال على ظهره، ورفع قوائمه الأربع نحو السماء. فسمعتُ له صوتًا حزينًا، وتأوّهًا وحنينًا؛ فرفعتُ يدي تواضعًا وانكسارًا، وجعلتُ أقول آمين، حتّى سكت وانقلب«. المصدر السابق ص/ 129، 130.
إنّ هذه القصة إذا صحّتْ عنه فلا تدلّ إلا على ضلالته وفرط شقاوته وخروجه عن جادّة الحق. لأنّ موقفه من الكلب بالصورة المذكورة لا تدلّ على امتثاله بما ورد في السنّة النبوية من الشفقة على خلق الله؛ بل كان موقفَ احترامٍ وتوقيرٍ للكلب واستمدادٍ منه. وهذا لا يتّفق مع روح الإسلام. بل هو من تقاليد مجوس الهند. فانّهم يعبدون الدوابّ. ولذلك قد حرّموا أكل اللحم على أنفسهم. فاقتصر النقشبنديّون الأوّلون على تعظيم الكلاب أسوة بهم دون تحريم اللحم. إلاّ أنّ المتأخرين من هذه الطائفة قد تصرّفوا في تعاليم أسلافهم فغيّروا منها الكثير
أمّا الإمداد والاستمداد، فإنّهما من جملة معتقداتهم الهامة وحلقة من الحلقات الأساسية لضوابط الإيمان في الديانة النقشبنديّة. يتمثل هذا المبدأ الروحانيُّ في مفهومهم بوجود قدرةٍ إلهيةٍ فائقةٍ يمتاز بها أولياؤهم؛ يفرّجون بها عن المغمومين والمكروبين والمقهورين بنوائب الدهر من مريديهم؛ ويتصرّفون بها في حكم الله وملكه - على حدّ اعتقادهم -.(64/269)
إذًا فكيف برجلٍ يطلب الإمداد من كلبٍ وقد يراه وليًّا من أولياء الله نائبًّا عنه بالتصرّف؛ أو حتّى مخلوقًا في منزلة الإنسان الّذي كرّمه الله وفضّله على جميع الخلائق، وأنعم عليه بالإيمان والعلم والعمل الصالح؛ فكيف برجلٍ هذه حاله حتّى يستحقّ الثناء أو يدخل في عداد المؤمنين؟!
ثم ينقل الخانيّ في موضع آخر من ترجمته أنّه »دعاه بعضُ أصحابه في بُخَارَى. فلمّا أُذّن للمغرب قال للمولى نجم الدين دادَروُكْ:
- أتتمثل كلّ ما آمرك؟
قال: نعم.
قال: فان أمرتُكَ بالسرقة تفعلها؟
قال: لا.
قال: ولم؟!
قال: لأنّ حقوق الله تكفّرها التوبة، وهذه من حقوق العباد.
فقال: إن لم تتمثّل أمرَنا فلا تصحبنا!
ففزع المولى نجم الدين فزعًا شديدًا، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأظهر التوبةَ والندم، وعزم على أن لا يعصيه أمرًا«. المصدر السابق ص/ 139.
هذا هو "الغوث الأعظم" عند النقشبنديّين؛ »فلولم تُخْتَمِ النبُوَّةُ لكان نبيًّأ« (في اعتقادهم). يفرض على مريده أن لا يعصيه أمرًا، وإن أمره بالسرقة! وهنا يتبيّن بكمال الوضوح أنّ شيخ الطريقة عند هذه الطائفة »هو وكيل الله ونائبه في ملكه«؛ له أن يتصرّف بما يشاء، وله أن يُحلَّ الحرام ويُحرِّم الحلال. لا يشكّون من ذلك قيد نملةٍ وإن كتموه ظاهرًا. فانّ التقيّةَ عند خاصّتهم أشد من تقية الرافضة!.(64/270)
ولا يُسْتَغرَبُ كما لو يتأوّلَ النقشبنديّون مفهومَ السرقة في هذه القصّة، فيقولون قيلاً: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا صدر منه أن تصدّى بجماعةٍ من أصحابه للاستيلاء على قافلة أبي سفيان التجارية. وذلك محاولة لصوصية من قبيل السرقة لولا أن كانت بوحي من الله تصديقًا لقوله تعالى {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم...} سورة الأنفال/7 إذن فهي بادرة تحوّلت من عملية غصب إلى عمليةٍ جهاديةٍ؛ أى من معصيةٍ إلى طاعةٍ بمجرد توجيه من الله! فالشيوخ أيضًا لا يتصرّفون إلاّ بتوجيه من الله.
ليس من الغريب أصلاً لو تصدّى أحدهم بمثل هذا الدفاع المفتَرَضِ. إذ أنّ باب التأويل عندهم مفتوح على مصراعيه، وأنّ تأويلاتهم لا تقلّ عن هذه الفرضية الواهية بطلانًا.
ورد في مصادر النقشبنديّة أنّ أركان طريقتهم الثمانية الّتي كان قد وضعها عبد الخالق الغجدوانيّ، أضاف إليها خواجه نقشبند ثلاثةً أخرى فغدت بذلك أحد عشر ركنًا.
كانت هذه خلاصةٌ لما سجّله النقشبنديّون حول هذا الرجل وما اعتقدوا فيه وما قالوا عنه بروايات أتباعه. فالذنب على من نقل واعتقد، إذا كان هو بريئًا عما نُسب إليه {إِنّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيِمَا كَانُوا فيَهِ يَخْتَلِفوُنَ.} سورة السجدة/25.(64/271)
أمّا وضعه الاجتماعيُّ فقد ورد في موسوعةٍ للنقشبنديّن أنه من أبناء الأسرة الهاشمية؛ وأنّه يتّصل نسبُهُ بالحسين بن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنهما. فقد يكون هذا من أهمّ الأسباب الّتي استغلها دعاةُ النقشبنديّة في نشر مذهبهم بين الناس. سواء أكانت هذه النسبةُ صحيحةً أم لا، فانّ كثيرًا من الناس طالما اتخذوا الإنتسابَ إلى البيت الهاشميِّ وسيلةً لاستغلال ضمائر الناس في تحقيق المصالح عَبْرَ القرون؛ وخاصّةً في المناطق الّتي عمّ فيها الجهل والبدع وانتشر فيها المغرضون وأربابُ الحِيَلِ يدَّعون الإنتسابَ إلى الأسرة الهاشمية لاستمالة قلوب البُسطاءِ والرعاع. يبدو أنّ نزعة الإنتساب إلى الهاشميّين قد شاعت بعد أن عُرِفتْ هذه الأسرة بالسيادة الخاصّةِ وأصبح الإعتزاز بالآباء المشهورين من العادة. ويشير إلى ذلك ما ورد في مقدمة الناشر للكتاب المعروف »أنساب الأشراف" تأليف أحمد بن يحيى البلاذري أنه »يطلق الشريف في اللّغة على الرجل الماجد، أو من كان كريم الآباء. ثم أُطلِقَ لقب الشريف على من كان من آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاملاً العلويّين والجعفريّين والعباسيّين. ومن الناس مَنْ قصّره على ذرية الحسن والحسين على أنّ التخصيصَ بآل البيت وبخاصّةٍ نسل علي، لم يشتهر إلاّ في القرن الرابع الهجريِّ؛ ويغلب أنه كان في أواخره«.
فما أكثر الأدعياء من أمثال ميمون بن ديصان القدّاح اليهوديّ الّذي كان يدّعي أنه هاشميٌّ، فما أكثر أمثالُهُ بين الأعجام وفي البلاد الّتي انتشرت فيها الطرقُ الصوفيّةُ، وازدادت فيها نشاطاتُ السحرة والمشعوذين((64/272)
أمّا جميع ما نُقل إلينا من مناقب خواجه نقشبند وأقوالِهِ، فانه لا يخلو عن الشكّ في النسبة إليه. ولم يثبت منه شئٌ بالدليل القاطع أنّه من كلامه، مما يغلب أنّه كان أمّيًّا. يدلّ على ذلك قيامه بخدمة أميرٍ اسمه خليل آتا مدةَ ستِّ سنين بعيدًا عن العلم وأهله؛ حتّى آل ملكُهُ إلى الزوال.
أمّا نسبته إلى البيت الهاشميّ، فمشكوك فيه أيضًا. لأنّ أبناء هذه الأسرة، قلّ من يجهل منهم اللّغة العربيةَ. بينما بَلَغَنَا »أنّ جدَّتَهُ قد بشّرته بنصيبٍ يناله من شيوخ التُّرْكِ«، حين فسّرت له ما قصّ عليها من منامه. وهذا من قبيل الاعتزاز بالعشيرة. ولا يعتز الإنسان إلاّ بقومه؛ كما ينطبق نفس الأمر على شيخه كُلال بن حمزة أيضًا.
وهنا تعترضنا عَبْرَ هذا التحليل موجةٌ من التعارض بين مواقف النقشبنديّين وأقوالهم ورواياتهم، سوف نتطرّق إليها في بابها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
هذا، ومع أنّ النقشبنديّين لم يتوانوا عن نقلِ كثيرٍ من حكاياتٍ أسطوريةٍ بعنوان الكرامات ضمنَ ترجمة خواجه محمّد البُخَاريّ، ولكنهم قد أمسكوا عن تسجيل أدنى إشارةٍ تدل على أنّه تكلّم عن الرابطة، أو الختم الخواجكانية، أو السلسلة، أو عدِّ ألفاظِ الوردِ بالحُصِيِّ, إلاّ ما سبق إليه الكلام أنّ المصطلحات الثلاثة الّتي أضيفت إلى أركان الطريقة النقشبنديّة، هو الّذي وضعها على ما ورد في مصادرهم. وهي "الوقوف الزمانيُّ" و"الوقوف العدديُّ" و "الوقوف القلبيُّ" راجع الفصل الثاني/ آداب الطريقة النقشبنديّة، باب "المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة وأسرارها".
***
* الحلقة السادسة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
جاء فيما كتبه النقشبنديّون، أنّ هذه الحلقة يمثّلها رجل خوارزميٌّ من سكّان بُخَاريّ أسمه علاء الدين العطّار.(64/273)
يغلب أنه تركيّ الأصل كسائر الروحانيّين الّذين ظهروا في هذه المنطقة. إلاّ أنّ حياته وشخصيته الحقيقية غير مذكورة في تراجم الرجال. وعلى الرغم مما يزعمه المتأخرون من شيوخ هذه الطائفة أنّه »اختار التجرّدَ لتحصيل العلوم في مدارس بُخَارَى حتّى نبغ في جميع الفنون وبلغ منها فوق ما تتعلّق به الظنون...«؛ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 144. إلاّ أنّ هذه الرواية لا سند لها، كما تبدو في الوقت ذاته أنّها بعيدة عن الحقيقة. لأنّ علاء الدين العطّار، لو كان له أقلّ نصيب من العلم لظهرت ثمراته، وَلَوَصَلَتْ إلينا ضمنَ إنتاجِ مَنْ عاصره من العلماء كالشريف الجرجانيِّ الّذي نقل عنه نور الدين عبد الرحمن الجامي أنّه قال:
»لمّا اتصلتُ بالشيخ زين الدين علي كُلال، خلصتُ من الرفض؛ و لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين العطّار عرفتُ الله تعالى«. المصدر السابق ص/150.
وقد يسأل سائل: بأنّ عالمًا مثل الجرجانيِّ يعترف بقدر هذا الرجل، ويقول » لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين العطّار عرفتُ الله«، مع أنّ هذه الكلمة لا يجرؤُ على التّفوّهِ بها إلاّ الزنادقةُ؛ لأنّهم يعنون بها التعرّف إلى ذات الله؛ فكيف يجوز لنا أن لا نشكّ في أمر الجرجانيِّ؟(64/274)
قلتُ: أقرّ الجرجانيُّ أوّلاً على نفسه بهذه الكلمات الواردة عنه بالذات أنّه إنّما خلص من الرفض لمّا اتّصل بالشيخ زين الدين عليِ كُلال. ومعنى ذلك أن غزارةَ علمه - الّتي تشهد عليها تصانيفُهُ القيمةُ -، خيرالدين زركلي، الأعلام، ج. 5/ص/ 7. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م. لم تُغن عنه شيئّا، فلم تخلص به من ضلالة الرفض، ولكنّه خلص بعد ما اتّصل بالشيخ زين الدين! لقد تظهر عقليةُ الجرجانيِّ وطبيعتُهُ العاطفيةُ بكمال الوضوح من خلال هذا التحليل. فهو كما قيل »علمه أكثر من عقله« فكيف إذن نضعه موضعَ ثقةٍ وهو يأتي باعتراف أشد وبالاً عليه إذ يقول »لمّا وصلتُ إلى الشيخ علاء الدين عرفتُ الله تعالى. وقد مرّ أنْ شَرَحْنَا مفهومَ "المعرفة بالله" في عقيدة الصوفيّة. راجع مفهوم "المعرفة بالله" في باب "مفاهيم ومصطلحات ومعتقدات أخرى عند هذه الطائفة" من الفصل الثالث.
كان علاء الدين العطّار من أبناء رجلً غنيٍّ في مدينة بُخَارَى. »لمّا توفّي والده ترك ثلاثة أنجال. خرج من ميراثه لأخويه.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 150. واختار أن يدخل غمار التصوّف بإيعاز من محمّد بهاء الدين البُخَاريّ. وأعرض عن ملازمة العلم كَعَدِيدٍ من رجال هذه السلسلة.(64/275)
طالما بذل النقشبنديّون جهودَهم ليحشدوا من أخبار قدمائهم في طيّات ما قد صنّفوه. ولكنهم لم يتوصلوا إلى معرفةٍ تفصيليةٍ عن حياةِ عددٍ كبيرٍ منهم. لأنّ شيوخهم الّذين عاشوا قبل أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، في الحقيقة لم يكونوا من ذوي الجاه والشهرة في العهد والمنطقة اللّتين قضوا فيهما حياتهم. بل كل ما نُسب إليهم من الفضل والكرامة والعلم والزهد، إنّما افترضه واختلقه ذوو الأهواء من أخلافهم الّذين طمعوا في الاشتهار بعد ما علموا أنهم لن يتمكّنوا من ذلك إلاّ بالانتساب إلى من يُوَقِّرُهُ الناسُ. فنسجوا حكاياتٍ أسطوريةً حول أسماء بعض الدراويش الّذين كانوا قد ذهبوا مع الريح، ولم يعلم أحد أين وقعت عظامهم ورفاتهم. ثم افترضوا لهم أضرحةً فبنوا علها قِبَابًا ضخمةً هابت منها الناس وعظَّمَتْهَا وقدَّسَتْهَا.
ومن جملة هؤلاء الدراويش، علاء الدين العطّار. فانّ الحكايات المنسوجة حوله، لا يتسلى بها العاقل ولا يقتنع بها العالم. ومع ذلك لم يرد ضمنَ هذه الترجمة أدنى إشارة إلى أنّ علاء الدين العطّار قد تعبّد على أسلوبهم أو تكلّم عن مصطلحالتهم وتعاليمهم وآدابهم.
***
* الحلقة السابعة عشرة من سلسلتهم.
هذه الحلقة يمثّلها رجل اسمه يعقوب بن عثمان بن محمود الجرخيّ.
ولد الجرخيّ بقرب غزنين. وهي مدينة من مدن أفغانستان. تقع بين قندهار وكابول. وتوفّي في قرية هلفتو في تلك المناطق عام 851. من الهجرة. وأمّا تاريخ ولادته، فلم يتمكّن أحد من إثباته حتّى النقشبنديّون أنفسهم. إلاّ أنّ من بين رجال هذه الطائفة في تلك الحقبة لعلّ أبرز شخصية جرى قلمُ البحث في أحواله هي شخصية يعقوب الجرخيّ لأسباب هامّةٍ.
منها، قيل إنّه درس وتعلّم »ورحل لتحصيل العلوم إلى هراة، ثمّ إلى مصر المحروسة، وتلقّى العلوم الشرعية والعقلية عن علمائها. ومن أعظمهم علاّمة عصره الشيخ شهاب الدين الشيرواني.« المصدر السابق ص/155.(64/276)
هكذا ينقل عبد المجيد الخانيّ في ترجمته. ومهما كانت هذه الأقوال بعيده الاحتمال فقد نُسبت إلى يعقوب الجرخيّ رسالة عنوانها "الرسالة الأُنسية"، تدلّ على أنّه كان يحسن القراءة والكتابة ولو بالفارسيّة، - إذا صحّ إسنادها إليه -. لأنّه لو صحّ ذلك، لكان ورد اسمه ضمنَ تراجم الرجال في تصانيف الباحثين غير النقشبنديّين. وعلى اقل تقدير، فانّ أوّل باحثٍ منهم عليّ بن الحسين الواعظ قد اهتمّ بهذا الرجل، وأولاه شأنًا في كتابه "الرشحات" وهو أقدم مصدر يعتمد عليه النقشبنديّون.
جاءت في كشف الظنون عباراتٌ يقول فيها المصنّف »رشحات عين الحياة - فارسيّ - في مناقبِ النقشبنديّةِ ورسومِ طريقتِهِمْ ضمناً. لحسين بن عليّ الواعظ الكاشفيّ البيهقيّ المشتهر بالصفيِّ. قال "ولمّا شُرّفْتُ بصحبة الشيخ ناصر الدين خواجه عبيد الله مرة سنة 889 (تسع وثمانين وثمانمائة)، وأخرى في سنة 893 (ثلاث وتسعين وثمانمائة)، وكتبتُ ما استفدتُ في مجلسه الشريف، أردتُ أن أجمع في ضمن مناقبهم العلية."« مصطفى بن عبد الله (حاجي خليفه)، كشف الظنون 1/903. وزارة المعارف. تركيا-1941.
ثبت بهذا أنّ باحثًا مؤرّخًا يخبر أنه اجتمع بشيخٍ من قدماء هذه الطائفة مرّتين. وهو عبيد الله الأحرار الّذي حلّ مقام يعقوب الجرخيّ شيخًا للطائفة النقشبنديّة. وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. يدلّ هذا على شأن الجرخيّ في الوقت ذاته.
ومن الأسباب الّتي تُثير الاهتمامَ بهذه الشخصية، هو أنه معاصرٌ لخواجه نقشبند - الّذي تُنسَب إليه الطريقة النقشبنديّة-؛ وأنه صاحبه وتلقّى منه آدابَ هذه الطريقة.
فانّ اعتقادَه العميقَ بأستاذ أستاذه خواجه نقشبند، يبدو من خلال ما ينقل عنه بالذات، فيقول:(64/277)
»أقبل عليَّ بوجهه الكريم؛ فوجدتُ له هيبةً في نفسي وعظمةً في قلبي، وجلالةً في نظري حتّى لم أطق الكلامَ في حضوره. فقال لي قُدّس سرُّهُ؛ ورد في الأخبار: العلم علمان؛ علم القلب وذلك العلم النافع، عَلِمَهُ الأنبياءُ والمرسلون؛ وعلم اللسان، وذلك حجة الله على خلقه. وأرجو الله تعالى أن يكون لك نصيب من علم الباطن. ثمّ قال ورد في الخبر إذا جالستم أهلَ الصدق فجالسوهم بالصدق فانّهم جواسيس القلوب يدخلونها وينظرون إلى قلوبكم.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 155.
إنّ نسبة هذه العبارات إلى خواجه نقشبند، وإن كانت لا تقوم على برهان قاطع، ولكنها تدل على معرفةٍ دقيقة للنّاقل، على أنه يمتاز بمهارة في فنون الأدب والبلاغة والإنشاء، - طبعًا إذا كانت هذه الترجمة العربية مطابقةً للنّص الفارسي من كلام يعقوب الجرخيّ –
ولعلّ أهمّ الأسباب الّتي تُثير الاهتمامَ بشخصية يعقوب الجرخيّ، هو أنه أوّل من نطق بكلمة "الرابطة" وإنْ ظلّت الرابطة محصورةً في نطاق تصوّرٍ محدودٍ في عهده.
كلّ هذه المُعطيات نستدلّ بها على أنّ لهذا الرجل دورًا هامًّا في بناء هذه الطريقة الصوفيّة. لأنّه قد رأى في نفسه حقَّ التصرُّفِ، فأضاف إليها مبدءًا أصبح فيما بعد من أهمّ أركان العقيدة النقشبندية.
***
* الحلقة الثامنة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة لا تقلّ شأنًا عن الحلقة السابقة للسلسلة بدءًا من خواجه نقشبند. يمثّلها رجل اسمه ناصر الدين عبيد الله الأحرار بن محمود بن شهاب الدين.(64/278)
ولد خواجه أحرار عام 806 من الهجرة الموافق 1403 من الميلاد بمدينة طاشكند في غضون الحروب الّتي نشبت بين تيمورلنك وبين أبي يزيد يلدرم بن مراد العثمانيّ. وتوفي عام 895 هـ. الموافق 1490م. بمدينة سمرقند. وهو تركيّ الأصل كسائر رجال السلسلة الّذين ظهروا في تلك المنطقة. ويزعم بعضهم أنّ أمّه تتصل بعُمر بن الخطاب نسبًا.
يمتاز الأحرار بمكانته الاجتماعية وقدرته المالية على الرغم من إعراضه عن الدراسة والتعلم. جاء في ترجمته أنّه تَرَبَّى في حجر خاله الشيخ إبراهيم الشاشي. ويقول الأحرار عن خاله هذا:
»لم يألُ جهدًا في أن أتعلّم حتّى أرسلني من طاشكند إلى سمرقند رجاء ذلك. فكنتُ كلما ذهبتُ إلى الدرس أصابني مرض يمنعني عنه. فذكرتُ له حالي، وإنّك إن كلّفتني بالتحصيل ربما أموت. فتوقّفَ، وقال يا ولدي أنا لم أعلم حقيقة حالك، فاذهب وافعل ما تريد. وأردتُ أن أقرأ يومًا فرمدتْ عيناي؛ ولم أزل كذلك خمسة وأربعين يومًا. فحينئذ تركتُ، ولم أصل في القراءة إلاّ إلى المصباح في النحو.« المصدر السابق ص/157.؛ علي بن الحسين الواظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/ 424. ولعلّ الكتاب المذكور هو المصباح للإمام ناصر الدين عبد السيد المطرزي المتوفى سنة 610 هـ.
بهذا نهتدي إلى أنّ شيوخ النقشبنديّة قد ألمّوا بالدراسة والتعلّم بدءًا من عبيد الله الأحرار على الرغم من احتقارهم للعلوم العقلية واكتفائهم بقليل منها. ورد في مكتوبات الربّانيّ أنّ له رسالة فارسية بعنوان "الفقرات" أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المكتوبات. 187.
يمتاز عبيد الله الأحرار خاصّة بعلاقاته مع ملوك عصره، وبتداخُله في مناسباتهم وخلافاتهم. يقول في ذلك عن نفسه:(64/279)
»لو أنِّي تصدّرتُ للمشيخة ما أبقيتُ لأحد من مشائخ العصر مريدًا؛ ولكنّ الله أمرني بأمر آخر. وهو إنقاذ المسلمين من شرّ الظلمة وأيدي المخالفين. ولهذا خالطتُ السلاطين ابتغاء تسخيرهم لنفع المسلمين.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 166.
حقًا ليس للإنكار على هذا القول من سبيل، لولا قال »ولكن الله أمرني«. إلاّ أنّ الأحرار لم يتوقّف عند هذا الحدّ؛ بل تجاوزه بادّعاء غريب، قال فيه:
»أعطاني الحقُّ تعالى في التصرّف قوةً عظيمةً بحيث لو أرسلتُ ورقةً إلى ملك الخطى وهو يدّعي الألوهية، لجاء حافيًا بلا توقّف. ومع هذا لا أتصرّف في ملكه تعالى بقدر ذرة؛ بل أقف عند حدّ أمره عزّ وجلّ. فانّ من آداب هذا المقام أن تكون إرادتُكَ تابعةً لإرادته جلّ وعلا، لا العكس.« المصدر السابق ص/ 166.
يتظاهر الأحرار في نهاية هذه العبارات باعتقادٍ لا يخالفه مسلم. وهو الّذي أظهر في قوله »أن تكون إرادتك تابعةً لإرادته جلّ وعلا.« ولكنّ هذا الاعتقاد يتعارض مع ما أفصح به في مستهلّ كلامه »أعطاني الحقُّ تعالى في التصرّف قوةً عظيمةً...«!(64/280)
انتقلت إلينا جلّ المعلومات الخاصّة بالأحرار عن طريق عليّ بن الحسين الواعظ صاحب كتاب الرشحات وهو عديل نور الدين عبد الرحمن الجامي، أى زوج أخت امرأته. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 13/263 ومرّ ضمنَ ترجمة يعقوب الجرخيّ، أنه زار عبيد الله الأحرار مرّتين كما ورد في موسوعةٍ للنقشبنديّين، أنه أقام سنين في مجالس الأحرار. المصدر السابق 13/123؛ راجع ترجمة عبد الرحمن الجامي، خير الدين زركلي، الأعلام 3/296. ولا غرو أن من أسباب شهرة الأحرار، احتفاء العلماء به؛ وعلى رأسهم نور الدين عبد الرحمن الجاميّ. ورد في الرشحات أنه اجتمع به أربع مرّات وراسله مرارًا. علي بن الحسين الواعظ، رشحات عين الحياة ص/ 213-215. وما قيل عنه أنّه تدخّلَ في مصالحة الملوك، يغلب أنّ له أساسًا من الصحة. حيث جاء ذلك في كتاب الرشحات بصراحةٍ وتفصيل. المصدر السابق ص/ 425، 426.
إنّ عبيد الله الأحرار هو ثاني من أقرّ الرابطة من رجال هذه الطائفة؛ وزادها شأنًا في الطريقة. لأنّه بدأ يلقّنُها المريدين كما يشهد على ذلك قول عبد المجيد بن محمّد الخانيّ إذ يقول:
»المير عبد الأول هو صهره الأطهر، والوارث لسرّه الأنور؛ اشتغل برابطته سبع سنين.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 169. ولكن لا نعتقد أن تكون الرابطة قد تحولت إلى ركن للطريقة في تلك الحقبة على خلاف ما يدّعيه النقشبنديّون. ويزعمون أنّ الطريقة تسمّت بالأحرارية بدايةً من عهده إلى زمن أحمد الفاروقيّ السرهنديّ.
كل هذه المعطيات تبرهن على أنّ عبيد الله الأحرار كان رجلاً مرموقًا، ذا شأنٍ ومكانة في بلاد ماوراءالنهر؛ وكان أوسع شهرةً من أسلافه؛ بحيث قفزت الطريقة النقشبنديّة إلى إسطنبول بجهود تلميذٍ له يُدعى عبد الله الإلهي.(64/281)
ورد في رسالة للشيخ قسيم الكُفْرَويّ: أنّ ملوك المغول الّذين ظفروا بإقامة دولةٍ لهم في الهند، كانوا على صلةٍ قويّةٍ بأبناء عبيد الله الأحرار وخلفائه، أسوةً بسيرة آبائهم مع الأحرار. Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? Pg. 82 Türkiyat Enstitüsü No. 337 ?st.-1949
***
* الحلقة التاسعة عشرة من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة هو القاضي محمّد زاهد البدخشيّ. استخلفه الأحرار لمكانته عنده؛ وربما لقرابته إلى يعقوب الجرخيّ (شيخ الأحرار). لأنّ قاضي محمّد زاهد هو ابن أخت يعقوب الجرخيّ.
توفي البدخشيُّ سنة 936. من الهجرة، الموافق لعام 1529 من الميلاد بقرية الوحش من ضواحي قصبة الحصار على مقربة من مدينة سمرقند. أمّا تاريخ ولادته، فانّه مجهول.
صحب عبيدَ الله الأحرار اثنى عشر عامًا و»صنّف كتابًا في فضائله وشمائله سمّاه سلسلة العارفين وتذكرة الصدّيقين.« * عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 175. وينسب إليه كتاب آخر بعنوان "المسموعات" ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 14/149 جمع فيه ما سمع من شيخه عبيد الله الأحرار.
يبدو من عبارات مَنْ ترجم له أنه قد درس وتعلّم، ولكنه أعرض عن دراسة العلم بعد أن التقى بخواجه أحرار؛ فانثنى إلى التصوّف والسلوك في الطريقة النقشبنديّة.
هذا ومع أنّه معروف بالقاضي، لا نعلم ما إذا تولّى منصبَ القضاء في حياته، أم كان ذلك مجرّد لقبٍ أُطلقَ عليه لمناسبة ما. إنّ البدخشيَّ والحلقتين بعده، لم يتمتّعوا بالشهرة المتعارفة لشيوخ النقشبنديّة بدءًا من الأحرار حتّى يومنا هذا؛ وربما لعدم توغّلهم في التصوّف والشعوذة.
***
* الحلقة العشرون من السلسلة النقشبنديّة.(64/282)
يلوح لنا من خلال متابعتنا لسلسلة الروحانيّين في هذه الطريقة، أنّ القرابة الصهرية والنسبية بدأت تؤثّر على رأيهم بعد إمامهم خواجه نقشبند وأصبح استخلاف الأقارب من العادة الشائعة عندهم. بينما كانوا سابقًا يتلقّون عقائدهم من أبعد الناس إليهم، وحتّى من الأموات - على حدّ قولهم -.
إذ نكتشف أنّ محمدًا البدخشيَّ قد حلّ مكان عبيد الله الأحرار. ولعلّه أحرز هذا المقام لقرابته ممن استخلف الأحرار كما ذكرنا آنفًا. ثمّ نكتشف أن محمدًا البدخشيَّ هو الآخر قد استخلف الدرويش محمدًا السمرقنديّ، وهو ابن أخته. فصار الدرويش بهذا الاستخلاف هو الحلقة العشرين للسلسلة النقشبنديّة.
إنّ هذا الرجل لا نجد له ولا لشيخه ذكرًا في تراجم الرجال. وهو تركيّ الأصل كسائر أسلافه الّذين ظهروا في هذه المنطقة.
مات الدرويش محمّد السمرقنديّ عام 970 من الهجرة الموافق لسنة 1562 من الميلاد. أمّا تاريخ ولادته، فلم يقف عليه أحد حتّى النقشبنديّون أنفسهم.
***
* الحلقة الحادية والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
جرت العادة نفسها في استخلاف هذا الرجل أيضًا إذ هو ابن درويش محمّد السمرقنديّ؛ ولا ذكر له في التراجم، سوى ما جاء في بعض وريقات النقشبنديّين أنّ اسمه محمّد الخواجكيّ - بالكاف الفارسيّة -، وأنّه ولد عام 918 من الهجرة الموافق لسنة 1512 من الميلاد؛ ومات عام 1008 هـ. الموافق لـ 1599 من الميلاد.
يبدو أنه قد قضى جميعَ حياتهِ في قريةِ أَمْكَنَهْ بضواحي مدينة بُخَارَى؛ وعاش تسعين عامًا معزولاً عن الدنيا وخاملاً في هذه القرية.
***
* الحلقة الثانية والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
قفزت الطريقة النقشبنديّة من بلاد التُّرْكِ إلى الساحة الهندية بوساطة هذه الحلقة. وهو الباقي بالله الكابُلى، خليفة محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ.(64/283)
ولد الباقي بالله سنة 971 من الهجرة (1563م.) بمدينة كابُل عاصمة أفغانستان اليوم. ومات عام 1012 هـ. الموافق 1603 م. بمدينة دلهي (جهانآباد) الهندية.
ورد في مصادر النقشبنديّين أنّه سافر إلى سمرقند، وتعلّم على الشيخ صادق الحلوائيّ. ولكن لا ذكر له ولا لهذا الشيخ في تراجم الرجال. وأعرض عن الدراسة استخفافاً بالعلم كعامّة أسلافه بإقرار مَن ترجم له من أعيان هذه الطائفة. مع ذلك يحاول النقشبنديّون أنْ يُفَخِّموُهُ ويجعلوه من ذوي الشأن والمكانة في عصره كعادتهم في مدح سائر مشائخهم.
ورد في موسوعةٍ لهم »أنّ شخصيةً اسمه عبد الرحمن خان المشتهر بـ (خانِ خانان)، كان على كمال المحبّةِ له وعالقًا به.« المصدر السابق 16/75. وكلمة "خان خانان" فارسية معناها ملك الملوك. غير أننا لا نعثر على شئٍ من الاشتهار لهذا الاسم في تلك الحقبة والمنطقة. بل كانت مقاليد الأمور يومئذ في الساحة الهندية بيد الطاغية المغول جلال الدين محمود المشتهر بـ "أكبر شاه"، ملك الدولة الّتيمورية. ومعلوم أنّ الملك المذكور كان شديد العداوة للمسلمين من جراء ما وجد في شيوخ الصوفيّة من التعصب والتطرّف. فدفعه الأمر إلى قهر المسلمين وإذلالهم واضطهادهم، ومساندة المشركين الهندوس.
ومن جملة هذه المبالغات في تفخيمه والدعاية له قول عبد المجيد الخانيّ: »فأقبلَتْ إليه الأمم بما جذبهم من علوّ الهمم وقوّة التصرّفات الإلهية.«. ويدّعي أنّ قبره على غربي مدينة دلهي عند أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 178. والحقيقة أنّ النبيّ عليه السلام لم تطأ قدمُه الأراضي الهندية أصلا!
كان الباقي بالله على طبيعةٍ لا يأنِسُ إلاّ في الخرائب، يبحث عن أهل المسكنة من الدراويش والكسالى باعتراف من ترجم له من مفتتني هذه النحلة ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/67(64/284)
أمره شيخه الأمكنكيّ بالرجوع إلى بلاد الهند. فرجع وزاول نشاطه في بثِّ عقائد النقشبنديّة حتّى اتصل به رجل سرهنديٌّ اسمه أحمد الفاروقيّ. كان ذلك من أكبر حظوظه. لأنّه إنّما اشتهر بجهود السرهنديّ الّذي لعب دورًا هامًّا في استمالة قلوب الناس إليه بأسلوبه الخاصّ. ولمّا اشتهر مريده السرهنديّ، اشتهر هو الآخر بدوره.
وما قيل أنّ الشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ "شاه ولي الله الدهلويّ" قد مدحه في كتابه "الانتباه في سلاسل الأولياء" المصدر السابق 16/80. لا عبرة به، ولا ذكر لهذا الكتاب ضمن قائمة مصنّفات أحمد بن عبد الرحيم الواردة في كُتُب التراجم المعتبرة. راجع ترجمته: خير الدين زركلي، الأعلام 1/149. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛ * عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين: 1/169، 809. مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى، بيروت - 1993م. كما أنّ الدهلويّ هذا، هو أيضًا لم ينجُ من التأثّر بالعقائد الهندية على ما يبدو من محبّته لشيوخ الصوفيّة رغم باعه الطويل في علوم الحديث. وربما رجع عن رأيه فيهم.
وقد جاء في الحدائق الوردية لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ أن خالدًا البغداديّ قد زار ابنَهُ عبد العزيز الدهلويّ، أيامَ إقامته بالهند، فاستقبله بحفاوة. وَرَدَ ذلك ضمنَ ترجمة خالد البغداديّ في الكتاب المذكور. من الجدير بالإشارة هنا، إلى أنّ هذه النزعة هي القاسم المشترك بين غالب علماء الهند، حتّى السلفيّين منهم. ولهذا نلمس من آثار التسامح مع الصوفيّة فيما كتبه أبو الحسن الندويّ وغيره من النابغين على الساحة الهندية.(64/285)
أمّا قيام الباقي بالله بدعوة الناس إلى الطريقة النقشبنديّة في بلاد الهند، فغير واضحة المعالم، على خلاف ما يدّعيه النقشبنديّون. وربما كانت دعوته على غير الأسس الّتي وضعها رجال هذه الطائفة. لأنّ النقشبنديّين أنفُسَهم لم يذكروا: هل أنّه كان يمارس الرهبنة على أساس المبادئ الأحد عشر، وهل كان يأمر بإقامة حفلة "ختم الخواجكان" سوى ما ورد في الموسوعة المذكورة: أنّه كان يأمر مريديه بملاحظة صورته في ذهنهم فحسب. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/72
***
* الحلقة الثالثة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة
لقد بذل النقشبنديّون قصارى جهودهم في تفخيم مَنْ جعلوه رمزًا لهذه الحلقة من سلسلتهم حتّى سمّوه "الإمام الربّانيّ". ولا يجوز عرفًا أنْ يكون هو الّذي عظّم نفسَه بهذا العنوان على الرغم مما نُقل عنه وعن غيره من شيوخ هذه الطائفة من مدائحَ ذاتيةٍ لا تُسْتَحْسَنُ من أهل العلم والشأن بحجة التحدّث بنعمة الله. وهذا يدلّ على المستوى الأخلاقيّ لأرباب هذه النحلة، وأنّهم كيف يتصرّفون بالمدح والذم..
أمّا اسمه الّذي لم يشتهر به بعد أن طغى عليه عنوانه الشائع المذكور آنفًا، فهو أحمد بن عبد الأحد الفاروقيّ السرهنديّ. يزعم النقشبنديّون أنّه ينحدر من سلالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 179.(64/286)
ولد السرهنديّ عام 971 من الهجرة الموافق لسنة 1563 من الميلاد؛ وذلك في عهد "أكبر شاه" هو محمود جلال الدين أكبر شاه بن همايون بن ظهير الدين محمّد بابر شاه. ولد عام 1542م. وتولّى السلطنة عام 1556م. وهو ابن 14 عامًا. و مات في سنة 1605م. راجع ترجمته في كتاب "رجال الفكر والدعوة في الإسلام"، الجزء الثالث ص/ 63-111. لأبي الحسن الندويّ؛ دار القلم؛ الكويت-1994م.؛ التاريخ الإسلامي، لمؤلّفه محمود شاكر، الجزء الثامن ص/422-424. ثالث ملولك الدولة الّتيمورية المغولية في الهند. شاهد تلك الأحداث الرهيبة الّتي أقدم على إجرائها "الملك أكبر" للقضاء على الإسلام. غير أنّنا لا نعثر على مقاومةٍ أكيدةٍ وجادّةٍ للسرهنديِّ في وجهه إلاّ القدر اليسير الّذي جاء في سطور ضمنَ مقدّمة كتابه "إثبات النبوّة" كتبه عام 989هـ. نشرته مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1994م. وعلى أيّ حال فانّ دفاعه عن نبوّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - في وجه سلطان جائر ومارق، لا شكّ يُعَدُّ مثالاً من البطولة والغيرة الإيمانية الصادقة لولا أنّه عبث بالقِيَمِ وأطال واسترسل في مسائلَ فلسفيةٍ كلامية أَرْبَكَ بها كثيرًا من الناس حتّى التبس عليهم الحق بالباطل.
يتنافس النقشبنديّون في مدحه وإجلاله وتقديسه بأساليب غريبة على الإسلام. منهم محمّد مراد بن عبد الله القازاني راجع ترجمته: خير الدين زركلي، الأعلام 7/95. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛ وهو معرِّب الرشحات أيصًا. الّذي عرّب مكتوباته.
يقول القازانيُّ:(64/287)
»فهذه درر مكنونات منيفة برزت من أصداف عبارات المكتوبات الشريفة للإمام الربّانيّ، والغوث الصمدانيّ، والقطب السبحانيّ، والعارف الرحمانيّ، نقطة دائرة الإرشاد، رحلة الأبدال والأوتاد، قدوة الكمالات الأفراد، واقف الأسرار الإلهية، كاشف الدقائق المتشابهات القرآنية، برهان الولاية الخاصّة المحمّدية.« محمّد مراد القازاني’ المنتخبات، الديباجة ص/ 2. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1994م.
هذا الأسلوب، قد اعتاده النقشبنديّون في حديثهم عن كلّ من اتفقت كلمتهم على تعظيمه خاصّة بعد موته. ذلك أنّ المشهورين من شيوخهم، لم يكن أحدهم قد ذاع اسمه في حياته بالوجه الّذي يذكره ملايين النقشبنديّين بعد موته بهذا الأسلوب إلا قليل. كعبيد الله الأحرار وخالد البغداديّ. لا شكّ تُنبؤنا عادتهم هذه، عن العقلية الّتي تسود على اتجاههم وتفكيرهم في الإنسان وقيمته الشخصية. ولكن الّذي لابد هنا أن نتساءل عنه، هو قسطاسهم في تعظيم الإنسان وتبجيله بأوصاف لا يقره الإسلام بوجه من الوجوه. فليت شعري كيف عرف القازانيُّ أنّ أحمد السرهنديّ "واقف على الأسرار الإلهية"؛ وما عسى هي تلك الأسرار؟!
هذا، وحتّى ربّ العزة جلّ سلطانُهُ لم يمدح الّذين اصطفاهم على العالمين من عباده المرسلين بأمثال هذه الألفاظ مع جلالة قدرهم ومكانتهم عنده. وعلى سبيل المثال، فقد قال سبحانه في خطابه لنبينا محمّد صلّ الله عليه وسلّم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.} سورة القلم/4 ولم يقل له إنّك واقف على أسراري.
ويقول عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ في مدح السرهنديّ أيضًا:
»دُرَّةُ إكليل الأولياء العارفين، وغُرَّةُ جبين الأصفياء الغُرِّ الْمُحَجَّلين، كنز فضائل السلف والخلف، وجامع فرقان المحامد والمكارم والشرف، طور التجلّيات الذاتية، وسدرة منتهى العلوم الأحدية، ومنهل معارف الوراثة المحمّدية، ومظهر إرشاد الحقائق الأحمدية...«(64/288)
ولكن الخانيّ لم يتوقّف عند هذا الحدّ؛ بل ازداد تكلّفًا وتنطّعًا فقال:
»أخبر بوجوده رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال، يكون في أمتي رجل يقال له صلة. يدخل بشفاعته كذا وكذا...« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 178-179.
على الرغم من إطناب النقشبنديّين في مدح هذا الرجل وتعظيمه وإجلاله، وما حشو في بطون كتاباتهم من قصصٍ أسطوريةٍ بعنوان مناقبه وكراماته، فإننا لم نجد في كتب أرباب الدراسة والبحوث التاريخية شيئًا يبرهن على صدق هؤلاء الدراويش المتنطّعين، سوى سطورٍ يسيرةٍ لِباحثَيْن خير الدين زركلي و عمر رضاء كحالة. لا تعدو عن ذكر مولده وموته وأسماء مؤلّفاته فحسب.
أما أبو الحسن الندويّ الّذي أفرد مجلّدًا خاصّا في ترجمته، فلا عبرة به.
أولاً، لأنّه معروف بموقفه الحياديّ، وإعجابه بكل من اشتهر، سواء أكان على الحق أم على الباطل؛
ثانيًا، إنّه من أبناء وطن السرهنديّ، فلا غرابة إذن في إلمامه بصاحب الترجمة أكثر من أي باحث أجنبي، خاصّة فانّ الطبيعة المضطربة للعنصر الهنديّ لابد وأنْ يكون للندويّ أيضًا منها نصيب ولو بأقلّ نسبةٍ.
فقد شرح الندويّ أوضاعَ المرحلة الّتي عاش فيها السرهنديّ، وذكر المشاكل بالتفصيل، والمرارة الّتي ذاقها المسلمون يومئذ على يد الطاغية "أكبر شاه" المغولي ضمن الجزء الثالث من سلسلة "رجال الفكر والدعوة في الإسلام". إلاّ أنّه استقى أكثر معلوماته الخاصّة بالسرهنديّ من مصادر النقشبنديّين الحشويّين المتوغّلين في السجع والأساطير. وبالخلاصة يظهر أنّ الندويّ ليس من عادته الانتقاد، ولو على سبيل التنبيه والتصحيح.(64/289)
أمّا السرهنديّ، فقد ترك ورائه أكداسًا من رسائل متفرّقةٍ، بعثها إلى هذا وذك؛ لم يستقر في جميعها بجانب الصواب دائمًا. بل تذبذبت أقواله بين الحقّ والباطل كما سيشهد القارئ هذه الحقيقة في نماذج مختلفة منها أوردناها فيما يلي للمقارنة.
كتب السرهنديّ جميع رسائله باللّغة الفارسيّة سوى عدد قليل منها جدًّا. وعرّبها رجل اسمه محمّد مراد القازانيّ.
إنّ هذه الرسائل في الواقع لا تمثّل أيةَ قيمةٍ علميةٍ أو ثقافيةٍ أو أدبيةٍ بمحتوياتها. لأنها لا تأتي بشيءٍ جديدٍ، ولا تنحلُّ بها مشكلةٌ من مشاكلِ المسلمين؛ ولا تظهر المقاصد فيها بوضوح. يؤكد على هذه الحقيقة استغناء رجال العلم عنها. فلا تكاد تجد عالمًا من علماء المسلمين يعتدّ بها أو يستدلّ بشيءٍ من مضامينها. وإذا كان بعض الناس يتدارسونها، فانّهم جموع من البسطاء والنقشبنديّين الّذين لا يدخلون ضمنَ أهل العلم في حقيقة الأمر.
يتبيّن بوضوح أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ لم يبال بما سيُسْفِرُ عن كلماته وعباراته الّتي ألقاها على عواهنها وسجّلها بين الفينة والأخرى على هيئة رسائل وجّهها للنّاسِ. فجاءت آراؤه متضاربةً في الغايةِ. وعلى سبيل المثال، يقول في رسالةٍ بعثها إلى شخصٍ اسمه نظام التهانيسري:
»اعلم أنّ مقرّبات الأعمال إمّا فرائض، وإمّا نوافل. فالنوافل لا اعتبار لها في جنب الفرائض أصلاً. فانّ أداء فرض من الفرائض في وقت من الأوقات أفضل من أداء النوافل ألف سنة.« محمّد مراد القازاني، المنتخبات، مكتوبات الربّانيّ، الرسالة رقم/29.؛ أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام الجزء الثالث ص/220.
هذه كلمة حقٍّ ربما لا يختلف فيها أحد من المسلمين معه. ولكن يناسب هنا أن ننتقل إلى رسالة أخرى من مكتوباته الّتي وجّهها إلى شخصٍ اسمه محمود. يقول فيها:(64/290)
» فاعلم أيها المخدوم كلمة "المخدوم" عربية. إصطلحها الأتراك والفرس بمعنى الولد. وقولهم أيّها المخدوم! أي يا ولدي، أو يا بنيَّ. ولابد للإنسان من ثلاثة أشياء حتّى تتيسّر النجاة الأبدية: العلم، والعمل، والإخلاص. والعلم على قسمين: قسم المقصود منه العمل. وقد تكفّل بيانَه علم الفقه؛ وقسم، المقصود منه مجرّد الاعتقاد واليقين القلبيِّ. وذُكر هذا القسمُ في علم الكلام بالتفصيل على مقتضى آراء أهل السنّة والجماعة الّذين هم الفرقة الناجية. ولا إمكان للنّجاة ولا مطمع لأحد فيها بدون إتّباع هؤلاء الأكابر. فان وقعت المخالفة لهم مقدار شعرة، فالأمر في خطر أي خطر! وهذا الكلام قد بلغ من الصحّة مرتبة اليقين بالكشف الصحيح والإلهام الصريح«. محمّد مراد القازاني، المنتخبات، من مكتوبات الربّانيّ الرسالة رقم/59.(64/291)
لقد ظهر في سطوره الأخيرة من هذا التفسير الصوفيّ أنّ غرضه الحقيقيَّ لم يكن التأكيد على تلك الأشياء الثلاثة الهامّة، وإنّما كان همه وقصده أن يجلب الانتباه إلى الكشف والإلهام ليس إلا! ذلك لأنّ عامة الصوفيّة، والنقشبنديّين على وجه الخصوص، لا يتكلّمون عن شئٍ إلاّ ويربطونه بعلم الغيب، ولا يتصدّون للحديث في أمر إلاّ ويجعلون له قرينةً بعلمٍ سابقٍ، ولا ينقلون من قولٍ أو عملٍ عن شيوخهم إلاّ ويحملونه على إشارات ورموز منهم لما سوف يقع في مستقبلٍ من الزمان على أنّها من كراماتهم. وهكذا لو نطق أحدهم بكلمةِ حقٍّ لا يبرح حتّى يعبث بها فيجعلها مما ثبت بشهادة أهل الكشف والإلهام؛ كما سبق في عبارات السرهنديّ آنفًا؛ في الحين الّذي لم تكن هناك أدنى مناسبة بين الموضوع الّذي طرق إليه السرهنديّ، وبين الكشف والإلهام على الإطلاق. وهذه الحقيقة ثابتة بإقراره في كلامه المنقول بالذات. إذ قال بعد ما قسم العلوم إلى شطرين: »قِسْمٌ، المقصود منه العمل، وقد تكفّل بيانَهُ علمُ الفقهِ؛ وقسم، المقصود منه مجرّد الاعتقاد واليقين القلبيِّ. وذُكر هذا القسم في علم الكلام بالتفصيل.«
إذًا، فما الّذي يحتاج هنا إلى الكشف والإلهام؛ وما هي العلاقة بين هذه الألفاظ، وبين قوله »وهذا كلام قد بلغ من الصحّة مرتبة اليقين بالكشف الصحيح والإلهام الصريح«؟!!
ولهذا السبب، من نظر في دفاع أبي الحسن الندويّ عنه بأنّه »أثبت عَجْزَ العقلِ والكشفِ وقصورَهما في إدراك الأمور الغيبية« أبوالحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/171. دار القلم الكويت-1994م. اطّلعَ بالتأكيد، على مدى ارتباك السرهنديّ والاضطراب الّذي في كلامه، وتناقضاته مع نفسه؛ وأدرك أيضًا أنّ أبا الحسن الندويّ قد أحسن الظنّ بهذا الرجل دون رويّةٍ وبلا اعتماد على أي حجةٍ، بل قد باء بفشل ذريع في هذا الدفاع العاطفيّ الرخيص.(64/292)
لقد بلغ عددُ مكتوباته ستًّا وثلاثين وخمسمائة رسالة تشمل على ما سجّل من الغث والسمين؛ ووجّهها إلى ناسٍ أكثرهم الملالي والدراويش وأبناء الخانقاهات المُقَبِّعُونَ على أنفسهم في جوٍّ من الرهبنة، ومبتعدون عن الحياة الاجتماعية والسعي والإنتاج. وله عُجالاتٌ وكُتيباتٌ ورد أسماؤها في ترجمته، وهي:
رسالة المبدأ والمعاد، وإثبات النبوّة، والمعارف اللدنّية، وردّ الشيعة.
عاش السرهنديّ في عهد الطاغية المغول عدوّ الإسلام والمسلمين محمود جلال الدين المعروف بـ "أكبر شاه" الّذي كان متأثّرًا بالديانة البرهمية والزرادشتية، حتّى خلع ربقة الإسلام من عنقه واختلق دينًا شيطانيًّا على أساس الكفر بالوحي والنبوّات. فدعا الناس إليه؛ فلم يستجب له إلا ثمانية عشر رجلاً؛ على الرغم من إمكاناته الواسعة للدعاية والدعوة وتسحير العقول. فزاده ذلك غضبًا على الإسلام. فأوقع بالمسلمين وأرهبهم بأبشع مظاهر القهر و أشدّ أساليب الإذلال والتنكيل.(64/293)
من الجدير بالإشارة هنا للمناسبة إلى أنّ هذا الملك الدمويَّ الجاهل الزنديق إنما وقع في أحابيل الشيطان بتأثير مَنْ كانوا حوله يومئذ من علماء السوء وشيوخ الصوفيّة المتنافسين في احتلال المناصب والمتنازعين على المصالح؛ و بسبب ما كان يشهد من الخلاف والصراعِ بينهم؛ والابتذال في سلوكهم؛ والانحراف في عقائدهم وأفكارهم؛ مما جعله يفقد ثقته بهم. هذا على كثرة شيوخ الطرق الصوفيّة في الساحة الهندية؛ وعلى الرغم من اشتهار عدد منهم بالغوثية والقطبية في تلك المناطق؛ ومع هيبتهم على الناس وقدرتهم في توجيه المجتمع؛ بحيث لو اتّفقت كلمتهم لأرغموه على أن يمصَّ بَظْرَ أُمِّهِ! لأنّه كان يعظّمهم ويقف منهم موقف الإجلال والتوقير في المرحلة الأولى من حكمه. وليس معنى هذا أنّ السرهنديّ لم يعارضه. ولكنّ مشائخ الطرق الصوفيّة عامّةً، والسرهنديّ خاصّة لم يكونوا على شئٍ من صفات النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ من أخذ الأمور بالحكمة والحيطة؛ وبذل المال والمُهْجَةِ في ساعة الكفاح؛ والوقوف في وجه العدوّ بروح البسالة والبطولة؛ والمعرفة بفنون الجهاد والقتال حتّى يتمكّنوا من ردّ الأمور إلى نصابها.
لأنّ حياة الروحانيين تتميّز بالعزلة والصمت والمسكنة والرهبانية؛ فهي تختلف عن حياة الأنبياء والمرسلين، والتابعين لهم في سنّتهم وسلوكهم الّذين لا يبخلون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله عند ما يترتّب عليهم البذل بمقتضى الحال والظروف. فإنّهم أولياء الله {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.} سورة يونس/63.(64/294)
أمّا أولياء الصوفيّة، فلم يَسمع أحد من المؤمنين أنّهم دخلوا معركةً وقاتلوا لحظةً في سبيل الله. فهذا الغزاليّ ـ على سبيل المثال ـ الّذي تُعظّمه الصوفيّة بعنوان "حجة الإسلام"، وتبالغ في تفخيمه والثناء عليه، وتُشيد بذكر تصانيفه؛ »إنّه كان خلال الحروب الصليبية مشغولاً في خلوته تارةً في منارة دمشق وتارة في صخرة القدس، يغلق بابهما عليه في مدةٍ تزيد على سنتين. بل إنّ الغزاليّ شهد سقوط القدس في أيدي الصليبيّين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إليه في كُتُبه.« الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 91. الطبعة الثالثة. إسطنبول-1992م.
***
فلمّا تولّى نور الدين جهانكير بن أكبر شاه السلطنة فور موت أبيه لم يكن يومئذ للسّرهنديِّ شخصية بارزة في أوساط العلماء بالساحة الهندية، ولا كان يمتاز بشهرةٍ لدى علماء البلاط الملكيِّ. أقرَّ الندويّ بالذات عن هذه الحقيقة، في كتابٍ أفردَهُ لذكر حياة السرهنديّ ومع أنّه لم يدخل في هذا الموضوع إلاّ ليعظِّمَ من شأنه، وليؤكِّد أنّه "الإمام الربّانيّ"! اعترفَ بالواقع فقال: »إنّه لم يتوصّل إلى نقطة البداية للتأثير على أصحاب السلطة، وسياسة الدولة فيما يتعلّق بالإسلام والمسلمين، وتوجيه الميول والنزعات إلى الإسلام.« أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/139. دار القلم. الكويت-1994م.(64/295)
فمادام السرهنديّ لم يتوصّل إلى نقطة البداية للتأثير على أصحاب السلطة يومئذ ولم يستطع أنْ يحرّك ساكنًا؛ بإقرار هذا الباحثِ الهنديّ الْمُعْجِبِ به، والمؤكِّد على وصفه بـ »مجدّد الألف الثاني«؛ فما عسى إذن هي الأعمالُ التجديديةُ الّتي قام بها السرهنديّ؛ و ما هي آثارُهُ و إنجازاتُهُ - وقد بلغ من العمر اثنين وأربعين عامًا يوم تربّع جهانكير على عرش المملكة - ؟!! هذا بالإضافة إلى أنّ الملك جهانكير إنّما أمر باعتقاله بعد مضيِّ أربعة عشر عامًا على تولّيه السلطنة. وذلك سنة 1028 من الهجرة؛ وقد بلغ السرهنديّ يومئذ من العمر سبعًا وخمسين عامًا. زد على ذلك أنّ السبب الحقيقيَّ لاعتقاله ليس كما قيل هي مضامينُ رسالته الموجَّهة إلى شيخه، ومحتوياتُهَا الخطيرةُ الّتي أثار غضبَ الملك لما فيها مخالفة صريحة لروح الكتاب والسنّة، كما ليس رفضُهُ سجدةَ التحيّةِ للسّلطان هو السببَ الأصليَّ لاعتقاله بخلاف ما يزعمه النقشبنديّون. بل الذريعة الّتي اتخذها الملك لإصدار الأمر باعتقاله، هو ما كان يجري بينه وبين رجال البلاط من علاقات خاصّة، وما كان من حبّهم وإجلالهم له، كما يقول الندويّ أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/144. دار القلم. الكويت-1994م. » وما زال سلاطين المغول يتوجّسون خيفةً من مغالاة الناس في اعتقادهم وحبّهم وإجلالهم للمشائخ، والْتفافهم حولهم، وتهافُتهم عليهم تهافت الفراش على النور«.(64/296)
كل هذه الحقائق تدلّ على أنّ السرهنديّ لم يستحق ذلك الشأن العظيم الّذي يُعزىَ إليه بصفة »المجدّد لألف الثاني«. في الحقيقة إنّ النقشبنديّين وحدهم، هم الّذين خلعوا هذا العنوان عليه ليستفيدوا من طنينه وليواصلوا مسيرتهم بهذا الأسلوب من الاستغلال. ولو كان السرهنديّ مجدِّدًا بالمعنى الحقيقيِّ لحرّر الإسلامَ عما أُلصِق به من بدع البرهمية والبوذية؛ ولحارب شيوخَ الصوفيّة الّذين كانوا يدسّون تعاليم اليوغا في العقائد الإسلامية، كما يبرهن على هذه الحقيقة ما جاء في كلام أبي الحسن الندويّ بالنسبة للطريقة الشطّارية. إنّه يقول:
»وقد مزّجتْ هذه الطريقة لأوّل مرةٍ تعاليم اليوكا بالتعاليم الصوفيّة، واختارت من الأولى بعضَ الرياضيّات، والأورادَ، وحبسَ النفَسِ؛ ولقّنَتْ هذه التعاليمَ المريدين والسالكين؛ كما ضمّتْ إلى الطريقة علمَ السيمياءِ. وقد جاءت تفاصيل هذه الأوراد وشروح الرياضيات الخاصّة في الرسالة الشطّارية الّتي ألّفَها الشيخ بهاء الدين إبراهيم الأنصاري القادري، وتوجد قصيدة للشيخ محمّد الشطّاري في كتابه (كليد مخازن) - مفتاح الخزائن - تفيد عقيدة وحدة الوجود، وعدم التفريق بين المسجد والبيعة، والمسلم والبرهميِّ« المصدر السابق، 3/26، 27.(64/297)
أمّا ربّانية السرهنديّ، فهي أيضًا صفة لا نجد لها وجهًا من وجوه المشابهة بالربّانيّة الجامعة لصفات المؤمنين في كتاب الله العزيز. وإنّما الربّانيّون هم {الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الّذينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.} سورة الأنفال/2، 3. هم {الّذينَ قَالَ لَهُمْ الناسُ إِنَّ الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل.ُ} سورة آل عمران/173. هم الّذين يعترفون بذنوبهم، ويقرّون بالعجز والتقصير، ويرفضون الشهرة والسمعة والأبّهة والخدم والحشم، ولا يطمعون في الثراء والمكانة عند الناس؛ بل يحرصون ليحظوا بما عند ربهم؛ و{لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا.} سورة القصص/83. هم الّذين قال الله تعالى فيهم {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.} سورة الأحزاب/23.
أمّا الّذين بدّلوا دين الله بفكرة "وحدة الوجود" و "وحدة الشهود" و "الكشف" و "الإلهام" و "الأويسية"؛ وحرّفوه بممارسة أشكالٍ من مناسك مجوس الهند؛ كصلاة اليوغا الّتي سموها "الرابطة"، و "الختم الخواجكانية"، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على صورة شيخ الطريقة وما إليها من تقاليد عبدة الأوثان وطقوسهم؛ فكيف بنا أن نَعُدَّهُمْ من أبناء الأمّة المحمّدية والملّة الإبراهيمية الحنفاء؛ فضلاً عن أن يستحقّ أحدُهم صفة المجدّد لهذا الدين وهو غارق في عالم التصوّف والشعوذة والوهم والخيال!!(64/298)
إنّ هذا العالَمَ الغامض الوعر المشبوه الّذي نصطدم ببعض معالمه من خلال رسائل السرهنديّ، يثير انتباهنا نحو بلاد الهند الشهيرة بمجتمعاتها المتباينة، ولغاتها وعاداتها المتنوّعة، وتقاليدها الغريبة، وعقائدها الخليطة، وفلسفاتها المعقَّدَة، ورهبانها ومتصوِّفتها وسَحَرَتِهَا الطائشة المتزاحمة، وما إلى ذلك من مظاهرَ عجيبةٍ لا تتّصف بها بلدٌ آخرُ في بقية أنحاء العالم. وكذلك هذه الحقائق تفتح لنا نافذةً هامّةً إذا أطللنا منها على العالَمِ الهنديّ بكلِّ مظاهره، وبحثنا في طيّات تاريخه بِعُمْقٍ وإمعانٍ اصطدمنا بحقيقةٍ رهيبة أخرى. وهي أن الأكثرية من المجتمع الإسلاميِّ في تلك المناطق، قد تأثّروا قليلاً أو كثيرًا بالأفكار والديانات والعقائد والعادات والتقاليد الغريبة المتباينة والمتزاحمة على امتداد ساحاتٍ شاسعةٍ في الديار الهندية. وإذا كان "الملك أكبر" قد انبهر بالديانة البرهمية والزرادشتية تمامًا، فانّ ذلك لا يعني أنّ السرهنديّ لم يتأثر بشيءٍ منها وعلى الرّغم من دفاعه عن الشريعة المحمّدية وتحريضه على متابعة السنّة النبويّة من خلال رسائله المذكورة، إلاّ أنّنا نعثر في الوقت ذاته على مقالاتٍ له تستمدّ من لبِّ تلك العقائد الوثنية. وكأنّها تتسرّبُ من قلوب الفلاسفة والرهبان. يقول في إحدى هذه المقالات:(64/299)
»اعلم أنّ العناية الإلهية جذبتني جذب المرادين أوّلاً، ثم يسّرت لي طيَّ منازل السلوك ثانيًا؛ فوجدتُ الله سبحانه أوّلاً عين الأشياء؛ كما قال أرباب التوحيد الوجوديِّ من متأخّري الصوفيّة؛ ثم وجدتُ الله في الأشياء من غير حلولٍ ولا سريانٍ؛ ثم وجدتُ سبحانه معها بمعيّة ذاته؛ ثم رأيتُهُ بعدها؛ ثم قبلها. ثم رأيتُهُ سبحانه وما رأيتُ شيئًا. وهو المعنى بالتوحيد الشهوديِّ المعبَّرِ عنه بالفناء. وهو أوّل قدمٍ توضَع في الولاية، وأسبق كمالٍ في البداية. وهذه الرؤية في أيّ مرتبةٍ من المراتب المذكورة تحصل أوّلاً في الآفاق، ثم ثانيًا في الأنفس. ثم ترقيتُ في البقاء. وهو ثاني قدمٍ في الولاية. فرأيت الأشياء ثانيًا. فوجدتُ اللهَ عينَها بل عينَ نفسي. ثم وجدتُهُ تعالى في الأشياء، بل في نفسي؛ ثم مع الأشياء بل مع نفسي. ثم قبل الأشياء بل قبل نفسي. ثم بعد الأشياء بل بعد نفسي. ثم رأيتُ الأشياء وما رأيتُ الله تعالى أصلا. وهي النهاية الّتي هي الرجوع إلى البداية والعود إلى مرتبة العوام. وهذا المقامُ هو أتمُّ مقامِ دعوةِ الخلقِ إلى الحقِّ، وأكمل منازل التكميل والإرشاد لتمام المناسبة للخلق المقتضية لكمال الإفادة والاستفادة. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 180.(64/300)
هل يجد من ذاق حلاوةَ الإيمانِ بالله واليوم الآخر، هل يجد مَسْحةً من كلام أهل اليقين الصادق في هذه العبارات الخطيرة الّتي تُنبئ عن غطرسة قائلِها وتطاوله في وجه الحق سبحانه؟! تُرى ما الّذي جعله يتحدّى بهذا الادعاء الجريء؛ و ما الّذي دفعه ليتمرّد على الله بهذه الكلمات الّتي لا تدلّ بوجه من الوجوه على إيمانه بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الّذي ليس كمثله شئ؛ وما الّذي أغراه حتّى وجد نفسَه مضطرةً لتزخرف له ما لم يقل به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولا أحدٌ من العلماء المحقّقين الّذين لم يخرجوا عن جادّة الحق!
لعلّ السبب - على حسب رأيه - أنّ الّذي خُيِّل إليه هو نعمة من الله (!) لأنّه يذكر في مستهل مقال آخر له، الآيةَ الكريمةَ {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث.ْ} سورة الضحى/11. ثمّ يستطرد قائلاً: »كنتُ في حلقة الذكر مع أصحابي فخطر لي أنّي في قصور ونقص. فأُلْقِيَ إليَّ في الحال: أنّي قد غفرتُ لك ولمن توسّل بك بوساطة أو بغير واسطةٍ إلى يوم القيامة. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، رسالة المبدأ والمعاد ص/11.
يبدو بوضوح من هذه العبارات أنّ السرهنديّ كان يعاني حالاتٍ نفسيةً خطيرةً، إذ بلغت به المعاناة حتّى ادّعى أنّ الله أوحى إليه وقال له »إنّي غفرتُ لك ولمن توسّل بك بوساطة أو بغير واسطةٍ إلى يوم القيامة«.(64/301)
هذه الألفاظ الجريئة لا شك قد أحبط أعمالَ الباحثين الّذين شمّروا عن ساق الجدّ ليدافعوا عن السرهنديّ بأنّه لم يخرج من دائرة الكتاب والسنّة؛ خاصّة الّذين شاركوا النقشبنديّين في خلع العناوين المصطَنَعَةِ عليه، ووصفوه بالقطبية والغوثية، بل و بالمجدّدية؛ كما يبرهن على سطحية البحث الّذي تناول فيه أبو الحسن الندويّ حياة السرهنديّ، وعمّا كتبَ في الجزءَ الثالثَ من سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام. فإنّ الندويَّ -على الأقل- قد ألّفَ هذا الكتابَ بدون رويةٍ وتعمُّق.
***
يزعم النقشبنديّون، أنّ السرهنديّ جاء ليجدّدَ الإسلامَ؛ ولِيُعيد له طراوته وحيويته. ولهذا يعظّمونه بعنوان »المجدّد الألف الثاني«. كما يُطلِقون بهذه المناسبة اسمَ "المجدّدية" على الطريقة النقشبنديّة، بدايةً من عهده إلى زمن خالد البغداديّ. ولكنَّ التاريخَ يشهد على ما قد ذهب من جمال الإسلام وصفائه على يد السرهنديّ وخلفائه ربما أكثر مما أذهب به الطغاة الّذين أنزلوا ضربات قاصمة بالإسلام والمسلمين من أمثال الملوك الأمويين، والعبيديين، وهولاكو، وتيمورلنك، وأكبر شاه، وموشي غوميل السالونيكي!
وبالخلاصة فانّ رسائلَ السرهنديّ وعُجَالاَتِهِ تشتمل على أفكارٍ غريبةٍ، وعقائدَ خطيرةٍ، وآراءَ متناقضةٍ، وأساليبَ فلسفيةٍ وكلاميةٍ؛ يرتبك بها الجاهل ويتعجّب منها العالم وتستشكل على المخلص في حياده، فلا يكاد يستخلص صحيحَها من سقيمِها ليبرهن به على ما يعتقد في قائله من الاستقامة وحسن الالتزام بالكتاب والسنّة. وبالتالي فانّ حسن الظن به لايُغْنِي عن الباحث المحايد في محاولته لإبراء ساحة السرهنديّ مهما تأوّل أقوالَهُ.(64/302)
لاجرم أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ كان ذا شأن، ولكن ليس بعلمه؛ بل بِالْتفافِ جمهورٍ من حثالة الناس حوله؛ كغالب شيوخ هذه الطائفة. وربما لهذا السبب كان له تأثير على بعض الملوك ورجال السلطة. فقد جاء في موسوعةٍ للنقشبنديّين أنّه أرسل كتابًا كان قد ألّفه بعنوان "رد الروافض"، أرسله إلى عبد الله خان، ملك الأُزبك؛ يندّد فيه بالشيعة، ويرميهم بالحمق والسخافة؛ ويطلب من الملك المذكور أن يرسل كتابه هذا إلى العبّاس الصفوي شاه إيران. فإذا اعترف بما فيه وتاب، فبها. وإلاّ وجب قتاله. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/325 فامتثل الملك عبد الله خان لأمره وعرض الكتابَ على شاه إيران؛ ولكنّ الشاه رفض المطلوب منه بحكم الطبع. إذ ليس من السهل أن يتخلّى الإنسانُ عن عقيدةٍ تشرّبَها إلى أعماق ضميره منذ نعومة أظفاره، فيتبرّأ منها في لحظةٍ مهما كانت باطلة، ليعتنق عقيدة جديدة؛ وبخاصّة إذا اصطدم بإكراه على ذلك. ولا يخفى أنّ أعمال الإرشاد والدعوة لا تنتهي بالنجاح إلاّ بأسلوبه الخاص الّذي أوضحه الله تعالى في كتابه العزيز بقوله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين.َ} سورة النحل/125. ولكن يبدو أنّ الملك عبد الله خان قد اختار أسلوبَ الملوك على الأسلوب القرآنيِّ الحكيم بتأثير السرهنديّ. ذلك {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.} سورة النمل/34. فما كان من الطرفين إلاّ وحَمِيَ الوطيسُ بينهما ذهبت في غمرته ألاف من الضحايا!(64/303)
تأصّل بُغض الرافضة في قلوب النقشبنديّين بعد هذه الواقعة وأصبح ميّزة تتّصف بها السنيّة التقليدية وانتشر بانتشار الطريقة النقشبنديّة. وهو السبب الرئيس للخلاف والصراع والحروب المستمرة بين الأتراك والفرس عبر العصور. ولكنّ كثيرًا من الناس يجهلون أنّ هذه العداوة الّتي بثها السرهنديّ بين أتباع هذه النحلة، لم تنبت في قلبه لما كان يرى في عقيدة الشيعة من الخروج على الإسلام؛ بل نشأت بسببِ منافسِتِه لبعضِ رجالِ الْبلاطِ الملكيِّ الّذين كانوا من الشيعة. لقد كان بين السرهنديّ وبينهم صراع شديد على المصالح. فغلب تأثير الفريق الشيعي منهم على الملك جهانكير حتّى أوعزوا إليه بتنكيله؛ فأمر باعتقاله في قلعة "كُوَالْيَارْ"، دام فيها ثلاث سنين.
لابد وأن نشير أخيراً إلى أنّ أحمد الفاروقيّ السرهنديّ هو رجلٌ وجوديٌّ بشهادته على نفسه وإطرائه على كبير الوجوديّين محي الدين بن عربي؛ إذ يقول:
»قد كُشِفَ لي التوحيد الوجوديُّ وأُلْقِىَ إلىَّ علوم كثيرة ومعارف جمّة ورقائق وافية من هذا المقام؛ ولاحت لي معارفُ مُظهِرِ الصفة العلمية الشيخ الأكبر... وتشرّفتُ بالتجلّي الذاتيِّ الّذي بيّنه الشيخ وجعله نهاية العروج وخصّه بخاتم الولاية مفصّلاً وموضّحًا«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 181.
هكذا يبدو جليًّا أنّه قائلٌ بوحدة الوجود، وواقف موقفَ الإجلال من محي الدين بن عربي، بخلاف ما ادّعىَ البعضُ من هذه الطائفة: »أنّه برئٌ من تلك العقيدة، وأنّه إنّما قال بوحدة الشهود ليبرهن به عن بطلان وحدة الوجود«. ومهما كان، فانّ فكرة "وحدة الشهود" أيضا عقيدة غامضة.(64/304)
وإنْ فَرَضْنا أنّ غرَضَه من "وحدة الشهود" هو وحدة المشهود، أي هو إقرارٌ بوحدة الموجودات القابلة للشهود بصفة المخلوقية على سبيل تنزيه الخالق الباري عن إحاطة العبد به في نطاق ما يُبصره؛ فان هذا الغرض، بل هذا الإقرار لا يقوم مقام حدّ جامع لكافة المخلوقات. وإنما يشتمل على كلّ ما يدخل في نطاق البصر فحسب، ويخرج من هذا الحدّ بقية المخلوقات من المحسوسات وغيرها؛ فضلاً عن أنّ كلمة "وحدة الشهود" تعبير كلاميّ غريب ومعقّد، لم يرد في الكتاب والسنّة، ولم يتكلّم به أحد من السلف الصالح.
إنّ هذه الأفكار الدخيلة، وأنماطًا أخرى من أمثالها إنّما تسرّبت إلى الطريقة النقشبنديّة في عهد أحمد الفاروقيّ وخلفائه، فتحوّلت هذه الطريقة إلى دينٍ مستقلٍّ برسومها وطقوسها وآدابها وأركانها، خاصّة بحكم كون هؤلاء الرجال من عناصر هنديةٍ مجبولة على التقليد بسبب صلتهم الدائمة مع البراهمة والسيخ والبوذيّين في الهند. وهي ساحة نائية عن قلب بلاد الإسلام. وأنّ الإسلام إنّما انتشرت في تلك المناطق عن طريق الوفود من رجال التجارة والسياحة الّذين لم يكونوا أصلاً من أهل العلم والإختصاص في الدعوة والإرشاد؛ ولم تكتمل فيهم الكفاءة في توجيه المشركين إلى الدين الحنيف بالوجه الصحيح؛ وإن فرضنا أنّ عددًا كبيرًا من تجّار المسلمين قد احتسبوا لله في نشر الرسالة المحمدية بين مجوس الهند عبر العصور.
هكذا تغذّت الطريقة النقشبنديّة بالعقائد المحلّية في ديار الهند ونمتْ على قاعدةٍ من تعاليمها مدة مائتين وخمسين عامًا منذ عهد السرهنديّ حتّى وجدتْ مَنْ يقفزُ بها إلى الساحة العراقيّة عام 1811م.؛ ويَبُثُّهَا في ربوع المملكة العثمانيّة. ألا وهو خالد البغداديّ الّذي طوّرها وصبّها في قالب آخر مع خلفائه كما سنشرح أحوالَهم فيما يلي كلاًّ على حدة إن شاء الله تعالى.
***
* الحلقة الرابعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.(64/305)
استخلف أحمد الفاروقيّ ابنه محمدًا المعصوم؛ فأصبح هذا الخلف بذلك هو الحلقة الرابعة والعشرين من سلسلة الروحانيّين للطّريقة النقشبنديّة. وصار استخلافُ الأولاد والأقارب بعد الفاروقيّ من العادة الشايعة بين كبراء هذه الطائفة؛ كما تحوّلتْ عائلاتُ شيوخِ النقشبنديّة إلى سلالاتٍ مقدّسةٍ، ذاتِ مكانةٍ مرموقةٍ ومتفوّقةٍ على طبقات الناس في المجتمعات العجمية الخليطة من التُّرْكِ والكرد والفرس والهنود والمغول والأقلّيات القوقازية نتيجة هذه العادة.
ولد المعصوم عام 1007 من الهجرة الموافق لسنة 1599 من الميلاد بقرية "مُلْكِ حيدر" التابعة لمدينة سرهند، ومات في هذه المدينة عام 1079 من الهجرة الموافق لسنة 1668 من الميلاد.
كان محمّد المعصوم أيضًا على عقيدة الوجوديّة كوالده. ولكنه جاء بتفسير باطنيٍّ جديدٍ لهذه العقيدة فطوّرها بإضافة مفهوم "القيّومية" إليها. إلاّ أن هذا التفسير لم يحظ بشيءٍ من الاهتمام والشيوع بين الصوفيّة. بل ظل مهمَلاً في تضاعيف ما كتبه وخلّفه من رسائلَ غيِر ذاتِ قيمةٍ لا يلتفت إليها اليومَ أحدٌ حتّى النقشبنديّون. ذلك أنّ مفهوم "القيّوُمية" فكرةٌ غامضةٌ معقَّدَةٌ جدًّا؛ يأبى التصوّر البشريُّ أنْ يستوعبها، لصياغتها بنسيجٍ من هفواتٍ غريبة وعبارات متشابكةٍ بأسلوبٍ صوفيٍّ صلبٍ ومركَّز.
ومن جملة ما سجّله محمّد المعصوم في هذا الصدد - على ما نقله عبد المجيد بن محمّد الخانيّ -، قوله: »القيّوم في هذا العالم، خليفة الله تعالى ونائب منابه؛ والأقطاب والأوتاد والأبدال والأفراد مندرجون تحت ظلاله«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/192.
هكذا قال بصراحة، وهذا يدل على عقيدته بالاختصار.(64/306)
وما رُوِيَ عنه في تراجمه على سبيل الكرامات والخوارق الظاهرة على يده، كتحويل الورق إلى الذهب والفضة و ما أشبه’ ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 16/96 يبرهن على أنه كان يتعاطى السحر والشعوذة. وذلك ليس ببعيد عن الشيوخ ذوي الأصول الهندية.
***
* الحلقة الخامسة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
عاد الاستخلاف في الأسرة الربّانيّة ثانية فأنتجت لهذه الطريقة شيخًا ثالثًا، وهو سيف الدين بن محمّد المعصوم الفاروقيّ الّذي يُعَدُّ هو الحلقةَ الخامسةَ والعشرين من سلسلتهم.
ولد سيف الدين عام 1049 من الهجرة الموافق لسنة 1630 من الميلاد بمدينة سرهند؛ ومات بها سنة 1098 الموافقة لعام 1696 من الميلاد.
تعلّم سيف الدين على عمِّهِ محمّد سعيد الفاروقيّ. وتولىّ تربية الملك أَوْرَنْكْزِيبْ عَلَمْكِيْر بن شهاب الدين محمّد شاه جِهَانْ، ملك الدولة المغولية الهندية. ثم تربّع على عرش النقشبنديّة بعد أبيه، واتّخذ أسلوب جدِّهِ في بَثِّ عقيدته عن طريق المراسلة. بلغ عدد رسائله مائة وتسعين مكتوبًا جمعها ابنه محمّد الأعظم.
يغلب أنّ الشهرة الّتي امتاز بها سيف الدين، لم تكن بسبب تفوّقه في العلم والمعرفة؛ وإنّما كانت وراثيةً. لأنّه لم يتغيّر به شئٌ في الطريقة النقشبنديّة ولا حدث أيّ تطوّر وازدهار في الدولة المغولية الهندية في عهده.
***
* الحلقة السادسة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة يمثّلها رجل اسمه نور محمّد البدوانيّ.
لم يتّصل ذكره بأيّ إنجاز أو نجاح أو بطولة حظي المسلمون بشيءٍ من آثارها. أمّا ما قَصَّتْهُ النقشبنديّة من حكايات أسطورية على سبيل الكرامة له، فإنها ليست مما يُعتدُّ بها.(64/307)
يبدو أنّه كان رجلاً خاملاً، مغمورًا، نازعًا إلى التطرّف والشعوذة. حُكِىَ أنّه »أَدخل مرةً رجلَه اليمنى إلى بيت الخلاء، فانقبض ثلاثة أيّام من مخالفته للسّنّة« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/201. كما حُكِيَ أنّه »لكثرة ما كان يُطَأْطِئُُ رأسَهُ ويُقَبِّعُ، تقوّس ظهره«. المصدر السابق.
يبالغ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في مدحه بأسلوبه المسجّع، فيقول: »وافتخر به فريق الطريق شرقًا وغربًا، فانظُرْ كيف سلّم نفسَه للسيف لينال شهادة السعادة وسعادة الشهادة ويحيا الحياة الأبديةَ (من قَتَلْتُهُ فأنا ديتُهُ)« المصدر السابق ص/ 200.
تفنّن الخانيّ هنا في استعراض بلاغته - إذ هو أديب النقشبنديّين -؛ فاستعمل كلمة "السيف" على سبيل المجاز في قوله »فانظر كيف سلّم نفسه للسيف...« وهو في الحقيقة ليس إلا الشيخ سيف الدين الفاروقيّ. ولكن الخانيّ استعار منه معنى السيف الّذي هو السلاح التقليدي المعروف.
هذه الصيغة المنسوجة بلهجة المكر ولغة الحيلة، قد يرمز إلى حقيقة رتّبها الخانيّ في صورة لُغْزٍ لكي لا يتبلور الأمر أمام كلّ الناّس فيُصبِحَ موضوعَ النقاش والتحليل والتأويل، حفظًا على سُمعة الروحانيّين في المجتَمَع، وخشية أن تسقط هيبتهم من قلوب الناس.
ذلك أنّ قوله »فانظر كيف سلّم نفسه للسيف...« يحتمل معنيين: أحدهما حقيقيٌّ. وهو أنّ نور محمدًا البدوانيّ قد قُتل بصورةٍ فعليةٍ. وهذا قد يكون له أساس من الصحّة. لأنّ الربّانيّ كان قد شدّد النكير على الرافضة. فأدّى ذلك إلى عدائهم على خلفائه. كما قيل أنّ شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان قد قُتِلَ على أيديهم؛ وهو من خلفاء نور محمّد البدوانيّ.(64/308)
وثاني المعنيين مجازيٌّ، سبقت إليه الإشارة آنفًا. يعني ذلك: أنّ نور محمدًا البدوانيّ سلّم نفسَهُ للشيخ سيف الدين الفاروقيّ، فنال بذلك مرتبة الشهادة. لأنّ ما تكابده في سلوكه تحت إشراف الشيخ سيف الدين يُعَدُّ نوعًا من الفداء بالنفس.
هذا الرجل الّذي تكلّف النقشبنديّون في تبجيله وتعظيمه بأساليبَ مزخرفةٍ، لا علم لأحد بتاريخ ميلاده على الرغم من زعمهم بـ »أنّ كشفَ حضرة السيد كان على غايةٍ من الصحّةِ«. المصدر السابق ص/ 201. فلم يسبق منه أن ذكر شيئًا فيه تصريح بتاريخ ميلاده. وقيل مات البدوانيّ عام 1135 من الهجرة الموافق لسنة 1722 من الميلاد.
***
* الحلقة السابعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة
يحمل سمة هذه الحلقة رجل اسمه شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان. وهو هنديّ الأصل كمشائخه الأربعة الّذين قبله. ويبرهن هذا الاسم الموزون على حقائقَ هامّةٍ تتميّز بها شخصيتُهُ وحياتُهُ؛ كما وردت في عبارات سجّلها الشيخ قسيم الكُفْرَويّ، أحد البارزين بين شيوخ هذه الطائفة في عصرنا.
يقول الكُفْرَويّ عنه:
»انتسب إلى البدوانيّ ولم يتجاوز عمره الثامنة عشرة. كان يرتدي بأدنى ما يستر به عورته، يجول في الصحاري ويأكل من ورق الشجر. وهكذا أمضى أربع سنين حياة الدراويش، فأذاق أربابَ الطريقة ألوانًا من الحُبّ الأفلاطونيِّ«. وهذا النصّ الأصليُّ لكلمات الكفراويِّ باللّغة التركية:
Onsekiz ya??nda Muhammed Bedevani’ye intisap eden bu zat, yaln?z avreti setredecek kadar giyinerek ç?llerde a?aç yapraklar? yemek suretiyle d?rt sene tam bir kalender hayat? ya?am?? ve tarikat ehline eflatunî bir a?k?n cilvelerini tatt?rm??t?r.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu? ve Yay?l??? Pg. 91. ?stanbul-1949 يبدو من هذه العبارات أنه لم يأكل اللّحم لما تأثّرَ بعادات البوذيين ومعتقداتهم.(64/309)
إذا تأمّلنا في هذه الشخصيّةَ، بِعُمْقٍ وإمعان؛ لا نكاد نجد وجهًا من وجوه الشبه بينها وبين شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإنّما فيها ملامح ظاهرة من شخصية بوذا الراهب الّذي تُنسَبُ إليه الديانة البوذية. وهذه من البراهين الّتي تؤكّد على أنّ الطريقة النقشبنديّة قد تأثّرت بتعاليم البوذية إلى أبعد الحدود؛ وأخذت منها روحًا جديدةً بعد قفزها من بلاد ماوراءالنهر إلى الساحة الهندية منذ عهد الباقي بالله الكابُليِّ إلى زمن خالد البغداديّ الّذي حملها من بلاد الهند إلى الشرق الأوسط وطوّرها إلى شكلها الّذي هي عليه اليوم.
ولد جان جانان عام 1111 من الهجرة الموافق لسنة 1699 من الميلاد. وقُتِلَ غيلةً بمدينة دلهي عام 1195 من الهجرة الموافق لسنة 1781 من الميلاد. وذلك على يد نفر من الشيعة. وقيل كانوا من مجوس المغول. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 17/49............
يزعم النقشبنديّون أنّه من البطن الثامن والعشرين من سلالة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وأنّ المتأخّرين من آبائه كانوا أمراء. إلاّ أنّ أباه ترك منصبه زهدًا، وأنفق أمواله الطائلة على الفقراء تصدُّقًا.
كلّ هذه المُعْطَيات تبرهن أيضًا على التغيُّر الّذي دبّت أماراتُهُ في أسرة جان حانان، والاتجاه الّذي نزعت إليها أسوةً بحياة الرهبان الهندوس.(64/310)
وأمّا جميع ما قصّه النقشبنديّون من حكايات أسطورية على سبيل الكرامة له، فهي لا تتجاوز مزاعم غريبة عدّوها من علامات الصالحين ونسبوها إليه؛ كما قد نسجوا من أمثالها لبقية الروحانيّين. وهي في الحقيقة واردة في سِيَرِ الرهبان والعابدين من أهل العزلة في سائر الأديان. ولم يكن الرهبان يومًا من الأيام ورثةً للأنبياء والصالحين الّذين أناروا طُرُقَ الحياة السعيدة للنّاس في هذه الدنيا، ودلّوهم على العمل الصالح، وسلوك سُبُل السلام إلى النجاة الأبديّة. بل كان شأن الرهبان ومن على شاكلتهم من شيوخ الطرق الصوفيّة؛ كان شأنهم العزلةَ، والتقَشُّفَ، ولبسَ المسوح، وكراهيةَ الحياة، ورفضَ نعم الله، وتعذيبَ الجسد بأنواعٍ من الرياضيات الشاقة.
إنّ هذا الشيخ الهنديّ، لا أثر له يُذْكَر. ولهذا لا نعثر على اسمه في مصنَّفات أهل البحث والدراسة، سوى كلماتٍ قليلةٍ سجّلها أبو الحسن الندويّ في الجزء الرابع من كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام". أبو الحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص/ 149، 225، 278.
أمّا قصّة حياته الّتي دوّنها تلميذه غلام على عبد الله الدهلويّ بعنوان "المقامات المظهرية"، فانّ العقل الراجح غنيٌّ عن الاشتغال به.
***
* الحلقة الثامنة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة(64/311)
يستحق الإلمام بشخصية الرمز الّذي يُمَثِّلُ هذه الحلقةَ؛ وهو غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ. وذلك لسببٍ هامٍّ، يمكن تلخيصه بأنّه استطاع أن يُنهض بالطريقة النقشبنديّة في مرحلة حسّاسة من الزمن لم يكن القيام فيها من السهل بنشاطاتٍ روحانيةٍ. وبخاصّةٍ فانّ الطريقة النقشبنديّة كانت قد بلغت الغاية من التوسّع والانتشار. فالمعقول، أن يكون نهايةُ الكمالِ بدابة الزوال لكلِّ شيءٍ سوى اللهِ، وكان الملحوظ أن يبدأ الإنحطاط في الطريقة النقشبنديّة فتتقلُّص، لظروف الوقت والمنطقة. فانّ الأوضاع لم تكن تسمح لقيام أيّ فكرة تتعارض مع روح النزاع، أو تتّسم بالسلمية والهدوء والحياد. إذ أنّ الوضع كان على أشدِّ حالٍ من الفوضى بين الجموع المتباينة في الساحة الهندية يومئذ. أمّا الدين والنشاطات الروحية والفلسفية والعلمية والفنية، فإنها تختفي غالبًا في مثل هذه الظروف، لشغل الناس بالدفاع عن حياتهم وعِرْضِهِمْ وأموالهم. ولكنّ الدّهلويَّ على الرغم من ذلك تمكّن من استمالة القلوب بدعاياته المتواصلة الّتي قام بها عن طريق المراسلات على غِرَارِ أحمد الفاروقيّ وابنه محمّد المعصوم؛ كما تبرهن على ذلك رسائله الّتي بلغ عددها مائة وخمسًا وعشرين قطعةً، جمعها شاه رؤف أحمد (وهو أحد خلفائه) بعنوان "المكاتيب الشريفة"
ولد غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ عام 1158 من الهجرة الموافق لسنة 1745 من الميلاد، في خضم الحركات الثورية والفتن المتفاقمة والحروب الدائرة بين ملوك الطوائف على الساحة الهندية وعلى حين من احتضار الدولة المغولية الّتيمورية. وكان من أشدّ هذه الفتن زحف المراهتة المجوس على مدينة دلهي عام 1760م. كان غُلاَمْ على يومئذ شابًّا مراهقًا.(64/312)
قضى غُلاَمْ علي مرحلة شبابه في عهد خمسة من ملوك الدولة الّتيمورية هؤلاء الملوك هم: محمّد شاه (1331-1161هـ.)؛ أحمد شاه (1161-1167هـ.)؛ عزيز الدين علمكير الثاني (1167-1172 هـ.)؛ شاه عالم محمّد أكبر الثاني (1172-1221هـ.)؛ بهادر شاه آخر الملوك الّتيموري (1221-1278هـ.)؛ الّذين بلغت القلاقل والاضطرابات والأحداث الدامية غايتها عبر حكمهم. ولم تتمتّع البلاد بشيء من الهدوء والاستقرار إِبَّانَ هذه المرحلة حتّى فرض الإنجليز سيطرتَهُم على البلاد الهندية بصورة نهائية؛ وذلك سنة 1214 من الهجرة الموافقة لعام 1799 من الميلاد، إِثْرَ معركةِ سَرَنْكَابْتِنْ و استشهاد سلطان تيبو.
على الرغم من هذا الجوّ الخانق، استطاع غُلاَمْ علي أن يُثير اهتمامَ جمهورٍ من الناس من أولئك الّذين لم ينبض في أحدهم عرق الحمية والإيمان أمام الكارثة الّتي حلت بالمجتمع الإسلامي يومئذ في الهند. كان يبث الدهلويّ عقائد الأسرة السرهنديّة بحماسة وجلد، ويعمل على إشاعة صيتها. يدلّ على نجاحه في مهمّتهِ اجتذابُهُ رجلاً من أكراد العراق، لينفث في روعه من هذه العقيدة، ولِيُلْقِيَ على كاهله مسئوليةَ القيام بنشرها. ألاَ وهو خالد البغداديّ الّذي سوف نركّز على أحواله وأطواره وتلوّنه إن شاء الله تعالى.
إنّ تأثير الديانات الوثنية يظهر بوضوح في عقيدة غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ أيضًا من خلال ما جاء في رسائله.
أولاً، إنه قائل بوحدة الوجود، ووحدة الشهود. فقد كتب بِجُرْأَةٍ واستمرارٍ وإصرارٍ؛ وأسهبَ واسترسلَ في هذه المسألة أكثر ممن تكلّم فيها. هذه رسائله الّتي شرح فيها تفسيره لعقيد وحدة الوجود:
الرقم المسلسل رقم الرسالة رقم الصفحة الرقم المسلسل رقم الرسالة رقم الصفحة
1 18 36 6 69 78
2 26 46 7 70 80
3 61 67 8 75 94
4 64 69 9 89 132
5 68 76 10 90 151-152
مكاتيب الشريفة، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. 11 121 242-243(64/313)
ثانيًا، تطرّق إلى آدابِ الطريقة النقشبنديّة وأركانِها ومبادئِها في عدّةٍ من رسائله بمرونةٍ و مراوغةٍ، أَوْهَمَ فيها القارئ أنها منبَثَقَةٌ من روح الكتاب والسنّة. وبخاصّةٍ ذكر في الرسالة التسعين من أهمّ مصطلحات هذه الطريقة. تلك المصطلحات الدخيلة المشبوهة. كالشهود، والوجود، والمشاهدة، واللطائف، والكشف، والأسرار، وحبس النفَسِ أثناء الذكر، والرابطة، والجذبة، وخرق الحجب، والفناء، والبقاء، والوحدة، والكثرة، والأنس، والوحشة، والاستغراق، والسكر، والولاية الصغرى والكبرى، والسير، والسلوك، والقيومية، والحقيقة المحمدية والأحمدية، والذوق، والشوق، والتجلّي، والمقامات العشر، والأركان الأحد عشر، وغيرها.(64/314)
إنّ موقفه المتجاهل للواقع الّذي كان يعيش في غِمَارِهِ، يبرهن على تأثُّره البالغ بتعاليم الأديان والعقائد السائدة في مجتمعه من البرهمية والبوذية. فانّ رسائلَهُ شاهدةٌ على ما يتميّز به من روح الاستسلام والسبات والغفلة عمّا كان يجري حوله يومئذ. وهي من نتائج هذه العقائد الهندية الوثنية الّتي تُفَضِّلُ الخضوعَ والاستسلامَ على المقاومة والدفاع. ذلك أنّنا لا نعثر في مضمون جميع رسائله على كلمة واحدة فما فوقها، تُنْبِؤُنَا عن ردّ فعله ضدّ الغُزَاةِ الإنجليز المستعمرين الّذين ارتكبوا المجازر الوحشية ضدّ سكّان الهند، خاصّة المسلمين منهم؛ وانتهكوا الحرمات، وانقضّوا على البقاع الآمنة فأهلكوا فيها الحرث والنسل. كان موقف غُلاَمْ علي الدهلويّ عكس موقف علماء الإسلام من هذه الحملات. وعلى سبيل المثال، فانّ الشيخ احمد بن عبد الرحيم المعروف بشاه وليّ الله الدهلويّ - وهو من معاصري غُلاَمْ علي ومن الأعلام الّذين نبغوا في تلك المناطق -، نجده على منتهى درجات الوعي والحماسة للدفاع عن دماء المسلمين وعرضهم، أنظر رسالته الّتي وجّهها إلى أحمد شاه الدراني، والي قندهار، يلتمس منه حماية بلاده. راجع كتاب "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" لأبي الحسن الندويّ 4/246. و يتحمّل المسئولية، ويخاطب الملوك والأمراء بحميةٍ إسلاميةٍ، وهِمَّةٍ عاليةٍ، ويستنجد بهم لإيقاف أسباب الفساد، ويحاول بجهودٍ متواصلةٍ، وإيمانٍ صادقٍ، لتوفير الأمن والحرية في ربوع المجتمع الإسلاميِّ. بينما نطلّع على ما ورد عن غُلاَمْ علي أنّه يتهافت ويتخبّط ويعبث بالمفاهيم والقِيَمِ، ويتكلّم بلغةٍ لم يتكلّم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابَتُهُ مع أنّه يُتقن لغة القرآن، ويعدّه أتباعُهُ من ورثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. هذا إلى جانب ما يتخطّى الواقعَ بأسلوبٍ متجاهلٍ، ويتبنّى أمورًا لا تعود بخير على مجتمعه الّذي يعاني الفسادَ(64/315)
والانحالَ؛ ولا تُخرجهم من المأزق الّذي تورّط فيه أبناء أمّته.
***
* الحلقة التاسعة والعشرون من السلسلة النقشبنديّة.
هذه الحلقة يمثّلها رجل من أهم الشخصيّات البارزين في تاريخ الطريقة النقشبنديّة، وأكثرهم معرفة بالعلوم العقلية والنقلية، وأوسعهم شهرة بين الخاصّة والعامّة، وانجحهم تلوّنًا في استمالة قلوب الناس والاستيلاء على ضمائرهم وإلقاء هيبته عليهم.
هذه الشخصية هو أبو البهاء، ضياء الدين خالد بن أحمد بن الحسين الشهرزوري البغداديّ المعروف بين أتباعه بعنوان »مولانا خالد ذو الجناحين« راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 298-335. دار الفكر-دمشق. وبهامشه (ص/298) قائمة بالمصادر الّتي تناولت حياة صاحب الترجمة. كذلك راجع مجلة المجمع العلمي الكرديّ، العدد الأوّل. بغداد-1973م. ص/ 697-727.
ولد البغداديّ عام 1192 من الهجرة الموافق لسنة 1778 من الميلاد بمحل اسمه »قره طاغ« على مقربة من مدينة السليمانية العراقيّة. ومات بالطاعون في مدينة دمشق عام 1242 من الهجرة الموافق لسنة 1826 من الميلاد.
نشأ وتربّى ودرس مقدّمات العلوم التقليدية في المنطقة الّتي ولد فيها. ثم خرج منها لطلب المزيد من المعرفة. فقرأ على بعض الْمَلاَليِ في تلك النواحي، أخذ عن الشيخ عبد الكريم وأخيه الشيخ عبد الرحيم البرزنجيّ، والشيخ محمّد الكرديّ، والشيخ إبراهيم البياريّ، والشيخ عبد الله الخربانيّ، حتّى أكمل دراسته التقليدية حسب العرف المتّبَع في تلك المرحلة من العهد العثمانيّ. إذ لم تكن يومئذ مقررات تعليمية معتمَدة من قِبَل الدولة للمدارس الشعبية. ثم واصل دراستَه في فنونٍ أخرى كالحساب والهندسة والهيئة زيادةً على أمثاله. وذلك تحت إشراف الشيخ قسيم السنَنْدَجيِّ.(64/316)
يدّعي بعض المترجمين له، أنّه من سلاسة عثمان بن عفان رضي الله عنه. محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/42. ويقولون في الوقت ذاته إنه من أبناء العشيرة الميكائيلية الكرديّة محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظه، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري، الجزء الأول، ص/ 298. دار الفكر المعاصر- بيروت وهذا كلام متناقض كما يبدو. لأنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، هو ثالث الخلفاء الراشدين، عربيّ الأصل من بني أمية، وهم بطن من بطون قريش. أمّا العشيرة الميكائيلية، فهي قبيلة كردية لا صلة لها بِقُرَيْشٍ ولا بشخصية عربية.
اشتغل خالد بالتدريس مدةً في السليمانية وبغداد. بيد أنّ الباحث الحاذق الدقيق إذا اطّلع على ما قد خلّف هذا الشيخ من رسائلَ وحواشٍ وملاحظاتٍ، وما تناقلته اللُّسُنُ عنه من صفاتٍ، وسلوكٍ، وأقوالٍ، وتعليماتٍ موجّهَةٍ منه إلى مريديه وخلفائه؛ وإذا أنعم النظرَ في عباراته وعلاقاته؛ اصطدم بحقائقَ رهيبةٍ، وعَلِمَ بالتأكيد أنه كان يمتاز بمزاج متوتّر، ونفس مترقّبة مُتَجَسِّسَةٍ، وطبيعة نشيطة دسّاسة.
كان خالدٌ ذا طموح وعزيمة لا حدود لهما. أثارتْهُ آمالُهُ إلى المغامرة بما لم يتجرّأ على اقتحامه أحد من رجال الدين في عصره ولا بعده! هذه الطبيعة المستفحلة هي الّتي دفعَتْهُ ليكون دائمّا هو في الصورة. لذلك لم يتّسم بالاستقرار، فلم يصبر على مواصلة البقاء في الأجواء العلمية. بل تلاطمت به الأفكار والتصوّرات، فجعلته يتطلّع إلى عالَمٍ لا يحيط به الزمان والآفاق، ولا يسعه نطاق الكلمات للتّعبير عن حدوده المترامية وجماله البارع؛ اشتاقت نفسه إلى مثل هذا العالم ليرفرف سرمدًا بجناحين من نورٍ في مقدّمةِ موكبٍ من الملائكة فوق جنانه!(64/317)
ربما كانت هذه النفسية الفعّالة المتناشطة هي الّتي حالت بينه وبين الحياة العلمية، وأضرمت في قلبه النيران إلى طلب مَنْ يُصَدِّقه و يبشّره بقرب سعادته وتحقيق آماله الأبدية وأحلامه وتصوّراته الّتي لا نهاية ولا حدود لها؛ وأهدافه الّتي لم يظفر بها صناديد الرجال من الرواد والحكماء والأباطرة، ولا حتّى الأنبياء والمرسلون! لم يزل خالدٌ يجوب ويتجوّل في هيام واشتياق إلى هذا المطلب الموهوم، ويتكهّن بتفسيرِ أدنى حدثٍ يجري حوله بهذه النفسية الغريبة، إلى أن أدركه رجل من أهل الهند؛ ثم لم يلبث الهنديّ حتّى أحسّ بما يخامره، فأوعز إليه أن يرافقه إلى مَنْ سوف تتحقق على يده أمالُهُ في عاصمة الهند.
نقتطف الآنَ مقاطعَ من قصّة دخوله في هذه المغامرة؛ فيقول وهو في المدينة المنوّرة يتأهّب للحج:(64/318)
»وكنتُ أفتّش على أحد من الصالحين لأتبرّك ببعض نصائحه لعلّي أعمل بها كل حينٍ، فلقيتُ شيخًا يمنيًّا متريضًا عالمًا عاملاً صاحب استقامة وارتضاء، فاستنصحتُهُ استنصاح الجاهل المقصّر من العالم المتبصّر فنصحني بأمورٍ منها: لا تبادر في مكة بالإنكار على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة. فلما وصلت إلى الحرم وأنا مصرٌّ على العمل بتلك النصيحة البديعة بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قرَّبَ بدنة من النعم فجلست إلى الكعبة الشريفة لأقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوامّ قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلىّ من غير حائل فحدَّثَتْنِي نفسي أنّ هذا الرجل لا يتأدّب مع الكعبة ولم أظهر عيبه فقال لي: أما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة! فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجّهي إليك؟ أما سمعت نصيحة من في المدينة وتأكيده عليك؟! فلم أشك أنه من أكابر الأولياء وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو، وأن يرشدني بدلالته إلى الحق فقال لي: فتوحك لا يكون في هذه الديار. وأشار إلى الديار الهندية، وقال: تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في تلك الأقطار. فأيست من تحصيل شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء النسك إلى الشام«. المصدر السابق، ص/ 299-300
يستطرد المترجم قائلاً:(64/319)
»وكان متشوّقًا بعد رجوعه من الشام إلى مرشدٍ من فحول الرجال حتّى جاء إلى السليمانية رجلٌ هنديّ يسمى مِرْزَا رحيم الله بِكْ المعروف بمحمد درويش العظيم آبادي. هذه القصَّةَ نقلها عدةُ رجالٍ من النقشبنديّين الّذين تصدّوا لترجمة خالد البغداديّ، منهم قسيم الكُفْرَويّ في تركيا. سجل هذه الحكاية في الصفحة الثالثة بعد المائة من كتابه: Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l???.حصل المؤلّف بهذا الكتاب على شهادة الدكتوراه من جامعة إسطنبول-كلية الآداب عام 1949م. وهذا الكتاب المدوَّن باللّغة التركية، أعدّه المؤلّفُ على الآلة الكاتبة. وهي نسخة واحدة لا ثانية لها حتّى الآن، مودعة في خزانة معهد التركيات بمدينة إسطنبول، ومسجّلة تحت رقم/337. أحد خلفاء الشيخ الدهلويّ، فاجتمع به وعرض عليه مطلبه. فقال له: »إنّ لي شيخًا كاملاً مرشدًا عالمًا عارفًا بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيرًا بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبنديّ الطريقة، محمديّ الأخلاق، علماً في علم الحقيقة. فَسِرْ معي حتّى نرحل إلى خدمته في جِهَانْ آبَادْ، وقد سمعتُ منه إشارةً بوصول مثلك ثم إلى المراد«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/226.
إنّ هذه العبارات فحسب تدلّ على شخصية خالد بكلِّ ميّزاتها دلالةً كافيةً - وإن أهملنا جميع ما نُقل عنه وعن غيره حول صفاته وأخلاقه ومواقفه - يتضح لنا من خلال هذه الكلمات مدى جانبه العاطفيِّ وميله إلى الكهنة وحرصه في طلب مَنْ ينفخ فيه الروح ليتأكّد من أنّه على حقّ في كلّ ما يحلم ويتصوّر ويصبو إليه. فكان بحاجةٍ إلى من يحرّك فيه النقطةَ الحسّاسةَ بحذاقة ويُطلقه من عنانه ليكون هو مقصود العالمين على وجه البسيطة.(64/320)
لسنا بحاجة هنا إلى نقل ما ذكر هو وغيره من صفحات رحلته إلى الهند، وأخذِهِ رخصةَ المشيخةِ والخلافة المطلقة للطريقة النقشبنديّة من غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ؛ ولكننا بحاجة إلى طرحِ أسئلة عدّة والبحثِ عن معلوماتٍ صحيحةٍ تكون بمنزلة الإجابة عليها، لتتبلور من خلالها شخصية هذا الرجل وأسرار رحلته إلى الهند.
نتساءل أوّلاً عمّا أطمع خالدًا في الاتصال بشيخٍ من صوفية الهند حتّى غادر وطنه وتكبّدَ ألوانًا من المشاقّ، وعرض نفسَهُ لأخطار رهيبة مدةَ سنةٍ كاملةٍ حتّى وصل مدينة دلهي عاصمة الهند عام 1810م.
فما عسى كان يأمل أن يناله هناك من علم وفضل ومعرفة بقضايا جديدة؟ هذا مع أنّ المحيط الّذي تركه وراء ظهره والمناطق المجاورة له في الشرق الأوسط، تمتاز بأصالتها التاريخية، وتراثها العلميّ والثقافيّ الزاخر. وهي أرض الأنبياء والمرسلين والصحابة والحواريّين، ومشاهير العلماء والصالحين. طالما يقصدها الباحثون ورجالُ العلم، والمستشرقون، وتتوافد إليها الطلبةُ دائمًا من بقية العالم الإسلاميِّ.
أمّا بلاد الهند، فإنها على نقيضِ هذه المزايا والصفات. وهي أرضُ مجوسِ البرهمية، عبدةِ الشجر والبقر والقرد والحجر؛ وطنُ أهلِ الرهبنة والبطالة والمسكنة؛ مسرحُ المشعوذين اليوغيّين والسحرة والكهنة والعرّافين؛ نائيةٌ عن قلب بلاد الإسلام ومهبط الوحي والإلهام. وإن كان في بعض نواحيها نشاطات علمية ولكنها لا تداني المدنَ الشهيرةَ بمكتباتها الغنية، ومدارسها العامرة مثل القاهرة وبغداد والقدس ودمشق. كما يقرّ بهذه الحقيقة علاّمة بلاد الهند الشيخ أبو الحسن الندويّ بالذّات فيقول:(64/321)
»ولقد تضافرت عوامل كثيرة؛ من أهمّها بُعْدُ الهند عن مراكز الإسلام الدينيِّ والثقافيِّ - بلاد الحجاز ومصر والشام والعراق -؛ ووصول الإسلام إلى الهند بعد تعرّجه على تركستان وإيران، وقلّة شيوع اللّغة العربية فيها؛ وعدم الاعتناء بنشر علم الحديث الّذي لا يزال يَبُثُّ روح الدين الصحيح ويميّز السنّة عن البدعة ويقوّي الشعور بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ويوجد ملكة الاحتساب الديني الصحيح؛ ومنها صعوبة السفر للحجّ والرحلة في طلب العلم إلى البلدان الأخرى؛ وبقاء أقلية المسلمين مغمورة في أكثرية غير مسلمين الّذين كانوا متشبّثين بعقائدهم، متمسّكين بتقاليدهم وعاداتهم غير الإسلامية، وغارقين في الخرافات والأوهام. وتضافرت هذه العوامل كلُّها على تحويل المسلمين مرتعًا خصبًا للدعوات المضطّربة والفِرَقِ الضالة والمحترفين بالدين؛ خرجوا يمثّلون دورَهم ويجرِّبون حظَّهم في إضلال المسلمين«. أبوالحسن الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام 3/37-38. دار القلم الكويت-1994م. راجع الهامش/445.
نعم، إذًا ما الّذي دفع خالدًا إلى هذه المغامرة الّتي لم يجنِ من ورائها شيئًا انتفع به المسلمون من علمٍ أو قوةٍ أو أخلاقٍ أو رُقيٍّ وازدهار غير تلك الرياضيات والتأمّلات الّتي رَكِبَ ذنبَ الريح إلى الديار الهندية لأجلها واستغرق فيها عامًا، والّتي مهّدت له طريق الشهرة والهيمنة على قلوب مئات آلاف الناس حسبما تفوّه به بعض معارضيه كما سنشرحه إن شاء الله تعالى.(64/322)
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر. وهو أنّ غُلاَمْ علي عبد الله الدهلويّ كيف عَلِمَ بوجود خالد البغداديّ حتّى أشار بوصوله كما نفهم من كلام رسوله مرزا رحيم الله بِكْ، ذلك الرجل الهنديّ الّذي زار خالدًا في السليمانية وأخبره بذلك حسبما يسجّله الخانيّ في حدائقه على سبيل الكشف والكرامة لِغُلاَمْ علي الدهلويّ. هذا، على الرغم من تلك المسافة الهائلة بين الهند والعراق، بالإضافة إلى الظروف الّتي كانت تحيط بقارّة أسيا، والقلاقلِ والفتنِ والحروبِ الّتي كانت تجري على ساحات كبيرة منها يومئذ. ثم أيُّ غبيٍّ يصدّق بمثل هذه الكرامة المختَلَقَة على حساب هذا الصوفيّ الهنديّ الّذي داهمت القوّات الإنجليزية بلاده أمام عينيه وهو لا يهمّه إلاّ»وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والفناء، والبقاء، والسكر، والعشق الإلهي، والتركيز، وحبس النفَسِ« وما إلى ذلك من عقائد البرهمية وتعاليم البوذية ورياضيات اليوغيّين! ثم مَنْ يَضمَنُ أنّه لم يكن على صلةٍ برؤوس قوات الاحتلال، ما دام لم ينله منهم سوء، بل كان هو وأصحابه في أمان منهم دون غيرهم من سكان البلاد!
لابد وأنّ هذا السؤال الهامّ سوف يُشغل بالَ رجالِ البحث والدراسة إلى أن تظهر الحقيقة بكمال الوضوح إلى العيان إن شاء الله.
نتساءل ثانيًا، ما الّذي أنجزه خالدٌ في سبيل النهوض بالمجتمع الإسلاميِّ الّذي كان يعاني أرذلَ درجاتِ الجهلِ والتخلُّفِ والعمى. وهل أقدمَ - ولو بخطوة - على تخفيف بلايا عظيمة داهمت المسلمين من الداخل والخارج في أيامه على كثرة أتباعه المستعدّين للفداء بأموالهم وأنفسهم في سبيله بأدنى إشارة منه؟!
و يناسب هنا أنْ نتطرّق إلى بعض المشاكل العظيمة الّتي كان المسلمون يقاسونها في تلك المرحلة الزمنية، على سبيل المثال:(64/323)
لقد كانت المنظمات السرية، وعلى رأسها الحركة الفرمسونية الّتي جنّدتها دول الغرب، وبدأت في تأسيس محافلها في المدن الكبيرة بالعالم الإسلاميِّ في تلك الفترة، كمدينة سالونيك، والقسطنطنية، وقونيا، وقيروان، وإسكندرية، ودمشق، وبغداد، وإصفهان، وتبريز، وبومباي، ودلهي؛ كانت هذه المنظمة الخطيرة تحاول اصطياد الرجال البارزين في المجتمع الإسلاميِّ من العلماء والسياسيّين والأثرياء، وذلك لهدم القِيَمِ السامية بأيدي هؤلاء، وتشكيك المسلمين في دينهم وعقائدهم، بالإضافة إلى أنّ هذه الدول اتّفقت على تمزيق الوطن الإسلاميِّ، فزحفت على بلاد المسلمين، وارتكبت فيها مالا يمكن حصره من الجنايات والمجازر والاستهتار بحرماتهم، بل استعبدتهم بعد أن احتلّت أراضيهم.
وعلى رأس هذه الدول المتغلّبة كانت بريطانيا قد استولت على الديار الهندية في الفترة الّتي سافر إليها خالدٌ ليُصبح نقشبنديًّا فيرجع إلى بلاده بأسرار هذه الطريقة ويبثها بين الناس.
نتساءل ثالثًا، إذا كان خالدٌ رجلاً صوفيًّا - و مادام الإنسانُ الصوفيّ مغمورًا في حياة من العزلة والتقشّف والرهبنة، تنحصر مهامّه في رياضات نفسية، وتأمّلات عميقة ذهنية، وتركيز واستغراق - إذن فلماذا كان يكتم ما الله مبديه على لسان خليفته محمّد بن عبد الله الخانيّ في قوله:
»إنّ هذه الطريقة هي الملامية المناسبة لما يكون عليه من الصحو الصدّيقيِّ، والرجوع إلى البقاء الأتمّ الحقيقيِّ بدعوة الخلق وهدايتهم إلى الحق برئاستي الظاهر والباطن وفتح القلاع والمواطن«. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، (النسخة القديمة: ص/12.)؛ (النسخة الجديدة: ص/13). مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1996م. لقد نقل حفيدُه عبد المجيد بن محمّد الخانيّ هذه العبارات بضبطها، ولكنه سجّل كلمة "الملامية" على شكل "الملايمة". الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة، ص. 9)(64/324)
هذه العبارات، لا يردّدها إلاّ الملوك وقادة الجيوش؛ وليست من كلمات شيوخ الصوفيّة. وربما يبرهن على هذه النيّة المُبْطَنَةِ ما قد سجّله الباحثُ العراقيّ عباس العزّاويّ في ترجمة خالد، بعد أن خلع عليه من المدح والإطراء فقال:
»وكان حكيمًا قادرًا على إحياء الدولة العثمانيّة من جديد، وإفراغها في قالب آخر، خصوصًا في حالتها البالغة من الوهن والفتور في جوارحها والعلل والأمراض الطارئة عليها، ولكن لم يركن إلى الدنيا وما فيها ولم يتدخّل في شئون الدولة«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 704.) بغداد-1973م.
هذه الكلمات الّتي تبدو وكأنّها قد طارت من بين شفتي العزّاويّ دون أن يشعر بما قد أفشى من خلالها عن أسرارِ لُغزٍ هامٍّ جدًّا، لقد يكمُنُ فيها جانب خطير من شخصية خالد البغداديّ وما كان يتّصف به من التلوّن وانتهاز الفُرَصِ! تشهد على هذه الحقيقية ما نقلناه آنفا من كلماتٍ فيها شبه اعتراف قالها خليفته محمّد بن عبد الله الخانيّ، وهي بمنزلة الإجابة عن كلّ التساؤلات في هذا الصدد. ولعلّ ما قاله بعض معارضيه على سبيل الطعن فيه، يوضّح لنا ما يغيب عن إدراكِنا من خفايا هذه الشخصية. ذلك هو الشيخ معروف البرزنجيّ العراقيّ الّذي ألّف رسالة بعنوان »تحرير الخطاب في الرد على خالد الكذّاب«. المصدر السابق ص/ 710. بعث بها إلى والي بغداد سعيد باشا. قال فيها بعد أن اتّهم خالدًا بالكفر والزندقة:
»إنّ الأكراد كلّهم قد اتبعوه. وملأ ببدعته الآفاق، وإنّه يدّعي التصرّف في الكائنات، ويدّعي علم الغيب، وإنّه ذهب إلى الهند فتعلّم من السحرة الجُوكِيّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم«. * محمّد امين السويدي، دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم (ديباجة)؛ مكتبة السليمانية، خزانة أسعد افندي رقم/1404. إسطنبول.(64/325)
* محمّد مطيع الحافظ - نزار أباظه، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري 1/304.
نحن لسنا بصدد استغلال هذه الكلمات لنُقيمَها حجّةً على خالد البغداديّ. لأنّ الاستدلالَ بطعنِ المعارض يُبَرِّرُ المعارضةَ ضدَّ الاستدلال، وقد يتسلسل منه الخلاف، ويتمخّض عنه الفساد. هذا من الجانب المنطقيِّ والأخلاقيِّ، وكذلك من الجانب الواقعيِّ. لأنّ البرزنجيّ كان شيخًا من روؤس الطريقة القادرية، ذا شهرة في المنطقة العراقيّة، وربما خاف منافسةَ خالد البغداديّ له و توقّع أنّ دائرة محيطه سوف تتقلّص باشتهار منافسه، فقاومه بالسعاية والشكاية والطعن فيه كما مرّ. وإلاّ فإنّ معارضتَه لم تكن حميَةً اسلاميةً وحمايةً لأصالة الإسلام خشية أن تتعرّض قِيَمُ الدين الحنيف للاستحالة والفساد بانتشار بدع النقشبنديّة. لأنّه أيضًا كان صوفيًّا من أمثالهم، بل كان أقدمهم في نشر البدع وإفساد تعاليم الدين الحنيف بوساطة الطريقة القادرية.
ولكن هذا الصوفيّ الخامل، كيف اهتدى إلى المعرفة بـ »السحرة الجُوكِيّةِ« وعَلِمَ أنّهم من أهل الهند، وأنّ "الجُوكِيّةَ" (أي اليوغا) نوع من السحر - كما يظنّه بعض الناس -، مع أنه في حقيقته شكلٌ من عبادة مجوس البرهمية؛ قوامها التأمّل، والتركيز والاستغراق وحبس النفَسِ. فقد اصطلحها النقشبنديّون بعنوان الرابطة، كما سبق شرحها في بابها.
نعم، مَنْ أخبر البرزنجيَّ عن كلِّ هذه الحقائق الّتي يجهلها شيوخ الطرق الصوفيّة في الشرق الأوسط، لسطحية مستواهم الثقافيِّ وغفلة أكثرهم عن واقع المجتمعات؟!(64/326)
زد على ذلك أنّ خالدًا البغداديَّ بالذّات، يُقِرُّ في مقطعٍ من ديوانه: أنّ الناسَ أنكروا عليه عزمه السفر إلى الهند محتجّين على مغادرتِهِ بلادَ الإسلام إلى ديار الكفر، يقصدون بذلك السلطة الإنجليزية. راجع ديوان خالد البغداديّ، (وهو باللّغة الفارسيّة)؛ البيتين: 46-47. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/3700. إسطنبول. وهذا نصّهما:
"بسي توبيخ كردند أهل توران و خراسانم * بدار الكفر رفتن جون بسندي كر مسلماني؛
بدهلي ظلمتي كفرست كفتند و بدل كفتم * بظلمت رو أكر در جستجوي آب حيواني."
معناهما باللّغة العربية: عاتبني أهل طوران و خراسان، فقالو: "ما بك ترحل إلى ديار الكفر إن كنتَ لمسلمًا! ثم قالوا: إنّ مدينة دلهي قد غشيتها ظلمة الكفر؛ فقلتُ بدلاً عن ذلك (أو قلتُ في نفسي): إن كنتَ تبحثُ عن عين الحياة فعليك بطلبها تحت جنح الظلام."
هذا بالإضافة إلى ما جاء في ثنايا كتابٍ ألّفه محمّد أمين بن عليّ السويديّ بعنوان »دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم« ردًّا على أبي سعيد عثمان الجليليِّ الموصليّ؛ جاء في ثنايا كتابه كلامٌ منقولٌ عن الجليليِّ يذمّ فيه خالدًا ويطعن فيه »أنّه ذهب إلى الهند وتعلّم من الجُوكِيّةِ ونصارى الإنجليز، ظهر عليهم؛ وظهوره صار سببًا لإزالة ملوك الهند المسلمين عن كراسيّهم وتملّكها النصارى...« محمّد امين السويدي، دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم (ديباجة)؛ مكتبة السليمانية، خزانة أسعد افندي رقم/1404. إسطنبول.
هذه الكلمات، ولو فرضنا أنّ فيها مبالغة، ولكن يُستَبْعَدُ أن تكون كلها بهتانًا محضًا على خالد البغداديّ لأسبابٍ هامّةٍ جدًّا.(64/327)
منها: أنّ الطاعن أبا سعيد عثمان بن سليمان باشا الجليليّ كان من أمراء الموصل. وهذا يبرهن منطقيًّا ـ على اقل تقدير ـ أنّه كان رجلاً متفتّحًا خبيرًا بما كان يجري داخل البلاد وخارجها من أمور وأحداث بحكم منصبه ومسئوليته. وبالتالي فانّه لابد وقد استند إلى مبرّر تجرّأ بحكمه على هذا الإسناد الخطير.
ومنها: أنّ ما نسبه الجليليُّ إلى خالد البغداديّ من علاقته بالإنجليز، ومشاركته معهم ضد ملوك المسلمين في الهند؛ فانّه أمر في منتهى الخطورة، يستوجب الاعتماد على ما يستحيل إحباطه من أقوى الدلائل والبراهين. لأنّه يُستَبْعَدُ أن يقوم رجل صوفيٌ عراقيٌّ غريبٌ في ديار الهند بمشاركة الإنجليز في القضاء على حكم المسلمين في تلك الديار؛ كما يُستَبْعَدُ في الوقت ذاته أن يبادر هذا الأمير العالم المرموق بشخصيته العلمية ومكانته الاجتماعية فيخسر كرامته بمثل هذا الإسناد الواهي الّذي يجعل من خالد الصوفيّ الغريب المسكين بطلاً يزيل الملوك عن كراسيّهم، وهو في أرض من أبعد المناطق على وطنه وعشيرته، معزولاً عن السلاح والعتاد!
ولكنّ خالدًا البغداديّ يمتاز بشخصيةٍ رهيبةٍ كلما انكشف للباحث منها جانبٌ أثاره البحثُ ليتابع فيه سيرَه، فلا يكاد ينتهي منه.
ومن ميّزات البغداديّ أنّه لم تسنح له فرصةٌ إلاّ وقد استغلّها ليزداد بها شهرةً إلى شهرته. و من دلائل هذه النفسية الحريصة، أنه اقتبس ثلاثَ كلماتٍ من لهجة سكان الهند فاستخدمها في إشباع أغراضه وتحقيق طموحاته.(64/328)
الأولى منها: هي كلمة "مولانا" الّتي اتّصف بها، ولم يكن من العادة استعمال هذه الصفة للعلماء أو الروحانيّين في المجتمع العثمانيّ؛ بل كان من عادة الفرس والهند. كما عُرف بهذا اللقب جلالُ الدين الروميِّ الّذي هاجر إلى مدينة قونية من خراسان في العهد السلجوقي. فلم يتلقب بهذا العنوان أحد من علماء آناضول تقليدًا به، على الرغم من شهرته البالغة. وقد انتقد خالدًا عددٌ من خصومه على اتصافه بهذا العنوان وعلى رأسهم العثمان الجليليُّ.
وثانيها: هي كلمة "صاحب". كان استعمالها شائعًا بمعنى الصديق على لسان المنتسبين إلى الإسلام في الساحة الهندية. فأطلَقَ خالدٌ هذه الصفةَ على أخيه محمود بعد عودته من الديار الهندية، فاشتهر أخوه بها.؛ ثم انتقل إلى أسعد بن محمود حتّى عُرف هو الآخر بهذا اللقب وناداه الناس بـ"الشيخ أسعد صاحب ذاده"
ثالثها: هي كلمة "ميان" (بكسر الميم وفتحها). استعملها طائفة من مريديه بتأثيره. وهي أيضًا بمعنى الصاحب والصديق.
يبرهن حتّى هذا التقليد الطفيليُّ التافه على نفسية خالد البغداديّ وطبيعته. والله وحده يعلم كم بذل خالدٌ من الجهود وما همس إلى أمناء سره ودعاته وبطانتِهِ من أوامر وتعليمات لاستمالة الناس إليه وإلقاء هيبته ومحبته في قلوبهم بكلّ طريقةٍ ووسيلةٍ أجادوها. إذ أن أيَّ فردٍ ذاع صيته في حياته، يستحيل أن يكون قد نال ما نال من الشهرة دونما رغبة منه واشتياق، ومن غير تحبّبٍ منه وتصنُّعٍ إلى الناس، ما عدا أهل الإيمان الصادق والإخلاص من أولئك الّذين يمتاز دعواهم بالشمول والعالمية؛ وهم الأنبياءُ والمرسلون وأنصارُهم من الحواريين والصحابة والصديقين والتابعين لهم بإحسان.(64/329)
إذًا فانّ أسرار شخصية خالد البغداديّ قضيةٌ مهمّةٌ مرهونة بالإطلاع على واقعها من خلال بحثٍ مستقلٍّ يستوعب جوانِبَها الخفيةَ بتمامها. ولا نبالغ إذا قلنا: أن هذه السلسلة من التوضيحات الّتي ما زلنا في متابعتها، لا تبخل بكشف القناع عن قسط كبير من هذه الشخصية وإزالة ما تتوارى وراءها من سرابيل الزهد والإخلاص والعبادة والتقوى؛ وذلك بأقصى قدر من التفصيل بدقائقها على حقيقتها؛ لتكون وثيقةً تاريخيةً، وعبرةً لأولي الألباب!
مكث خالدٌ البغداديّ في مدينة جهان آباد (دلهي) مدة عام كامل. عدا ما أمضى من الوقت في السفر ذهاباً وإياباً. لأنّه بدأ رحلته عام 1224 من الهجرة وعاد سنة 1226هـ. يُقِرُّ بهذه الحقيقة من أرّخ له من النقشبنديّين أيضًا. ولكنه ماذا عمل وما ذا تعلّم في هذه المدة؟ على أي حال، فقد أجاب النقشبنديّون عن هذا السؤال حسبما قصّ عليهم البغداديّ من ذكرياته. ولكنّنا لا نعثر على كلمة واحدة ما عسى يكون قد صرفها دفاعًا عن دماء المسلمين من سكّان الهند وحمايةً لعرضهم وكرامتهم ضدّ السلطة الإنجليزية الّتي لم تعرف الأمان ولا الاحترام لحقوق أهل الإسلام في تلك الديار. بينما نعثر على عبارات له في رسالته الّتي وجّهها إلى عبد القادر الحيدريّ ردًّا على كتابه، يعبّر فيها عن ابتهاجه بغلبة الجيش العثمانيّ على العرب الوهّابيّين، وهذه كلماته:
»ثمّ بشّرتُمْ فيها دَاعِيَكُمْ ببعض الأخبار السارّة من جهة الحرمين الشريفين وغلبة عساكر الإسلام وانتظام أمرهم، وذلّة الفرقة المخذولة الوهّابية وقربهم على الدمار والبوار، ووقوفهم على شفا جرف هار«. راجع المصادر التالي:
* محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد ص/ 172: الرقعة الثالثة والأربعون من مكتوبات خالد البغداديّ؛ كتبها إلى خليفته عبد القادر الحيدريّ؛
* المصدر السابق، ص/ 183: الرقعة الخمسون من مكتوبات خالد البغداديّ؛ كتبها أيضًا إلى خليفته عبد القادر الحيدريّ؛(64/330)
* عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، (تذكار الرجال)، الرقعة السادسة والثلاثون. مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)
من عجائب قدر الله وآثار قدرته أنّ الغلبة صارت في النهاية لجيش الوهّابيّين، وانتظم أمرهم حتّى أعلنوا عن قيام دولتهم. أمّا عساكر النقشبنديّين، فانّهم باؤوا بفشل ذريع وأصبحوا هم الفرقة المخذولة، بخلاف ما كان يتوقّعه غوثهم الّذي يعظمونه بصفات لا يعتقدونها في أحد من الأنبياء والمرسلين. فلم يتحقّق لهم النصر ليباهوا بذلك خصومَهم على أنّه من كراماته ولكن هذه الفتنة الّتي اشترك في إضرام نيرانها الجانبان، غدت من الأسباب الهامّة لسقوط دولة المسلمين (الإمبراطورية العثمانيّة العظيمة) الّتي كانت محط آمال المسلمين، ومصدر فخرهم واعتزازهم وذخر أمنهم وأمانهم.. {وَمَا النصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. سورة آل عمرن/126.
اشتهر خالدٌ البغداديّ بعد عودته من الهند بصورة غير معهودة، وذهب صيته إلى أقصى بقاع المملكة العثمانيّة مما أثار الشكوكَ حوله في نفس الخليفة العثمانيّ السلطان محمود الثاني بالذات وفي أوساط حكومته. لأنّ أتباعَ خالدٍ البغداديّ كانوا يسعون بحماسة شديدة لنشر طريقتهم في جميع أنحاء المملكة، وكانت لهم نشاطات كثيفة حتّى في مدينة إسطنبول عاصمة الدولة.
فقد ورد على لسان أحد المؤرّخين العثمانيّين ما قد عرّبه عباس العزّاويّ كما يلي:(64/331)
»منذ خمسة أشهر مضت، ورد إلى إسطنبول بعضُ خلفاءِ الشيخ خالد المتوطّن في الشام، وهو من علماء السليمانية، وانتشروا في مساجد إسطنبول وجوامعها، وبثّوا الدعوةَ إلى طريقتهم، فانتسب إليها جماعةٌ من أكابر إسطنبول وعلمائها، ونالوا شهرةً في بلاد العربِ والتُّرْكِ، وصاروا يسمّون دعاتهم (الخلفاء)؛ فأذاعوا هذه الطريقة، وسعوا سعيًا حثيثًا في ترويجها وكسب المريدين لها.
وهى وإن كانت لا ضرر منها في الظاهر، فالأَولى أن لا يُتْرَكَ المجالُ لتكثير (سواد الصوفيّة) وإقرارهم على هذا. والواجب يقتضي مراعاة الأحوال الموجودة والمعهودة في الإسلام.(64/332)
وعلى هذا نُفي من إسطنبول مشاهيُر الطريقة النقشبنديّة وأعوانُهم في 21 من شهر رمضان سنة 1234هـ. 1817م. ليلاً. وجيء بهم إلى الميناء، وأُركِبوا في زورق إلى (قارتال) منطقة وميناء داخلي في الناحية الشرقية من مدينة إسطنبول ومحطة هامّة بينها وبين مدينة يالوا. ومنها إلى سيواس سيواس (السبطية القديمة) مدينة عريقة في أواسط آناضول، ومحطة هامة بين شرق البلاد وغربها. فأحلّوهم فيها. وفي اليوم التالي نُفِيَ من مشاهيرهم علي أفندي أُرْكُبِي من علماء إسطنبول إلى (جَرْكَشْ) داخل مدينة أنقره. وصالح أفندي، وأحمد أفندي إلى (سيواس). ثم أُرْسِلَ خليفةُ الشيخ خالد وأَعْوَانُهُ إلى أنحاء السليمانية على أن لا يعودوا إلى إسطنبول«. تاريخ لطفي 1/287. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/4755. فأدّى هذا التطوّر إلى إصدار الأوامر بالبحث والتحقيق مع خالد البغداديّ، رئيس الطائفة. وذلك بإيعاز من أحد رجال الدولة يُدْعَى حَالَتْ أفندي. حالت أفندي (السيد محمود سعيد 1766-1823م.) كان رجلاً وجيهًا عالمًا بارزًا بين رجال الدولة العثمانيّة في عهد السلطان محمود الثاني. تولىَّ مناصب هامّةً وأقام سفيرًا في العاصمة الفرنسية (1802-1806م.) على الرغم من أنه لم يتعلّم اللّغة الفرنسية. شخصيتُهُ جديرةٌ بالإهتمام. لأنّه كان حريصًا مغامرًا خطيرً لم يستعظم أيّ عقبةٍ على طريقه في التوصّل إلى مآربه. كان له تأثير في تنفيذ حكم الإعدام في كلٍّ من علي باشا وأبنائه المعروفين بأسرة (تبه دلنلي)؛ وكذلك في إعدام سليمان باشا والي بغداد، وإقالةِ صالح باشا، وثورة المورة. ثم في النهاية تم تنفيذ حكم الإعدام فيه أيضًا بتأثير مسيو صابستيان سفير الدولة الفرنسية في إسطنبول. فأمر به السلطان، فقُتل في مدبنة قونيا خنقًا.يَعُدّ النقشبنديّون هذا الحدثَ من كرامات الشيخ خالد البغداديّ، وتحقيقًا لدعائه على حالت أفندي الّذي كان قد سعي لدى السلطان(64/333)
محمود الثاني، وأشار عليه بأخذ الإحتياطات ضد خالد وبطانته. فقام بهذه المهمّة داود باشا والي بغداد. إلاّ أنّه أعرب في التقرير الّذي أعدّه؛ »أنّ خالدًا لا قصد له إلاّ إحياء السنّة السنية، وأنّه مشغول بإرشاد مريديه، غير ساع بذلك إلى تحقيق أيّ مصلحة له. وأنّه بعيد كلّ البُعد عن الشئون السياسية«. وتعهّد الوالي داود باشا في نهاية التقرير »أنّ خالدًا لن يتدخّل في أيِّ شئٍ من شئون الدولة أبدًا«. سليمان فائق، مرآت الزوراء ص/ 68.
اطمأنتْ السلطةُ لا شك بعد هذا التحقيق الّذي أثبتَ ولاءَ خالدٍ للخليفة. إلاّ أنّ في هذا الحدثِ مسألة هامّة. تلك أنّ نشاطات خالد البغداديّ بما فيها رحلته إلى الهند، والتطوّرات الّتي تعاقبتْها؛ كانتشارِ صيته إلى الآفاق بسرعةٍ، وإقبالِ الأعيان عليه، إذا لم يكن ذلك كلّه خطّةً قد أعدّتْها أيادي السلطة العثمانيّة بالذات في وقت سابق لاستخدامها في أَوَانِهِ لجمعِ شملِ الدولةِ، فانّ وجودَ خالدٍ صدفةً وبغتةً بهذه الشهرة المتزايدة أصبح فرصةً ذهبيةً للتوصّل إلى الغرض المنشود، وبخاصّة لما اتّفق مع هذه المرحلة الخطيرة الّتي تزاحمت فيها الويلات على الدولة العثمانيّة، والتفّتْ بخناقها حتّى كادت تُشرف على الدمار.(64/334)
وعلى سبيل المثال فانّ الوهّابيّين أعلنوا الثورةَ على السلطة العثمانيّة في جزيرة العرب. فأرسلتْ الدولةُ إليهم محمّد علي باشا عام 1812م. كذلك وقعت ثورات عديدة في منطقة البلقان؛ من أشدّها ثورة الصرب في بلغراد الّتي أُرسِلَ خرشيد باشا لإخمادها عام 1813م. ثم انعقدت جمعيةٌ سريةٌ يونانيةٌ باسم: أتنيكي أترياEthniki Etaireia عام 1814م. لفصل المنطقة اليونانية عن الدولة العثمانيّة وإعلان استقلالها. وكانت الدول الأوربية قد اتّفقت في خضم هذه الثورات على إجبار الدولة العثمانيّة للاعتراف بالوجود السياسي للأقليّات. ولم يكن الغرض الحقيقيّ للدّول المتحالفة من هذا الإجبار إلاّ تمهيد الوسط لاقتسام الأراضي العثمانيّة فيما بينها.
كانت هذه نُبذةً يسيرةً عن مشاكل الدولة العثمانيّة في الخارج. أمّا في الداخل، فانّ الدولة كانت قد فقدت الهيمنة على المنطقة الكرديّة. وعندما كلّف السلطانُ عشائرَ الأكراد بحمل السلاح والالتحاق إلى معسكرات الدولة لتغطية الفراغ الّذي بقي بعد القضاء على الجيوش الإنكشارية، رفضوا أمرَهُ، وأعلن بدرخان باشا (أميرُ كردستان) الثورةَ عام 1831م. وكانت الطائفة اليزيدية القاطنة بجبال سنجار بقرب مدينة الموصل، كانوا قد أعلنوا العصيان منذ عام 1830م. إنّ الدولة العثمانيّة لم تكن قد تعرّضت إلى هذا القدر من المخاطر عبر تاريخها المديد.(64/335)
إذًا فلم تكن مضايقة خالد البغداديّ في مثل هذه الظروف من مصلحة الدولة بحكم الطبع. بل كانت الحكمة في استغلاله، وتجنيد أتباعه المنتشرين في أنحاء المملكة، واستخدامهم بجانب قوات الدولة، مما دفعت السلطةَ إلى التعاون معه؛ كما تبرهن على هذه الحقيقة كلمات الباحث العراقيّ، عباس العزّاويّ بالنسبة لداود باشا والى بغداد، فيقول العزّاويّ »وبعد أن استولى على بغدادا وصار واليا عليها، استغلّهم سياسيًّا وجلب رضاهم...« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 718. بغداد - 1973. خاصّة وأنّ عقائد النقشبنديّين لما كانت تختلف عن عقائد السلفيّين اختلافًا كبيرًا - والوهابيّون يعدّون أنفسَهم من السلفيّين - استغلّتْ السلطةُ العثمانيّةُ هذا التنافرَ أكبر فرصة في تحريض خالد البغداديّ وأتباعه على الوهّابيّين الثوّار، وكانت الأسباب متاحة لهذا الاستغلال.
إذ أنّ الموقع الجغرافيَّ الّذي اتخذته الفرقة الخالدية مركزًا لها يومئذ - وهو بلاد الشام والعراق - كان على تخوم منطقة الوهّابيّين، خاصّة و أنّ هذا الموقع كان بمنزلة الدرع لمنطقة آناضول التركية ضد انتشار عقيدة التوحيد بدافع نشاطات النقشبنديّين على امتداد هذه الساحات الشاسعة.
إنّ هذه الحقيقة ما زالت خافية على المثقّفين العرب حتّى الآن، و أنّ البحوث العلمية الّتي قد خاض فيها علماء العرب منذ بداية النهضة الحديثة لم تتناول هذا الجانب من التطوّرات في أبعادها الواقعية والموضوعية، ذلك لأنّ الطريقة النقشبنديّة لم تنتشر في صفوف العناصر العربية بشكل ملحوظ. ولذلك لم ينتبه الباحثون العرب إلى مدى علاقات النقشبنديّين بالسياسة وأهلها في الداخل والخارج، ولا إلى دورهم في محاربة الوهّابيّين، سواء في العهد العثمانيّ وفي العهد الجمهوريّ. كما سنشرحه في بابه إن شاء الله.(64/336)
إنّ الّذين يدّعون أنّ خالدًا جاء بتربية جديدة ونفخ في الناس روحَ الزهد والعفّة والقناعة بفضل طريقته وآدابه الخاصّة، فأدّى ذلك إلى هبوطٍ ملحوظٍ في أحداث النهب والسلب والقتل، وسَادَ الهدوءُ والأمنُ والطمأنينةُ في المنطقة الكرديّة بتأثير هذه الطريقة؛ فانّ هذا الادّعاء قد يكون له أساس من الصحة. إلاّ أنّ هذا الدفاع الحماسيَّ العاطفيَّ لا يبرهن على مشروعية الأساليب المخالفة لروح الإسلام بتاتًا؛ مهما كانت هذه الأساليب تتبنّى ما يُرْشِدُ إليه الإسلام من الفضائل والأخلاق السامية. فإنها لا تعدو الإقرارِ بالإسلامِ وآدابهِ الأصيلةِ وعظمتهِ وحّقَّانِيَّتِهِ وَرَبَّانِيَّتِهِ الّتي استوحتْ منه النقشبنديّة أمورًا كما استوحتْ من أديان أخرى وعلى رأسها الهندوكية، إذن تسقط هذه الأساليب من الاعتبار تلقائيّا في ميزان العقلِ والقساس المنطقيّ لأنّها تبقى زائدة على الإسلام وتفضله بدون حكمة؛ وتقع تلك الأساليبُ موقعَ دينٍ مستقلٍّ. لأنه قد تكون ثمّة طرق لتدريب الإنسان على الصدق والقناعة والعفّة وصفاء السريرة مع الشرك بالله. كما في الأديان الباطلة المحرَّفة. فانّ ذلك ليس من الحكمة في شيءٍ. إذ لا يخفى أنّ اليهودية، والمسيحية، والبرهمية، والبوذية، والزرادشتية وغيرها من الأديان؛ كلها تحرّم الكذب، والغش، والسرقة، والإيذاء والقتل، والزنا؛ مع أنّها أديان محرَّفة باطلة بحكم الله القاطع في كتابه العزيز. {إِنَّ الدين عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ.}. سورة آل عمران/19. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلآمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ.}. سورة آل عمران/85.(64/337)
أما اختفاء الوقائع الإجرامية بتأثير خالد البغداديّ وطريقته، فإنه أمرٌ ثانويٌّ أسفر عن الطاعة المطلقة الّتي أظهرتْها جماهيُر النقشبنديّين له ولِخلفائه؛ والّتي أثّرتْ على نفوس الآلاف من غيرهم. وله سبب غريب جدًّا. يكمُنُ سرُهُ في صلاةٍ خاصّة بهم تسميَّ "الرابطة" عندهم. وهي "التركيز" على صورة الشيخ بشروطٍ معيّنةٍ سبق شرحها بالتفصيل في باب آداب الذكر عند النقشبنديّة من الفصل الثاني. ذلك لما انتشرت هذه العقيدة بجهود خلفاء البغداديّ ودِعَايَاتِهِمْ الكثيفة على الساحة الكرديّة الّتي كانت يومئذٍ مهدّدَةً بأخطار اللصوص وقطّاع الطرق والحراميّين، وانجذب غالبُ الأكراد بهذا الّتيار الصوفيّ إلى صفوف النقشبنديّين؛ لوحظ - بحكم الطبع - انحطاطٌ بالغٌ في أحداث النزاع والجنايات في المنطقة. لأنّ هذه الصلاةَ السحريةّ لها تأثير عظيم في تهدئة الأعصاب وإماتة الشعور والقضاء على البطر والميول الشهوانية.
وقد أثبتتْ التطوّرات الّتي شاهدها محيط النقشبنديّين في تركيا، أنّه ما من شيخٍ من مشائخ هذه الطائفة اهتمّ بتطبيق الرابطة وشدّد على مريديه بملازمتها، إلاّ وقد انتشر صيتُهُ و تهافت الناسُ عليه تهافت الفراش على النار، ودامت المشيخة في أسرته جيلاً بعد جيلٍ، كالأرواسيّين وأتباعهم من شيوخ الأكراد والتُّرْكِ. وما من شيخ منهم استخفّ بأمر الرابطة ولم يشدد على مريديه بملازمتها، إلاّ انتهت أعماله بالفشل، وخسر أبناؤه من شهرتهم وسقطوا إلى منزلة عوامّ الناس في مدةً قصيرة، كعائلات الشيوخ ذات الأصول العربية من النقشبنديّين في جنوبي تركيا.
أمّا الغاية الحقيقية والنهائية من هذه الصلاة، إنّما هي ترويض المريد على تبعيّة الشيخ و الاستسلام له بكل ما يملك من مال وجاه وروح؛ بكمال الرضىَ، وعن طيبِ نفسٍ وفداءٍ وإخلاصٍ، كما سبق شرحه بالتفصيل.
***(64/338)
كلّ هذه المُعطَيات الهامّة الّتي نُثْبِتُهَا ونَتَحَقَّقُهَا من خلال ميّزات خالد البغداديّ وتأثير آدابه الّتي فرضها على أتباعه، تقودنا إلى التأكُّد بأنّ السلطة العثمانيّة كانت في تلك المرحلة بحاجةٍ مُلحّةٍ إلى هذا الرجل الفريد في مكره ودهائه وذكائه ولباقته ومرونته وحذاقته في جذب الناس والاستيلاء على عقولهم، والتحكّم في إرادتهم. هذا الرجل الّذي أصبح شيخًا روحانيًّا عملاقًا، استهوتْهُ قلوبُ مئاتِ آلاف الناس وتعلّقت به الضمائر، ومع ذلك ارتجفت من بطشه الفرائص، واقشعرّت من هيبته الجلود، وافتتنت بشهرته النفوس، وثارت لاستغلال جاهه ومكانته الأطماع.
ولهذا لم تَدَّخِرِ السلطةُ وُسْعًا في تأييد خالد البغداديّ، والدعاية له، والقيام بنشر صيته سرًّا وعلنًا؛ ذلك لكسب تأييده بمقابلة المثل في إخماد الثورات الّتي انفجرت في المناطق الكرديّة والعربية يومئذ؛ ولتوفير الأمن والهدوء في ربوع البلاد.
إنّ هذا الموقف الّذي قامت على أساسه العلاقات بين السلطة العثمانيّة وبين خالد البغداديّ، يُعْتَبَرُ هو العاملَ الأساسيَّ لانتشار الطريقة النقشبنديّة الخالدية في صفوف الأتراك والأكراد عَبْرَ المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ والعهد الجمهوريّ على السواء؛ والّذي جعل من هذه الطائفة اليوم جمهورًا في تركيا، تحسب الحكومات حسابها في كلّ تقلّبٍ وقرار لكسبها.
***
* خالدُ البغداديّ ومعارضوه.
تفيد أخبار النقشبنديّين أنّ خالدًا لقي معارضةً شديدةً من رجالٍ بارزين في العراق فور عودته من الهند. هذه المعارضة، على الرغم من أنّ النقشبنديّين يحملونها على الحسد المحض من هؤلاء الأشخاص، لها سببان مهمّان، كما سنطرقهما بالإيجاز، بعد أن نُلقي نظرة سريعة على شئٍ من كلمات مَنْ ندّد بالمعارضين ورماهم بالحسد؛(64/339)
يتحمّس عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بخلع صفات الإجلال على خالد مدافعًا عنه بأسلوبه المسجّع الخاصّ وعلى سبيل التشنيع والإدانة لخصومه فيقول:
»لمّا اطّردت سنة الله في الّذين خلوا من قبل، أن يجعل حُسّادًا لكلّ من تفرّد بالفضل، وكلّما كان الكمال والمحبوبية الإلهية أشدّ، كان الإنكار والحسد أشدّ؛ هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه بالحسد والعدوان والبهتان، ووشوا عليه عند حاكم كردستان بأشياء تنبو عن سماعها الآذان، وهو برئٌ منها كلّها بشهادة البداهة والعيان«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/231.
ثم يستطرد الخانيّ بقوله:
»فألّف أحد المعروفين من المنكرين الّذي تولّى البهتان كبرًا وغرورّا، رسالةً مُلِئَتْ منكَرًا من القول وزورًا، وأرسلها مع سُعاة الفساد إلى سعيد باشا والى بغداد، متّخذين الجرأة فيها على نكيره لتنفيره منه سببًا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلاّ كذبًا«. المصدر السابق.
هذه العبارات الّتي استعرض فيها الخانيّ تفوّقه الأدبيَّ، لا تُنبئ عن تمام الحقيقة لذلك الحدث. وإنّما الواقع، هو الّذي أثاره »أَحَدُ الْمَعْرُوفَيْنِ مِنَ الْمُنْكِرِينَ« بتعبير الخانيّ -، (وهو معروفٌ البرزنجيُّ، والثاني لم نعثر على شيءٍ من أخبارِهِ). فالواقع الّذي أثاره البرزنجيُّ، هو مقالُهُ عن خالدٍ (وما جاء في خلالِهِ: أنَّ خالدًا حمل من الهند إلى العراق من عادات البراهِمَةِ وعقائدهم، فجعلها أساسًا لطريقته فجذب قلوبَ الناسِ بها.)(64/340)
يبدو من ظاهر طعن البرزنجيِّ في خالد البغداديّ، أنّ السبب لهذه المعارضة، هو ما يقصده بقوله: »إنه ذهب إلى الهند، فتعلّم من السحرة الجُوكِيَّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم« خشية أن يدسَّهُ في عقائد المسلمين (() إلاَ أنّ السبب الحقيقيَّ هو مخافةُ معروفِ البرزنجيِّ من أن يخسرَ أتباعَهُ وشهرتَه، فيُصبِحَ مهجورًا وحيدًا بعد أن رأى خالدًا ينافسه بنجمه الّذي بدأ يلمع في الآفاق ويتألق.
من الجدير بالإشارة هنا، أنّ محاولة البرزنجيّ في هذه المعارضة، تبرهن بكافّة جوانبها على قلّةِ حظِّهِ من العلم والمعرفة والسموّ الأخلاقيِّ؛ و على عدم كفاءته ومروءته وإخلاصه. ولكن تدلّ على أنّه كان هو الآخر صوفيًّا متطرِّفًا بعيدًا من الفضائل والكمالات الّتي يتميّز بها علماء الإسلام من الصلابةِ في وجه الدجاجلة المحرِّفين؛ جبانًا، لا يملك الجرأةَ على أهل الأهواء والبدع والفاسقين؛ جاهلاّ بفنون المجادلة وأساليب إفحام المتنطّعين.
لذا وجد نفسَه في النهاية مضطرًّا للاستسلام تحت ضغط النقشبنديّين، ورضي بالذلّة والمهانة أمام زعيمهم، فاعتذر كما يذكره الخانيّ في حدائقه ويشرحه بحماسة ورغبة ابتهاجا بانتصار خالد البغداديّ عليه، فيقول:
»ثم اعترف معروفٌ بافترائه، وتشفّع إليه (...) مع جملةٍ من أحبّائه، فقبل به شفاعتهم، وكتب له ما أوجب مسرّتهم. ونصّه:«(64/341)
»من العبد المسكين والفقير المستكين إلى جناب سيّدي الجامع لشرف العلم والأدب الحائز لكرامتي الحسب والنسب، سيدنا ومولانا السيد معروف، سامحه بفضله الكريم الرؤوف. وبعد؛ فقد بلغني ما وصّيتم به أخي ملاّ حسين القاضي وأمرتموه بتبليغه إلينا من حسن العبارات ولطائف الإشارات؛ ثم ما ألقيتموه مع قرة عيني العالم العامل السيد إسماعيل من مكارم الأخلاق، والاشتياق إلى التلاق، وإظهار الأسف على ما صدر منكم في حق الفقير على سبيل الاتّفاق، بسعاية أرباب الأغراض وأهل الشقاق؛ والاعتذار عن جميع ما جرى به اليراع، في رسالتكم المعهودة الناشئة عن تقليد الوشاة وعن عدم الإطّلاع، المهيّجة عند بعض عوام المريدين لفرط الوحشة وشدة النزاع، الحاكمة على هذا المسكين بأمور تنبو عن استماعها الأسماع؛ من استحلال المحرّم، والكلمات الدالة على الكفر، وداعية الاستيلاء على البقاع، وغير ذلك مما لا يليق بشأن الأوغاد والرعاع. وتفصيله لا يخفى على ذهنكم الوقّاد وطبعكم النقاد. و إني لبرئٌ عما نسبتم إلىَّ من فنون المثالب والفساد والإفساد. وأمرتم السيد المذكور أن يستكتب مِنِّي أُلوُكَةً تنطق ببراءة الذمّة من جميع ما صدر وغبر وجرى به القلم بمقتضى القضاء والقدر، لتصير مفتاحًا لأبواب الائتلاف ومصباحًا لِدَيَاجِيرِ المراء والخلاف.وبلغني من السفيرين تصميمكم على الإمساك فيما بعد أمثال ما مضى من النزاع والمناحرة، وملافاة ما فات بطيب التحابّ وحسن المعاشرة وتبديل المعارضة والمنافرة بالفكاهة والمسامرة؛ فسرّتني هذه الحكاية غاية المسرة؛ وحمدتُ الله على هذه النعمة مرةً بعد مرةٍ، شكرًا لمن بدّل الشقاق بالاتّفاق، وهيّأ أسباب الوصول بعد طول الفراق. أدامنا الله على هذه النية، وأتمّ لنا بمنّه هاتيك الأمنيّة؛ ثم الأمر بإرسال المكتوب، امتثلنا وهو أحسن المطلوب، ونريد جوابه على أبلغ أسلوب.و أمّا الإبراء، فهو يصدر منّي ليلاً ونهارًا، وأفصحتُ به في(64/342)
المحافل جهارًا، كما قرع سمعكم مرارًا.وأمّا حب الإلتآم وترك الاختلاف، فأمرٌ يَشتاق إليه أهل الإنصاف. فكيف بمن يدعى له قدم في طريق التصوّف ولو بالجذاف. ولا يخفى عليكم أنّ السبب الأصليَّ لهذه الوحشة إنّما هو ترك التردد، وتقليد أقوال الناس.فانْ صحّ ما بلغني عنكم، فعليكم بالإعراض عن الكلمات المؤدّية إلى الشكّ والوسواس. فانّ أحوال أهل الفقر وراء العقل، والعلم يدرك بالقياس. وبعد اللتيا والّتي، يضمن لك هذا المسكين - إن ثبت قدمك، وما طغى قلمك بعد اليوم - أن ترى نتائج لا يحمل أكثرها السفير، وتزيد على حوصلة التقرير والتحرير.
ومن بعد هذا ما تدقّ صفاته * وما كتمه أحظى لديّ وأجمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/231-232.
إنّ في هذا الخطاب لعبرة لأولى الألباب! نلمس من خلال مضمونه ما يمتاز به خالد من لباقةٍ وتلوّنٍ ومهارةٍ بفنونِ التفنيدِ ولو كان مُنَاظِرُهُ على حقّ. ونجده في انتقاء الكلمات بارعًا محنَّكًا، يُتقن أساليب حرب الجدال، ويعلن انتصاره بجمال التعبير، وكمال النطق والتقرير، ونظام الإنشاء والتحرير، بحيث يضطرّ المخاطب أن يُرخِيَ له جناحَ الذلّ من الهيبة فيعلنَ الاستسلامَ والخنوع أمامه، ويكتم الحقَّ والواقعَ، ويعترفَ بغلبته وعظمته.
هذا ما وقع لمعروف البرزنجيّ. فتهيّب ظلّ خالدٍ واستعظمه، ودبّ الذُعر في قلبه حتّى أظهر الندامة؛ وكأنّه لم يكن هو الّذي طعن في خالد بقوله: »إنّه ذهب إلى الهند، فتعلّم من السحرة الجُوكِيَّةِ ومن نصارى الإنجليز دينًا ظهر عندهم«. راجع الهامش رقم/ 457.
***
وهنا يتبادر إلى الذهن بهذه المناسبة أنْ نتساءل عن السر الحقيقي الّذي يَكْمُنُ في رحلة عددٍ من رجال الصوفيّة إلى بلاد الهند بما فيهم خالد البغداديّ؛ وذلك لسببٍ غير شديد.
يقول الباحث سميح عاطف الزين في هذا الصدد:(64/343)
»ومنهم من سافر إلى بلاد الهند كي يلتقي المهرة ممن يمارسون فنون السحر؛ فيأخذ عنهم ما يحقّق له غايته. ومن هؤلاء، كان الحسين بن منصور الحلاّج الّذي سافر إلى الهند أكثر من مرة، وقضى فيها بضع سنوات، حيث تعلّم وتدرّب وعاد يُظهر للناس ما يبهر العيون، ويجمع الأتباع والمريدين. فمن الأعمال الّتي كان يقوم بها: أنّه كان يدخل تنّورًا يضطرم بالنار فيجلس في ناحية منه، والخباز يخبز في ناحية أخرى. ثم يخرج دون أن يمس جسمه النار. أما في الواقع، فانه كان يَعْمِدُ قبل دخوله التنّورَ إلى دهن جسمه بمادّة الطلق الّتي لا تؤثر فيها النار. وهي مادّة الأسبستوس المعروفة اليوم، والّتي تُصنَع منها الملابسُ خاصّة لرجال الإطفاء يرتدون عند مكافحة الحرائق«. سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 157، 158.
هذا ومن الأمور الشائعة بين الطائفة الرفاعية والجراحية والقادرية - خاصّة في تركيا والعراق - أنّهم يقومون بطعن الأسياخ من الحديد في مختلف البقاع من أجسامهم؛ يدخل السيخ مثلاّ في ناحية من البطن، ويخرج من العَجُزِ وهو يرقص في حالة من الاستغراق.(64/344)
كذلك يدخلون النار فلا تحرقهم، ويقرِضون الزجاجَ فيسحقونه بأسنانهم ثم يبتلعونه على رؤوس الأشهاد. وهذه الاستعراضات كثيرةُ الوقوعِ، يشهدها جماهيرُ من الناس الّذين يحضرون حفلاتهم بعيونٍ شاخصةٍ، واستفهامٍ في أذهانهم، لا يجدون له ردًّا، ولا لمشكلتِهم حلاًّ. فيظنُّ غالبهم أنّها كراماتٌ، ويحسب بعضهم أنها أشكال من السحر. والحقيقة أنها ليست من الكرامة في شيءٍ ولا هي معدودة من السحر؛ وإنما هي طبائعُ مكتسبةٌ نتيجةَ رياضاتٍ يوغيةٍ شاقةٍ من تقاليد الهنود، قلّ من يتحمّل ثقلها وآلامها والحرمان الّذي يعرض له جسمه. يمارسونها مدة طويلة حتّى يصلون إلى هذا الحدّ من قوة التحكم في الأجهزة الدقيقة من البنية البشرية ووظائفها؛ وهي حالة خطيرة تسمّى بالتعبير العلميِّ Concentration Physiologic أي "التركُّز الفزيولوجي".
وقبل أن نخرج من بحثِ معارضةِ البرزنجيّ، ينبغي أن نتطرّق بإجمالٍ إلى المهاجمة والردود الّتي تعرّض لها في مقابلة عتابه على خالد البغداديّ.
يقول الباحث العراقيّ عباس العزّاويّ:
»إنّ الشيخ معروفًا النودهيّ البرزنجيّ (وهو العلاّمة الشيخ محمّد بن الشيخ مصطفى.) فقد نظم رسالة بعنوان: تحرير الخطاب في الردّ على خالد الكذّاب. وأرسلها في سنة 1228 هـ./1813م. إلى الوزير سعيد باشا والي بغداد في ذمّ الشيخ خالد، ولم يكتف بذلك حتّى أسند إليه الكفر. وناصر الشيخ معروفًا كثيرٌ من الأهليّين في السليمانية. كانوا يعتقدون بسادات بَرْزَنْجَة وطريقتهم (قادرية)؛ فثقل عليهم أمر الشيخ خالد؛ وحاولوا إخمادَ شهرته فلم يفلحوا«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 710.) بغداد-1973م.(64/345)
يمكن اختصار ما جاء بعد هذا المقطع ضمن كلام العزّاويّ في هذا الصدد: أنّ تلك المعارضة لقيتْ ردًّا عنيفًا من بطانة خالد ومناصريه بما فيهم والى بغداد سعيد باشا بن سليمان باشا؛ فتصدّى للردّ على البرزنجيّ كلٌّ من الشيخ محمّد أمين بن محمّد صالح الطبقجليّ، مفتي الحلّة؛ والشيخ يحيى المزوريّ؛ والشيخ عبيد الله الحيدريّ؛ والشيخ محمّد أمين السويديّ.
أمّا الشيخ محمّد أمين بن محمّد صالح الطبقجليّ، فانّه ردّ على البرزنجيّ بعجالة سمّاها "القول الصواب، بردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب"؛
وأمّا الشيخ يحيى المزوريّ، فرسائله الّتي نصح فيها البرزنجيّ وهي سبعة رسائل، يضمُّها كتاب "بغية الواجد" محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/261-284. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م. للشيخ محمّد أسعد الصاحب، جمع فيه مكتوبات عَمِّهِ خالد البغداديّ.
ومن جملة هذه الردود »صكٌّ« مُوَقَّعٌ عليه من ملالي السليمانية الّذين كانوا تحت تأثير خالد البغداديّ بحكم الجوار. يفخر النقشبنديّون بهذا الصكِّ على لسان ناقله إذ يقول بعد ما يعدُّ أسماءَ هؤلاء الخواجوات المتواطئين على إصداره بتوقيعاتهم »هم من العلماء الأفاضل والسادات الأماثل. ومضمون الصكِّ المذكور: الثناء على حضرة مولانا خالد، والحطّ على رسالة الشيخ معروف وتكذيبها؛ مع أن أغلب العلماء المذكورين أبناء عَمِّهِ.« المصدر السابق ص/ 213. الصكّ المذكور، فقد أورده أسعد الصاحب بكامل نَصِّهِ في بغية الواجد بعد هذا التوضيح مباشرةً. أوّله »الحمد لله الّذي أراح الفقراء مع كثرة تعرّض الظالمين...«(64/346)
كذلك تصدّى الشيخ محمّد أمين السويديّ للرّدّ على رسالةٍ كان قد كتبها الحاج أبو سعيد عثمان بك بن سليمان باشا الجليليّ بعنوان »دين الله الغالب على كلّ منكر مبتدع كاذب«. كان شَرَحَ بها رسالةَ "تحرير الخطاب" للشيخ معروف البرزنجيّ؛ ردّ عليهما السويديُّ بكتابه الّذي سمّاه تارةً »دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم«؛ ثم قال »ويناسب أن يسمّى القول الصواب في ردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب«؛ ثم قال »والأنسب أن يسمّى السهم الصائب لمن سمّى الصالح بالمبتدع الكاذب« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 712.) بغداد-1973م.
نقل أسعدُ الصاحب ترجمةَ محمّد أمين السويديّ وامتدحه بقوله »إنّ هذا الجهبذ المفضال قد قام في الانتصار لحضرة مولانا العم حق القيام؛ يتحتّم عليَّ أنْ أذكرَ نُبذةً من ترجمته أداءً بحق خدمته«. محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/ 292. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م. إلاّ أنّ الشيخ أسعد هذا، لم يملك نفسه في الوقت ذاته من مهاجمة الجليليّ بلهجة قاسية يتحاشى من أمثالها أهلُ العلم، فقال في ثنايا عباراته »فلما اطّلع العلماء الأعلام، في العراق والشام، على تحاملهم على هذا القطب الكامل، طفقتْ تترى ردودُهم على رسالة الشيخ معروف وشرحها الشنيع الّذي سوّدَه عثمان بك الجليليّ، سوّد الله وجهَهُ يوم تسودُّ وجوهٌ وتبيضُّ وجوهٌ«. المصدر السابق. نستحسُّ من هذا الغيظ الّذي يفور من كلمات الشيخ أسعد الصاحب، أن يكون الشيخ عثمان الجليليّ قد قُتِلَ على يد النقشبنديّين أثناء فتنة وقعت في الموصل عام 1829م. والله أعلم بالصواب.(64/347)
وعلى أيِّ تقدير، فانّ النزاع الّذي اندلعت نيرانُهُ بين النقشبنديّين ومُعَارِضِيهِمْ بعد انتشار نشاطاتهم في الشرق الأوسط، يبدو مدى نطاقِ خطورتهِ بمجرّد ما قد سجّلَهُ أسعد الصاحب فحسب، فضلاً عمّا قد كتبه قدماء الفرقة الخالدية وما تناقله الناس من أخبار هذا النزاع؛ كما يظهر ما قد بعثت تلك الحرب الشعواء من هولٍ ودهشة وشغب في أوساط المجتمع يومئذ. ومن أهمّ أحداث هذه الحرب وأخطرها، قيام النقشبنديّين بإحراق الكتب والرسائل الّتي أُعِدَّتْ للرّدّ عليهم. من جملتها كتابٌ بعنوان »البدور الجلية في الردّ على النقشبنديّة« ألّفه الشيخ محمود بن الشيخ عبد الجليل الموصليّ. فقد اختفت نُسَخُ هذا الكتاب بتمامها إلاّ ثنتان منها نجتْ من بطشهم. قيل نسخة منها بحوزة الشيخ جميل الطالقانيّ، فلم نتعرّف عليه؛ أمّا النسخة الثانية فإنها في قرية "بريفكان" بالمنطقة الكرديّة من العراق، وليس الوصول إلى هذه المنطقة من الأمور السهلة كما هو معلوم!(64/348)
هذا، فلم تقتصر محاولة إفحام النقشبنديّين وإحباط أعمالهم في الساحة العراقيّة فحسب، بل تصدّى لهم آخرون في بقاعٍ مختلفةٍ من أرض الإسلام. منهم محمّد صديق حسن خان القنوجيّ البُخَاريّ أمير مملكة بهوبال في الهند. تصدّى للرّد عليه محمّد أسعد الصاحب في كتابه »نور الهداية والعرفان في سرّ الرابطة والتوجّه التوجّه: شكل من طقوس النقشبنديّة. يتم إجراؤه في ليالي الجمعة بعد صلاة العشاء في القرى الّتي تسكنها المنتسبون إلى هذه الفرقة دون المدن؛ حذرًا من أي تطوّر قد يتعرّضون بسببه لتحقيقات أمنية. ذلك لأنّ شيخ الطائفة يقوم أثناء هذه الحفلة بتَجْوالٍ بين صفوف المريدين، وكأنّه يتباحث عما في قلوبهم ويُلقي عليهم من روحانيته. فيتأثر المريدون عند اقترابه منهم لشده اعتقادهم به؛ وأحيانًا يجيش عواطف الكثير منهم؛ فتنطلق من حناجرهم أصوات غريبة، وترتعش معها أبدانهم؛ فيختل بذلك الهدوء والسكينة، ويتحوّل الوسط إلى معترك من الإضطراب والجلبة.
وختم الخواجكان« قال في أوائله:(64/349)
»وقفتُ على التاريخ المسمّى بالتاج المكلَّل تأليف الفاضل المشهور (صديق حسن خان) البُخَاريّ القنوجيّ نوّاب بهوبال؛ فرأيتُ فيه سؤالاً واردًا عليه من الأديب الفاضل السيّد نعمان بن الإمام العلاّمة الكبير والحجّة المفسّر الشهير السيّد محمود الآلوسي مفتي بغداد، عن الرابطة الشريفة الّتي تستعملها ساداتنا الأئمة النقشبنديّة زبدة القادة الصوفيّة (...). وملخّص ذلك السؤال: ما قولكم في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبنديّة (...)؛ وهل لها أصل من السنّة والكتاب، أم هي اختراع واجتهاد؟ فان كان لها أصل فما هو؟ وإلاّ فهل ذلك شرك أصغر وتضليل؟ لأنّها تصوّر المريد شيخه الغائب؛ وكلّما ذكر الله تصوّر صورته في سويداه. أم ليس في ذلك بأس، حيث قال بها جمع من الأواخر؟ وهل يعارض ما استدلّوا به من قصّةِ يوسفَ عند ما همَّ، ورأَى يعقوب عليهما السلام (...). فأميطوا عنّا غبار الشكّ والترديد. إلخ«.
قد جاءت هذه العبارات في كتاب التاج المكلّل بصيغة تختلف بعضُ ألفاظها عما نقله أسعد الصاحب في السطور المذكورة آنفًا؛ وهذه نصها على لسان مؤلف التاج بالذات وهو صديق بن حسن خان البُخَاريّ القنوجيّ، فقال:(64/350)
»ومما كتبه إلينا صاحب الترجمة هذه ما نصه: ما يقول مولانا الأمير السيد النحرير النوّاب المفسر الشهير مقتدى الأعاظم ومن لا تأخذه في الله لومة لائم متّع الله سبحانه المسلمين بطول بقائه، وقمع به البدع، وأناله في الدارين مناه، في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبنديّة - أفاض الله عز شأنه علينا من علومهم المرضية - وهل لها أصل قويّ من الكتاب والسنّة، أم هي اختراع واجتهاد من بعض ذوي الألباب؟ فان كان لها أصل، فما ذلك عند أرباب العقد والحلّ، وإن لم يكن لها دليل، فهل في ذلك شرك أصغر و تضليل؟ لأنها كما هو المشهور: تصوير المريد شيخه الغائب وكأنه في الحضور، وكلما ذكر الله تصوّر صورة شيخه في سويداه، أم ليس في ذلك بأس لدى الأكابر؟ حيث قال بها جمع من الأواخر؛ وهل يعارض ما استدلّوا به من قصة يوسف عليه السلام - عند ما همّ، ورأى يعقوب النبيّ النبيل؟ قوله عليه الصلاة والسلام: أعبد الله كأنك تراه، الحديث الطويل. فأميطوا عنّا غُبارَ الشكّ والترديد بأبين جواب، وميّزوا الخطأ عن الصواب، فإنكم من فضله عزّ وجلّ من الوافين بالعهد والميثاق لتبيين الكتاب، جعلكم الله للسلفيّين وكافّة الموحّدين حصنًا حصينًا، وأنالكم وسائر العلماء مزيد الثواب آمين. سنة 1198 هـ. شعبان«(64/351)
»فأجبتُهُ - عافاه الله وعن المكاره وقاه - مرتجلاً بما هذا لفظه: أمّا مسألة المرابطة، فلا يخفى على شريف علمكم أنّها من البدع المنكَرة. وقد صرّح بالنهي عنها الشيخ أحمد وليّ الله المحدّث الدهلويّ إمام هذه الطبقة وزعيمها، ومسند وقته ومجدِّدِ عصره وفرد الملّة المحمدية وحكيمها في كتابه (القول الجميل في بيان سواء السبيل)، وهذه عبارته: قالوا والركن الأعظم، ربط القلب بالشيخ على وصف المحبّة والتعظيم، وملاحظة صورته. قلتُ: إنّ للهِ تعالى مظاهرَ كثيرةً؛ فما من عابد ـ غبيًّا كان أو ذكيًّا ـ إلاّ وقد ظهر بحذائه شئٌ صار معبودًا له في مرتبته. ولهذا السر نزل الشرع باستقبال القبلة والاستواء على العرش. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم فلا يبصق قبل وجهه. فان الله بينه وبين قبلته. وسأل جاريةً سوداءَ، فقال: أين الله؟ فأشارت إلى السماء. (الحديث). فلا عليك أن لا تتوجّه إلاّ إلى الله، ولا تربط قلبك إلاّ به ولو بالتوجّه إلى العرش، وتصوّر النوّر الّذي وضعه عليه. -وهو أزهر اللون كمثل نور القمر-، أو بالتوجه إلى القبلة: كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون كالمراقبة لهذا الحديث.«(64/352)
»وقد أفاد الشيخ العلامة محمّد إسماعيل الشهيد الدهلويّ في كتابه "الصراط المستقيم" بالفارسيّة: أنّ هذه الرابطة من الشرك بمكانٍ لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلوم الكتاب والسنّة. وأقول: ما لنا ولقلبنا، وربطه بالشيخ كائنًا مَنْ كان، وإنما تُربط قلوب العباد إلى بارئها. (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وبالجملة، هذه المسألة وإنْ فاه بها جمع من المشائخ قديمًا وحديثًا، فهي من البدع بلا مرية، وحكمها حكم سائر البدع وسائر الأشياء الّتي أحدثها المتصوّفة من غير أساس على دليل من كتاب وسنة. ويكفي في ردِّ مثل هذه البدعة قوله - صلى الله عليه وسلم - المستفيض المشهور: كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد. وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.«. صديق بن الحسن بن علي بن لطف الله الحسيني البُخَاريّ القنوجيّ، التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأوّل ص/ 521-522. مكتبة دار السلام، الرياض-1995م.؛ محمّد أسعد الصاحب، نور الهداية والعرفان في سرّ الرابطة والتوجُّه وختم الخواجكان، ص/3. المطبعة العلمية القاهرة-1311. هـ.؛
من الجدير بالذّكرِ، أنّ هذه العبارات التي اقتبسها السيّد محمد صدّيق خانْ بن الحسن القنوجي البخاري، من الكتاب المسمّى (القول الجميل)، للشّيخ أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله الدهلوي)، قد تمَّ حذفُها تمامًا من الكتاب المذكورِ في طبعه الّذي أعدَّهُ رَجلٌ مُتُطَرِّفٌ اِسْمُهُ محمد صالح بن أحمد الغرسي؛ ولم يكتفِ الرَّجل بالحذفِ فحسب، بل حّرَّفَ الكتابَ تحريفًا شَنيعُا. وقد استبدل العبارات المذكورةَ بكلماتٍ لاَ يجوزُ أن يَكونَ الشَّاهُ وليُّ اللهِ الدهلويُّ قَد قالَهَا أَبَدًا. فَنَسُوقُ لَكَ الآَنَ تلكَ الألفاظَ الموضوعةَ علىَ لسانِ الشَّاهُ وليُّ اللهِ الدهلويُّ لِتتأكّدَ من خطورةِ ما يقترفه النّقشبنديُّونَ من الكذِبِ والبهتانِ علىَ العلماءِ.(64/353)
وَرَدَتْ في الصّفحةِ الحادية والثمانينَ بعد المائِةِ في النسخة الْمُحُرَّفَةِ من الكتاب المسمّىَّ: (القول الجميل في بيانِ سواءِ السّبيل)، ألْفاظٌ، وهذه نصُّهَّا حرفيًّا:
»وثالثها الرابطة بشيخه: وشرطها أن يكون الشيخ قويّ التوجّه، دائم (الياد داشت)، فإذا صحبه خلى نفسه عن كلّ شيءٍ إلاَّ محبّته، وينظر لما يفيض منه. ويغمض عينيه أو يفتحهما، وينظر عيني الشيخ، فإذا أفاض شيءٌ فليتبعه بمجامع قلبه وليحافظ عليهِ. وإذا غاب عنه الشيخ، يخيّل صورته بين عينيهِ بوصف المحبَّةِ والتعظيمِ، فتفيد صورته ما تفيد صحبته.« النسخة المُحَرَّفَةُ من الكتاب المسمىَّ (القول الجميل في بيان سواء السبيل) للشَّاه ولي الله الدهلوي إعداد: محمد صالح بن أحمد الغرسي. قد طُبِعَ هذا الكتاب في مدينة قونيا التركية إلاَّ أن اسم المطبعة واسم دار النشر مجهولانِ.
أثْبَتْنَا هذه الحقيقةَ أثناءَ الْمُقَارنةِ بين نُسخةٍ من (القول الجميل) وبين (التاج المُكلّل)، فوجدنا المقطعَ المُقتَبَسَ مُحَرَّفًا تمامًا. إذْ أنّ المُؤَلِّفَ الذي ذَمَّ الرابطَة وعَدَّهَا من علامات الشِّرْكِ، يُسْتَبْعَدُ أنْ يَكونَ قَدْ عادَ بعد ذلكَ فَمَدَحَهَا. إنّه أمرٌ لا يستقيم مع العقل السليم. وَلِخُطُورَةِ الأمرِ، يجب على القرَّاءِ أن يلتزموا جانبَ الحيطةِ في مطالعةِ هذه النسخةِ المُحَرَّفَةِ الّتي تولّىَ طبعَهَا محمد صالح بن أحمد الغرسي بِالتعاون مع بَعضِ الناسِ من الأتراك في مدينة قونيا التُركِية حديثًا.(64/354)
لقد اقتبس محمّد أسعد الصاحب كلمات الشاه ولي الله الدّهلويّ الْمُتُعَلِّقَةِ بمسألة (الرّابطة) من التاج المكلَّلِ، بشكلها الصحيح، ولكنه تصرّف فيها قليلاً عند نقلها إلى كتابه (نور الهداية والعرفان/ص:3) وبذل جهدًا بالغًا بعد هذه النقولات وأفرغ ما لديه من الطاقة في الردّ على هؤلاء العلماء الّذين عدّوا الرابطة من الشرك بحكم صريح. فاسترسل الصاحب وأسهب ونقل وكتب ما كتب حتّى فرغ من كتابه المذكور. وقال في كلمته الأخيرة »ولنكتف في هذا الباب بهذا المقدار من العبارة. فانّ المنصف الموفَّقَ تكفيه الإشارة، والبليد لا ينفعه التطويل؛ ولو تُلِيتْ عليه التوراة والإنجيل« المصدر السابق (نور الهداية والعرفان) ص/ 92.
نلمس حَالَتَهُ النَّفْسِيَّةَ وَمَوْقِفَهُ الْمَرَضِيَّةَ مِنْ خلالِ هَذَا السَّجْعِ المتكلّفِ في الحين الّذي يسجّل هذه الألفاظَ، كأنّه غاصٌّ بالغضب على منكري رابطة النقشبنديّة. وَإلاَّ فَما علاَقةُ التّوراةِ والإنجيل بِمسْأَلَةِ الرَّابِطَةِ؟! هذا، على الرّغم من مركزه ومكانته المرموقة بين الطائفة النقشبنديّة في بلاد الشام والعراق، بالإضافة إلى غزارة علمه وثقافته الّتي كان يَمتاز بهما عن سائر شيوخ الصوفيّة. وربما كان بسبب هذه المزايا محسودًا فيهم.
كان هذا شطرًا من الصراع الّذي جرى بين خالد البغداديّ وبين بعض خصومه في العراق؛ إذ لم تقتصر المعارضة على ردودِ فعلٍ من البرزنجيّ والجليليِّ فحسب، بل كان هناك أناس آخرون ضده في البداية، فلما رجحت إحدى كفتي الميزان لمصلحة خالد البغداديّ لكثرة أنصاره والدعم الّذي كان يتلقاه من السلطة العليا للدولة العثمانيّة، باءت محاولات المعارضين بالفشل وانتهى أمرهم بالخزلان.(64/355)
ولكن خالدًا اصطدم بخصوم آخرين بعد انتقاله إلى دمشق عام 1238هـ. كان في مقدّمتهم رجل اسمه عبد الوهّاب السوسيّ. ورد ذكره في الحديقة الندية لمحمد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيديّ البغداديّ الّذي كان أحد المقرّبين إلى خالد البغداديّ. يذكره في سياق التعداد للخلفاء البارزين المأذونين على يد مرشده. يعدّهم ويصف كلاًّ منهم بنعوت الإجلال؛ فيقول عند ذكر السوسيّ:
»ومنهم العالم ابن العالم الفطن الملازم لأمر الطريقة بالعلم والعمل والذكر الدائم؛ المحقّق الذكيّ، المدقّق الألمعيُّ الشيخ عبد الوهّاب السوسيّ المتفرّع من أصل شجرة العالم الشهير، المحشّي المدقّق بأوجز التحرير، محمّد بن عمر السوسيّ رحمه الله تعالى. وقد كان خليفة مرشد السالكين في الطريقة النقشبنديّة مقيمًا في بلدة العمادية«. محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية ص/ 67،68. كذلك وردت قصة السوسيّ في عدد من كتب ملالي صوفية الأتراك والأكراد منها كتاب أسمه "الشيخ نور الدين البريفكاني" ص/ 28. ألفه محمّد أحمد مصطفى الكزني الأربليّ. 1983-القاهرة.
من الغريب أنّ »هذا الشيخ الفطن الملازم لأمر الطريقة بالعلم والعمل والذكر الدائم« على لسان رفيقه وصديقه في المشرب والمعتقد (الشيخ محمّد بن سليمان البغداديّ)؛ من الغريب أن يعود هذا الشيخ الممدوح (أي عبد الوهّاب السوسيّ) بعد مدّة رجلاً مطرودًا من باب خالد البغداديّ، ومقبوحًا من طرف جميع أتباعه!
- ولكن لماذا؟!(64/356)
لأنّ خالدًا البغداديّ -كان - ولا يزال في معتقد أتباعه الّذين يعظّمونه تعظيم نبيٍّ مرسَل-، كان لابدّ أنْ يطّلعَ على سريرة هذا الرجل فيتحقّقَ من أمره قبل أن يفوض إليه مهمَّةَ بثِّ الطريقة وينصبَه على مِنَصَّةِ الإرشاد، تفاديًا لكل ما قد حدث من مشاحناتٍ وفتنٍ عقب ذلك التفويض، وأشغل أذهان الناس إلى يومنا هذا! نعم، مادام خالدٌ لم يعزب عن علمه مثقالُ ذرةٍ وكان عليماً بذات الصدور (على حسب اعتقاد النقشبنديّين كما سنتأكّد من هذا الواقع على لسان عبد المجيد الخانيّ)؛ فلماذا أَذِنَ للسّوسيِّ أن ينوب عنه حتّى يناهضه بأعمالٍ تطوّرتْ إلى فتنة لن يبرح الناس فيها فريقين يتخاصمان، ربما إلى يوم القيامة؟! ولأنّ خالدا البغداديّ، يستحيل عليه (في تصوّر النقشبنديّين) أن يجهل شيئًا ما دامتْ الحجب قد كُشِفَتْ عن بصره وهو مطَّلِعٌ على أسرار الكائنات، يعلم كلّ شئٍ قد جرى عَبْرَ الماضي السحيق، وما سوف يجري في المستقبل المغيب البعيد.
ولكن أغرب من ذلك أنّ هذا الحدث، ليس هو المثال الوحيد للغرائب الّتي يعتقده النقشبنديّون؛ بل ثَمَّ أمورٌ متناقضةٌ، وتأويلاتٌ معقّدةٌ، ومعتقَداتٌ ملفّقةٌ لهذه الطائفة سوف نطرقها في بابها إن شاء الله.
أمّا عبد الوهّاب السوسيّ ومسألة طرده من الطريقة، فقد وردت قصّتُه مطوَّلةً في كُتَيْبَاتِ النقشبنديّين. منها، "الحدائق الوردية". يقول مؤلّفه عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ:(64/357)
»أخبرني الوالد الماجد، أنه وقع لحضرة مولانا - وهو في دمشق الشام - تطيّر ما وقع له في بغداد من بعض الفئام. وذلك أنه كان أرسل من أتباعه رجلاً اسمه عبد الوهّاب السوسيّ ليبثّ الطريقة العليّة في دار السلطنة السنيّة. فما لبث أنْ اعتقد فيه شيخ الإسلام وجمهور علمائها ووزرائها العظام. فزاغ بصره ومال إلى حبّ الشهرة، فبلغ الشيخَ أمرُهُ، فاستحضره، واستخلف غيرَه، واستتابه. فأضمر المكرَ وأظهر الإنابةَ. فأطلعه الله على جلية أمره، بأنْ وصل إليه مراسلات بخطّه إلى أتباعه في القسطنطنية، تُنبئُ عن مكره. فطرده طردًا عامًّا من طريقته«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 232.
أيُّ مؤمنٍ بالله وملائكته وكتبه ورسل واليوم الآخر يقرأ هذه العبارات فحسب، -وهو على علمٍ تامٍّ بحقيقة الإسلام وعالميّتهِ وشمولهِ وعظمتهِ-؛ لا يملك نفسَه من الدهشة في أمر هذه الطريقة الصوفيّة حتّى يعيد النظر فيها ويتباحث عما إذا كانت لها أدنى علاقة بهذا الدين العظيم الّذي جاء به محمّد - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن يطَّلِعَ على صفحات تلك الحرب الّتي جرت بين خالد ونائبه عبد الوهّاب السوسيّ؛ كما أنّ الطريقة المذكورة ليست هي المسألة الوحيدة الّتي تتبلور حقيقتها من خلال هذه الكلمات؛ بل وأن المجتمع الّذي كان يستقطبُ اهْتِمَامُهُ يومئذ على هذه المهزلة، هو الآخر يستحقّ أن يتدارسه الباحثون اليوم بقسطاس العقل السليم ومِحَكِّ القرآن الكريم، ليتمكّنوا من الإطلاع على مدى حظّه من الإسلام الّذي عاشه الصحابة والتابعون والسلف الصالح وطبّقوه في حياتهم.(64/358)
لأنّ هؤلاء الشيوخ والصوفيّة والدراويش، كانوا قد أَلْهَوُا الناس عن الإسلام وسحروا عقولَهم بهذا الدين المستحدث، فلم تتمكّن العامّة من الانتباه إلى الإسلام ولا إلى شئٍ من أمور دنياهم في خضم الأحداث الّتي كان قد أثارها النقشبنديّون بطقوسهم ورسومهم ورياضاتهم ومناسكهم ونشاطاتهم الدائبة ومراسلاتهم ودِعَايَاتِهِم الكثيفة وخلافاتهم والفتن الّتي كانت تتصاعد نيرانها في صفوفهم بين الفينة والأخرى إلى حدٍّ أصبح الناس في غِمَارِهَا كقطاعان الغنم وهم حيارى وسُكارى وما هم بِسُكارى؛ فلم يملك أحد منهم عقلَه يومًا من الأيّام حتّى يتساءل - على الأقل - فيقول:
- من يكون خالد، هذا الّذي استعلى على الناس حتّى اختلقوا له جناحين ياترى!!! وما هي طريقته الّتي أكمل بها ما نقص عن الإسلام، وأرسل نائبة إلى إسطنبول ليبثّها بين سكان العاصمة - ولم تكن غايته في الحقيقة غير التسلُّل إلى أوساط رجال الدولة، والسيطرةِ على ضمائرهم - في الحين الّذي كانت الويلاتُ تنصبُّ على المسلمين من كلّ صوبٍ، ودولتُهم على شفا جرف هار. نعم من يكون هذا الصوفيّ الكرديّ الّذي »اعتقد في نائبه شيخُ الإسلام وجمهورُ علماءِ العاصمة و وزراء حكومة الإمبراطورية العثمانيّة«، حتّى أذعن له خليفة المسلمين بالذات، فأصدر (الفرمانَ) أي الرسم الملكيَّ بشأن معاقبة نائبه الّذي عصاه؟!
في الحقيقة كانت المأساةُ بموتِ القلوب وغيابِ الشعورِ يومئذ قد غلبت الناسَ إلى حدود رهيبة، بحيث لم يكن أحد ينتبه إلى الفرق بين الإسلام وبين هذا الدين الجديد الّذي اتّخذ من الإسلام غلافًا يصطاد به على أرضه بكلِّ سهولة وفي أمان.(64/359)
سوف نتساءل طبعًا فيما بعد، عن سبب سقوط المسلمين إلى هذا الدرك الرهيب من الظلمة والتخلّف والجهل والعمى، حتّى أصبح مجتمعٌ بأسره يتلهّى بالحرب المتصاعدة بين رجلين من الصوفيّة. ولكن ما الّذي كان يجري بينهما، وما قيمة هذا الحدث في ميزان الإسلام والعقل والعلم؛ وماذا استفاد المسلمون من وراء هذه الحرب التي اندلعت نيرانُها بين خالد وقرينِهِ عبر حقبة تزيد عن قرن من الزمن؟
إنّ أيّة محاولة جادّة للإجابة عن هذا السؤال، لن تتعدّى السخرية بعقول الناس، والاستهانة بالوقت. ولكنّ هذا الحدث في ذات الأمر الّذي أقلق جماهير المجتمع العثمانيّ في وقت مّا، يستحق - من جانب خاصّ - أن يُتطرَّقَ له بإيجاز ومن خلال وثائق النقشبنديّين، حتّى تتضح أمام القارئ الكريم عقليةُ أولئك الناس، وتظهر بها تلك الهوة الّتي كانت بينهم وبين الإسلام يومئذ.
هذه الوثائق - المنقولة فيما يلي - هي الرسائل الثلاث الّتي بعث بها خالد البغداديّ إلى أتباعه في إسطنبول. يقول في الأولى منها:(64/360)
»بعد السلام، من العام الأول، الفقير تبرّأتُ من عبد الوهّاب لما ظهر منه من الأمور المخالفة للطريقة والشريعة، وأنه صار سببًا للدّسائس الّتي اختلقها المتشيّخون حتّى توهّم كثير من الناس في حقّنا أموراً لا تليق بأراذل العوامّ، وأردتُ أن أكتب هذا إلى الآستانة العلية - صينت عن البلية - ليعلم الناس أنّه مطرود عن الطريق، فلا يلتفت إليه أحدٌ لئلاّ يصير مظهرًا لجلال سادات الطريقة البهية البهائية. فتوسّل بي وجعل روحانية مشائخ السلسلة شفيعًا أن لا أكتُب هذا. وحلف الأيمان المؤكّدة أنّه يكتب هذا المضمون بخطه. ثم ظهر أنه بلّغ تقريرًا مع بعض المرسِلين من طرفه وتحريرًا إلى بعض المخلصين: أنه كان بعض إخوانه في الطريقة افتروا عليه عندي، ثم ظهر افتراؤهم لديَّ، وأنّه صار مثل الأوّل وأكثر، حتّى أنّ بعضكم ترك طلب الدعاء والمكاتبة إلى بعض أهل الطريقة رعاية لجانبه. والمرء يُعذَرُ لجهله.
فالآن أخبركم بأنّي وجميع رجال السلسلة تبرأنا من عبد الوهّاب. فهو مطرود عن الطريقة. فكل من تصادق معه لأجل الطريقة فليترك مصادقته ومكاتبته، وإلاّ فهو برئٌ من إمداد هذا الفقير وإمداد السادات الكرام. ولا أرضى أن يكاتبني؛ ولا أن يستمدّ همتي بعد وصول هذا المكتوب إليه. وأنت مأمور بإيصاله إلى كلّ مُخلصٍ. فمن كان مريدَ الطريقة فليُظهِرِ الْبَرَاءَةَ منه، ومن كان مريدَ نفسهِ فلا يلومنّ إلاّ نفسَه إذا هلك مع الهالكين«. المصدر السابق.
إنّ هذه الرسالة الّتي لا يكاد الإنسان (المؤمن بالله واليوم الآخر) يفهم شيئًا منها، كأنّها قد كُتِبتْ بلغةٍ غريبةٍ على المسلمين. إلاّ أنّها في الحقيقة وثيقة رهيبة تتضمن ما يخفى على أهل العلم والبصيرة من شخصية خالد البغداديّ ومُعتقَداته وأسرار طريقته وتَعَامُلِهِ مع الناس.
لعلّ سائلاً يسأل عما يخالف الإسلام من مضمون هذه الرسالة وربما يقول:
ـ ما الّذي يستوجب هذا القدر من الاستغراب والتعجُّب؟(64/361)
إنّ الإنسان المتمتّعَ بنعمة العلم والمعرفة بحقيقة الإسلام، لا ينبغي له أصلاً أن يلتفت إلى مثل هذه التساؤلات، ولكن - لإظهار الحقّ فحسب- نحن نتساءل عمّا إذا كان أدنى شئٍ يوافق روح الإسلام في هذه الرسالة المحرّرة؟
- ما الّذي ارتكب عبد الوهّاب السوسيّ إهانةً بحق خالد، حتّى اضطرّ خالدٌ أنْ يفضّحه أمام مريديه الّذين كان السوسيّ قد اسطادهم في إسطنبول نيابةً عنه؟!! هل كان وراء كل هذه الجلبة والضوضاء العمياء أيّ مصلحة للمسلمين المغلوبين على أمرهم يومئذ أمام عالم الكفر، سوى التهارش على جيفة الدنيا وكسب الشهرة والسمعة؟ وإلاّ فما كانت علاقة المسلمين بالرابطة الّتي هي من أهم طقوس اليوغية، سواء أكان السوسيّ أمرَ الناسَ بها لنفسه أو للبغداديِّ.
يقول الشيخ قسيم الكُفْرَويّ في صدد هذه المشكلة:
»كان مولانا خالد قد أرسل في بداية أمره عبدَ الوهّاب السوسيّ إلى إسطنبول. ولكنّه تولّى كبره، ولقّن المريدين رابطة نفسه؛ فعند ذلك بعث مولانا خالد من خلفائه عبد الفتّاح العقريَّ للبحث عن أمره. وبعد طرده عبدَ الوهّاب السوسيّ من طريقته جزاءً بما ارتكب، تمّ نصبُ الشيخ أحمد الأغريبوزي مكانه«. وهذا النصً الأصليُّ باللّغة التركية للعبارات المعرّبة والمنقولة من كلام الشخ قسيم الكفراوي:
Mevlânâ Halid, ?stanbul'a evvelâ Abdulvahhab Al-Susî’yi g?ndermi?ti. Bu zat?n kibir ve enaniyete kap?larak kendisini saliklere rab?ta ettirmesi üzerine meselenin tahkiki için Abdulfettah Al-Akari’yi g?nderdi. Bu hareketlerinden dolay? tarikattan tard adilen Al-Susi'nin yerine Al-?eyh Ahmed Al-Agribuzî halife nasb edildi.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? Pg. 185. Türkiyat Enstitüsü No. 337 ?stanbul-1949(64/362)
هكذا اتّضحت الجريمة (!) الّتي ارتكبها عبد الوهّاب السوسيّ! حسب نظام هذه الطريقة وضوابطها. وهي أنّ السوسيّ كان قد لقّن المريدين رابطة نفسه. ومعنى ذلك أنّه أمرهم أنْ يُحضِروا صورتَهُ في خيالهم، بدل أنْ يأمرهم برابطة مرشده خالد البغداديّ. إذ أنّ الطريقة النقشبنديّة تحّرّم الرابطة للنائب مادام شيخه على قيد الحياة. ولا نعلم من أي دين استوحت هذا الضابط!
كان هذا هو السبب لانفجار قنبلة النقشبنديّين الّتي ظلّ المجتمعُ العثمانيّ التعيسُ ينشغل بصداها مدةَ قرنٍ كامل والناس في غفلتهم يعمهون - في الوقت الّذي كانت القُوىَ اليهوديةُ-الصليبية تتداعى على الأمّة المسلمة-. ولا تزال بقيةٌ من شيوخهم وممّن حولهم من العوامِّ يردّدون هذه الحكاية ويعدّنها من أمجاد مرشدهم البغداديّ الّذي ربما تتألّم رفاته اليوم بسبب هذه الزندقة!
إن هذا القدر من تفاصيل الخلاف الواقع بين البغداديّ والسوسيِّ، إنما تحصّلناه من خلال كلماتٍ يسيرةٍ للبغداديِّ ضمنَ رسالته المنقولةِ آنفًا. وكأنّ السبب الحقيقيَّ لم يظهر بصورة جلية بعدُ. لأنّ البحوث الّتي أجريناها بأمل الحصول على كلماتٍ أو سطورٍ يمكن أن يكون السوسيّ قد خلّفها، لم تُجد شئًا، مما يدلّ على أنّ الخالديّين قد محوا جميعَ ما تبقّى من آثار هذا الرجل، سوى كلماتٍ يسيرة نقلها ابن عابدين في رسالة له. يبرهن ذلك على شدة الهجمات الّتي شنّها الخالديّون على السوسيّ. ومن وثائق تلك الحرب الشعواء، رسالة »سلّ الحسام الهنديّ في نصرة مولانا خالد النقشبنديّ« للفقيه ابن عابدين الدمشقيّ الّتي ردّ بها على رسالة كتبها عبد الوهّاب السوسيّ؛ يتّهم فيها خالدًا بالسحر والكفر والزندقةِ.(64/363)
يقول السوسيُّ في هذه الرسالة: »إنّ الشيخ خالدًا يقوم بتسخير الجنّ ويستعين بالأرواح الأرضية الخبيثة، ويدّعي علمَ الغيبِ عن إخبار الجانّ له، ويدّعي أنّه قد قتل وربط كثيرًا من العفاريت والجانّ، كلّ ذلك بإقراره، مع أنّه يدّعي الولايةَ والارشادَ في نفس الوقت«.
من الغريب جدًّا أنّنا لم نعثر في عجالة ابن عابدين المذكورة على قولٍ للسوسيّ غير هذه الكلمات الوجيزة! وحتّى اسم عبد الوهّاب لم يذكره المؤلّف إلاّ مرة واحدة، وذلك من خلال عبارة منقولة. يدل أسلوب ابن عابدين على مدى استحقاره عبدَ الوهّاب السوسيّ!
أمّا السبب الحقيقي لهذا النزاع، فكأنّه ظهر إلى العيان بعد أن عثرنا على كلمات للباحث عباس العزّاويّ إذ يقول:
»إنّ الشيخ عبد الوهّاب البغداديّ كان قد تلقّى إرشادَهُ من الشيخ عبد الله الدهلويّ، كما تلقّاه الشيخ خالد. فصار من مشاهير خلفائه. فأقام الشيخ خالد في الشام، وأمّا الشيخ عبد الوهّاب، فاستقرّ في المدينة المنوّرة، فحدثت بين الاثنين مشادّة حادّة، ونفرة شديدة.
كان الشيخ عبد الوهّاب ورفيقه العلاَّمة الحاج حمدي الداغستاني قد خرجا على مولانا خالد، ونسبا إليه أمورًا مخالفةً للواقع. فانتصر له مفتي دمشق وعلماؤها. فأصدروا فتاوى، وأودعوها رسالة، والْتَمَسُوا من الباب العالي لزومَ تأديبهما، وكفّ لسانهما.
فلمّا عُرضت على السلطان وعلى المشيخة، وبعد استطلاع آراء العلماء في إسطنبول، صدر الأمر بأنّ أعمال المومى إليهما مخالفة للشرع، ويجب نفيهما. ولكنّ النفي من المدينة المنوّرة يستدعي إثبات أنّهما قاما بما يخالف الأدب. ولذا عُدِلَ عن ذلك و نُبِّها أن يكونا مشغولَيْنِ بأحوالهما. فصدر الفرمان بذلك وبُلِّغا بموجبه من شيخ الحرم النبويِّ«. عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ (مجلة المجمع العلمي الكرديّ العدد الأول ص/ 719-720.) بغداد-1973م.(64/364)
يتبيّن من هذه الكلمات بشكل لا يقبل الشكّ: أنّ السبب الحقيقيَّ لهذا الخلاف، إنما كانت المنافسة ليس إلاّ. إذ أنّ عبد الوهّاب السوسيّ لم يكن أصلاً من خلفاء خالد، وإنّما كان من خلفاء شيخه. ويعني ذلك أنّه كان من طبقة خالد في السلسلة النقشبنديّة. وهذا لا يسمح لعبد الوهّاب السوسيّ أن يدخل تحت طاعة خالد إلاّ بأمر من شيخه. ولو فرضنا أنّ عبد الله الدهلويّ قد أمره أن يتبع خالدًا، وهذا شيءٌ مجهولٌ حتّى الآن - ذلك مِنْ عُرْفِ النقشبنديّين، أن شيخَ العصرِ يختار من بين خلفائه شخصًا واحدًا للنّيابة عنه، خاصّة في المناطق النائية عن مقره؛ على ان يتبعه بقية خلفائه-. فانّ المسافة الشاسعة الّتي بين الديار الهندية والشرق الأوسط، لا بدّ وقد شجّعت عبدَ الوهّاب للخروج على خالد لصعوبة الرقابة عليه من مقام أعلى. كما وقع شبه هذا الحدث بنفس السبب لعدّة من شيوخ هذه الطريقة.
***
* خلفاء خالد البغداديّ وتعامله معهم
إنّ خالدًا هو ذا الرجل الحاذقُ بإلقاء تأثيره في نفوس الناس، وبالاستيلاء على ضمائرهم؛ المتلوّنُ اللّبقُ القلِقُ المترقّبُ في تعامله مع خلفائه وتلامذته. كما كان شأنه مع خصومه ومعارضيه. يتبيّن موقفهُ المتعاظمُ المتغلّبُ الحذرُ من خروجهم عليه في كلّ كلمة وجّهها إليهم.
نجده تارة يخاطب أحدَ خلفائه بكمال التواضع والتذلّل، كأنّه هو تلميذه. لم يفعل ذلك في الحقيقة إلاّ لِيَجُسَّ نبضه، وليختبر صِدْقَهُ في الانتماءِ والاستسلام، ومن إيمانهِ التامِّ بتعاليمهِ، وهل يتحرك فيه عرق التمرُّد عند ما يُرخىَ له العنان، حتّى يحتاط في أمره ويكبح جماحه في الوقت اللاّزم، كما فعل بخليفته إسماعيل الشيرواني؛ وستأتي قصّتُهُ. ونجده تارةً أخرى يخاطب أحدَهم بلهجةٍ قاسيةٍ، وغضبٍ واستنكارٍ وتعاظُمٍ في أدائه، لا يتساهل معه، فلا يُظهر تمام الثقة فيه؛ ولا يقبضه بأسنّة مخالبه.(64/365)
وكمثالٍ على رِقَّتِهِ وتواضعه، سطورُهُ من كتابه الّذي بعث به إلى نائبه الملاّ رسول في مهاباد، يقول فيه:
»بسم الله الرحمن الرحيم، أخصّ بالسلام التامِّ، المقرون بمزيد العزّ والإكرام جناب سيّدي وسندي العالمَ الفاضلَ والنحريرَ الكاملَ مولانا الملاّ رسول، حصّله الله كلّ مأمول«. محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد ص/ 118. مطبعة الترقي، دمشق-1334 هـ؛ مستنسَخ من قِبَل دار الدعوة، قزلتبه، ماردين-1985م.؛ عبد الكريم المدرس، تذكار الرجال ص/61. وهو مع كتاب لمجد التالد لإبراهيم الفصيح، والمكاتيب الشريفة لغلام على عبد الله الدهلويّ ضمن مجلّد واحد نشرته مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1992م.
وأمّا شدّته على من أحسّ منه أدنى شمة من الاستخفاف بتعاليمه، أو أدنى إهمال لتعليماته، فإنها ربما يضيق عن وصفها كلام غيره.
وكمثال على هذا الجانب الّذي طالما ظلّ خافيًا على الناس من صفات خالد البغداديّ. أوردنا فيما يلي، رسالتَهُ الّتي وجّهها إلى خليفته الشيخ إسماعيل الشيروانيِّ.
إنّ نائِبَهُ هذا الّذي تمّ نصبه ليبثَّ الطريقةَ النقشبنديّةَ في بلاد القوقاز يومئذ، يبدو أنّه لم يعد يشعر بهيبة شيخه بعد أن وصل إلى تلك المنطقة النائية، وحال بينهما المسافاتُ البعيدةُ، و أحسّ في نفسه بالجرأة أن يقول لمريديه:
- رابطوني. أي أحضروا صورتي في خيالكم أثناء صلاة الرابطة بدلاً من إحضار صورة الشيخ خالد.
هذه لا شكَّ إهانة بسلطان شيخ الجماعة، وخروج عليه في نظر خالد وحسب تعاليم طريقته. لذا وما أنْ قرع سمعَهُ طنينُ هذا الحدث حتّى نهض من مكانه ونفخ في الصور، فقامت القيامة في المملكة العثمانيّة، بل واجتازت جلجلتُهُ حدودَ المملكة إلى ما وراء جبال القوقاز. هذا نصّ كتابه الّذي وجّهه إلى الشيخ إسماعيل الشيرواني:
»بسم الله الرحمن الرحيم(64/366)
من العبد الذليل، الأقل من القليل، إلى خادم بابه وقدوة أحبابه الشيخ إسماعيل، عصمه الله عما وصمه، وصانه عمّا شانه، آمين.
أمّا بعد فقد قال كثير من نجوم الاهتداء ومصابيح الإقتداء بأنّ الكفران هو نسيان المنعم بسبب الاشتغال بنعمته. وصرح محقّقو طريقتنا بأنّ رابطة من لم يفْنَ عن وجوده لا يورث الفناء للسالك، بل قد تورّطه في المهالك.
وأنتم ما كان المأمول منكم أن تقطعوا عناّ السلامَ والكلامَ، بل كمال المروءة والوفاء كان مقتضيًا أن تواجهونا أحيانًا بأنفسكم وإلاّ فتراجعونا في النقير والقطمير، وتذكرونا دائمًا بالتحرير مع السفير. ومن خدّامنا من هو أبعد شقةً منكم، وأقدم صحبةً، وأكثر خدمةً لا يتحرّك بدون إشاراتنا. ولا تقس هذه الطريقة بخزعبلات متشيِّخي العصر، وتُرّهات أرباب الخداع والمكر. فالشيخ المحقِق واسطة بين المريد وربّه. والإعراض عنه إعراضٌ عنه.
فلا تعلّموا رابطةَ صورتِكم لأحدٍ، ولو ظهرت له فانّه من تلبيس إبليس. ولا تستخلفوا أحدًا منهم إلاّ بأمري، فضلاً عن مزاحمتهم لخلفاء الأطراف من نحو (أرزنجان) و (بدليس).
ولئن تماديتم في هذا التغافل الّذي تستعملونه لنعرضنّ عنكم بالكليّة، وخرط القتاد دونه. ومن أُنذِر فقد أُعذِر. والسلام«. خالد البغداديّ، رسالته هذه إلى إسماعيل الشيرواني، وردت في المصادر التالية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيه في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/42.
* محمّد أسعد الصاحب، بغية الواجد ص/ 174.
* عبد الكريم المدرس، تذكار الرجال ص/ 64، 65.(64/367)
هكذا تمكّنّا من المعرفة بشخصية خالد البغداديّ من خلال ما قد جرى به قلمه بالذات، وما نَقَلَ إلينا خلفاؤه من الوثائق. ومن وقف على قصّةِ حياتهِ بتمامها وأمعن النظر بإنصاف وحياد فيما قد حدث بينه وبين أصناف الناس من علاقات طارئة وغريبة، أيقن بلا مرية أنّ ما حظي هذا الرجل من الشهرة والعزِّ والإقبال بصورة غير متوقعة، إنما هو مثال رهيب من الاستدراج! ولكن مهما عثرنا في كلّ تلك المخلّفات الكتابية الّتي تركها هو وخلفاؤه وراءهم مما لا يسهل ضبطه وإحصاؤه من أمور خارجة عن رحاب كتاب الله ونطاق السنّة النبوية؛ فانّ لهذا الرجل كلمات تنبئُ عن ندمه وهو في آخر عهده من هذه الدنيا؛ كترديده للآية الكريمة {يَا حَسْررَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فيِ جَنْبِ اللهِ...} سورة الزمر/56. وكقوله في وصيته: »لا تزيدوا التكايا عما في عهدي. و من أراد الإحداث فليعمّر جامع العدّاس«. راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 311. دار الفكر-دمشق.
فعسى أن يكون قد تاب في آخر أنفاسه من جميع ما قد أحدث في الدين الحنيف من بدع مجوس الهند، وما أحيا من أساطير الشامان وهرطقات جاهلية الأتراك. والله سبحانه وتعالى غني عن عذابنا جميعًا، ورحمته وسعت كلّ شئٍ لعلّه يغمرنا وإياه بغفرانه وهو الغفور الرحيم.
إذا كان خالد البغداديّ قد استطاع أن يثير اهتمام المجتمع العثمانيّ في جميع أنحاء آناضول والمشرق العربي، - وذلك في ظروفٍ غير عاديةٍ - فأصبح محطّ آمال الرجال حتّى اعتنى به خليفة المسلمين بالذات وأولاه اهتماما كبيرًا وأصدر الفرمان بمعاقبة خصومه وتأديبهم؛ فلا يُعقل أن ترجع هذه الشهرة العظيمة إلى غزارة علمه، ولا إلى جزالة نطقه وبلاغته فحسب؛ بل لخلفائه دور كبير في إذاعة صيته، وإلقاء هيبته ومحبّته في قلوب ملايين الناس.(64/368)
إذن يناسب هنا أن نعدّ أسماء مشاهيرهم بالإضافة إلى ذكر شئٍ من أعمال من سعى منهم لترسيخ تعاليم خالد البغداديّ واستمر في الصورة الأمامية باستغلال شهرته.
كذلك سوف نتعرّض إلى ذكر بعض أخلافهم الّذين لا يزالون يعملون على نهج خالد، وعلى تخليد ذكره في عصرنا، وبخاصة منهم البارزون في الساحة التركية.
يزعم النقشبنديّون أنّ خالدًا البغداديّ كان »له خلفاء حنفاء، أولياء صلحاء، علماء عظماء، سائحون عابدون، لا يدرِك كثرتَهم العادّون«.
كانت هذه الكلماتُ المسجّعةُ لعبد المجيد بن محمّد الخانيّ. ثم يقول:
»ولكن أذكر فئةً منهم مقتصرًا على من توفي وهو راض عنهم غير جانح إلى عدّ خلفائهم. فانّهم يبلغون إلى مائة ألفٍ أو يزيدون«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 258.
عثرنا على أسماء واحد وأربعين شخصًا من مشاهير خلفاء خالد البغداديّ في حدائق الخانيّ وهم:
محمّد البغداديّ الإمام
عبد الله القادريّ الشمزينيّ الهكّاريّ،
عبد الرحمن الكرديّ العقريّ،
عبد الفتاح الكرديّ العقريّ،
مصطفى الكُلعنبريّ،
عبد الله الجليّ،
الملا عباس الكوكيّ،
عبد القادر البرزنجيّ،
الملا هداية الله الأربليّ،
إسماعيل البرزنجيّ،
أبو بكر البغداديّ،
طاهر العقريّ،
معروف التكريتيّ،
أحمد القسطمونيّ،
محمّد بن سليمان البغداديّ،.
محمّد عاشق،
موسى الجبوريّ،
عبد الغفور الكرديّ الكركوكيّ،
أحمد الأربليّ الخطيب،
عثمان الكرديّ الطويليّ،
عبد الله الأرزنجانيّ،
خالد الكرديّ،
إسماعيل الشيروانيّ،
أحمد الأغربوزيّ،
أحمد البرزنجيّ،
عبيد الله الحيدريّ،
عبد الغفور المشاهديّ،
محمّد الجديد البغداديّ،
عبد القادر الديملانيّ،
محمّد الناصح،
حسن القوزانيّ،
محمّد المجذوب العماديّ،
خالد الجزريّ،
طه الكيلانيّ الهكّاريّ،
إسماعيل البصريّ،
محمّد الفراقيّ الكرديّ،
الملا خالد الكرديّ،
عبد الله الفرديّ،
إسماعيل الأنارانيّ،(64/369)
عبد الله الهرويّ،
محمّد بن عبد الله الخانيّ.
هذه القائمة لا نجد فيها أسماءَ عددٍ آخر من مشاهير خلفاء خالد، كأحمد بن سليمان الطرابلسيّ الأرواديّ، وحسين الدوسريّ، وإسماعيل الزلزلويّ، ومحمود الصاحب (شقيق خالد البغداديّ). وهذا يثير الشكَّ فيما إذا كان بين هؤلاء وبين الباقين من الفرقة الخالدية نزاع وتنافر؛ كما لو كان المؤلّف مناوئًا لهم. في الحقيقة لم يهتم النقشبنديّون الأتراك أيضًا بهؤلاء الأشخاص، ليس ذلك إلاّ لأنّهم من أصولٍ عربيةٍ وعاشوا في المناطق العربية حتّى اختفت أسماؤهم وغدوا نسيًا منسيًّا.
ولا يخفى على الباحث المدقّق، أنّ النزاع دائمًا سجال بين أهل التصوّف عمومًا وبين شيوخ النقشبنديّة على وجه الخصوص؛ وإنْ غابت هذه الحقيقة عن كثير من الناس، وذلك لسرّيّة أمورهم، وصمتهم وكتمانهم. وأحياناً تفتضح أسرار الخلاف بين أشخاص وجماعات منهم؛ سوف نشرحه في بابه إن شاء الله.
هذا وجدير بالتنويه، أنّ الأسرة الخانيّة كانت قد حظيت بشهرةٍ بالغةٍ، ولمع نجمها بعد موت خالد البغداديّ بسرعةٍ. وذلك أنّ وصيَّه الأوّلَ والثانيَ لم يلبثا حتّى أدركتهما المنية بعد موته بمدة قليلة. المصدر السابق ص/ 260-261. فأتاحت الفرصة بذلك لخليفته الثالث محمّد بن عبد الله الخانيّ؛ فحلّت أسرته بسبب هذا التطوّر محلّ أسرة البغداديّ. ولكن دبّ القلق في صفوفِ ورثةِ خالدٍ، واستمرّ الأمر كذلك حتّى بلغ التنافس والتنافر بين الأسرتين شأوَ المعاداة والتباغض في عهد الجيل الثالث للطرفين.
إن الشيخ محمدًا أسعداً الصاحب ابن شقيق خالد البغداديّ كان ساخطاً على الخانيّين وبينهما هجران. ويدلّ على ذلك بصراحةٍ: أنّ عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ لم يذكر اسم والد محمّد أسعد ضمن قائمة الخلفاء في كتابه (الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة) وهو محمود الصاحب شقيق خالد البغداديّ. فقد تناساه الخانيّ لهذا السبب.(64/370)
ظلّت الأسرة الخانيّة هكذا في الصورة، فالتفّتْ جموع النقشبنديّين حولها في بلاد الشام، وتقلّصت شهرة أسعد الصاحب. لذا، كانت كُتُبُ الخانيّين ( البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ؛ والحدائق الوردية، والسعادة الأبدية لحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ) كانت رائجة بين ملالي الطائفة النقشبنديّة عمومّا. بينما كُتُبُ أسعد الصاحب (بغية الواجد، ونور الهداية والعرفان، و الجوهر المكنون، والفيوضات الخالدية، ورجال الطريقة النقشبنديّة) مهجورة، لا تتداولها الأيدي؛ بل بعضها غير معروفة من قبل النقشبنديّين وغير موجودة، خاصّة في مكتبات إسطنبول.
كان محمّد بن عبد الله الخانيّ ثالث أوصياء البغداديّ؛ رجلاً ماهرًا في الرياسة، ناجحًا في قيادة أتباع خالد. مارس سياسةً حكيمةً في التعامل مع الخاصّة والعامّةِ منهم. ظلّ مهيبًا وموقّرًا فيهم. لذلك استمرّت الفرقة الخالدية في نشاطها وحيويتها على الرغم من مشاكل تلك المرحلة؛ وما كان يعاني المجتمع والدولة من أزمات سياسية و اجتماعية واقتصادية وأخلاقية حادّة.
استطاعت الطريقة النقشبنديّة أن تحتفظ بتأثيرها على السكّان العرب في ديار الشام كنتيجة لجهوده. مع أنّ العرب هم أقلّ استعدادًا للانفلات من ربقة الإسلام بنزعات باطنية دخيلة.
إنّ ولاة السلطة العثمانيّة على المنطقة الشامية يومئذ - ومنهم الفريق محمّد رشيد باشا، والمشير محمّد نامق باشا، و والى الأيالة السورية موسى صفوتي باشا، كانوا يستفيدون كثيرًا من شهرة محمّد بن عبد الله الخانيّ في ضبط الرعية، وتوفير الأمن في المنطقة. لأنّه كان نافذ الكلمة. و مقابل هذا، كانوا يبالغون في إجلاله، مما زاد في تقوية جاهه وتأثيره.(64/371)
كان محمّد بن عبد الله الخانيّ بجانب ذلك يتلقىَّ دعمًا مَادِّيًّا قوامه ألف وخمسمائة ليرة ذهبية من خزانة الدولة العثمانيّة سنويًّا. وذلك بوساطة والى سورية موسى صفوتي باشا الّذي سافر معه حاجًّا ورئيسًا لجماهير حجاج الأتراك عام 1846م. وعندما زار محمّد بن عبد الله الخانيّ عاصمةَ الخلافة العثمانيّة عام 1853م. استقبله جمع من أركان الدولة استقبالاً فخمًا على غرار الملوك، وأقام الخانيّ في قصر موسى صفوتي باشا بإسطنبول أربعة أشهر ضيفًا معظّمًا عنده.
ألّف محمّد بن عبد الله الخانيّ كتابًا بعنوان "البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة". وهو أوّل كتاب شامل مرتّب ترتيبًا حسنًا في آداب هذه الطريقة باللّغة العربية وبأسلوبٍ واضحٍ سَلِسٍ. إذ أنّ جميع شيوخ هذه الطريقة قبل شيخه، هم عناصرُ عجميةٌ؛ قُدَمَاؤُهُمْ من الأتراك والأكراد، وبقيَّتهم من سكّان الديار الهندية. لم يُتقنوا اللّغةَ العربيةَ، ولم يتذوّقُوا ثمارَ آدابها. ويغلب أنّهم لهذا السبب لم يتمكّنوا من فهم حقائق القرآن والسنّة فهمًا صحيحًا؛ ولا كان لهم إلمام بالعلوم. ولكن محمدًا بن عبد الله الخانيّ كان عربيَّ النشأة والقريحة؛ فأصبح التدوينُ في آداب هذه الطريقة، وتَرْجَمَةُ رِجَالِهَا من الهواية بين أبناء هذه الأسرة بعد تأليف كتاب "البهجة السنيّة". فتابعه وقلّده في هذه العادة، حفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ بتأليفه كتابه المعروف: "الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة" ورسالته "السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة".
أخطأ عدد من الباحثين، فنسبوا كتاب »السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة«. نسبوه إلى جدّه محمّد بن عبد الله الخانيّ. وهذا غير صحيح. بل حفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ هو الّذي ألّف الكتابَ المذكورَ. ودلائلُ ذلك كثيرةٌ في سطوره. منها، قوله في الديباجة:(64/372)
»وبعد، فيقول أضعف النوع الإنساني، عبد المجيد بن محمّد الخانيّ الخالدي النقشبنديّ، أنقذ الله من الأوحال أحوالَه، وأنفذ له من الكمال آمالَه؛ لمّا تكرّر طلب الإخوان لرسالةٍ مختصرةٍ في طريقتنا الخالدية العلية الشأن. من خزينة المفاخر والفضائل، وزينة الأواخر والأوائل، علاّمة الزمان، وأكبريِّ العرفان، سيّدي الوالد الماجد، داماد قطب الإرشاد، حضرة مولانا خالد النقشبنديّ العثمانيّ الكرديّ... أشار إليَّ، وإشارته فرضٌ عليَّ؛ أنْ أُجيبَ سؤالَهم، ولا أنظرَ بعين السوى لهم. فاسرعتُ امتثاله، وشرعتُ بهذه الرسالة وسمّيتُها: السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة«.
والدليل الثاني في إثبات نسبة هذه الرسالة إلى عبد المجيد بن محمّد الخانيّ: كلماته في نهاية الرسالة المذكورة، وهذه نصّها:
»يقول أضعف العبيد جامعُهُ عبد المجيد: لقد جمعتُ هذه الموارد الهنية، من أنواء أنوار البهجة السنيّة، لمشيّد المجد المؤبّد، سيّدي الجدّ الأمجد... في دمشق الشام، عاشر ذي القعدة الحرام عام 1313هـ.«.
والدليل الثالث هي كلمات محمّد أبي السعود أفندي مراد، على سبيل التقريظ لهذه الرسالة في أبيات نظمها، يقول في بعضها:
سما في فضله حتّى غدا فيـ * ـه من شمس الضحى أسمى وأشهر؛
ألا وهو الملاذ الشيخ عبد ال* مجيد الخالدي الشهم الموقر.
وقد ألّفتَ فيه خير سُفرٍ * به صبح الطريقة منك أسفر.
***
مات محمّد بن عبد الله الخانيّ سنة 1862م. والطريقة الخالدية المجددية النقشبنديّة مازالت تحتفظ بقوّتها، على الرغم من مُضيّ ستة وثلاثين عامًا على موت خالد البغداديّ؛ بالإضافة إلى ما وقعت من أحداثٍ هامّةٍ غيّرتْ الأفكارَ، وزعزعتْ العقائد، وشوّشت الأذهان في تلك المرحلة.(64/373)
إلاّ أنّ هذه الأحداث لمّا أخذت تشتدُّ وتتنوّع بدافع سلسلة من تطوّرات العصر، بدأت تنعكس نتائجُها على الجيل الصاعد بما فيهم أبناء الطائفة النقشبنديّة في عهد أخلاف محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ. لذا نلمس توقّفًا ملحوظًا في نشاط هذه الطريقة على الساحة الشامية في عهد ابنه محمّد بن محمّد الخانيّ، وحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ. وإذا تأمّلنا قليلاً فيما كان يحدث يومئذ في العالم بصورة عامّةٍ، وفي المناطق العربية (سيما في منطقة الهلال الخصيب) من ثورات وحركات فكرية وعقدية و إيديولوجية، لابد أن نقدّرَ ما كان لهذه الحركات من الأثر الكبير على عقلية الناشئة في تلك المرحلة.
ثم في الحقيقة أنّ خليفة محمّد بن عبد الله الخانيّ (وهو ابنه محمّد) لم يتميّز بشخصية بارزة، خاصّة وكانت قد طغت شهرة الأمير عبد القادر الجزائري على سمعة الخانيّين بصورة طبيعية ومن غير نزاع. وهذا أيضًا له أثر بالغ على هبوط مكانة النقشبنديّين. وما أن تصاعدت التّيارات الفكرية والسياسية (الشائغة باسم اليقظة والوعي القوميِّ والنهضة الحديثة والدعوة السلفية وغيرها)، ازدادت سرعة انحطاط الطريقة الخالدية. فلم يستطع أديب النقشبنديّين عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ أن يقاوم هذه الّتيارات. على الرغم من لباقته وتحذلقه وأسلوبه الدعائيِّ المسجّع والمزخرف. ولا نَفَعَتْ جهود الباقين من رؤوس النقشبنديّة من أمثال محمّد أسعد بن محمود الصاحب و أعوانه.
وربما دبّ في قلوبهم القلق على مستقبلهم بعد هذه التطوّرات، بأن يهجرهم الناس في أمد غير بعيد، (إنْ استمرّت تلك الحركات الّتي لم تكن تعرف الهوادة في المنطقة)، حتّى غيّروا شيئًا كثيرًا من سياستهم في التعامل مع روّاد الوعي الإسلاميِّ. ويشهد على ذلك الموقف المتصالح الّذي اتخذه عبد المجيد بن محمّد الخانيّ من السلفيّين، وعلاقاته مع الشيخ محمّد عبده في منفاه بمدينة بيروت عام 1883م.(64/374)
ولكن الطريقة النقشبنديّة انزاحت منذ أوائل القرن العشرين واختفت من الساحة الشامية، إلاّ في بعض البقاع من المنطقة الشمالية الآهلة بالأكراد. الّذين تشرّبوا عقائد هذه الطريقة لانسجامها مع عقليتهم القاصرة عن فهم حقائق الكون والحياة والقرآن.
فلما بدأت علامات الاحتضار على الدولة العثمانيّة، انحصرت نشاطات الطريقة النقشبنديّة في نطاق الساحة الّتي يسكنها الأتراك والأكراد فحسب. وهي الأراضي التركية في الوقت الحاضر. إلاّ أنّ هذه النشاطات دامت واستحكمت، وإنْ اختلّت في بعض الفترات بظهور الخلاف بين رؤوس هذه الطائفة وبين الحُكّام في عهد الاتحاديين في آخر أيام الدولة العثمانيّة، وفي المرحلة الأولى من العهد الجمهوريّ. ولكنها أخذت طابعَ دينٍ مستقلٍّ تمامًا في أيّامنا، سوف نشرح هذا الجانب في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى.
في الحقيقة مئاتٌ من شيوخ الطريقة النقشبنديّة كانوا ولا يزالون يبذلون جهودًا بالغةً في نشر تعاليم الطريقة الخالدية على الساحة التركية بين العنصر التركيّ والكرديّ منذ حقبة تزيد على مائة وخمسين سنة. إلاّ أنّ نجاح الطريقة في هذه الساحة إنّما يعود بالدرجة الأولى إلى شخصين منهم. وما ذلك في الحقيقة إلاّ من نتائج سعيهما المتواصل ودعاياتهما المغرية وأسلوبهما في التعامل مع الناس، وتأثيرهما في توجيههم. وإلاّ ليس بسبب إطلاع الناس على كنه هذه الطريقة وغاياتها. بل العامة تجهل حقيقتها تمامًا.
أحدهما هو الشيخ طه النهريّ الشمزينيُّ الهكّاريّ الكيلانيُّ. وهو من الطبقة الأولى بعد خالد البغداديّ كما مرّ ذكره.
والثاني هو الشيخ أحمد ضياء الدين الكُموُشْخانويُّ. الّذي أخذ الخلافة من أحمد سليمان الأروادي (خليفة خالد البغداديّ).
أمّا بقية شيوخ النقشبنديّة - مهما اشتهر بعضُهم وأصبح في الصورة، لتقادم سمعة الأوّلين - فإنهم لم يحقِّقُوا شيئًا جديدًا سوى منافسة الأمثال في اصطياد الناس.
***(64/375)
* الشيح طه بن الملا أحمد بن صالح النهريّ الهكّاريّ الكيلاني.
ينحدر طه النهريّ من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. أسرته هي من تلك العائلات المهاجرة من ذراري بني هاشم الّذين فرّوا من زحف المغول، وأقاموا في هذه المنطقة؛ ثم غلب على كثير منهم الطابعُ الكرديّ. يستثنى من هذه العائلات المهضومة في البوتقة الكرديّة: الحسينيّون من أحفاد الشيخ حامد المارديني الّذين أقاموا في مدينة ماردين وضواحيها؛ والأسرة العباسية في مدينة تِلُّو؛ التابعة لولاية سِعِرد؛ والأسرة الحزينية الحسنية في قرية فرساف، بضواحي مدينة سعرد أيضًا. إنّ هذه المنطقة قد فتحها الصحابيُّ الجليل، خالد بن الوليد القرشي المخزومي. فكان قد أقام هناك عقب الفتح جموعًا من العرب. فلمّا هاجرت العائلات المذكورة الثلاث من بغداد إلى هذه المنطقة بعد ستمائة عام من الفتوحات الإسلامية الأولى، إختارت الإقامة بين بني قومهم من سكانها الأصليّين؛ فصانتها من الإنصهار في المجتمع الكرديّ مدّةً طويلةً تزيد على سبعمائة سنةٍ، حتّى مُحي هذا الطابع على يد يهود سالونيك الّذين وثبوا على السلطة، وتحكّموا في زمام الأمر منذ بداية العهد الجمهوريّ إلى اليوم.
كان طه وعمُّهُ عبد الله من خلفاء خالد البغداديّ. إلاّ أنّ طه غلب عمَّه في الشهرة. لأنّه كان يمتاز بتسليط هيبته على الناس، والتمكٌّن منهم، والمعرفة بطرق تسخيرهم؛ بخلاف عمِّهِ الخامل المعزول عن الناس، الّذي لا ذكر له أصلاً سوى ما جاء في بعض مكتوبات البغداديّ فحسب.
أمّا طه، فان ولاة المنطقة وأعيانها كانوا ينظرون إليه بعين التوقير والإجلال لما رأوا طاعة جميع العشائر الكرديّة له. وربما هذا السبب المزدوج هو الدافع الرئيس لِتَدَرُّجِهِ في سُلّم الشهرة حتّى استطاع أن يكتسب قوةً سياسيةً في المنطقة إلى جانب مركزه المرموق عند السلطان العثمانيّ. ثم حظي من هذه الشهرة خلفاؤه أيضًا.(64/376)
إنّ أهمية دوره في نشر تعاليم الطريقة النقشبنديّة على الساحة التركية تكمُنُ في جهود أُسرتين من أتباعه. وهما الأسرة الأرواسيةُ، والأسرة الكُفْرَويّةِ. لذا من أراد البحث في سير الطريقة النقشبنديّة ومتابعة نشاطها عبر القرن الأخير في هذه البلاد، ينبغي له أنْ يتعرّف أوّلاً على كنه هاتين الأسرتين. وحتّى المعرفة بشخصية طه، تتوقّف أيضًا على المعرفة بالأسرتين المذكورتين. لأنّ أتباعه لم يدّخروا وسعًا في تعظيم شأنه إلى درجة إلهٍ لا ينبغي (في اعتقادهم) أن يتمكّن أيّ إنسان من الإطلاع على شئٍ من صفاته البشرية.
لذا وعلى الرغم من أنه كان رجلاً سياسيًّا معروفًا، بصفته في المجلس العثمانيّ، فانّ أتباعه قد بذلوا قصارى جهودهم في القضاءِ على أدنى وثيقة من دلائل حياته السياسية لما قد تُسَبِّبُ زوالَ هيبتِهِ من قلوب المريدين؛ وقد نسجوا حوله تلافيفَ من حكاياتٍ أسطورية غريبة على سبيل الذكر لما كان يتضف به من العظمة والشموخ والشأن الرفيع والكرامة والبركة؛ يتلهّى بها الغافل عن التأمُّل فيما إذا كان هذا الرجل بشرًا يأكل ويشرب ويتغوّط.
كان طه من أشهر أبناء الشرفاء النهريّين (نسبة إلى نهري). وهي قرية على مَقْرُبَةٍ من مدينة شمزينان التابعة لولاية الهكّارية. وكان في الوقت ذاته يمثّل أكبر جماعة من النقشبنديّين في المنطقة الكرديّة الشمالية من المملكة العثمانيّة.(64/377)
قام بدوره بعد وفاته، ابنُهُ عبيد الله. وكان قد أخذ الخلافة من عمه صالح بن أحمد، فاستغلّ شهرة والده في أغراض خطيرة بدرتْ منه لميّزاتٍ شخصيةٍ فيه. ذلك لأنّه كان جريئًا مقدامًا. عارض سياسة السلطان عبد الحميد الثاني ضدّ موقفه المتهاون من الأكراد. ولكنّ عقليته المتخلّفة لم تسمح له بملازمة جانب الحكمة في تعامله مع السلطة العثمانيّة. فلم ينجح في معارضته. لأنه كان مُعْجِبًا بقدرته إلى حدود الاغترار حتّى لجأ إلى استعمال العنف ضدّ جهة غير ذات علاقة بالأمر. فاتخذ العداء السافر على العشيرة المسيحية الآشورية ذريعةً لهذه المعارضة. فأنذز زعمائَهَا وطلب منهم أن يُعلنوا إسلامَهم على وجه السرعة جميعًا، وإلاّ لَيُداهمنَّم ببطشه وليحطمنّهم بجنوده! فجمع من مريديه جيشًا بمنطقة زاب، قوامه عشرون ألفَ شخصٍ، ودخل المنطقة على حين غفلة من أهلها؛ ففعل بهم ما فعل، ثم دخل الأراضي الإيرانية زاحفًا يتحدّى بذلك السلطتين العثمانيّةَ والإيرانيةَ؛ فداهمته القوات العثمانيّة، فأُلْقِيَ القبض عليه وعلى أبنه عبد القادر عام 1881م. فصدر الفرمان السلطانيُّ بنفيهما إلى مكة المكرّمة. ثمّ مات عبيد الله في منفاه بعد أن قضى هناك سبع سنين. وذلك عام 1888م.
قيل أنّ الغرض من ثورة عبيد الله بن طه النهريّ عام 1881م.، كان إقامة دولة كردية في منطقة جنوب شرقي المملكة العثمانيّة. وتبرهن على هذا، عدّةُ أحداث وقعت بعد موته.
منها، أنّ ابنه عبد القادر، قام بتأسيس جمعية كردية في 2. أكتوبر. 1908م. مقرّها الرئيس بمدينة إسطنبول. وكان لها عدّة فروع في المنطقة الكرديّة.(64/378)
ومنها، ثبتتْ علاقة عبد القادر بن عبيد الله النهريّ بالثورة الّتي قادها الزعيم الكرديّ أمين علي البدرخاني عام 1889م.؛ كذلك ثبتتْ علاقتُهُ مع زحف الأرواسيين على مدينة بدليس بقيادة الشيخ شهاب الدين بن الشيخ صبغة الله الأرواسيّ الحيزانيّ عام 1913م. كما كانت له علاقة بالثورة الّتي انفجرت أخيرًا بقيادة الشيخ سعيد البالوي عام 1924م.
جاءت معلومات مفصّلة عن القضايا المذكورة في تقاريرَ عدة ٍلجهاز المخابرات التركية فور إعلان الجمهوريّة و إثر اعتقاله مع ابنه محمّد، تُلِيَتْ هذه التقارير أمام المحكمة العرفية بمدينة دياربكر أثناء التحقيقات الّتي أُجريتْ معهما عبر الجلسات من شهر أبريل ومايو عام 1925م. وذلك بتهمةِ اشتراكهما وتعاونهما مع الثوار الأكراد النقشبنديّين. ثم نُفِذَ حكمُ الإعدام فيهما صبيحة يوم الأربعاء 17. مايو. 1925م. بمدينة دياربكر.
يبدو أنّه كان يستوحي الجرأة، ويستمد القدرة من وراثته لشيخٍ من أقوى زعماء النقشبنديّين، وهو جدّه الشيخ طه النهريّ؛ حتّى صدرت منه هذه البوادر الخطيرة، فأَوْدَتْ بحياته وحياةِ ابنهِ محمّد إلى الهلاك في سبيل هدف لا مساس له بالإسلام مباشرةً. وإن كان بعض الزعماء لهذه الثورات ينطلقون باسم الإسلام ويهتفون به. ولكنّها في الحقيقة كانت حركات نضالية وثورات كردية ضدّ الحكم الفاشي لحزب الاتحاد والترقي وامتداده الّذي تجسّد في النظام اليهودي بعد إعلان الجمهوريّة. بينما كان الشيخ المذكور عربي الأصل من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وإن كان هو كردي النشأة من حيث الذوق والعقلية والاتجاه.(64/379)
إنّ الشيخ عبد القادر بن الشيخ عبيد الله بن الشيخ طه النهريّ، هذا الّذي قام بتلك المغامرات الخطيرة، كان من أعضاء مجلس الأعيان في البرلمان العثمانيّ سابقًا، كما تقلّد منصب رياسة مجلس الشورى في حكومة داماد فريد باشا، عامي 1919-1920م. من عهد السلطان وحيد الدين. ولكن العبرة الّتي يجب استخلاصها من كلِّ هذه الوقائع، هو أنّه لم ينل هذه المناصب ولا حظي بهذه الشهرة إلاّ لأنّه كان شيخًا نقشبنديًا وابن شيخ نقشبنديٍّ شهير!
أمّا الأُسرتان المذكورتان من أتباع الشيخ طه النهريّ، فانّ قصّتهما غريبة جدًّا.
وقع التنافر بين الأسرتين فور موت الشيخ طه، ثم اشتدّ الصراع بينهما بسبب المنافسة في استغلال شهرته، حتّى بلغ ذلك إلى أبشع أشكال التباغض والشحناء. فبدأ كلٌّ من الطرفين يقابل الآخر بالسخرية والتهكُّم والسبّ والتكفير.
ذلك أنّ الشيخ صبغةَ الله الأرواسيّ والشيخ محمدًا الكُفْرَويّ، كلاً منهما كان قد حصل على الخلافة من الشيخ طه النهريّ الهكّاريّ. وهذا ليس أمرًا شاذًّا عن أصول النقشبنديّة. لأنّه قد يأذن شيخ الجماعة لأكثر من واحد بالخلافة. إلاّ أنّه يقيم لنفسه وصيًّا خاصًّا، على أن يرجع إليه بقيَّةُ خلفائه بعد موته في قراراتهم. وأن يرابطوه ويعظِّموه بصفته نائبًا عنه.
وما أنْ مات الشيخ طه النهريّ الهكّاريّ، حتّى ادّعى كلٌّ من الخليفتين أنّه الوصيُّ القائم مقام شيخه وانتصر له أتباعه بحماسة. فزاد في هذه الحملة أتباع الكُفْرَويّ، أن الشيخ صبغة الله الأرواسيّ مطرود من الطريقة زعمًا على لسان عبيد الله النهريّ. فتطوّر الأمر إلى حدّ، لم يأل أيُّ طرفٍ منهما جهدًا في التشنيع على الآخر، إلى أنْ قام أبناء صبغة الله الأرواسيّ بثورة على النظام عام 1913م.(64/380)
فلمّا زحفوا على مدينة بدليس، استغلّ أتباع الشيخ الكُفْرَويّ هذه الفرصة، فانحازوا إلى القوات العثمانيّة ضدّ الثوّار. وساعدهم رجل اسمه الشيخ محمّد الغريب من أتباع الشيخ محمّد الحزين الفرسافي الهاشمي. فاستولى على مخزن العَتَادِ والذخيرة للجنود الّذين كانوا قد هربوا من وجه الثوار. فوزّع الأسلحةَ على سكان المدينة؛ فاشتدّتْ المقاومة ضدّ الأرواسيّين حتّى عاجلتهم الهزيمة. فأُلْقِيَ القبض على قادتهم: الشيخ شهاب الدين، والسيد علي، والشيخ محمّد شيرين، كبارِ الأسرة الأرواسية؛ ونُفِذَ فيهم حكمُ الإعدام بسرعةٍ في مدينة بدليس. فزاد الطين بلّةً بين الأسرتين بعد هذا الحدث، واستمرّت العداوة بينهما إلى يومنا هذا.
كانت قد أصابت الأسرةَ الكُفْرَوِيةَ أيضًا نكبةٌ في تلك المرحلة بسبب بدعةٍ أثارها رجلٌ متطرِّفٌ من أتباعها الأكراد في مدينة آغري هذه المدينة ولاية في أقصى شرق تركيا. تقع على مسافة قريبة من الحدود الإيرانية-التركية. كانت تسمى "قره كوسه" ازداد سكانها في السنين الأخيرة وأربى على خمسمائة ألف نسمة. غالب قراها آهلة بالأكراد. تعتمد الحياة فيها على زراعة القمح وتربية المواشي. انفجرت في منطقةٍ منها ثورة ضد الطغمة اليهودية الحاكمة عام 1930م. وهي منطقة "وادي زيلان". ذهب ضحية المذابح الّتي اُرتُكِبَتْ فيها ستة عشر ألفًا من الأكراد؛ شملت الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى! اسمه "بَكّو".(64/381)
ذلك، أنّ هذا الرجلَ ظهر ينبح في الشوارع نُبَاحَ الكلاب. فزعم أنّ هذا الفعل يصدر منه تلقائيًّا وبغير إرادة، كما زعم أنّ ذلك جذبات إلهية تنتابه، فلا قدرةَ له على الامتناع عنها. بيد أنّه لم يقتصر بنفسه على ذلك؛ بل بدأ يدعو الناس أيضًا إلى النُباح بإصرار وقد يشتدّ عليهم أحيانًا إلى حدود الإجبار. فاغتر به كثير من البُسطاءِ، وأطاعه آخرون على كراهيةٍ منهم، مخافةَ أن يمسّهم بسوء. فلم يلبث أنْ تفاقمت البدعة وانتشرت الفتنة بين قبائل الأكراد الّذين كانوا ينتمون إلى الشيخ محمّد الكُفْرَويّ، ويعتقدون أنّه أعظم أولياء الله على وجه البسيطة. فتطوّر الأمر وتصاعدت أصوات العواءِ على المنطقة بتمامها وبصورة مرعبة عجزت الإدارة المحلّيّةُ عن التحكّم فيها والحيلولة دونها؛ حتّى لجأت إلى طلب المدد من العاصمة إسطنبول. فتم القضاء على هذه البدعة باتخاذ إجراءات أمنية صارمة. ثم بعد أن صدر الفرمان بتنفيذ العقوبة اللاّزمة ضد كبار الأسرة الكُفْرَوِيَةِ، بصفتهم مسئولين عن حدوث هذه الفتنة، تمّ إبعاد الشيخ عبد الهادي والشيخ عبد الباقي (ابني الشيخ محمّد الكُفْرَويّ)؛ تمّ إبعادهما إلى برية فزان. وهي منطقة نائية عن البقاع المسكونة في قلب الصحراء بليبيا. وذلك في أوائل القرن العشرين الميلادي.(64/382)
والغريب أنّ تلك التطوّرات لم تُجْدِ بأيّ سلبيةٍ على الطريقة النقشبنديّة، ولم تخفّف شيئًا من سرعة انتشارها ورسوخها، على الرغم من ابتلاء المجتمع العثمانيّ بنكبات المجاعة والهجرة بعد الحرب العالمية الأولى، وزحف جيوش روسيا القيصرية على المناطق الشرقية الّتي كانت معظمها آهلةً بالأكراد. فنفذت محبة هذه الطريقة إلى قرارة نفوسهم، فتشرّبتها دماؤهم وخلاياهم. مع أن الطريقة النقشبنديّة كانت حديثة العهد في تلك المرحلة بالإضافة إلى أنّ الأكثرية الساحقةَ منهم، ما كانوا ولا يزالون يعرفون شيئًا من تعاليمها ومبادئها الأساسية وفلسفتها. كما وأنّهم يجهلون تمامًا من أين تستوحي عقائدها. وما هو الغرض الحقيقيُّ لهذه الطريقة.
هكذا سادت العقائد النقشبنديّة ورسخت في نفوس الأكراد بالمنطقة الشرقية نتيجة جهود الشيخ طه النهريّ وخليفتيه بالرغم من النزاع الّذي دام بينهما وبين أتباعهما منذ مائة وثلاثين عامًا. وكان لعددٍ آخر من الشيوخ أيضًا أثر كبير في انتشار هذه الطريقة على المنطقة المذكورة. منهم؛ الشيخ خالد الجزري، والشيخ حامد المارديني الحسيني الهاشمي، والشيخ صالح السيِبْكيِ، والشيخ محمّد الحزين الحسني الهاشمي.
أمّا المنطقة الغربية، فانّ جهود الشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخَانَوي يغلب على جهود سائر شيوخ الأتراك في نشر هذه الطريقة. ذلك لأنّه أعلمهم باللّغة العربية، وأكثرهم ثقافةً، وأنجحهم في التعامل والتفاهم مع خاصّة المجتمع. لذا كان نافذ الكلمة عند رجال الدولة والسياسة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. جاءت ترجمتُهُ بالتفصيل في "إرغام المريد" للشيخ محمّد زاهد الكوثريّ.(64/383)
وهو من الطبقة الثانية بعد خالد البغداديّ. لذا يُعَدُّ هو الحلقةَ الحاديةَ والثلاثين من السلسلة النقشبنديّة. صَحِبَ الشيخ عبدَ الفتاحِ العقريَّ (أحدَ خلفاء البغداديّ الّذي أقام في إسطنبول لنشر الطريقة بأمرٍ من شيخه، ومات بها.) وفي تلك الفترة التقى الكُمُوشْخانَويُّ بالشيخ أحمد بن سليمان الأروادي في إسطنبول. كان الأرواديُّ أيضًا من خلفاء البغداديّ. أجاز الكُمُوشْخانَويَّ بالخلافة أثناء هذه الزيارة. ثم عاد إلى بلده طرابلس الشام بعد أن أقام في مدينة إسطنبول مدةً طويلةً.
للشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخانَويّ تصنيفات في الحديث والتصوّف والأخلاق. وردت أسماؤها في كتب الباحثين الأتراك. كلّها مدوّنة بالعربية. وذلك يبرهن على أنه كان يتقن لغة الضاد، وإن لم يكن على درجة فائقة في البلاغة. وذلك عسير جدًّا على العنصر التركيّ. إذ لم ينجح منهم أحد في استخدام هذه اللّغة على مستوى أدباء العرب و أعلامهم بعد العهد المملوكيِّ في مصر. إلاّ عدد قليل جدًّا. أشهرهم الشيخ محمّد زاهد الكوثريّ، ثم الشيخ مصطفى صبري، ثم الشيخ أبو السعود العمادي. مات الشيخ أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخانَويّ عام 1311هـ./1893م. والدولة العثمانيّة مغلوبة على أمرها، معرَّضَة لأخطارٍ وشيكة الوقوع. ولم يكن النقشبنديّون يومئذ على شعورٍ تامٍّ بما تعاني دولتهم من أزمات رهيبة في الداخل والخارج. وكان المجتمع عامّةً في ظلامٍ من الجهل والعمى. حتّى اندلعت الحرب العالمية الأولى، فحصدت مالا يُحصى من الأرواح.
وما أنْ وضعت الحربُ أوزارها، بدأ الناس يستفيقون من سباتهم، وينهضون من تحت أنقاض هذه الدولة المدمَّرة ليواصلوا مسيرة الحياة من جديد. ولكن البقية الباقية من النقشبنديّين مازالوا ينظرون إلى من يظهر فيركب على عاتقهم ويحتلّ مكان السابقين من الشيوخ لِيُعِيدَهُمْ إلى ذلك العالم المُظلم كرةً أخرى.(64/384)
فلمّا تمَّ إعلان الجمهوريّة التركية عام 1923م.، وانفجرت ثورة الشيخ سعيد البالوي الكرديّ عام 1924م. حكمت السلطة على عددٍ من مشائخ الطريقة النقشبنديّة بالإقامة الجبرية في المدن الغربية بعد أن نفّذت حكمَ الإعدام في جماعةٍ منهم عقب إخماد الثورة مباشرةً. وكان من المحكومين عليهم بالإقامة الجبرية في كلٍّ من مدينة إسطنبول، وبورسة، وإزمير، أبناء الأسرة الأرواسية والكُفْرَوِية وغيرهم.
و من غرابة الأمر، أنّ الأسرتين الأرواسية والكُفْرَوِية تعرّضتا لاستحالةٍ سريعةٍ جدًّا في منفاهما لأسبابٍ وظروفٍ اجتماعيةٍ و ثقافيةٍ، انفكّت الصلةُ على أثرها بين الأسرة الكُفْرَوِية خاصّة وبين جماعات المريدين المنتسبين إليها بدافع هذه الاستحالة. زِدْ على ذلك: أنّ قلّةَ أبناء هذه الأسرة عددًا، واخْتِلاَفَهُمْ عن أتباعهم في التعايُش والسلوك بعد المرحلة الأخيرة، يُعَدُّ أيضًا من الأسباب الرئيسة لهذا الإنحلال. وما أنْ مات الشيخ قسيم الكُفْرَويّ عام 1992م.، اندرست اسم هذه الأسرة واختفت عن ساحة النقشبنديّين تمامًا.
أمّا الأرواسيّون، فإنّهم استطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم بين الجماعات المنتسبة إليهم لأسباب:
منها، أنّ عددًا منهم استمرّوا في ممارسة مهنة الأسلاف إلى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين الميلاديّ. وعلى رأسهم الشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي أعاد للأسرة سمعتَهَا بعد تلك النكبات الّتي أصابتها قبيل الحرب العالمية الأولى. وذلك بنشاطاته في مدينة إسطنبول، خاصّة بعد إعلان الجمهوريّة، وهدوء الأوساط؛ كما سنتطرّق إلى أعماله قريبًا إن شاء الله.(64/385)
ومن هذه الأسباب: أنّ رئيس الطغمة اليهودية الحاكمة الّذي وثب على السلطة فور الإعلان للجمهورية المزيّفة؛ وغَصَبَ الحكمَ بالتواطؤِ مع "منظمة الْقَرَائِمَةِ"، في الداخل؛ و"منظمة الفرمسونية العالمية" وبدعمٍ من الحكومة البريطانية من الخارج؛ استقر أمره وبدأ يلتقط شبابًا من أفذاذ كلّ فئةٍ، يُغريهم بإمكاناتٍ واسعةٍ، وأموالٍ طائلةٍ، ومناصبَ هامّةٍ طاشت بها عقولهم واندفعوا تحت أمره إلى تحقيق كل ما يهواه. كان يروِّضُهم على شاكلته، لِيُكَوِّنَ منهم قوّةً يعزّزُ بها مركزَهُ. اختار شبابًا من هذه العائلات المحكومة عليها بالإقامة الجبرية. ومنح الناضجين منهم فرصة المشاركة معه في احتكار السلطة. وسعى إلى تربية عدد من صغارهم وفق اتجاهاته؛ فأرسل فريقًا منهم إلى سويسرا للدراسة، وليصنع منهم عملاء صادقين مخلصين يخلد بهم ذكره. فكان على رأس هؤلاء الفتية شابٌّ من الأسرة الأرواسية. اسمه كامران إينان. وهو ابن الشيخ صلاح الدين بن السيد علي بن صبغة الله الأرواسيّ الحيزانيّ، من مشاهير شيوخ النقشبنديّة في شرق البلاد.(64/386)
نشأ كامران إينان علمانيّا دهريًّا بحكمِ البيئةِ الّتي تربىَّ فيها، والثقافةِ الوضعيةِ الّتي تلقَّاها في الغرب. لذا كان ولا يزال يُضمر الحقد على الإسلام والمسلمين. ولكنَّه محنَّكٌ في فنون المسايرة، وحاذقٌ في المُداراة واللّباقة إلى حدود النفاق. يتظاهر لأتباع آبائه على عقيدتهم، ويخاطبهم بأسلوبهم. ولكن الطغمة اليهودية الحاكمة لولا تأكّدها من إخلاصه لها، لما ضمّتْهُ إلى فريقها، ولا كشفتْ له من أسرار مخططاتها، ولا منحته تلك المناصب العليا الّتي لا يزال يشغلها ويتعاون مع البقية من رجال هذه المنظمة السرية الخطيرة. إذ أنّ الحكومات اليهودية وكّلت إلى هذا الرجل وظائفَ هامةً عبر احتكارها لسلطة الجمهوريّة التركية. فمنحته مهمّة السفارة في السنين الأولى، كما أكسبت أباه العضويةَ في البرلمان التركيّ. ثم ازدادت في إسباغ نعمها على هذه الأسرة أنْ استخدمت عددًا من رجالها الآخرين، كما وكّلت أخيرًا إلى كامران إينان منصب وزارات عديدة. وهو لا يزال يتهنّأ بمكانته المرموقة بين الجيل الثاني والثالث من أفراد هذه المنظمة اليهودية حتّى الآن. على الرغم من أنّ لآبائه سوابق سياسية خطيرة كما تطرّقنا إليها بإيجاز آنفًا. فيكون استخدامه أمرًا مخالفًا للأعراف السياسية على وجه الإطلاق. يبرهن على استثنائية وجوده في المسرح السياسي، عدمُ تمكين الحكومات التركية لبقية أحفاد الثوار من تلك المناصب.
أماّ عبد الحكيم بن مصطفى الأرواسيّ، فانّه من مشاهير المتأخرين للطائفة النقشبنديّة. لم نقف على تاريخ ميلاده. انخرط في سلك هذه الطريقة وأخذ الخلافة من جدّه السيد فهيم عام 1889م. وبذلك يُعَدُّ من الطبقة الثانية والثلاثين من السلسلة النقشبنديّة.(64/387)
خرج من موطنه (قرية آرواس)؛ وهي من ضواحي مدينة وان؛ مهاجرًا إلى الموصل، هربًا من هول القوات الروسية الّتي داهمت المنطقة الشرقية عام 1914م. أقام هناك مدةَ عامين، ثم هاجر إلى مدينة أَضَنَهْ، فأَسْكِيشَهِرْ، حتّى وصل إلى إسطنبول عام 1919م. فأقام بها، وشهد التطوّرات الّتي مرّت بالدولة العثمانيّة في أيّام انهيارها. ولكنّه ظلّ يشتغل بنشر طريقته غير مبالٍ بما يجري حوله، أو ربما تلبيةً للحاجة الروحية الّتي كان الناس في مساس إليها.
ينبغي هنا أن لا ننسى الحالةَ النفسيّةَ الّتي كانت في تلك المرحلة قد سادت ضمير المجتمع العثمانيّ بكل فئاته، ذلك المجتمع الّذي لم يكد يصدّق بسقوط »دولته العملاقة الّتي كانت في ذمة أولياء الله«. إنّ هذا المجتمع كان يومئذ يبحث عمن يسليه ويكشف غمه، ويبشّره بأنّ الدولة مازالت في حماية الأولياء. فوجد ضالّتَهُ المنشودةَ في عبد الحكيم الأرواسيّ.
في الحقيقة أنّ هذا الرجل قد لعب دورًا هامًّا في تسلية الناس بتزيين أحلامهم، وتعظيم أمجادهم، واستطاع بهذا الأسلوب أن يجدّدَ عهدَهم بالطريقة النقشبنديّة و »عظمائها الّذين ظلّوا ينشرون أجنحتهم على الأمّة التركية، ويحفظونها من المصائب، ويقاتلون أعداءها أمام الصفّ الأوّل في كلّ معركةٍ«(64/388)
لقد حالفه الحظّ في هذه المحاولة أنْ تعرّف على رجلين نادرين من نوعهما في إسطنبول. وهذا يُعتَبَرُ أيضًا من الأسباب الهامّة لنجاحه في نشر طريقته واكتساب شهرته. أحدهما أديب شاعر صنديد شهير، اسمه نجيب فاضل، مات عام 1983م.؛ والثاني عقيدٌ صيدليّ متقاعدٌ؛ اسمه حسين حلمي؛ دسّته أجهزة المخابرات في صفوف أتباعه لمهمّةٍ قام بها حقَّ قيامٍ منذ ستين عامًا وهو لا يزال على قيد الحياة يواصل مهمّتَه بنجاح. تنحصر هذه المهمة أصلاً في نشر العقائد الّتي تمثّل شكلاّ مخصوصًا مختلقًا وبديلاً عن الإسلام. وهو الإسلام المتعارف من قِبَل الغالبية العظمى للمجتمع العثمانيّ منذ ستمائة عام على الأقل. بل هو الإسلام الشكليُّ المجرد عن الروح السماويِّ منذ عهد العباسيّين؛ وليس هو الإسلام الّذي يحدّده كتابُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمقوماته السماوية والعالمية.
لقد كان عبدُ الحكيم الأرواسيّ ذا حظ عظيم؛ لأنّ مشاهير شيوخ النقشبنديّة من العناصر التركية الّذين كانوا في المنطقة الغربية، حصدتْهم المنيةُ في تلك المرحلة الزمنية؛ فسرعان ما حلّ الأرواسيّ محلّهم، واستفاد من الفراغ الحاصل بموتهم. فذهب صيته بمحاولات الرجلين المذكورين من بطانته.(64/389)
فلما أوجستْ الحكومةُ خيفةً من انتعاش الطريقة النقشبنديّة بعد الثلاثينات في المنطقة الغربية، بعد أن انتهت من قمهعم في المنطقة الشرقية تطبيقاً لخطةٍ أعدّتها عام 1925م.، وهي ثورة الشيخ سعيد البالوي. في الحقيقة لم تكن هذه الثورة إلا مؤامرة دبرتها حكومة يهود سالونيك للقضاء على المسحة الإسلامية ظنًّا منها أنّ النقشبنديّين يمثلون الإسلام. دبّرت خطةً أخرى للقضاء على كبار هذه الطائفة بتجنيد عددٍ من الحشاشين في مدينة مَنَامَنْ قربَ إزمير عام 1930م. ثم حصدتهم حصاد الزرع، واعتقلت مَنْ لم تتمكّن من إيجاد ذريعة لقتله. وكان الأرواسيُّ - من حسن حظِّه - ضمنَ الفريق الثاني؛ لذا حُكِمَ عليه بالإقامة الجبرية في مدينة إزمير. ثم أُطلق سراحه عام 1943م. فانتقل إلى أنقره، ومات بحيِّ باغلوم في نفس العام.(64/390)
ومن مشاهير شيوخ الطريقة النقشبنديّة بالمنطقة الغربية في أواخر الحكم العثمانيّ الشيخ أسعد الأربليّ. كان قد حظي بشهرة واسعة في مدينة إسطنبول. نفاه السلطان عبد الحميد الثاني إلى موطنه الأول (مدينة أربل) بشمالي العراق؛ لمعارضته سياستَهُ. بل بتهمةِ تطاولِهِ على شخصية السلطان. قيل أنّ الشيخ أسعد هذا كان مُعجِبًا بنفسه مُستعليًا مُتهوّرًا لايعبأ بكرامة الناس؛ دخل في عِرضِ هذا وذاك حتّى شتم السلطان عبد الحمد، فبلغه، فأمر بنفيه إلى أربل فأقام هناك عشر سنين محكومًا عليه بالإقامة الجبرية؛ غير أنّ أتباعه يستقبحون هذا الإسناد ويدافعون بأنّ حكم النفي إنّما صدر بسبب كتاب ألّفه الشيخ أسعد، ورد فيه ما يثير إساءة السلطان، فنفاه. ولكنّهم لم يبرّروا حجّتَّهم حتّى الآن باثبات هذا الكتاب المجهول الّذي ربما لا أصل له! وما قيل أنّ هذا الكتاب هو "كنز العرفان"، -كما جاء على لسان الباحث أكرم إيشن في "موسوعة إسطنبول"، مادة النقشبنديّة - فانه لا يستقيم مع المنطق السليم. إذ أنّ هذا الكتاب لايحتوي على شيءٍ مما يكون قد أغضب السلطان. بل قد أكّد فيه المؤلّف لزومَ إطاعةِ أولي الأمرِ، كما يحتوي هذا الكتاب على موضوعاتٍ فقهيةٍ وأخلاقيةٍ واجتماعية متفرِّقةٍ؛ كآداب الوضوء وفضائل السواك والذكر والدعاء وتحسين اللحية وذمّ البخل؛ ولكن الأربليّ كان مواليًا لجمعية شبّان الأتراك الّتي شنّتْ حربًا ضاريةً على السلطان عبد الحميد وسياسته كما ورد التنويه بذلك في "موسوعة إسطنبول". Mehmed Esad Efendi'nin, Kanun-i Esasi hareketini destekleyen Tasavvuf Dergisindeyazd??? ve J?n Türk dastekçilerinden Cemiyet-i Sufiye’nin destekçisi oldu?u bilinmektedir.
Dünden Bugüne ?stanbul Ansiklopedisi, ?tem: Nak?ibendilik.(64/391)
ثم إنّ الشيخ أسعد الأربليّ لما أُفرِجَ عنه عام 1914م. باع جميعَ أملاكه في أربل واشترى بثمنها قصرًا في إسطنبول بحيِّ أَرَنْكُويْ، وهي من الأحياء الّتي يسكنها الأثرياء والطبقة الأرستوقراطية. ثمّ صار من أعضاء "مجلس مشائخ الصوفيّة" وتولىّ رئاستَهُ، ثم استقال من وظيفته عام 1915م.
تحامل الأربليّ على شخصٍ من رجال الوعظ في إسطنبول، وهاجمه في رسالته السابعة والثلاثين بعد المائة على أنه منكر للصوفية.
كان أسعد الأربليّ قد انخرط في سلك النقشبنديّين بالانتساب إلى شخص اسمه طه الحريريّ؛ وهو من خلفاء طه الشمزينانيِّ الهكّاريِّ. يدّعي الأربليُّ أنه مأذونٌ أيضًا في الطريقة القادرية من الشيخ عبد الحميد البريفكانيّ (خليفة الشيخ نور الدين البريفكانيّ). ورد إقراره بهذه التفاصيل في رسالته الرابعة والخمسين بعد المائة من جملة رسائله الّتي نشرت من قِبَل دار الأرقم في إسطنبول عام 1983م.
ظهر في الآونة الأخيرة رجلٌ اسمه عمر أُونْكُوتْ واشتهر بنشرِ رسائلَ في مثالب عدد من رؤساء النقشبنديّة؛ جاء في نهاية هذه الرسائل أنه مأذونٌ من خليل فوزي في الطريقة النقشبنديّة، وأنّ هذا الأخير كان من خلفاء الشيخ أسعد الأربليّ؛ غير أنّ عامّةَ النقشبنديّين لا يعترفون به ولا بشيخه (خليل فوزي)، بل يعتبرونه دعيًّا دجّالاً عميلاً للحكومة العلمانية!
يبدو من عبارات الشيخ أسعد الأربليّ أنه كان قد استخلف شخصًا اسمه يكتا أفندي، يرجع إليه أتباعُهُ للاستشارة والاستفتاء، وقد زكّاه الأربليّ في عدد من رسائله إلى مريديه. و لكن الّذي اشتهر بالنيابة عنه أخيرًا هو محمود سامي رمضان أوغلو. قد أجازه الأربيليُّ بالخلافة كما ينصّ على ذلك خطابه الرابع والثلاثون بعد المائة من جملة رسائله الّتي جمعها الدكتور عرفان جندوز بالمشاركة مع ح. كامل يلماز.(64/392)
قام خَلِيفَتُهُ محمود سامي ببذل جهوده في سبيل تحسين سمعة شيخه لدى الناس الّذين كانوا يبغضونه لمعارضته سياسة السلطان عبد الحميد، - لأنّ القاعدة الشعبية من الأتراك مازالوا يحتفظون بالمحبة والإنتماء إلى سلاطين بني عثمان على أنهم رموز مقدّسة لأمجاد الأمة التركية -. فأوصى بعضَ مريديه المشهورين بالثروة والجاه أن يتزوّجوا من بنات أسرة آل عثمان، في الفترة الّتي كان رجال الأسرة المالكة مُبْعَدِينَ عن البلاد، وجملةٌ من نسائهم أصبحن في حاجة إلى المساعدة بسبب ما قد تعرّضن له من الفقر والإهمال. فانتهت هذه التوصية بعقد قرانٍ بين رجلٍ ذي مكانة من مريديه وبين أميرة من بنات آل عثمان. وقُضيت بذلك على السمعة السيئة الّتي كانت قد شاعت ضد الشيخ أسعد الأربليّ من قبل.
مازالت الطريقة النقشبنديّة تواصل مسيرتَها وانتشارها على الساحة التركية بكل نشاط وحيوية؛ وبواسطة طبقاتٍ من شيوخ هذه الطائفة. تختلف نسبةُ كلٍّ منهم إلى سلسلة ساداتهم ما بين الطبقة الرابعة والثامنة بعد خالد البغداديّ. وتستعدّ هذه الطريقة في أيّامنا للقفز إلى الجمهوريّات التركية الّتي حصلت على استقلالها بعد سقوط الإمبراطورية السوفيتية. كما تحاول بأقصى إمكاناتها وتعمل لتجنيد كافّة رجالها على إبقاء مفهوم الإسلام محصوراً في ذلك القالب الّذي صبه فيه الروحانيّون الأتراك بخلاف ميّزاته العلمية، ومحتوياته القرآنية الأصيلة، و صورته المحمدية البراقة.
سنقوم بتحليل هذا الجانب للطريقة النقشبنديّة عبر الفصل الخامس الّذي نحن على وشكٍ الدخول في تفاصيله بعد سرد معلومات وافية حول المميّزات الشخصية لشيوخ الطرق الصوفية ومستوياتهم العلمية والثقافية إن شاء الله تعالى.
* المميّزات الشخصية لشيوخ الطريقة النقشبنديةِ ومستوياتهم العلمية والثقافية(64/393)
إن شيوخ الطرق الصوفية الأتراك اليومَ، هم في الحقيقةِ أخلافُ دراويش خرسان (Horasan Erenleri)الذين كانوا يتردَّدونَ بين قبائل التركمان الرُّحَّل في العصر الذي اعتنقوا فيه الإسلامَ. وأمّا أؤلئك الدراويش، فقد كانوا هم أيضًا أخلافَ الرهبان الهياطلةِ الذين يزعم بعض البَحَثَةِ أنّهم يلتقونَ في الأصلِ مع الأتراك. لقد كانت المجتمعات التركمانيةُ يومئذٍ تحتفل بهم وتعتقد فيهم: (أنّهم واصلون = Erenler). والواصل في مصطلح الصوفيةِ هو الذي يسلك طريقًا خاصًّا من الرياضة الذهنيةِ مدّةً ثمَّ يرتقي حتّى يتّحد مع الله. هذا هو المعتَقَدُ السائد عند الصوفية الأتراك على اختلافِ مذاهبها. راجع الهامش رقم/197، تعالى ربُّنا عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
حظيَ هؤلاءِ الدراويش نصيبًا من المعرفةِ بطرقِ جلبِ عاطفةِ الناسِ بحكم التفاعل معهم وكسب التجارب على امتداد العصور. لأنهم طالما كانوا يغتبطونَ المكانةَ التي يتمتّعُ بها علماءُ الإسلامِ في المجتمع. لقد كان الدراويش الذين يحتلّونَ مكانَ رجال الدين في المرحلة التي دخلتْ قبائل التركمان إلى حظيرة الإسلامِ، كانوا على هيئةٍ غريبةٍ في زيّهم ومنظرهم؛ يرتدون ثيابًا رثًّا لا يكادُ يتميّزُ من الرقاعِ، كما كانوا يحلقونَ حواجبهم وشواربهم، ويشدّون من شعر رؤوسهم ضفائرَ يرسلونها، ويعلّقونَ حلقاتٍ من الفضّةِ في آذانهم، لا يحترفونَ صناعةً ولا يمارسونَ مهنةً، ولا يأكلونَ من كدِّ أنفسهم إلاَّ ما يُتَصَدّقُ عليهم، ويشذّونَ في سلوكهم وتصرّفاتهم عن عامّةِ الناسِ.(64/394)
أمّا حُظْوَتُهُمْ من إقبال البسطاءِ عليهم، وما كانوا يتمتّعونَ به من الإجلالِ بينهم يومئذٍ، إنّما كان من نتائج العقلية السائدةِ للطبقة الساذجة في تلك المرحلةِ. لأنّ عموم التركمان كانوا على أشدِّ حالٍ من الجهلِ والتّخلُّفِ، بحيثُ لا ينسبونَ صفةَ الوليِّ إلى أحدٍ إلاَّ أن يكونَ مسكينًا أو غبيًّا في هيئةٍ رثَّةٍ، قَذِرَ الثيابِ والبدنِ، بعيدًا عن النّشاطِ والعملِ، يجهلُ القراءَةَ والكتابةَ، ولا يتناولُ كتابًا أبدًا... كانت هذه نظرتُهم في بداية الأمرِ إلى مَنْ يعتقدونَ فيهِ أنّهُ من أولياءِ اللهِ، وخاصَّتِهِ من عبادِهِ، غيرَ أنَّ هذه العقليةَ تغَيّرَتْ مع الزّمانِ، لأنّ أؤلئك الدراويش ما لبث حتى انتبهوا إلى أنّ لِعُلَماءِ الإسلامِ مكانةٌ مرموقةٌ عند السلطةِ والطبقة الراقيةِ، فأخذوا يقلِّدونَ العلماءَ في زيّهم، ويمارسون القراءةَ والكتابةَ طمعًا فيما ينالُهُ أهلُ العلمِ من توقير الناسِ، وما يتمتّعونَ به من الرّفاهيةِ واليسرِ والسعةِ في المعاشِ. ورغم هذا التغيُّرَ الجذريَّ في أفكارهم، إنّ العقليةَ الصوفيةَ المتطرِّفةَ لم تسمح لهم في المرحلة الأولى أن ينظروا إلى المناهج الدراسيةِ المتعارفةِ كأداةٍ للمعرفةِ والتنوُّرِ. بل قسموا العلومَ حسبَ رأيهم إلى ضربينِ: علمِ الظاهر وعلم الباطنِ. لذا لم يشتهِ أحدهم أبدًا إلى دراسة العلوم التجربيةِ كالحسابِ والهندسةِ والفزياءِ والكيمياءِ والفلك والتاريخ والجوغرافيا وأمثالِها، ولا حتّى إلى العلوم الشرعيةِ، كعلمِ التوحيدِ والفقهِ وعلومِ القرآنِ والحديثِ وأصولِها، وما يحتاج إليه الطالِبُ لِفهمِ هذه المعارِفِ من علوم الآلةِ، كالصّرفِ والنّحوِ والاشتقاقِ وفقه اللغةِ والوضعِ والمنطقِ... طالما كَرِهَ الصوفيةُ ممارسةَ هذه العلومِ، فاختلقوا لأنفسهم علمًا سمّوه عِلْمَ الباطِنِ، والْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وزعموا أنّ علمَ الظاهرِ لا يُغني عن الإنسانِ شيئًا(64/395)
في طريقِ الوصولِ إلى الله! إلاَّ أنّ هذه الطائفَةَ خاصّةً بعد انتشار الطريقة النقشبنديةِ بين الأتراك في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيِّ بجهود خالد البغداديِّ عام 1811م. اهتمّوا إلى حدٍّ بالِغٍ بالعلوم الشرعيةِ تشبُّهًا بِعلماءِ الإسلامِ. ولهذا السببِ التبسوا على الناسِ بالعلماءِ، بحيث لا يكاد أحدٌ اليومَ في تركيا يميّزُ شيوخَ الطريقةِ النقشبتديةِ من العلماءِ. بل يُفَضِّلونَهُمْ على سائر العلماءِ مع نسبةِ هذه الصفةِ إليهم بما يعتقدونَ فيهم من الكرامةِ والبركةِ وعلم الباطن. لأنّ »علماءَ الظاهر« على حدِّ قولِهم، »محجوبون عن المعرفة بالله وعن طرقِ الوصولِ إليهِ!«
أمّا شيوخُ هذه الطريقِةِ خاصّةً الذينَ سبقوا خالِدًا البغدادِيَّ وعاشوا في الحُقْبَةِ التي ظلَّ هذا التيّارُ على مداها محصورًا في مناطقِ تركستان والساحةِ الهنديةِ، كانوا أبعدَ النّاسِ من الأجواءِ العلميةِ، خاملينَ مقبّعين على أنفسهم، لم يَرِدْ لأحدِهِمْ أثرٌ في طبقاتِ الرجالِ ولا تَرْجَمَ لَهُمْ أحدٌ من الباحثينَ والمؤرّخين على امتداد العصورِ.
لقد جاءت كلماتُ أديبِ النقشبنديّينَ، عبد المجيد بن محمد الخانيِّ مِنْ أقوى الدلائِلِ على هذه الحقيقةِ، إذ يقول في مُسْتَهَلِّ كتابِهِ، (الحدائق الوردية في حقائقِ أجلاّءِ النقشبندية):(64/396)
» وسمعتُ أسماءَ ساداتِ سلسلةِ الطريقةِ الجليلةِ، جعلتُ أتشوَّفُ للوقوفِ على تراجُمِ أحوالِهم المقدّسةِ مدّةً غيرَ قليلةٍ، وإذ لم ارها مُجتَمَعةً باللغةِ العربيةِ في كتابٍ واحدٍ؛ لأنّ أكثرَهم من بلادِ الفُرسِ والهندِ وتلكَ المعاهد.« ثمَ يزعم الخاني أنه »استحضر كُتُبًا مهمّةً جمةً مدوّنةً بالفارسيةِ والتركيةِ في ترجمة شيوخه« ويعدّد اسماءَ هذه الكتب التي لم يحتفل بها أحد من العلماءِ، كما يعترف بهذه الحقيقة عندما يقول: »أنه غير معوّل على الإقتداءِ بعبارةِ المتعرّبين، لأنّ أكثرَهم من الفرسِ المتعرّبين!« كما يقول: »فقد شذَّ عنّي من رجال السلسلةِ اثنانِ وهما سيدنا الدويش محمد ونجله الشيخ محمد الخواجكي الأمكنكي، فإنّي لم أقف لهما على ترجمةٍ في مكانٍ، فأرجو ممّن ألمّ بترجمتهما أن يُلحقَها تحت اسمهما.«
لقد بذل المؤلّفُ ما بذل من جهودٍ بالغةٍ وأفرغ كُلَّ طاقتِهِ وتكلّمَ ملأ شدقيهِ ليرفع من شأنِ هذه الطائفةِ المجهولةِ، وليجعلَ كُلاًّ منهم تاجًا على رؤوسِ العالمين فيُبَرهِنَ للناسِ أنّهم أنوارُ السماواتِ والأرضينَ!(64/397)
مَن أرادَ ان يطّلِعَ على المميِّزاتِ الشخصيةَ لشيوخِ الطريقة النقشبنديةِ السابقينَ بصورتِها الحقيقيةِ، يكفيه أن يلتمسَ معلوماتٍ أثبتها بعضُ الباحثينَ. ومن مشاهيرِ هؤلاءِ الباحثينَ الأستاذ الدكتور فؤاد كوبرولو. فإنّه مثلاً يطرقُ حياةَ يوسف الهمداني الذي ورد ذكرُهُ في بعض المصادرِ واهتمَّ به بَحَثَةُ الأعجامِ أكثرَ من غيرهِ من الرروحانيّينَ لهذه الطريقةِ. فقد أثبت الدتور كوبرولو: »أنّ يوسف الهمدانيَّ رغم ما تلقّى دروسًا من العلماءِ مدّةً في بغداد وأصبح ذا وقوفٍ بالِغٍ وإحاطةٍ بالعلومِ الشرعيةِ إلاّ أنّه ما لبث حتّى تركَ طريقَ العلمِ بسبب مزاجه الصوفيةِ« Ord. Prof. Dr. Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda ?lk Mutasavv?flar s. 66 هذا هو الموقف المتَعَارَفُ لشيوخ الطريقةِ النقشبنديةِ من العلمِ والمعرفةِ طوالَ العصورِ حتّىَ عهدِ خالِدِ البغداديِّ. أمّا البغداديُّ فإنّهُ غدا مثالاً لِمَنْ بعدهُ من شيوخِ هذه الطريقةِ بدافعِ نزعتِهِ إلى الكتابةِ والقراءَةِ، وبحكمِ ما سبق له من دراسةِ بعضِ العلومِ التقليديةِ؛ بذلكَ ازداد أخلافُهُ اغتباطًا بعلماءِ الإسلامِ، فمارسوا دراسةَ بعضِ العلومِ التقليديةِ اسوةً به مع الإختصارِ على القراءةِ دون الكتابةِ. وكانت مقرّرات المدارس الداخلةِ تحت هيمنتهم محدودةً جدًّا. ومع ذلك، فإنّ الدافع الذي جعل الطريقةَ النقشبنديةَ تنتشر في أنحاءِ الشرق الأوسطِ بعد عام 1811م. ليس إلاَّ لأنَّ شيوخَ هذه النحلةِ استخدموا تكاياهم في التدريسِ وظهروا للناسِ في لباسِ العلماءِ. فاعتقد الناسُ أنّهم من أهل العلمِ بجانب ما كانوا يعتقدونَ أنّهم أصحابَ الجاهِ عند اللهِ.(64/398)
تدهور المستوىَ العلميُّ بعد عهد السّلطان محمود الثاني بشكلٍ ملحوظٍ خاصّةً في المدارس التي يرأسُها شيوخ النقشبنديةِ الأكراد، بعد سيطرتهم على القطاع العلميِّ بشرق البلاد، ثمَّ تأثّرت بهم العناصر التركيةُ من الصوفيةِ، فأدّى ذلك إلى تخلّفٍ سريعٍ في جميعِ مجالاَتِ الحياةِ وزاد من حدّةِ عوامل الإنهيارِ للدولةِ العثمانيةِ وسقوطها.
وللمعرفةِ بحقيقةِ هذه المشكلةِ وما قد أسفر عنها من مشاكلَ ثانويةٍ أخرى، يكفي الإطلاعُ على المنهج المدرسيِّ للنقشبنديةِ ومقارنتِها بالمنهج المتّفَقِ عليهِ عند علماءِ المسلمينَ عبر التاريخ.
لقد كانت النظريةُ التعليميةُ عند علماءِ الإسلامِ تقومُ على دعامتين أساسيّتينِ: التعليمُ والتّعلّم. فما لبثَ أن تعرّضَ كلاًّ من هذينِ الدعامتينِ للتشويهِ بعد هيمنةِ هذا التيار الصوفيِّ على المدرارس الكائنة بالمنطقتين الكرديةِ والتركيةِ. اقتصر التعليمُ عندهم على قيام الأستاذِ بقراءةِ متن الدرسِ وشرحه بقدرٍ محدود جدًّا. أمّا الكتابةُ والرسم والتخطيط، فإنّها أُسقِطتْ من المناهج نهائيًّا، بل اختفتْ تلقائِيًّا لجهل الأساتذةِ بالكتابةِ والنطقِ بالعربيةِ ارتجالاً. أمّا التعلُّم، فإنه اضمحلَّ تمامًا؛ لأنّ دورَ الطالِبِ اقتصر على الإستماعِ المحضِ دونَ اشتراكه في المحاضرةِ بشكلٍ من الأشكالِ؛ لا محلَّ للسؤالِ والاستفسارِ عادةً، ولا للإمتحانِ والاختبارِ اطلاقًا في هذا النّمط الدراسيِّ العقيمِ. كما لا يخضعُ هذه المدارسُ لمراقبةِ أيِّ سلطةٍ ولا لتفتيشِ أيِّ مسؤولٍ، بل شيخ الجماعةِ مطلَق العنانِ فيما يختارُ من كتابٍ، وموضوعٍ، وقبولٍ لمن شاءَ من الوافدينَ عليهِ من الطلبةِ وطردِ مَنْ شاءَ منهم.(64/399)
لقد قسم علماءُ الإسلامِ الفنونَ قديمًا إلى آليةٍ وعاليةٍ؛ فالآليةُ تشمل علومَ اللغةِ كالصرفِ والنحوِ والبلاغةِ وفروعِها، ومنها المنطقُ. وهيَ بمنزلةِ السُّلَّمِ، يتدرَّ جُ بها الطالِبُ إلى تحصيل العلومِ العاليةِ ليتخصَّصَ في بعضِها. وأمّا هذا القسمُ، فإنّهُ يشمل الحسابَ، والهندسةَ، والتاريخَ والجعرافيا، والفلكَ والطّبَّ والموسيقى والفزياءَ والكيمياءَ وعلمَ الأرضِ والزراعةَ والسياسةَ والفلسفةَ وعلم الإجتماعِ وعلومَ الدينِ. هذه القاعدة التي أثبتها علماءُ الإسلامِ كانت معمولةً بها في العالم الإسلاميِّ حتّى بداية القرن التاسع عشر الميلادي. فلمّا تدهورت الأوضاعُ وانتشر الجهلُ واحتلَّ شيوخ النقشبنديةِ مكانَ العلماءِ أُلغِيَتْ جميعُ العلومِ العقليةِ والتجربيةِ من المناهج الدراسيةِ في مدارس هذه الطائفةِ، كما أُلغِيَتِ المحاضرةُ والخطابُ بالطريق المباشرِ؛ بل اقتصر الأمرُ على تدريسِ سلسلةٍ من كُتُبٍ قديمةٍ جدًّا وبصورةٍ عشوائِيَّةٍ، يقرأ الأستاذُ كلَّ يومٍ سطورًا من كتابٍ واحدٍ يختارُهُ من بينِها إلى أن ينتهي الكتابُ، ثمّ يباشرُ قراءةَ كتابٍ آخَرَ من هذه السلسلةِ وهكذا يتابَعُ الدروسُ من خلالِ كتابٍ واحدٍ عبرَ السلسلةِ كلاًّ على حدةٍ حتّى تنتهي الدراسةُ. وتتراوح مدّتُها ما بينَ عَشْرٍ وخمسَةَ عَشَرَ عامًا، يتخرّجُ الطالِبُ في نهايتها وهو شبهُ انسانٍ أخرس، لا يتكلّمُ إلاَّ بعدَ مراجعةِ كتابٍ، ولا يخطُّ بيمينه أبدًا! فضلاً عمّا يُعاني من العيِّ والعجزِ البالِغِ في الحديثِ بالعربيةِ، فلا يكادُ يجيبُ على سؤالٍ واحدٍ حتّى لو خاطَبَهُ عربيٌّ من أجهلِ الناسِ!
هذه هي خلاصةُ الميّزاتِ الشخصيةِ والمستوى العلميِّ لشيوخ النقشبنديةِ من كلاَ العُنصرينِ التركيِّ والكرديِّ.(64/400)
أمّا الكُتُبُ المقرّرَةُ للتدريسِ عندهم، فهي تلك التي اختارها صناديدُهم منذ قرنينِ، ولم يتغيّر منها حتّى كتابٌ واحدٌ. وهي في الحقيقةِ كُتُبٌ قديمةٌ وعقيمةٌ يجهلُها العالَمُ العربيُّ تمَامًا. وهذه أسماؤُها بالتسلسلِ حسبَ المنهج الدراسيِّ المعمولِ به عند النقشبنديّينَ منذ عهدِ خالد البغداديِّ حتّى اليوم.
1) نوُبَهار: قاموسٌ عربي – كُردي، نظمهُ الشيخ أحمد الخاني (1591-1652م.) وهو من أهالي مدينةِ آغري الواقعةِ في المنطقة الشرقية بتركيا.
2) نَهْجُ الأنام: رسالةٌ في العقيدةِ، منظومةٌ باللّغةِ الكرديةِ، نظمَها المُلاَّ خليلُ العمريُّ الأسعردِيُّ (1754-1843م.)
3) غاية الإختصار (التقريب): كتابٌ صغير الحجمِ في الفقه على المذهب الشافعيِّ، مؤلِّفُهُ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن القاسم.
4) فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب: وهو شرح كتاب المذكور آنفًا، ألّفه أحمد بن الحسين.
5) التصريف: كتابٌ في الاشتقاقِ وصِيَغِ الأفعالِ، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
6) الأمثِلَةُ: جدولٌ مفصّلٌ في تصريف صِيَغِ الأفعال، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
7) البِناءُ: كتابٌ في أبوابِ التصريفِ، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
8) المقصود: كتابٌ في أبوابِ التصريفِ أيضًا، مؤلِّفُهُ مجهولٌ.
9) العِزِّيُّ : كتابٌ في أبوابِ التصريفِ أيضًا، ألّفه عزّ الدين عبد الوهّاب بن ابراهيم الزنجانيّ
10) عوامل الجرجانيِّ: كتابٌ صغير الحجمِ في النحو للمبتدئين، يتناول العوامل التي يتغيّر بها آخر الكلمة، ألّفه عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ (ت. 1078م.)
11) عوامل البِركِوِيِّ : كتابٌ صغير الحجمِ في النحو للمبتدئين، يتناول العوامل التي يتغيّر بها آخر الكلمة، ألّفه محمد البركوي، وهو تركي الأصلِ.
12) الظروف: كتابٌ صغير الحجمِ، يتناول الظروفَ في النحوِ العربيِّ، كتبهُ المُلاَّ يونس الأرقطيني باللّغة الكرديةِ، يدخل في عداد الكتب المتداوَلَةِ بالمنطقةِ الكرديةِ.(64/401)
13) التركيب: كتابٌ في النحو العربي، يتناول تحليل ألفاظِ العوامل للجرجانيِّ وهو من مؤَلَّفاتِ المُلاَّ يونس الأرقطيني أيضًا.
14) سعد الله الصغير: وهو كتابٌ صغير الحجمِ في النحو العربي، يشرح ألفاظَ العوامل للجرجانيّ، مؤلّفه مجهولٌ.
15) شَرْحُ المُغنِيِّ: كتابٌ متوسط الحجمِ في مختلف قواعد النحو، ألّفهُ محمد بن ابراهيم بن محمد العمري الميلاني. شَرَحَ فيه كتابَ المُغنِيِّ لأستاذه أحمد بن الحسن الجاربردي.
16) التصريف الكبير: كتاب ضخمٌ في الاشتقاق والتصريف، ألّفَهُ سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
17) حلُّ المعاقد في شرح القواعد: كتابٌ متوسط الحجمِ في النحو العربي، يتناول الجملةَ، ألّفه أبو الثناء أحمد بن محمد الزيلوي، يغلب أنه تركي الأصلِ، شَرَحَ فيه كتابَ قواعدِ الإعرابِ لابن هشام عبد الله بن يوسف الأنصاري. يزعم عمر رضاء كحالة أنّ هذا الكتابَ من مؤلَّفاتِ سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني!
18) حلُّ مشكلات الإشارات: كتابٌ في القواعد الأساسيةِ للمنطق والفلسفةِ، ألّفهُ ناصر الدين الطوسي، شَرَحَ فيه كتابَ الإشارات والتنبيهات لابن سيناء، واختصره فخر الدين الرازي، لذا يسمّيه الطلبةُ (التلخيصَ).
19) حدائق الدقائق: كتابٌ ضخم في النحو العربي، يسمّيه الطلبة في المنطقة الكردية (سعد الله كَوْرَا)، ألّفه سعد الدين سعد الله.
20) نتائح الأفكار في شرح الإظهار: كتاب ضخم في النحو العربي، ألّفه مصطفى بن حمزة الرومي، شَرَحَ فيه كتابَ الإظهار لمحمد البِركِويِ.
21) شَرْحُ ألفيةِ ابنِ مالك: كتابٌ ضخمٌ في النحو العربي، ألّفه جلال الدين عبد الرحمن السيوطي.
22) الفوائدُ الضيائية: كتاب ضخم في النحو العربي، ألّفه نور الدين عبد الرحمن الجامي، شَرَحَ فيه كافيةَ ابن الحاجب، يسمّيه الطلبة الأكراد (مُلاَّ جامي).
23) إيساغوجي: كتاب صغبر الحجمِ في المنطق، ألّفه أسير الدين المفضّل بن عمر الأبهري.(64/402)
24) حُسَمْكَاتي: كتابٌ متوسط الحجمِ، وهو شَرْحُ كتابِ المسمّى (أيساغوجي)، مؤلّفه مجهولٌ.
25) قولُ أحمد: كتاب في علم المنطق، ألّفه أحمد بن محمد بن الخضر.
26) حاشيةُ عبد الغفور: كَتَبَهُ عبد الغفور اللاّريُّ، تَنَاوَلَ فيه بعضَ المسائِلِ من كتابِ الفوائد الضيائيةِ لأستاذِهِ نور الدين عبد الرحمن الجامي لِحلِّ عويصاتِها.
27) رسالةُ الوضع: كتابُ في علم الدلالةِ، ألّفه القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفور عضد الدين الإيجي.
28) رسالة الإستعارة: مؤلِّفُهُ عصام الدين بن ابراهيم. وقد يحل محلَّ هذه الرسالةِ في بعض المدارسِ كتابُ استعارة الليس السمرقندي.
29) رسالة المناظرةِ: لمحمد بن على الاحسائي. غير أن النقشبنديين قد اسقطوا هذا الكتابَ منذ سنين من البرامج الدراسية.
30) شرح الشمسيةِ في المنطقِ: ألّفه محمود بن محمد الرازي تَنَاوَلَ فيه كتاب الشمسيةِ لنجم الدين بن على القزويني.
31) مختصر المعاني: كتابٌ في البلاغةِ من تأليفات سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
32) شرح العقائد: كتاب في العقيدة الإسلامية، وهو أيضًا من تأليفات سعد الدين بن مسعود بن عمر التافتازاني.
33) جمع الجوامع: كتابٌ في أصول الفقهِ، ألّفهُ تاج الدين عبد الوهّاب بن علي السُّبُكي (ت. 771هـ.)(64/403)
يبدو وبكل وضوح من هذه القائمة، أن النقشبنديينَ قد أسقطوا جميع العلوم العقلية والتجربية من المنهج الدراسي في مدارسهم، فضربوها عرض الحائط، بل كرهوا أن يَتَنَاوَلَ أحدٌ من الطلبةِ في مدارسهم كتابًا يضمُّ مادّةً من هذه العلوم، واشمئزّوا مِنْ كُلِّ مَنْ اقْتَرَحَ عليهم أن يسمحوا بتدريسِ شيءٍ من العقليات كالحسابِ والهندسةِ والتاريخِ والجعرافيا والفَلَكِ والفزياءِ والكيمياءِ والزراعةِ والطبيعةِ وغيرها من العلوم التجربية. كما نقموا ممّن اطلع على عجزهم في الكتابةِ والنطقِ بالعربية على الرغم من توغّلهم في حفظ قواعدها طوال مدةٍ لا تقلّ عن عشر سنين!
إذًا فلا يخفى أن هذه النحلةَ طائفةٌ متطرّفةٌ تخالف كلّ ما يُرْشِدُ إليهِ العلمُ والعقلُ السليمُ والكتابُ والسنةُ، يبرهن على ذلك استخفافهم بعلماء الإسلامِ، وانبهارهم بالدراويش المتزمّتين واهل الشعوذة الذين يبالغون في تعظيمهم بنعوتٍ غربيةِ وصفات ليس من الإسلامِ في شيءِ؛ كقولهم »قطب العرفين، وعوث الواصلين، وإمام المتّقين، وتاج الكاملين، ونور السماوات والأرضين!« إلى غير ذلك من الكفرياتِ والبدع والأباطيل، وهذا مبلغهم من العلم...
***
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في المناطق الّتي انتشرت فيها.
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضِدَّ الوهّابية....................................................................................................
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأَثَرُهُ الهدّامُ على الإسلام والمسلمين...................
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ..................................................................(64/404)
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم...................................................................................................
* أهمُّ الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها ..................................
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء في كلامهم من ضروب التعارض والضعف.......
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها............................................
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًا لبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيهاتضادٌّ وتناقض للقائل نفسه................................................
* أمثلة من معاداة النقشبنديّين فيما بينهم، ومناهضتهم وتباغضهم وتشنيع بعضهم على البعض...........................
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين...........................................................................................................
* الكلمة الختامية............................................................................................................................................
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في المناطق الّتي انتشرت فيها.
لقد ظهرت آثار الحركة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في جميع أنحاء تركيا تقريبًا، ولكنّها اكتسبتْ أبعادًا وأشكالاً متنوّعةً ومعقَّدَةً في مضمونها، كنتيجةٍ أسفرتْ عن علاقاتٍ مُخْتَلَقَةٍ بين مفاهيم الدين والسياسة والمصلحة.(64/405)
لا نقصد بهذا أنّ شيوخ الطريقة النقشبنديّة يتاجرون بالدين مباشرةً. بل الحقيقة عكس ذلك. وإنّما يمثّلهم بعض السماسرة في هذه الأغراض. لأنّهم لا يمتازون بلباقةٍ ومهارةٍ ودهاءٍ تُمكِّنهم من احتكار الدين في سبيل المصالح؛ ولا يسمح لإقدامهم على ذلك مركزُهُمُ المقدَّسُ في نظر المعتقدين بهم، حتّى ولو أثارهم الطّمع على احتكار الدين والاتّجار بالقِيَم المقدّسة. بل خمولهم يواريهم عن كثير من حقائق الحياة وأشكال التعامل؛ صالحها وفاسدها. ولكنّ الأحزابَ السياسيةَ جميعَها، وعددًا كبيرًا من الشركات العالمية، وكثيرًا من رجال العمل يستغلّون شهرتهم؛ فتنعكس بذلك آراء شيوخ الطريقة على أعمال تجمّعات سياسية وتجارية. بل تظهر آثارها الملفّقة على نتائج تلك الأعمال بسلبيّاتها وخطورتها على الإسلام والمسلمين.
تتأكّد الإشارة هنا إلى أنّ الروح الصوفيّ الراسخ في ضمير العنصر التركيّ، يصدّه دائمًا عن النظر إلى حقائق الكون والحياة والأحداث والتطوّرات من المنظور القرآني الواضح البرّاق والمباشر؛ فيأبى إلاّ أن تكون نظرته متلبّسةً بتعليق أو تفسير أو تأويل يحمله على التقليد ويصرفه عن إبداء الرأي النابع من الفطرة. تلك الميّزة كانت ولا تزال تلازم هذا العنصر قديمًا وحديثًا. فلمّا بدأ الّتيار النقشبنديّ يسيطر على ضمير هذا العنصر منذ بداية القرن الماضي، ازدادت تلك النزعة فيه تصلُّبًا وشدّةً، فانعكست آثارها على جميع تصوّراته وأفعاله، بحيث لو نظرتَ إلى أحد منهم قد خلع ربقةَ النقشبنديّةِ من عنقه، حتّى هو بالذّات تراه لا يزال مجبولاً عليها، لا يبرح يتصوّر كلَّ شيءٍ بدافع ما بقيتْ من تأثيرات هذه الطريقةِ في أعماقِ ضميره والمتغلّبة الدامغة على كلّ مجالٍ من حياته.(64/406)
وكمثال حيٍّ على ذلك: فانّ أعضاء منظمة النور، أكثرهم منشقّون عن الطريقة النقشبنديّة، ويدافعون عن حركة النور بأنّها ليستْ طريقةً صوفيةً كما جاء في قرارٍ صادرٍ من اللجنة الاستشارية للرقابة على الكتب الدينية التابعة لرئاسة الشئون الدينية بتاريخ 29/06/1963م. تحت رقم/326. هذا نصّه:
»إنّ حركة النور ليستْ طريقةً صوفيةً، ولا مذهبًا اجتهاديًّا. وإنما هي حركة متمثّلة في متابعةِ رسائلَ كتبها شخصٌ اسمه سعيد النورسي دفاعًا عن الإيمان من خلال آيات قرآنية في مواجهة الّتيار اللاّدينيِّ الّذي ظهر ينتشر في الآونة الأخيرة«.
على الرغم من هذه التصريحات، فان حركة النور تيّارٌ عرفانيٌّ، شبيهٌ بطريقةٍ صوفيةٍ، فضلاً عن أنّ أعضاءَ هذه الحركة - سوى عدد قليل جدًّا - لا يختلفون عن النقشبنديّين قيد شعرةٍ في الاحترام لمشائخ هذه الطريقة والاعتراف بتعاليمها.
و ما هو أشدّ غرابةً، بل أشدّ خطورةً من ذلك، أن الشيخ سعيد النورسي الّذي استطاع بدهائه أن يتخلّص من الطريقة النقشبنديّة بعد مرحلة شبابه وتبرّأ عما قاله قبل الخمسينات، فتمكّن بفضل هذه الصحوة من القيام بحركةٍ نضاليةٍ في مواجهة يهود سالونيك طوال حياته؛ لم ينجُ هو الآخر من أن يتحوّل اسمه بعد موته رمزًا يتاجر به تلاميذه في تحقيق أهداف منظمتهم (حركة النور)، إلى حد أنهم لم يتورّعوا من تحريف كلماته، والتقوّل على لسانه، وإشاعةِ ما تبرّأ عنه من رسائله الّتي أمر بإتلافها، حتّى أنزلوه منزلةَ رجلٍ من الروحانيّين! لم يفعلوا ذلك إلاّ لأنّ حركتهم امتداد للطريقة النقشبنديّة خاصّة فانّ أعضاء الطريقة "الْعَجْزمَنْدِيَّةِ" الّذين أضافوا إلى موكب الصوفيّة طريقة جديدة أخرى، وزعموا أنهم على مشرب سعيد النورسيّ، فانّهم أيضًا يقيمون طقوسًا فيها الرقص والاهتزاز والجيشان، انطلاقاً من تلك الآثار الباطنيّة المتبقّية في قرارة نفوسهم والموروثة من أسلافهم النقشبنديّين.(64/407)
إنّ القسطاس الّذي يحدّد أبعاد مفهوم الدين، ودوره، ومدى صلاحيته في مُعْتَقَدِ الأتراك، هو التصوّف. ولم يختلف هذا القسطاس عند أكثرهم منذ اعتناقهم للإسلام إلى الوقت الحاضر. لقد طبّعتهم الطرق الصوفيّة على هذه النزعة منذ القديم؛ فكانت الطريقة المولوية والقادرية والرفاعية والخلوتية والبكتاشية في مقدّمة الحركات الصوفيّة الّتي تأثّر بها الأتراك. فكان فهمهم للإسلام، وتعاملهم معه من خلال نُظُمِ هذه الطُّرُقِ وآدابها إلى أواخر العهد العثمانيّ. فلمّا قفزتْ الطريقة النقشبنديّة من الهند إلى الديار العثمانيّة وبدأت تنتشر فيها منذ عام 1811م. سادت بعد ذلك آثارُ هذه الطريقة على روح الناس وانعكستْ إلهاماتُها على فهمهم وسلوكهم وتعاملهم بصورة واضحة.
إنّ أهمَّ آثار الطريقة النقشبنديّة على عقلية المجتمع وسلوكه، وأشدَّها خطرًا على الإسلام في تركيا ينحصر في نزعة غريبة ابتلى بها أكثر الناس في هذا البلد. وأصبحت مشكلةً أخلاقيةً واجتماعيةً عويصةً جدًّا، قد يؤدّي إلى تضليلٍ شاملٍ، وإلى إفساد بقيةِ القِيَمِ، وإثارةِ فتنٍ تتعاقبها تطوّراتٌ لا إمكان لتحديدها وتقدير نطاقها ونتائجها في هذه الآونة. ألا وهي نزعةٌ تتمثّلُ في اختلاق شخصية موهومة تُنْصَبُ كأسطورة، يبدأ الناس بالطواف حولها لما يرسخ في ذهنهم أنّها محط عظمةٍ وإجلال، وينتشر ذكرها في العالمين.
لذا، فمن حظي بشيءٍ من ثناء الناس ولو بِدِعَايةٍ كاذبةٍ تواطأ قومٌ على نشرها واستغلال تلك الشهرة التي صنعوها فيما بعد، - حتّى ولو كان لصًّا أو فاجرًا – سرعان ما اجتمع الرعاع والأوغاد حول تلك الشخصية المختلقة، على أنّها من الأولياءِ المؤيَّدين بالكرامات وعلم الغيب والزلفى إلى الله تعالى، وذهب صيته وأصبح قطب الفلك في معتقد أهل البلد بأسرهم !!!(64/408)
ولهذا أول ما تتوسّلُ به الأحزابُ السياسيةُ، والجمعياتُ والشركاتُ، وحتّى العصاباتُ والمافيا في تحقيق أهدافها، هو الإقدام على خَلْقِ شخصية تُعَظِّمُهَا الناس وتبذل ما في وسعها في سبيلها.
هذه المشكلة أسفرت عن نتائج خطيرة كثيفة ومتكرّرة بطرق غير مباشرة، تنوّعت حسب الظروف والأسباب بين صراع وقتال، إلى جنايات وثورات شهدتها ساحة هذه المنطقة منذ مائة وخمسين عامًا. نقتصر على عدد منها لتظهر بها كيف تفاعلت آثار الطريقة النقشبنديّة في أشكال من أزمات اجتماعية وأخلاقية أدّتْ في النهاية إلى تدهور كبير في اقتصاد البلد، وتشوّشٍ رهيب في المجال الثقافيِّ والعلميِّ والإجتماعيِّ.
أوّل ما نلمس من هذه الحقيقة بصورة مباشرة، هو التنافس المتضاعف بين شيوخ الطريقة النقشبنديّة على توسيع نطاق الشهرة والإكثار من المريدين والبطانة والأنصار. لقد جاء هذا التنافس تارةً بمصالح كبيرة لبعضهم، وتارة أخرى بمصائب وبلايا على بعضهم الآخر؛ كما مرّ في بحث النزاع بين الأسرة الأرواسية والكُفْرَويّةِ. وما يجري الآن من التطوّرات والمنافسة بين الشيوخ في هذه المرحلة، لهو أشدّ خطورةً منه على الإسلام والمسلمين مما قد جرى في السابق.
ذلك ومن عادات مريديهم: أنّ كلّ فريق منهم يقوم بالدعاية لشيخه، ولا تدّخر طائفةٌ منهم وسعًا في هذه المحاولة؛ فتتسابق الأقلام، وتتفنّن اللّسُنُ في اختلاق الكرامات، وعدّ الفضائل، ووصف الشمائل. كلٌّ يبذل جهودَه ليُقْنِعَ الناس، حتّى يعتقدوا أنّ شيخَه »يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ ويغفر لمن يشاء ويعذّبُ من يشاء، وهو على كلِّ شئٍ قدير«!(64/409)
لقد بلغ حجم الكتب الّتي استفرغ النقشبنديّون في بطونها من صِيَغِ التعظيم والإجلال والتوقير لشيوخهم إلى حدود، يعجز الإنسان عن ضبطها واستيعابها. فلو لم يتأكّدوا من موافقة شيوخهم على ذلك، لما أقدم أحد منهم على كتابة لفظ واحد فما فوقه من هذه الصِيَغِ الّتي يقشعرُّ منها جلد المؤمن بوحدانية الربّ سبحانه، وبخسّة شأن الإنسان بالنسبة إلى عظمة الله العزيز المتعال.
وعلى سبيل المثال، جاء في دُعاءِ فريقٍ من النقشبنديّين الأكراد ألفاظٌ مقتَبَسةٌ من آيةٍ، يصفون بها شيخًا من شيوخهم؛ يردِّدونَها فيقولون »نور السماوات والأرضين« على سبيل النّعتِ له، والله تعالى قد خصها لنفسه أن توصَف هي بها على انفراد بذاته دون غيره، فقد قال سبحانه {اللهُ نُورُ السمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ.}. سورة النور/34.
هذه الغطرسة قد جعلتهم يتسابقون بأساليب فرعونية تنعكس نتائجها السلبية على المجتمع، فتسري في الناس روح التنافس على استغلال الضمائر، وتسخير بعضهم البعض لتحقيق الآمال والمصالح الشخصية؛ فيتطوّرُ النزاع بينهم ويتصاعد، وأحيانًا يتحوّل إلى فتن يذهب ضحيتها من الأموال والأرواح ما لا يحصى. كما حدثت أثناء ثورة الشيخ سعيد البالوي عام 1924م.
ذلك أنّ الشيخ سعيدًا كان قد دعا جميع شيوخ المنطقة أن يتعاونوا معه، وأن يشاركَهُ كلٌّ منهم بتجنيد مريديه، وتعزيز جيوش الثورة بإمكاناته المالية والبشرية. فلم يقم أحدٌ بتلبيته إلاّ عددًا قليلاً كانوا على مقربة من ساحته. فلم يسعهم إلاّ أن يجيبوه مع الكراهية.(64/410)
ومن الأهمّية بمكان، أنّ شيوخ الطريقة النقشبنديّة بالمنطقة الكرديّة، لم يرفضوا دعوةَ الشيخ سعيد البالوي (النقشبنديّ) إلا لأنّهم كانوا ينافسونه في توسيع نطاق شهرتهم، كما كانوا متنافسين فيما بينهم. ولهذا لم يكن أحدهم مخلصًا للآخر؛ وربما تمنّى جميعهم أن يسقط الشيخ سعيد البالوي مغلوبًا على أمره أمام يهود سالونيك لأنّ كلَّ واحدٍ منهم كان يراه عقبةً تُقَلِّصُ من ساحة نشاطه ويخسر بها من شهرته ومصالحه! وإلاّ كان جميعُ شيوخ النقشبنديّة ضدّ النظام اليهوديِّ الحاكم. ولكن الّذي كان في قلوبهم من التباغض والتنافر، اعترض سبيلَ الشيخ سعيد البالوى فحلّ دون آماله؛ كما شملتهم النكبةُ في الوقت ذاته، فتمكنتْ منهم العصابة الحاكمة من يهود سالونيك، فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فقُتِلَ منهم من قُتِلَ، وأُبْعِدَ منهم من أُبْعِدَ سنين عددًا.
ثم لم تقتصر الداهية على شيوخ النقشبنديّة وعائلاتهم فحسب، بل شملتْ قبائلَ الأكراد بأسرها؛ فنُصِبتْ المشانقُ في مدينة دياربكر فجرَ يوم 29/يونيو/1925م. وزحفت الجيوش على قرى المنطقةِ ترتكب المجازر وتستبيح الحارم مدة ستة أشهر من بداية شهر يوليو/1925م. إلى نهاية السنّة. فأسفرتْ هذه الحركةُ الإجرامية عن إزهاق ستةٍ وثلاثين ألفًا من الأرواح (تقريبًا) من سكان المنطقة بما فيهم الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى العازلين عن السلاح تمامًا. بالإضافة إلى إحراق عشرات آلافٍ من الكتب!
كانت المأساة هذه لاشكّ نتيجةً رهيبةً ومصيبةً داميةً تمخّضت عن فعل شيوخ النقشبنديّة وحرصهم على الدنيا وصراعهم على حطامها؛ كما كانت في الوقت ذاته نتيجة جهلهم بطرق التعامل السليم مع الناس؛ وعدم معرفتهم بأسرار الاستعداد لمواجهة العدوِّ؛ وأساليب التعبئة والقتال؛ فضلاً عن جهلهم بدقائق الحيل الحربية والمناورات.(64/411)
لأنّهم كانوا في الحقيقة جهلةً بأمور الدنيا والآخرة. فلم تكن مُدارستُهم لبعض العلوم عن فهمٍ واطّلاعٍ ورويّةٍ. ذلك أنّ المدارس الخالديةَ الّتي انتشرت في المنطقة الكرديّة منذ بداية القرن الماضي، كانت الدراسةُ فيها ضعيفةً جدًّا (باستثناءِ فروعها التابعة لجامعة الزهراء). كان هؤلاء الشيوخ يدرسون ركامًا من كتب التراث، معظمها شروح مطوّلة في الصرف والنحو. فكانوا يباشرون هذه الدراسة دون سابق معرفةٍ بأدنى شئٍ من اللّغة العربية، ومن غير استعداد لها بدراسة تحضيرية مثلاً تحت إشراف مدرّسٍ عربيٍّ. كانوا يحفظون المتون كما يُحفَظُ القرآن! كألفية محمّد بن عبد الله بن مالك الطائي، ومقدّمة الأجرومية لابن آجُرُّومِ الفاسي، ومتن قطر الندى لأبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام وغيرها؛ ويتخرّجون في هذه المدارس بعد مدة طويلة من الدراسة لا تقل عن خمسة عشر عامًا. ومع ذلك كانوا ولا يزال البقية منهم يجهلون الكتابةَ والنطقَ بالعربية تمامًا؛ كما أنّهم لا يدرسون أدنى شئٍ من العلوم والفنون، كالفيزياءِ والكيمياءِ والحساب والهندسة وعلم الأحياءِ والفلسفة والتاريخ والجغرافية وفروعها في مدارسهم!(64/412)
ولهذا لم يحظ أحدهم بشيءٍ من سعادة الاشتراك مع علماء الإسلام في أيّ محاضرة علمية؛ ولا حتّى ألقى السمعَ إلى أخبار ندوة من الندوات الأكاديمية الّتي تُقامُ في جامعات البلاد بين الفينة والأخرى؛ ولا حضر أحدهم مهرجانًا من المهرجانات ثقافيةً أصلا؛ ولم يشهد أحدٌ شيخًا من شيوخ النقشبنديّة (خاصّة في المنطقة الكرديّة بتُركيا) أنّه تناولَ يومًا من الأيّام صحيفةً أو مجلّةً للأنباء، فاهتمَّ بشيءٍ ورد فيها من أخبار ما يتعرّض له المسلمون من الإضطهادِ والقمعِ والإبادةِ في مختلف أنحاء العالم. بينما وجدنا منهم من أفنى عمرَهُ بحماقةٍ في محاولة تصحيح المخارج للحروف زعمًا منه أنّ غالب الناس يُخطؤون في النطق بالضاد والقاف والطاء! كلّ ذلك بسبب الفقر العلميِّ والثقافيِّ الّذي يعانون منه؛ هذا، بالإضافة إلى ما قد ابتلوا به من العزلة والخمول واحتقار أهل العلم. وهم في الحقيقة عاجزون عن الإجابة بصيغة علمية واضحة ومُقْنِعَةٍ، على سؤالٍ قد يُوَجَّهُ إليهم؛ ولا يجدون مهربًا من المواجهة إلاّ أن يزيّنوا للناس سكوتهم على أنه شعارهم. فلا يقتنع طبعًا بمثل هذا الإعتذار الواهي إلاّ الّذين حُشِروا حولهم من حثالة الناس وهوامّ العوامّ.
غير أن موقفهم هذا من العلم وأهله، وإن كان يُعَدُّ من العار في اعتبار العلماء والمتفتحين والمثقَّفين، ولكن الطبقة التابعة لهم تعدّه من علامات المروءة والفضل والوقار فيهم. و هكذا تسري سلبياتهم إلى المجتمع وتعمّ البلايا.(64/413)
إنّ السلطة لم تغفل عن أهمية القوة البشرية والمالية والإمكانات الدعائية الّتي يملكها النقشبنديّون منذ بداية انتشار هذه الطريقة إلى اليوم. لذا جعلتهم الحكومات دائمًا نصب عينها، وترقّبتها واستخدمتها لدى كلّ فرصةٍ في قضايا خطيرة جدًا، سواء في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ، وعبر العهد الجمهوريّ، خاصّة بعد العقد الثاني من القرن الجاري. فانعكست نتائج هذا الواقع الخطير على حياة المجتمع متمثّلةً في نزعاتٍ وتموّجات متعاكسة، وحركات سياسية متشاكسةٍ انتهت في الآونة الأخيرة بتمايز الفئات الاجتماعية.
وإذا أسقطنا مالا يستحقُّ ذكرُهُ من تلك القضايا الّتي لعب النقشبنديّون فيها دورهم بإيعاز من السلطة السياسية، فانّ خمسًا منها تَتَّسِمُ بأهميةٍ بالغةٍ، وهي:
الثورة الوهّابية الّتي انفجرت في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ ودامت أكثر من قرنٍ؛
النزعة الماركسية والحركات اليسارية التابعة لها من بداية العهد الجمهوريّ حتّى سقوط الإمبراطورية السوفيتية؛
الحركة الإرهابية الأرمنية الّتي نكست مجدّدًا من بداية السبعينات؛
الحركة الانفصالية الكرديّة الّتي ثارت في المرحلة نفسِها ودامت حتّى الآن؛
الصحوة الإسلامية الّتي انتشرت بدافع الثورة الإيرانية منذ عام 1979م.
كان استغلال النقشبنديّين من قِبَلِ الحكومات التركية في القضايا المذكورة بصورة مُعَقَّدَةٍ، وبطرق غير مباشرة. لذا، لا يتأتىَّ لكلِّ باحثٍ أن يطّلع على دقائق هذا التعامل الخطير! وقد جاء هذا الاستغلال في كلّ قضية من القضايا المذكورة بنتيجة متباينة عن التجارب الأخرى.
ولكي يبدو الأمر في نسبة معينة من الوضوح، يناسب هنا أنْ نتناول كلَّ قضية منها على حدة، وندرسَ ما قد أسفر عن استغلال السلطة لتلك الطائفة من تأثيرات وأحداث في كلٍّ منها.
***
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضِدَّ الوهّابية.(64/414)
لقد كان للطريقة النقشبنديّة تأثثيرٌ عميقٌ في نفوس الأتراك والأكراد السنّيّين وهم قوام المجتمع العثمانيّ يومئذٍ؛ وكان لشيوخ هذه الطريقة مكانةٌ مرموقةٌ بين الطائفتين، وهما أشدّ ثقةً بآل عثمان الأسرة المالكة، وأكثر إنتماءً للدّولة العثمانيّة. فكان من نتائج هذا الواقع أن مارست الدولة العثمانيّة سياسة الإحتكار للقوة الكامنة في التجمّعات النقشبنديّة عبر قنواتٍ خاصّة سلكتها في تأسيس العلاقة معها. فما لبث حتّى استغلّت الدولةُ هذه التجمّعات وجنّدتها في تحقيق أغراضٍ خطيرةٍ جدًّا، فأثارت النقشبنديّين ضدّ الوهّابيّين الّذين كانوا قد شقّوا عصى الطاعة وانتفضوا ضدّ السلطة العثمانيّة في الجزيرة العربية.
هذه المسألةُ في الحقيقة أمر خطير ذات وجوه متعدّدة لم يطّلع على حقيقته كثير من الباحثين لأسباب ليس هذا مقام سردها. ولكن الّذي يجب الإشارة إليه حتمًا: أنّ استخدامَ السلطاتِ العثمانيّةِ هذه الطائفةَ في مقاومةِ ثورة الوهّابيّين - لم يثبت بصورة موثّقة - أن كان استخدامًا مسلّحًا... اللهم إلاّ أن يكون بعض النقشبنديّين من الأتراك المدنيّين، أو جماعات منهم قد تطوّعوا بالانخراط في صفوف الجنود المكلَّفة بإخماد تلك الثورة، بإيعازٍ من بعض شيوخ هذه الطائفة (كما ذاع في بعض الجهات.) فانّ أمثال هذه الروايات، إسنادها منقطع.(64/415)
أمّا كون قيامها باستخدامهم في مجال الدعاية ضد الوهّابيّين، فانّ ذلك أظهر من الشمس في رابعة النهار. ولا يحتاج أمرؤٌ أن يُكلِّفَ نفسَه عناءَ البحث عن دليلٍ على ذلك لكثرتها. ومن أوائل هذه البراهين، كتاب خالد البغداديّ الّذي ردّ به على خطابٍ تلقّاه من عبد القادر الحيدريّ، إذ يعبّر البغداديّ فيه عن منتهى ابتهاجه بغلبة القوّات العثمانيّة على الثوار الوهّابيّين عام 1233هـ./1818م. كما مر ذكره راجع الهامش رقم/460. فتعبيره عن القوّات العثمانيّة بـ »عساكر الإسلام« دليل قاطع على أنّه مع الجماهير الغفيرة التابعة له من النقشبنديّين كانوا مكلّفين بنشاطات دعائية كثيفة ضد الوهّابيّين؛ وأنّ الوهّابيّين في نظرهم طائفة باغية يجب قتالهم وقمهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم!
ومن أواخر هذه البراهين وأظهرها وأشدّها تأثيرًا، وأكثرها انتشارًا: نشاطات تضليلية كثيفة يقوم بها ضابط عسكري متقاعد برتبة عقيدٍ اسمه حسين حلمي إيشيك متخصّصٌ في العلوم الصيدلية، مدعومٌ من قِبَلِ جهازٍ معيّنٍ، ومدسوسٌ في صفوف النقشبنديّين منذ بداية العهد الجمهوريّ. اتّصل هذا الرجل بالشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي كان قد هاجر إلى مدينة إسطنبول عام 1919م. فأصبح من المقرّبين إليه، وتمكّن من الإطلاع على أسرار النقشبنديّين خلال المدة الّتي قضاها في صحبته. ثم حل محلّه بعد موته عام 1943م.، فاستطاع بذلك أن يقوم بتوجيه جماهير النقشبنديّة حسب الاتجاهات الّتي حدّدها له الجهاز المعهود. فكَتَبَ رسائلَ جمةً في هذه الأغراض، كما جمع أعدادًا من كُتُبِ الخالديّين ورسائلهم فطبعها ونشرها عن طريق مكتبتين مكتبة (الحقيقةHakikat Kitabevi )، ومكتبة (سرهندSerhend Kitabevi ) في إسطنبول؛ يشرف عليهما أعوانُهُ، وتُمَوِّلُهَا شركةٌ مهيمنةٌ ضخمةٌ. ?hlâs Holding غالبها في مثالب الوهّابيّين والتشنيع عليهم وشتمهم ورميهم بالكفر والزندقة.(64/416)
ومن الأهمية بمكان، أنّ هذا الرجل استطاع أن ينجو من سلبيات التعامل مع الحكومات التركية ذات الاتجاه المزدوج عبر العهد الجمهوريّ. لأنّ الحكومات التركية تعاني دائمًا من اضطراب شديد وعجز بالغ في تحديد سياستها الداخلية والخارجية على السواء. فهي في صراع متواصل مع نفسها، بسبب اختلاف تكوُّنها من عناصر لا يشتركون إلاّ في اللّغة. »تحسبهم جميعً وقلوبهم شتّى.«
تنحصر مهمةُ هذا العسكريِّ المتشيّخِ على تأصيل مقوّمات العقيدة التقليدية للأتراك العثمانيّين، وبعث الروح (التركيّ العظيم = Megaloturc) في نفوس الناشئة، على الرغم من معارضة المافيا المتحكّم في تحديد سياسة الدولة وتوجيه الحكومة. وربما في ذلك سرٌّ لا نعلمه.
هذه المقوّمات الّتي هي بمنزلة أركان الأيمان عند النقشبنديّين الأتراك، تتمثّلُ في ستة أمورٍ أساسيةٍ (بالاختصار)، وهي:
تقديسُ الدولة العثمانيّة، وسلاطين بني عثمان، والاعتقادُ بأنّهم جميعًا أولياء الله وخاصّتُهُ؛ وعدم الخوض في نزاعهم على السلطة، وفي جناياتهم، والسفَهِ الّذي كان يتّصف به بعضهم..
الاعتقاد بأن أولياء الله ينصرون الجيوشَ التركيةَ في كلِّ معركة تخوضها، ويحضرون مع كلِّ طليعةٍ منها؛ »كما نصروهم في كوريا وقبرص« في العهد الجمهوريّ. ومعنى ذلك أنّ الجمهوريّةَ التركيةَ امتدادٌ للإمبراطورية العثمانيّة، ورمزٌ مقدَّسٌ لتاريخ الأمة التركية؛ تحمل مسئولية تمثيل الأمجاد لهذا التاريخ إلى يوم القيامة!
الاعتقاد بأن الوهّابيّين خاصّة، والعربَ جميعًا هم عصاةٌ جناةٌ، أهل البغي، خارجون على الدولة العثمانيّة - الدولة المقدّسة التي كان للعرب عامّةً وللوهّابيّين على وجه الخصوص دورٌ كبير في سقوطها-.(64/417)
الاعتقاد بأنّ الشيعة على اختلاف مذاهبهم ملحدون خارجون عن الإسلام لموقفهم السلبيِّ من الدولة العثمانيّة بعد الحرب الّتي وقعت بين السلطان سليم الأوّل والشاه إسماعيل الصفويِّ، والتي انتهت بانتصار القوات العثمانيّة على الجيش الإيراني عام 1514م.
الاعتقاد بأنّ الصوفيّة الّذين أُدرجت أسماؤهم في القائمة البيضاء، هم أولياء الله وصفوتُهُ من عباده، تُرجىَ شفاعتُهم، ويجب التوسّل بهم، والتبرّك بقبورهم. ذلك لأنّهم ينوبون عن الله بالتصرّف على الكون (في اعتقادهم). والقائمة البيضاء، هي "موسوعة مقدّسة" (في اعتقادهم أيضًا). وشهيرةٌ بينهم؛ أصدرتها مؤسّسةٌ وقفيةٌ يُشرف عليها العقيد المشار إليه آنفًا، وتُمَوِّلُها شركة عالمية عملاقةٌ للنقشبنديّين؛ تشترك في الاسم مع المؤسّسة الوقفية المذكورة، ويشرف علي هذه الشركة صهر العقيد الّذي مرّ ذكرُهُ.
الاعتقاد بأنّ المذهب الحنفيَّ (الّذي تتعصّب له الغالبية العظمى من الأتراك السنّيّين) أفضل المذاهب الإسلامية؛ وأبو حنيفة »هو الإمام الأعظم«! ذلك لأنّه غير عربيّ الأصلِ، وأنّه قتيل العرب العبّاسيّين. وعلى كلٍّ، له ولمذهبه الأفضليةُ في الفقه التطبيقيِّ؛ أدناه، أولوية الشخص الحنفيِّ بالإمامة على غيره من تابعي المذاهب الثلاثة، ولو كان هو أميًّا وغيره من أهل العلم.(64/418)
لا شك في أنّ أعدادًا كبيرةً من الناس معرَّضون لهذه الدعايات المتطرّفةِ ومتأثرون بها. ولكن يتحتّم هنا الإعلان بحقيقة أخرى. ألا وهي أنّ صفوةً من شباب الأتراك، قد استطاعوا بتوفيقٍ من الله سبحانه أنْ يهتدوا إلى التوحيد الخالص، والإيمان العميق واليقين الصادق بالكتاب والسنّة؛ وباتّباع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبمحبّة الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين. وذلك عن فهم صحيح، و وعيٍ تامٍّ؛ مستعدّين لتحقيق الهدف المنشود بالعمل الصالح والسلوك المثاليِّ الرفيع. لقد عاهدوا الله، لَيَنْصُرَنَّ دينه الّذي ارتضى لهم، ولَيَثْبُتَنَّ في نضالهم وجهادهم حتّى يعودَ لهذه الأمّةِ مجدُها إن شاء الله، آمنين متوكّلين على الله سائرين على جادة الحق بإقدامٍ جريءٍ ويقظةٍ بالغةٍ وحذرٍ دقيقٍ؛ منقادين إليه تعالى بالطاعة والإحسان والإخلاص والتقوى؛ وبالاجتناب عن كلّ ما حرّمه الله من سائر المعاصي، وكافة أنواع البدع والخرافات والتطرّف والعنف والحماقات. لا يخافون لومة لائم ولا خشية ظالم، يتقدمون في مسيرتهم بخطواتٍ هادئةٍ وصبرٍ وتبصّرٍ، ويترقّبون يومًا يهزم الله فيه الأحزاب!!! {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج/40.
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأثره الهدّام على الإسلام والمسلمين.(64/419)
كانت السلطة العثمانيّة في مرحلتها الأخيرة قد استخدمتْ الطليعةَ الأولى من الفرقة الخالدية في نشر دعايات كثيفة ضد الوهّابيّين؛ فأسفرتْ هذه الدعاياتُ عن نتائجَ غريبةٍ ربما لم تكن مما تقصده السلطة العثمانيّة. ومنها، أنّ كلمة "الوهّابيِّ" اتّسمتْ بمعانٍ أخرى فيما بعد، إلى جانب ما كانت في البداية صفةً مجرّدةً يُرادُ بها الشخصُ المعتنقُ لعقيدة محمّد بن عبد الوهّاب النجديِّ فحسب. بل أكسبتها النقشبنديّة أخيرًا معنى الزنديق المتطرّف، والكافر الحربيِّ وما أشبه!
ثم تجاوز المقصود بهذه الكلمة حدودَهُ عن الفرقة الموصوفة بها في السابق؛ فلم تقتصر التسمية بها على أتباع محمّد بن عبد الوهّاب فحسب. بل شملت كلَّ مَن دافع عن التوحيد الخالص، وناهض الشرك، وعمل على إحباط بدع القبوريّين. هكذا تطورت كلمة "الوهّابية" بالمعاني الّتي أَلصقتْ بها النقشبنديّون الأتراك. ولكن أغرب من هذا، أنّها تحوّلت في النهاية إلى شبه مصطلح يستعملها حتّى العرب أنفسهم (غير الحجازيين)، وإنْ لم يكن ذلك على سبيل التنقيص والتشنيع.
هذا، فلما انهارت الدولة العثمانيّة، كانت ثورة الوهابية قد انتهت بالانتصار، وانقلبت جحافلهم إلى دولة مستقلة إذا صح (؟) ولكن الّذي لم ينته بعد، هو النزاع الّذي أحدثته الأدمغة المغسولة في مستنقعات السنّية التركية الرجعية المنبثقة من العقلية التقليدية؛ والمتمثلة في تقديس الموتى من الروحانيين والملوك والسلاطين.(64/420)
في الحقيقة لم يكن هذا الحدث في جوهره إلاّ امتدادًا للصّراع التركيّ-العربيِّ التاريخيِّ على استغلال الإسلام في احتكار السلطة وتحقيق المصالح. لذا، يتفرّع الصراع العثمانيّ الوهّابيُّ (وبالأحرى، النزاع النقشبنديّ الوهّابيُّ) يتفرّع أصلاً من الصراع التركيّ-العربيِّ، ويختلف عنه بميّزةٍ دينية خاصّة. وهي أنّ هذا الخلاف يظهر في صورة حرب بين الشرك والتوحيد. ذلك أنّ مظاهر الشرك كانت قد سادت على أنحاء المملكة العثمانيّة جميعها بما فيها أرض الحجاز، الأرض الّتي نزلت فيها كلمات الله تعالى {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوَن ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللِه فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظيِمًا.}. سورة النساء/48. تلك المظاهر البشعة كانت تثير النفوس المؤمنة بالله وبسلطانه وهيمنته وحده على الكون؛ وتشحنها بالغيرة والتمرّد والخروج على معاقل الشرك في جميع أنحاء البلاد، وليس في الجزيرة العربية فحسب.(64/421)
ولكن الّذين نهضوا في ديار نجد، وهم يدعون إلى التوحيد الخالص ونَبْذِ العبادة لغير الله المتمثلة في تقديس القبور والاستغاثة بالموتى؛ لم يكونوا يومئذ متميّزين بالكفاءة المطلوبة لإحياء الرسالة المحمدية بكل جوانبها الإيمانية والعلمية والعملية والإصلاحية والأخلاقية. بل كانوا بدواً، أجلافًا وجُفَاةً. لجئوا في الغالب إلى العنف والجبر في كفاح البدع والشرك والخرافات. فلم يتفكروا أنّ ذلك الركام الهائل من أوساخ العقائد الوثنية الّتي تسرّبت إلى الدين الحنيف عبر عصور الظلام، لا يمكن إزالته بسرعةٍ؛ بل لم يفطنوا إلى الحقيقة المكنونة في قوله تعالى: {اُدْعُ إِلىَ سَبيِلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبيِلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَديِنَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إَلاَّ بِاللِه وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فيِ ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُروُنَ * إِنَّ اللَه مَعَ الّذينَ اتَّقَوْا وَالّذينَ هُمْ مُحْسِنُون.َ} سورة النخل/125-128.
كلّ ذلك نشأ من جهلهم بمدى انتشار عقائد الشرك ورسوخها في المجتمع العثمانيّ، وأنّ القضاء عليها أمر يحتاج إلى سعىٍ دؤوبٍ وإخلاصٍ وعلمٍ وسياسةٍ ولباقةٍ وخطّةٍ ودراسةٍ وصبرٍ ومالٍ ووقتٍ وعتادٍ ورجالٍ! فضلاً عن أنّ السياسيّين من قدماء الوهّابيّين اختلفوا يومئذ فيما بينهم، ودخلوا في صراع شديد على السلطة بجانب قتالهم في مواجهة قوات الحلف المصري-العثمانيّ، أسفرت تلك الفتن عن إهدار الدماء، وتفاقم الشقاق واختفاء الظروف الملائمة لمهمة الدعوة والإرشاد والتبليغ إلى التوحيد الخالص والاتحاد والإخاء.(64/422)
هذا ومن جانب آخر، ازداد النقشبنديّون حقدًا وضغينةً وصولةً على الوهّابيّين، بحكم الدعم الّذي كانوا يتلقونه من خزانة الدولة العثمانيّة، والأهميةِ الّتي أناطتها بهم. فانعكس تأثير محاولاتهم ودعاياتهم على المجتمع بأسره. ثم استغلّ يهودسالونيك هذه الفتنة في العهد الجمهوريّ كوسيلة للدعاية ضدّ العرب جميعًا في صفوف المجتمع التركيّ؛ حتّى انتشرت الكراهية تجاه العنصر العربي، وتجاه كلّ ما يمتُّ إليه. فرسخت هذه النفرة والضغينة في نفوس الغالبية العظمى من الأتراك، وبخاصة الّذين ضعفت صلتهم بالإسلام تحت تأثير الممارسات العلمانية والإلحادية الّتي تبنّتها المؤسّسات التعليمية والتوجيهية عبر العهد الجمهوريّ في تركيا. فقد بَعُدَتْ الشقّة بذلك بين الأتراك والعرب إلى حدود بعيدة، ثبتت بالمشاهدة والعيان عندما فتحت بعضُ البلاد العربية أبوابَها لليد العاملة التركية ما بين أعوام 1975-1985م. فاتخذت الحكومة التركية إحتياطات شديدة، وأخذت المواثيق المؤكّدة سرًّا من المقاولين ورجال الأعمال أن يقيموا الحواجز بين العنصرين التركيّ والعربي بكلِّ ما في استطاعتهم تفاديًا للإختلاط والزواج؛ وتحذيرًا من تسرُّب الثقافة العربية إلى المجتمع التركيّ! وبجانب هذا، كم أعرب النقشبنديّون عن شفاء غليلهم عندما أعلنت الحكومة التركية عن حظر سفر الطلاب إلى البلاد العربية للدراسة.(64/423)
إنّ الصراع كانت قائمة بين النقشبنديين والوهّابيّن إلى الآونة الأخيرة، وإن كان الطرفان يتجاهلان الأمرَ في هذه الأيّام. ولا يكاد يظهر بصيص الأمل لسدِّ هذه الثغرة الرهيبة حتّى الآن، لو لا قلوبٌ مؤمنةٌ بالله واليوم الآخر وبالأُخُوَّةِ الإيمانية من أبناء الطرفين التركيِّ والعربيِّ، وآمالٌ تبشِّرُ بيومٍ يهزم الله فيه الأحزاب! أمّا أصحابُ هذه القلوب الطاهرةِ فهم صفوة حنفاء، قد هداهم الله ورزقهم الإخلاص والعزيمة والثقة بأنّه تعالى قادر على أن يهدي المتطرّفين من بقية الشعبين إلى نور الإيمان والتوحيد، وسعادة الشعور بضرورة الاتحاد والإخاء وترك دواعي الفرقة والمعاداة والشحناء، حتّى يحقّق الله فيهم من أسرار ما قاله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعَمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.} سورة آل عمران/103.(64/424)
واختصارًا لما سبق، نستطيع أن نقول: إنّ العلاقات بين السلطة العثمانيّة و بين النقشبنديّين كانت تتسم بالوفاق والتعاون منذ عهد السلطان محمود الثاني إلى أنْ تحكّم الاتحاديون في سياسة الدولة، فانقلب الأمر رأسًا على عقب. وفي هذا التحوّل الجذري أسرارٌ غريبةٌ، خافية على كثير من الناس حتّى الآن. سنشرح نُبذةً منها إن شاء الله تعالى في المبحث التالي تحت عنوان »العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ«. وهي في الحقيقة صفحة هامّة من صفحات تاريخ هذه الطائفة. سوف تشهد عليهم بما اقترفوا من جنايات عظيمة على الإسلام والمسلمين في مشاركتهم مع النظام اليهوديِّ وإنْ كان معظمها جهلاً وغفلةً منهم. كما نشاهدهم اليوم يتودّدون إلى الوهّابيّين. وبين الطرفين علاقات تجارية هائلة. يتجاهل كل طرفٍ منهما بما لا يزال الطرف الآخر يضمر له من العداوة والبغضاء. فنستغرب عندما نجد أسواق مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة تزدحم بالنقشبنديّين الأتراك، على امتداد السنّة؛ يتاجرون ويربحون ويمرحون ويفرحون... بل ويسبّون الوهّابيّين باللّغة التركية ويضحكون منهم في الحين الّذي يصافحونهم ويجالسونهم في عُقرِ دارهم! والمؤمن الحنيف التركيّ يعاني مشكلةَ الحصول على تأشيرة ليتمكّن بها من أداء فريضة الحج، وهو ينتظر أيامًا على باب سفارة الوهّابيّين في أنقره وإسطنبول! كذلك نستغرب جدًّا استخدام الوهّابيّين للآلاف من الموظفين النفشبنديين في بنوكهم ومؤسساتهم الموجودة في أنحاء تركيا، بينما الشباب الحنفاء الأتراك يعانون من مشاكل البطالة على أرض وطنهم بسبب مقاطعة المشركين من أصحاب السلطة والأثرياء ورجال العمل والصوفيّة جموعَ الحنفاء من أبناء الوطن التركيّ. مع أنّ الرجل الحنيف يمتاز بالذمّة والأمانة؛ وبكفاءة أعلى في الخدمة من أمثالهم من النقشبنديّين وغيرهم من سائر طوائف المشركين.
***(64/425)
قد يتساءل الباحث عما كان موضوع الخلاف بين السلطة العثمانيّة (حامية النقشبنديّين) وبين الوهّابيّين؛ فيتصوّر بأنّ المشكلةَ، لعلّها كانت عظيمةً إلى حدٍّ اندلعت بسببها حروب دامية بين الطرفين ذهبت ضحيتها أرواح وأموال، وانتهت بالخراب والدمار والشقاق والعداوة؛ بعد أن دامت طوال قرن، بل أكثر؛ وأنّ الفتنة مازالت مستمرّةً؛ ولكنها اتّخذت شكلاً آخر: فاكتسبت صورةَ حربٍ بين "القبوريين" وبين "أعداء المقدّسات"!
نعم قد يفكّر بعض الناس هكذا في أسباب هذا النزاع؛ ولا يجد ما يشرح صدره عن واقع الأمر. وقد يظن بعضهم أنّ الوهّابيّين، كان غرضهم المطالبة بالحكم الذاتي، أو الاستقلال، أو كانت ثوراتُهم ردودَ فعلٍ ضد ظلمِ ولاةِ العثمانيّين يومئذ. كلّ ذلك بعيد عن الواقع وعن القيام مقام إجابة سليمة عن هذا الاستفسار.
بل نشأت تلك الظاهرة وتطوّرت عن طبيعة سياسة الدولة العثمانيّة القائمة على تأكيد السيادة في المناطق النائية بطرقٍ خاصّة. فكانت السلطة المركزية تتعمّد في بعض الأحيان إلى إثارةِ عناصرَ مجبولةٍ على روح التمرُّد في تلك المناطق بحججٍ تافهةٍ، ثم تنقضُّ عليها بذريعة إخماد الثورة وتوفير أسباب الأمن. فيدبُّ الذعر في نفوس سكان المنطقة، فتكون السلطة بذلك قد أشعرتْهم بهيبتها مجدّدًا! وإلاّ فانّ الحركات الاستقلاليةَ في المناطق العربية لم تبدأ إلاّ بعد حكم الاتحاديين، وممارستهم التعسّفية لتتريك العرب.(64/426)
أمّا الأسباب الظاهرة،، فإنها لم تكن إلاّ تلك الحجج التافهة »لاصطياد عصفورين بطلقة واحدة«؛ كما في المثل التركيّ. وذلك يُلاحَظُ أن يكون المقصودُ في هذه الخطّةِ تحقيقَ هدفين: أحدهما إذلال رقابٍ تتهيّبها الناس فتقع في شرك سياسيٍّ. وهذا يقلّل من هيبة »ظلّ الله في الأرض« (!) وهو السلطان العثمانيّ و»بابه العالي« في إسطنبول؛ والثاني تحديد مفهوم التوحيد، وتعديله بالقسطاس السياسيِّ التركيّ العثمانيّ، وليس بالقسطاس القرآنيِّ. وهذا يقتضي تحديد علاقات الناس مع ربّهم، بأنْ لا تكون رابطتهم معه مباشرةً؛ بل »عن طريق شيخٍ من أولياء الله؛ لأنّ الاتصالَ المباشرَ يقلّل من هيبة الله في قلب العبد« (!)
كانت هذه حقيقة الأسرار الكامنة في مسألة الوهّابية، وتسليط النقشبنديّين عليهم، بعد أن عجزت السلطة عن إخماد ثوراتهم بالقهر.(64/427)
وأمّا نزاع الطرفين في مسائل الدين؛ فقد كان خلافًا همجيًّا، جاهليًّا، غير قائم على أساس من الحكمة القرآنية، والقاعدة المنطقية السليمة، ودون أدنى مراعاة لآداب المناظرة والاحترام المتبادل. فقد دافع كلُّ طرفٍ من النقشبنديّين والوهّابيين عن وجهة نظره بطريقةٍ عنجهيةٍ فظّةٍ. خاصّة فانّ النقشبنديّين، أساليبهم في الاستدلال واهية، وصادرة عن حقد سافر، وعناد، ومكابرة. جاءت ردودهم بلهجات قاسية، ومساسٍ بالكرامةٍ واقتحامٍ للحرمات، وقصف من الشتم والسبّ، والنقمة والعتاب. وعلى سبيل المثال فقد أفرد أحمد بن زيني دحلان أحمد بن زيني دحلان (1816-1886م.)، فقيهٌ صوفيُّ المشرب؛ وقد يكون من النقشبنديّين؛ لأنّ المعاصرين من شيوخ هذه الطائفة يتداولون كُتُبَهُ ويستدلّون بأقواله، خاصّة منهم رجل عسكريٌّ متشيِّخٌ في إسطنبول. اعتنى ببعض كتبه المدَوَّنَةِ في التشنيع على الوهّابيّين. راجع ترجمتَه في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/143 . بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته. كتابًا في مثالب محمّد بن عبد الوهّاب وأتباعه، سمّاه "الدرر السنية في الردّ على الوهّابية"؛ كما أفرد بابًا في كتابه "الفتوحات الإسلامية" بعنوان "ذكر فتنة الوهّابية..."، فاستعمل فيه لهجةً شديدةً في تقبيحهم. ومن جملة ما سجّل في مثالب محمّد بن عبد الوهّاب قوله: »وكان مؤسِّسُ مذهبهم الخبيث محمّد بن عبد الوهّاب، وأصله من المشرق من بني تميم. وكان من المعمَّرين؛ فكاد يُعَدُّ من المُنْظَرين. لأنّه عاش قريب مائة سنة حتّى انتشر منه ضلالهم، كانت ولادتُهُ سنة ألف و مائة و إحدى عشرة. وهلك سنة ألف ومائتين. وأرّخ بعضهم بقوله: (بدا هلاك الخبيث) 1206.« أحمد بن زيني دحلان، الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية 2/299. القاهرة-1968م.(64/428)
وأشدُّ مَنْ حَمَلَ على محمّد بن عبد الوهّاب وزمرته، عقيدٌ نقشبنديٌ متشيّخٌ في إسطنبول. شنّ عليهم حربًا شعواء بِرَسَائِلِهِ ودعاياته الكثيفة، وشنّعهم، ورماهم بالكفر والزندقة، وسَبَّهم بكلماتٍ نخجل من ذكرها! راجع كتابه المسمّى Vahhabiye Nasihat، خاصّة الفصل الثاني الطبعة/إسطنبول-1970نم. نُشر من قبل: I??k Kitabevi
أمّا الوهّابيّون، فانهم لم يجعلوا النقشبنديّين بالتحديد هدفًا خاصًا لانتقاداتهم؛ بل قد تجاهلوهم تمامًا أو كادوا. وإنّما وجّهوا نقدَهم إلى الصوفيّة على وجه العموم. كما قد دافعوا عن أنفسهم بأنّ تسميتهم من قِبَلِ المعارضين بالوهّابية تسمية خاطئة. إذ يقول في هذا أحد ملوكهم:
»يسمّوننا بالوهّابيّين، ويسمون مذهبنا بالوهّابيِّ، باعتبار أنّه مذهب خاصٌّ، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة الّتي كان يبثها أهل الأغراض.
نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، وعقيدة جديدة، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعيِّ و أحمد وأبي حنيفة، وكلّهم محترمون في نظرنا«. در. عبد الله بن عبد المحسن التركيّ- شعيب الأرنؤوط، مقدّمة شرح العقيدة الطحاوية 1/39. (نقلاً من كلمات الملك عبد العزيز آل سعود، من كتاب: الملك الراشد ص/ 369)
هذا، ولإنْ جعلْنا الشيخ عبد الرحمن دمشقية في عداد الوهّابيّين، فانّه قد تناول النقشبنديّة بهدوءٍ ولم يتوسّع فيها. بل حدد موضوعه في تحليل ثلاثة أقوالٍ، لثلاثة رجالٍ من قدمائهم فحسب. عبد الرحمن دمشقية، النقشبنديّة (تمهيد) ص/ 7. دار طيبة، الرياض-1984م.(64/429)
إنّما اختلف النقشبنديّون مع الوهّابيّين، بل اختلفوا مع جميع الموحّدين في مسائلَ جانبيةٍ ثانويةٍ غريبةٍ لا علاقة لها بلب الإسلام وأركانه. فأثاروا بها ما لا يحصى من اضطراباتٍ وفتن، وشنّوا حروبًا ضاريةً على مَنْ خالفهم فيها. وجعلوا من هذه المسائل التافهة ونقاشها عقبةً كبيرةً أمام المسلمين في مسيرة الحياة، وعرقلوهم عن التقدُّم والنهوض والازدهار. فالمصيبة الكبرى إنما داهمت المجتمع بعد أن سادت الرهبانية على الحياة الروحية في الوطن الإسلاميِّ بتأثير تعاليم النقشبنديّة وطقوسها.
ومن الجدير بالإشارة أنّ هذه الخلافات وما أسفرت عنها من مشاغبات ومشاحنات، إنما أثارها المتأخّرون من النقشبنديّين منذ حقبة لا تتجاوز عن مائة وخمسين سنة، دون قُدَمَائِهِمْ؛ مما يدلّ على حقائق أخرى لم ينتبه إليها كثير من الناس. أهمّها، أنّ قدماء النقشبنديّين كانوا أبعد الناس من ساحة العلم. فلم يلتقوا مع أهله حتّى يقع بينهم وبين العلماء خلاف على مسألة مَّا، إلاّ قليلاً. إذ كانوا دراويش لا يَعتدُّ بهم أربابُ العلم. وهذه الشهرة الّتي نراها اليوم تحفُّ بأسمائهم إنّما هيّجها المتأخرون منهم. وما أن اهتمّ مشائخهم بدراسة بعض العلوم بدايةً من خالد البغداديّ، تطوّرت المناقشات والخصومات بين العلماء والنقشبنديّين حتّى أسفرت عن هذه النتائج الّتي نحن بصددها اليوم.
تنحصر المسائل الخلافية الّتي أثارها النقشبنديّون في أربعة أمور رئيسة:
الأوّل منها، مفهوم الولاية، والوليِّ، والاستعانة بالموتى، والتبرك بقبورهم، والنذر لهم، وما تتعلّق بهذه المسألة من تفاصيلَ شتّى، شرحناها في بابها ما تيسر من أهم نقاطها. راجع باب "الولاية والوليّ في مُعتَقَد النقشبنديّين" من الفصل الثالث.
والثاني، أقوالٌ مبتدَعَةٌ تتعلّق بآباء الأنبياء وأمّهاتهم، وشدّ الرحال لزيارة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.(64/430)
والثالث، آراء متفرقة حول مفهومَيِ البدعةِ والاجتهادِ.
والرابع، تأويلات كلامية حول مسألة "الاستواء على العرش".
ثلاثة من هذه الأمور الأربعة، قد أثارها النقشبنديّون. وهي المادّة الأولى والثانية والثالثة. تجمعها نقطة مشتركة: وهي نسبة قدرة خارقة - تستحيل على البشر - إلى من يدَّعون أنّه ولىٌّ. ويدخل الأنبياء والمرسلون عليهم السلام أيضًا في اعتقادهم هذا. أمّا المسائل الأخرى فهي متفرّعة عن الاعتقاد ومرتبطة بها. كالتوسُّلِ، وطلب الشفاعة والاستغاثة بالحيِّ والميّت من الروحانيّين والأنبياء والمرسلين؛ والنذر لهم، والقسم بهم، وإقامة البناءِ على قبورهم، والتبرُّكِ بها، والزعم بصدور الخوارق من بعضهم باسم الكرامة و ما إلى ذلك...
أمّا المادة الرابعة، فهي بدعة أثارها عدد من الوهّابيّين بالتوغّل في معنى "الاستواء على العرش" ورد في سبعة مواطن من القرآن الكريم كما يلي: الأعراف/54؛ يونس/3؛ رعد/2؛ طه/5؛ فرقان/59؛ سجدة/4؛ حديد/4. و "الاستواء إلى السماء"؛ ورد في آيتين من القرآن الكريم كما يلي: البقرة/29؛ فصّلت/8. فلم يكتف بعضهم خاصّة في مناقشته الشفهية بما قاله الإمام مالك رضي الله عنه "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" لمزيد من المعرفة حول هذه المسألة راجع المصادر الآتي ذكرها:
* علي بن علي بن محمّد بن أبي العز الدمشقي، شرح العقيدة الطحاوية 1/96.
* المصدر السابق: 372-392؛
* محمّد بن سليمان الحلبي، شرح منظومة الأمالي ص/ 28. البيت: 12. مكتبة إشيك. إسطنبول-1979. فأثار أسلوبُ الوهّابيّين الاستعدادَ في نفوسِ النقشبنديّين الّذين طالما ينتهزون الفرصة ليهاجموهم بأدنى حجّةٍ، فاتّخذوها ذريعةً حتّى رموا جميعهم بالتجسيم والزندقة.(64/431)
هكذا تطوّر النزاع والخلاف بين الطرفين ودام أكثر من قرن، فارتبك به الناس الّذين كانوا في ظلمات الجهل والعمى، وتذبذبت الآراء، وتشوّشت العقول؛ فانحازت جماعات إلى النقشبنديّين، وأخرى إلى الوهّابيّين. وما زالت العداوةُ تستعر في قلوب كثير من كلا الطرفين ضدّ الآخر. ولكنّ الدائرة في الحقيقة دارت أخيراً على المسلمين. لأنّهم أصبحوا في حرج من جراء هذه الحرب الشعواء بين الطرفين، فلم يتمكّنوا من لمّ شعثهم في مثار تلك الفتن وهم يتكبّدون ألوانًا من العذاب. إذ انهارت دولتهم، وتكالبت عليهم الدنيا، فقامت على أنقاض تلك الدولة العظيمة عدة دولٍ قزمةٍ، وثب على كلّ واحدة منها طاغيةٌ بدعم من اليهود والنصارى، يستبدّ بالحكم مع بطانته ويسوم رعاياه سوء العذاب باسم الديمقراطية والحرية ولا يميز في ذلك بين المسلم والنقشبنديّ والوهابيِّ!
***
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ.
لما سقطتْ الدولةُ العثمانيّةُ، ووثبتْ على السلطة الجديدة عصابةٌ من يهود سالونيك، وسمّتها "جمهورية تركيا"؛ أيقنت أنّ أكبر عقبة تعترضها وتعرقلها من تحقيق أهدافها هو الإسلام والمسلمون. ولكنّ أفرادَ هذه العصابة كانوا - بحكم الطبع - يجهلون حقيقة الإسلام، كما كانوا يجهلون مَنْ هم المسلمون من بين الفِرَقِ الداخلة تحت شمول النسبة إلى الإسلام في واقع الأمر.(64/432)
ذلك أنهم كانوا يهودًا من عائلاتٍ ذاتِ أصولٍ تركيةٍ، انحدرتْ من سلالات تهوّدت في العهد الخزريِّ وانتشرت قديمًا في ساحات شاسعة من شرقي أوربا وشبه جزيرة البلقان. فلمّا دخل العثمانيّون تلك المناطق أيام الفتوحات وضمّوها إلى مملكتهم، وجد أولئك اليهود المشرّدون بذلك فرصةً سانحةً للاندماج في المجتمع التركيّ المسلم بقرينة الوحدة القومية الّتي كانت القاسم المشترك بين الطرفين. فتدرّجوا باحتلال المناصب الهامة في أجهزة الدولة عبر القرون، متنكّرين بالإسلام؛ حتّى شاء القدر أن يتجمّعوا في مدينو سالونيك، وأن يشكّلوا هناك منظّماتٍ سرّية بالمشاركة مع اليهود الأصليين من سلالات عبرية، والمهاجرين من إسبانيا بسبب اضطهاد محاكم التفتيش؛ إلى أن ظهروا على مسرح التاريخ قُبَيل الحرب العالمية الأولى، في صفوف حزبٍ سياسيٍّ؛ وهو حزب الاِتِّحَاِد والترقِّي. فلعبوا بالدولة وعملوا على سقوطها بدعم من الدول الأوربية.
لهذه الأسباب (ولها تفاصيل، ليس هذا مقام سردها). يغلب أن تلك القلةَ من اليهود الّذين فرضوا أنفسهم على المجتمع، كانوا متردّدين في أمر الجماعات المتباينة، والمنظمات، وطبقات الناس لدى الخطوة الأولى بعد نجاحهم بالسيطرة على أجهزة الدولة بتمامها، يتفقّدون مِنْ بينها مَنْ يمكن أن يستغلوا أفرادَها ويستعينوا بهم حتّى يشتدّ ساعدهم في الحكم؛ ويمسُّونَ الخطرَ في الوقت ذاته من أكثرهم خاصّة من جماهير النقشبنديّين الّذين كانوا يمثّلون معشر المسلمين في نظر هذه العصابة اليهودية؛ مع أنّ الحقيقة كانت خلاف ذلك. فهذا الّذي جعلهم في الوهلة الأولى يقومون بخطة إرهابية لاكتساح النقشبنديّين حتّى يتمكّنوا بعد ذلك من القيام باللّعبة الكبرى مع اليهود الأصليّين الإسبان في تحقيق الأهداف النهائية.(64/433)
هكذا بدأ الصدام بين السلطة والنقشبنديّين منذ أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني. حيث كان الاتّحاديون اليهود قد وثبوا على الحكم في تلك المرحلة. ولكن يجب هنا أن نتذكّر مرةً أخرى بأنّ هذه العصابة الحاكمة إنّما استعدّت لشنّ الحرب على النقشبنديّين بسبب إلتباسهم عليها، واعتقادها الخاطئ في نسبتهم إلى الإسلام. فقامت بتنظيم ثلاث مؤامرات ضدّهم: نُفّذتْ الأولى منها يوم 13/أبريل/1909م. قُتِلَ فيها جمهور من عوامّ النقشبنديّين ورجل صحفيٌّ منهم اسمه درويش وحدتي؛ وانتهت بخلع السلطان عبد الحميد، على أنه يساند القُوَى الرجعية ويستغلُّها في طغيانه واستبداده. والمؤامرة الثانية نُفّذتْ في المنطقة الكرديّة بعد عامٍ من إعلان النظام الجمهوريّ، ما بين مدينتي أرض الروم و دياربكر؛ وهي في ظاهرها ثورة الشيخ سعيد البالوي الّتي مر ذكرها. أما في الحقيقة فإنّهالم تكن إلاّ خطّةً مدروسةً من قِبَلِ جهاز المخابرات التابع للطغمة الحاكمة من يهود سالونيك. ثبتتْ بدلائل قاطعةٍ، أكبرها إثارة الشيخ سعيد على حين لم يفكّر إطلاقًا بأي عمل ضدّ النظام. فأثاره جهاز المخابرات بوساطة منظمةٍ سريةٍ أسّسها بإيعاز من الحكومة بالذات في المنطقة تحت إشراف الرائد قاسم أتاج. وذلك لسحب العشائر الكرديّة من النقشبنديّين إلى ساحة القتال. فإنّ اختيار جهاز المخابرات لتحميل الشيخ سعيد، قيادةَ الثورة مسبقًا، دون أن يختار لهذا الدور زعيمًا من رؤساء العشائر، يبرهن بصورة قاطعة أنّ المؤامرة لم تكن مدبَّرة لمجرد التنكيل بالأكراد، بل كان الغرضُ منها إيقاعَ النقشبنديّين في الكمين أوّلاً، فيكون الأمر ذريعة للقضاء على كل من يسوقه القدر إلى ساحة الغضب من الأكراد دون تمييز بين أن يكون نقشبنديًّا أو لا. والمؤامرة الثالة هي "وقعة مَنَامَنْ" كما سنشرحها قريبًا إن شاء الله.(64/434)
لقد اتسم موقف الحكومات التركية في إخماد تلك الثورات بأداء واجب لا مناص منه، فوقعت محاولاتُها موقعَ مُبَرِّرٍ في الرأي العامّ المحليِّ والعالميِّ. ومعنى ذلك، »أنّ النقشبنديّين قد شقُّوا عصا الطاعة وخرجوا على نظامٍ مؤسَّسٍ« فيما يبدو؛ والحكومة لم يسعها إلاّ أنْ تقوم بتأديبهم، فاضطرت إلى استعمال العنف، وهذا شئٌ طبيعيٌّ.
لقد حققت الحكومة هدفين كبيرين أثناء القضاء على هذه الثورات. ويُعتَبَرُ هذا النجاح تجربةً عظيمةً مهّدتْ البقاءَ لليهود الدونما في الحكم إلى ما شاء الله.
أحد تلكما الهدفين وأهمّهما هو التعرُّف على الطائفة النقشبنديّة وعلى جميع ما تتعلّق بهم من عقائدَ وميّزاتٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ؛ ونزعاتٍ وعلاقاتٍ واتصالاتٍ كانت تجري بين مشائخهم. تمكّنت الحكومةُ من جمع معلومات رهيبة حول هذه الطائفة أثناءَ محاكم الثورة عام 1925م.؛ كما تأكّدت من مدى قوّتهم البشرية والمالية ومدى تعاونهم فيما بينهم.(64/435)
والهدف الثاني أنّ الحكومة استطاعت أنْ تروّضَ النقشبنديّين على العمالة السياسيّة، بطمسِ الشهوة السياسية فيهم وإجهاضِها، وزرْعِ بذور الشقاق بين مشائخهم. لهذا، هناك تطابُقٌ كبيٌر بين آراء كلٍّ من الطغمة الحاكمة وبين شيوخ النقشبنديّين الأتراك في أمور خطيرة. ومن أهمّ نقاط الاتفاق بين الطرفين في الوقت الحاضر: هو موقفهما من الإسلام بأن يُجرَّدَ من الحياة الاجتماعية تمامًا؛ وأن لا يخرج مفهوم الدين من أعماق الضمائر، ولا من بين جدران المساجد أبدًا. تدل على ذلك مقولة للنقشبنديّين يردّدونها على سبيل التحذير من استغلال الدين لأغراضٍ ومصالحَ سياسيةٍ - في ظاهر الأمر -، ولكنهم في الحقيقة لا يريدون بها إلا أن يسقط الإسلامُ إلى درك المسيحية فيتحوّل إلى دينٍ يتأوَّلُهُ كلُّ شخصٍ في تحديد علاقته مع ربه على حسب فهمه ورأيه وذوقه؛ إلى دينٍ لا ضابطَ له فيما يتعلّق بالحياة الإجتماعية على الإطلاق. طالما كانت الزمرة الحاكمة ولا تزال تستخدم هذه المقولة في تخدير المشاعر من جانب، وفي تهديد المسلمين من جانب آخر! جاءت هذه المقولة بصراحة في موسوعة للنقشبنديّين. هذا نصها باللّغة التركية:
Bugün sahte, yalanc? mür?itlere, müslümanlar? s?müren tarikatç?lara, dini siyasete alet
Edenlere çok rastlanmaktad?r.
?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/329 ولكن الهدف من تلك المقولة ليس إلاّ الحيلولة بين الإسلام وبين ما جاء لأجله، وإلغاء أحكامه..(64/436)
لذا فانّ هذه الطائفة، خاصّة بعد أن تعرّضت للنّكبة الثالثة - وهي "وقعة مَنَامَنْ"، كما سنشرحها إن شاء الله -، لم تعد تمثّل قوّةً سياسيّةً مستقلّةً في تركيا، على الرغم من كثرة أفرادها؛ وهي أكبر جماعة بين سائر الفرق والأحزاب والمنظمات. بل استغلّتهم الأحزابُ السياسيةُ المُسَيَّرَةُ من قِبَلِ يهود سالونيك، الّتي تتراءى في ظاهرها مختلفة الاتجاه، ولكنّ النقشبنديّين مُبعثَرون ومتفرّقون في صفوفها منذ نصف قرنٍ، منطبعون تمامًا على التبعية والاستسلام. يتّصل رؤساء الأحزاب السياسية التابعة للنظام اليهوديِّ بمشائخهم في مواسم الانتخابات، ويأخذون تأييدهم؛ بل يكلّفونهم بتعليمات لا يخالفهم فيها الشيوخ. كما احتلّ عددٌ من أبناء شيوخ النقشبنديّة في هذه السنين الأخيرة مناصب هامة في أجهزة الدولة، ومنهم أعضاء في البرلمان.
إن النقشبنديّين اليوم يختلفون كثيرًا عن أسلافهم في موقفهم من السياسة والسياسيّين. لم تعد السلطة تَهَابُهُم، ولا تعتدّ بهم. بل ترتاح لكثرة عددهم ونشاطهم. لأنهم كلّما ازدادوا عددًا ونشاطًا، ازدادت بهم السلطة قوّةً وتحكّمًا. ذلك لأنّ نجاح الأحزاب السياسية في الانتخابات العامّة متوقّف على دعمهم. فلا يمكن لأيِّ حزب أن يفوز بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات العامّة إلاّ أن يكون قد أَقْنَعَ عددًا من شيوخ هذه الطريقة وجَذَبَهُمْ إلى صفوفه. لذا فانّ الأحزاب تتنافس في سبيل اكتسابهم؛ ولأنّ النجاح في كسب دعمهم ضرورة لا مهرب منها لإرضاء الطغمة الحاكمة من يهود سالونيك وعملائهم الّذين يملكون زمام الحكم في كلّ مرحلةٍ، ويحتكرون السلطة من خلال أيِّ حزبٍ يفوز بالانتخابات العامّةِ. فانّ الحزب السياسيَّ في تركيا بهذا الشكل من الديمقراطية المزيفة لا يعدو عن آلةٍ يستخدمها يهود سالونيك في توجيه المجتمع وترويضه على أنماطٍ غريبةٍ من الشذوذ والزندقة والإباحية والانحلال!(64/437)
ولهذا السبب، لما أظهر النقشبنديّون الجرأةَ على تشكيل حزب سياسيٍّ بعنوان "حزب النظام الوطنيِّ" بتاريخ 8/فبراير/1970م.، وبدءوا يتدرّجون إلى الحكم، دَبَّ الذعرُ في صفوف يهود سالونيك. فسرعان ما انقضّوا على هذا الحزب ببطش شديد، وأنزلوا به ضربتهم القاصمةَ وفتكوا بأوصاله أُلغي الحزب المذكور (Milli Nizam Partisi) بتاريخ 21/مايو/1971م. ثم أُعيد تشكيله بعنوان حزب السلام الوطني(Milli Selâmet Partisi) عام 1973م. ثم أُلغي هذا الحزب أيضًا مع جميع الأحزاب السياسية بعد الانقلاب العسكريّ (12/سبتمبر/1980م.) ثم أعيد تشكيله للمرة الثالثة بتاريخ 19/يوليو/1983م. وكان اسمه في هذه المرة حزب الرفاه (RefahPartisi) ثم ألغي أيضًا في الشهور الأولى من عام 1998م. فبدأت مرحلة جديدة لإعادة التجربة نفسها في حيطة وحذر بالغ، فتكرّرت إعادة تشكيل هذا الحزب أربع مرات تحت شعارات وأسماء مختلفة في كلِّ مرةٍ بعد السقوط الأوّل، ولكن باءت المحاولات بفشل ذريع في النهاية، وألغي حزب الفضيلة الّذي كان معقل النقشبنديّين يوم 22 /يونيو-حزيران/ 2001 . إلاّ أن كبار هذا الحزب مازالوا يحتفظون بالأمل كما يظهر من الحركة الّتي تدبُّ في صفوفهم. وقد أبدوا استعدادَهم أخيرًا على تجربةٍ جديدةٍ لممارسة السياسة بعد أن أقدموا على تشكيل حزبٍ جديد سمّوه "حزبَ السعادة" والعيون تترقب في تساؤل عن موقف النقشبنديّين في تعاملهم مع يهود سالونيك بعد اليوم!(64/438)
على كلٍّ، فانّ النقشبنديّين لا يعصون أمرًا ليهود سالونيك، - وإنْ كان ذلك عن كراهيةٍ، وخوفًا وتقيةً في بعض الأحيان -. يشاركونهم في طقوسهم الدينية ويحتفلون معهم عند "قبر العنيد" يُطلقون هذا الاسم باللفظ نفسه على القبر الّذي يحتفلون عنده، وإن كان المعنى في اللّغة التركية ليس هذا. ولكن "الأسماء تنزل من السماء" ويقومون بإجراء ما لا يتعارض مع أهداف اليهود وعقائدهم وأفكارهم من تخدير مشاعر الناس بنشاطاتهم الصوفيّة، وإحياء بدع أوليائهم، وتقديس قبورهم، والاستغاثة بالأموات، وتعظيم أمجاد العثمانيّين في صورة شعارات دينية. كلّ ذلك يؤدّي في الحقيقة إلى تشويش الانتباه، وصرف العقول عن فهم الحقائق القرآنية، وصدّ الناس عن القيام بمقتضيات الرسالة المحمّدية.
***
لما حصدتْ السلطةُ اليهوديةُ عام 1925م. ستةً وثلاثين ألفًا من النقشبنديّين الأكراد في المنطقة الشرقية بذريعة "الثورة الإسلامية" الّتي لم تكن في حقيقتها إلاّ خطّةً مدبَّرةً ومدروسةً أُلْصِقَتْ بهذا الشيخ النقشبنديّ على حين غَرَّةٍ منه؛ استعدّتْ العصابةُ اليهوديةُ لتنفيذ خطةٍ ثانية في المنطقة الغربية، ليتمّ بها حصاد النقشبنديّين الأتراك هذه المرة عن بكرو أبيهم، فتتخلّص اليهود بذلك من أسطورة الخوف نهائيًّا.
تَمَّ تنفيذ هذه الخطة ثانيةً في مدينة مَنَامَنْ يوم 23/ديسمبر/1930م. وهي مدينة صغيرة على مقربة من ولاية إزمير. وذلك باستخدام رجلين من اليهود الأصليين من سكّان إزمير (يودا ويقو)؛ ورجلين آخرين من الأصل التركيّ، كانا حشّاشَيْنَ من مدمني المخدّرات. اسم أحدهما: لاز إبراهيم خواجه؛ والثاني، درويش محمّد (كش مهمد، أي محمد الحشّاش).(64/439)
لقد كانت مهمةُ اليهودِيَّيْنِ - حسب الخطة - أن يحضرا صلاةَ الفجر في المسجد المركزي بالمدينة المذكورة بزيّ الصوفيّة المتنسّكين. و أن يقوما بإثارة الحاضرين بعد انتهاء الصلاة مباشرةً، وتنظيم مظاهرة ضد النظام الحاكم في شوارع المدينة بشعارات إسلامية، وإلقاء هتافات آفاقية لتنبيه مشاعر البُسَطَاءِ وجذبهم إلى صفوف المظاهرين بإشاعة »أنّ اثنين وسبعين ألفًا من جنود العرب المسلمين، معزَّزين بالملائكة قد أحاطوا بالمدينة، وهم على وشك دخولها وإعلان الدولة الإسلامية في البلاد!«. ثم عليهما أنْ ينصرفا بطريقة التسلل إلى مدينة إزمير. على أن يسلِّما الأعلامَ الخضرَ وكلَّ رموز الثورة من الأزياء واللاَّفتات والأسلحة إلى الحشاشَيْنِ المذكورين. وسيكون هناك جنود من قوات الدرك مكلَّفين بحمايتهما وتوفير الأمن لعودتهما على جناح السّرّ إلى إزمير؛ وكذلك بإلقاء القبض على أكبر عدد من النقشبنديّين في المنطقة بما فيهم جميع المظاهرين.
تمّ تنفيذ الخطة بخسارة بسيطة نتيجة خطأٍ وقعت فيه القوات الأمنية. فقُتِلَ أثناء المظاهرة رئيسُ قوات الدرك، الملازم الثاني مصطفى فهمي كوبيلاي مع أحد اليهودِيَّيْنِ (والأصح أنّه يودا). ولكن أُعْلِنَ أنّ القتيل رجلٌ من الأتراك النقشبنديّين كتمًا لسرّ الخطّةِ. أمّا الثاني منهما، فانّه هرب ونجا. ثمّ أقامته الحكومة في الخارج على سبيل المكافأة له.(64/440)
تذرّعت الحكومةُ بهذه "الفتنة" فأرسلتْ جيشًا كثيفًا إلى المنطقة بقيادة جنرال مصطفى موغلالي. فداهموا مدينة مَنَامَنْ وضواحيها بسرعة البرق، يدل ذلك على أن الأمر كان مدبَّرًا. فقتلوا كثيرًا من الأبرياءِ ظلمًا دونما أدنى سبب، ولا سمحوا لأحد منهم حتّى يدافع عن نفسه ولو بكلمةٍ واحدة. ثم قامت أجهزة الأمن باعتقالاتٍ واسعةٍ في صفوف مشائخ النقشبنديّة بالمنطقة الغربية، وعلى رأسهم عبد الحكيم الأرواسيّ؛ فنُقِل إلى مدينة أزمير كما سبق ذكره. و أما أسعد الأربليّ، فجيء به من إسطنبول إلى مدينة مَانِسا لإجراء التحقيقات معه، والبحث عما إذا كانت له علاقة بما حدث في مدينة مَنَامَنْ. فأصابته حالةٌ من هولِ ما وجد حوله من الجنود والاحتياطات الأمنية الشديدة، و ما تعرّض له من الضغوط؛ إذ كان قد عاش معزّزًا وموقّرًا؛ فلم يعهد مثل هذه المعاملة المرهبة. ثم أُحيل إلى مستشفى مدينة مانسا، فلم يلبث أن مات فيه من رعب ما لقي من الشدة. و قيل قُضي عليه بتعليماتٍ سرّيةٍ من الحكومة!
انتهت هكذا صفحة هامّة من تاريخ النقشبنديّة وبدأت مرحلة جديدة في سير العلاقات والتعامل بين الطغمة الحاكمة من يهود سالونيك وبين النقشبنديّين بعد هذه المؤامرة.(64/441)
ومن الأهمية بمكان، أنّ الخِطَّتين جاءتا بنتيجة غريبة لم تكن في الحسبان وقدلم تكن تلك هي المقصودُ بالذات من تنفيذهما. بل كانت العصابة الحاكمة في الحقيقة إنّما تريد القضاء على النقشبنديّين عن بكرة أبيهم، لأنّها ترى جميع المسلمين متجسّدين فيهم! ولكن لمّا جمع القدر بين الطرفين في جلسات محاكم الثورة - خاصّة بعد الخطّة الثانية-، وجرت بينهما سلسلة من الحوار، تأكدت الزمرة الحاكمة من أنّها خاطئة في هذه النظرة؛ و ظهرت بالتالي من خلال هذه الحوارات الطارئة مدى تطابق العقلية النقشبنديّة مع العقلية اليهودية التركية في تفسير علاقة الإنسان بربّه. إذ أنّ توجّه العبد إلى الله من غير واسطة، يراها الطرفان خروجًا على أركان الدين، وجرأةً على الله، واقتحامًا بحرمة »وكلاء الله المفوَّضين بالتصرّف عنه في الكون« (على حسب عقيدتهما)؛ تعالى الله عما يصفه الفاسقون! كذلك تأكَّدَ كلُّ طرفٍ من تعصُّبِ الطرف الآخَرِ للعنصر التركيّ وتفضيله على سائر العناصر عن طريق هذه الحوارات.
فلما ظهر هذا التطابق بين عقيدة الطرفين، وتبيّنها كلٌّ منهما، انهارت سدود العداوة بينهما شيئًا فشيئًا بعد ذلك؛ وازداد التقارب خاصّة بعد انتخابات 1950م. الّتي فاز الحزب الديمقراطي فيها بدعمٍ من النقشبنديّين. إلاّ أنّ رئيس الوزراء عدنان مندريس، لمّا علم أنّ المسلمين أيضًا سوف ينالون حظًّا كبيرًا من الحرية الّتي متّع النقشبنديّين بها، وبدأ يتوجّس خوفًا من انتشار عقيدة التوحيد، وازدياد عدد الموحّدين الحنفاء في تركيا، جاء بمشروعٍ ليوُحّدَ به صفوف جميع النقشبنديّين تحت زعامة شيخ واحدٍ حتّى تسهل مراقبتهم، والتحكّم في المسلمين بواسطتهم في الوقت ذاته.(64/442)
قيل أنّه أصدر تعليمات للمختصين من أمناء سره ليجدوا له رجلاً يكون على شيءٍ من الحماقة، كثير الصمت، كبير الهامةِ، طويل الأنف أحول... وأن يقوموا بالدعاية له بين صفوف النقشبنديّين على أنّه غوث الزمان وقطب الفلك حتّى يَلْتَفَّ حولَه رعاع الناس والبسطاء، تنفيذًا لمشروعه. فلم يلبث أن تحقّقت آمالُهُ في أمد قصير. فوجدوا له رجلاً بنفس المواصفات، وأقاموا له مقرًّا على الطريق الّذي يربط بين مدينتي بدليس و دياربكر. فجنّدتْ الحكومةُ رهطًا من رجالٍ مدرّبين على الصفة المطلوبة للدعاية له، معظمهم من ضباط الصف المتقاعدين.(64/443)
وما أن تبعثر هؤلاءِ المنتحلون بين صفوف الناس وتسلّلوا إلى المحافل والمجالس والمساجد يدعونهم للانتساب إلى هذا الشيخ، انهالت جموع غفيرة من مختلف أنحاء البلاد إلى هذه المنطقة المجهولة، يتهافتون عليه وينخرطون في سلكه. فأثاروا ضجّةً بوصف كراماته، فسُحرتْ عقول الناس بما أُقيمت من حفلاتٍ وطقوسٍ وحلقاتٍ هيّجت الملايين، فتخدّرت المشاعر، و صُدَّتْ الوجوه عن حقيقة الإسلام تمامًا. فاختلط الصوم والصلاة والحج والزكاة بالختم الخواجكانية، والحلقات اليوغية، والرابطة الهندوكية، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على الصورة الفوتوغرافية للشيخ، والتبرّك بالقبور، والاستمداد من الروحانيين؛ وتصاعدتْ أصوات غريبة - شبه الخوار والزئير والعواء - من حناجر المجذوبين في التكايا والمساجد والبيوت والشوارع ليلاً ونهارًا، أصيب آلافٌ مؤلّفةٌ من الدراويش بمرض الهيستريا، واختفت نشاطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبطلت أعمال الدعوة والإرشاد، و ماتت روح الجهاد. ولكثرة إلتفاف الناس حول هذا الشيخ، اشتدّ الحرج على المسلمين. فمن رفض منهم أن يواليه، تعرّض للسُخرية من قِبل جماهير النقشبنديّين، ورُمِيَ بالعداوة "لأولياء الله"، وأُطلق عليه صفة "المنكر" و "الوهّابي"! فلم يعد أحد يتفكّر في خاصّية حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشخصيته وسيرته. بل اعتقد الناس أنه عليه الصلاة والسلام كان على سيرة شيوخ النقشبنديّة (؟!) كما اختفت أيضًا بهذا الدافع ضجيج الفِرَق والأحزاب المتنازعة؛ فارتاحت حكومة مندريس وتمكّنت بفضل النقشبنديّين من تحديد الحركة الإسلامية في تركيا بشكل ملحوظ.(64/444)
وأدهى من ذلك وأمرّ، أنّ حكومة مندريس وافقت على مشروع القانون رقم 5816، بتاريخ 25/07/1951م. الّذي ينص على تأليه الزعيم التركيّ، كما اهتمّت بتنظيم الطقوس الّتي تُقام في معبد الدين الجديد بأنقره، ذلك الدين الّذي اعتنقه جميع الأتراك اليهود، وملايين من الأتراك المرتدّين عن الإسلام، والّذي سُمِّيَ بـ "دين الترك المعاصر". تحمّل مندريس هذه المسئولية الخطيرة إرضاءً لشهوة يهود سالونيك المتسلِّطين على الحكم. فانّ في هذا الإقدام الخطير حقائق لم ينتبه إليها كثير من الباحثين حتّى الآن. أهمّها أنّ اليهود الأتراك كانوا يشعرون بحرج بالغ أنّهم يدينون باليهودية، وجمهور عظيم من بني جلدتهم يدينون بالإسلام. ومعنى ذلك: »أنّ هؤلاء القوم خاضعون لِدِيَانَتَيْ شعبين أجنبيّين من الأصل الساميِّ، وهم من الأصل الطورانيِّ. وهذا يحط من كرامتهم القومية، ويقلّص من استقلالهم التاريخيِّ والثقافيِّ«. ويؤكّد على هذه الحقيقة ما كتبته الباحثة الإنجليزية جرايس أليسونGrace Ellison. في كتابها Turkey Today. وما تفوّه به أحد شعراء الأتراك من الجماعة اليهودية اسمه كمال الدين كامو هذه كلماته في نظمٍ له:Ne ?rümcek ne yosun * Ne mucize ne füsûn
Kâbe Arab?n olsun * Bize Cankaya yeter
معانيها باللّغة العربيية:
لا عنكبوت ولا طحلب * لا معجزة ولا تعويذة
دع الكعبة للعرب * يكفينا قصرُ شنكايا. وثمّ دلائل أخرى كثيرة.(64/445)
أما الّذي يمس موضوعنا في هذا السياق؛ أنّ هذه الفكرة الخطيرة لم تخامرهم إلاّ بعد إطلاعهم على أسرار الطريقة النقشبنديّة وحقيقة هذه الطائفة مؤخّرًا. ذلك لا يُستبعد أن يكون كثير منهم قد اعتزوا بأنّ رجالاً من قدماءِ هذا الشعب الطورانيِّ قد استطاعوا قبل سبعة قرونٍ أنْ يحدّدوا لأمّتهم اتجاهًا خاصًّا في تفسير مفهوم الإسلام بشكلٍ يفصل بينهم وبين العرب في الانتماءِ الدينيِّ باسم النقشبنديّة من منطلق الاشتياق إلى الاستقلال الذاتيِّ الّذي يُضمره العنصر التركيّ منذ القديم، كما ترمز هذه الحقيقة في حد ذاتها إلى الصراع العربي-التركيّ على احتكار الإسلام عبر التاريخ.
ولهذا يجاهر كثير من الأتراك الّذين قد خلعوا ربقة الإسلام من عنقهم، يجاهرون بكلِّ صراحةٍ: »أنّه مادام أسلافنا قد نجحوا في هذه التجربة الّتي أَكْسَبَتْنَا المناعة من الذوَبان والتحلُّلِ في بوتقة العرب، فاستطاعوا بفضلها أن يحتفظوا بالشخصية التركية المتمايزة حتّى الآن؛ فما يمنعنا إذن من أن نُعلِنَ استقلالَنا عن دين العرب تمامًا؟!«
إنّ هذه التغيُّرات السريعة الّتي ظهرت على الصعيد الفكريِّ في المجتمع التركيّ المعاصر عقب التطوّرات الطارئة على أسلوب علاقات السلطة مع النقشبنديّين، لا شكّ يبرهن على تأثير هذه الطائفة وعقائدها على أفكار الزمرة الحاكمة، وبوساطتها على قطاع كبير من الناشئة ولو بطريقة غير مباشرة.(64/446)
يبدو أنّ الزمرة اليهودية الحاكمةَ لم تقتنع بعمالة مندريس وإخلاصِهِ لها في إجهاض الحركة الإسلامية بالقدر الّذي حمل على الحركة الماركسية والانفصالية الكرديّة. بل أحست بخطر عندما وجدت النقشبنديّين قد اجتمعوا تحت زعامة شيخٍ واحدٍ في شرقي البلاد. وبخاصّةٍ فانّ النقشبنديّين الأتراك أيضًا كانت نشاطاتهم في المدن الغربية قد ازدادت في تلك المرحلة بتوجيهٍ من أحد شيوخهم البارزين اسمه سليمان حلمي طوناخان رئيس الفرقة المعروفة بـ »السليمانية «Süleymanc?lar، كما لوحظ انتعاشٌ كبيٌر في حركات جماعة النور على مستوى البلاد. فأوجست الزمرة الحاكمة خوفًا من كلِّ هذه التطوّرات، أن تتحوّل في النهاية إلى حركةٍ إسلاميةٍ صحيحةٍ، أو حركةٍ نقشبنديةٍ موحّدةٍ لا قبل لهم بها. فأطاحوا بحكومة مندريس يوم 27/مايو/1960م. ثم قتلوه شنقًا يوم 17/سبتمبر/1961م. واختطفوا جثمان سعيد النورسي (زعيم جماعة النور)، من مدينة أورفا بعد دفنه بقليلٍ. وذلك عام 1960م. كما نقلوا مقرَّ شيخ النقشبنديّين الأكراد من المنطقة الشرقية إلى قريةٍ اسمها (المنزل) بالمنطقة الجنوبية قربَ مدينةِ آديامان بعد مدّةٍ قصيرةٍ لسبب هامٍّ سوف نتطرَّقُ إليه إنْ شاء الله تعالى؛ وقضوا على مثابات جامعة الزهراء. ولكن استمرّ دعم السلطة اليهودية للشيخ المذكور ولأولاده، كما استمرّت في الوقت ذاته مطاردتهم للمسلمين إلى اليوم.
***(64/447)
على الرغم من وجود أمارات كثيرة وواضحة تبرهن على استمرار التعاون بين الزمرة الحاكمة وبين مشائخ النقشبنديّة ذوي الأصول التركية في هذه البلاد، قد يردُّ هذه الحقيقةَ بعضُ المعترضين ممن كلّت أبصارهم عن رؤية الواقع، إمّا بسبب ظلام الجهل الّذي قد أحاط بهم ولا يكادون يتخلّصون منه؛ أو لمصلحة تجعلهم يكتمون الحقّ عنادًا ومكابرةً. ويدخل في عداد أولئك الجهلة أبناءُ مشائخِ المنطقةِ الكرديّةِ المتبعثرين اليوم في إسطنبول وإزمير وأنقره، الّذين يطوفون في شوارعها للحصول على لقمة العيش ولا يكاد أحد من أبسط الناس يعبأ بهم فضلاً عن رجال السلطة. وهم بالاختصار: أحفادُ كلٍّ من الشيخ خالد الزيباري، والشيخ أسعد الخسخيري، والشيخ خالد الزيلاني، والشيخ عبد الرحمن التاغي، وأبناء الشيخ سيدا الجزري (هم من سلالات كردية)؛ وكذلك أحفاد الشيخ حامد المارديني، والشيخ محمّد الحزين الفرسافي، والشيخ عبد الله الخالدي الْمَخْزومي، والشيخ عبد القهار الذوقيدي، والشيخ فتح الله الورقانسي (وهم شخصيات عربية ومنهم مستكردة). وقد غلب الجهل على هؤلاء المساكين إلى حدٍّ لا يكاد أحدٌ منهم يفهم أنّ الزمرة الحاكمة قد أصبحت اليوم في غنى عنهم؛ ولذلك قذفتهم في سلّةِ القمامة. ولكنها تتعاون مع عدد قليل جدًّا ممن يحتفظ بمكانته وشهرته من الشيوخ النقشبنديّين الأتراك وتستغلُّ زمرةً من بينهم، لا يتجاوز عدد البارزين منهم على سبعة أشخاص فحسب. وهم بالتحديد: العقيد المتشيّخ حسين حلمي إشيك؛ ورجل يتزعم قطاعًا كبيرًا من جماعة النور اسمه فتح الله كولان؛ ورجل في المنطقة الجنوبية قرب مدينة آديامان (وهو عربي مستكرَد)، احتلّ مكان أبيه وجدّه الّذي ذاع صيته بدعم جهاز المخابرات في عهد مندريس؛ وزعيم الطائفة السليمانية؛ ورجل متشيّخٌ مدسوسٌ (مثل الضابط الّذي مرّ ذكره) يقوم بنشاطاته في منطقة ساكاريا، ورجل من بقايا الشعب البُنْطُسيّ اليوناني من أهالي مدينة(64/448)
طربزون. قد اتخذ من مسجد إسماعيل آغا بإسطنبول مقرًا ومركزًا. وثَمَّ شخص أخر، قد خلّفه شيخ الداغستانيين. وهناك عدد أقل ارتباطًا برجال السياسة وهم خلفاء محمود سامي رمضان أوغلو المعروف بـ "شيخ التجار" في إسطنبول؛ وخلفاء إسماعيل حقي أهرامجي الّذي كان يبث دعوته من مدينة سيواس في أواسط آناضول.
ربما يدافع بعض الناس: »أنّ هؤلاء الشيوخ هم أهل الزهد والنسك، معتكفين في تكاياهم، يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، مشغولين عن الدنيا وملاهيها، لا يراهم أحد في الشوارع أبدًا... إذن، فهل يجوز أن يكونوا متواطئين مع رجال السياسة الّذين لا يهمهم إلاّ المصلحة، و هل يجوز أن يتعاون هذان الجمعان المختلفان في العقيدة والفكر والسلوك ياترى؛ وبخاصّةٍ ضدّ أهل التوحيد الّذين يلتقون مع النقشبنديّين صباح مساء تحت سقوف المساجد على أقل تقدير(؟!)«
إنّ الّذين يجهلون مدى حقد النقشبنديّين على أهل التوحيد الخالص، ربما يرون في مثل هذا الدفاع ضرورةً على حسب ما يتراءى لهم من الظاهر. كما يبرهن هذا الجهل منهم على جهلهم بحقيقةٍ أخرى. وهي أنّ منطقَ الإنسان النقشبنديّ يسمح له بالتعاون مع كلِّ مَنْ يصدّقه على أساطيره وعقائده إلى حدود بعيدة، ولو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، ويضيق صدره عن كلّ مَنْ يكذّب أساطيره ويرشده إلى توحيد الله وإن كان حنيفًا مسلمًا.(64/449)
لذا، يرفض الرجل النقشبنديّ على الإطلاق، أن يتعاون مع أيّ إنسانٍ لا يعتقد بمعتقداته المرسومة في طريقته؛ و إذا شاركه في عمله، لا يُخلص له أبدًا؛ بل يضمر له البغضَ ويحتقره ويستقذره، ويتربص فرصة الإيقاع به متى سنحت له، وإن كان ذلك الإنسان، من أتقى الناس و أعلمهم، وأفضلهم سلوكًا، وأحسنهم خلقًا؛ ولكن الرجل النقشبنديّ لا يقصّر في التعاون مع أيّ شخصٍ يتظاهر له بالتصديق على كرامات شيخه والتعظيم له، والموافقة على معتقداته و ممارساته لآداب طريقته، وإن كان ذلك الشخص ملحدًا، دهريًّا أو مشركًا! ولهذا لم يتخلّف النقشبنديّون - على الأقلّ - عن التحيُّز إلى الفئة المتغلّبة، واتخاذ الموقف المضادِّ من أهل التوحيد الحنفاء. بل قد شاركو الحكومات العلمانية في مواقف عديدة وبصورة فعلية ضدَّ الحنفاء المسلمين، وإن اقتصر ذلك على إبداء الرأي غالبًا.
أمّا الأمارات، فإنها أكثر من أنْ تُحصى. ومن كُبْرَيَاتِهَا: أنّ أحدًا من مشائخ الطريقة النقشبنديّة لم يَنْبِسْ ببنت شفةٍ استنكارًا لما تقوم به السلطةُ من تصرّفاتٍ ظالمةٍ بإهانة المسلمين وغصب حقوقهم، ولم يُبْدِ أحدٌ منهم إدانَتَهُ لموقفها المتسامح مع أجهزة الأعلام اليهودية التركية في حملاتها على الإسلام والمسلمين، وسخريتها بالمقدّسات الإسلامية من غير هوادةٍ. كما لم يُسمَعْ من أحدِهم أنّه دافع عن المسلمين المضطّهَدين في أنحاءِ العالمِ ولو بكلمةٍ واحدةٍ، ولا عن الفلسطينيّين المعرَّضين للقتلِ والإبادةِ من قِبَل الصهاينة.(64/450)
كذلك الاستشارات الّتي يقوم بها أعداد من رؤساء الأحزاب السياسية لدى هؤلاء الشيوخ المشهورين، واجتماعاتهم في المناسبات، تدلّ على ما هنالك من حوارٍ مستمرٍّ، وعلاقات وتعاون بين الطرفين؛ وإنْ كان لا يتمكّن أحد من الإطّلاع على أسرار هذه العلاقات غير بطانتهم. وهى في حقيقتها محاولات، يريد بها كلٌّ من الطرفين أنْ يستغلّ الآخر من غير شكٍّ. إلاّ أنّ مكتسبات السياسيّين في استغلال النقشبنديّين، يترجّح بكثير على ما ينال النقشبنديّون من مصالح بوساطة السياسيّين.
ذلك أنّ نسبة طاقة الدعم السياسيِّ الّتي يمثّلها النقشبنديّون في تركيا تفوق على خمسة وستّين في المائة. هذا بغضّ النظر عن الأعداد التي تُحرّكُها هذه الطائفة بطرقٍ غيرِ مباشرةٍ، وتجتذبها إلى صفوفها في مواسم الانتخابات، لا تقل عن سبعة في المائة. وهكذا تنجلي أمام العيون بأنّ هذه القوّة الهائلة كيف قد تحولت إلى آلةٍ خطيرةٍ بيد الأحزاب السياسية في تحريك عجلة الديمقراطية الزائفة في تركيا، وكذلك في مقاومة الحركات السياسية الّتي تحاربها الزمرة اليهودية الحاكمة!
***
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم.
بهذه المناسبة ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ النقشبنديّين اليوم في تركيا، موزَّعون في صفوف سبع جماعاتٍ رئيسةٍ تابعةٍ للأشخاص المذكورين آنفًا. إلاّ أنّ هذه الجماعات، يختلف بعضُها عن بعض من حيث التكوين الإجتماعيِّ والمستوى الثقافيِّ والنشاط السياسيِّ اختلافًا بارزًا.
يمتاز من بين هذه الْفِرق، جماعة الشيخ محمّد زاهذ كوتكو برجالها المثقَّفين؛ وكان في مقدّمتهم ترغوت أوزال الّذي استطاع أن يحتلّ منصب رياسة الجمهوريّة؛ وكذا منهم نجم الدين أرباكان (رئيس الوزراء الأسبق)، وعددٌ كبيرٌ من الأساتذة موزَّعون اليوم في جامعات تركيا.(64/451)
إنّ الشيخ محمّد زاهذ كوتكو (المعروف بشيخ الدغستانيين)، كان خالديَّ المشرب، من أتباع أحمد ضياء الدين الكُمُوشْخَانَوِي. احتلّ منصبَ خلفائه في إسطنبول واستطاع أن يؤثِّرَ على طلاّب الجامعة منذ عام 1960م. فانضمَّ إلى أتباعه نخبة من الشباب المثقَّفين؛ ثم ترابطوا فيما بينهم حتّى برز منهم شخصيات تدرّجوا علىالصعيد السياسيِّ وشاركوا العلمانيّين أخيرًا في تشكيل حكوماتٍ وتنصيص قوانين وتنفيذ مشروعاتٍ هامّةٍ.
ومن هذه الفِرَقِ؛ طائفةٌ مفتتنة بعقيدٍ متشيّخ مرّ ذكره بالتفصيل. تتكوّن هذه الطائفة من طبقةٍ مثقَّفَةٍ مكلَّفَةٍ بالتوجيه، وأخرى عاميةٍ مكلَّفَةٍ بالتنفيذ. مهمّةُ هذه الطائفةِ تتعيّن في حرب السلَفِيّينَ وأهل التوحيد؛ وترسيخ "العقيدة السُّنِّيَّةِ التركية التقليدية" على أساس تقديس الملوك والسلاطين الأتراك، وتقديس العنصر التركيّ والدولة التركية. لذا تُعتَبَرُ هذه الفرقة من أهمّ الصفوف الّتي تستقوي بها الحكومات العلمانية-العنصرية، وتستخدمها في ترسيخ فكرة العصبية التركية.
لقد اتّخذ العقيد المذكور الأسرةَ الأرواسيةَ رمزًا لدعوته وتوجيهاته طمعًا في احتكار الصفة الّتي اشتهر بها الأرواسيّون بنسبتهم إلى السلالة الهاشمية؛ كما استطاع من جانب آخر أن يستخدم أبناءَ هذه الأسرة في بث "الديانة السنِّيَّةِ الأرثوذكسية التركية".(64/452)
تظهر شطارة هذا الرجل من خلال بعض محاولاته على سبيل الإحتكار. منها استجازتُهُ في العلوم الإسلامية على يد الشيخ أحمد مكي أفندي بن الشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ، وذلك بالرغم من عدم كفاءته، إذ أنه على الأصح لم يدرس هذه العلوم الشريفة. بل إنه رجل عسكري متخصّص في علوم الصيدلة والكيمياء. ثمّ قام بطبع هذه الإجازة مع عددٍ من رسائل متفرقةً ضمن مجلّد واحد لا علاقة بينها وبين هذه الرقعة. ومن تلك الرسائل »فتاوى علماء الهند على منع الخطبة بغير العربية«. تم نشرها من قِبَلِ مكتبة الحقيقة في إسطنبول عام 1996م.
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ أيضًا "جماعة النور". وهي أصلاً منشقّةٌ من الطريقة النقشبنديّة و متفرِّقة في صفوفٍ متعاكسةٍ.
برز في الآونة الأخيرة رجلٌ من بينهم فاستعمل لباقتَهُ مع بطانته في تأسيس سلسلة من المدارس والمعاهد الخاصّة في انحاء تركيا وخارجها، امتازت بنظامها الدقيق وبرامجها الدراسية المطوّرة وطلاّبها وخرّيجيها الناجحين البارزين على أصعدة مختلفة اغتبط بهم أبناء الأثرياء والمترفين! ثم بدأ يستخدمهم في نشر "الديانة السنِّيَّةِ الأرثوذكسية التركية".
اشتهر هذا الرجل أخيرًا إلى درجةٍ أحسّ السياسيون في تركيا بحاجةٍ إلى دعمه. وقام بزيارة البابا إلى روما عام 1997م. وتَبَادَلَ العلاقاتِ مع رجال السياسة، وحضر الندوات والمؤتمرات العالمية على سبيل التحدي لمعارضيه!
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ السليمانيون. وهم طائفة من النقشبنديّين من أتباع الشيخ سليمان حلمي طوناخان المشهور بمعارضته لمعاهد الأئمة والخطباء، اعتقادًا منه أنّ الحكومات العلمانية تتعمّد الإضرارَ بالعقائد التركية التقليدية عن طريق هذه المعاهد.
اهتمّ بفتح المدارس القرآنية في أنحاء تركيّ، تمهيدًا لبث طريقته وعقيدته من خلال هذه المدارس. فانخرط كثير من الناس في صفوفه بتأثيرها.(64/453)
لقيَ طوناخان من حكومة عدنان مندريس ضغطًا شديدًا لاهتمامه بتحفيظ القرآن. وكان مندريس أيضًا تحت ضغط اليهود الدونما مرغَمًا على كفاح كلِّ حركةٍ من شأنها فتح باب الصحوة للمسلمين. لذا كان مندريس يهتمّ يومئذ بجمع النقشبنديّين حول رجلٍ أبلهَ في المنطقة الشرقية لتخدير مشاعر الناس وصدّهم عن الّتيارات الإسلامية.
أمّا سليمان حلمي طوناخان، فانّه كان رجلاً ذكيًّا جريئًا، استعمل لباقَتَهُ في توجيه الناس إلى حفظ القرآن الكريم حتّى تمكّنَ بذلك من نفخ عقائده إلى ضمائرهم!
نشأ على يده رهط من الدجاجلة تبعثروا بين الناس للدعوة إلى عقيدته وادّعوا بعد موته »أنه أويسيٌّ اتصل بروحانية السرهنديّ واستفاد منه«. فتبيّن أنّ هذا الإعتقاد البرهميَّ لا يزال يسري بين مختلف جموع النقشبنديّة، سواء الخالديّين منهم وغيرهم. لأنّ هذه الفرقة ليست خالديَّةَ المشرَبِ. ويعدّه أصحابُهُ من الطبقة الثالثة والثلاثين من سلسلتهم.
وردت قصّةُ حياته أخيرًا في رسالةٍ دوّنها الأستاذ الدكتور أحمد آقجندوز، تمّ طبعها ونشرها على نفقة مؤسّسة أوقاف البحوث العثمانيّة (أوساف) في إسطنبول عام 1997م.
***
ومن هذه الفِرَقِ؛ جماعةٌ غالبُها من سُكّان سواحل البحر الأسود؛ يرأسُهم رجلٌ متزمّت من نفس المنطقة.
أقدم أخيرًا مع أشخاصٍ من بطانته على كتابة تفسيرٍ للقرآن الكريم باللّغة التركية وبأسلوبٍ صوفيّ تحت عنوان "روح الفرقان" كما مرّ ذكره. استهدف بذلك معارضةً شديدةً من جانب أهل التوحيد؛ وكاد أن يتطوّر الأمر إلى فتنة بين هذه الفرقة وبين المسلمين.(64/454)
أحسّتْ الحكومة العلمانية في الآونة الأخيرة بما اكتسبت هذه الجماعة من القوة، فدبّر جهاز المخابرات مؤامرةً لاغتيال بعض البارزين من هذه الفرقة تأديبًا لها! راح ضحيتَها ملاّ خضر أفندي صهر شيخ الجماعة. كما وضعوا تابوتًا فارغًا أمام منزل الشيخ، وعددًا آخر من التوابيت عند باب كلٍّ من نائبه وبعض رجال حاشيته على سبيل التهديد: بأنّهم معرّضون للخطر إذا ما صدر منهم أدنى حركة ضد الحكومة وسياستها.
وثَمَّ فرقتان أخريان من النقشبنديّين يتعاون النظام الحاكم معهما إلى أبعد الحدود ويستخدمهما في أغراضها وتحقيق ما يناسب من أهدافها، خاصّة ضدّ الّتيارات الإسلامية.
***
* أهم الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها.
إنّ استخدام السلطة للنقشبنديّين لم ينحصر في الحرب ضدّ الوهّابيّين فحسب، وإنّما شمل الحربَ ضدّ أحزاب، وحركات سياسية كثيرة في العهد الجمهوريّ، أهمها أربعة، مرّ ذكرها بإيجاز. إنّ الدخول في تفاصيل التعاون بين السلطة والنقشبنديّين في كلِّ هذه الحروب، ربما يتجاوز في بعض نواحيها حدود بحثنا. لذا، نقتصر على النتائج السلبية لهذا الاستغلال الّذي تمخّض عن أضرارٍ كبيرةٍ على الإسلام والمسلمين.(64/455)
استغلت السلطة النقشبنديّين في مقاومة الحركة الماركسية مدةً أكثرَ من خمسةٍ وثلاثين عامًا بعد العقد الرابع من العصر الحاضر. فجنّدتهم في صفوف "جمعية الكفاح ضدَّ الشيوعية". فأثارت بذلك فيهم نزعة الرأسمالية البحتة وروّضتهم على الانتماء إلى هذه الفكرة باسم الحرية. فأصبح مفهوم الحرية مشوّهةً بصبغتِها، وسادت في هذه الصورة على عقولهم. ولم يكن الناجح في هذا التعاون إلاّ اليهودَ الرأسماليّين. فازدادوا بذلك قوةً حتّى استغلّوا النقشبنديّين في أغراضٍ أخرى، كما تحكّموا فيهم، وقادوا كلَّ جماعةٍ منهم في وُجْهَةٍ لا تلتقي فيها بجماعةٍ أخرى من النقشبنديّين؛ فسدّوا عليهم بذلك طريق السياسة المباشرة بحيث كلّما قامت فئةٌ من النقشبنديّين بتشكيل حزب سياسيٍّ قضوا عليه قبل أن يتسلّم زمام الحكم؛ وسلّطوا بعضهم على بعضٍ، كتجربتهم في تصعيد ترغوت أوزال على منافسيه. لأنّه كان نقشبنديًّا علمانيًّا متعصّبًا لتعاليم يهود سالونيك.
دام استغلال السلطة للطائفة النقشبنديّة في مقاومة الماركسية حتّى سقطت الإمبراطورية السوفيتية وانقشعت غيوم الذعرِ فاطمأنّت الزمرة الحاكمةُ من مداهمة الروس لأراضي آناضول. فاعتاد النقشبنديّون عبر هذا التعاون على جميع تعاليم يهود سالونيك من العلمانية، وممارسة القواعد الظالمة للنظام الرأسماليِّ، وطقوس الشرك بأنواعها؛ كما تأثّرت واستورثت العداوة لأهل التوحيد الحنفاءِ الّذين يرفضون عبادة الموتى، ويتجنّبون تخليد ذكر المخلوق و الاستمداد من غير الله.
استغلّ يهود سالونيك المتغلبون على مرافق الدولة التركية بوساطة حكومات مزيّفة، استغلّوا فئاتٍ من شباب عائلاتٍ نقشبنديةٍ في القضاءِ على الحركة الإرهابية الّتي قامت بها عصابات أرمنية ضدَّ الدبلوماسيّين الأتراك في الخارج ما بين 1970-1985م. ثمّ قضوا أخيرًا على هؤلاءِ الشباب بوساطة منظمةٍ مهمّتُها اغتيال أشخاصٍ اطّلعوا على أسرارهم!(64/456)
إنّ كثيرًا من أهل الصحوة الإسلامية مهدَّدون أيضًا اليوم باعتداءات هذه المنظمّةِ الخطيرة.
ثم استغلّت السلطةُ جماعةً من أبناء النقشبنديّين الأكراد ضدّ الحركة الانفصالية الكرديّة الّتي قام بها حزب العمال الكردستاني، وذلك بتشكيل حزبٍ سرِّيٍّ آخر باسم "حزب الله" لم تثبت لهذه المنظمة أية علاقة بـ"حزب الله" الموجود في لبنان. ولكن السلطة اليهودية قد أصبحت في عجز عن ضبط هذه المنظمة. لأن عنانها قد انفلتت في الآونة الأخيرة من يد من كان يوجّهها حسب أوامر الطغمة اليهودية الحاكمة كما يبدو. وثَمَّ أشخاصٌ بارزون بثقافتهم ومكانتهم الإجتماعية من أبناء مشاهير النقشبنديّة، تطوّعوا ضدّ المنشقّين الأكراد بأقلامهم ودعاياتهم الإعلامية؛ وعلى رأسهم أحمد الأرواسيّ. أحمد بن عبد الحكيم الأرواسيّ، رجلٌ مثقَّفٌ، كاتبٌ وباحثٌ؛ نُشِرتْ مقالاتٌ له في صحف النقشبنديّين بإسطنبول، قد يلتبس أبوه على بعض الناس بسميّهِ وقريبه عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي مرّ ذكره. إلاّ أنّ عبد الحكيم هذا، كان موظَّفًا متقاعدًا من إدارة الجمارك بمدينة وان، ثم مات في إسطنبول؛ وليس هو عبد الحكيم الأواسي الّذي اشتهر بجهود عقيدٍ مدسوسٍ في صفوف النقشبنديّين، والّذي مات عام 1943م. بحيٍّ من أحياء أنقره.
إنّ أحمد الأرواسيّ الّذي شاع بين مريدي آبائه أنّ عائلتَه تنحدر من سلالة الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، من الغريب أنه يتناسى هذه النسبةَ، بل يكتمها بلباقةٍ عندما يهاجم القوميةَ الكرديّةَ ويشدّد النكيرَ على من يدّعي أنّ للأكراد لغة خاصّة باسم اللّغة الكرديّة. والّذي يُستَغْرَبُ من أحمد الأرواسيّ في هجومه الّذي نشره في كتابٍ خاصٍّ؛ هذا الكتاب نُشر عام 1992. تحت عنوان: Do?u Anadolu Garçe?i
أنّه اتخذ هذا الموقفَ الحماسيَّ من منطلَق الدفاع عن القومية التركية إرضَاءً لشهوة الزمرة الحاكمة.(64/457)
هذا، وإنّ قادة الحركة الانفصالية الكرديّة لما تأكّدوا من أنّ السلطة تستخدم النقشبنديّين في الكفاح المسلح ضدّهم من جانب، كما تستخدم رهطًا من مثقّفيهم من أمثال أحمد الأرواسيّ في تخدير مشاعر الأكراد وتعميتهم عن الصحوة القومية من جانب آخر؛ بدءوا يوجِّهون ضرباتهم إلى عائلات نقشبندية، واستعدّوا لاغتيال شيخهم الّذي كان جدُّهُ قد نُصب على هذه الطائفة كمرجعٍ أعلى بإيعاز من رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس. ولكن القوات الأمنية قامت بالقضاء عليهم في لحظته؛ وكان جدُّ هذا الشيخ قد نُقِلَ إلى ناحيةٍ بقرب مدينة أديامان النائية عن ساحة النشاطات السياسية للأكراد، لنفس الأسباب قبل انتشار الحركة الانفصالية إلى جميع أنحاء المنطقة يومئذ.
إنّ استغلالَ السلطةِ للنقشبنديّين ضدَّ كلِّ هذهِ الحركاتِ السياسيةِ والإرهابيةِ، في الحقيقة كان الهدفُ منه، ترويضَهُمْ على السيرِ طبقًا للقواعد المرسومة لهم؛ وعلى الطاعة العمياء في الخطوة الأولى؛ فاستخدمتهم بصورةٍ فعليةٍ في خلق جوٍّ مطلوبٍ لإذابة الجموع المضادَّةِ للزمرة اليهودية الحاكمة في بوتقة العلمنة والإلحاد كمرحلةٍ ثانيةٍ؛ وترسيخ قواعد الرأسمالية ضدّ المستضعفين، وسدَّ الانتباهَ ضدّ الصحوة الإسلامية الّتي بدأت منذ سنين تنتشر في أنحاء العالم كخطوة ثالثة.(64/458)
فقد تحقّقت هذه الأهداف إلى حدود بعيدة. فانّ كثيرًا من الناس الّذين ما زالوا يعتزُّون بالإسلام ويهتفون باسمه، فقد تغيّرتْ المفاهيمُ القرآنيةُ في عقليتهم، واتخذت صورةً أخرى غريبةً؛ والتبس عليهم الحقُّ بالباطلِ؛ وأصبح الإسلامُ في اعتقادهم عبارةً عن سلسلةٍ من حكايات الصالحين، وحفلات المولد النبويِّ، وزيارة القبور، وتعظيم الموتى، والاستشفاع بهم. فانّ خلاصة ما يُعرَفُ من مفهوم الإسلام اليوم في معتقد العامّةِ، أنه لا يعدو عن علاقةٍ شخصيةٍ للعبد بمعبوده فحسب؛ دون أي شيءٍ آخر من علاقاته ونشاطاته وأفعاله مع بني جنسه في بقية مجالات الحياة.
ولذا كثيرًا ما يثور المارقون على المسلمين، فيقولون لهم في استغراب وتساؤل على سبيل التحقير:
- هل منعكم أحد من الصوم والصلاة والحجّ والزكاة؛ ثم ماذا تريدون بعد هذا القدر من الحرية؟! نعم هكذا يتساءلون بعُنْجُهيةٍ وحماقةٍ وغطرسة، ولا يتفكّرون أنّهم لو زحفوا بجيوش الدنيا على الرجل المسلم ليمنعوه من الصلاة ما استطاعوا ذلك رغم أنف كلٍّ منهم! لأنّ المسلم يستطيع أنْ يؤدِّيَ صلاتَهُ بشكلٍ من الأشكال ولو بإجراء أركانها على قلبه في أسوأ حالٍ. ولكنّ المصيبةَ، أنّهم لا يكادون يصطدمون بمثل هذه الإجابة الّتي هي أخطر عليهم من قنبلة ذرية! لأنّ المجتمع قد تحوّل إلى قطائع من النقشبنديّين المعتادين على الخضوع والتذلُّلِ والاستسلام ليهود سالونيك. ولأنّ الإنسان النقشبنديّ يعتقد بكل مَنْ يملك زمامَ أمرهِ، أنّه من "أولي الأمر"؛ الّذين قال تعالى فيهم { وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَاُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.}، ولو كان من يهود سالونيك! هذا ما قد حلّ بالإسلام في تركيا على يد اليهود، بالتعاون مع النقشبنديّين؛ وإن كان ذلك عن كراهية المثقفين منهم، وعن جهل شيوخهم، وحماقة الملتفّين حول هؤلاء الشيوخ من حثالة الناس.
***(64/459)
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء في كلامهم من ضروب التعارض والضعف.
إنّ الصوفيّة عمومًا طائفة انتقدهم العلماءُ قديمًا وحديثًا؛ وقد اشتدّ عليهم كثيرٌ من المحقّقين بكلامٍ لاذعٍ، ورُمِيَ غالِبُهُمْ بالزندقة والانحلال. وقالوا إنهم قومٌ تغمرهم أمواجٌ من الوهم والهواجس الغريبة، وتنتابهم تصوّراتٌ وخيالاتٌ لا يجدون لها تعريفًا وتوضيحًا؛ فتتساقط من أفواههم كلماتٌ غامضةٌ، و عبارات معقَّدَةٌ، يظنُّها الجاهل أنّها إلهامات من الله! »إذ هو الّذي أوحى إلى عباده المرسلين من آياته البينات، إذن فما المانع أن يفيض بأمثالها على أوليائه المكرَّمين من علومٍ لَدُنِّيَّةٍ و عرفان وإشراق وإلهامات؟!«
لم تختلف حالة النقشبنديّين عن حالة البقية من الصوفيّة في عباراتهم ومواقفهم؛ بل قد أطلقوا الكلمة على عواهنها في مواطن كثيرة؛ فجاءت على خلافٍ شديدٍ بأصول المنطق السليم والاستدلال؛ واهيةً ملفّقةً. لذا، من ردَّ عليهم، أو خالفهم، أو حتّى إذا اكتفى بالنصيحة لهم؛ هاجموه بلهجة قاسية، وربما رموه بالفسق والتعسّف والإنكار، وحتّى بالكفر والزندقة؛ بل لجأ بعضهم إلى استعمال الشدّة والعُنْفِ. وناهيك ما قالوه في التشنيع على الوهّابية والسلفية، وما تعرّض له أهل التوحيد من الاضطهاد على أيديهم في تركيا والعراق وأفغانستان، بالإضافة إلى ما قيل عن ارتكابهم من جنايات في مناطق نائية لم تثبت عليهم!(64/460)
سنتناول في هذا الباب شطرًا من آرائهم الّتي ادّعوا فيها ما لا حجّة لهم في إثباتها؛ ومسائلَ أخرى اختلفوا فيها اختلافًا فاحشًا. فجاء مقال بعضهم تكذيباً لبعضهم الآخر؛ كما سنتطرق إلى أمثلةٍ من الخصومة والعداوة الّتي جرت بينهم، فلا نظلمهم إذا سجّلنا ما تقوم عليهم من براهيَن قاطعةٍ على أنّ الصورة الحقيقية لهذه الطائفة تتوارى بصورة عابرة تظهر للناس لطيفةً نورانيةً مزخرفةً بالحلم والتسامح والزهد والتقوى والعفّة والقناعة والإخلاص!
***
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها.
وعلى سبيل المثال، حاول النقشبنديّون ليقيموا الصلةَ بين ما سمّوه "الرابطة" وبين الإسلام. وادّعى بعضهم أنها فريضةٌ من فرائض الله. راجع الهامش رقم/88. و قال كبيرُ متأخّريهم خالد البغداديُّ »هي أعظم أسباب الوصول بعد التمسُّك التامِّ بالكتاب العزيز وسنة الرسول«. ولكنّهم عجزوا عن إثبات ما ادّعوه بأدنى شيءٍ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ على الرغم من محاولاتهم بشكل مستميت كما مرّ في الفصل الثاني بالتفصيل.
وأغرب من ذلك أنّهم جميعًا قد تهرّبوا من إطلاق الحكم على الرابطة، هل أنّها شعيرة من شعائر الدين الإسلامي، أو منسك من مناسكه، وهل يجوز التعبّد بها؟ ويبدو أن الأمر ضاق بهم ذرعًا حتّى لجأ أربعة أشخاصٍ منهم عام 1994م. إلى فقيه في إسطنبول، اسمه خليل كوننج، يستفتونه عما إذا تَدْخُلُ "رابطة النفشبنديين" في شمول العبادة؟ فأجابهم المفتي: أنّها لا تُعَدُّ نوعًا من العبادة على الإطلاق. Râb?ta ve Tevessül, Umran Publushing Pg. 358 ?stanbul-1994(64/461)
هذا مثال هامٌّ من التناقض والتضارب والارتباك الّذي وقع فيه النقشبنديّون. إذ أنّ هؤلاء الأشخاص، وسائرَ شيوخ الطائفة الّذين يتحاكم إليهم جموع المريدين ويراجعونهم في جميع مسائلهم، لو لم تَنْتَابُهُمْ الشكوكُ في أمر الرابطة، وتردّدوا فيما إذا كانت هي شكلاً من أشكال العبادة؛ لَماَ أحسّوا بضرورة الاستفتاءِ ليتأكّدوا من حكم الإسلام في شعيرة من أهمّ شعائر طريقتهم، وقد مضى أكثر من مائة وخمسين عامًا على كون الرابطة كقاعدةٍ أساسية للطريقة النقشبنديّة. مَثَلُهُمْ في هذا الاستفتاء كمثل رجلٍ يدّعي أنه مسلم، ثم يستفتي العلماء في الصلاة المفروضة مثلاً هل تدخل فيما أمر الله به؟ و أغرب من ذلك، قيام أربعة أشخاص في استفتاء فقيه لا علاقة له بالتصوّف ولا بالطريقة النقشبنديّة. أمّا إجابة المفتي على سبيل الاحتياط بقوله »إنها أصلاً ليست من العبادة في شيءٍ«، ومُرَاوَغَتُهُ بعد ذلك بتعليق جاء فيه (أنّها مسألة اجتهادية)، أشدّ غرابة!
وحسبنا ذكر حجّتين دامغتين على النقشبنديّين بأنّ جميعَ ما قد وضعوه واختلقوه (من الرابطة، والختمِ، الخواجكانيةِ، وعدِّ ألفاظِ الوردِ بالحصى، وإحصائِها بكمياتٍ معينةٍ، وحبسِ النفَسِ أثناءَ الوُرْدِ، والارتداءِ بوشاحٍ أثناءَ الذكر أيضًا، والجلوسِ في الحلقةِ بعكسِ التورُّك في الصلاة، والأركانِ الأحد عشر...)؛ إنّها جميعًا لا تعدو كونها مستحدثات وافدة دخيلة على الإسلام الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا شكّ في أن أيًّا من هذه المستحدثات الغريبة ليس من الإسلام في شيءٍ ولا يمتّ إليه بأدنى صلةٍ.(64/462)
الحجة الأولى منهما: أنّ المعارضين للصوفية لوكانوا قد عثروا على شيءٍ من هذه المستحدثات في القرون الماضية، لما مرّوا علها مرورَ الكرام. بل إنّهم لبذلوا أقصى جهودهم في الردّ عليها، وتفنيدها. إنّ الّذين لم يتردّدوا في رمي حسين بن منصور الحلاج بالكفر والزندقة (وهو شهيد الصوفيّة)؛ هل يُعْقَلُ أنْ كانوا قد عَثَروُا على كلِّ هذه المختَلَقات وسكتوا عنها؟!!!
فهذا تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني، لم تسنح له فرصةٌ إلاّ وقد نال منهم بأدنى حجة. كما حكم على ابن عربي بالكفر (وهو الشيخ الأكبر عند الصوفيّة). فلو كان عثر على شيءٍ مما استحدثه النقشبنديّون (كالرابطة وغيرها من آدابهم ومبادئهم وطقوسهم)؛ لرماهم بالكفر البواح، ولأمطرهم بوابل من اللعن والشتم! بينما نجد آثارَهُ خاليةً عن كلِّ ما نتوقع منه. وهذا من أقوى البراهين على أنّ الأمور المذكورة حديثةٌ جدًّا، لم يعرفها قدماء النقشبنديّة (ما عدا الأركان الأحد عشر الواردة في الرشحات لأوّل مرة)؛ كما تبرهن هذه الحقيقة على مدى التعارض والتلفيق الّذي وقع فيه النقشبنديّون لما ادّعوا أنّ هذه الأمور منبثقة من الإسلام، وأنّ مصدرها الكتاب والسنّة، و أنّ أكابر النقشبنديّة قديمًا كانوا يمارسونها.(64/463)
أمّا الحجّة الثانية الّتي تقوم عليهم بأشدَّ من الأولى؛ وتُكَذِّبُهُمْ في إسنادهم تلك البدعَ إلى الكتاب والسنّة؛ هي سرّية هذه الأمور. يبرهن على هذه الحقيقة كلام أحد المؤرخين الأتراك، إذ يقول: " درون إستانبولده برقاج مسجدده كندولرينه مخصوص آيين طريقي خلقدن مستور اوله رق اجرايه مشغول اولدقلرندن..."؛ أي "حيث أنهم كانوا يشتغلون بإجراء طقوس على طريقة خاصّة بهم، مستورين عن الناس في عدة مساجد بمدينة إسطنبول…" تاريخ لطفي 1/287. مكتبة السليمانية، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/4755. لقد أغفل العزّاويّ ترجمة هذه الكلمات ضمن المقطع الّذي قام بنقله في دراسته الّتي سماها (مولانا خالد النقشبنديّ)، ونشرها في مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 721. بغداد - 1973. راجع الهامش رقم/467. لأنّ النقشبنديّين لا يمارسونها إلاَّ في أماكنَ خاصّة ومغلقة دون غيرهم. يقومون فيها بعقد حفلاتٍ سرّيةٍ لا يحضرها إلاَّ بِطَانَتُهُمْ من المنسوبين إلى هذه الطريقة. وقد يتسلّل معهم إلى هذه الحلقات بعضُ المنتحلين. فمنهم، من يحضرها ليلتقطَ معلوماتٍ حول هذه الطائفة ومعتقداتها بغرض البحث العلميِّ، ومنهم موظّفون من جهاز المخابرات، قد كلّفت السلطة بعضَهم للدعاية، و بعضهم لأغراضٍ أمنيةٍ!
نتساءل الآن: هل فرض الله على طائفة معيَّنَةٍ من عباده أمورًا ليقوموا بأدائها تحت جناح السرّ وحرّمها على غيرهم؟! وحتّى فرضُ الكفايةِ الّذي يسقط عن كثير من المسلمين إذا قام به بعضهم، لا مانع من الاشتراك للبقية بشروطه؛ ويُثابُ عليه إذا اشترك مع المؤمنين في أدائه، كما لا سرّيةَ فيه.(64/464)
زد على ذلك أنّ هذه الطقوس والأنماط الغريبة من مناسك البرهمية الّتي يتعبّد بها النقشبنديّون، يجهلها جمهور المسلمين؛ وحتّى أحفاد الشيوخ الّذين كانوا يلقّنونها الناسَ، ويرأسون الحلقات في الماضي القريب، أبناؤهم وأحفادهم أيضًا يجهلونها اليوم تمامًا. وعلى سبيل المثال: فانّ أحفادَ كلٍّ من الشيخ طه النهريّ، والشيخ صبغة الله الحيزانيّ، والشيخ محمّد الحزين الفرسافي، والشيخ حامد المارديني، والشيخ خالد الجزري، والشيخ خالد الزيباري، وأبناءَ خلفائهم (باستثناء عددٍ قليلٍ منهم جدًّا)؛ لا يعرفون شيئًا من هذه الآداب، ولا يكادون يستحضرون في أذهانهم: ما هي الرابطة، وهل يجب حبس النفَسِ أثناء الذكر، والجلوس بعكس التورّك في الصلاة، و ما معنى »هوش دردم، ونظر برقدم، وسفر در وطن، وخلوت درأنجمن...إلخ«؛ وهل هذه أشكالٌ من العبادة في الدين الإسلاميِّ؟ بالإضافة إلى كلّ ما سبق، فانه لا يكاد أحد منهم يفتكر اليوم في اتخاذ مرشدٍ يلقّنهم الطريقة النقشبنديّة؛ مع أن آبائهم وأسلافهم كانوا يعتقدون أنه »من لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان« راجع الهامش رقم/53. على الرغم من هذه الحقيقة أنّ عددًا من هؤلاء الأخلاف، يصلّون الخمسَ، ويصومون رمضان، ويحجّون وقد يزكّون؛ ويعتقدون أنّها فرائض يحرم تركها.
إنّ هذا الواقع حُجَّةٌ دامغةٌ على النقشبنديّين، تدلّ على مدى وقوعهم في التلفيق والتعارض والتضارب في أقوالهم ومواقفهم ومزاعمهم الّتي يدّعون أنّها مستمدّة من الكتاب والسنّة.
***
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًالبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيها تضادٌّ وتناقضٌ للقائل نفسه بالذات.(64/465)
هذه أمورٌ يفتضح بها النقشبنديّون أمامَ أهل العلم والمعرفة والحذاقة من الباحثين والدارسين خاصّة. لأنّ الجاهلَ لا يتمتع بمعرفةٍ تُمَكِّنُهُ من القيام بالمقارنة بين أقوالهم ومواقفهم، حتّى يتبيّن له مدى التطابق أو الاختلاف بينها.
ومن نماذج الاختلاف بينهم في الأقوال على سبيل المثال:
إنّ مشائخ النقشبنديّة يعظّمون ابن عربي، ويستدلّون بأقواله؛ فينقلونها في كتبهم. فمنهم مثلاً محمّد بن عبد الله الخانيّ، يقول في كتابه، البهجة السنيّة: »قال سيدي الشيخ محي الدين بن عربي (...) كما نقله العارف الجيليّ في أسفاره: الكرامة حقٌّ...إلخ« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 56. ويقول حفيده عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ في كتابه الحدائق الوردية »قال سيدنا الشيخ الأكبر: فعلماء الرسوم يأخذون خلفًا عن سلفٍ إلى يوم القيامة، فيبعد النسب؛ والأولياء يأخذون عن الله...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 99. بينما نعثر على كلامٍ لشيخٍ آخر من هذه الطائفة؛ وهو أيضًا خالدي المشرب اسمه أحمد بن أحمد بن خليل البقاعي في كتابه "رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة". يدلّ كلامه صراحة على أنّه لا يعبأ بمحي الدين بن عربي، وكأنّه يستهزيء به. فهذه كلماته بالضبط، يمدح بها مشائخ الطريقة النقشبنديّة فيقول: »ورفيع همّتهم يرفع المريدَ من حضيض الإمكان إلى ذروة الوجوب، ويجعلون الأحوال والمواجيد تابعةً لأحكام الشريعةِ، والأذواقَ والمعارفَ خادمةً للعلوم الدينية؛ و لا يستبدلون الجواهر النفيسة الشرعيةَ بجوز الوجد وزبيب الحال مثل الأطفال، و لا يغترون بترّهات الصوفيّة، ولا يفتتنون بها، و لا ينزلون بها من النصّ إلى الفصّ؛ ولا من الفتوحات المدنية إلى الفتوحات المكّية«. أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 30-31. مخطوطة(64/466)
(مصوّرة) ضمن مجموعة الزمرد العنقاء؛ إسبارطة 1249هـ./1832م. TDV. ?SAM. 297.7 N?M. Z. 46644 يشير بذلك إلى كتب ابن عربي، في الحين الّذي هو بالذات يتعارض مع نفسه بهذه العبارات!
***
ومن التعارض الشديد في معتقدات النقشبنديّين، أنهم قد سنّوا آدابًا معيّنةً فاشترطوا الوصولَ إلى الله بمراعاة تلك الآداب والسلوك على أساسها برياضاتٍ شاقّةٍ. ومع ذلك وقعوا موقع المصدّقين لمحي الدين بن عربي وأمثاله الوجوديين »بأنّ كلّ شيء جزء من الله« وحتّى »أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماءِ المحدثات.« محي الدين بن عربي فصوص الحكم ص/ 76، 77. (نقلا من كتاب؛ الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسنّة للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ص/ 83. مكتبة ابن تيمية الكويت، الطبعة الثانية). راجع الهامش رقم/222.
فما دام كلُّ شيءٍ في هذا الكون جزءًا من الله، ولا يحتاج الأمر للوصول إليه بأيّ محاولة، لماذا يفرضون على أنفسهم تلك الآداب والرياضات، ويتكبّدون الشدائدَ بالجوع والسهر وترديد الأوراد بأعداد هائلة، ويقضون معظم حياتهم في قيود (هوش دردم، ونظر برقدم وسفر دروطن...)؟ نعم إذا كان كلّ واحد منهم جزءًا من الله، - على حسب ما يدّعيه ابن عربي ويصدّقه النقشبنديّون -؛ لماذا يعذّبون أنفسهم بهذا القدر من مجاهداتٍ ورياضاتٍ يوغيةٍ ليتمكّنوا بها من الوصول إلى الله؟ أليس ذلك تكذيبًا لمحي الدين بن عربي وتناقضًا غريبًا يتخبّط فيه النقشبنديّون مع أنفسهم بالذات؟
كذلك من تناقضات النقشبنديّين في الوقت ذاته تشبّثهم بالرسالة النسَفِيَّةِ وشرحها للتفتازانيِّ في تدريس العقائد، وهي رسالة مقبولة مستمدّة من روح الكتاب والسنّة؛ في الحين الّذي يعظّمون محي الدين بن عربي وحسين بن منصور الحلاج وأمثالَهما من الوجوديّين والحلوليّين؛ فَشَتَّانَ ما بين عقيدة عمر النسفي وعقيدة محي الدين بن عربي!(64/467)
ومن مناقضاتهم أيضًا: قال عبد المجيد بن محمّد الخانيّ في ترجمة يوسف الهمدانيّ، »أدركتْه الوفاةُ فدفن بها (يقصد مدفنَه، وهي قرية باميين في أفغانستان). ثم بعد حين نُقِلت جثّتُهُ الشريفةُ إلى مَرْو.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 108. القاهرة - 1308 هـ. وهي مدينة في تركستان.
إن كانت هذه العبارات تدلّ على حقيقة، فما أقواها برهانًا على مخالفة النقشبنديّين لأحكام الجنائز والموتى في الفقه الإسلاميِّ، وتناقضهم مع أنفسهم، إذ يدّعون في كلِّ مناسبةٍ إلتزامَهم بالشريعة الإسلامية وتمسّكَهُمْ بالعزيمة دون الرخصة؛ ولا يرون مع ذلك بأسًا من نقل رفاة ميّتٍ لهم، على الرغم من مخالفته لآراء جمهور المجتهدين.
إنّ أسلوبَ عبد المجيد الخانيّ في كلماته المنقولة آنفًا ينبئ بكلِّ صراحةٍ: أنَّ نقلَ الجثمان بعد الدفن، ونَقْلَ الرفاةِ، يجوز في اعتقاد النقشبنديّين من غير كراهةٍ، بِغضِّ النظر عما لو كان هذا الخبرُ زعمًا صرفًا لا أصل له، أو توافقًا وصدفةً ليس للواضع علمٌ بحقيقته. كذلك ثَمَّ دلائلُ قاطعةٌ أخرى على استباحة النقشبنديّين نقلَ الرفاةِ. منها، قيام الكُفْرَويّين بنقلِ رُفاةِ كبيرهم عبد الباقي أفندي من منفاه إسطنبول، إلى مدينة بدليس بعد موته بمدّةٍ تزيد على أربعين عامًا، وذلك بناءً على موافقة ابنه قسيم الكُفْرَويّ؛ ومنها، قيام الأسرة الأرواسية بنقل رفاة الشيخ شهاب الدين وأقاربة من مدينة بدليس إلى قرية غَيْدَةَ بنواحي قصبة حيزان، وذلك بعد تنفيذ حكم الإعدام فيهم بمدّةٍ تزيد على خمسة وأربعين عامًا.
ولذا، نجد مناقضةً صريحةً قد وقع فيها النقشبنديّون في كلِّ هذه الأعمال، وقد تضاعفت وتأكّدت وانحدرت عليهم بمسئوليات أخلاقية رهيبة!
***(64/468)
كذلك من مناقضاتهم مع أنفسهم، أنهم ينسبون أنواع الكرامات والعلوم والمعارف إلى شيوخهم وأوليائهم، مع ذلك لا علم لهم ولا لجميع مشائخهم المعاصرين بما استقى أسلافهم من البرهمية والشامانية وغيرهما من معتقدات شتّى، ولا حتّى يعلمون شيئًا حول هذه الأديان. ولربما لم يسمع أحد من شيوخهم المعاصرين، خاصّة الّذين في المنطقة الكرديّة اسمًا من أسماء الديانات الهندية الّتي انتقلت معظم آدابها إلى طريقتهم!
ومن هذه الأمثلة: يقول النقشبنديّون أنه »من لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان« راجع الهامش رقم/53. ولكنّهم لا يقصدون بكلمة "المرشد" في هذه المقولة الأساتذةَ الّذين يدرّسون القرآنَ والفقهَ والحديثَ؛ أو الطبَّ والحسابَ والهيئةَ والتاريخ وما إلى ذلك من علوم عقلية ونقلية بآدابها وشروطها. بل قصدهم من ذلك، هو إقناعُ كلِّ مَنْ بَلَغَتْهُ دعوتُهم أن يستسلم لهم مطلقًا، على أن يسلّم لأحدهم عِنانَهُ ثم يتعلّم منه آدابَ الطريقة، ويسير على نهجهم. ومع هذا، يرون من الواجب على كلِّ من يريد الانخراط في سلكهم، أن يتأكّد من أمره أوّلاً بالاستخارة عما إذا كان دخوله في الطريقة خيرًا في حقّه أم لا. لمزيد من المعرفة حول اعتقاد النقشبنديّين فيما يتعلق بالاستخارة، راجع المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 22. (مجموعة الزمرد العنقاء)؛ TDV. ?SAM. 297.7 N?M. Z. 46644
* أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المبدأ والمعاد ص/ 15؛
* عبد الله الدهلويّ، المكاتيب الشريفة، مكتوب رقم/34.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 33. إسطنبول-1994م.(64/469)
و لا شكّ أنّ تخييرهم لطالب الطريقة بهذه الصورة يتعارض (في اعتقادهم) بوجوب اتخاذ الشيخ على كلّ فرد من أفراد الناس بدون استثناء. فقد وقعوا بذلك في تلفيق شديد؛ فضلاً عن أنّهم قد حرّفوا معنى الاستخارة بعلم الله في الأمور المشروعة، و بدّلوه بالتكهُّن، مع أنّ الكَهَانَةَ محرّم في الإسلام. وهذا تلفيق آخر.
لأنّ الاستخارة، في الحقيقة هي طلب وجوه الخير والّتيسير والتوفيق من الله تعالى بالدعاء والتضرّع قبل الإقدام في الأمور المشروعة. وهو دعاء خاص كما ورد في صحيح البُخَاريّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا الاستخارةَ في الأمور كلّها كالسورة من القرآن. يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضةِ، ثم ليقل: أللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فانّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم. وأنت علام الغيوب. أللهمّ إن كنتَ تعلم أنّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري وآجله) فأقدره لي، ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه. و إن كنتَ تعلم أنّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري و آجله)؛ فاصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان. ثمّ رضّني به. قال ويسمّي حاجتَهُ.". البُخَاريّ، عن محمّد بن المنكدر عن جابر. رقم الحديث/5903 ولا يخفى أنّ المشروعية محدّدة بالمعالم والقيود المنصوصة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. و لا خيار للمسلم في أداء الفرائض. بل هو ملزَمٌ بأدائها. وأما قيامه بنافلة، فلا داعي له بالاستخارة في فعلها أو تركها. إذ أنّه يثاب على فعلها، ولأنّها أصلاً مطلوبة منه على الاستحباب وليس على الوجوب. وفي الإصرار على تركها مخالفة للرسول عليه الصلاة والسلام. فهذا أمر في منتهى البداهة. لذا خرجت أمور الصوفيّة وطقوسهم عن نطاق المشروعية. فهي ليست في حدّ ذاتها(64/470)
من الفرائض، ولا هي من السنن، ولا من المباحات. إذ لا نجد في نصوص الكتاب والسنّة أدنى إشارة إلى ما وصفه النقشبنديّون من الرابطة، والختم الخواجكانية، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على الصورة الفتوغرافية لشيخ الطريقة والتعبّد بالمصطلحات الفارسيّة (هوش دردم، و نظر برقدم، و سفر دروطن، وخلوت درأنجمن...إلخ.). بل هي أشكالٌ مختلفةٌ من التعَبُّدِ، اختلقها بعض المتحزلقة من أهل المكر والحيل، باستيحاء من الأديان الوثنية. ثم استحسنها وتقبّلها من كان قد نال محبةَ الناس وثقتَهم من جهلة النسّاك دون رويةٍ حتّى راجت وانتشرت بين طائفةٍ ممن تعلّموا شيئًا من مقدمات العلوم فاستعانوا به في الدفاع عنها بطريقة التنطّع والتشدّق، ثم تطوّر الأمر هكذا مع الزمان إلى أن اشتهر منهم شيوخ تهافتت عليهم جماهير الناس؛ فسُحِرتْ العيونُ و انبهرت العقولُ بعزّهم وإقبال الناس عليهم؛ فظنّ كل من وجدهم في تلك الأبّهة والعظمة أنه على حق في كل ما يقوله ويفعله.
وإلاَّ فانّ الأمور الّتي استحدثوها باسم الدين، فانهم بالذات يقاسون حرجًا شديدًا بسبب عجزهم عن إثباتها وإقامة أدنى دليل على الربط بينها وبين الدين الإسلاميِّ، على الرغم من محاولاتهم ودفاعهم وهجماتهم بشكل مستميت. كما أنها لا تُعَدُّ من شؤون الدنيا في الوقت ذاته. كالسفر والتجارة والبناء والزراعة والفنّ والدراسة و ما إليها. وهذا قد أوقعهم في تلفيقات، وأربكهم في مواجهة العلماء وأثارهم على أهل النصيحة والإصلاح؛ كما تشهد على ذلك مقالاتهم وكتاباتهم و حتّى أشعارهم الّتي تفور بالهجوم والاستنكار واللوم والعتاب على غيرهم.
***
ومن تلفيقات النقشبنديّين: فقد ورد في رسالة كتبها خالد البغداديّ إلى أتباعه في إسطنبول، يحذّرهم من مخالطة عبد الوهّاب السوسيّ - الّذي مر ذكره في ترجمة خالد البغداديّ - يقول فيها:(64/471)
»فالآن أخبركم بأنّي و جميع رجال السلسلة تبرّأنا من عبد الوهّاب. فهو مطرود عن الطريقة. فكلّ من تصادق معه لأجل الطريقة، فليترك مُصادقَتَهُ و مُكاتبَتَهُ. و إلاَّ فهو بريء من إمداد هذا الفقير و إمداد السادات الكرام. و لا أرضى أن يكاتبني، وأنْ يستمدَّ همّتي بعد وصول هذا المكتوب إليه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 233.
يتبرّأ البغداديّ من كلِّ من يكون على صلةٍ مع عبد الوهّاب السوسيّ بعد هذا الخطاب؛ كذلك يهدّد مريديه: بأنّ جميع رجال السلسة أيضًا يتبرّؤن ممن يخالف نهيَه فيما حذّرهم عنه. ومعنى ذلك أنه اتصل بساداته الّذين هم ثمانية وعشرون شخصًا؛ ومنهم من مات قبله بمئات السنين. وربما يصدّقه كثيرٌ من الناس في ادّعائه هذا! غير أنه لا يكتفي بالتبرّؤ؛ بل يهدّد مخاطبَهُ بأنّه بريء من إمداده وإمداد ساداته؛ أي أنّ من تمادىَ في اتصاله بعبد الوهّاب السوسيّ؛ حُرِمَ من إمداد البغداديّ وكذلك من إمداد الثمانية والعشرين شخصًا الّذين استخلف بعضهم بعضًا على منصب الرياسة للطريقة النقشبنديّة بدءًا من أبي بكر الصدّيق إلى شيخه غلام علي عبد الله الدهلويّ؛ و أنه لا يرضى من أحد أن يستمد همّتَه إذا دامت علاقته مع خصمه المذكور!
فقد يصدّقه أناس في ادعائه هذا أيضًا؛ ولكنّ خالدًا نفسَه بالذات، يقول في رسالةٍ أخرى كتبها إلى عبد الله باشا حاكم أيالة عكّا:
» أمّا بعد فقد بلغني مرسومكم الحاوي لشدّة الاعتقاد و المبالغة في الاستمداد لطلب الذرية لكم. أمّا الدعاء، فقد صدر مني مرارًا. وأمّا الهمّة، فلستُ من أهلها«.(64/472)
لا يخفى على القارئ ما يبدو من التعارض بين محتوى الرسالّتين في قضية "الهمّةِ". وهي اسم يُطْلَقُ على إسعافٍ يقوم به شيوخ الصوفيّة في لمح البصر لمن يطلب منهم المدد (حسب اعتقادهم)؛ ويقولون في هذه الفرية: أنّ الشيخ يُغيثُ مريدَهُ متى استغاثه، ولو كان بينهما بُعدَ المشرق والمغرب!
فقد وقع البغداديّ في تلفيق شديد عندما قال في آخر رسالته معتذرًا: »ولئن سُلِّمَ، فلا تُستعمل الهمّةُ إلاَّ بعد ظهور أنّ المطلوبَ قضاءٌ معَلَّقٌ، وإلى الآن ما تبيّن كون مطلوبنا كذلك، لعمى بصائرنا بسبب البدع والشبهات« أسعد الصاحب، بغية الواجد، ص/ 85، 86؛ عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، (تذكار الرجال)، ص/ 54. بغداد-1979م. مستنسخ من قِبَل مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)
يدل كلام البغداديّ على أنّه يحاول أن يتخلّص بلباقةٍ من سوء ظنّ المخاطب حتّى لا يقع موقع الرجل الكذاب عند من يعدُّه من »كبار أولياء الله«، ويعظّمه ويبجّله معتقدًا فيه أنه يعلم الغيب؛ فيتذرّع بكثرة البدع والشبهات، وأنها هي الأسباب الّتي حجبته عن الإطلاع على أسرار الله!(64/473)
لقد بلغت الجُرأةُ في هذا الرجل على رب العزّة إلى حدٍّ، يطرد من يشاء من رحمة الله؛ ويهدّد الناسَ أنّه يحرّمهم من مدده إذا استهانوا بما نهاهم عنه؛ ويدّعي في الوقت ذاته أنّ سادته أيضًا متفقون معه في تهديداته! - أولئك السادة الّذين لا علاقةَ لعددٍ منهم بالطريقة النقشبنديّة بوجه من الوجوه، و لا بالصوفيّة، و لا بشخص البغداديّ بقرينة خاصّة؛ كأبي بكر الصديق، وسلمان الفارسي، وقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وجعفر بن محمّد الباقر، وغيرهم - يدّعي البغداديّ أنّ رجال السلسلة جميعًا قد تبرّؤوا معه من عبد الوهّاب السوسيّ - أولئك الرجال الّذين لا برهان للبغداديِّ أصلاً على وجود كثير منهم، فضلاً عن أنّ البقية قد بَلِيَتْ رفاتُهم، ولا علم لأحدٍ بأرواحهم أين حُشِرت، والعلم عند الله. كذلك لا يدري أحد: من كان منهم سعيدًا، ومن كان منهم شقيًّا؛ وأيّهم مات على الكفر، و أيّهم مات على الإيمان. لا يعلم ذلك إلاّ الله الواحد القهار.
بالخلاصة، فانّ هذا الرجل يرى نفسَه قائمًا على منصب النيابة عن الله، كما يظهر من عباراته. ويرى أنه قادر على أنْ يهب لعبد الله باشا ولدًا، (ولكنه لا يريد أن يستعمل همّتَهُ إلاَّ بعد ظهور المطلوب عما إذا كان قضاءًا معلّقًا). أي أن المطلوبَ لم يظهر له بعد، لو كان يتحقّق بشرط معيَّنٍ حتّى يُنَفِّذَ المشروطَ فور وجود الشرط.
يظهر لنا خلال هذا النسيج الملبّد من تلافيف الادّعاء والزندقة، أنّ التعارض والتلفيق الّذي وقع فيه البغداديّ في إطلاقه عَبْرَ هذه العبارات، لا ينحصر في وجه معيَّنٍ، بل يتعدّد متضاعفًا على وجوهٍ مختلفةٍ قد يُشغِل الباحثَ إذا دخل في تفاصيلها.(64/474)
تدعو المناسبة أن نذكر في هذا المعرض كلمات قد سجّلها معصوم الفاروقيّ في مسألة "القيّومية" إذ يقول »القيوم في هذا العالم، خليفة الله تعالى، ونائب منابه«. عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 192.
ولهذا ليس من الغريب أن يكون خالد البغداديّ قد نصب نفسَه على عرش النيابة عن رب العالمين، ليطرد من يشاء من الناس من رحمة الله، و ليُمِدَّ من استغاث به في لمح البصر و لو كان هو في المشرق والمستغيث في المغرب؛ كما ليس من الغريب أن يسيطر بأسلوبه الخاصّ على ضمير من غلبت عاطفتُهُ على عقله، متى استحسَّ البغداديُّ الحرجَ في إقناعه؛ كما مرَّ في جوابه لحاكم عكّا: أنه لا ينبغي أنْ يستعمل همّتَهُ، فيهب له غلامًا زكيًّا، إلاّ بعد أنْ يطلع على اللّوح المحفوظ، هل هناك احتمالٌ يبشّر بتحقيق مطلوب حضرة الباشا أم لا (!)
ومن تلفيقات النقشبنديّين وخلطهم، قولُ البغداديِّ: »ولا تزيدوا التكايا عمّا في عهدي«. محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 334. دار الفكر المعاصر؛ بيروت.
TDV.ISAM. 922.97 HAF.T. 29819-1 Istanbul
أوصى خالد البغداديّ خلفاءه بهذه الكلمات وقد اجتمعوا عنده لعيادته وهو على فراش الموت يترقّب منيَّتَهُ يوم أصيب بالطاعون. بينما التكيّةُ هي مركز الصوفيّة، ومكان اجتماعهم، ومعبدهم الّذي يقيمون فيه طقوسَهم، ويبثّون منه دعوتَهم. فكلّما ازداد انتشارهم بنوا تكايا أخرى في المناطق الّتي تخلو عنها، ليقوموا فيها بنشاطاتهم سدًّا للحاجة. وهي في نظامهم بمنزلة المسجد عند المسلمين.(64/475)
لذا يُستغرَبُ جدًّا أن يمنع خالدٌ البغداديّ خلفاءه من الإكثار من بناء التكايا وهو في آخر لحظاته من هذه الدنيا. نعم يُستَغرَبُ كلامُهُ هذا، لِتَعَارُضِهِ مع المقصود الذي يسعى النقشبنديّون من وراء تحقيقه سعيًا حثيثًا. وقد أعرب عن هذه الغاية خليفتُهُ محمّد بن عبد الله الخانيّ بقوله: »لأنّ هذه الطريقة هي الملامية المناسبة لما يكون عليه من الصحو الصدّيقي، و الرجوع إلى البقاء الأتمّ الحقيقي، بدعوة الخلق وهدايتهم إلى الحق برياستي الظاهر والباطن، وفتح القلاع والمواطن«. لمزيد من المعرفة حول تحليل هذه المقولة راجع الموضوع عن طريق الهامش رقم/457.
إذًا فما عسى هي الحكمة من هذه الوصية الّتي تدلّ على التراجع والانسحاب من ميدان الدعوة؟! هل تعني أنّ البغداديّ شعر بالندامة في لحظاته الأخيرة من حياته، و ثاب إليه رشده فتأكّد من خطر ما اقترف على الإسلام وما شارك في تدمير أركانه بنشر طقوس البرهمية وتعاليم اليوغية الّتي جاء بها من الهند، ونفخها في عقول الآلاف من البسطاء الّذين كانوا يعدّون أنفسهم من المسلمين؛ أم في تلك الوصية الغريبة أسرار أخرى تعجز عن دركها عقولنا اليوم! لا شكّ من أنها سوف تُفشى على رؤوس الأشهاد يوم التلاق.
***
و من التنازع والتضارب الّذي وقع بين أقوال النقشبنديّين وأفعالهم: أنهم على الرغم من اشتراطهم الخشوعَ والصمتَ أثناء الذكر، فانّ كثيرًا من مريديهم ودراويشهم يَنِطُّونَ فجأةً من مقاعدهم، وتَرْجُفُ أبدانُهم، وتتصاعد من حناجرهم أصواتٌ غريبةٌ بَشِعَةٌ، تختلف بين شَخِيرٍ وزَئِيرٍ وخُوَارٍ و عُوَاءٍ وصَهِيلٍ ونَهِيقٍ ونُعاقٍ وغيرها حتّى وهم يصلّون. بينما يسكت عن هذا اللغط ويتغاضى عنه شيوخهم، مع أنهم يشدّدون على لزوم الصمت والهدوء في جميع الأحوال، كما يؤكّد على ذلك ما جاء في آدابهم من أنّ الذكر القلبيَّ أولى وأفضل من الذكر باللسان.(64/476)
كذلك جاء في موسوعةٍ لهم: أنّ أحمد الفاروقيّ الّذي يعظّمونه بعنوان »الربّانيّ«، ورد فيه أنّه »كان صامتًا في غالب أوقاته مع جلسائه، و لم يكن أحد من المسلمين يُغْتاب في مجلسه، و لا يُذْكَرُ من عيبٍ فيها لأحدٍ. وتلاميذه كانوا يجلسون عنده في غايةٍ من الخشوع والأدب. و كان هو في منتهى الدرجة من التمكُّن والهدوء إلى حدٍّ من التأثير على تلاميذه، أنْ جعلهم يمتازون بالسكينة؛ على الرغم من حلمه المتزايد؛ كما لم يصدر منه أيضًا شيء من الوجد والصراخ؛ و لا حتّى أثرٌ من تأوُّهٍ بصوتٍ يُسمع«. عرّبناه من اللّغة التركية من ترجمة أحمد الفاروقيّ بعد الاقتباس من:?slâm Alimleri Ansiklopedisi 15/341
تتميّز بتلك الحالات الغريبة خاصّة فرقةٌ منهم في جنوب شرق تركيا. لهم مقرٌّ بقرب مدينة آديامان. قيل اعتذر شيخهم مرارًا عما تصدر من مريديه من حالات الاضطراب أثناء صلاة الجماعة والحفلات والطقوس. وزعم أنها حالات تعرض لهم دونما اختيار منهم. ولكن الحقيقة غير ذلك. فالواقع، أنّ هناك جماعة مدسوسة بينهم من رجال المخابرات، هم مكلّفون بأعمال الدعاية لهذا الشيخ. ومنهم عدد، مهمّتُهم التواجُدُ، والتباكي، والتظاهر بتلك الأصوات الغريبة لتهييج الرعاع السذّج من الزائرين، وإثارة الشوق فيهم، على أنّ لهذا الشيخ تأثيًار عظيمًا في قلوب الناس، والشيخ متواطئ في الحقيقة معهم.(64/477)
و أمّا التأكّد من هذه الحيلة، فليس فيه شيء من الصعوبة على الباحث اللّبق المتفتح. ذلك أنّ الّذين يحتفون بهذا الشيخ خاصّة، يمتازون عن بقية طبقات الناس في تركيا بعقليتهم البسيطة، ويعانون من الفقر العلميِّ والثقافيِّ لأنّ غالبهم من أهل الريف، ومن الطبقة المتواضعة المستضعَفَةِ من سكّان الأكواخ بأطراف المدن. أمّا الرجال المدسوسون في صفوفهم، المكلَّفون بنشاطاتٍ دعائيةٍ، الّذين يقوم عددٌ منهم بإثارة المشاعر، واجتذابها بتلك الأصوات الغريبة. كلهم مثقّفون. منهم عدد من الضباط المتقاعدين المتخصّصين في استراتيجية التوجيه والإثارة والتكييف لتسهيل الاستغلال، و فيهم أيضًا عدد من الموظّفين المدنيّين وعدد من المهنيّين.
***
ومن تلفيقات النقشبنديّين، ما وقع بين أقوالهم و أفعالهم من خلاف وتعارض و تناقض: وَرَدَ أيضاً في نفس الموسوعة الّتي مرّ ذكرها آنفًا، أنّ الشيخ طه الهكّاريّ أخطر أصحابَه بأنّه غير موافق على عمل البناء فوق القبور. ونهاهم عن الإقدام على إقامة أيّ بناء فوق مرقده إذا مات. المصدر السابق، 18/253. و مع هذا نجد الكثيرين منهم يتسابقون في إقامة الأبنية على ضرائح شيوخهم. وعلى سبيل المثال فقد بُنيتْ قبّةٌ عملاقةٌ فخمة على قبر الشيخ محمّد الكُفْرَويّ بمدينة بدليس. وهو خليفة الشيخ طه الهكّاريّ الّذي نهى عن البناء على القبور. كذلك بُنيت قبةٌ عظيمةٌ فوق ضريح الشيخ محمّد الحزين الحسني الهاشمي بقرية فُرساف، من ضواحي مدينة سعرد. وهو قريب الشيخ طه الهكاري في النسب وقرينه في المشرب؛ وقبة على قبر نجله الشيخ فخر الدين في قرية أربنة بالمنطقة نفسها. وثَمَّ قبور أخرى لمشائخ النقشبنديّة في مناطق مختلفة من البلاد، مبنية ومزخرفة، يتوافد عليها جموع من الزائرين باستمرار.(64/478)
ومن تلفيقات شيوخ النقشبنديّة، أنهم ينصحون أتباعهم دائماً بمراعاة جانب التواضع والعفّة واللّين والتذلّل، وهم في عكس ذلك من الأبّهة، والإكثار من الخدم والحشم؛ مما يدلّ على حبهم للشهرة والرياسة؛ ويؤكّد على ذلك ما جاء في كتبهم من المبالغة والغلوِّ والإفراط في تعظيم الخلف للسّلف؛ ولكنّ بشاعة الحيلة في تلك العبارات تظهر بثبوت تواطؤهم عليها
وكمثال على ذلك: يسترسل محمّد بن سليمان البغداديّ في مدح شيخه (خالد البغداديّ)، فيقول: »هو (...) العالم العلاّمة، والعَلَمُ الفهَّامة، مالك أزمّة المنطوق والمفهوم، ذو اليد الطولى في العلوم، من صرفٍ ونحوٍ وفقهٍ ومنطقٍ ووضع ٍوعروضٍ ومناظرةٍ وبلاغةٍ وبديعٍ وحكمةٍ وكلامٍ وأصولٍ وحسابٍ وهندسةٍ واصطرلابٍ وهيئةٍ وحديثٍ وتصوّف...« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 42. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
يبدو أنّ محمدا بن سليمان البغداديَّ لم يتعرّف بعدُ على أسماءِ أهمِّ العلومِ العقليةِ من طبٍّ واقتصادٍ واجتماعٍ وتاريخٍ وجغرافيةٍ وفيزياءٍ وكيمياءٍ وغيرها من الأساسيات، ليضمّها إلى ما ذكر من العلوم التمهيدية، أو لم يفطن أصلاً إلى أنّ الأساسيّات هي من أشرف العلوم؛ فرآها مما تحطّ من شأن زعيمه، فاكتفى بما هو مقبول في مظنة أهل عصره، ذلك مبلغه من العلم!
يواصل المؤلف امتداحه لشيخه في مواطن عديدة من حديقته، فيقول في مقطع أخر:(64/479)
»بشّره شيخه ببشارات كشفية قد تحقّقت بالعيان، وحلَّ منه محلّ إنسان العين من الإنسان، مع كثرة تصاغره بالخدم وكسره لدواعي النفس بالرياضات الشاقة وتكليفها خطط العدم؛ فلم تكتمل عليه السَّنَةُ حتّى صار الفردَ الكاملَ العلمَ، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل الأعظم، (...) وشهد له شيخه عند أصحابه، وفي مكاتيبه المرسولة إليه بخطه المبارك بالوصول إلى كمال الولاية وإتمام السلوك العادي مع الرسوخ والدراية، والفناء والبقاء الأتمّين المعروفين عند الأولياء...« المصدر السابق ص/ 53، 54.
نعم لقد تظهر الحيلة أمام عيوننا بكلّ وضوح على أنهما متواطئان ومشاركان في صياغة هذه العبارات بالدليل القاطع من خلال كلمات محمّد بن عبد الله الخانيّ في مقدّمة كتابه البهجة السنيّة، وهذه ألفاظه:
»وأحسن كتاب أُلّفَ في بيان طريقتنا الخالدية النقشبنديّة (...)، كتاب الحديقة الندية الّذي ألّفه العالم العلاّمة والحبر البحر الفهَّامة، سيدي الشيخ محمّد بن سليمان البغداديّ الخالدي النقشبنديّ. لأنه ألّفه في حياة جناب حضرة سيدنا ومولانا قطب العارفين، وغوث الواصلين، أبي البهاء، ضياء الحق والحقيقة والدين، شيخنا ومرشدنا الشيخ خالد النقشبنديّ المجددي (...)؛ حتّى أنه مرة سألني:
ـ ما تقرأ للمريدين؟
فقلت: كتاب الحديقة الندية.
فقال: هل هي فصيحة العبارة؟
فقلت: لا يكون في الدنيا أفصح منها.
فقال: كلّها من عبارتي.
فتحقّق عندي أنه يجمع العبارات، والشيخ محمّد بن سليمان يرقمها ويعزوها لنفسه.« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3.(64/480)
ومن تلفيقات النقشبنديّين، كلمات لمحمد بن سليمان البغداديّ أيضًا، يقول فيها: »وبلغنا أن الإمام الشافعيَّ رضي الله عنه، كان يجالس الصوفيّة كثيرًا؛ ويقول يحتاج الفقيه إلى معرفة اصطلاح الصوفيّة، ليفيدوه من العلم ما لم يكن عنده.« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 23. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992. بينما جاء في تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي عكس ما ورد في العبارات المنقولة آنفًا. فيقول ابن الجوزي: »وبإسناد عن يونس بن عبد الأعلى، قال سمعتُ الشافعيَّ يقول: "لو أنّ رجلاً تصوّفَ أوّلَ النهار، لا يأتي الظهر حتّى يصير أحمق لعل بُغْضُ الأتراك للشافعيين، ناشئ من قول الشافعي هذا. وهناك سبب آخر لهذه الكراهية: وهو أنّ غالب الشافعيين في تركيا هم عناصر كردية وعربية؛ أما الأتراك، فانهم يستوحشون من غير بني جلدتهم. وكذلك الأفغانيون المتعصبون لمذهب أبي حنيفة، يستقذرون الشافعية ويعدّونهم من الأنجاس! هذا على الرغم من أنّ غالب سكان تركيا وأفغانستان ـ سواء الشافعية منهم والأحناف ـ ينتمون إلى طرق صوفية؛ بل وأكثرهم نقشبنديون! وما أدل هذا الفوضى على جهل الأعجام الّذين لم يتذوقوا حلاوة الإيمان، ولا أصابوا بحظّ من الذوق السليم والإحساس بجمال الإسلام وعظمته وفهم حقائقه من قديم الزمان. وعنه أيضًا أنه قال: "ما لزم أحد الصوفيّة أربعين يومًا فعاد عقله إليه أبدًأ.« * أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تلبيس إبليس ص/ 371. مكتبة الشرق الجديد، بغداد بلا تاريخ. فلابد وأنّ أحدَهما صادقٌ والآخرَ كاذبٌ فيما نَسَبَ كلُّ واحدٍ منهما إلى الإمام الشافعي من ألفاظٍ نقلناها آنفًا. ولكنّ ابنَ الجوزيَّ الّذي تُوُفِّيَ عام 597 من الهجرة، هو أقدم من محمّد بن سليمان البغداديّ الّذي توفّي سنة 1234هـ. و بالتالي هو أقرب إلى الصواب في دعواه ،باعتبار أنه عالم معتَبَرٌ ومعترَفٌ به بين سائر(64/481)
علماء الإسلام منذ عهده إلى اليوم. وهناك تلفيقات أخرى مرتبطة بهذا، تضاعف ما وقع فيه النقشبنديّون من التعارضِ مع أنفسهم، والارتباكِ الشديدِ الّذي انزلقت به أقدامهم. ذلك أنهم يعظّمون أبا الفرج، ويعترفون بفضله. ولا يُتَوَقَّع أن يرميه أحدهم بالكذب. والدليل على ذلك ترجمته الواردة في موسوعة النقشبنديّين. فقد أطنب الكاتب في عدّ فضائله؛ ونقل عنه أنه خطَّ بيمينه أسفارًا يبلغ عددها ألفين؛ وأنه أسلم على يده من اليهود والنصارى أكثر من عشرين ألف شخص. ?slâm Alimleri Ansiklopedisi 6/180
ولهذا فان النقشبنديّين الّذين يوافقون محمدًا بن سليمان البغداديّ، كلهم مسئولون عما قد نَسَبَ إلى الشافعي من تلك الألفاظ المنقولة في كتابه الحديقة الندية؛ وكذلك مسئولون عن إثبات الصحة لهذا الإسناد حتّى يتميّز الصادق من الكاذب؛ وإلاّ وقعوا معه موقع المشارك فيما قال. وأما الّذين لا يوافقونه فانهم يكذبونه حكمًا، ويكون موقفهم في مقام الإعلان بتكذيب شيخ من كبار الروحانيين في الطريقة الّتي يشملهم الانتساب إليها معه، وبالتالي يكذبون أنفسهم في الوقت ذاته. وهذا تلفيق شنيع تَدْهَشُ منه العقول!
***
ومن تلفيقاتهم؛ كلمةٌ قالها أحمد الفاروقيّ تحديثًا عن رأيه وعقيدته في مسألةِ وحدةِ الوجودِ. قال: »ثمّ وجدتُهُ تعالى في الأشياءِ، بل في نفسي«؛ بعد أن قال »وجدتُ اللهَ عين الأشياءِ« راجع الهامش/210، 428.
فإنَّ كلمةَ "تعالى" الواردة في عبارته على سبيل التنزيه لله، تتعارض مع ما يعتقده بأنّ الله عينُ كلّ شيءٍ. لأنّ الله سبحانه إذا كان عينَ كلِّ شيءٍ في اعتقاد الفاروقيّ، فليس "كلُّ شيءٍ" يستحقُّ التنزيهَ من النواقص. إذ يشتملُ تعبير "كلُّ شيءٍ" على الشريف والخسيس؛ وعلى الطاهر والنجس، وعلى الكلبِ والخنزيرِ اشتمالاً عامٍّا؛ وبالتالي تكون الأقذارُ والنجاسات والقمامة وحتّى الكلابُ والوحوش بتمامها من جملة "كل شيءٍ".(64/482)
إذن فما عسى الحكمة من استعمال الفاروقيّ كلمة "تعالى" إذا كان قد أراد بها أن ينزّه الله عن النواقص فيميّزه عن سائر خلقه بهذه الصيغة الملفّقة؟!
ومن التعارض الّذي يتخبّط فيه النقشبنديّون، مناقشتُهم حول جواز أكل اللحم.
لقد وردت في إحدى رسائل خالد البغداديّ عبارةٌ استفهاميةٌ على سبيل الإنكار يردّ بها على من يعتقد أو يتوهّم حرمةَ أكل اللحم.
يقول البغداديّ فيها باللّغة الفارسيّة:
»آيا كدام كتاب ديده اند كه بيغمبر خدا - صلى الله عليه وسلم - كوشت نخورده، و يا أز خوردنش نهي فرموده باشند؟!« عبد الكريم المدرس, منشورات المجمع العلمي الكرماني - تذكار الرجال - الجزء الأول ص/26. (الصورة المستنسخة من قبل مكتبة الحقيقة، والمطبوعة مع رسالة المجد التالد ومكاتيب شريفة ضمن مجلد واحد). إسطنبول-1992م.
ومعناه بالعربية:
»ويحك! في أي كتاب شاهدوا أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل اللحم، أو نهى عن أكله؟!«
قد يتراءى للقارئ في هذا الاستنكار الحماسيِّ أنّ خالدًا يردّ على متطرّفٍ يحرّم ما قد أحلّه الله. ولكن الحقيقةَ غامضةٌ في هذا الحوار. إذ قد يكون خالدٌ يستعمل لباقتَه في مثل هذه العبارة ليُزيلَ الشكُوكَ حول ما تتناقله اللُّسُنُ من آثار الديانة البوذية في سلوك بعض الروحانيين السابقين من شيوخ النقشبنديّة مثل كراهية أكل اللحم وغيرها.
ومن أشد نماذج الخلاف والتعارض بين أقوال النقشبنديّين و أفعالهم: أنهم في الوقت الّذي يتبرءون من البدع ويستبشعونها ويحذّرون منها حتّى أحيانًا بدون مناسبة؛ تراهم يتعبّدون بأشكال غريبة لا تمتُّ إلى الإسلام بأدنى صِلَةٍ، كما سبق شرحها بالتفصيل. ومع هذا يأتون ببدعٍ أخرى غريبة، بحيث يختلفون فيها حتّى مع بعضهم البعض.(64/483)
منها أنّ طائفةً من هذه النحلة بمدينة سعرد، إذا مات شيخٌ من شيوخهم ضربوا على الدفوف أمام جِنَازَتِهِ أثناء التشييع من المصلّى إلى المقبرةِ. وآخِرُ مَنْ أُقيمت هذه الحفلة أثناء تشييع جنازته، الشيخ محمّد موسى الكاظم الحزيني. وهو من أحفاد الشيخ محمّد الحزين الفُرسافي الهاشمي رثاه بعض مريديه بهذه الكلمات:
زر ذا المقام ففيه شيخ كامل من في الكروب لنا عليه معول * نجل الحزين الشيخ محمّد كاظم من فضله في الناس ليس يجهل
وتأدّبن بحضوره وتوسّلن به فالتوسل عند ربه يقبل * يا ربنا غمده منك برحمة واجعل له الجنات فيها يرفل
فلنعمما قد جاء في تاريخ قبته الشريفة إذ نزان فتكمل * واجعل مكانه ربنا الفردوس في دار البقاء يأوي إليه ويجزل.
والغريب، أنّ البقية من شيوخ هذه الطريقة لا يوافقونهم على هذه البدعة. بل الغالب من أولئك يجهلونها تمامًا، ولا علم لهم بهذه العادة، لخمولِهِمْ وانعزالِهِمْ وسوءِ مستواهم الاجتماعي، وقلة اهتمامهم بما يجري حتّى في بعض المناطق من بلادهم. و لو أنّ شيوخ الأتراك النقشبنديّين، بلغهم خبر هذه البدعة لربما اتهموهم بالكفر والزندقة. وهذا ايضًا يدلّ على الشقة البعيدة بين جماعات النقشبنديّين، وعلى مدى التعارض والتناقض بين عاداتهم واتجاهاتهم و معتقَداتهم.
إنّ هذه البدعة تبرهن في حدِّ ذاتها على مخالفةٍ أخرى يقترفونها ضمنيًّا. وذلك لابد أنهم يعتقدون بفضل الشيخ على سائر الناس، وأنه أكرمهم عند الله رجمًا بالغيب؛ فيرونه مستحقًّا للتعظيم بشكل مخصوص حتّى بعد موته. وهو القيام بإجراء الحفلة الخاصّة للتشييع، والضرب على الدفوف من المصلّى إلى المقبرة. فانّ توقيرَ جموع المريدين وتعظيمَهم لشيوخهم بهذه الصورة خاصّةً، يدلّ دلالةً قطعيةً على هذا الاعتقاد الّذي يُنْبئ عن دعوى بعضهم أنه يعلم من هو أكرم عند الله، وإنْ لم يفصح عن هذه الحقيقة احترازًا من ردِّ فعلٍ قد يصطدم به.(64/484)
كذلك ثمة بدعة أخرى يمارسها النقشبنديّون الأكراد في المنطقة الشرقية، بينما يجهلها النقشبنديّون الأتراك. إذ لا يمكن أن يسكتوا عنها لو قرع خبرُها سمعَهم. ألا وهى أنّ شيوخ النقشبنديّة في المنطقة الكرديّة يستعملون الدخان داخل المساجد على غرار الرافضة الإيرانيّين؛ وربما بتأثير الجوار. هذه العادة كانت منتشرةً في القرى دون المدن حتّى السنين الأخيرة. لأنّ الرقابة كانت مقتصرة على المساجد في المدن. وكان أهالي القرى يخضعون لهيمنة شيوخ هذه الطائفة. فلم يملك هناك أحدٌ جرأة الاعتراض عليهم بحكم الظروف. إلاّ أن البدعة المذكورة قد اختفت في معظم أنحاء المنطقة بعد سهولة الرقابة عليها.
يتضح من خلال هذه الأمثلة الّتي هي قطرة من بحر، أنّ التلفيق والتعارض والتضارب الّذي تتمرّغ فيها الطائفة النقشبنديّة لا حصر لها في واقع الأمر.
***
* أمثلة من معاداةِ النقشبنديّين فيما بينهم، ومُنَاهَضَتِهِمْ وتَبَاغُضِهِمْ وتَشْنِيعِ بَعْضِهِم البعض...
لقد وقع النزاع والمنافرة بين كثير من شيوخ هذه الطائفة قديماً وحديثًا؛ فضلاً عما قد جرتْ بين متأخريهم والمعاصرين منهم من مشاحنات ومشاتمات يعفّ اللسان عن نقلها. وإنّما طرقنا هذا الجانب من سلوكهم لعلاقته الحميّة بهذه الدراسة من باب التكملة، وليكون عبرة لأؤلي الألباب. فغدتْ براهينَ قاطعةً، على أن الصورةَ الحقيقيةَ لغالب مشائخ هذه النحلة تتوارى خلفَ صورةٍ عابرةٍ، تظهرُ للناسِ لطيفةً، نورانيةً مُشرقةً على خلاف الواقع تمامًا.
كذلك استفزازاتُهُمْ وهجماتُهُمْ على المعترضين بإطلاق صفة "المُنْكِرِ" على كلّ مَنْ ينصحهم أو يحذِّرُ المسلمين من البدع؛ واعتداؤُهُمْ على المعارضين بإحراق مؤلَّفاتهم، تدلّ على الحقد الّذي يُضمرونه لمن لا يستسلم لهم.(64/485)
لقد مرّتْ في ترجمة خالد البغداديّ نُبْذَةٌ من قصّته مع زميله أو خليفته عبد الوهّاب السوسيّ الّذي كان هو الآخرُ نقشبنديَ المشرَبِ، مأذونًا من غلام على عبد الله الدهلويّ. ولكن لا ندري ما الّذي جعله ينوب عن خالد البغداديّ في بثِّ طريقته حتّى اندلعتْ بينهما معركةٌ ضارية انتهت بتدخُّل السلطان العثمانيّ وحُكْمِهِ على عبد الوهّاب السوسيّ بالإقامة الجبرية في المدينة المنورة. ولكن الّذي يدل على مدى حقد النقشبنديّين على بعضهم البعض في هذه الحرب الشعواء، هو عاقبة تلك الرسالة الّتي يزعمها الخالديّون أنّ عبد الوهّاب السوسيّ كتبها واتَّهَمَ فيها خالدًا بالشعوذة والكفر والزندقة.
إذًا لم تقتصر مناهضةُ البغداديّ للسّوسيِّ على تلك الرسائل الثلاثة الّتي بعثها إلى مريديه بإسطنبول، والّتي حذّرهم فيها من مخالطته. بل يبدو أنّ تلك الهجمات بلغتْ من الشدة إلى حدٍّ دفعتْ الخالديّين ليسحقوا بالسوسيِّ فيجعلوه هشيمًا تذروه الرياح. والله يعلم ماذا فعلوا به وبكلّ ما كتبه؛ ولربما دمّروا قبرَه بفرصةٍ ملكوها فور موته، قبل أن يدمِّره الوهّابيّون! بينما قبرُ خالد البغداديّ مشيَّدةٌ "في سفح قاسيون" بدمشق، يزوره كثير من النقشبنديّين.
ولكن الّذي يجب أن نقوله في النهاية: هو أنّنا لم نعثر حتّى على حرف واحد من رسالة عبد الوهّاب السوسيّ، رغم ما بذلْنا من جهود بالغة طوال مدةٍ أكثر من خمسة أعوام نطارد ورائها بسعيٍ دؤبٍ من مكتبةٍ إلى أخرى في بلدان الشرق الأوسط، إلاّ السطور اليسيرة الّتي نقلها ابن عابدين ضمن رسالته "سل الحسام الهنديّ لنصرة مولانا خالد النقشبنديّ" محمّد أمين عابدين، سل الحسام الهنديّ...ص/ 5.(64/486)
كذلك عثرنا على رسالةٍ أسمها "عين الحقيقة في رابطة الطريقة" لرجلٍ تولّى الإفتاءَ بمدينة أدرنه في أواخر العهد العثمانيّ وهو محمّد فوزي - على ما يبدو من إقراره في الديباجة-؛ كتبها باللّغة التركية العثمانيّة، وتصدّى فيها للرّد على شخصٍ لم يذكر اسمَه، ولا عنوانَ كتابِهِ الّذي أصدره في الردّ على الرابطة سوى ما نقل منه المفتي سطورًا يسيرةً.
لعلّ ما فعل النقشبنديّون بعبد الوهّاب السوسيّ، فعلوا بهذا الرجل أيضًا، حتّى بقي اسمه مجهولاً لم تصل إلينا أخباره، ولا حتّى صفحةٌ واحدةٌ من كتابه، ولا وقف أحدٌ على ما قد تعرّض له من سوءِ عاقبةٍ!
***
كذلك الأسرتان الأرواسيةُ والكُفْرَويّةُ، نشبت الفتنة بينهما في استغلال شهرة الشيخ طه الهكّاريّ منذ أواسط القرن الماضي، ودامت حتّى يومنا هذا؛ كما مرّتْ قصتُهما بالتفصيل.
ولقد اشتدّ الحقدُ والعداوةُ بينهما إلى حدود، كان يرمي كلٌّ منهما الآخر بالكفر والزندقة والنفاق والدجل. بينما كانت جماعات الأكراد التابعة لكلٍّ من الأسرتين، تعظّمها وتصف أفرادها بالعصمة من الذنوب، وأنهم أولياء الله وصفوة عباده. فكم سمعنا بآذاننا من مريديهم يقولون »لو وجدنا كأس الخمر بيد أحد من أولاد مولانا الشيخ، لاعتقدنا بأن الله قد أحلّ ذلك له خاصّة، أو أحاله إلى ماء زمزم!«
لمّا بلغت الخصومةُ حدَّها بين الأسرتين المذكورتين، تعدّتْ بالتأثير إلى جماعةِ كلٍّ منهما بحكم الانتماء. فتسلسلتْ وسرتْ العداوةُ بين طبقات الناس واستمرّتْ عبر الأجيال، فكانت أحيانًا تتطوّر إلى نقاشٍ وقتالٍ في بعض المناطق. و مما يُدهش الإنسانَ من هذه الأحداث: أنّ أتباع الأسرةِ الكُفْرَويّةِ إذا علموا بدخول شخص من مريدي الأسرة الأرواسية إلى مسجد بمنطقتهم، وقد صلّى فيه ومضى؛ ـ إن لم يكونوا قد تمكّنوا من منعه ـ أخرجوا جميع ما فيه من البساط والسجادات، وغسلوها تطهيرًا على أنها تنجّست بدخوله!(64/487)
كما لا نعثر حتّى على اسمٍ واحدٍ من كبار الأسرة الكُفْرَويّةِ في الموسوعة الّتي أعدّها النقشبنديّون من جماعة الأرواسيّين، بإشراف عقيد متقاعد سبق ذكره أكثر من مرة للمناسبة. لم يَقِفُوا منهم هذا الموقفَ السلبيَّ، ولم يُهملوا أسماءَ مشاهِيرِهم إلاّ على سبيل النقمة منهم والازدراء بهم، على أنهم ليسوا من أهل الصفاء والعرفان و الإرشاد إلى الطريقة النقشبنديّة.
ومن نماذج التباغض بين النقشبنديّين، أنّ مشائخَ الأسرة الأرواسية وأتباعَهم من التاغيّين الأكراد إذا علموا أنّ شخصًا من مريدي الشيخ محمّد الحزين الهاشمي قد حضر ليشترك في حلقة الذكر معهم، رفضوه وأمروه بالخروج من الحفلة بحجة أنّه غير طاهر، وأنّ توبته غير مقبولة وبيعته غير صحيحة.
ذلك أنّ الشيخ محمّد الحزين كان قد ألغى عددًا من آداب النقشبنديّة. منها، عدّ ألفاظ الورد بالحصى. كان قد أجاز لمريديه أنْ يعدّوا أورادهم بالمسبحة ومن غير تحديد؛ وكذلك لم يأمر أحدًا بالإغتسال خاصّة عند أخذِ البيعةِ منه إذا كان طاهرًا من الحدث الأكبر والأصغر بخلاف مشائخ الأكراد؛ فحملهم ذلك على بغضه واحتقارهم لمريديه؛ كما كان هو الآخر لا يعترف بهم.
هذا وقد ظهر منذ سنين قليلةٍ رجلٌ بمدينة ساكاريا اسمه عمر أونكوت، واشتهر بين جماعةٍ في تلك المنطقةِ بصفةِ شيخٍ مأذونٍ في الطريقة النقشبنديّة، قام بشنِّ هجومٍ رهيبٍ على جميع شيوخ هذه الطائفةِ المشهورين اليوم في تركيا.
أقنعَ هذا الرجلُ جماعةً من الشباب وتمكّن من الهيمنةِ على أدمغتهم وضمائرهم، فأكبّوا على كتابة كلِّ ما نطق به. فصدر له عددٌ كبيٌر من رسائلَ وكُتيباتٍ بمساعدتهم؛ كلُّها مشحونةٌ باتهاماتٍ رهيبةٍ وشتائمَ بذيئةٍ ينبو عنها السمع. وجّهها إلى عددٍ من شيوخ النقشبنديّة.(64/488)
منها، - على وجه الخصوص - رسالة أصدرها تحت عنوان "حقيقة السليمانيّين" ?mer ?ngüt, Süleymanc?lar?n ?çyüzü. Hakikat Publishing Edition V. ?stanbul-1994 وهم أتباع سليمان حلمي طوناخان. استعمل فيها لهجةً شديدةً، اتهم الطائفةَ عَبْرَها بغصب أموال الناس وارتكابِ سلسلةٍ من الجرائم والجنايات ورماهم بالكفر والفسق!
وَرَدَ على غلاف هذه الرسالة من اتهاماته الْمُوَجَّهّةِ إلى الطائفة المذكورة بالحرف الواحد: »أنّ دينَهم دينارهم، وخُلُقَهُمْ غصبُ أموالِ الناس، ودأبَهم التكفّفُ والتسوّلُ...«. ومن كلماته الّتي شنَّعَ بها على رئيسَ الطائفة، وزوجَ ابنةِ سليمان حلمي، (المحامي كمال قاجار)، قوله: »يَظْهَرُ من ألفاظ السليمانيّين أنّهم قد جعلوا من هذا الكافر الأحمر صنمًا يعبدونه!« المصدر السابق ص/42.
استعمل عمر أونكوت الأسلوب نفسه في حقّ كلٍّ من محمود أفندي (رئيسِ النقشبنديّين من أبناءِ منطقةِ لازستان)، ورئيسِ جماعةِ النور، ونجم الدين أرباكان (رئيسِ الوزراءِ الأسبق)، وجمال الدين قبلان الّذي أعلن الحرب على النظام اليهوديِّ الحاكم في تركيا بعد أن انتقل إلى آلمانيا ونادى بقيام "دولة الخلافة"(!)
أمّا الدعاوي الّتي قد رُفِعت ضدّ عمر أونكوت من قِبَلِ جهاتٍ وأشخاصٍ مختلفةٍ إلى المحاكم التركية حتّى الآن، فقد انتهت كلُّها ببرائتِهِ، على الرغم من تهوّراته وشتائمه وتهديداته. وهذا يدلّ بصورةٍ قطعيةٍ على أنّه مدعوم من قِبَلِ جهازٍ مخصوصٍ لضرب النقشبنديّين بعضَهم في بعضٍ. بل يهدف الأمر فوق هذا إلى التحقُّقِ من موقف المسلمين في الوقت ذاته!
هكذا استمرّ التباغض والتنافر بين الطرفين، كما وقعت منازعاتٌ شديدةٌ بين عددٍ آخر من شيوخ هذه الطائفة على الرغم من وحدة كلمتهم في تعظيم هذه الطريقة والدعوة إليها.
***
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين.(64/489)
لقد وردت في كتب النقشبنديّين عباراتٌ هاجموا بها مَنْ خالفهم في أقلِّ شيءٍ مما أقرُّوه فضلاً عمن ردّ عليهم وناهضهم. إن تلك العبارات قد بلغت من الشدة أقصاها في بعض المواطن، وتجاوزت حدودَ النقد العلميِّ إلى ما يتعفّف اللسان من نقله من كلمات جارحة تختلف بين لوم وعتاب وطعن وشتم مُقذعٍ وسبٍّ ماجن.
يبدو مما قد صرفوه بألسنتهم وأقلامهم من هذا القبيل، أنّ أحدَهم إذا أراد أن ينال من خصمه أطلق القيود، وقذف ما في صدره من كلّ ضغينةٍ على وجه التعميم، وأطفأ غُلَّتَهُ على حسب إتقانه من فنون الطعن والنكير، وعدّ المثالب، والمساس بالكرامة ما يحمرّ له وجه الجسور!
وعلى سبيل المثال: يتخيّل محمّد بن سليمان البغداديُّ معشرًا من الناس - سماهم المتفقهةَ في المذاهب - فتحامل عليهم بعد أن استثنى الفقهاءَ منهم ليبرّر بذلك حجّتَه وحتّى لا يُرْميَ بعموم التعدّي على العلماء، بينما هو في صدد الرمي بكلّ من لا يوافق الصوفيّة كما يبدو من سابق عباراته، ولربما كان يلاحظ خصمَه بالذات في ذهنه إذ هو يرقم هذه الكلمات، فيقول:
»فانّ المتفقهة قاصرون، ومرادهم أنْ يُعرَفوا بين الناس بالعلم والفقه لأجل أغراضٍ شيطانيةٍ يريدون إنفاذها، وشهواتٍ نفسانيةٍ يحاولون إيجادها؛ فيضطرّ بهم الأمر إلى التفتيش عن عيوب الناس، فكيف يؤوّلون شيئًا مقصودهم التفتيش عليه. ومتى ظفروا بوجهٍ فاسدٍ في حال إنسانٍ، فكأنما ظفروا بملك الدنيا...« محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 95. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
ثم ينهال على هؤلاء الخصوم الخياليّين بالدعاء فيقول: »خذلهم الله وأذلّهم إن لم يكن لهم نصيب من الهداية والتوفيق.« المصدر السابق ص/97.(64/490)
اعتاد النقشبنديّون إطلاقَ كلمة "المُنْكِرِ" على كلِّ من رأوا فيه شيئًا من مخالفتهم، فَتَكَرَّرَ وتضاعف استعمالهم لهذه الكلمة وما صَاحَبَهَا من عباراتٍ لاذعةٍ حتّى اجتمعتْ، فتكوّن منها رُكامٌ ضخمٌ بحيث يناسب أن يعبَّر عنه بأدب الشتم والتهكُّم في أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين؛ وهذه أمثلةٌ منها:
قال صاحب الحديقة الندية الآنف ذكره في صدد الدفاع عن: خالد البغداديّ :
»فأنكر عليه بعضُ من لا خلاق لهم، لِمَا أنَّ سوقَهم ببضائعه الغزيرة كسد، فمنهم من أنكر أصلَ الطريقة وقال لا شيء يوصل إلى الله تعالى غير ما لدينا من ظواهر الفقه وما نحن عليه من السلفية...« المصدر السابق ص/ 5.
وقال أيضًا »فسبحان من جعل المحاسن مساويًا، والمساوي محاسنًا في أعين المنكرين أهل الغرور.« المصدر السابق ص/100.
وقال ناقلاً عن عبد الغني النابلسي من بحثٍ يتعلّق بالجذبة، فقال »وهي حالةٌ شريفةٌ وإن أنكرها كثير من المتفقهة القاصرين في الزمان لبعدها عنهم من قسوة قلوبهم...« المصدر السابق ص/104.
وقال أيضًا »إن شيخَنا (...) كيف قطع منازل السلوك، ووصل إلى حد الإرشاد والتسليك إلى ملك الملوك برحلته الهندية الكاملة بثلاث سنين، مع أنّ كثيرًا من الأولياء لم يقطعها بستين. فنقول ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا حَجْرَ على الفضل الإلهي الخارج عن حيطة عقول العقلاء؛ فليت شعري ما يقول هذا المنكر في وصول من وصل إلى الكمال بأقلّ من يوم.« المصدر السابق ص/109.
إنّ قائل هذه الكلمات (محمّد بن سليمان البغداديّ) هو من كبار خلفاء خالد البغداديّ، إنه يتعجّب كيف اكتملت رحلة شيخه إلى الهند في ظرف ثلاث سنين. لأنّ هذه المدة في نظره قصيرة جدًّا غير كافية لقطع تلك المسافة الشاسعة. ولذلك يدّعي »أنّ كثيرًا من الأولياء لم يقطعها في ستين عامًا«(64/491)
يُحبَّذ لو بعث الله هذا الرجلَ من قبره فوقف برهةً على إمكانات هذا العصر، ثم وجد الناس على اختلاف أجناسهم ودياناتهم بما فيهم من الكفار والمشركين والزنادقة والمنافقين والفجرة والمجرمين، كيف يقطعون اليوم أضعافَ مسافاتِ ما بين العراق والهند، بل وكيف ينفذون من أقطار السماوات والأرض في ساعات معدودات؛ لانْبهر وطاش عقلُهُ، ولتصبّب جبينُهُ عرقًا مما سجّل في حديقته من تلك الألفاظ الّتي لم يَعُدْ لها أيُّ حكمٍ وقيمةٍ في هذه الأيّام! ولربما أعاد النظر في تحامله على ذلك المُنْكِرِ الخياليِّ الّذي نسب إليه إنكارَ وصول بعض الأولياء إلى درجة الكمال عند الله بأقلّ من يوم، ولاَسْتَبَانَتْ له حقيقة شيخه الّذي نفخ هذه الأفكارَ في عقله وأملى عليه كتابَ الحديقة الندية كما جاء في كتاب البهجة السنيّة لمحمد بن عبد الله الخانيّ.
قال الخانيّ في كتابه المذكور:
»لما كان كتاب الحديقة المذكورة موضوعًا لإثبات وجود تعلُّم علم الباطن، وإثبات فضيلة الطريقة النقشبنديّة، ولدفع شبه المنكرين من أهل الحسد على حضرة شيخنا (...) كان في أخذ الآداب منها صعوبة على المبتدئ والآن ولله الحمد تقرر الطريق وانخذل أهل الحسد والعناد والتعويق.« محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3. للمناسبة راجع الهامش/472.
قال حفيده عبد المجيد الخانيّ وهو يشرح قصة المعارضين لخالد البغداديّ وقد أفرد لها بحثًا تحت عنوان »فساد الحساد«، قال فيه »فلم يقابل (أي خالد البغداديّ) صنيعَهم الشنيعَ إلاّ بالدعاء لهم وحسن الصنيع؛ فلم تَخْبُ نارُهم، وما زاد إلاّ شرهم وشرارهم."
"كلّ العداوة قد ترجى إزالتها * إلاّ عداوة من عاداك من حسد.«
ثم قال:(64/492)
»فألّف بعض المعروفين (يقصد معروف البرزنجيّ) من المنكرين الّذي تولّى البهتان كبرًا وغرورًا، رسالةً ملئت منكرًا من القول وزورًا...إلخ.« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/ 231.
وجاءت في موضع آخر كلماتٌ له من نفس البحث يقصد بها عبد الوهّاب السوسيّ وجماعتَه، وكأنّ شرارات الغضب تطير من قلمه؛ فقال:
»ولفّقوا من قول الزور والبهتان رسالةً بتكفيره لما زعموا من أنه يدّعي رؤية الجانِّ، وأرسلوها إلى دمشق مع أحد هوامّ الأكراد العوامّ يقال له إسماعيل الزلزلومي. فلمّا وصل إليها توسّل بعض خدم الشيخ بكلّ وسيلة جميلة، واستحضرها لحضرته الجليلة ليظهر عليها. فطار خبرها إلى والي الشام، فأمر بتشهيره في البلدة وتعزيره، فمرّوا به وهو كذلك من تحت قصر الشيخ (...)، فحانت منه إلى الطريق نظرةٌ، فأمر بتحويله إلى رحابه، وتطهيره وتخويله حلةً من ثيابه، وأدناه منه، فقبّل الرجُلُ رِجْلَهُ، فعفاه.« المصدر السابق ص/233.
لقد سرى تأثير أدب الشتم والتشنيع من كبار النقشبنديّين إلى أدنى بسطائهم؛ إذ قد ترى مَنْ نصب نفسَه على كرسيِّ المشيخة من أوغادهم وأراذلهم؛ تراه يتجرّأ على تحرير الرسائل ويبعثها إلى من اغترّ به وبنفس الأسلوب، تقليدًا بخالد البغداديّ، وحتّى بتكرار بعض ألفاظه الّتي اعتاد على استعمالها!
منهم رجل اسمه سليمان زهدي، ينهال على شخص من أتباعه ويهدّده برسالةٍ نقلناها فيما يلي بالمناسبة كمثال على شخصية الكاتب بما تحوي بين تضاعيفها من ألوان الجهل بالآداب والقواعد؛ ونترك الحكم للقارئ على ما جاء في عباراته الواهية من عيوب لغوية وإنشائية وقصور بلاغية وسقطات أخلاقية وما يعتريها من مظاهر الخروج على الإسلام بوجه عام.
وهذا نص ما سجّله الرجل بحذافيره دون أدنى تصرُّفٍ فيه:(64/493)
»يا أخينا قد أقمت في المكة المكرمة وحضرت حلقة السادات الكرام والختم الخواجكان والتوجّهات عندنا ولكن ما حصل منك الدوام وكثرة اشتغال الذكر مثل سائر الاخوان وقلة المبالات منك في آداب الطريقة العلية وصار ذلك سببا لتركك حلقة السادات عندنا ووصولك الى المنكرين والمطرودين عن طريقتنا والمتشيّخين المرتسّمين في مكة المكرمة ثم اعطى المتشيّخ المطرود الاجازة ثم وصلت على بلاد جاوى وكنت تريد التشيّخ مثله وتؤذي على اهل الحق والاستقامة وهذا الفعل منك لا يرضي الله ولا رسوله ولا سادات الطريقة العلية وكنت ضالا ومضلا على الناس كما كان المتشيّخين المطرودين هنا لولا وصولك اولا عندنا فما بينت لك هذه النصيحة. والامام الّذي اخذ طريقة التشيخ من عند المتشيخين ولا انصح له فانه بعيد عنا لا نعرفه ولا يعرفنا لان الباطل لا يسعد والحسود لا يسود والواجب عليك التوبة النصوحة عما فعلت والرجوع عما جرى والدخول الى طريقة التربية والوصول الى رضاء الله تعالى بيد المرشد المأمور بيد صحيحة مثل الشيخ عمر والشخ عبد الحليم والشيخ عبد الوهّاب هناك ان لم تصل الى مكة المكرمة وان لم تفعل ما امرت لك من طرف السادات فانتظر العقوبات الدنيوية والاخروية لانّ تعالى غيور يحارب من خالف على اوليائه وينتقم على من غير طريق وصوله اليه ايّ ظلم اكبر من هذا الظلم فسيعلم الّذين ظلموا اي منقلب ينقلبون...إلخ.« سليمان زهدي، تبصرة الفاصلين (ضمن مجموعة الزمرد العنقاء) ص/ 96، 97. TDV. ?SAM. 297-7 N?M. Z 46644
وقال الحسين الدوسريّ في مستهلّ كتابه "الرحمة الهابطة" ما نصّه:(64/494)
»لقد طرق سمعي بعض مقالات منقولة عن المزوّرين وجهالات منسوبة إلى بعض المشهورين وإنكار أمور، عليها مدار العلماء العاملين والمتقدمين منهم والمتأخرين؛ فوضعت رسالة مثبتة لما أنكروه و مبتتة لما زوروّه، احتسابا لوجه الله الأكرم، وانتصارًا لاسم الله الأعظم، ونصحًا لأمة محمّد - صلى الله عليه وسلم -، كي لا يقعوا في ورطة الإنكار، وكي لا يبقى الأخ المنكر على الإصرار، فيؤل به إلى دخول النار.« حسين الدوسريّ، الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة، بهامش معرّب المكتوبات للرّبّاني: 1/186.
وجاء في تفسيرٍ أصدرته جماعة من النقشبنديّين في الآونة الأخيرة بإسطنبول، قالوا فيه:
»يُستَغرَبُ ممّن يحكم على الرابطة بالتحريم؛ فهل استخرج هذا الحكم من معناها اللغويِّ أم الإصطلاحيِّ، أم وجده في أحد الكتب المنزَلَةِ من عند الله؟!!«
»ولهذا يجب على المرء أن يخاف الله فلا يَمْنَعَنَّ الناسَ من فعل المعروف بتحريم ما أحلّه الله وتحليل ما حرّمه، ولا يَصِفَنَّ أحدًا من أهل القبلة بالكفر حتّى لا يُصبِحَ هو بذاته كافرًا!!« هذا نص كلامهم باللّغة التركية للعبارات المعرّبة:
Rab?tan?n haram oldu?unu ve ehlinin kâfir oldu?unu s?yleyenlere ?a??l?r. Bunu rab?tan?n lügat manas?ndan m? alm??t?r? Yoksa bunu Allah'?n indirdi?i kitaplarda m? g?rmü?tür. O halde ki?i Allah’tan korksun. Onun helâl etti?i bir ?eyi haram saymak, Onun haram etti?i bir ?eyi de helâl kabul etmekten ve b?yle büyük bir hataya dü?üp insanlar? da dü?ürmekten ve insanlar? maruf (?eriat?n ve akl?n kabul etti?i ?ey) den al?koymaktan sak?ns?n. Ve ehl-i k?bleden hiç kimseye kâfir diyerek kendi kâfir olmas?n.
روح الفرقان، بقلم جماعةٍ من النقشبنديّين الأتراك (تحت إشراف محمود أسطى عثمان أوغلو)ص/ 2/78. دار سراج إسطنبول ـ 1992م.(64/495)
وما أكثر من نحو هذه الألفاظ والعبارات في مواطن كثيرة من كلامهم؛ الّذي لم يقصدوا في الحقيقة إلاّ لينالوا به من عرضِ أهل التنزيه لجناب الحق سبحانه، والحطِّ من كرامة الموحّدين، وإيذائهم وإيلامهم. فاكتفينا بهذا القدر اليسير على سبيل المثال
***
الكلمة الختامية.
لقد انتهينا هكذا من دراسةٍ هامّةٍ، أخذتْ من وقتنا الكثيرَ، وأفنتْ من عمرنا أكثر من ثُلُثِهِ، وكلّفَتْنا ما لا يُستهان به. ولابد من أن نعترفَ هنا بأنّ الهموم كثيراً ما أقضّتْ مضجعَنَا إذ نسلك طرقاً شائكةً في البحث والتعمُّق أثناء متابعتنا لهذه الدراسة!
في الحقيقة لم يكن القصدُ من الإقدام على هذا العمل الخطير إلاّ إظهار ما قد غاب عن جمهور رجال العلم خاصّة من أسرار الطريقة النقشبنديّة وآدابها وأهدافها ومستوحاها وطقوسها وشخصيات رجالها وتأثيراتها على الحياة الإجتماعية في المناطق الّتي انتشرت فيها.
ولعلّ الأهمَّ من ذلك، أنّ المجتمع العربيَّ الّذي تربطه الصلةُ التاريخيةُ القويةُ بالشعب التركيّ، وجدناه بمنأى عن الإطلاع على أمورٍ كثيرة تلعب الدورَ منذ قرونٍ في توجيه هذا الشعب وترويضه على غير ما يعتاده ويتلمّسه بقيّة المسلمين من مفهوم الدين. فرأينا من الخدمة العلمية أن نتناول من تلك القضايا ما يدخل في نطاق معرفتنا واختصاصنا، وأن نسلّط الضوء عليها لتمهيد المجال إلى مناقشتها في ديوان العلم وميزان العقل والدين. ألا وهي النزعة الصوفيّة المتمثّلة في الطريقة النقشبنديّة المتفاقمة في صفوف الملايين من أبناء هذه المنطقة، والراسخة في أعماق ضمائر الشيوخ والشباب والنساء والرجال منهم. وإذا كان هذا الميل الشائع في العنصر التركيّ يدلّ على حقيقةٍ، فهي ليست إلاّ علامات انقباضٍ وتشنّجٍ ينتابه بسبب الضياع الذاتي وخسارة الهوية.(64/496)
لقد ثبت من خلال البحوث والدراسات العلمية أنّ الأزمات الّتي يعانيها المجتمع التركيّ - على اختلافها - في الوقت الراهن، تعود الأسبابُ المتنوّعةُ لكلّ أزمةٍ منها في النهاية إلى مشكلة الهوية. ذلك، أن الإعتزاز البالغ بالأمجاد إلى حدود التطرّف وجنون العظمة؛ وتقديسَ رجالٍ دخلت أسماؤُهم في قائمة "أولياء الله" ضمن مجلّداتٍ ضخمةٍ في المكتبات التركية - بما فيهم جميع سلاطين بني عثمان، حتّى السلطان محمّد الثالث الّذي قَتَلَ تسعة عشر أخًا له في فجر يوم الثامن والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1595م.؛ وكذلك الإنهماكَ في الإستغاثة بأمواتٍ قد أصبحوا عظامًا نخرةً، بل قد اندرست وبادت رفاتهم ولا يدري أحد هل ماتوا على الكفر أم على الإيمان؛ يبرهن على أنّ هذا الشعبَ لم يعد يملك شيئًا يُثبِتُ به هويتَه سوى اللجوء إلى العصبية القومية الّتي تعتمد في جذورها على أساطير الآباءِ وتقديس السلاطين وأقاصيص الصوفيّة والإستئناس بالقبور والأموات.
إنّ هذا البحث الّذي يتناول الطريقة النقشبنديّة بتفاصيلها وبأسلوبٍ تحليليٍّ ومنهجيٍّ، لم يقتصر على حدود أبعادها الدينية والروحية، بل يتجاوز إلى حدودها الإجتماعية وعواقبها الأخلاقية، ويفتح بذلك نافذةً على الباحثين، لِيُطلُّوا منها على الشعب التركيّ الصوفيّ، ويطَّلعوا على أحواله وأزماته بنظرٍ علميٍّ وموضوعيٍّ من خلال الوثائق والأدلّةِ. لأنّ إصلاحَ أيّ فسادٍ، لا يمكن أنْ يحظى بنجاح إلاّ بعد الإطّلاع على حقيقة أسبابه.(64/497)
ولابد من الإشارة هنا إلى أنّ تكثيف النقد على الشعب التركيّ بسبب انتشار الطريقة النقشبنديّة بين طبقاتها، لا يعني أنّ الشعب بعمومه قد اعتنق هذا المذهب الصوفيّ بعينه؛ بل هناك طرقٌ صوفيةٌ أخرى، فضلاً عن ذلك أنّ أقلّيةً من الموحّدين الحنفاء، وجماعاتٍ متباينةً من المشركين والملاحدة من أبناء الشعب التركيّ لا صلة لهم بالتصوّف على الإطلاق. إلاّ أنّ الروح الباطني الصوفيّ قد بلغ من الرسوخ في ضمير أغلبية الأتراك إلى حدٍّ نجد حتّى العلمانيّين منهم قد بنوا صرحًا عملاقًا على قبر زعيمهم بهواجس روحية كما يبدو من احتفالاتهم الّتي يقومون باجرائها في جوٍّ دينيٍّ خاصٍّ، ويُجبرون بقية الفئات على مشاركتهم في تلك الإحتفالات! ولهذا ليس من الزور أن يُقالَ أنَّ غالبَ الأتراك حتّى العلمانيّين منهم، قومٌ لا يقتنعون بأيِّ دين إلاّ أن يكون مشوبًا بتصوُّراتٍ موهومةٍ وحكاياتٍ خرافيةٍ وتفسيراتٍ أسطوريةٍ لا حدود لها.
وهذا قد جعل من الشعب التركيّ قومًا تَبَعِيًّا يترنّح أمام عواصف الأحداث عَبْرَ تاريخه، يُقَلِّدُ كلَّ قومٍ يراه على الحقِّ، ويأخذ من حثالة كلِّ دينٍ، إلى أن جمعها ومزجها أخيرًا بمفاهيم إسلاميةٍ واعتقد أنّ ما قد صنعه هو الإسلام! بل هو الإسلام المبتورُ الّذي تعرّض لسلسلة من الإستحالات، والموروثُ من العرب بعد الربْعِ الأول من العهد العبّاسيِّ، والمتقمِّصُ اليوم في قالب النقشبنديّة.(64/498)
إنّ الشعب التركيّ مسئول بالدرجة الأولى عن الفساد الّذي قد غرق فيه اليوم إلى قمة رأسهِ؛ مسئولٌ عن إصلاح كلِّ ما يخالف نصوصَ الكتاب والسنّة من معتقداته بسبب هذا المرض الّذي قد تحكّم فيه وتطوّر إلى أمراض إجتماعية وأخلاقية أخرى. والمسلمون جميعًا مسئولون أيضًا بالدرجة الثانية من إنقاذ هذا الشعب عما قد وقع فيه. وتتأكّد هذه المسئوليةُ المتوجِّهة إلى أهل الوعي والخبرة من كلِّ شعبٍ في العالم عندما نشاهد التطرُّفَ الْمُنْبثقَ من الروح الصوفيّ يتفاقم يومًا بعد يومٍ في صفوف هذا المجتمع ويُهَدِّدُ السلمَ والأمنَ في المنطقةِ؛ كما تترتّبُ على كلِّ شخصٍ ذي حميةٍ إنسانيةٍ، يُحِبُّ الحريةَ ويتمنَّى يومًا يسود فيه الأمن والطمأنينة والهدوء في جميع أرجاء المعمورة - إذا ما وقع نظرُهُ على مضمون هذا العمل الهام - تترتّبُ عليه مشاركة المخلصين من أهل الإصلاح والإرشاد في محاولة القضاء على هذا السرطان الّذي مزّق روحَ الشعب التركيّ بمخالبه وأوشك أن يجعل منه ألعوبةً في يد عصابةٍ خطيرةٍ يختلّ بها توازن القوى على مستوى منطقة الشرق الأوسط لأمدٍ غيرِ بعيد!!!
ونؤكّد بكل جدٍّ واهتمامٍ أنّ هذا البحث وثيقة تاريخية في حدِّ ذاته؛ يتبنّى إظهارَ ما قد خَفِيَ أو أُخفِيَ عن العامّةِ من واقع منظّمةٍ خطيرةٍ كانت لها أغراضها في مرحلة زمنية معينةٍ، تقمّصت عبرها في لباسِ طريقةٍ صوفيةٍ اسمها الخالدية، وفعلتْ ما فعلتْ تحت ستار النقشبنديّة، ثم تحوّلت إلى طريقةٍ صوفيةٍ تمامًا بعد أن حقّقت شيئًا كثيرًا من أهدافها. ولا نريد أن نستقصي فيما لا يتحمّله الزمان والظروف والأوضاع أكثر من هذا القدر؛ فانّ القلم الصادق لن يغفل عن تسجيل ما قد جرى في هذا العالم من صغير وكبير. { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبيِرٍ مُسْتَطَرٌ } سورة القمر/53{كَلاَّ سّوْفَ تَعْلَموُنَ * ثُمَّ كَلاَّ سّوْفَ تَعْلَموُن.َ} سورة التكاثر/3، 4(64/499)
ولعلّ ما قد سجّله الدكتور أسعد السمحراني في ثنايا كتابٍ له من كلماتٍ يسيرةٍ جدًّا تهمس إلى ذوي العقول المتفتّحةِ شيئًا من أسرار مدينة السليمانية العراقيّة الّتي طالما تحتضن جماعاتٍ مشبوهةً كما احتضنتْ ذلك الشبحَ الخظيرَ المتقمِّصَ في لباس الطريقة النقشبنديّة الخالدية إبان مرحلةٍ حساسةٍ من القرن الماضي..
يقول السمحرانيُّ:
»بعد إعدام الباب اُتُّهِمَ حسين المازندراني (البهاء) مع مجموعةٍ من أتباع الباب بمحاولة اغتيال ملك إيران ناصر الدين شاه انتقامًا للباب، فاعتُقِل ثم نُفِيَ وشقيقه يحيى وبعضُ أتباعهم إلى بغداد سنة 1268هـ.- 1852م.، حيث مكث فيها قرابة 12 عامًا قضى بعضها في السليمانية يبشر بدعوته.« الدكتور أسعد السمحراني، البهائية والقاديانية ص/ 74. دار النفائس، الطبعة الثانية. بيروت-1989م.
وهذا دليل قاطع على أنّ النقشبنديّين الّذين وقفوا دائمًا في وجه المؤمنين الموحدين الحنفاء وقوفَ العدوِّ اللّدود؛ سكتوا - على الأقل - عن نشاطاتِ حركةٍ من أخطر الحركات الهادفة إلى هدم الإسلام من أساسه في مدينتهم السليمانية بالذات. وهي منبَثَقُ دعوتهم، ومركزُهم، وقبلتُهم المقدّسةُ بعد مدينة بُخَارَى؛ كانوا ولا يزالون هم الأكثريةَ والأقوىَ فيها من بقية الجموع والجماعات!
إنّ الّذي قد جرى بالأمس من خير وشر يجري اليوم أيضًا وسيجري غدًا لامحالة، وإنْ اختلفت الصُّوَرُ وتباينت الأشكال وتنوّعت الأساليب. فالحرب سجال بين الحقّ والباطل...تلك سنة الله »قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىَ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىَ سَبيِلاً« سورة الإسراء/84(64/500)
ولكن الّذي يجب أنْ يُؤْخَذَ بنظر الإعتبار، هو أنّ التطرُّف والحقد والعنف والإضطهاد مهما بلغ من القسوة حدّها؛ وأنّ التزوير والتدليس والتدجيل والغش والمكر والإستغلال مهما لعب الدور في إرباك البسطاء، وغسل الأدمغةِ، وتجنيد الخونة تحت ستار التصوّف والتقشّف أو العلمنة والإلحاد؛ لصرف الوجوه عن الحق، وتشويه الحقيقة، وتقديم الذئاب في جلود الضأن، ونسج نظريات المؤامرة لإخماد حرارة الإيمان الّذي يملأ قلوب أهل التوحيد الحنفاء؛ فانّ الصدق والإخلاص والمثل العليا سوف تسلك طريقها دائمًا إلى قلوبٍ مؤْمنةٍ واعيةٍ وعقولٍ نيّرةٍ متفتّحةٍ، لتبقى الحقيقة المطلقة وحدها دائبةً غالبةً شامخةً إلى أبد الآبدين ولو كره المتزمّتون وأبناء الحماقة جميعًا، فانّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه. »بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلىَ الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفوُنَ« سورة الأنبياء/ 18.
أسماء الأعلام
أ
الآلوسي، أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله ( 1217-1270هـ./1802-1885/ م.) 150، 263،
الآلوسي، أبو البركات خير الدين نعمان بن محمود ( 1252-1317هـ./1836-1899م.) 263.
أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي (149-193 هـ./766-809 م.) 22،
إبراهيم النبي عليه السلام. 92، 190.
إبراهيم البياريّ. 230،
إبراهيم بن أبي المجد بن قريش بن محمد الحسيني الدسوقي (633-676 هـ./1235-1277 م.) 80.
إبراهيم الشاشي. 211،
إبراهيم الفصيح (1820-1882م.) 90، 133، 273.
إبن آجرّوم، محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي، (627-723 هـ./12731323 م.) 304.
إبن الأثير، عزّ الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيبانيّ (555-630 هـ./11601233 م.) 95، 188،
إبن تيميّة، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الدمشقي الحنبلي الحرّاني، (661-728 هـ./1263-1228 م.) 137، 180، 340، 343،(65/1)
إبن الجوزي، أبوالفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (510-597 هـ./1116-1201 م.) 10، 186، 353، 354.
إبن حجر، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد الهيتني (909-973 هـ./1503-1566 م.) 79، 156، 157.
إبن حجر، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلانيّ (773-852 هـ./1372-1449 م.) 182.
إبن خلّكان، أبو العبّاس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر(608-681 هـ./1211-1282 م.) 21، 182، 189.
إبن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهري (168-230 هـ./784-845 م.) 182.
إبن عباس، عبد الله بن عبد المطلب الهاشميّ القرشيّ الصحابيّ (ت 688م.) 74، 126، 126، 181،
إبن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز (1198-1252 هـ./1784-1836 م.) 67، 134، 235، 271، 358.
ابن عربي، محي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطاءيّ الحاتمي المرسيّ (560-638 هـ./1160-1240 م.) 132، 135، 136، 137، 138، 139، 142، 143، 340، 342، 343.
ابن العماد عبد الحي بن أحمد بن محمد بن عماد العكري الدّمشقي الحنبلي (1032-1089 هـ./16231679 م.) 182، 188، 191.
إبن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي (700-774 هـ./1301-1373 م.) 15، 71، 74، 75، 102، 144، 184.
ابن المبارك، عبد الله المروزيّ (118-181 هـ./736-797 م.) 21.
إبن مسعود/ راجع ع: عبد الله ابن مسعود.
ابن المثنّى، أبي عبيدة معمّر (110-209 هـ./728-824 م.) 22،
ابن المقفّع، عبد الله (109-145 هـ./727-762 م.) 22،
إبن وكيع. 70،
أبو بكر البغدادي. 276،
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، أحد الفقهاء السبعة. 182،
أبو بكر الصّدّيق (الخليفة الراشد) (ت. 13 هـ./634 م.) 24، 62، 69، 174، 176، 177، 178، 179، 180، 181، 182، 347، 348.
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري/ راجع: الطبري.
أبو الحسن علي بن أبي جعفر الخرقاني (ت. 425 هـ./1034 م.) 154، 169، 174، 187، 188.(65/2)
أبو الحسن النّدوي، فاضل هندي معاصر. 50، 132، 217، 220، 222، 224، 225، 228، 236، 243.
أبو حنيفة، نعمان بن ثابت الكوفي الإمام (80-150 هـ./699-767 م.) 309،
أبو السعود، محمد بن محمد بن مصطفى العمادي، شيخ الإسلام في عهد سليمان القانوني (898-982 هـ./1493-1574 م.) 76، 289
أبو سعيد، أحمد بن عيسى الصوفي الخرّاز (ت. 286 هـ./899 م.)
أبو سعيد عثما الجليلي الموصلي. 247، 261، 262.
أبو عبيدة معمّر بن المثنّى (110-209 هـ./728-824 م.) 22،
أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري (708-761 هـ./1309-1360 م.) 304.
أبو منه، بطرس، باحث عربي معاصر/ راجع: مقدّمة المؤلّف.
أبو نوّاس الحسن بن هناء بن عبد الأوّل بن صباح (145-196 هـ./762-812 م.) 22،
أبو العاتية إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان (130-211 هـ./748-826 م.) 22،
أبو علي السنديّ. 184،
أبو علي الفارمديّ (ت. 478 هـ./1085 م.) 88، 169، 174، 188، 189.
أبو الفتيان، شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم البدوي (596-675 هـ./1200-1276 م.) 168،
أبو الفرج، عبد الرحمن ابن الجوزي/ راجع: ابن الجوزي.
أبو الفضل، بن عبد الله القُنوي. 138.
أبو الفيض المنوفي/ راجع: محمود أبو الفيض المنوفي.
أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر الزمخشري/ راجع: الزمخشري.
أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الإصفهاني. (336-430 هـ./948-1038 م.) 97، 175.
أبو يزيد السطامي/ راجع البسطامي
أبو يعقوب يوسف الهمداني/ راحع: الهمداني.
الأحرار/ راجع: عبيد الله الأحرار.
أحمد آقجندوز، باحث تركي معاصر. 333،
أحمد الأربلي الخطيب. 277،
أحمد الآرواسي.336،
أحمد الأغربوزي. 270،
أحمد البدوي/ راجع: أبو الفتيان.
أحمد البُخَاريّ. 31.
أحمد البرزنحي. 277،
أحمد البقاعي. 40، 51، 89، 110، 130، 156، 342، 343.
أحمد بن حنيل (164-241 هـ./78/0-855 م.)(65/3)
أحمد بن زيني دحلان (1231-1304 هـ./1816-1886 م.)
أحمد بن سعيد المجدّدي. 90.
أحمد بن سليمان الأروادي (مات في حدود 1275 هـ./1885 م.) 90، 278، 283، 288.
إحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين / راحع: شاه ولي الله الدهلوي
أحمد شاه الدراني. 239.
أحمد شاه عزيز الدين علمنكير (ت 1759م.) 232، 237.
أحمد ضياء الدّين الكموشخانوي (1227-1311 هـ./1812-1893 م.) 40، 59، 82، 90، 91، 98، 104، 110، 120، 283، 288، 289، 331.
أحمد فاروق ميان.40، 98.
أحمد الفاروقي السرهندي المعروف بالإمام الرباني/ راجع: السرهندي.
أحمد القسطموني. 82، 276.
أحمد مكّي أفندي بن عبد الحكيم الأرواسي. 332.
أحمد ولي الله/ راجع : شاه ولي الله الدهلوي.
أحمد ياشار أوجاك (أستاذ في جامعة حاجت تبه في أنفره) 14، 192.
أدهم جبه جي أوغلو. باحث معاضر تركي 132.
الأربلي، محمد أمين الكردي/ راجع: الكردي.
أريج فروم. 51.
أسعد الأربلي (ت. 1848-1931م.) 91، 292، 293، 294، 324
الإسطنبولي، محمد أسعد أفندي (1789-1848م.) 55، 78، 246، 247.
أسعد الصاحب (1271-1347 هـ./1855-1928 م.)10، 84، 85، 250، 261، 262، 263، 264، 273، 274، 278، 347.
أسعد الخسخيري. 329،
أسعد السمحراني (باحث عربي معاصر) 370،
إسماعيل الأناراني. 277،
إسماعيل البرزنجي. 276،
إسماعيل البصري. 277،
إسماعيل حقّي أهرامجي. 329،
إسماعيل الزلزلوي. 278،
إسماعيل الشيرواني. 67، 209، 273، 274، 277.
أشرف الكابلي/ راجع: الكابلي.
أفلطون (الفيلسوف اليوناني ق.م. 428- 347) 131.
أكبر شاه، جلال الدين محمود بن همايون بن ظهير الدين بن بابر شاه (1542-1605 م.) 216، 218، 220، 222، 224، 228.
أكرم إيشن. 30، 293.
أكمل الدين البابرتي (710-786 هـ./1310-1384 م.) 79.
إلياس أيوب (باحث صيدلي عربي معاصر) 51، 52، 60، 189.
الإمام الربّانيّ/ راجع: السرهندي.
الإمام الزهبي/ راحع: الزهبي.
الإمام الشافعي/ راجع: الشافعي.(65/4)
الإمام الهروي/ راجع الهروي.
الأمكنكي، محمد الخواجكي (918-1008 هـ./1512-1599 م.) 170، 174، 215، 216.
أمين القدسي. 139.
أنس بن مالك (612-712م.) 69،
الأنصاري، أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد السنيكي (826-926 هـ./1423-1520 م.) 10،
الأنصاري القادري، بهاء الدين. 50،
أنور الجندي (باحث – كاتب عربي معاص).17.
أورنكزيب علمكير بن شهاب الدين محمد شاه جهان (1618-1707م.) 232،
أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني التابعي الزاهد (ت. 37هـ/657م.) 154.
ب
باتانجالي Patanjaliالراهب الهندي. 102.
بارمينيديس (الفيلسوف اليوناني ت. حوالى 540-450ق.م.) 131.
الباقلاني، محمدد أبو بكر بن الطيّب (338-403 هـ./9501013 م.) 100، 128.
الباقي بالله الكابولي/ راجع: محمد الباقي بالله الكابولي.
البخاريّ، محمد بهاء الدين/ راجع: شاه نقشبند.
البدخشي، محمد زاهد (ت. 936 هـ./1529 م.) 170، 214، 215.
بدرخان باشا، آخر أمير كردستان (1802-1868م.) 252.
بدر الدين بابا. 31.
البدواني/ راجع: نور محمد البدواني.
البرزنجي، معروف النودهي (1166-1254 هـ./1752-1838 م.) 51، 246، 247، 256، 257، 259، 260، 261، 265، 364.
ب. ريال. 51، 52، 60،
البزدويّ، عليّ بن محمّد بن الحسين (400-482 هـ./1010-1089 م.) 18.
البسطامي، أبو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن سروشان (188-261 هـ./803-874 م) 154، 169، 174، 179، 184، 185، 186، 187، 188.
بشر الحافي، أبو نصر بشر بن الحارث بن عليّ بن عبد الرحمن المروزيّ الحافي (150-227 هـ./767-841 م) 21.
البغداديّ، أبو البهاء خالد ضياء الدين ذو الجناحين (1193-1242 هـ./1776-1876 م.) 239، 272.
البغداديّ، محمّد بن سليمان البغداديّ/ راجع: محمد بن سليمان.
البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود (ت. 279- هـ./892 م.) 15، 206.
بلوتينوس (الفيلسوف اليوناني (205-270 م.) 131،
بهادر شاه، آخر الملوك التيموريّين (1221-1278 هـ.) 237.(65/5)
بوذا الراهب، سيدهارتا غوتاما (مؤسّس الديانة البوذية، حوالى 563-483 ق.م.) 48، 102، 104،
البيضاوي، أبو سعيد ناصر الدين عبدالله بن عمر (ت. 685 هـ./1286 م.) 72، 73،
البيهقيّ، علي بن الحسين الواعظ الكاشفي (1462-1533م.) 49، 50، 62، 88، 210، 212.
ت
تاج الدين بن زكريّا بن سلطان الهنديّ (ت. 1050 هـ./1640 م.) 63، 64، 88،
تاج الدين عبد الوهّاب بن علي السبكي (727-771 هـ./1327-1370 م.) 188.
ترغوت أوزال، رئيس الجمهورية التركية السابق (ت. 1993م.) 331، 335.
الترمزي الحكيم، محمد بن علي بن الحسين (كان حيًا في 318 هـ./930 م.) 192.
التسْتَرِيّ، أبو محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى (200-283 هـ./815-896 م.) 21.
التفتازانيّ، مسعود بن عمر بن عبد الله (712-791 هـ./1312-1389 م.) 18، 128، 153، 343.
التلمساني، سليمان بن علي بن عبد الله (ت. 690 هـ.) 111، 131، 137.
تيمورلنك (ت. 1336-1405م.) 200، 211، 228.
ث
الثوريّ، أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي (97-161 هـ./716-778 م.) 21،
ج
ج. توندريو. 52، 60،
الجامي، ملاّ عبد الرحمن نور الدين (819-898 هـ./1414-1492 م.) 30، 207، 212، 213.
جان جانان/ راجع: شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر.
الجرجاني/ راجع: السيد شريف الجرجاني.
الجرخي/ راجع: يعقوب الجرخي.
جعفر الخلديّ (252-348 هـ./866-959 م.) 175.
جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط (80-148 هـ./699-765 م.) 155، 169، 174، 183، 185، 186.
الجليليّ، أبو سعيد عثمان بن سليمان بن محمد أمين بن حسين بن إسماعيل بن عبد الجليل الحيائي الموصلي (1187-1245 هـ./1773-1829 م.) 247، 261، 262.
الجليليّ، سليمان باشا. 247، 260، 261، 262.
الجنبوري، علي بن قوّام. 50،
جنيد البغداديّ، أبو القاسم بن محمد بن الجنيد القواريري الخزّار (ت. 298 هـ./910 م.) 80،
ح
الحاج حمدي الدّاغستانيّ. 271.(65/6)
حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (1017-1067 هـ./16091657 م.) 210.
الحافيّ/ راجع: بشر بن الحارث.
حالت أفندي (من كبار رجال الدولة العثمانية في عهد محمود الثاني. 1760-1823م.) 251.
حامد المارديني.
الحسن بن علي بن أبي طالب (3-50 هـ./624-670 م.) 283، 285.
حسن القوزاني. 277.
حسن حلمي القسطموني. 82.
حسن حلمي بن علي. 82.
الحسين بن علي بن أبي طالب. (ت.61 هـ./680 م.) 199، 206، 336.
حسين بن علي بن هود. (ت. 699هـ.) 111.
حسين بن علي، نظام الملك/ راجع: نظام الملك.
حسين حسام الدين عبديزاده أفندي. 29.
حسين حلمي إيشيك (عقيد متقاعد مدسوس في صفوف النقشبنديين. مات يوم 25 أكتوبر 2001 في إسطنبول) 51، 89، 292، 307، 329، 336.
حسين الدوسري. 79، 80، 81، 278، 365، 366.
حسين علي نوري بن عباس بن بزرك المازندراني، زعيم البهائية (1233-1309 هـ./1817-1892 م.) 370.
حكيم آتا. 25.
الحلاّج، حسين بن منصور (ت.309 هـ./922 م.) 17، 111، 130، 131، 132، 133، 134، 137، 259، 340، 343.
حميد آلغار: راجع: مقدّمة المؤلّف.
حمد الله الداجويّ. 146، 150، 156، 160.
حيدر بابا. 29.
خ
خالد البغداديّ/ راحع: البغداديّ.
خالد الجزري. 277، 288، 341.
خالد الزيباري. 329، 341.
خالد الزيلاني. 329،
خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، أحد الفقهاء السبعة (ت. 99 هـ./717م.) 182.
الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم الشحي (678-741 هـ./1279-1340 م.) 73، 74.
الخانيّ، عبد المجيد بن محمّد بن محمّد (1263-1319 هـ./1847-1901 م.) 25،40، 44، 46، 48، 49، 50، 51، 53، 95، 98، 99، 110، 213، 216، 217، 219، 232، 233، 256، 266، 276، 278، 280، 281، 282، 342، 344، 364.
الخانيّ، محمّد بن عبد الله (1213-1279 هـ./1798-1862 م.) 27، 38، 40، 44، 50، 89، 98، 99، 105، 106، 110، 157، 191، 245، 246، 277، 278، 279، 280، 281، 342، 349، 352، 363.
خرشيد باشا (ت. 1822م.) 252.(65/7)
الخرقاني/ راجع: أبو الحسن علي بن أبي جعفر.
الخضر/ راجع: أسطورة الخضر في قائمة المفاهيم.
الخلدي/ راجع: جعفر الخلدي.
خليل آتا. 206.
خليل فوزي. 294،
خليل كوننج، فقيه عربي الأصل، تركي الوطن. 339،
خواجه أشرف الكابلي. 62، 88.
خواجهء عزيزان/ راجع: الرامتني.
خير الدين زركلي/ راجع زركلي.
د
داماد فريد باشا (1853-1922م.) 286،
داود باشا، والي بغداد. (1774-1851م.) 251، 252.
درويش أحمد الطربزوني. 88.
درويش محمد (كش مهمد)، الحشّاش الذي استخدمته الحكومةُ عميلاً لتنفيذ خطّةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير.نُفِذَ فيه حكم الإعدام مع زميله لاز إبراهيم خواجه سنة 1930م.) 323.
درويش محمد السمرقندي/ راجع: السمرقندي.
الدهلوي، شاه ولي الله/ راجع شاه ولي الله.
الدهلويّ، غلام علي عبد الله (1158-1240 هـ./1745-1824 م.) 48، 170، 236، 237، 238، 239، 242، 244، 347.
الدوسري/ راجع: حسين الدوسري.
الدمشقيه، عبد الرحمن : راجع: مقدّمة المؤلّف.
ديفيد دين كومينس David Dean Commins. 85.
ذ
الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ الحافظ. (673-748 هـ./1274-1348 م.) 183، 184، 186.
ر
رابعة العدوية : 123،
رادلوف، فريديريك ولهلم (1837-1918م.) 15.
الرازي، فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الّتيميّ البكريّ (543-606 هـ./1149-1210 م.) 18، 71.
رحمي سرين. 91،
رشاد أونكوران، باحث تركي معاصر. 29، 30.
الرقّاشي، أبّان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير ( هـ./ م.) 22.
ركن الدين محمود البُخَاريّ. 29،
الريوكري/ راجع: عارف الريوكري.
ز
زركلي، خير الدين (1310-1396 هـ./1893-1976 م.) 123، 154،168، 183، 191، 208، 213، 217، 218، 220.
زاهد الكوثري/ راجع: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي.
الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر. (467-538 هـ./1075-1144 م.) 70، 71، 79.
زنون، الفيلسوف اليواني (335-263ق.م.) 131.
س(65/8)
السرخسي، شمس الأئمة، محمد بن أحكد بن أبي بكر (ت. 490 هـ./1097 م.) 18.
السرهندي، أحمد الفاروقي العروف بالإمام الرباني (971-1034 هـ./1563-1625 م.) 88، 139، 141، 160، 161، 170، 174، 208، 213، 216، 218، 219، 220، 221، 222، 223، 224، 225، 226، 228، 229، 230، 231، 237، 333.
سعيد باشا، والي بغداد. 246، 256، 260.
سعيد البالوي (ت. 1925م.) 285، 289، 292، 303، 320.
سعيد بن المسيّب، أحد الفقاء السبعة (ت. 94 هـ./712 م.) 282.
سعيد سيدا الجزري (1889-1968م.) 83، 84، 85، 329.
سعيد الكردي النورسي (1873-1960م.) 300، 301، 328.
سفيان الثوري/ راجع: الثوري.
السقَطيّ، أبو الحسن سَرِيّ ابن المغلِّس (ت. 251 هـ./865 م.)21.
سلجوق أرايدين، باحث تركي معاضر. 98، 130، 141.
السلطان أبايزيد الأول، يلدرم بن مراد، السلطان العثماني (1347-1402م.) 29، 31.
السلطان أبايزيد الثاني، صوفي بايزيد الولي بن محمد الفاتح (1448-1512م.) 29.
السلطان تيبو، قائد عسكري هندي (1749-1799م.) 237.
السلطان سليمان القانوني بن سليم الأوّل (1494-1566م.) 29.
السلطان عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد (1842-1918م.) 45، 284، 288، 292، 293، 294، 319.
السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني (1546-1595م.) 88.
السلطان محمد الفاتح بن مراد الثاني (1432-1481م.) 29، 30، 31.
السلطان محمو الثاني بن عبد الحميد الأوّل (1784-1839م.) 33، 149، 250، 251، 313.
السلطان وحيد الدين بن عبد المجيد (1861-1926م.) 286.
سلمان الفارسي (ت. 656م.) 169، 174، 181، 182، 348.
سليمان بن يسار، أحد الفقاء السبعة (34-107 هـ./654-725 م.) 182.
سليمان زهدي. 89، 110،
سليمان حلمي طوناخان، تُنسَبُ إليه الفرقة السليمانية وهم طائفة من النقشبنديّين (1888-1959م.) 66، 328، 333، 360.
السماسي/ راجع: محمد بابا السماسي.
السمرقندي، درويش محمد (ت. 936 هـ./1529 م.) 170، 215.(65/9)
السهروردي، شهاب الدين أبو الحفص عمر بن محمد بن عبد الله ابن عمويه (539-632 هـ./1145-1234 م.) 79.
سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التستري (200-283 هـ./815-896 م.) 21.
سميح عاطف الزين، باحث عربي معاصر. 10، 17، 108، 144، 192، 259.
السني، أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق (ت. 364 هـ./975 م.) 97،
السويدي/ راجع محمد أمين بن علي.
السيد شريف الجرجاني (740-816 هـ./1339-1413 م.) 26، 207، 208.
السيد علي بن صبغة الله الحيزاني الأرواسي، نُفِذَ فيه حكم الإعدام سنة: 1913م. 290.
السيد فهيم الأرواسي (1825-1895م.) 291.
سيف الدين الفاروقي/ راجع: الفاروقي.
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (849-911 هـ./1445-1505 م.) 76، 79، 135.
ش
الشاذلي، أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز المغربي (591-656 هـ./1195-1258 م.) 83.
الشافعي، محمد بن إدريس (150-204 هـ./767-819 م.) 165، 190، 316، 353، 354.
شاه رؤوف أحمد. 237.
شاه عالم محمد أكبر الثاني (ت. 1172-1221م.) 237.
شاه عباس الصفوي/ راجع: الصفوي.
شاه نقشبند/ محمد بهاء الدين البخاري (718-791 هـ./1318-1389 م.) 9، 25، 112، 154، 158، 170، 193، 201، 203.
شاه ولي الله الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (1114-1176 هـ./1704-1766 م.) 217، 238، 264.
شريف أحمد بن علي. 50، 89، 160.
الشريف الجرجاني/ راجع: السيد شريف الجرجاني.
شريف ماردين: راجع: مقدّمة المؤلّف.
الشعراني/ راجع عبد الوهّاب الشعراني.
شمس الأئمة/ راجع السرخسي.
شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان (1111-1195 هـ./1699-1781 م.) 48، 170، 234، 235.
شمس الدين سامي (1850-1904م.) 183.
شهاب الدين الشيرواني. 209.
شهاب الدين بن صبغة الله الأرواسي. نُفِذَ فيه حكم الإعدام سنة 1913م. 285، 287، 344.
شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي/ راجع الآلوسي.
الشطّاري، عبد الله.50.
الشطّاري، محمّد 50، 225.(65/10)
الشيباني، ابن الأثير عزّ الدين أبو الحسن على بن أبي الكرم (555-630 هـ./1160-1233 م.) 15، 188، 189.
الشيخ شادي. 159.
شريف أحمد بن علي. 50، 89، 160.
الشيرازي،آية الله ناصر مكارم. من علماء الشيعة المعاصرين. 77.
ص
صادق الحلوائي. 216.
صالح باشا. 251.
صالح السيبكي. 288.
صبغة الله الحيزاني الآرواسي (ت.1870م.) 285، 286، 290، 341.
صتُوك بُوغْراخان (959م.) 12،
صدر الدين البخاري. 192.
صدر الدين القنوي، محمد بن إسحاق (ت. 672 هـ./1273 م.) 135.
الصفوي، شاه عباس الكبير، شاه إيران (1571-1629م.) 229.
صلاح الدين بن السيد علي بن صبغة الله الحيزاني الأرواسي. 290.
ط
طاهر العقري. 276.
عبد الرحمن الكردي العقري. 276.
طه الحريري. 91، 293.
طه النهري الهكاري/ راجع: الهكاري.
الطبري، أبو جعفر محمّد بن جرير (224-310 هـ./839-923 م.) 15، 70.
الطبقجلي، محمد أمين بن محمد صالح (1173-1232 هـ./1760-1816 م.) 260.
الطويلي، عمر بن عثمان. 277.
ع
عابد شلبي. 31،
عارف الريوكري (ت. 606هـ./1209م.) 169، 174، 194.
العامري، مرارة بن الربيع. 69،
عباس الصفوي/ راجع: الصفوي.
عباس العزّاوي (ت. 1971م.) 84، 245ن 246، 250، 252، 260، 271.
عبد الله الإلهي (ملاّ إلهي) 29، 31،
عبد الباقي بن محمد الكفروي. 287، 344.
عبد الجميل. 191.
عبد الحكيم الأرواسي (1865-1943م.) 83،
عبد الحميد البريفكاني. 293.
عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الحنبلي. 188.
عبد الخالق الغجدواني (ت. 575 هـ./1179 م.) 98، 111، 154، 169، 174، 186، 191، 193، 205.
عبد الرحمن الدمشقية، باحث عربي معاصر/ راجع: مقدمة المؤلّف.
عبد الرحمن خان. 216.
عبد الرحمن عبد الخالق، باحث عربي معاصر. 137، 138، 192، 343.
عبد الرحمن الوكيل، باحث عربي معاصر. 10، 137، 138.
عبد الرحيم البرزنجي. 240.
عبد العزيز بن شاه ولي الله الدهلوي (1159-1239 هـ./1746-1824 م.) 217.(65/11)
عبد الغفور الكردي الكركوكي. 276.
عبد الغفور المشاهدي. 277.
عبد الغني النابلسي (1050-1143 هـ./1641-1731 م.) 135، 362.
عبد القادر البرزنجي. 276.
عبد القادر بن حبيب الله السندي، باحث مستعرب معاصر. 17، 83، 137، 184.
عبد القادر بن شيبة الحمد، باحث عربي معاصر. 108.
عبد القادر بن عبيد الله بن طه النهري (1850-1925م.) 285، 286.
عبد القادر الديملاني. 277.
عبد القادر الجزائري (1807-1883م.) 281.
عبد القادر الجيلي أو الجيلاني (470-561 هـ./1077-1166 م.) 190.
عبد القادر الحيدري. 249، 250، 307.
عبد القاهر الذوقيدي. 329.
عبد الكريم البرزنجي. 188.
عبد الكريم البياري. 240.
عبد الكريم الجيلي (1365-1428م.) 80، 111، 131، 342.
عبد الهادي بن محمد الكفروي. 287.
عبد الوهّاب الشعراني (898-973 هـ./1493-1565 م.) 135.
عبد الوهّاب السوسي. 67، 265، 266، 267، 270، 271، 272، 346، 347، 348، 357، 358، 364.
عبدالله الأرزنجاني. 277.
عبدالله الإلهي (ت. 1487م.) 29، 30، 31، 213.
عبدالله باشا (حاكم عكّا) 347، 348.
عبدالله بن أسعد اليافعي اليمني المكّي (700-768 هـ./1301-1367 م.) 186.
عبدالله ابن المبارك المروزي (118-181 هـ./736797 م.) 21.
عبدالله ابن مسعود (653م.)21، 72، 74، 75، 182.
عبدالله ابن المقفع (109-145 هـ./727-762 م.) 22.
عبدالله الجلي، من خلفاء خالد البغدادي. 276.
عبدالله الخالدي المخزومي، والد الشيخ سليمان الخالدي الأسعردي الشهير بتصانيفه. 329.
عبدالله الخرباني. 240.
عبدالله الشطّاري. 50.
عبدالله الفردي. 277.
عبدالله المكّي، من خلفاء خالد البغدادي. 89، 343.
عبدالله الهروي، من خلفاء خالد البغدادي. 277.
عبد الفتّاح الكردي العقري (ت. 1860) 270، 276، 288.
عبدالمجيد بن محمد بن محمد الخاني/ راجع: الخاني.(65/12)
عبيد الله ناصر الدين الأحرار (ت. 895 هـ./1490 م.) 30، 31، 62، 63، 64، 65، 88، 152، 170، 174، 210، 211، 212، 213، 214، 215، 219.
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهزلي، أحد الفقهاء السبعة. 182.
عبيد الله بن طه النهري (ت. 1888م.) 284، 285، 286.
عبيد الله الحيدري. 260، 277.
عثمان بن عفّان (ت. 35 هـ./656 م.) 20، 240.
عثمان الطويلي/ راجع: الطويلي.
عدنان مندريس (رئيس وزراء تركيا الأسبق 1899-1961) 325، 333، 336.
عرفان جندوز. 44، 59، 82، 93، 89.
عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي، أحد الفقهاء السبعة (22-93 هـ./643-712 م.) 182.
عصمت غريب الله.44، 59، 82، 89، 90، 93، 89.
علاء الدين العطّار (ت. 802 هـ./1400 م.) 170، 174، 207، 208، 209.
علي أفندي أركبي. 251.
علي باشا تبه دلنلي. 252.
علي بن أبي طالب (23ق. هـ. 40هـ./600-661 م.) 20، 66، 180، 199، 206، 235، 283، 285، 333.
علي بن حسين الواعظ الكاشف البيهقي (1462-1533م.) 49، 50، 62، 88، 210، 212.
علي بن قوام الجنبوري. 50.
علي الرامتني، خواجهء عزيزان (ت. 721 أو 728 هـ.) 170، 174، 197.
علي شربجي، محقق عربي معاصر. 47.
علي بن سلطان الهروي القاري (ت. 1014 هـ./1606 م.) 139،
علي قدري. 40، 44، 50، 93، 98، 104،
علي القدسي. 139.
علي محمد البلخي. 89.
علي نائلي. 90،
عمر أونكوت، متشيّخ نقشبنديّ معاصر. 294، 360، 361.
عمر بن الخطّاب (40 ق. هـ. 23 هـ./584-644 م.) 154، 211، 218.
عمر بن الفارض (576-632 هـ./1181-1235 م.) 123، 124، 132.
عمر دميرجان، باحث تركي معاصر. 38،
عمر فاروق أفندي، نحل الشيخ سعيد شيدا الجزري. 85.
عمر فريد كام. (1864-1944م.) 132.
عيسى عليه السلام.15، 74، 92، 118.
غ
الغزالي حجة الإسلام محمد بن محمد (450-505 هـ./1058-1111 م.) 79، 88، 118، 189، 190، 223، 224.
غلام علي عبد الله الدهلوي/ راجع: الدهلوي.
ف(65/13)
الفاروقي، محمد المعصوم (1007-1079 هـ./1599-1668 م.) 31، 170، 174، 231، 232، 237، 348.
الفاروقي سيف الدين (1049-1098 هـ./16301696 م.) 170، 174، 232، 233، 234.
فؤاد كوبرولو (1890-1966م.) 10،38، 190.
فتح الله الورقانسي. 329.
فخر الدين بن محمد الحزين الفرسافي الحسني الهاشمي. (ت. 1914م.) 351.
فخر الدين الرازي/ راجع الرازي.
فريد الدين العطّار (ت. 627 هـ./1230م.)111، 131، 138.
فريديريك ويلهلم رادلوف/ راجع: رادلوف.
الفضيل ابن عياض بن مسعود التميميّ اليربوعيّ (105-187 هـ./723-803 م.) 21، 133.
الفيروزآبادي، أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي (729-817 هـ./1329-1414 م.) 75.
ق
القازاني، محمد مراد بن عبد الله، معرِّب الرشحات ومكتوبات الربّاني (ت. 1352- هـ./1933 م.) 218، 220، 221.
قاسم آتاج، عميل يهود سالونيك الذي دسّته الحكومة التركية في صفوف الثوّار النقشبنديّين عام 1925م. 320.
قاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق، أحد الفقهاء السبعة (31-106 هـ./653-721 م.) 169، 182، 183، 348.
قاسم النوري، محقق عربي معاصر.47.
قاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكي (496-544 هـ./1103-1149 م.) 133.
القرّاب/ راجع: الهروي.
القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي (ت. 671 هـ./1273 م.) 71، 72.
قسيم السنندجي. 240.
قسيم الكفروي/ راجع: الكفروي.
القشيري، مسلم بن حجّاج (206-261 هـ./810-875 م.) 125.
القشيري، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طاحة (376-465 هـ./986-1073 م.) 104، 129، 160، 186، 188، 189،.
القنوي/ راجع: صدر الدين القنوي.
ك
كامران إينان، سيايسيّ معاصر وعضو في البرلمان التركي. 290، 291.
كامل يلماز، باحث معاصر تركي. 294،
كحّاله، عمر رضاء، باحث عربي معاصر. 15، 17، 18، 21، 22، 26، 83، 85، 123، 183، 217، 220، 315.(65/14)
الكرخيّ، أبو محفوظ معروف بن فيروز (ت. 200 هـ./815 م.) 21.
الكردي، محمّد أمين الأربلي (ت. 1332 هـ./1913 م.) 40، 42، 44، 50، 59، 83، 90، 99، 102، 105، 110، 112، 121، 123، 130،
الكستلي، مصطفى بن محمد (ت. 901 هـ./1460 م.)153.
كعب بن مالك . 69.
الكفروي، الشيخ قسيم (1920-1992م.) 28، 48، 175، 213، 234، 242، 270، 289، 344.
كلال بن حمزة/ راجع/ الأمير كلال.
كمال قاجار، من شيوخ النقشبنديّين المعاصرين في تركيا، ورئيس الفرقة السليمانية. 360.
كوبيلاي، مصطفى فهمي، ملازم ثاني؛ قُتِلَ في وقعة منامن (1906-1930) 324.
الكوثري/ راحع: محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي.
ل
لاز إبراهيم خواجه، (الحشّاش الذي استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطّةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير. نُفِذَ فيه حكم الإعدام مع زميله كش مهمد، إي محمد الحشّاش وذلك عام 1930م.) 323.
لطف الله الأسكوبي. 31،
م
الماتريدي، الإمام أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريديّ (ت.333 هـ./944 م.) 128.
مالك بن أنس، إمام دار الهجرة (93-179 هـ./712795 م.) 191.
المحلّي، جلال الدين بن محمد بن أحمد (791-864 هـ./1389-1459 م.) 76.
محمدد أبو بكر بن الطيّب الباقلاني/ راجع: الباقلاني.
محمد امين بن علي السويدي (1200-1246 هـ./1785-1831 م.) 246، 247، 260، 261.
محمد أمين بن محمد صالح الطبقجلي. 260.
محمد أسعد أفندي/ راجع: الإسطنبولي.
محمد إسماعيل الشهيد. 264.
محمد بابا سماسي (755هـ.-1354م.) 170، 174، 198.
محمد البغدادي الإمام. 276.
محمد بن إسماعيل البخاري، إمام المحدّثين (194-256 هـ./810-870 م.) 43، 68، 69، 100، 126، 345.
محمد بن جرير الطبري/ راجع: الطبري.
محمد أمين الكردي الأربلي/ راجع: الكردي.
محمد الباقي بالله الكابلي (971-1012 هـ./1563-1603 م.) 47، 62، 170، 235.
محمّد بهاء الدين البُخَاريّ/ راجع: شاه نقشبند.(65/15)
محمد بهاء الدين بن عبد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار (1265-1328هـ./1849-1910 م.) 138.
محمد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيدي البغدادي، من خلفاء خالد البغدادي (ت.1234 هـ./1819 م.) 27، 89.
محمد بن عبد الله الخاني/ راجع: الخاني.
محمد بن عبد الله بن عبد الملك الطائي، ناظم الألفية الشهيرة في النحو (600-672 هـ./1204-1274 م.) 304.
محمد بن عبد الوهّاب بن سليمان التميمي النجدي (1115-1206 هـ./1703-1792 م.) 310، 315، 316.
محمد محمد الجدبد البغدادي.
محمد الحزين الفرسافي الحسني الهاشمي (1816-1892م.) 286، 288، 329، 341، 351، 356، 359، 360.
محمد الخواجكي الأمكنكي/ راجع: الأمكنكي.
محمد رائف. 91،
محمد رشيد باشا (الفريق) 279.
محمد زاهد البدخشي/ راجع: البدخشي.
محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري الجركسي ( 1296-1371هـ./ 1879-1952م.) 82، 90، 138، 139، 175، 288، 289.
محمد زاهد كوتكو (ت. 1980م.) 91،
محمد سعيد بن أحمد الفاروقي السمرقندي. 160، 232.
محمد شريف العباسي. 88،
محمد الشطّاري. 50، 225.
محمد شيرين بن صبغة الله الحيزاني. نُفِذَ فيه حكم الإعدام شنة 1913م. 287.
محمد صالح بن أحمد الغرسي.
محمد صدّيق خان بن الحسن القنوجي البخاري (1248-1307 هـ./1832-1889 م.) 84.
محمد عاشق 276.
محمّد عبده (1266-1323 هـ./1850-1905 م.) 282.
محمّد علي باشا، حاكم مصر (1769-1849م.) 252.
محمد الغريب. 286.
محمد الفراقي الكردي. 277.
محمد فوزي (المفتي الأسبق لمدينة أدرنة) 358.
محمد الكردي. 240.
محمد الكفروي. 287، 351.
محمد الناصح. 277.
محمد نامق باشا (المشير). 279.
محمد المجذوب العمادي. 277، 326.
محمد مطيع الحافظ، باحث عربي معاصر. 51، 55، 239، 240، 246، 275، 349.
محمد المعصوم الفاروقي/ راجع: الفتروقي.
محمّد الفاتح ( هـ./ م.)
محمد المحلّي/ راجع: المحلّي.(65/16)
محمود أسطى عثمان أوغلو، شيخ طائفةٍ من النقشبنديّين في إسطنبول. 50، 90، 92، 145، 160، 366.
محمود الإنجيرفغنوي (ت.715 هـ./1315 م.) 170، 174، 195، 196.
محمود سبكتكين، ثالث ملوك الغزنويّين وأشعرهم (970-1030م.) 188.
محمود سامي رمضان أوغلو، شيخ نقشبندي تركي. 294، 329.
محمود شاكر، فاضل عربي معاصر . 175، 218.
محمود شلبي. 29.
محمود الصاحب، شقيق خالد البغدادي.278، 282.
محي الدين بن عربي/ راجع: ابن عربي.
مراد بن علي الأزبكي المنزوي، خليفو معصوم الفاروقي (1054-1132 هـ./1644-1719 م.). 31، 313.
مرارة بن ربيع العامري/ راجع: العامري.
مرزا رحيم الله بيك محمد درويش العظيم آبادي. 242.
المرسي، عبد الحق بن إبراهيم بن سبعين (614-669 هـ./1217-1271 م.) 112.
مروان إبراهيم القيسي، باحث عربي معاصر. 10، 118، 138، 224.
مسلم بن حجاج القشيري/ راجع: القشيري.
مصطفى أبو يوسف الحمامي (ت. 1368 هـ./1949 م.) 160.
مصطفى بن محمد الكستلي/ راجع: الكستلي.
مصطفى صبري، آخر من احتل منصب المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية (1277-1373 هـ./1860-1954 م.) 139، 289.
مصطفى فهمي كوبيلاي/ راجع: كوبيلاي.
مصطفى فوزي (1871-1924م.) 59، 80، 82،
مصطفى الكلعنبري. 276.
مصطفى موغلالي. 324.
مصلح الدين الطويل. 31.
المطرزي، ناصر الدين عبد السيّد (ت. 610 هـ./1213 م.) 212.
معروف التكريتي. 276.
معاوية بن أبي سفيان (610-680م.) 20.
المقتدر بالله جعفر بن أحمد المعتضد، الخليفة الثامن عشر من سلالة العباس بن عبد المطلب (295-310 هـ./908-923 م.) 17.
ملاّ أحمد الجزري. 123، 124.
ملاّ جامي/ راحغ الجامي.
ملاّ خالد الكردي. 277.
ملاّ خضر أفندي. 334.
ملاّ عباس الكوكي. 276.
ملاّ محمد شريف. 84.
ملاّ هداية الله الأربلي.276.
ملاّ رسول. 273.
موسى الجبوري. 276.
موسى صفوتي باشا. 279.
موسى كاظم الحزيني (ت. 1997) 356.(65/17)
مؤمن الشبلنجي (كان حيًّا في 1290 هـ./1873 م.) 183.
منير بعلبكي، فاضل وباحث عربي معاصر. 51، 104، 119.
ميرزا مظهر/ راجع شمس الدين حبيب الله.
المير عبد الأوّل. 213.
الأمير كلال بن حمزة (ت. 772 هـ./1370 م.) 170، 174، 199، 200، 206، 207، 208.
المنوفي، السيد محمود أبو الفيض 21، 120.
ميمون بن ديصان القدّاح. 206.
ن
ناصر الدين عبيد الله الأحرار/ راجع: الأحرار.
ناصر الدين عبد السيد المطرزي/ راجع: المطرزي.
النابلسي/ راجع: عبد الغني النابلسي.
النبهاني، يوسف بن إسماعيل (1265-1350 هـ./1849-1932 م.) 69، 157، 160، 168، 191.
نحم الدين أرباكان، سياسيّ تركيّ معاصر. 331، 360.
نجم الدين دادروك. 204.
نجيب فاضل، شاعر تركي (1905-1983م.) 83، 292.
نزار أباظة، باحث عربي معاصر. 239، 240، 246، 275.
الندويّ، أبو الحسن، باحث هندي معاضر. 50، 51، 132، 218، 220، 221، 222، 224، 225، 228، 236، 239، 243.
النسائي، أبو عبد الرحمن المحدّث (215-303 هـ./830-915 م.) 97.
النسفي، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود (ت. 710 هـ./1310 م.) 73،
النسفيّ، أبو حفص عمر بن محمّد (461-537 هـ./1069-1142 م.) 18.
نظام التهانيسري. 221.
نظام الملك، حسن بن علي (1018-1092م.) 189.
نعمان بن محمود الآلوسي/ راجع: الآلوسي.
نعمة الله بن عمر. 40، 50، 88، 130.
النهري، طه الهكّاري/ راحع: الهكّاري.
نوح عليه السلام. 92،
نور الدين البريفكاني. 266، 293.
نور محمد البدواني (ت. 1135 هـ./1772 م.) 170، 174، 233، 234، 235.
النوويّ، محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين (631-677 هـ./12331278 م.)47، 97.
هـ
الهرويِّ، إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحمن القرّاب (330-414 هـ./942-1023 م.) 18.
الهكّاري، طه النهري الشمزيناني الكيلاني (ت. 1853م.)91، 133، 277، 283، 284، 285، 286، 288، 293، 341، 351، 359.
الهلال بن أمية الواقفي/ راجع: الوتقفي.(65/18)
الهمداني، أبو يعقوب يوسف (440-535 هـ./1048-1140 م.) 169،174، 176، 189، 190، 191، 192، 344.
و
الواقفي، هلال بن أمة. 69،
ولهلم، فريديريك رادلوف/ راجع: رادلوف.
ي
ياسين بن إبراخيم السنهوتي. 157.
اليافعي/ راجع: عبد الله بن أسعد اليافعي.
ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي (574-626 هـ./1178-1229 م.) 189.
يحيى المزوري (ت. 1252 هـ./1836 م.) 260، 261.
يزيد بن أسلم. 70.
يعقوب الجرخي (ت. 851 هـ./1447 م.) 170، 174، 209، 210، 211، 213، 214.
يعلى بن شدّاد. 59.
يقو، (يهوديٌّ من سكان مدينة إزمير، استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير-تركيا) 323.
يودا، (يهوديٌّ من سكان مدينة إزمير، استخدمته الحكومة عميلاً لتنفيذ خطةٍ في مدينة منامن التابعة لولاية إزمير-تركيا) 323.
يوسف بن إسماعيل النبهاني/راجع: النّبهاني.
يونس بن عبد الأعلى. 353.
يونس أمراه التركماني. 131.
***
المصطلحات والمفاهيم والتعبيرات
الخاصّة والملل والنخل
أ
* الأتراك: وردت هذه الكلمة مبعثرة في ثنايا الكتاب أكثر من سبعين مرةً .
* إثبات النّظر في الأمام: 103، 104.
* إدّعاء النقشبنديّين: أن معتقدهم هو معتقد أهل السنة. 98، 171.
* إدّعاء النقشبنديّين: أنهم لم يزيدزا ولم ينقصوا. 171، 187.
* الإسترخاء: 110.
* استحضار صورة الشيخ في الذهن : 45، 46، 54، 58، 65، 67، 81.
* الاستمداد من روحانية الشيخ: 62، 97، 156، 177، 183، 204، 326، 335، 347.
* إشتقاق كلمة التّصوّفِ : 118.
* إعتكاف : 122.
* إغلاق الباب : 59، 61، 62، 95.
* القاب الطريقة النقشبندية : 27، 179.
* إلَهيّات: تسمية ماكرة أطلقها حكّام النظام العلماني على كليات العلوم الإسلامية في جامعات تركيا. 86.
* الأويسية: 27، 115، 120، 154، 181، 183، 185، 226،.
ب
* البرهمية: وردت بكثرة في تضاعيف الكتاب.
* البوذية : وردت بكثرة في تضاعيف الكتاب.
* البكتاشية : 20.(65/19)
* البنجرية : 20.
* البيرمية : 20.
* البيعة : 40.
ت
* التركيز الفزيولزجي Consantration physiologic: 113.
* ترانس (Trence) 53.
* التصوف: 117.
* التكية : 45.
* تغميض العينين: 46.
ج
* الجراحيّة : 20، 259.
ح
* حبس النَفَسِ : 48، 49، 50، 52، 53، 54، 60.
* الحروفيّة : 20.
* حفظ النَّفَسِ : 101.
* الحقيقة المحمدية : 118.
خ
* خواجه : كلمة فارسية بمعنى الشيخ والعالم. 95، 96.
* الخوارج : 20.
* الخلوتيّة : 20.
* الخلوة 100، 106، 108، 121، 122، 129.
* الخفيفيّة : 20.
ذ
* الذكر : 45، 46.
ر
* رابطة. 54.
* الروشنيّة : 20.
* رؤيا شاه نقشبند: 25.
* الرياضة البوذية : 108.
ز
* زهّاد : 21.
* زنادقة العجم: 22.
س
* السير والسلوك: 120
ش
* الشامانية: 15، 20.
* الشيعة : 20، 30، 77، 175، 222، 229، 308.
ص
* "صاحب" : 248.
ط
* طالبان: إسمٌ أطلِقَ على الحكومة الأفغانيةِ التي شكلتها جماعة من طلبةِ الجامعات الإسلامية ذات الطابع القديم والمتخلّف في باكستان. 23.
* طابع الطريقة النقشبندية: 28.
ع
* العارف بالله : 41، 127، 128.
* العشقَ الإلهيَّ :123.
* عكل (اسم فبيلة من العرب): 69.
غ
* الغفلة : 101.
* الغيبوبة Transandantal absance: 113.
ف
* الفناء في الله : 105، 122، 128.
* الفناء والبقاء : 128.
ك
* الكلشنيّة : 20.
* كلمة التصوّف : راحع: التصوّف
* كلمة "صاحب" 248.
* كلمة "قدّس الله سرّه" 133.
* كلمة "ميان" : 248.
* كلمة (نقشبند) : 9.
* كلمة نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
ل
* اللطائف الخمس: 92.
* اللغة التركية :19، 23، 24، 28، 59، 82.
* اللغة الفارسية :23، 24، 37، 38، 175، 220.
* لفظ التصوّف/ راجع : كلمة التصوف.
* لفظ "صاحب" 248،
* لفظ "قدّس الله سرّه" 133.
* لفظ "ميان" : 248.
* لفظُ (نقشبند) : 9.
* لفظ نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
* لوطوس Lotus : 110.
م
* مانترا (Mantra : om, mani, padme, hum)53، 109.(65/20)
* المانوية: 20.
* مديتيشن (Meditation) 53.
* المزدكية: 20.
* مصطلحات فارسية للصوفية: 99.
* مصطلحات عربية للصوفية: 100، 120.
* مفاهيم دخيلة : 125.
* مفاهيم باطنية : 120.
* مقولة "قدّس الله سرّه" 133.
* ملاّ :هي كلمةٌ فارسيّةٌ مبعثرة في ثنايا الكتاب؛ تأتي بمعنى الشيخِ والعالمِ. استعمالُها كثيرة في إيران وأفغانستان وباكستان، وكذلك في تركيا على سبيل الوصف لرجال الدين. يأتي جمعُ هذه الكلةِ بصيغةِ (ملالي) على لسان العرب.
* الملاميَّة : 29، 245، 349.
* المعرفة بالله: 125.
* "من لا شيخ لخ..." : 40، 345.
* ميان: 248،
ن
* النَّفَسُ الوزون : 110
* نقشبند: 9.
* نيرفانا (Nirvana) : 53، 104.
هـ
* الهَيَاطِلَةُ: 15.
* الهمّة والبركة: 200، 269، 347.
و
* وحدة الوجود: 131.
* "وكن عنده كالميّت عند مغسل": 44.
* الواصل إلى الله: 40، 41، 107، 121، 343.
ي
* اليوغا : 50، 51، 52، 60، 61ن 62، 103، 109، 110، 111، 225، 226، 246.
***
أسماء الأماكن والمعالم التاريخية والجغرافية
أ
* أفغانستان: 23،
* آماسيا :
ب
* بخارى: 15،
* بخيرة آرال: 15،
* بنطس: 89،
* البشتون: 23،
ت
* تركستان: 28،
ج
* جامعة مرمرا: 86،
* جَيْحون : 15،
خ
* خراسان: 17، 22،
* خُوَارِزمْ : 15
س
* سمرقند: 15،
* سَيْحون : 15،
ط
* طاشكند: 15،
* طربزون: 89،
غ
* غار حراء : 122،
ف
* فرغانة: 15.
ك
* الكداهية : 29،
م
* ماوراء النهر : 17، 22، 28،
* مسجد إسماعيل آغا: 89،
* مكتبة السليمانية: مكتبة قديمة ضخمة في إسطنبول.يزيد عدد الكتب الموجودة فيها عن أربعمائة ألف مجلّد، كلها أثرية
***
المراجع العربية
أ
أبجدية التصوّف الإسلاميّ، محمد زكي إبراهيم – 1995م. الطبعة الخامسة.
إثبات المسالك في رابطة السالك، مصطفى فوزي.
إثبات النبوّة، أحمد الفاروقي السرهنديّ.
الأجرمية، ابن آجرّوم، محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسيّ.(65/21)
الأذكار المنتخبة من كلام سيّد الأبرار (الأذكار النووية ) محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود العماديّ.
إرغام المريد، محمد زاهد الكوثري.
اصطلاحات الصوفية، خالد البغداديّ، مكتبة السليمانية خزانة لالا إسماعيل رقم: 699/5 إسطنبول.
أصول التصوف الإسلاميّ، حسن شرقاوي، دار المعرفة. الجامعة. إسكندرية – 1991م.
الأعلام، خير الدين زيركلي.
ألفية ابن مالك، محمد بن عبد الله بن مالك الطائي.
الانتباه في سلاسل الأولياء، أحمد بن عبد الحليم شاه ولي الله الدهلويّ.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل، أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاويّ.
الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية، ياسين بن إبراهيم السنهوتي.
إيضاح الطريقة، عبد الله الدهلويّ، مكتبة السليمانية خزانة حسني باشا رقم: 7421 إسطنبول
ب
البصائر لمنكري التوسّل بالمقابر، حمد الله الداجويّ.
بغية الواجد، أسعد بن محمود الصاحب.
البهائية والقاديانية، أسعد السمحرانيّ.
البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، محمد بن عبد الله الخانيّ.
ت
التاج المكلّل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأوّل، محمّد صدّيق خان بن الحسن القنوجيّ البخاريّ.
التاريخ الإسلاميّ، محمود شاكر.
تبرئة الغبيّ عن طعن ابن عربي، جلال الدين عبد الرحمن السّيوطيّ.
تبصرة الفاصلين عن أصول الواصلين، سليمان زهدي.
تحرير الخطاب في الردّ على خالد الكذّاب، معروف النودهي البرزنجيّ.
تحفة العشّاق، إبراهيم الفصيح.
تذكرة الرجال، عبد الكريم البياري.
تذكرة الحفّاظ، الحافظ الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير.
تفسير نمونة (بالفارسية)، لجنة بإشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي.(65/22)
تكملة النفحات الأقدسية في شرح الصلوات العظيمة الإدريسية، محمد بهاء الدين بن عيد الغني بن حسن بن إبراهيم البيطار.
تلبيس إبليس، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزيّ.
التصوّف الإسلاميّ مدرسةً ونظريةً، محمد جلال شرف، دار العلوم العربية – بيروت 1990م.
التصوّف الإسلاميّ منهجًا وسلوكًا، عبد الرحمن عميرة، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة.
التصوّف العربيّ، محمد ياسر شرف، دار الهلال القاهرة – 1982م.
التصوّف في ميزان البحث والتحقيق، عبد القادر حبيب الله السنديّ. مكتبة ابن القيم، المدينة المنوّرة – 1990م.
تصوّفك ظفرلري، شيخ صوفوت. إسطنبول – 1343 هـ.
تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، محمد أمين الكرديّ الأربليّ.
تنوير المقباس في تفسير ابن عبّاس، أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي
تهذيب التهذيب، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمدد ابن حجر العسقلانيّ.
ج
جامع الأصول، أحمد ضياء الدين الكموشخانوي.
جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبريّ.
جامع كرامات الأولياء، يوسف بن إسماعيل النبهاني.
ح
الحجج البيّنات في ثبوت الاستغاثة بالأموات، علي محمد البلخيّ.
الحدائق الوردية في حقائق أجلاّء النقشبنديّة، عبد المجيد بن محمد بن محمد الخانيّ.
الحديقة النّدية في الطريقة النقشبندية، محمد بن سليمان البغداديّ.
حلّية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدّعوة والأذكار (الأذكار النووية) ) محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ.
حلّية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الإصفهاني.
د
الدرر السّنية في الردّ على الوهّابية، أحمد بن زيني دحلان.
دفع الظلوم عن الوقوع في عرض هذا المظلوم، محمد أمين بن علي السّويدي.
دين الله الخالص، محمد صدّيق خان بن الحسن القنوجي البخاريّ، دار الكتب العلمية – بيروت 1995م.(65/23)
دين الله الغالب على كلّ منكرٍ مبتدعٍ كاذب، أبو سعيد عثمان بن سليمان بن محمد أمين بن حسين بن إسماعيل بن عبد الجليل الحيائي الموصليّ
ر
رجال الفكر والدعوة في الإسلام، أبو الحسن الندويّ.
الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة، حسين الدّوسريّ.
الردّ المتين على منتقص العارف بالله محي الدين، عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي.
الردّ على القائلين بوحدة الوجود، ملاّ علي بن سلطان القاريّ.
الرسالة الأسعدية، أسعد الأربليّ.
الرسالة التاجية، تاج الدين بن زكريا الهنديّ.
الرسالة الخالدية، خالد البغداديّ.
الرسالة الشطّارية، بهاء الدين الأنصاريّ القادريّ.
رسالة في آداب الطريقة النقشبندية، أحمد خليل البقاعيّ.
رسالة في تحقيق الرابطة، خالد البغداديّ.
الرسالة القدسية، عصمت غريب الله.
الرسالة القشيرية، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ.
الرسالة المدنية، نعمة الله بن عمر.
الرسالة المشغولية، أحمد سعيد المجدّديّ.
الرسالة البهائية علي قدري (ترجمة: رحمي سرين). إسطنبول-1994م.
ز
الزمرد العنقاء، مجمعوة مكوَّنَةٌ من رسائلَ مختلفةٍ.
س
السطرايات (تعاليم باتانجالي الراهب)
السعادة الأبدية فيما حاء به النقشبندية، عبد المجيد بن محمد بن محمد الخانيّ.
سلّ الحسام الهندي في نصرة مولانا خالد النقشبندي، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز إبن عابدين.
سلسلة العارفين وتذكرة الصدّيقين، محمد زاهد البدخشي.
ش
شذرات الذّهب في أخبار من ذهب، ابن العماد عبد الحي بن أحمد بن محمد بن عماد العكري الدّمشقي الحنبلي.
شرح السلسلة المرادية، درويش أحمد الطرابزونيّ.
شرح العقائد النسفية، سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانيّ.
شرح العقيدة الطحاوية، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزديّ.
شرح منظومة الأمالي، محمد بن سليمان الحلبيّ.
الشفاء، قاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي المالكيّ.(65/24)
شواهد الحقّ، يوسف بن إسماعيل النبهانيّ.
ص
صحيفة الصفا لأهل الوفاء، سليمان زهدي.
الصراط المستقيم، محمد إسماعيل الشهيد الدهلويّ.
صفات الصفوة، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزيّ.
الصوفية في إلهامهم، حسن كامل الطنطاوي، القاهرة – 1992م.
الصوفية في نظر الإسلام، سميح عاطف الزّين دار الكتاب اللبناني الطبعة الثالثة بيروت – 1985م.
الصوفية عقيدة وأهدافًا، ليلى بنت عبد الله.دار الوطن للنشر – الرياض.
الصوفية والتصوّف، عدنان حقي، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،7 مال.س. 20682-1 إسطنبول.
ض
الضابطة في الرابطة، سعيد سيدا الجزريّ.
ط
طبقات ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الزهريّ.
طبقات الشافعية، تاج الدين بن عبد الوهّاب بن علي السبكيّ.
الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة، زكريا سليمان البيّومي، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،75 بيت.
طواسين، حسين بن منصور الحلاّج.
ع
العقائد النسفية، أبو حفص عمر بن محمد النسفيّ.
العقل الصوفيّ في الإسلام، علي شلق، دار المدى.بيروت – 1985م.
العلم الشامخ، صالح المقبليّ.
علماء دمشق وأعيانُها، محمد مطيع الحافظ – نزار أباظة.
علماء الإسلام والوهّابيّون، مجموعة مكوّنة من خمسِ رسائلَ، قام بنشرها عقيد مدسوس في صفوف النقشبنديين. مكتبة إيشق، إسطنبول – 1972م
عمل اليوم والليلة، أبو عبد الرحمن النسائي.
عمل اليوم والليلة، أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السنيّ.
عين الحقيقة في رابطة الطريقة، محمد فوزي، مفتي ولا ية أدرنة في أواخر العهد العثمانيّ.
غ
غوث العباد، ببيان الرشاد، مصطفى أبو يوسف الحماميّ.
ف
الفتح الربّاني، عبد القادر الجيلانيّ، مكتبة السليمانية خزانة طاهر آغا رقم: 14 إسطنبول.
الفتوحات الإسلامية، أحمد زيني دحلان.مطبعة المدني القاهرة – 1968م.
الفتوحات المكّية، ابن عربي، محي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطاءيّ.
فصوص الحِكَم، للمؤلّف السابق.(65/25)
الفكر الصوفيّ في ضوء الكتاب والسّنّة، الطبعة الثالثة، عبد الرحمن عبد الخالق. مكتبة ابن القيم، الكويت.
فلسفة التصوّف، قدرات وطاقات، هاني يحيى نصر، منشورا مجلّة الثقافة. دمشق – 1990م.
ق
قاموس الأعلام، شمس الدين سامي.
قضايا الصوفيّة في ضوء الكتاب والسّنّة، محمد أسيد الجليند، مكتبة الزهراء – القاهرة 1990م.
قطر النّدى وبل الصدى، أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام.
القول الجميل في بيان سواء السّبيل، أحمد بن عبد الحليم شاه ولي الله الدهلويّ.
القول الصواب في ردّ ما سُمّي بتحرير الخطاب، / راجع دفع الظلوم......
ك
الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر، عبد الوهّاب الشعرانيّ.
كتاب الأربعين في شيوخ الصوفية، أبو سعيد أحمد بن محمد بن احمد الماليني، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،72 مال.ك. 51558 إسطنبول.
الكرامة الصوفية والأسطورة والحُلُم، على زيغور، مركز البحوث الإسلامية رقم: 297،7 زيك. ك. إسطنبول.
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشريّ.
كشف الظنون، حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله.
كنتُ قبوريًّا (اعترافات)، عبد المنعم الجدّاوي. الطبعة الرابعة. الرياض – 1981م.
كنز العرفان، أسعد الأربليّ.
ل
اللّباب في تهذيب الأنساب، ابن الأثير عزّ الدين أبو الحسن علي ابن أبي الكرم الشيبانيّ.
م
مجامع الحقائق في أصول الحنفية، عبد الوهّاب.
المجد التالد، إبراهيم الفصيح.
مجلة المجمع العلمي الكردي (مولانا خالد) عباس العزاّويّ.
مختصر شرح بن علاّن.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل، أبو البركات عبد الله بن احمد بن محمود النسفيّ.
مدخلٌ إلى التصوّف الإسلاميّ، أبو الوفاء الغنيمي التفتازانيّ. دار الثقافة القاهرة – 1991م.
المذاهب الصوفية ومدارسها، عبد الكريم عبد الغني قاسم، مكتبة مدبولي القاهرة – 1989م.(65/26)
مرآة الجنان وعبرة اليقظان، عبد الله بن أسعد اليافعيّ اليمنيّ المكّيّ.
المسموعات، محمد زاهد البدخشيّ.
معالم الطريق إلى الله، محمود أبو الفيض المنوفيّ.
معجم البلدان، ياقوت بن عبد الله الرومي الحمويّ
معجم المؤلفين، عمر رضاء كحّالة .
مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين التيّميّ البكريّ الرازيّ.
مقاصد الطالبين، محمد رائف.
المقامات المظهرية، غلام علي عبد الله الدهلويّ.
المقدّمة في التصوّف، أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن الحسين السلميّ، (تحقيق يوسف زيدان) مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة – 1987م.
مكاتيب شريفة، عبد الله الدهلويّ.
مكتوبات السرهنديّ.
مناقب عبد الخالق الغجدوانيّ، فضل الله بن روزبهان الإصفهانيّ، مكتبة السليمانية خزانة يحيى توفيق رقم: 54 إسطنبول.
منتخبات من مكتوبات السرهنديّ.
المنحة الوهبية في ردّ الوهّابية، داود بن سليمان البغداديّ.
منشورات المجمع العلمي الكرمانيّ.
منهج البحث عن اليقين بين السلف والصوفية، عبد المقصود عبد الغني، مكتبة الزهراء القاهرة – 1993م.
المؤامرة على الإسلام، أنور الجندي. الطبعة الثالثة، دار الإعتصام القاهرة – 1978م.
المواهب السرمدية في مناقب السادات النقشبندية، محمد أمين الكرديّ الأربليّ.
موسوعة بهجة المعرفة، نشرتها الشركة العامّة للنشر والتوزيع والإعلان في ليبيا.
موسوعة المورد، منير بعلبكي.
الموفي بمعرفة الصوفي، كمال الدين أبو الفضل جعفر بن تغلب المصريّ، تحقيق: محمد عيسى صالحة. مكتبة دار العربية. الكويت – 1988م.
موقف ابن عابدين من الصوفية والتصوّف، فريد صلاح الهاشمي.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الإمام الذهبيّ محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركمانيّ.
المصباح، ناصر الدين عبد السيد النمطرزيّ.
ن
نظرية الاتّصال عند الصوفية في ضوء الإسلام سارة بنت عبد المحسن بن عبد الله آل سعود. جدّة – 1991م.(65/27)
النقشبندية، عبد الرحمن الدمشقية. دار طيبة، الرياض – 1984م.
نهجة السالكين وبهجة المسلكين، سليمان زهدي.
نور الأبصار، مؤمن الشبانجيّ.
هـ
هذه هي الصّوفية، عبد الرحمن الوكيل. الطبعة الرابعة، دار الكتب العلمية بيروت – 1984م.
و
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلّكان أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر
ي
اليوغا، ج. توندريو – ب. رئال، ترجمة: إلياس أيوب. مكتبة المعارف، بيروت – 1988م.
***
المراجع الأجنبية
A. Faruk Meyan, ?ah-? Nak?ibend. ?stanbul-1970
A Group of Naqshabandis, Râb?ta ve Tevessül ?stanbul-1994
A Group of Naqshabandis, Ruhul Fukkan ?stanbul-1991
Ahmet Ya?ar Ocak, Menâk?bnâmeler. Ankara-1992
Ahmet Ya?ar Ocak, Türk Sufîli?ine Bak??lar ?stanbul-1996.
Ahmet Ya?ar Ocak, Osmanl? Toplumunda Z?nd?klar ve Mülhidler ?stanbul-1998.
Ahmet Ya?ar Ocak, Bekta?î Menâk?bnâmelerinde ?slâm ?ncesi ?nanç Motifleri, ?stanbul-1983.
Ahmet Ya?ar Ocak, Babaîler ?syan?, ?stanbul-1996
Ahmed Faruqî Serhindî, Mektûbât (Translation: Abdulkadir Akçiçek) ?stanbul-1979
Ali Kadri, Tarikat-? Nak?ibendiyye Prensipleri, ?stanbul-1994.
David Dean Commins, Change in late Ottoman Syria. New York-1960.
Erich From, Budhism and Psychoanalysis. New York-1960.
Ancyclopedia of Meydan Larousse, ?stanbul
Ancyclopedia of «Dünden Bugane ?stanbul», ?tem: Otman Babab Velâyetnamesi.
Ferîduddin Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendîlik. ?stanbul-1996.
Fuad K?prülü, Türk Edebiyat?nda Mutasavv?flar. Ankara-1993.
H. A. Rose, Rites and Ceremonies of Hindus and Muslims. Undated.
Hasan Küçük, Osmanl? Devletini Tarih Sahnesine C?karan Kuvvetlerden biri, tasavvuf ve Tarikatlar. ?stanbul-1976.(65/28)
Hasan Lütfi ?u?ud, Menâk?b-? Evliya, ?stanbul-1958.
Hüseyin Hilmi I??k, Vehhabiye Nasihat. ?stanbul-1970
?slâm Alimleri Ansiklopedisi (Ancyclopedia of The Muslim Doctors)
?rfan Gündüz, Tasavvufî Bir terim Olarak Râb?ta. No printed.
?rfan Gündüz, Ahmed Z?yâüddîn Gümü?hânevî, Hayat? ve Eserleri. ?stanbul-1984
James Dexter, Meditation. (Translation: G?nül Uzmez) ?stanbul-1996.
Kas?m Kufral?, Nak?ibendîli?in Kurulu?u ve Yay?l???. ?stanbul-1949.
Mahir ?z, Tasavvuf. ?stanbul-1981.
Martin Lings, What’s Suffism? Britain-1975.
Mehmed Esad Erbilli, Mektûbât, ?stanbul-1983.
Mehmed Zahid Kotku, Tasavvufî Ahlâk. ?stanbul-1982.
Mohammad Yahya Tamizi, Sufi Muvement in eastern ?ndia. Delhi-1992.
Muhammed ?hsan O?uz, Mektuplar. TDV. ?SAM. 297.7
Nikki R. Keddie, Scholars, Saint and Sufiis Muslim Religius ?nstitutions Since 1500 USA-1978.
?mer Demircan, Dünden Bugüne Türkiye’de Yabanc?dil. ?stanbul-1988
?mer ?ngüt, Hakiki Mutasavv?flar,Hakiki Vahdet-i Vücutçular. ?stanbul-1996.
?mer ?ngüt, Refah Dini’ne Mensup Mahmut Efendi’nin Mollalar?na Cevapt?r. ?stanbul-1996.
?mer ?ngüt, Süleymanc?lar?n ?çyüzü. ?stanbul-1996.
Re?at ?ng?ren, VI. As?rda Anadolu’da Tasavvuf (Doktora Tezi) ?SAM. ?st.
R. A. Nicholson., Studies in ?slamic Mysticisme. Britain-1980.
R. S. Bhatnagar, Dimensions Of Classical Sufi Thought. Delhi-1984.
S. Ahmet Arvasî, Do?uanadolu Gerçe?i. Ankara-1992.
Selçuk Erayd?n, Tasavvuf ve Tarikatlar. ?stanbul-1994.
Sir James Bolevard, Meditation. (Translation: ?ebnem Gürp?nar) ?stanbul-1993.
Vahdet-i Vücûd Risâlesi, ?mer Ferid Kam. ?stanbul.
***
محتويات الكتاب
الموضوع رقم الصفحة(65/29)
تمهيد....................................................................................................................................................................
الفصل الأوّل
النقشبنديّة، ظهورها وتطوّرها ومناطق انتشارها.......................................................
* أهم الأسباب الّتي لها أثر على ظهور الطريقة النقشبنديّة..................................................................
ـــــــــــــــــــــ
* السبب الأول...............................................................................................................................................
* السبب الثاني..................................................................................................................................................
* السبب الثالث................................................................................................................................................
* السبب الرابع..................................................................................................................................................
* السبب الخامس...............................................................................................................................................
* السبب السادس..............................................................................................................................................
* التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة التركية..................................................................................(65/30)
* المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها...............................................
***
الفصل الثاني
آداب الطريقة النقشبنديّة، ومصادرها، وميّزاتها ...........................................................
البيعة، وآداب المشيخة، وآداب المريد مع شيخه عند النقشبنديّين، والغاية منها...........................................
آداب الذكر عندهم...........................................................................................................................................
ــــــــــــــــــــ
* البيعة...............................................................................................................................................................
* آداب المشيخة وآداب المريد مع شيخه.......................................................................................................
* آداب الذكر عندهم........................................................................................................................................
* الذكر بلسان القلب........................................................................................................................................
* الرابطة...........................................................................................................................................................
* شروط الرابطة و صورة أدائها..........................................................................................................................(65/31)
* أوّل من أحدث الرابطة....................................................................................................................................
* الغاية من الرابطة.............................................................................................................................................
* عقوبة المخلّ بآداب الرابطة............................................................................................................................
* أسلوبهم وطريقة استدلالهم في إثبات الرابطة، ومقالاتهم في الدفاع عنها، وما قيل في ردّها................................
* مِنْ أهمّ ما كُتب في مسألة الرابطة............................................................................................................
* مِنْ آدابهم: الذكر على أساس اللّطائف الخمس..........................................................................................
* الحلقة السريّة الّتي تُسمّىَ "ختم خواجكان"..................................................................................................
* المصطلحات الفارسيّة في الطريقة النقشبنديّة و أسرارها.....................................................................
***
مبادئ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة، وهي أحد عشر مبدءًا
1. هوش دردم...............................................................................................................................................
2. نظر برقدم..................................................................................................................................................(65/32)
3.سفر دروطن...................................................................................................................................................
4.خلوت در أنجمن........................................................................................................................................
5.ياد كرد........................................................................................................................................................
6.باز كشت...................................................................................................................................................
7.نكاه داشت.....................................................................................................................................................
8.ياد داشت.....................................................................................................................................
9.وقوف زماني.................................................................................................................................................
10.وقوف عددي...........................................................................................................................................
11.وقوف قلبي................................................................................................................................................
الفصل الثالث
مفاهيم، ومصطلحات، ومعتقدات أخرى عند هذه الطائف...................................(65/33)
* التصوّف..........................................................................................................................................................
* السير والسلوك..............................................................................................................................................
* العشق الإلهي..................................................................................................................................................
* المعرفة بالله.....................................................................................................................................................
* الفناء والبقاء..................................................................................................................................................
* وحدة الوجود................................................................................................................................................
* وحدة الشهود................................................................................................................................................
* الولاية، والولي، وتصرّف الميّت...............................................................................................................
* المُّكاشفة، والإلهام وعلم الغيب...................................................................................................................
* الأويسيّة..................................................................................................................................................(65/34)
* الكرامة، والمناقب..........................................................................................................................................
* حقيقة مفهوم الغيب..................................................................................................................................
* مفهوم التوسّل في معتقد النقشبنديّة وما ركّبوا عليه من أمور...........................................................
***
الفصل الرابع
حقيقة ما تُسمّيهِ النقشبنديّة "سلسلة خواجكان"، وأسماءُ الّذين هم بمنزلة حلقاتها المقدّسة في اعتقاد هذه الطائفة.......................................................................................
مزعمة "سلسلة السادات"..............................................................................................................................
الروحانيّون في هذه الطريقة المعروفون بـ "رجال السلسلة": شخصياتهم، ومستوياتهم العلمية والاجتماعية، وترجمة أحوالهم بالتفصيل..................................................................................................
ــــــــــــــــــ
سلسلة أسماء الّذين يزعم النقشبنديّون أن طريقتهم انحدرت بوساطتهم..............................................
1.أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه......................................................................................................................
2.سلمان الفارسيّ رضي الله عنه...................................................................................................................
3.قاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم....................................................................................(65/35)
4.جعفر الصادق بن محمّد الباقر رضي الله عنهما.............................................................................................
5.أبو يزيد البسطاميّ..................................................................................................................................
6.أبو الحسن الخرقانيّ........................................................................................................................................
7.أبو علي الفارمديّ........................................................................................................................................
8.أبو يعقوب يوسف الهمدانيّ...........................................................................................................................
9.عبد الخالق الغجدوانيّ...................................................................................................................................
10.عارف الريوكريّ...........................................................................................................................................
11.محمود الإنجيرفغنويّ..................................................................................................................................
12.علي الرامتنيّ..............................................................................................................................................
13.محمّد بابا السماسيّ....................................................................................................................................(65/36)
14.أمير كلال بن حمزة....................................................................................................................................
15. محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المعروف بـ "شاه نقشبند".....................................................................
16. محمّد علاء الدين العطّار...........................................................................................................................
17. يعقوب الجرخيّ........................................................................................................................................
18. ناصر الدين عبيد الله الأحرار.................................................................................................................
19. محمّد زاهد البدخشي................................................................................................................................
20. درويش محمّد السمرقنديّ.......................................................................................................................
21. محمّد الخواجكيّ الأمكنكيّ....................................................................................................................
22. محمّد باقي بالله الكابُلي.............................................................................................................................
23. أحمد الفاروقيّ السرهنديّ المعروف بـ "الإمام الربّانيّ".................................................................(65/37)
24. محمّد معصوم الفاروقيّ.............................................................................................................................
25. محمّد سيف الدين الفاروقيّ......................................................................................................................
26. نور محمّد البدوانيّ......................................................................................................................................
27. شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جان جانان....................................................................................
28. غلام علي عبد الله الدهلويّ.....................................................................................................................
29. خالد البغداديّ المعروف بين النقشبنديّين بـ "ذي الجناحين"...........................................................
* خالد البغداديّ ومعارضوه...........................................................................................................................
* خلفاء البغداديّ وأسلوب تعامله معهم...........................................................................................................
* المميّزات الشخصية لشيوخ الطريقة النقشبنديةِ ومستوياتهم العلمية والثقافية......................................................
***
الفصل الخامس
أثر الطريقة النقشبنديّة على الحياة الاجتماعية والثقافية في المناطق الّتي انتشرت فيها .....
ــــــــــــــــــــــ
* استغلال السلطة للنقشبنديّين ضد الوهّابية.................................................................................................(65/38)
* النزاع القائم بين النقشبنديّين والوهّابيّين منذ قرنين وأثره الهدّام على
* الإسلام والمسلمين........................................................................................................................................
* العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ...............................................................
* الفِرَقُ الرئيسة للنقشبنديّين في تركيا اليوم....................................................................................................
* أهم الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها....................................
* تلفيقات النقشبنديّين في كثير من أقوالهم ومواقفهم؛ وما جاء قي كلامهم من
* ضروب التعارض والضعف.........................................................................................................................
* مقتطفات من آرائهم الّتي ادّعوا أنها من الدين ولا حجّةَ لهم في إثباتها..........................................
* مسائل متفرّقةٌ اختلفوا فيها اختلافًا صريحًا، بحيث جاء مقال بعضهم تكذيبًا لبعضهم الآخر؛ وكذلك أقوال بعضهم فيها تضادٌّ وتناقضٌ للقائل نفسه بالذات...........................................
* أمثلة من معاداة النقشبنديّين فيما بينهم، ومناهضتهم وتباغضهم وتشنيع بعضهم البعض......
* أسلوب المعارضة عند النقشبنديّين..................................................................................................................
* الكلمة الختامية..............................................................................................................................................(65/39)
* الفهارس.......................................................................................................................................................(65/40)
الطريقة النقشبندية
بين ماضيها وحاضرِها
الشيخ فريد الدين آيدن
Feriduddin AYDIN
http://www.ikraislam.com
موقع للسلفيين الأتراك
http://www.saaid.net/
مقدّمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ هذا الكتاب يضمّ بين دفّتيه دراسةً هامّةً في معرض فرقةٍ من الفِرَقِ الصوفيّة. لقد بذل المؤلّف جهدًا بالغًا في سبيل هذه المهمّة، فانطلق بعزيمة الباحث المدقّق المنظّم في أعماله. لا غرو إنّه من فرسان هذا الميدان. فنذر من وراء هدفه أغلى أيامه منذ عنفوان شبابه وهو يتباحث من غير ملل، ويطارد المصادر، ويجمع الوثائق، ويطالع وينسّق ويسجّل ويسهر عليها، حتّى أثمر سعيه المتواصل عن هذا السِّفْرِ الجليل. كلّ ذلك ليكشف العَتَمَةَ عن أهمِّ سببٍ من تلك الأسباب الّتي أحاطت بالمسلمين منذ قرونٍ فعرقلتهم، وحالت دون تقدّمهم، وشوّهت الكثيرَ من جمال الإسلام.
تُقَدِّمُ هذه الدراسةُ ما تُقَدِّمُ من معلوماتٍ تفصيليةٍ منظّمةٍ وموثّقَةٍ مع ذكر مصادرها والإشارة إلى أرقام الصحف لكلّ نصٍّ منقولٍ منها، وأحيانًا مع ترجمتها. وذلك تسهيلاً للباحثين ورجال العلم في مهامّهم عند مراجعتها.
ليس الهدف من تقديم هذه الدراسةِ إلى جماهير المسلمين إلاّ إعلامهم عن حدثٍ هامٍّ من واقع تاريخهم، غفلوا أو تغافلوا عن حقيقتها؛ ليستبصروا نتائجَهُ من خلال بحثٍ علميٍّ رصين، ووثائِقَ مضبوطةٍ؛ وليتمكّنوا بذلك من مقارنة الإسلام الّذي نفهمه من الكتاب والسنّة، مع الإسلام الّذي اخْتَلَقَتْهُ العقليّاتُ عَبْرَ عصور الظلام. عسى أن يستوحي منه العبرةَ كلُّ مَنْ يطّلع عليها من أهل الإيمان والإخلاص؛ وأنْ يتحمّل المسئوليةَ لإحياء أمّة الإسلام ثانيةً بعد أن اختفت بمقتل آخر الخلفاء الراشدين.(66/1)
ونتضرّع إليه تعالى أن يبارك في خطوات كلِّ مؤمن مخلص يسعى إلى تحقيق هذه الغاية العظمى بدءًا بالفهم الصحيح مع العلم التامّ بأنّ من أراد عملاً يتقرّب به إلى الله مما لم يشرعه الله ورسولُهُ فهو مردودٌ ووبالٌ على صاحبه.
هذا وتقدّم مؤسّستنا شكرَهُ وتقديرَهُ لمؤلّفِ هذا الكتابِ فضيلةِ الشيخ فريد الدين بن صلاح بن عبد الله بن محمّد الهاشمي المعروف بلقبه الخاص: Feriduddin AYDIN في تركيا؛ وبالله التوفيق.
الْعِبَر
للطباعة والنشر والتوزيع
مقدّمة المؤلّف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنّ كثيرًا من المسلمين -وحتّى العلماءَ والباحثين منهم-، لا تتعدّى معرفتهم بالنقشبنديّة المعلوماتِ المحدودةَ، والملاحظاتِ البسيطةَ، غالبها لا تتّصف بالعلميّة والواقعيّة، بالرغم من انتشار هذه الطريقة بين عشرات الملايين من الناس في الشرق الأوسط.
لم أستغرب هذه الحقيقةَ منذ عَلِمْتُهَا. لأنّي ولدتُ ونشأتُ في أسرةٍ ذات شهرةٍ واسعة النطاقِ، تتمتّع بالزعامة لقطاعٍ كبيرٍ من هذه الطائفة الصوفيّة. وبالتالي كنتُ على علمٍ بأنّ جانبًا خاصًّا من التفسير الروحانيِّ لعقائدها، لا يقف عليه أحدٌ بسهولةٍ؛ إلاّ عدد من شيوخها المتمتّعين بصفاتٍ مخصوصةٍ، ومُلزَمين بعهودٍ باطنيّةٍ مستورةٍ، أخذها عليهم أسلافهم الّذين قلّدوهم أزِمَّةَ هذه الطائفة، وهم قليلون جدًّا.(66/2)
فلمّا وجدتُ تفاوتًا كبيرًا واختلافًا كثيرًا بين معتقداتِ شيوخِ هذهِ الفرقةِ، وتأكّدتُ من أنّ المشهورين منهم يتواطئون علي إخفاء شطرٍ مما في صدورهم...وكتمانِهِ عن بقية الشيوخ، فضلاً عن جماعة المريدين من الطبقة العامّيّةِ، بدأتُ أشكُّ في أمرهم؛ وخاصّةً عندما ثبت لي بالتحقيق، ورأيتهم يطعنون في كلِّ مَنْ يحارب عقيدة الشرك ويعادونه، ويقفون منه موقف المؤمن من الكافر، أو ربما بالعكس، زادني الشكّ فيهم وتضاعف مع الزمان حتّى دفعني الأمرُ أنْ انطلقتُ باحثًا حقيقةَ ما توارى خلف الصورة الظاهرة لهذه الفرقة من أمورٍ خطيرةٍ لا يمكن الإطلاع عليها بطرق عادية. ولهذا أرى المناسبةَ للإشارة إلى أنّ مشاهير الباحثين في الطريقة النقشبنديّة وهم بالتحديد: الأستاذ الدكتور حميد آلغار، والأستاذ الدكتور بطرس أبو منه، والأستاذ الدكتور شريف ماردين، والشيخ عبد الرحمن الدمشقيه؛ لم يقفوا على كثير من جوانب هذه الطريقة، بالقدر الّذي تمكنتُ بعون الله من الإحاطة بها. فدرستُ تاريخَها، وعقائدَها، واتّجاهاتها، وتطوّراتها بعمق ومن خلال وثائقها والاتّصال بصناديدها المعاصرين بحكمةٍ وجرأةٍ وصبرٍ إلى ما شاء الله أنْ فرغتُ من هذه الدراسة بعد ثلاثة وعشرين عامًا.(66/3)
فقد رتّبْتُ الكتابَ على خمسةِ فصولٍ. بدأتُ بنقل ما تيسّر من تاريخ هذه الفرقة والتطوّرات الّتي حدثتْ في تعاليمها من مرحلةٍ إلى أخرى، وذلك في الفصل الأوّل؛ وشرحتُ عقائدَها وطقوسَها، وما استحدَثَتْ من آدابٍ وأركانٍ، في الفصل الثاني؛ وذكرتُ ما وضعتْها من مفاهيمَ ومصطلحاتٍ هامّةٍ، في الفصل الثالث؛ ونقلتُ تراجمَ رجالِها في الفصل الرابع؛ وأثبتُّ تأثيرَهَا في الحياة الاجتماعية وما تمخض عنها من نتائج مختلفة في عقلية المجتمع وثقافته وسلوكه ضمن الفصل الخامس؛ ثم أتبعتُها بفهارس غنيّةٍ: الأوّل منها لأسماء الأعلام؛ والثاني للمصطلحات والمفاهيم والتعبيرات الخاصّة المبعثرة في ثنايا الكتاب، مع ذكر أرقام الصفحات الّتي وردَتْ فيها كلّ على حدة؛ والثالث لأسماء الأماكن من المدن والمناطق؛ والرابع للمراجع الّتي اطّلعتُ عليها، سواء نقلتُ منها أو لا. كلّ منها معدٌّ بِتَرْتِيبٍ مُعْجَمِيٍّ. وما ألوتُ جهدًا ولا ادّخرتُ وسعًا في ركوب كلّ صعبٍ وذلولٍ للحصول على أدنى وثيقةٍ تمتُّ بهذه الفرقة، فوقفتُ على كثير منها؛ خاصّة وأنّ معرفتي باللّغتين الفارسيّة والتركية أغنتني عن الحاجة إلى غيري في دراسة وثائقهم الّتي غالبها مدوَّنة بتلكما اللّغتين. لأنّ الأكثرية العظمى للنقشبنديّين هم من عناصر غير عربية.
احتسبتُ لله تعالى احتمالَ الْعبءِ الثقيل لهذه الدراسةِ الهامّة راجيًا عفوَه. ولم يكن قصدي من هذا الإقدامِ إلاّ إظهارَ ما قد بقي خافيًا على غالب المسلمين من أمورٍ خطيرةٍ اُسْتُحْدِثَتْ باسم الدين ونُسبتْ إلى الإسلام. فأردتُ عرضَها على علماء هذه الأمة ليروا فيها رأيَهم، وليتمكّنوا بذلك من تصحيحِ الفاسدِ ممّا اعْتَقَدَهُ جُمْهُورٌ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ، وظنّوه من عقائد الإسلام.(66/4)
وقد أجريتُ هذه الدراسةَ بأسلوب نقديٍّ وتحليليٍّ. وهذا لا يعني أنّي ضربتُ عن الموضوعية صفحًا. يبرهن على ذلك ما نالَتْ من القبولِ والإعجابِ لَدىَ نُخْبَةٍ من العلماءِ، خَاصّةً منهم العلاَّمة الفاضل الأسْتَاذ محمّد نافع المصطفى الّذي قامَ بِمُرَاجَعَتِهَا. فجاءت مُنقّحةً خَالِيَةُ من العيوبِ والأخْطَاءِ اللُّغويَّةِ بفضله. فله الشّكر الجزيل، وجزاه الله تعالى خيرًا. فانتهتْ تلك المسيرةُ الطويلةُ والجهودُ المبذولةُ هكذا بتوفيق الله تعالى وأثمرَتْ بهذا السِّفْرِ الّذي بين يدي القارئِ. عسى أن يجدَ فيه الباحثون ورجالُ العلم ضالّتَهم، كما أرجو الله تعالى أن يجعل منه بصيصَ نورٍ يستضئُ به كلُّ مَنْ واجه عَقَبةً تصدّه عن سبيل الله وهو لا يقصد إلاّ الهداية والحق.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فريد الدين آيدن
إسطنبول. 28/يونيو/1997م.
الفصل الأوّل
النقشبنديّة، ظهورها وتطوّرها ومناطق انتشارها
أهم الأسباب الّتي عملتْ على ظهور الطريقة النقشبنديّة :
السبب الأول......................................................................................................
السبب الثاني.......................................................................................................
السبب الثالث......................................................................................................
السبب الرابع......................................................................................................
السبب الخامس.....................................................................................................
السبب السادس....................................................................................................(66/5)
التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة التركية...............................................................
المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها ...............................................
الفصل الأول
النقشبنديّة: ظهورها وتطوّرها، ومناطق انتشارها.
النقشبنديّة طريقةٌ صوفيةُ تُنسب إلى رجل اسمه محمّد بهاء الدين البُخَاريّ المولود عام 717 من الهجرة، والمتوفى سنة 791هـ. وسيأتي ذكره بالتفصيل في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
أما لفظ "نقشبند" فهو مصطلحٌ فارسيٌّ مركّبٌ من كلمتين: إحداهما عربيةٌ؛ وهي "نقش" والثانية فارسيةٌ، وهي "بند" (بفتح الباءِ وسكون النّون والدّال).
وكان يُطْلَقُ اسم »نقشبند« على الرسّام والنقّاش الّذي يعمل الوشي والنمنمة على الأقمشة في اللّهجة التركية القديمة. والمناسبةُ في أخذ هذه الكلمة وإطلاقها على هذه النحلة واضحةٌ. ذلك، يزعمون أنّهم يسعون إلى نقش محبة الله في قلوبهم بالذكر المتواصل والسلوك المأثور من سادتهم، ولربما هذا اللّقب لم يكن قد أُطلق على محمّد البُخَاريّ في حياته، ولا طريقتُهُ كانت مشهورةً بهذا الاسم. ذلك من ميّزات الطرُقِ الصوفيّة أنّها غير مستقرة. فتتغّير أسماؤها من بُرْهَةٍ إلى أخرى. وتتبدّل آدابها وأركانها على حسب ما يرى كبراؤها، وهي شبيهة بالسيل الجارف الّذي يحمل الغَثّ والسمين عَبْرَ مسيله، كما سيأتي تفصيل هذه الطبيعة للطّرق الصوفيّة عامّةً وللنّقشبندية خاصّة في بابه إن شاء الله تعالى.
***
أهم الأسباب الّتي لها أثر على ظهورالطريقة النقشبنديّة(66/6)
لا شكّ من أنّ الفكرة الصوفيّة لم تكن شيئًا مذكورًا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. فلم نجد في ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه نطق بكلمة التصوف ولا صحابته. أما بقية مصطلحات الطرق الصوفيّة وآدابها وأركانها ومقولاتها الفلسفية مثل الرابطة والختم الخواجكانية، واللّطائف الروحانية، وتعداد ألفاظ الورد بالحصى أو بالمسبحة وبكميات معينة، وحبس النفَسِ أثناء الذكر، والمبادئ الأحد عشر، وفكرة وحدة الوجود ووحدة الشهود وما إليها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يكون قد أشار إلى شيء منها. وفي هذا برهان قاطع على براءة الإسلام من التصوف، كما يدلّ على أنّ الصلة المزعومة بين التصوف والإسلام لا تقوم على أساس من الصحة.
أما الّذين ربطوا التصوف للإطلاع على ما ورد من أقوالٍ مختلفةٍ في تعريف التصوّف وماهيته ومنشاءه واشتقاق هذا المصطلح، راجع المصادر الآتي ذكرها:
* أبو القاسم عبد الكريم ابن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيريّ النيسابوري، الرسالة القشيريّة ص/ 138. الطبعة 2. القاهرة/1959م.
* أبو يحيى زكريا الأنصاري، منتخبات (هامش الرسالة القشيريّة) ص/ 8.
* أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تلبيس إبليس ص/ 161. مكتبة الشرق الجديد، بغداد بلا تاريخ.
* عبد الرحمن الوكيل، هذه هي الصوفيّة (الكتاب بتمامه). دار الكتب العلمية، بيروت-1984م.
* الدكتور مروان إبراهيم القيسي، معالم الهدى إلى فهم الإسلام ص/ 65-98. مكتبة الغرباء إسطنبول-1992م.
* سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/14-29. (والكتاب بتمامه على وجه العموم). دار الكتب اللبناني- المصري/1985م.
* عبد القادر بن حبيب الله السندي، التصوف في ميزان البحث والتحقيق ص/ 31-43. مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة - 1990م.(66/7)
* محمّد صالح بن أحمد الغرسي، مقدمة كتاب بغية الواجد (لجامعه محمّد أسعد الصاحب)؛ النسخة المطبوعة عام 1985. قزلتبه – ماردين.
* Dr. Selcuk Eraydin Tasavvuf ve Tarikaklar Pg. 36, 53 Istanbul-1994
*Prof. Dr. Fuad Koprulu, Turk Edebiyatinda Ilk Mutasavviflar Pd. 16. Ankara-1993 بأهل الصفّة فلا حجّة لهم في إثبات ما ادّعوه بتاتًا. فمنهم من تعمّد ذلك عن حظّ نفس، واتّباع هواى، ومنهم من اغترّ بغيره عن جهل فاخطأ، ولم تكن دعواهم في ذلك إلا أنْ يجعلوا للتّصوف أساسًا من الزهد والتقوى. وهما روح الإسلام ومخه، إلا أنّه شتّان بين التصوف والزهد والتقوى، وما بينهما بُعْد السماء عن الأرض.
لقد طال الجدل بين العلماء قديمًا وحديثًا، وبذل الباحثون جهدًا بالغًا في مسألة اشتقاق كلمة التصوف ومصدر هذه الحياة الروحانية ممّا يُغْني ذلك عن إضافة كلام آخر إلى ما قد كتبوه وصنّفوه في هذا الباب إلاّ ما سوف يقتضي ذكره بالقدر اللاّزم في مواطنه. ولهذا يكفي التركيز في هذا الفصل على أهمّ الأسباب الّتي قد مَهَّدَتْ السبيلَ لوجود ظروفٍ مُلائمةٍ أولدَتْ الطريقة النقشبنديّة، وذلك على سبيل الإيجاز.
* السبب الأوّل منها، يرجع إلى حدث عظيم شاهده آباء الأتراك الأوّلون قبل أربعمائة وخمسين عامًا من تأسيس هذه الطريقة على أيدي أحفادهم. ألا وهو اعتناقهم التقليديُّ للدّين الإسلاميّ وتصرّفهم فيه.
إذن ينبغي أولاً أن نرجع إلى هذا الحدث فننظر فيه نظرةَ الباحث المدقّق حتّى تتبَلور لنا نتائجه الّتي أسفرت عن اختلاق معتقَداتٍ خطيرةٍ وظهور نزعاتٍ غريبةٍ على الإسلام. ولكن تبنّاها رجالٌ، وتشرّبتْها عقولٌ، واعتنقَتْها جماعاتٌ وطوائفُ، واحتسب في الدفاع عنها آلافٌ مؤلّفةٌ من الناس عَبْرَ الأجيال من هذا الشعب.(66/8)
لقد ورد في المصادر الّتي صنّفها علماء الأتراك بالذات؛ أنّ الإسلام انتشر بين صفوف الّذين اعتنقوه من آبائهم الأوّلين بغير الوجه الّذي انتشر بين غيرهم من الشعوب والأمم. فاختلف فهمُهم لهذا الدين بعكس ما أدركه العرب وعلِموه وتذوّقوه وتعاطوه عقيدةً وسلوكًا. وهذا أمر جدير بالبحث الدقيق في جوانبه الّتي لم يتوقّف عليها كثير من علماء التاريخ وخبراء علم الاجتماع. لقد كان اعتناق الأتراك للإسلام أمرًا غريبًا من منطلق العاطفة وليس عن رويّةٍ. يبرهن على ذلك إقبالهم على الدّين الجديد عن طيبة نفسٍ، دون أن يتحسّسوا معالِمَهُ. ذلك أنّ اختلاف لغتهم، وسذاجة طباعهم، وبساطة عقولهم لم تسمح لهم يومئذٍ ليتأكّدوا من أحكام هذا الدّين وضوابطهِ التي يحدّد موقف العبد أمام ربّه على أساسِ مبدأ التوقيفية. ولكنّهم لمسوا الإسلامَ وكأنّه نسيمٌ يهبّ من رياض الجنّةِ على نفسهم لتطمئنّ بها، فاستقبلوه كمصدرٍ للتسلية والعزاء والدّعاء والابتهال والاتصال بأرواح الآباء. فما لبس هذا الدّين حتىّ امتزج بعقائدهم القديمة، فتحوّل إلى طرائق صوفيةٍ وطقوسٍ روحانيةٍ وتمائم وألغاز وشعوذةٍ وحلقاتِ ذكرٍ موروثةٍ من مجوس الهندِ، وخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان. فنشأت الطريقة النقشبنديّة كنتيجةٍ تمخّضت عن هذه التطوّرات، حتّى فصلَتْهم عن الإسلام وأبعدَتْهم عن حقيقة الإيمان بالله وتوحيده. ولهذا حار المُصلحون ورجال الإرشاد في محاربة الفساد والبدع الّتي انتشرت بين الأتراك والطوائف التابعة لهم من الأكراد والظاظا والشراكسة والبوشناق والأقلية العربية في العصر الحاضر، من جرّاء الطريقة النقشبنديّة. لأنّ الإصلاح يتوقّف على معرفة أسباب الفساد وجذوره وطرق انتشاره وضروب كفاحه... وإنّما بهذا النّوع من المعرفة يتمكّن الْمُصلِحُ من كشفِه وتعرِيَتِه وقمعه. فما دام المعروفون بِسِمَةِ العلم والقائمون بمهمّة الدعوة والإرشاد؛ مادام هؤلاءِ أنفسهم(66/9)
يجهلون مسيرةَ فساد شعبهم العقديّ خلالَ الأزمنة التاريخية، إذن فلا يُعقل أنْ تكون لهم قدرة على تصحيح ما قد فسد من عقائد بني قومهم ولو بذلوا قصارى جهودهم بمجرّد النكير على البدع والأباطيل.
نعم، لقد غفل كثيرٌ من رجالِ العلمِ عن كيفيةِ اسلامِ الأتراك، ومدى ادراكِهِمْ لِحقيقةِ هذا الدينِ في أوّل أمرهم معه، وعلى أيّ دينٍ كانوا قبل ذلك، وهل علقتْ بهم معتقداتٌ من دياناتهم السابقة وأبقتْ أثرًا في طوائفهم التي دخلت تحت حكمهم وسلطانهم وما إلى ذلك من أمور...
لقد ثبت بالدلائل القاطعة أنّ الغالبية العظمى من الأوّلين الّذين أسلموا من هؤلاء القوم لم يدخلوا سَاحَتَهُ عن روّيةٍ، ولم يتلمّسوه بتدبّرٍ، ولم يتلقّوا تعاليمه بتعقّلٍ وإمعانٍ. وإنّما أقبلوا عليه إقبالَ القطيع الظمآن على الماء العذب الفرات وقد أضناه العطش، فما كاد يرتوي من زلاله حتّى صدّه الراعي فسقاه ملحًا أجاجًا؛ وهذا يعني أنّ قبائل الأتراك على كثرة عددها أقبلت على الإسلام في أوّل أمرها، فجاء إسلامهم تقليدًا أعمى لمن كان يرأسهم ويتزعّمهم. فما زال كثيرٌ منهم يتقلّب بين ما ورثه من معتقداتٍ شامانيةٍ ونزعاتٍ برهميةٍ وتقاليدَ مانويةٍ ومزدكيةٍ. ذلك لأنّ الأتراك يمتازون بشدة الانقياد إلى ملوكهم وزعمائهم في كلّ دهر، سواء أكانوا على الحق أم على الباطل. فلم تتغيّر هذه الخصلةُ فيهم إلى يومنا هذا. مما يدلّ على ذلك تمسّكهم بزعيمهم الّذي شارك في القضاء علي الدولة العثمانيّة ذاتِ الطابع الإسلاميّ. فأراد أن يخلع رِبْقَةَ الإسلام من أعناقهم، فلم يزدهم ذلك إلا محبةً فيه على الرغم من اعتزازهم بالإسلام؛ مع علمهم بأنّه ينحدر من سلالة خزرية تشرّبت العقيدةَ اليهوديةَ منذ قرون. ولكن ما دام أنّه تركيّ الأصل فباتت صلتهم به قويّة حتّى اتّخذوه إلهًا كما قد اتّخذوا شيوخَهم آلهة من دون الله.(66/10)
نعم إن الأتراك استقبلوا الإسلام في أوّل أمرهم طيّيةً به نفوسهم؛ فلمّا أسلم ملكهم صتُوك بُوغْراخان (ت. 348 هـ.) Meydan Larousse 11/31, 12/34 ?stanbul-1969 ملك الدولة القَرَاخانية التركية، وتَسَمىَّ بعبد الكريم. دخلوا معه في دين الله أفواجًا، وأسلموا عن بكرة أبيهم.
هذا، وقد أسلمت جماعات غفيرة من مختلف الأجناس البشريّة عَبْرَ التاريخ، إلاّ أنّه لم تسبقهم أمة بتمامها في الدخول إلى حظيرة الإسلام، ولم تظفر بهذا الفضل والشرف العظيم غير الأتراك الّذين اعتنقوا الإسلام في أوّل أمرهم،
لابدّ وقد أثار الإسلامُ يومئذٍ هيجانًا في نفوسهم، ودبّتْ في جميع مجالات حياتهم حركةٌ انسحبوا معها إلى منعطفات خرجوا بذلك عن الخطّ الإسلاميِّ المستقيم دون أن يشعروا بخطورة الأمر؛ لأنّهم كانوا يومئذ في بداية الطريق، ينظرون إلى هذا الدين الجديد كعادتهم في النظر إلى دينهم القديم بفروق بسيطة. ثم إنّ ذلك التدفّق الكلّي والاندفاع الجماعيّ إلى هدي الإسلام، لم يترك لهم فرصةً في الوهلة الأولى ليتدبّروا حقيقة الدين الحنيف إلا قلة منهم. فيبدو أنّهم قد اعتنقوا الإسلام على همجيةٍ وسطحيةٍ من العقلية المتخلفة والجهل المتفشّي بين جمهورهم وهذا أفضى إلى التشبث بما كانوا عليه في سابقهم من رواسب الشرك ومخلّفات الوثنية وتقاليد الكفرة من آبائهم الأولين.(66/11)
لمّا نُقارن بين السابقين الأوّلين من الأتراك ومشركي قريش في موقفهم من الدعوة الإسلامية الأولى نجد بُعدًا كبيرا بين الفريقين في ذلك. فإنّ الأتراك أقبلوا على الإسلام كالسيل العارم منذ أوّل تبشير تلقّوه من دعاةٍ لا شهرة لهم في سجلّ التاريخ. بينما الكتب حافلة بما ابتلى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المحنة والأذى على يد قومه الّذين وقفوا في وجه الإسلام وقوف العدوّ اللّدود. واستعملوا العنف والشدة ضد أصحابه، وأذاقوهم ألوانا من التعذيب والنكال. ولكنّ أكثرهم في نهاية المطاف أسلموا لله وأقاموا حدوده واتخذوا دينه نظامًا لحياتهم؛ وضربوا من البسالة والبطولة والفداء في سبيله أمثالاً لم يدانيهم فيها قوم لا قبلهم ولا بعدهم.
ولهذا، تشرّبت العربُ الإسلامَ عن حقيقته ولم يتغيّر تفسيرهم للّدين حتّى يومنا هذا، على الرغم من ضلالة حكامهم وسفه زعمائهم فيما اقتبسوه من الأمم الكافرة لشعوبهم من سياسات ضالّةٍ وأنظمةٍ فاسدةٍ.
أما الأتراك، فيبدو أنهم في غمرة تلك الضجة الّتي ثارت في صفوف مجتمعهم على أثر الدعوة الموجّهة إليهم لم يفطَنوا إلى حقيقة ما يهتف به الإسلام من التوحيد الخالص لله رب العالمين. فظنّوا أنّه دينٌ كسائر الأديان، وإن كان يمتاز ببعض تعاليمه الخاصّة الّتي أعجبتهم واتفقت مع طبيعتهم. كالطهارة وصلاة الجماعة، لأنّ الأتراك أشدّ الناس اهتمامًا بالنظافة وأفضلهم نظامًا في الحياة الاجتماعية، فتأثّروا بضوابط الإسلام وقوانينه وتشريعاته، قبل أن يتأثّروا بعقائده ووُجْدانياته. ولهذا، لم يهتمّوا بمسائل التوحيد في الخطوة الأولى من إسلامهم، وإنما الْتَهَوْا بما شرعه الإسلام من صلاة الجمعة والجماعة والطهارة وطاعة أولي الأمر، وآداب المعاشرة وما أشبه ذلك من أمور العبادة، وما يختصّ بتنظيم الحياة الاجتماعية والعلاقات البشرية.(66/12)
وبهذا، يتبين لنا أنّه لمّا غفل المسلمون الأوّلون من الأتراك عن حقيقة توحيد الله تبارك وتعالى (وهو لُبُّ الإسلام ومفتاح الخلاص ووسيلة النجاة والسعادة في الدارين). وبذلوا اهتمامهم فيما يظهر من الدين ويتّفق مع طبيعتهم، وَجَدُوا صلةً بين هذه الأمور وبين ما كانوا عليه في سابق أمرهم؛ لأنّهم كانوا على دينٍ اسمه »الشامانية« فكانوا يعتقدون في رهبانهم أنّهم ينفعون ويضرّون من دون الله، ويشفعون لهم عند الأرواح الإلهية المهيمنة ويتصرّفون عنها في الكون. وكذلك كانوا يتأمّلون ويتفكّرون في حكمة الله على أساليب الديانة البوذية والبرهمية.
فما كان منهم إلاّ أن استحدثوا طرقًا صوفيةً ورتّبوا لها آدابًا وأورادًا وأذكارًا مزَّجوا فيها بين أمور أخذوها من الإسلام. مثل كلمة التوحيد، واسم الجلالة، والتحميد، والتسبيح، والتكبير... وأخرى ورثوها من دياناتهم السابقة من الشامانية والبوذية والزرادشتية والمزدكية والمانوية Ahmet Ya?ar OCAK, Menâkibnâmeler, s.10 وورثوا منها رواسبَ وثنيةً مثل:» هوُشْ دَرْدَمْ، ونَظَرْبَرْقَدَمْ، وسَفَرْدَرْوَطَنْ... إلخ« فخلطوا هذا بذاك بعد أن أتخموها بتفسيراتهم الشاذةِ الغريبة، ورتّبوها ودَوَّنوها في أسفارٍ وأقاموها على هيئةٍ من الآداب والدعاء والتعبد كالرابطة، والختم الخواجكانية، والتوجُّه، والسلوك والرهبنة... فكانت من أهم نتائجها الطريقة التقشبندية.
* السبب الثاني في ظهور هذه الطريقة: هو الخلفيّات التاريخية والاجتماعية السائدة في الفترة والمنطقة اللّتين نشأت فيهما هذه الحركة الصوفيّة.
لا شكّ في أنّ الأحداث متسلسلة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل. فلابدّ إذن أن يكون لِماَ وقع في سالف العصور آثارٌ وعواقبُ انعكستْ على ما تلاها. أو لابدّ أن يكون لكلّ حدثٍ أصلٌ وسبب؛ بل أسباب يرجع إليها . وهذه سُنّة الحياة.(66/13)
فما دامت الطريقة النقشبنديّة هي حدثٌ من الأحداث الهامة، وواقعٌ أشغلَ العقولَ والضمائرَ منذ حقبة تقرب من سبعة قرونٍ، إذن لابد من أن نتناولها، فنعود بها إلي أيّام نشوئها من خلال الحلقات المتسلسلة الّتي تربط حاضرَها بماضيها، وأن نتباحث في الوقت ذاته بظروف المنطقة الّتي عاش فيها الأتراك قبل دخولهم في الإسلام وبعده.
إن المنطقة الّتي كان يسكنها آباء الأتراك الأولون (وهم الهَيَاطِلَةُ) تبدأ من تخوم الهند شرقًا، وتنتهي عند ضِفاف
بحيرة آرَالْ على امتداد الساحة الواقعة بين النهرين الشهيرين سَيْحون وجَيْحون. تضمّ هذه المنطقةُ عددًا من المدن العريقة، مثل بُخَارَى وسمرقند وطاشكند وفرغانة، وأجزاء من بلاد خُوَارِزمْ.
أما تاريخ المنطقة، فيشوبه غموض حتّى ميلاد عيسى عليه السلام، لأنّ أيّامَ الأتراك قبل الإسلام قد خلتْ من الحركات العلميةِ والثقافية والحضارية. وبذا كانت المصادر شحيحةً بين أيدي الباحثين ولم تمدّهم بما كان عليه الأتراك في تلك القرون الخالية. ولم يؤرّخ لهم قوم بالقدر الّذي كتب عنهم علماء العرب المسلمين كأحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى:1/322 . بيروت/1993. وأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المصدر السابق 3/190.وابن الأثير عزّ الدين أبي الحسن على بن أبي الكرم الشيباني المصدر السابق 2/523. وأبي الفداء اسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير المصدر السابق 1/373. وغيرهم. ولعلّ العالِمَ الروسيَّ فريديريك وِلْهَلْمْ رَادْلُوفْ :Friedrich Wilhelm Radlof(66/14)
مستشرق روسي من أصل آلماني. ولد في برلين، و مات في بيتروجرادPetrograd . تخرج من جامعة برلين، وحاز شهادة الدكتوراه في العلوم الفلسفية من جامعة جينا عام 1858م. على أثر نجاحه في تأليف رسالة تحت عنوان: (أثر الدين في مجتمعات آسيا Ubar Den Einfluss der Religion auf die Worker Aslens) له بحوث و مؤلّفات عدة. قد أولى الحياةَ الدينيةَ عند الأتراك في جاهليتهم بحديث واسع أكثر من أيّ باحث آخر.
فقد ثبت من خلال ما عثر عليه الباحثون وما شرحه علماء التاريخ أنّ الأتراك قد اعتنقوا دينا بعد دين عَبْرَ تاريخهم. وكلّما وجدوا مساغًا ليبدّلوا دينهم نزحوا من ساحته - وهم يحملون جلّ آثاره - وركنوا إلى دين آخر فخلطوا بينهما، فتقلّبوا هكذا في أمواج الديانات والمعتقَدات بصرف النظر عما بينها من التناقض والتضارب حتّى وجدوا أنفسهم في رحاب الإسلام بدءًا من النصف الثاني للقرن الأوّل من الهجرة النبوية. فلم يكن تعاملهم مع الإسلام مختلفا عن تعاملهم مع دياناتهم السابقة. فحملوا جمًّا من معتقَداتهم الوثنية، وتقاليدهم الموروثة من عهد الجاهلية الأولى، كما سوف نشرحه إن شاء الله تعالى عَبْرَ الفصول التالية.
لقد كان الأتراك يقدّسون موتاهم في القرون الأولى من جاهليتهم، ويعبدونهم. نشأ هذا الاعتقاد وهم على دينٍ اسمه الشامانية، خاصّة فانّهم كانوا يقدّسون الشامانَ. والشامانُ عندهم كالعزيز أو القِدِّيسِ عند النصارى فكانوا يعتقدون أن الشامان يعلم الغيب ويتصرف في أحوال الجوّ؛ فَيُنَزِّلُ الْغيثَ، ويُرْسِلُ الرياحَ متى شاء، ويمنع الآفات، أو يسلّط المصائبَ والأهوالَ على من يشاء.(66/15)
ومن جملة ما كانوا يعتقدونه أيضًا في شامانيهم: أنّهم يتّصلون بإله السماء فيتلقّون منه الوحي. أمّا من أراد أن يكون له حظّ من هذه المكانة بينهم، نزحَ إلى خلوةٍ ومارسَ الرياضة على الطريقة الصوفيّة فأصبحَ شامانَ بعد مدة، يحذر الناس من لعنته وينظرون إليه نظرة الإجلال والتوقير. فلما ارتدّ هؤلاء القوم عن الشامانية إلى البوذية، ازدادوا تمسُّكًا واعتقادًا برهبانهم في الدين الجديد، ذلك أنّهم تمكّنوا عن طريق الترجمة من الإطّلاع على مناقب رهبان البوذية وما قيل فيهم من كرامات ومعجزات وآثار. فتجمّع في عقولهم رُكامٌ هائلٌ من الأساطير التي تمكّنت من ديانتهم، واستيقنتها أنفسهم، حتّى إذا أسلموا وجدوا ضالّتهم المنشودة فيما سمعوا من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاتّخذوا منها مُنطلقًا ليصبغوا ما في قلوبهم من رواسب الشرك بصبغة الإسلام. فلم يلبثوا أن اعتقدوا في بعض الصالحين كما كانوا يعتقدون في شامانيهم ورهبانهم سابقًا من بركات وكرامات وخوارق؛ فأقاموا على أضرحتهم بُنيانًا لم يعهده المسلمون قبل إسلام الأتراك.(66/16)
ثم حرّفوا مفهوم لفظة الوليّ في القرآن بتفسير لم يرد عن السلف الصالح. إذ أنّ الوليَّ ليس هو الّذي يتصرّف في قدر الله، وينوب عنه في إدارة الكون، ويعلم الغيب، وينزّل الغيث، ويمنع الآفات، أو يسلّط العذاب على من يشاء كما يزعمون. وإنّما أولياء الله، هم الّذين قال تعالى فيهم: {أَلاَ إنَّ أَوْلِياَءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الّذينَ آمَنُوا وَكاَنُوا يَتّقُونَ. } سورة يونس/ 62، 63. ولكنّهم حرّفوا المعنى بتأويلاتهم وتفسيراتهم الّتي بنوها على معتقَداتهم الموروثة من العهد الوثنيِّ. وهكذا نشأت معظم الطرق الصوفيّة على يد الأتراك كنتيجةٍ للأسباب الّتي ما زلنا نواصل شرحها. ومن أهمّها، تلك الخلفيات التاريخية الّتي تراكمت في عقلية هؤلاء القوم، وانحدرتْ عَبْرَ أطواره حتّى طغتْ على المفاهيم القرآنية بتفسيراتٍ باطنيةٍ متطرّفةٍ، فشوّهت محيّاها، وأذهبت الكثيرَ من جمالها وطلاقتها و واقعيتها.
* السبب الثالث في ظهور الطريفة النقشبنديّة: هو بُعْدُ المسافة بين مراكز الحكم والعلم وبين المنطقة الّتي نشأت وانتشرت فيها الطريقة.
لمّا انتزع الإسلامُ جذورَ الشرك وأزاحه عن مهبط الوحي والإلهام، وبدأتْ أنوارُ التوحيد تُشرق من الحرمين على أطراف الجزيرة العربية، فنبعتْ مناهلُ الحكمة وتدفّقتْ من صدور أئمة السلف وانصبّتْ على صفحات الكتب بمداد العلماء من التابعين؛ فلم يلبث أن سادت دولة العلم في بلاد اليمن والعراق والشام ومصر في مدّة أقلّ من خمسين سنة بعد الهجرة النبوية. وفي أثر ذلك أصبحت كلّ منطقة من هذه البلاد مركزًا للعلوم والفنون الإسلامية.(66/17)
ولقد كان المسلمون الأوائل أشدّاء على الكفّار والمشركين ومن كان على نهجهم من المستحدثين في الدين والمتلاعبين بنصوصه من خلال تأويلات ماكرة. ولا يُستَبْعَدُ أن يكون أهل الحلّ والعقد منهم قد أحبطوا أيّة بدعة قد ظهرت في أيامهم بسرعة وعنف. فهكذا كانوا حتّى في العهد الأمويّ، وكذلك في المرحلة الأُولى من العهد العباسيّ. إذ يبرهن على ذلك موقف الخليفة المقتدر من حسين بن منصور الحلاّج لمّا علم أنه زنديق يتربّص بالإسلام ليعبث به ثأرًا لدين آبائه المجوس الّذين قضى عليهم المسلمون، فأمر به فقُتِلَ. راجع قصّته في المراجع الآتي ذكرها:
* عمر رضاء كحالة، معجم المؤلفين، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/645 . بيروت - 1993م.
* أنور الجندي، المؤامرة على الإسلام ص/ 57، 174. دار الاعتصام، الطبعة الثانية. القاهر- 1978م.
* عبد القادر حبيب الله السندي، التصوّف ص/636، 716. مكتبة ابن القيم الطبعة الأولى. المدينة المنوّرة - 1990م.
* سميح عاطف الزين، الصوفيّة في نظر الإسلام ص/ 307. دار الكتب اللبنانية، الطبعة الثانية. بيروت - 1985م.
وما أن اتّسعت أرض الإسلام، ودانت به فئاتٌ غيرُ ذاتِ رشدٍ وذوقٍ سليمٍ من أهالي المناطق النائية عن مراكز الحكم والعلم والحضارة الإسلامية وخاصةً بعد فتح خراسان وبلاد ماوراء النهر؛ سرعان ما بدأ الانحراف عن الخط الإسلاميّ المستقيم، وصار يدبّ هذا الانحراف وينتشر بين الناس كلّما وجدوا هرطقةً تُذَكّرُهم بماضيهم نزعت إليها نفوسهم ظنًا منهم أنّها من صميم الإسلام. وربما لم تكن الدولة يومئذ تتمتّع بالقدرة والهيمنة الكافية لكبح جماح المبتدعين والمستحدثين بسبب بُعْدِ المسافة بين مراكز الحكم وبين تلك المناطق المترامية القاصية؛ أوربما لم يكن لأصحاب السلطةِ اهتمامٌ بسلامةِ الدينِ، وقصرِ تعاليمِهِ على الكتابِ الكريمِ، والسنّةِ المُطهَّرَةِ كما فهمها سلفنا الصالحُ رضوان الله عنهم.(66/18)
فهذه أيضًا من الدواعي الّتي أسفرت عن انتشار حياةٍ روحانيّةٍ غريبةٍ عن الإسلام تحت ستار الزهد والاستغناء عن الدنيا، وممارسة الرياضة والتقشف ولبس المسوح. ثم تطوّرت الأوضاع حتّى ظهر عدد كبير من الطرق الصوفيّة في القرون التالية، وانتشر بعضها على ساحات واسعة فأقبل عليها جمهور من الناس وطاشت حكمة العلماء في وجهها، إمّا مخافةً أوعجزًا أو جهلاً؛ إلى أن قويت صولة هذه المنظمات الصوفيّة وتضاعفت قوّتها. وغلبت على العاقل والغافل محبّتُها بالرغم من نبوغ شخصيّاتٍ من أهل العلم والفضل في تلك المناطق من أمثال: الإمام الهرويِّ إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحمن القرّاب راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/356 ترجمته. ، وعليّ بن محمّد بن الحسين البزدويّ المصدر السابق 2/501. ، وشمس الأئمّة محمّد بن أحمد بن أبي بكر السرخسيّ المصدر السابق 3/52.، وأبي حفص عمر بن محمّد النسفيّ المصدر السابق 2/571.، والإمام الرازي فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الّتيميّ البكريّ المصدر السابق 3/558.، والعلاّمة مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازانيّ المصدر السابق 3/849. وغيرهم.
فيبدو هكذا بوضوح، سببٌ ثالثٌ من أسباب ظهور الطريقة النقشبنديّة في بلاد ماوراء النهر، ولكنّها كانت محصورة في تلك المناطق طوال سنوات عديدة؛ إلى أن اعتنقها الأتراك العثمانيّون ومَنْ كان تحت حكمهم من الأكراد والقلةِ من حثالة العرب الّذين يقطنون في المنطقة الكرديّة . وذلك بعد الحملة الّتي قام بها خالد البغداديّ المصدر السابق 1/667. لنشر هذه الطريقة في لباس جديد وباستيحاءٍ من الديانات الهندية، وبمساعدةٍ ودعمٍ من السلطة العليا للدولة العثمانيّة كما سنشرحه في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.(66/19)
* السبب الرابع في انتشارِ النزعاتِ التصوفيةِ عامّةً وظهورِ الطريقة النقشبنديّة خاصّة في بلاد الأتراك هو جهلُهُمْ بلغة القرآن كما هي الحالة نفسها بالنسبة للأكراد وغيرهم من سائر العناصر العجمية.
أسلم الأتراك وهم لا يفهمون شيئًا من القرآن لاختلاف اللّغة. ويبدو أنّهم تلقّوا الضرورات من الدين عن طريق الترجمة في الخطوة الأولى من إسلامهم. أمّا الترجمة وإن كان لها أثرٌ ودَوْرٌ في تبليغ الرسالات، إلاّ أنّها قد لا تفي بالحاجة خاصّة لتفصيل الأمور الدقيقة لأنّ فهمَ المعاني المقصودة في مثل هذه الأحوال يزداد أهمّيّة ويتوقّف على كفاءة المترجم وصحّة الترجمة. إذًا فمتى كان المترجم قاصرًا، أو غيرَ ذي مهارةٍ وحُنكةٍ في مهمّته جاءت الترجمة مشوبةً بأخطاء، ومعيوبةً بغموض؛ فتعقّد الأمر على المخاطب.
هذا، ولا ندري هل كانت الترجمة يومئذ وافية لأداء مهمّة التبليغ والقيام بأعمال التعليم أم لا. خاصّةً فانّ تعليم مسائل التوحيد للإنسان الّذي عاش في ظلمات الشرك طوال عمره، وفوق ذلك يجهل لغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فانّ تعليمه من أشدّ الأمور صعوبة وتعقيدًا.
وإلى جانب هذا، فانّ الأتراك يختلفون عن كافة المجتمعات بموقفهم السلبي من اللغات الأجنبية؛ فتجاوز الأمر إلى لغتهم؛ حتّى أصبحت هي نفسها بعد إهمالهم إيّاها وتلاعبهم بها عُرْضَةً لنكبات الدهر. ولا يزالون يعانون شتات شملها إلى اليوم. وربما يرجع سبب هذا الموقف إلى الروح العسكريَّةِ الراسخةِ فيهم من قديم الزمان. فإنّ الأتراك يعتزّون دائمًا بأنّهم قومٌ مقاتلون، وبأنّهم لم يخضعوا لسيادة قوم آخرين عبر تاريخهم. فإنّ تفاخرَهم بأمجادِهم وتشاغلَهم بذكريات أيامِ عزّهم بصورةٍ دائمةٍ قد جعلهم يحتقرون بقيّةَ الشعوب وما يميّزها عنهم من صفات القومية كاللّغة والدين وبعض التقاليد.(66/20)
وإنما هذا الموقف هو الّذي جعلهم لا يهتمّون باللّغة العربية من قديم الزمان؛ ما عدا قِلَّةٍ من علمائهم الّذين اقتصروا على حفظ قواعد الصرف والنحو، فاتّخذوا العربية لغة القراءة لنصوص الدين فحسب، دون الكتابة والحوار. ويجري تسميتها بـ "لغة القرآن" على لسان المعتزّين منهم بالإسلام تناسيًا لصلتها الخاصّةِ بالشعب العربي. فقد أسفر عن هذا الشعور نتيجةٌ غريبةٌ وهي أنّ أكثر المقرّين منهم بالانتماء الإسلاميِّ يقدّسون اللّغة العربيةَ فلا يرو من السهل مزاولَتَها، أو من الأمور الجائزة لغير رجال الدين!
لهذا، قام بعض الجهلة منهم المنتحلين سِمَةَ العلم، فتصدّوا للعبث بمسائل الدين واختلقوا أنواعًا من البدع. فانتشرت بسهولةٍ، لجهل المجتمع بلغة القرآن. لأنّه لم ينتبه كثير من الناس، إلى أن هذه الأمور المستحدثة لا تمتّ بصلةٍ إلى الإسلام، أو أنها مستورثة من الشامانية والبرهمية والمزدكية والمانوية وغيرها من أديانهم السابقة فزادت هذه الخزعبلات انتشارًا، وازداد الناس إقبالاً عليها إلى أن استغلّها بعض الصوفيّة. فوجدوا فيها ضالتهم، ورتبوا على أساسها طرقًا ومذاهب شتّى مثل البكتاشية، والبنجرية، والبيرمية، والحروفية، والخفيفية، والخلوتية، والجراحية، والكُلْشنية، والروشنية، ممّا هي جميعًا من صنع الأتراك كما يبدو من أسمائِها التركية، إلى جانب ما أسّستها أعجام الفرس فجاءتْ من جملتها الطريقة النقشبنديّة.
* السبب الخامس في ظهور الطرُقِ الصوفيّة، ومنها النقشبنديّة، هي الفتن الّتي حدثت في عصر الصحابة وأثّرتْ على النفوس حتّى نشأت من جرّائها بعد القرون فِرَقٌ وأحزابٌ باطنيّةٌ ومذاهبُ غاليةٌ عديدةٌ كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.(66/21)
الفتنة الأولى والكبرى في تاريخ المسلمين لاشكّ هي مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه. ثم تليها الحروب الّتي جرت بين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبين ومعاوية بن أبي سفيان؛ ثم اغتيال عليّ بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.
دخل الشقاق بدواعي هذه الفتن صفوفَ المسلمين وهم من الطبقة الأولى من أمّة الإسلام. بيد أنّهم لم يختلفوا يومئذ إلا في المسائل السياسية والاجتهادية بالاستناد إلى الكتاب والسنّة، تجمعهم العقيدة الحنيفة إذ ذاك، مهما تفرّقت كلمتهم؛ فانقسموا إلى فِرَقٍ ثلاثٍ: الشيعة، والخوارج، والزهّاد الّذين تورّعوا وصبروا، واستأنسوا بِرَوْحِ الله وعكفوا على العبادة هرباً ممّا وقع فيه غيرهم من الطمع والافتتان بحطام هذه الدنيا وملذّاتها ومناصبها؛ كما يُقِرّ ويعترف بهذه الحقيقة أحد أعلام الصوفيّة في عصرنا السيد محمود أبو الفيض المنوفي إذ يقول: »وأمّا سبب شيوع التصوف في الإسلامية، فهو أنه لمّا حصل الخلاف على الخلافة والنزاع بين عليٍّ ومعاويةَ، ثم الخلاف بين بني أُمَيَّةَ وبين العباسيّين؛ قد صارت الخلافة ملكًا عضوضًا وسلطانًا يتنافس عليه أهل النفوس الضعيفة المحبّة للدّنيا ومتاعها الزائل، ترفّعَ البقيّة المخلصة الباقية من الصحابة والتابعين عن إيثار ما يفنى على ما يبقى، ورجعوا إلى أنفسهم عاكفين على مدارسة الكتاب الكريم.« السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله ص/ 49. دار نهضة مصر للطبع و النشر. القاهرة - 1969م.(66/22)
وإذا كان لموقف كلّ قرفةٍ من هذه الفرق الثلاثِ شأنٌ انطلقت منه فئاتٌ غاليةٌ ممّن جاء بعدها فانّ صوفية كلِّ عصرٍ قد تشبّهوا بالزاهدين السابقين من أمثال: أبي عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوريّ الكوفيّ راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 1/771؛ وعبد الله ابن المبارك المروزيّ وهو تركيّ الأصل المصدر السابق 2/271.؛ والفضيل ابن عياض بن مسعود التميميّ اليربوعيّ راجع ترجمته في الأعلام، خير الدين زركلي 5/153. دار العلم للملايين الطبعة 11. بيروت - 1995م.؛وأبي محفوظ معروف بن فيروز الكرخيّ المصدر السابق 7/269.؛ وأبي نصر بشر بن الحارث بن عليّ بن عبد الرحمن المروزيّ الحافيّ المصدر السابق 2/54.؛ وأبي الحسن سَرِيّ ابن المغلِّس السقَطيّ راجع ترجمته في وفيات الأعيان، لابن خلّكان، تحقيق الدكتور حسان عباس 2/357. دار الصادر. بيروت - 1978م. ؛ وأبي محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى التسْتَرِيّ المصدر السابق 2/429.؛ِّ ومن كان على نهجهم من الورع والتقوى رحمة الله عليهم أجمعين.(66/23)
أنتحل صوفية العراق مذهبَ هؤلاء الصالحين بعدهم في القرن الثاني من الهجرة. وصوفيةُ العراقِ جلّهم من أصولٍ مجوسيّةٍ من العنصر الفارسيِّ، لا صلةَ لهم في حقيقة الأمر بالزاهدين المذكورين سابقًا، وإنّما انتحلوا أسلوبهم في الإعراض عن الدنيا بظاهرهم وهم يتَبَنَّونَ أغراضًا خطيرةً في باطنهم. دفعتهم النزعة الشعوبية إلى هدم الدين الحنيف بدسّ سموم الشرك في العقيدة الإسلامية، ولكن بأسلوبٍ أكثر خبثًا ومكرًا ودهاءً وهو الأسلوب الصوفيّ بخلاف ما كان عليه الزنادقة من الشعراء والأدباء ذوي الأصول الفارسيّة بإيقاع الفتنة بين المسلمين وتشكيكهم، عن طريق تصوراتٍ فلسفيةٍ ظاهرة المعالم. كعبد الله ابن المقفّع راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/31؛ وأبي عبيدة معمّر بن المثنّى المصدر السابق 3/901. ؛وأبّان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقّاشي المصدر السابق 1/7.؛ وأبي نوّاس الحسن بن هناء بن عبد الأوّل بن صباح المصدر السابق 1/596.؛ وأبي العاتية إسماعيل بن قاسم بن سويد بن كيسان المصدر السابق 1/374.. كان هولاء الشعوبيون مجاهرين بأفكارهم وتصوراتهم بخلاف الصوفيّة. أمَّا الصوفيّةُ، فإنَّ السرِّيَّةَ الّتي كانت أعمالُهم تتوارى بقناعِها، تجعلُهم في أمانٍ من أيِّ شكٍّ قد يثور حولَهم؛ بل غالب الناس كانوا يعظّمونهم ويعدّونهم من أصحاب الفضائل والكرامات لما يرون من إعرضهم عن زينة الحياة الدنيا وطيّباتها. لأنَّ كراهيةَ نِعَمِ اللهِ كانت هي القسطاس الّذي يُقَيِّمُ الناسُ به مستوى الفضيلة والسموّ الروحيِّ والأخلاقيّ يومئذ.ِ.(66/24)
هكذا استطاع صوفية العراق منذ بداية ظهورهم أن ينجحوا في تشويه الوجه المشرق للإسلام بهذا الأسلوب الدسّاس، على حين غفلة من المسلمين الّذين هجمت عليهم الفتن يومئذ من كل حدب وصوب وهم في وسطٍ من الفوضى من أمرهم. فاستمرّت حياكة الدجل والكذب على لسان السابقين من أهل الزهد وهم برآء من الصوفيّة وضلالاتهم، حتّى أسلم الأتراك.
فما لبث أن برزت جماعة حشوية بينهم من أهل خراسان وبلاد ماوراءالنهر. فزادوا على هذه الأكاذيب والأراجيف ما تمجّه الأسماع. ثم تطوّر منها فنٌّ من فنون التحريف والتبديل والتضليل، وهو ما يسمى بمناقب الأولياء.
وأخطر ما وضعه الصوفيّة من الأمور الهدّامة للدّين الحنيف بدعة »السلسلة« الّتي اختلقها بعضهم في عصور الظلام، وربما ليجعل منها صلة يدّعي بها الانتساب والانتماء إلى الصحابة والتابعين ليستغلّ بها ضمائر الناس وليتدرّج بمساعدتهم إلى تحقيق ما هو من ورائه. فسيأتي شرحها إن شاء الله تعالى. وهي أيضًا من صنع زنادقة العجم، اغترّ بهم الصوفيّة والمشعوذون من قدماء الأتراك لجهلهم.
* السبب السادس في ظهور الطريقة النقشبنديّة هي الدواعي النفسيّة المتخفّية للأتراك من وراء الصراع التاريخيّ الّذي طالما يجري بينهم وبين العرب على احتكار الإسلام واستغلاله في كسب المصالح السياسية.(66/25)
إنّ من أهمّ ميّزات الأتراك، أنّهم لا يذعنون لسيادة من ليس من قومهم. ولا ينقادون إلى رئاسة أجنبيٍّ. وكأنّهم قد جُبِلوُا على الأنِفَةِ والحميّة وحبّ الرياسة والسياسة. قد يختلفون فيما بينهم أشدّ الاختلاف. ولكن سرعان ما يلتفّون حول الرجل القويّ من بينهم، وينهضون بأمره في وجه العدوّ نهوض الرجل الواحد. والغريب، أن المُقِرَّ منهم بالانتماءِ الإسلاميِّ، ينتصر للكافر والفاسق من بني جلدته في وجه المؤمن التقيِّ من غير قومه أو من غير حزبه. يبرهن على هذه الحقيقةِ ما أخذتْهُ الحكوماتُ التركيةُ من الأُهْبَةِ في سياستها ضدَّ المُعتزّين بالإسلام في الداخل والخارج وباستمرار. ومن آخر عكوسِ هذه السياسةِ، قيامُها بمساعدة المنشقّين من العناضر ذات الأصول التركيةِ في أفغانستان ضدّ حكومةِ (طالبان) طالبان: إسمٌ أطلِقَ على الحكومة الأفغانيةِ التي شكلتها جماعة من طلبةِ الجامعات الإسلامية ذات الطابع القديم والمتخلّف في باكستان. الإسلامية عام 2001م. إنّ الحكومةَ التركيةَ لم تقم بدعم الأتراك الأُزبك في أفغانستان لِمُجَرَّدِ ماكانت حكومةُ (طالبان) تمارس التعسُّفَ والتّطرُّفَ في سياستها، بل كان ردَّ فعلٍ من مُنطَلَقِ العصبيّةِ التركيّةِ انتصارًا للأتراك الأفاغنةِ ضدَّ خصومهم البشتون.
هذه الخصلة جعلتهم ينافسون العرب في السياسة والسيادة، ويصارعونهم على السلطة في الوهلة الأولى من إسلامهم. غير أنّ الأتراك قد وجدوا أنفسهم دائمًا أمام عَقَبَتَين في وجه العرب.(66/26)
العقبة الأولى: هي اللّغة العربية. لأنّ العربية غلبت على جميع لغات الشعوب الّتي دخلت في الإسلام بحكم كونها لغة القرآن والعلم والحضارة. فلم يستقم اعوجاج اللّغة التركية تحت هذه الغلبة على امتداد تاريخ الأتراك المسلمين وخاصّةً لمّا زادت اللّغة الفارسيّة من حيفها على اللّغة التركية وابعادًا للعربية، فقدت التركية أهمّيتها حتّى اختنقت وتفرقت إلى لهجات، بل إلى لغات مختلفة. ويشهد اليوم على هذه الحقيقة استخدامُ الترجمة في الحوار بين رؤساء بعض الدول الترّكية في الملتقيات والاجتماعات الدولية. مثل تركيا وكازاخستان. كما لا تتّفق أبجديّات هذه الدول بخلاف العرب. فانّهم بالرغم من شتات شملهم والشقاق الّذي بينهم على الصعيد السياسيِّ والدوليِّ، ما زالوا يتكلّمون بلغةٍ واحدةٍ، ويستخدمون أبجديةً واحدةً.
وإذ نعود إلى موضوع النقشبنديّة، فإنّ هذه الطريقة أسّسها الأتراك قبل سبعة قرون قي مدينة بُخَارَى، وهي عاصمة وطنهم القديم. ولا شك أنّهم أسّسوها لتكون نسخةً أخرى للإسلام، ليتميّزوا به عن العرب والفرس في عبادة الله. فاتّخذوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه رمزًا لطريقتهم، كي يُلمحوا بذلك أنّهم على نقيضٍ للفرس الشيعة، كما اتّخذوا اللّغة الفارسيّة كَلُغَةِ العبادة في هذ الدين المُخْتَلَقِ لعدم الكفاءة في لغتهم. ووضعوا لهذا الدين آداباً ومبادئَ تختلف تمامًا عن أركان العبادة والدعاء في الإسلام بغية أن يستقلّوا بوُجْهَة نظرهم إلى الإسلام بخلاف ما يفهمه العرب.(66/27)
أما العقبة الثانية: الّتي يعانيها الأتراك هو مفهوم الدين. ومع أن الإسلام دين عالميٌّ لا يجوز أن يستغلّه شخص أو قوم لِيُتَاجِرُوا به أو ليطبِّعوه في أشكال خاصّة، كما لم يفكّر به العرب، -ولم يتمكّنوا من ذلك لو أرادوا أن يحصروه في نطاق قوميتهم- إلا أنهم كانوا ولا يزالون أكثرَ فهمًا لمعاني القرآن، ولا غرو أنّه نزل بلغتهم. أمّا الأتراك وتُبَّاعهم من أقلياتٍ عجميةٍ فإنّهم لا يفهمونه إلا عن طريق الترجمة الكتابية أو بالاستماع إلى علمائهم.
ولا شكّ أن لهاتين العقبتين تأثيرًا عظيمًا على أحاسيسهم وإن لم يجهر به عامّتهم. ولا يُستَبْعد أن يكون في باطنهم ما قد يثيرهم بدافع هذين الأمرين حتّى يتخلّصوا من تأثير العرب بلغةٍ قويةٍ ودينٍ مستقلٍ دونما ارتدادٍ عن الإسلام، ولكنْ مختلفٍ عن إسلام العرب! لا شكّ أيضًا أنّ الأتراك ( ونعني بهم بقايا العثمانيّين من أصحاب السيادة في تركيا اليوم) قد عملوا الكثيرَ لتحرير لغتهم من قيود العربية والفارسيّة، ولكن لم يتمكّنوا من ذلك. كمالم يتمكّنوا من توفير أسباب الاستقرار لها. فانّ ظهور الطرُقِ الصوفيّة هي في الواقع من نتائج هذه المُنْطَلَقَاتِ العصبية والعرقية، وانعكاسٌ لأغراضٍ قوميةٍ وعنصريةٍ. خاصّة الطريقة النقشبنديّة، فإنّ في ثنايا آدابها ومعاملة أتباعها وانتمائهم أماراتٍ ومعالمَ تُنْبئ عن حقيقة منْطَلَقَاتِ هذه الطائفة وأغراضها العصبيّة القومية في صور غير خافية على أهل البصيرة. ولربما هي من أقدم أسبابها؛ وفي ذلك شواهدُ عديدةٌ، حسبنا الاستدلال بواحد منها:(66/28)
نقل عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ المصدر السابق 2/310. بطريق الرواية عمن تُنسب إليه الطريقة النقشبنديّة وهو محمّد بهاء الدين البُخَاريّ راجع ترجمته في الفصل الرابع.. نَقل أنه قال: »نمتُ ليلةً فرأيتَ الحكيمَ آتا قدس سره. وكان من أكابر مشائخ التُّرْكِ وهو يوصي بي درويشًا. فلمّا انتبهتُ بَقِيَتْ صورة الدرويش في مخيِّلَتي. وكانت لي جدةٌ صالحةٌ فقصصتُ عليها هذه الرؤيا، فقالت: سيكون لك يا ولدي من مشائخ التُّرْكِ نصيبٌ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاّء النقشبنديّة ص/ 129. القاهرة - 1308 هـ.
إن هذه الكلمات، تُعَبِّرُ عن حقيقةِ ما قد تبنَّتْ هذه الطريقة التركية عَبْرَ تاريخها بصورة ملخّصة، وقد تحقق ذلك. وهو أن المجتمعَ التركيّ قد حدّدَ وجهةَ نظرهِ في الإسلام منذ القديم بتفسيره الباطني المتمثّل في تعاليم هذا المذهب الصوفيّ على وجه الخصوص وبموقفه العصبيِّ.
***
التغيُّرات الّتي طرأت على هذه الطريقة.
إنّه يُستَبْعَدُ أن تكون الطريقة النقشبنديّة قد اشتهرت بهذا الاسم في حياة محمّد بهاء الدين البُخَاريّ الّذي تُنْسَبُ إليه الطريقةُ. لأنّ الطرقَ الصوفيّةَ إنما تُدعى بأسماء مؤسِّسيها بعد موتهم عادةً. وهذا يُعتَبَرُ من جملة الإشارات الّتي تُنبئ عن تغيُّراتٍ عديدةٍ طرأت على الطريقة النقشبنديّة، وتدلّ في الوقت ذاته على أنّ الطرقَ الصوفيّةَ عامّةً والنقشبنديّةَ خاصّةً، لا تقوم آدابُها وأركانُها وطقوسُها على نصوصٍ من الكتاب والسنّة. بل إن كانت لها أصولٌ ومبادئ، فإنها في الحقيقة ليست إلا من صنع الروحانيّين الّذين استطاعوا أن يفرضوها على أتباعهم بحكم شهرتهم. ثم اقتنع بها المريدون والمفتتنون ممن حولهم فاتّخذوها مناسكَ لهم، وعملوا بها حتّى ظنّ معشرٌ من رعاع الناس أنها فرائض أو سنن من صميم الدين.(66/29)
ثم لم يلبث أن تولّى رئاسةَ الطريقة رجالٌ روحانيّون آخرون، زادوا على ما اختلقهُ السابقونَ من الآداب والشروط. فزادوا عليها تارة، وحذفوا منها تارة إذا زيّنتْ لهم أنفسهم ذلك. وهكذا جرت عادتهم من القديم إلى اليوم.
وجدير بالإشارة أنّه لا يتأتّى ذلك إلا لمن يمتاز بالمهارة واللّباقة في إقناع النفوس ويملك زمام الآلاف فيتمكّن من إلقاء هيبته ومحبّته في قلوبهم، بحيث لا يجدون مساغًا ليتساءلوا عن حقيقة هذه المستحدثات والبدع؛ وهل لها أساس من الدين أم لا؟ إذ أنّ لِبعض شيوخ الطريقة فنونًا من الحيل يسحرون بها حتّى عقول العلماء، فضلاً عن الجهلاء؛ كما قد نجحوا في الاستيلاء على الشريف الجرجانيِّ راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/515. بالرغم من باعه الطويل في العلوم. إلاّ أنّ هذه الصفة لا تشمل جميع شيوخ الصوفيّة. بل إنّ بعضًا آخر منهم لم يعرفوا الخدعة في حياتهم ولم يتصوّروها لحظة - ليس ذلك لِمَا فيهم من السمو الروحيِّ والأخلاقِ العاليةِ، والسلوك الرفيع، بل – لاستغراقهم فيما يسمّونه »العشقَ الإلهيَّ« وربما هي حالة من الجنون. لذلك مَنْ رآهم من الجهلة، أو من ذوي العاطفة، أعجب بهم، واغترَّ بما هم فيه من الغياب والتقشُّف، والعزلة عن الناسِ، والشعوذة، وإهمال أمور الدنيا. فظنّ المعجِبون بهم أنّهم أولياء الله وخاصّته، ووصفوهم بالعِفّة والقناعة وعزّة النفس، فبالغوا في توقيرهم وتعظيمهم، حتّى أسندوا إليهم ما لم يكن فيهم من الفضائل والبركة والكرامة. كلّ ذلك من جهل الناس بمفهوم الزهد والتقوى. أمّا في الحقيقة فليس لهما صلة بالعزلة من الناس، وإهمال أمور الدنيا، وحالاتِ الجنون الّتي يصفها العامة بالاستغراق والعشق الإلهيِّ. خاصّة فان أكثر شيوخ الطريقة النقشبنديّة يتّصفون بالطبيعة الجامدة، والصمت الطويل، والمسكنة والطأطأة. تلك عادتهم تسري فيهم عبر الأجيال خلفًا عن سلف.(66/30)
لأنّ من أراد منهم أن يختار له خليفةً من بين خاصّته آثر منهم المتميّز بالصفات المذكورة. أمّا من كان على نقيض تلك الصفات فلا حظّ له من هذه الفرصة غالبًا. وهذا ما قد أفضى إلى اغترار كثير من جهلة الناس بالمظاهر التقليدية للشيوخ النقشبنديّة. فهابوهم حتّى الْتَبَسَتْ عليهم تلك الصورة الجامدة بالوقار والسكينة. كماَ الْتَبَسَ عليهم الحق بالباطل لاستسلامهم لهذا التأثير، واقتناعهم بكلّ ما قرع سمعهم من هفوات الشيوخ وخزعبلاتهم. وهذا ما زاد في جرأة الروحانيين حتّى تصرّفوا في أمور طريقتهم بالذات، كما تصرّفوا في تعاليم الإسلام بالتأويل والتحريف.
ومما يؤكّد أن الطريقة النقشبنديّة تعرّضت للعبث – وكل ما فيها لون من ألوان العبث -، فزيدت فيها شعارات ومقولات وتفسيرات وتعدّدت فيها هرطقات وبدع ومستحدثات مع الزمان؛ أنها تسمّت من بُرهة إلىأخرى بأسماء مختلفة كما يشهد على ذلك رجل من أكابر المتأخّرين لهذه الطريقة وهو محمّد بن عبد الله الخانيّ المصدر السابق 3/460. مؤلّف كتاب »البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة«. يُقِرّ المؤلّف بهذه الحقيقة مستدلاًّ بعبارة نقلها من كتابِ »الحديقة الندية في آداب الطريقة النقشبنديّة« لمؤلّفه محمّد بن سليمان بن مراد بن عبد الرحمن العبيديِّ البغداديِّ المصدر السابق 3/331 جاء في مستهلّ هذا المقطع: » اعلم أن ألقاب السلسلة تختلف باختلاف القرون...إلخ« راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبدلله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 12. طبعة مصر - 1241 هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 22، 23. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.(66/31)
* عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 709، 723، 725. بغداد - 1973. فبلغ ما ذكره المؤلفان من هذه الألقاب الّتي اختلفت عَبْرَ القرون إلى ثمانيةِ أسماءَ متباينة وهي: الصدِّيقية، والطيفورية، والخواجكانية، والنقشبنديّة، والأحرارية، والمجدّدية، والمظهرية، والخالدية.
ومن اختلاق بعض الشيوخ في هذه الطريقة: أنهم استحدثوا جملةً من المفاهيم والمعتقَدات الّتي جعلت من هذه الطريقة دينًا مستقلاً عن الإسلام، وهي الرابطة، والختم الخواجكانية، وبدعة الذكر مع حبس النفَسِ، وعدّ الأوراد بالحصى وبإعدادٍ معينةٍ، وملاحظة الصورة الفتوغرافية لشيخ الطريقة، والاتصال بموتى الروحانيّين ما يسمّونه "الأوسِية" راجع الفصل الثالث، باب الأويسية. وبعضٌ من آداب المريد مع شيخه عندهم راجع الفصل الثاني، باب آداب المريد مع شيخه..وتصوّراتٌ فلسفيةٌ استورثوها من الأديان السالفة، فقرّروها شيئًا فشيئًا عَبْرَ القرون؛ كفكرة "وحدة الوجود" و"وحدة الشهود" والحلول والاتحاد والفناء والبقاء؛ وغيره كثير ومفصّلٌ في كتبهم كما سيأتي شرح هذه الأمورِ وتحليلها في الفصول الآتية إن شاء الله.
وكلّ ذلك، وضعوه لتمكين هيبة الشيخ في نفوس الناس من المريدين وغيرهم، لتذلّ له رقابهم، وتخشع لعظمته قلوبهم؛ على أنّه ينوب عن الله في أرضه، ويتصرّف في ملكه وخلقه، حتّى أصبح كثير من الجهلة العوامّ لا يكادون يصدّقون أن الشيخ أيضًا يبول ويتغوّط ويمارس الجنس كأحد من الناس.
***
* المناطق الّتي انتشرت فيها الطريقة النقشبنديّة ودواعي انتشارها.(66/32)
إنّ هذه الطريقة لم تحظَ باهتمامَ الناس من أيّ شعبٍ في أرض الإسلام بالقدر الّذي نالت من الإقبال بين الأتراك. ولا عجب أنهم مختلقوها ومؤيّدوها منذ البداية إلى اليوم. فانتشرت في المناطق الّتي قام فيها حكمهم، واستحكم فيها سلطانهم بعد انهيار الدولة العبّاسية وظهور السلاجقة الأتراك على مسرح التاريخ.
يقول الشيخ قسيم الكُفْرَويّ في رسالة أعدّها باللّغة التركية تحت عنوان »النقشبنديّة ظهورها وانتشارها« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? (Intiodaction)
Türikiyat Enst. no. 337 Istanbul-1949
وكان الشيخ قسيم هذا، من أعلام المثقفين ومن أشهر مشائخ هذه الطائفة في تركيا. يقول في افتتاحية كتببه: »إن القدماء من شيوخ النقشبنديّة كانوا من أهالي تركستان وما وراء النهر. ولذلك تسرّبت عاداتُ هذه المنطقة وتقاليدُها إلى الطريقة النقشبنديّة«.
فإذا أنعمنا النظر في هذا المقال وجدنا فيه ثلاث نقاط هامّة وجديرة بالدراسة والتحليل.
النقطة الأولى: كون الطليعة من رجال هذه النحلة قد ظهروا في منطقة تركستان وهو الموطن الأصليّ للأتراك.
والنقطة الثانية، أنّ الطريقة قد امتصّت الكثيرَ من مخلَّفات الأديان والعادات والتقاليد المتّبَعَةِ في هذه المناطق عَبْرَ القرون.
والنقطة الثالثة، أن الطريقة قد انتشرت في الوهلة الأولى على ساحةِ المنطقةِ نفسِها بحكم ظهور مؤسِّسِهَا في تلك النواحي.
إذًا، نستطيع أن نقول إنّ الطريقة النقشبنديّة قد بدأت في توسّعها من الموطن الأصليِّ للأتراك منذ أيام ظهورها. ثم انتشرت في كلّ ساحة قام عليها حكمهم بدايةً من بلاد ما وراء النهر، وخراسان، فمرورًا بالمناطق الهندية. ثم بعد تقدُّمِ السلاجقة إلى الأناضول لأوّلِ مرّةٍ يَمَّمَتْ الطريقةُ وجهَهَا إلى هذه الأرض الّتي إستقرّ الأتراك فيها وأقاموا عليها الدولةَ العثمانيّةَ بعد أن زالت دولة بني سلجوق.(66/33)
جاء في بعض المصادر للباحثين الأتراك أنّ الشيخ عبد الله الإلهي هو الّذي قام لإوّل مرةٍ بنشر الطريقة النقشبنديّة في المملكة العثمانيّة ما بين 1481-1512م. وقام بمحاولة التأليف بين الطريقة النقشبنديّة والطريقة الملاميَّة وعاش في عهد السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمّد الفاتح، ثمّ تابعه حيدر بابا في نشر هذه الطريقة أيّام السلطان سليمان القانوني. مع هذا يقول الدكتور رشاد أونكوران، »لقد كان من المعروف - إلى الآونة الأخيرة -: أنّ الطريقة النقشبنديّة دخلت منطقةَ آناضول لأوّل مرةٍ على يد مُلاّ إلهي، هو خليفة عبيد الله الأحرار. راجع ترجمةَ الأحرار في الفصل الرابع، الحلقة الثامنة عشرة من سلسلة الطريقة النقشبنديّة. كما كان من المعروف أيضًا؛ أنّ أوّل تكيةٍ للنقشبنديّين في هذه الساحة هي الّتي بُنيتْ في سِيماوْ من ضواحي مدينة الكُدَاهِيّة؛ إلاّ أنّ حسين حسام الدين أفندي المعروف بعبدي ذاده قد سجّلَ في تاريخه أنّ أوّل تكيةٍ للنقشبنديّين في البلاد العثمانيّة هي الّتي بُنيتْ في مدينة آماسيا عام 1404-1405م. باسم تكيّة محمود شلبي؛ واحتلّ منصبَ المشيخة لأوّل مرةٍ في هذه التكية الخواجه ركن الدين محمود البُخَاريّ الّذي كان من خلفاء شاه نقشبند« Dr. Re?at ?ng?ren, XVI. As?rda Anadolu’da Tasavvuf: TDV. ?SAM. TEZ 297.7
على الرغم من دقّة أسلوب الباحث رشاد أونكوران، فقد وردت كلماتٌ له يدّعي فيها ما يؤدّي إلى الشكِّ من حقيقة كلِّ ما جاء على لسانه حول الطريقة النقشبنديّة. وهذه كلماته:
»إنَّ الطريقة النقشبنديّة الّتي أسّسها الشيخ بهاء الدين نقشبند، لها سلاسلُ، تتصل عن طريقها بأبي بكرٍ وعليٍّ« المصدر السابق ص/88.(66/34)
يستند الدكتور رشاد في هذا الإدّعاء الجريء إلى أربعةِ مراجعَ من كتب المتأخّرين؛ وهي في حدِّ ذاتِها خاليةٌ من القيمة العلمية في مثل هذا الإسناد. وبالنسبة لمزعمة »سلسلة السادات«، فسنشرحها في بداية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
ورد في »موسوعة إسطنبول« Dünden Bugüne ?stanbul Ansiklopedisi - مادة النقشبنديّة - أنّ هذه الطريقة بدأت تدبُّ في صفوف المجتمع العثمانيّ منذ أواخر عهد السلطان محمّد الفاتح. واستقى كَاتِبُ هذهِ المادَّةِ أكرم إيشن، من كتابٍ اسمه:Otman Baba Velâyetnâmesi. وأفاد فيه أنه كانت للنقشبنديّين في تلك المرحلة تكيةٌ بمدينة آق سراي (وهي في أواسط آناضول على مقربةٍ من مدينة قونية)؛ ولكنه يعترف في الوقت ذاته بعدم أيّ معلومات تذكر النشاطات الأولى للطائفة النقشبنديّة على الساحة العثمانيّة.
كذلك ورد في نفس الموسوعة أنّ السلطان محمّدًا الفاتح »إنّما اهتمَّ بالنقشبنديّين الّذين كانوا يومئذ خارجَ مملكتِهِ، وتولّى حِمَايَتَهُمْ، وقام بدعوة بعض مشاهيرهم من أمثال نور الدين عبد الرحمن الجامي وعبيد الله الأحرار، ليتمكّن بذلك من الوقوف أمام تهديدات الشيعة الإيرانيين...« وردعًا لانتشار عقائدهم بين السنِّيِّين الأتراك. كما يبدو موقفه السلبيُّ المحتقِرُ من الشيعة من تسميته ولدَه أبا يزيد، ذلك ليغيظهم ويجرح مشاعرهم!
نفهم من عبارات الكاتب أكرم إيشن في هذه الموسوعة أنّ الطريقة النقشبنديّة لم تتجاوز حدود العاصمة العثمانيّة (اسطنبول) في مراحلها الأولى وحتّى ظهور الخالديّين. ومهما كانتْ، فإنّ أوّلَ شيءٍ من آثار هذا الّتيار الصوفيّ بمدينة إسطنبول تعود إلى جهود عبد الله الإلهي وخلفائه الخمسة وهم:
1
. أحمد البُخَاريّ،
2. عابد شلبي،
3. لطف الله الأسكوبي،
4. بدر الدين بابا،
5. مصلح الدين الطويل.(66/35)
لقد استطاع مصلح الدين الطويل أن يحبّب هذه الطريقة إلى السلطان أبي يزيد بن السلطان محمّد الفاتح الّذي عُرِفَ فيما بعد بلقب »الصوفيّ أبي يزيد الولي«؛ وبذل عابد شلبي جهودَهُ في سبيل التأليف بين الطريقتَين النقشبنديّة والمولوية. إلاّ أنّ ترسيخَ دعائم الطريقة النقشبنديّة الأحرارية بمدينة إسطنبول في تلك المرحلة إنما تحقّق بجهود أحمد البُخَاريّ الّذي يُعْتَبَرُ من أبرز خلفاء عبد الله الإلهي. وهو أصلاً زميله ورفيقه الّذي سافر معه إلى سمرقند وانخرط في سلك هذه الفرقة معه؛ ولكن يبدو أنّ عبيد الله الأحرار قد أخضعه لأوامر عبد الله الإلهيِّ عندما كلّفهما بنشر طريقته في إسطنبول. فلما عزم عبد الله الإلهيّ على السفر إلى المناطق الغربية من المملكة العثمانيّة لنشر الطريقة استخلفه في إسطنبول.
دخلت الطريقة النقشبنديّة في لباس جديد وتحت اسم "المجدديّة" إلى إسطنبول بدلالة رجل مشلول الساقين اسمه مراد بن علي بن داود الأُزبكي؛ كان من خلفاء معصوم الفاروقيّ. على الرغم من الشلل الّذي كان قد أصابه منذ طفولته قام برحلاتٍ طويلةٍ وطاف أهمّ العواصم من البلاد الإسلامية مات في إسطنبول عام 1720 من الميلاد.
***(66/36)
أمّا دواعي انتشار هذه الطريقة؛ فهي أمور مثيرة للاستغراب جدًّا؛ فمن أهمّها، أنّ هذه النحلة تتميّز من سائر الفِرَقِ الصوفيّة بآدابها وأركانها وطقوسها الّتي قَلّ من يملك نفسَه من موالاتِها بعد ممارسته لهذه الآداب. لأنّها تبعث في قلب المبتدئ شوقًا لاحدّ له، خاصّة إذا كان قليل الثقافة، عاطفيًّا، ضعيف المنطق، متخلّف العقلية، أو يعاني مشكلةً؛ كما إذا كان مهجورًا، أو من مُدْمِني الكحول والمخدِّرات، أو أصابته نكبة؛ سرعان ما ينجذب إلى هذه الطريقة ويجد في رحابها ما يسليه ويخفف من كربه وآلامه. فينخرط في سلكهم. ومنهم من تأخذه الحيرة والإعجاب، فينبهر بما يشهد من توقير المريدين وإجلالهم لشيخ الطائفة وتفانيهم في سبيله واستعدادهم الأكيد لتحقيق أوامره بأدنى إشارةٍ منه، فيتابع أنفاسه عندما يقابل شيخ الجماعة وهو يُقْبِلُ في هيئته الخاصّة ومظهره النورانيّ الساحر، كأنه يهبط من السماء بأجنحة من النور الأخضر يتلألأ في موكب من الملائكة، فيتجلّى في صورة لطيفة شعشعانية مقدّسة لكلّ واحدٍ من جمهور أولئك الحافّين من حولِهِ والمفتتنين به من فقراء العلم والمعرفة الحيارى،
لذا، لم ينضم إلى هذه الطائفة أحد من أصحاب الشخصية الهزيلة والرأي الضعيف، إلا ورضي بالخضوع والعبودية والتذلّل والفناء لشيوخها. فلا يكاد ذهنهُ يخلو من تصوّرهم ولا قلبهُ من محبّتهم، ولا لسانهُ من ذكرهم، فينبهر لعظمتهم الموهومة عقلُهُ حتّى يراهم في درجة الأنبياء والمرسلين ويُقسِمُ بِهامَتِهِمْ، ويقشعرّ جلده عند ذكر أسمائهم مع يقينه الكامل بهم أنّهم ينوبون عن الله في أرضه ويتصرّفون في ملكه وخلقه. تعالى ربّنا عما يصفه الفاسقون.
ومن أسباب انتشارها، جهلُ عامّة الأتراك ومن يليهم من الأكراد، وحثالةِ العرب الّذين يقطنون في المنطقة الجنوبية من تركيا. جهلُهم بلغة القرآن، وجهلُهم بحقيقة التوحيد ومخاطر الشرك.(66/37)
ومن أسباب انتشارها، العصبيةُ القوميةُ الّتي تتمثّل في احتقار كلّ ما يمتُّ للعرب من عادة ومظهرٍ واتجاهٍ؛ كنتيجةٍ للّدعايات الكثيرة الهدّامة الّتي قام ولا يزال يقوم بها يهود سالونيك منذ مائة وخمسين عامًا، مما شجّع كثيرًا من رجال السياسة والمثقّفين على إثارة تتريك الدين الإسلامي بين الفينة والأخرى، وتضليل الناس بأنّ الإسلام الّذي تدين به الأكثريةُ السنِّيَّةُ إنما هو دينٌ عربيٌّ بحتٌ، لا يفهمه ولا يطمئن إليه أبناء الشعب التركيّ.
إن هذه المؤامرات الخطيرة في الحقيقة وإن لم تكن للنقشبنديّين بها علاقة مباشرة، ولكن الّذين يبذلون جهودهم في حِيَاكَتِهاَ، يستغلّون هذه الطائفة دائما في اكتساب القوة والهيمنة لتوجيه الشعب وترويضه على سبل المروق، وسلخه عن الإسلام تمامًا.
ولا يخفى أنّ عددًا كبيرًا من الشخصيات السياسية ورؤساء الأحزاب، يستعرضون مكرهم في مواسم الانتخابات لاستمالة مشائخ الطريقة النقشبنديّة كي ينالوا مساعدتهم وتأييدهم في اغتصاب الحكم واحتلال المناصب؛ وليتمكّنوا بذلك من توجيه الشعب وترويضه واستخدامه ضدّ الإسلام والمسلمين. لأنّهم لا يجدون لتحقيق أهدافهم ما يحتاجون إليه من مالٍ ورجالٍ إلا عند شيوخ الطريقة النقشبنديّة. ولهذا يعملون على إشاعةِ صِيتِ مَنْ يمكن التعاون معه من هؤلاء الشيوخ. ولا يتكلّف الجانبان من ثمن هذا التعاون، سوى ما ينفقه السياسيون في سبيل الدعاية للشيخ، فيتواطأ معهم عدد من رجال العمل الأثرياء، يُذيعون شهرته في المجالس والمحافل بوسائل مختلفة. ويستخدمون في هذه الحملة بُلَغَائَهُمْ من رجال الخطابة والكتابة. فما يلبث حتّى تزدحم القوافل في الطرق المؤدية إلى تكيَّتِهِ وتلتفّ الساق بالساق في سباق التبرك بتقبيل »اليد المباركة الناعمة الّتي لا عظم فيها« - على حدّ زعمهم -.(66/38)
فبحكم الطبع، لا يزور أحد من العوامّ شيخًا في تلك الزحمة الّتي يرى فيها آلافًا يتلهّف كلّ واحد منهم ليمسّ يده بشفتيه إلا عَلِقَتْ به نفسه، ونزعتْ إليه عواطفه، وامتلأ بمحبته قلبه، فكاد أن يسجد له لولا مخافةَ مقتٍ يُصيبه.
يرجع السبب في ذلك إلى ما ذكرنا آنفا من المظاهر الخلاّبة الجذّابة الّتي يتراءى الشيخ فيها للنّاس من اللّباس والحشم والجماهير الملتفّة حوله بالإضافة إلى ما يفعله من طأطأة الرأس وقلّة الكلام، والزهد المتصنّع وكثرة العبادة والآداب الّتي يفرضها على المريد.
فقد انتبه سلاطين الأتراك، ورجالات السياسة منهم خاصّة في المرحلة الأخيرة من الحكم العثمانيّ أنّ الطريقة النقشبنديّة تتّصف بسحر وجاذبية في جلب قلوب الناس وتسخيرهم. ولهذا قد اهتمّ خلفاء بني عثمان بمشائخ هذه الطائفة بداية من السلطان محمود الثاني. وقد تابعهم في هذه السياسة رجال السلطة اليهودية أيضا في العهد الجمهوريّ. فأدىّ هذا الاهتمام إلى انتشار الطريقة على ساحات شاسعة من البلاد.
وإذا مرّتْ بهذه الطريقة فترات زادت في بعضها نشاطًا وانتشارًا وفي بعضها انحطاطًا وتقلّصًا فقد بسطت سلطانها اليوم على أرض تركيا وهي تستغلُّ جهلَ الناس وحرصَ رجال السياسة، كما تهدّد العقيدة الحقّة، والقلةَ المؤمنةَ من أبناء هذه الديار.
***
الفصل الثاني
آدابُ الطريقةِ النقشبنديّةِ، ومَصَادِرُهَا، وميّزاتُها.
* البيعةُ وآدابُ المشيخةِ، وآدابُ المريدِ مع شيخهِ عند النقشبنديّين، والغايةُ منها.............
* آدابُ الذكر عندهم.....................................................................................................
* الذكرُ بلسان القلب......................................................................................................(66/39)
* الرابطةُ.....................................................................................................
* شروطُ الرابطة وصورة أدائها.......................................................................................................
* أوّلُ مَنْ أحدث الرابطة.....................................................................................................
* الغايةُ من الرابطة.....................................................................................................
* عقوبةُ المخلّ بآداب الرابطة.....................................................................................................
* أسلوبُهم وطريقةُ استدلالهم في إثبات الرابطة، ومقالاتهم في الدفاع عنها،
* وما قيل في ردّها.......................................................................................................
* مِنْ أهمّ ما كُتب في مسألة الرابطة.....................................................................................................
* مِنْ آدابهم: الذكرُ على أساسِ اللّطائفِ الخمس...............................................................................
* الحلقةُ السريّةُ الّتي تُسمّىَ "ختم خواجكان..........................................................................................
* المصطلحاتُ الفارسيّةُ في الطريقةِ النقشبنديّةِ وأسرارُها................................................................
مبادئُ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة، وهي أحد عشر مبدءًا
1. هُوشْ دَرْدَمْ.......................................................................................................(66/40)
2. نَظَرْ بَرْ قَدَمْ........................................................................................................
3. سَفَرْ دَرْوَطَنْ.....................................................................................................
4. خْلَوْت دَرْ أَنْجُمَنْ......................................................................................................
5. يَادْ كَرْدْ........................................................................................................
6. بَازْ كَشْتْ......................................................................................................
7. نِكَاهْ دَاشْتْ......................................................................................................
8. يَادْ دَاْشْت......................................................................................................
9. وُقُوفِ زَمَانِي.......................................................................................................
10. وُقُوفِ عَدَدِي......................................................................................................
11. وُقُوفِ قَلْبِي........................................................................................................
الفصل الثاني
آدابُ الطريقةِ النقشبنديّةِ، ومَصَادِرُهَا، وميّزاتُها.(66/41)
لحق التطوّر هذه الطريقةَ خلال القون السبعة الماضية ما لم يعرفه الأوّلون من أمورٍ سمُّوها آدابًا وأركانًا على حساب الإسلام. وقد ألغوا بعضَ ما أقرّه أسلافهم. وهذا من طبيعة التصوف الّذي انبثقت منه سائر الطرق الباطنيّة والمذاهب الغالية، والجماعات الإباحية والتنظيمات الإرهابية، وفرختْ زنادقةً أرادوا هدم الإسلام وإثارة الفتن بين صفوف المسلمين.
اتّخذتْ الطريقةُ النقشبنديّةُ اللّغةَ الفارسيّة كأداةٍ للدّعاء والعبادة؛ ولا غرابة في ذلك. إذ أنّ قدماء الأتراك كانوا يسكنون بلاد ما وراء النهر وهي مجاورة للمنطقة الإيرانية الّتي تحول بينها وبين بلاد العرب، فتأثّروا بثقافة الفرس وحضارتهم تأثُّرًا بالغًا لأسباب عدّة:
منها، أن الفرس كانوا قد أسلموا قبلهم؛ ومنها أنّ الشعبَ الفارسيَّ يمتاز بحضارة عريقة، بينما الأتراك لم تكن لهم ثقافةٌ ولا حضارةٌ توحّد صفوفهم، وتجمع كلمتهم، وهم قوم لا أبجدية له, بل كانوا قبائل متفرقةً بدوِيَّةً تنتقل من مكان إلى مكان آخر تبعًا للظروف المناخيّة، يعيشون تحت خيامٍ من لِبادٍ، ويتتبّعون المراعي لأنعامهم. كانت قبائل الأتراك في القرون الوسطى متمايزةً جدًّا، لا تجمعهم لغةٌ واحدةٌ ولا دينٌ واحدٌ، ولذلك كانوا أسوأ حالاً من عرب الجاهليّةِ في النزاع والقتالِ. ولقد كانت الحروبُ سجالاً بينهم حتّى بعد إسلامهم. فلمّا اعتنقوا الإسلامَ تأثّروا فورًا بالثقافة الفارسيّة وحضارتها بحكم الجوار بعد أن جمع الإسلام بين صفوفهم وجعل منهم مجتمعا قويًّا. غلبت بذلك اللّغةُ الفارسيّة على لغتهم الأصليّة حتّى صارت هي اللّغةَ الرسميةَ للدّولة السلجوقية التركية يقول الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد كوبرولو: "إنّ الأتراك قد أخذوا الكثير من تعاليم الإسلام بوساطة أعجام الفرس، وليس من العرب مباشرة." وهذا نص كلامه باللّغة التركية:(66/42)
Türkler, ?slâmiyetin birçok unsurlar?n? do?rudan do?ruya Araplardan da?il, Acemler vas?tas?yla ald?lar. Türk Edebiyat?nda ?lk Mutasavv?flar, 8. Edition Pg. 21.
Department of Religius Affairs, Ankara-1993.
ولأهمية ما في هذا النص فقد نقله الباحث عمر دميرجان نقلا حرفيّا إلى ثنايا كتابه الّذي ألفه حول دراسة اللغات الأجنبية في تركيا تحت عنوان:
Dünden Bugüne Türkiye’de Yabanc? Dil.
فقد ورد في كتب رجال النقشبنديّة ما يبرهن على إقرارهم هذه اللّغة. منها ما جاء في كتاب »البهجة السنيّة« لمؤلفه محمّد بن عبد الله الخانيّ. إذ يقول في أوَّلِ مقاطعه : »وأكثر كلام أهل الطريقة معرّبٌ من اللّغة الفارسيّة«. محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 3. طبعة مصر - 1241هـ. بينما لغة الإسلام هي العربية بقرينة كونها لغة القرآن قال الله تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ اْلأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اْلمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.} سورة الشعراء/193، 194، 195. وقال تعالى: {لِسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِيٌن.} سورة النحل/103. وقال تعالى: {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اْلوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقوُنَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.} سورة طه/113.
هذا، وفى كتاب الله آيات أخرى تبرهن على أنّ لغة الإسلام هي العربية. كما يجب على أهل العلم وضع مصطلحاتهم باللغة العربية في كلّ مجالات الحياة المختلفة، وخاصّةً ما يمتّ لمسائل الدين بوشيجة. وهي لغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوقت ذاته. {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرسوُلَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ له اْلهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اْلمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَائَتْ مَصِيرًا.} سورة النساء/115.(66/43)
ومع هذا، فان قدماء النقشبنديّة قد أصطلحوا لمناسكهم أسماء غريبة كما سنشرحها فريبًا إن شاء الله تعالى؛ تلك الأسماء الّتي وضعوها على غير سبيل المؤمنين اختلاقًا من تلقاء أنفسهم ونزعةً وحنانًا واشتياقًا إلى ماكان عليه أسلافهم قبل الإسلام؛ وربما تقليدًا لمن كانوا يجاورونهم من رهبان البرهمية، إعجابًا بخشوعهم في ذكر الله. لأن رهبان البرهمية يضربون مثالاً عجيبًا من الخشوع أثناء الذكر كما أنّهم أزهد الناس في الدنيا وأقلّهم طمعًا وأطولهم صبرًا على الجوع والرياضات الشاقّة المنصوصة في الديانة البرهمية.
***
إن للّطريقة النقشبنديّة آدابًا غريبة وأركانًا عجيبة يختلط فيها الحق بالباطل، ويلتبس فيها المعاني على الغافل والجاهل، بل على العالم والعاقل، ولا يُدرِكُ مقاصدَهَا ولا مصادرَهَا إلا من وفّقه الله للهداية والإيمان الصادق ورزقه المعرفة بِكُنْهِ المستنقعات الّتي استقى منها أئمّة هذه الطريقة.
أمّا هذه الآداب، فإنها تنحصر في ثلاثة أبواب رئيسة: آداب المشيخة، وآداب المريد مع شيخه، وآداب الذكر. إلاّ أنّهم يشترطون البيعة قبل كل شيء. وهي الركن الأعظم عندهم.
***
البيعةُ، وآدابُ المشيخةِ، وآدابُ المريد مع شيخه عند النقشبنديّة، والغايةُ منها...
البيعة أو المبايعة. معناها: المعاقدة والمعاهدة. فيرونها شرطًا لا مناص منه لمن يريد الدخول في الطريقة. وبذلك يكون المريد قد أعطى ميثاقّا غليظًا للشّيخ الّذي اتّخذه مرشدًا لنفسه فيلتزم القيام بعده بكل ما يأمره به شَيْخُهُ أن يفعل، وإن كان حرامًا. للإطلاع على أقوالهم في موضوع انقياد المريد للشيخ بصورة مطلقة، راجع المصادر الآتية:
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 528. طبعة مصر - 1384 هـ.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 20. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.(66/44)
* غلام علي عبد الله الدهلويّ، مكاتيب شريفة: المكتوب السادس عشر، ص/ 33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 20 مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
ومن الغريب أنّه لا يقتصر هذا الشرط على مريد الطريقة فحسب. بل يجب على كلّ أحدٍ أن يبايع شيخًا، ويستسلم له تمامًا. »لأنّ العبد، بينه وبين ربه حجاب يمنعه من الاستفاضة« (حسب اعتقادهم.) يقول محمّد أمين الكرديّ الأربليّ في هذه المسألة : »فالشيخ العارف الواصل وسيلةُ المريد إلى الله، وبابُهُ الّذي يدخل منه على الله. فمن لا شيخ له يرشده فمرشده الشيطان راجع موضوع ضرورة الانتساب إلى شيخ من شيوخ الطريقة في اعتقاد النقشبنديّين ضمن المصادر التالية:
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 26 مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 36. مخطوطة 1249 هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية ص/ 39. مخطوطة. بغداد/1234هـ. مستنسخة من قبل مكتبة الحقيقة. إسطنبول-1992م.
* أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، جامع الأصول ص/ 61، 116. ط. 1276 هـ.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 4 طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب ص/ 525. طبعة مصر - 1384 هـ.
* أحمد الفاروقيّ السرهنديّ، المنتخبات، المكتوب رقم/61
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 12. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 133 إسطنبول-1994م.
* A. Faruk Meyan, ?ah-? Nak?ibend. Pg. 35 Cile Publishing ?stanbul-1970«(66/45)
ومعنى هذا؛ أنّ كلّ من لم ينخرط في سلكهم ولم يستسلم لشيخ من مشائخهم فهو تابع للشّيطان. أي إنه ضالّ ومضلّ، كما يعدّون خروج المريد من عهد الشيخ خروجًا من الإسلام.
فهذا رأيهم في جميع المسلمين وإن كذّبوا ذلك ودافعوا بأنّ غرضهم هو أنّ الإنسان لا محالة يحتاج إلى من يعلّمه الضروريات من الدين والدنيا حتّى يتبيّن له الحقُّ من الباطل وليميّز بين الحلال والحرام فيعمل المعروف ويجتنب المنكر. فانّ دفاعهم بمثل هذا الأسلوب لا يطابق ما يقصدونه من مفهوم البيعة. وأمّا المرشد عندهم في الحقيقة ليس هو الأستاذ الّذي يعلّمُ الفقهَ والعقيدةَ والفنونَ ويهذّبُ الأخلاقَ. بل إنّما هو -على حد قولهم- »العارف بالله والواصل إلى الله.« وما أكثر وصفهم لشيوخهم بهذه الكلمات. مع أنه لم يرد في الكتاب ولا في سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يفيد أن العبد مأمور ومكلَّفٌ بمعرفة الله، أو يمكنه أو يجوزُ أن يعرف الله حق معرفته، أو يصل إليه وصولاً في منتهى الغاية. بل قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} سورة النمل/93. إذًا فان معرفة الإنسان تنحصر في حدود رؤيته لآيات الله دون أن تتجاوز إلى ذات الله سبحانه. كما أنّ وصول الإنسان إليه محال. تعالى ربّنا عن ذلك علوًّا كبيرًا. وإنّمَا الإنسان مأمور ومكلّفٌ بعبادة الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَاْلإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات/56.
مع هذا البيان الواضح بشهادة آيات الله، فان عامَّةَ الصوفيّة بما فيهم النقشبنديّون، يعتقدون المعرفةَ باللهِ أمرًا جائزًا للإنسان، وأنه بإمكان العبد أن يتعرّف إلى ذات اللهِ؛ فيشترطون لذلك أمورًا يمارسه المريد بعد أن يبايع شيخًا ويأخذ منه الميثاق الّذي سموه "البيعة".(66/46)
أمّا مسألة البيعة، فإنّها من أهمّ مسائل الفقه الإسلاميّ تتعلّق بنصب إمامٍ للمسلمين، متّصفٍ بالإسلام والعقل والذكورة والبلوغ والشجاعة والكفاءة وسلامة الأعضاء؛ يقوم بمصالحهم وتنظيم أمورهم، وبإقامة العدل وتنفيذ الأحكام بإنصاف المظلومين، والدفاع عن أرض الإسلام وعِرض المسلمين بميثاق يتعهدون على أساسه أن يُطيعوه في حكمه ويناصروه في دفاعه تطبيقًا لما جاء في كلامه تعالى { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطَيعُوا الرسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوُه إِلَى اللهِ وِالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.} سورة النساء/59.
أما النقشبنديّة فقد تأوّلوا هذا المفهوم بما يتعارض والنصوص القرآنية. فقد جعلوا منها ميثاقًا يتعاقد على أساسه مريد الطريقة مع شيخ الطائفة على أن يقوم بكل ما يأمره ولو كان حرامًا.
وَيأتي على رأسِ مَنْ عبثوا بمفهوم البيعةِ رجلٌ هندِيٌّ اسمه أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدّين. فقد بالغتْ الصوفيةُ في تفخيم هذا الروحاني الهندِيِّ حتىّ لقّبوه بشاه وليّ الله الدّهلويّ. يقول في ثنايا كتابٍ له، سمّاهُ: القول الجميل في بيان سواءِ السّبيلِ:(66/47)
»فالحقّ أنّ البيعة أقسام: منها بيعة الخلفاءِ، ومنها بيعة التّمسُّكِ بحبل التّقوى، ومنها بيعة الهجرةِ والجهاد، ومنها بيعة التوثّق في الجهاد. وكانت بيعة الإسلامِ مَتْرُوكَةً في زمن الخلفاءِ. أمّا في زمن الرَّاشدين منهم، فلأَنَّ دخولَ النّاس في الإسلامِ في أَيَّامهم كان غالبًا بالقهرِ والسيفِ، لا بالتأليفِ وإظهار البرهانِ ولا طوعًا ولا رَغبةً. وأمَّا في غيرهم، فلأَنَّهُمْ كانوا في الأكثرِ ظَلَمَةً فَسَقَةً لا يهتمّونَ بِإقامة السّننِ. وكذلكَ بيعة التّمسُّكِ بحبل التقوى كانت مَتْرُوكَةً. أمَّا في زمن الخلفاء الرّاشدين، فلكثرة الصّحابة الّذينَ استناروا بصحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَأَدَّبوا فيِ حضرته، فَكَانوا لاَ يَحْتَاجونَ إلى بيعةِ الخُلفَاءِ... « أحمد بن عبد الرحيم بن وجيه الدين (شاه عبد الله الدهلوي)، القول الجميل في بيان سواء السبيل: قونية – 2001. الإتصال: 22 76 251 (0332)(66/48)
يتّخذ الدَّهلويُّ سبيلَ الدّخولِ فيِ مسألةِ البيعةِ سربًا ومكرًا من خلال هذه الصيغة الْمُلْتَوِيَةِ المارجة، ويُرَاوغُ بهذه العفعفةِ ليختلقَ صِلةً بينَ ما صدر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بالمعروفِ والنّهيِ عن المنكرِ وبين ما يأمر بِهِ شيوخ النقشبنديةِ من تعاليم البوذيةِ والبرهميةِ؛ ثمَّ يتناسى أنّ الرسولَ الكريمَ - صلى الله عليه وسلم -، إنما كانَ أصحابُهُ يُبَايِعُونهُ ليتولّىَ أمورَهُم، وخاصَّةً لِيُجَنِّدَهُمْ بِصِفَتِهِ رئيسًا يَمتَازُ بِشَخصيتِه السياسيةِ والعسكريةِ والروحيةِ. وأين هذه الصفات للشيوخ النقشبندية؟ فهل يُتصور لعاقل أن يقارن بين هذه الشخصية العالميةِ العظيمةِ وَبين أيِّ شيخٍ من شيوخ النقشبنديةِ الخاملينَ المعزولين البعيدين عن كل مجالات الحياةِ ونشاطاتِها. وهل لِهَؤُلاَءِ المساكين سُلْطَةٌ سياسيةٌ، وقوةٌ يستخدمونها في تنفيذ الأحكام، وانصاف المظلومين حتىّ يجوز مبايعتهم؟ وهل استطاع أحد منهم حتى اليوم أن يمنع الكفار والمنافقين من الظلم والقهر والقتل والإبادة ضد المسلمين؟!!! تُرَى مَنْ يكونُ هؤلاِ الشيوخ، ومَنْ يَعْتَدُّ بهم حتي يبايعهم الناسُ فيولّوهم أمورَهم؟!(66/49)
فإنّ الدّهلويَّ يتعمّد فيما سبق من كلماته ليدسَّ في مفهوم البيعة ما لايمتُّ به صلةً أبدًا، وأبعد من ذلكَ فإنه يكتم حقيقةً عظيمةً أجمع عليها علماءُ التاريخ: وهي إنعقادُ مبايعةِ جمهورِ الصحابةِ للخلفاء الراشدين. نعم لم يتولَّ أحدُهُمْ أمرَ المسلمين إلاَّ بعد مبايعة جمهور الصحابةِ له (وإن تأخرتْ عنها جماعة منهم لأسبابٍ). إذًا فقد جاء الدّهلويُّ بكذبٍ ظاهرٍ بشهادة البراهين التاريخيةِ حين قالَ: »فلكثرة الصحابة الّذين استناروا بصحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتأدّبوا في حضرته، فكانوا لا يحتاجونَ إلى بيعة الخلفاءِ. « وقد تكونُ العباراتُ الّتي نَقَلْنَاهَا آنِفًا من الكتابِ المسمىَّ (القول الجميل في بيان سواء السبيل)، موضوعةً على لسانِ مؤلِّفِهِ، وَكَذِبًا وزُورًا عليهِ. لأنّ هذا الكتابَ قد تعرّضَ لِتَحْرِيفٍ شنيعٍ، خَاصَّةً في طَبْعِهِ الَّذي تولاَّهَا بعضُ الأتراك في مدينةِ قُونْيَا التُّرْكِيَّةِ بعنوان (الفكر الإسلاميّ عند الإمام وليّ الله الدّهلويّ وما ابتكره من العمل النموذجيّ). وقد تهرَّبَ الناشر عن تسجيل اسمهِ واسمِ المطبعةِ ودارِ النّشرِ في الكتاب. وإنّما ظَهَرْت لنا حقيقةُ هذا التّحريف حين فُجِئْنَا بحذفِ مَقَطِعَ هَامَّةٍ مِنْ كلامِ الدّهلوِّيِّ في الرّابطةِ. (لمزيد من المعرفةِ حول هذا التحريف، راجع المبحث: خالد البغداديّ ومعارضوه)
***(66/50)
لقد أفرد محمّد أمين الكرديّ الأربليّ بابًا في كتابه »تنوير القلوب« يشتمل على اثنين وعشرين شرطًا يجب أن تتوفّر فيمن يتصدّر لأخذ العهد على المريدين وقبولهم في الطريقة النقشبنديّة. ومن هذه الشروط ما ينسجم مع روح الإسلام ويقع موقع القبول عند المسلمين. كقوله في الشرط الأول »أن يكون عالمًا بما يحتاج إليه المريدون من الفقه والعقائد بقدر ما يزيل الشبه الّتي تعرض للمريد في البداية ليستغنى به عن سؤال غيره محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 506. طبعة مصر - 1384 هـ.«
ولعلّ كثيرًا من الناس يقتنعون بمثل هذا المقال الّذي لا تخلو عبارات شيوخ هذه الطريقة منها؛ يقينًا بأنّ غايتهم لا تتجاوز إجماع أهل العلم والبصيرة في حاجة الإنسان إلى مَنْ يُعلِّمُهُ ويَدَرِّبُهُ ويُهَذِّبُهُ بالطرق المتعارف عليها. إلا أنّك إذا تابعتَ كلماتِهم واستقصيتَ ما ينطوي عليه بعضُ المقاطع من إفاداتهم، ظهرت لك حقيقة ما يقصدون من وراء ذلك مما قد سنّها لهم بعض كُبَرَائِهِمْ الّذين وقعت عظمتهم في قلوب العامّة حتّى أذعنت لهم، بحيث لم يشكّ أحد في صدقهم وأمانتهم وورعهم وعلوِّ مكانتهم عند الله رجما بالغيب؛ فاتّبعهم الخلفُ من شيوخ هذه الطريقة تقليدًا صرفًا. وأقوى دليل على هذ الواقع الخطير قول المؤلّف وهو يشرح الشرط الرابع عشر من آداب المشيخة - وهذا نصه: »يجب عليه أن يمنع المريدين عن التكلُّم مع غير إخوانهم إلا لضرورةٍ« المصدر السابق ص/ 526.
والغرض من قوله »غير إخوانهم« هم الّذين ليسوا من أتباعه؛ سواء أكانوا من المنتسبين إلى غيره من مشائخ الطرق الصوفيّة أم كانوا ممن لم يدخلوا في سلك الطريقة أصلا.(66/51)
ومن أين لشيخ الطريقة أن يفرض سلطانه على جماعةٍ من الناسِ فيتحكّمَ بها، فيمتلك إرادة أفرادِها ويُحَرِّمَهُمْ من الحديث مع غيرهم؟ من أين له هذا التحكّم أو الوصاية؟ وما حجّته في ذلك من الكتاب والسنّة؟ وأين هذا الكلام من قوله تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتّقُوا الله لَعَلّكْمْ تُرْحَمُونَ} سورة الحجرات/10. فهل من مقتضى الإصلاح أن يمنع شيخ الطريقة أتباعه من التكلم مع مَنْ ليس من جماعته من المسلمين، أم إنه من دواعي الشقاق وتفريق ذات بين المسلمين؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: »مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسهَرِ وَالْحُمَّى« البُخَاريّ، رقم الحديث: 5552؛ مسلم، رقم الحديث: 4686 فهل يمكن ذلك إذا منع شيخ الطريقة أتباعه من مجالسة الناس ومعاشرتهم، بل وحتّى من التكلُّمِ معهم؟ إذًا فما السبيل لقيام الناس بالتعاون فيما بينهم امتثالاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} سورة المائدة/2. إذا منع كلّ شيخ جماعته من التكلُّمِ مع غير إخوانهم؟
يظهر من كلّ هذا أن شيوخ الطريقة النقشبنديّة قد ألغوا المؤاخاة الّتي عقدها الله بين المؤمنين فضربوها بعرض الحائط بإقرار محمّد أمين الكرديّ عليهم: بأنّه يجب على شيخ الطريقة أن يمنع المريدين من التكلُّمِ مع غير إخوانهم. وهذا يعني، أنّ جماعة كلّ شيخٍ إخوةٌ فيما بينهم؛ أمّا من سواهم، فانهم أجانب.(66/52)
يتابع الكرديّ مقالته في سرد شروط المشيخة، فيقول في الشرط الرابع عشر: »أن يجعلَ له خلوة ينفرد بها وحده، ولا يمكّنَ أحدًا من مريديه أن يدخلها إلاّ مَنْ كان خصّيصًا عنده« محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 506، 526. طبعة مصر/1384هـ. طبعة مصر/1384هـ. يقول في الشرط السادس عشر: »أن لا يمكّنَ مريدًا من أن يطّلع على حركة من حركاته أصلا، ولا يعرف له سرًّا، ولا يقف له على نوم ولا طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فانّ المريد إذا وقف على شيء من ذلك ربما نقصت عنده حرمة الشيخ« المصدر السابق ص/ 526. لمزيد من المعرفة حول أقوالهم في آداب المشيخة، راجع المصادر التالية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 28. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علاّم الغيوب، ص/ 524 طبعة مصر/1384 هـ.. طبعة مصر1384هـ
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 9. مكتبة الحقيقة. إسطنبول - 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 13. إسطنبول-1994م.
* Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Ziyaüddin Gümü?hanevî. Pg. 237-246 ?stanbul-1984
إذًا يتّضح من هذه التوجيهات أنّ الغاية من وراء ما يُضمره شيوخ النقشبنديّة بهذه الآداب، ليس إلا إلقاء الهيبة في نفوس الجمهور وتسخير قلوبهم، وليشتغل الناس بذكرهم، ولتخضع وتذلّ الرقاب لعظمتهم. وليس أدلّ على هذا، ما جاء في فصل آداب المريد مع شيخه من كلام المؤلّف نفسه إذ يقول:(66/53)
»واقتصرنا على بعض المهمّات، وأعظمُها أن يُوَقِّرَ المريدُ شيخَهُ، ويعظّمه ظاهرًا وباطنًا معتقِدًا أنّه لا يحصل مقصوده إلاّ على يده. وإذا تشتّت نظره إلى شيخ آخر، حرّمه من شيخه، وانسدّ عليه الفيض. ومنها أن يكون مستسلمًا منقادًا راضيًا بتصرّفات الشيخ، يخدمه بالمال والبدن. لأنّ جوهر الإرادة والمحبّة لا يتبيّن إلا بهذا الطريق. ووزن الصدق والإخلاص لا يعلم إلا بهذا الميزان. ومنها أن لا يعترض عليه فيما فعله، ولو كان ظاهره حرامًا. ولا يقول: لم فعلت كذا؟ لأنّ من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبدًا...إلخ. محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، ص/ 528. طبعة مصر/1384 هـ.. طبعة مصر/1384 هـ.
ثم يسجّل المؤلّف نقلاً عن بعضهم شعرًا في هذا الصدد، ومطلعه:
»وكن عنده كالميّت عند مغسل * يقلّبه ما شاء وهو مطاوع« المصدر السابق ص/ 528.(66/54)
نعم هكذا ينصح شيوخ الطريقة النقشبنديّة. وبهذا الإقرار والاعتراف يتبيّن أنّ موقفَهم من المريد ليس كموقف الأستاذ المعلّم من تلميذه. إذ يبذل الأستاذ للطّالب من حصيلة علمه، ويلقنّه القواعدَ، ويشرح له ما يخفى عليه من غريب الموضوع لدروسه، ويبسط له من دقائق مسائلها. ويقوم بحلّ عويصاتها وهو لا يألو جهدًا في الإجابة على سؤاله، ويتحمّل المشقّةَ حرصًا منه على تعليمه وتأديبه وتهذيبه ليحلَّ محله في إرشاد الناس، ولينطلقَ بإرادتِهِ الحُرَّةِ في وجوه الخير مستنيرًا ومنيرًا بالعلم والمعرفة. ولكن شيوخ النقشبنديّة يريدون أن يصبّوا المريدَ في قالب هذه الطائفة ويصهروه في بوتقتها ليُدخِلوه تحت رقابتهم المطلقة بما يسمّونه آدابَ الطريقة. فيصبح المريد بذلك مُعَرَّضًا للإستغلال بشخصيته وبكل ما يملك من مالٍ وجاهٍ؛ وقد يُستخدَمُ في تحقيق آمالٍ لا يمكن ضبطها وتحديدها. ولا يخفى دور المريدين بعد تسخيرهم في نشر الطريقة، وإذاعة شهرة شيخ الجماعة وإلقاء هيبته وعظمته في قلوب الناس وبسط سلطانه على المجتمع.(66/55)
ومن شاء أن يتأكّد من هذا الواقع فله أن يزور تكيةً التكيّة: قيل أصله "التكيئة"؛ من وكأ-يكأ. كوطأ-يطأ. جمعها: تكايا. ومنه اتكأ -على شئ- أي اعتمد وتحمّل عليه. و أوكأ إيكاءً: أي نصب له متّكأً. ومنه توكّأ. كما جاء في الآية الكريمة: {قَالَ هِيَ عَصَايَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا...}(20/18). يغلب أنّ مصطلح التكيّة، وضعها الصوفيّة انطلاقًا من هذا المعنى؛ بعد أن استوحاه الواضع من الكلمة المذكورة. لأنّ مفهوم التكيّة. يشمل هذا المعنى أيضًا. ولأنّ التكيّة مكان خاصٌّ، تجتمع فيه الصوفيّة. وهي بمنزلة المُتّكأ لهم. إذ يأوون إليها. و يقومون بإجراء حفلاتهم و طقوسهم فيها. هذه الكلمة شائعة بين صوفية الأتراك. يقابلها كلمة “الرباط" بين صوفية العرب، وكلمة "خانقاه" بين صوفية الفرس والهند. ظهرت التكايا بعد عصر السلف الصالح مع بداية الانحراف عن التوحيد الخالص، بدافع تقليد الأعجام الّذين اعتنقوا الإسلام بدون روية. فطبّعوه بتصوّراتهم. وابتدعوا ما ليس منه. فظهرت التكايا على غرار الصوامع الّتي يتعبد فيها الرهبان. كانت التكايا قد تطوّرت في أواخر العهد العثمانيّ، وأصبحت مجمّعات كبيرة من المباني والمرافق. تضمّ عددًا من الغرف و الحجرات. منها الصحن الرئيس الّذي فيه المحراب و مقام الشيخ، والمحفل المفصول بالشبّاك. وهو القفص الّذي يجلس فيه السلطان أثناء الحفلة. إنّ عدد التكايا الموجودة فقط بإسطنبول في عهد السلطان عبد الحميد، كان قد بلغ 311 تكيّةً. وكان يقوم بتنظيم شؤون التكايا على مستوى المملكة العثمانيّة مرجع روحانيّ بعنوان "المجلس الأعلى لمشائخ الطرق الصوفيّة". ثم أُلغي هذا المجلس وجميع التكايا والزوايا في بداية العهد الجمهوريّ يوم 30. نوفمبر. 1925م. بقانون رقم/677. من تكاياهم ثم يقارن بينها وبين أيّ بيتٍ من بيوت العلم.
***
آداب الذكر عند النقشبنديّة.(66/56)
الذكر في اللّغة: هو استحضارُ شيءٍ في الذهن معهودٍ فيما سبق؛ أو النطقُ به. وهو تحريك اللّسان لأداء المنطوق به ولو بصوتٍ خافضٍ. وفي الاصطلاح: هو ترديدُ أسمٍ من أسمائه تعالى أو النداءُ به، أو قراءةُ شيءٍ من القرآن الكريم في أوقاتٍ معيّنةٍ. والذكر توقيفيٌّ كسائر العباداتِ، لا يجوز إلاَّ بالكيفية الّتي وردت في السنّة. وضوابطها منصوصة في آثار السلف الصالحِ.
أمّا عند النقشبنديّة فله تعريفٌ يتعجّب منه العاقل المنصف العارف بمعنى كلمة الذكر ومفهومها. وله آداب يستغربها كل من له علم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإنما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم دونما حجّة يعتمدون عليها، وقد استوحاها بعض كبرائهم من الأديان القديمة، فبناها المتأخرون منهم على أثر سادتهم، زعموا أنّ الله أمر بالذكر على هذه الصورة المزيّفة.
***
الذكر بلسان القلب عند النقشبنديّة
يقول أحد رؤسائهم -وهو يشرح كيفية الذكر عندهم- ويزعم أنّ له اثنين وعشرين أدبًا؛ يقول في سياق كلامه:
»الثالث عشر: تغميض العينين، وإلْصاق اللّسان بسقف الحلق، والأسنان بالأسنان، والشفة بالشفة، وإطلاق النَفَسِ على حاله.«؛
»الرابع عشر: ذكر الله الله... بلسان القلب الخياليّ فقط، بلا ملاحظة نقشٍ ولا حبسِ نَفَسٍ أصلا. أعني أن يتخيّل لقلبه لسانًا يقول الله الله... وهو يسمع.«؛(66/57)
»الخامس عشر: استحضار مسمّى هذا الاسم المقدّس، وهو الذات العليّة الإلهية في القلب عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 3. مكتبة الحقيقة. إسطنبول – 1992م. « نعم هذه كانت نُبْذَةً من آداب الذكر عند هذه الطائفة. والله سبحانه برئ من ذلك. إذ يقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلَ بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ، وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} سورة الأعراف/205. فتبيّن أنّه لا يتم الذكر إلاّ بالقول. أي بإخراج الحروف من مخارجها مع صوتٍ أدناه أن يُسْمِعَ الذاكرُ نَفْسَهُ. وإلا بطل الحكم بالقول، واختفت الحكمة، واقتصر الأمر على مجرد التصور والتفكر؛ مع أنّ المراد من الآية الكريمة هو القول دون الجهر، وليس التصور والتفكر؛ وان كان المطلوب من الذاكر أن يكون حاضر القلب متأمِّلاً في معنى كلّ كلمة يذكرها. وفي هذا الباب يقول الإمام النووي رحمه الله: »اعلم أنّ الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبةً كانت أو مُسْتَحَبّةً، لا يُحْسَبُ شيء منها ولا يُعْتَدُّ بِهِ حتّى يتلفَّظ به بحيث يُسمِعَ نفسَه إذا كان صحيح السمع لا عارض له« محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النوويّ الدمشقيّ (631-676هـ.)، الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار ص/ 14؛ مع مختصر شرح بن علاّن. دار العربية للطباعة والنشر. بيروت.؛ نسخة أخرى بعنوان: حلية الأبرار و شعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار المعروف بالأذكار النواوية، ص/ 42. تحقيق علي الشربجي وقاسم النوري. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى بيروت-1992م.(66/58)
إذًا فالذكر شيءٌ والفكر شيءٌ آخر. وقد جمع الله بين هذين المفهومين في آيةٍ واحدةٍ وهو مثالٌ رائعٌ من الإعجاز القرآنيّ، وإفحامٌ لمن عمي قلبه فالْتبس عليه الأمران. وبيّن سبحانه وتعالى الفرق بينهما في مضمون قوله:
{إِنّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاِت وَاْلأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي اْلأَلْبَابِ* الّذينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ} سورة آل عمران/190، 191. أمّا الذكر بالقول »دون الجهر«، ففيه تعظيم لجنابه تعالى. إذ يعلم الله ما يجول في خلد الإنسان وما ينطق به لسانه سرًّا كان أو جهرًا. وكذلك فيه اجتناب من السمعة والرياء.
وما جاء في الآية المذكورة من قوله »ودون الجهر« فليس معناه تعطيل اللّسان من الذكر وإنما فيه توضيح لوصف طريقة الذكر وذلك أن لا يكون جهرًا ولا خفاءً بل يكون دون الجهر، وفوق الخفاء.
أمّا ما استحدثته النقشبنديّة من بدعة الذكر القلبيّ فان فيها سرًّا لا يكاد يطّلع على حقيقته أحد من متأخري مشائخ هذه الطائفة لجهلهم بما تعرّضت له طريقتهم من استحالات وتبدّلات، وما استوحت من الأديان والفلسفات من أفكار وتفسيرات، وما تسرّب إليها مع الزمان من مصطلحات دخيلة وتعبيرات غريبة.(66/59)
ذلك أن الطريقة النقشبنديّة قفزت إلى الهند في القرن العاشر الهجريِّ، فاستوحتْ من الديانة البرهمية والبوذية بعد أن نشأتْ في بلاد ما وراء النهر وتأثّرَتْ هناك بالشامانية والمزدكية، والمانوية في سابقها خاصّة فإنّ رجال هذه الطائفة، بدءًا من محمّد الباقي الكابُليِّ ومَنْ بعده إلى عبد الله الدهلويّ المعروف بشاه غلام علي، كلّهم من أهل الهند، وكلّهم متأثّرُونَ بالرهبنة الهندية بإقرار مشاهيرهم. ومنهم قسيم الكُفْرَويّ. إذ ينقل لنا صورةً جليّةً من حياة الروحانيّ الشهير بين أهل هذه النحلة، شمس الدين حبيب الله ميرزا مظهر جَانِ جَانَان. وهو من الطبقة الثانية عشرة بعد محمّد بهاء الدين البُخَاريّ مؤسس هذه الطريقة. يقول الكُفْرَويّ: »إنه كان يقتصر على التغذّي من العُشب والثمرات، ويعيش في أماكن خالية من البشر، ولا يرتدي إلا قميصا« Kas?m Kufral?, Nak?ibendili?in Kurulu?u ve Yay?l??? (Intiodaction)
Türkiyat Enst. no. 337 Istanbul-1949
إذًا يتبيّن لنا بوضوح أنّ هذا الرجل لم يكن على سنّة محمّد - صلى الله عليه وسلم - بل كان على سنّة بوذا الراهب مؤسّس الديانة البوذية.
وإذا كانت حياة رجال هذه الطائفة صورةً من حياة رهبان البرهمية والبوذية، فلا محالة أنّ عقائدهم وعباداتهم أيضا كانت طبق عقائد أولئك الرهبان وعباداتهم ومناسكهم، خاصّة بعد أن قامت عشراتٌ من الدلائل القاطعة على ذلك. فثبت أن موضوع الذكر في الطريقة النقشبنديّة، وإن كان يتناول اسم ذات الله تبارك وتعالى أو كلمة التوحيد؛ إلا أن أسلوب أداء الذكر فيها مأخوذ من الديانة البوذية والبرهمية على الطريقة الجوكية (أي اليوغية) كما سيأتي شرحه في باب الرابطة إن شاء الله تعالى.
تدعو المناسبة هنا (وقبل الانتقال إلى مسألة الرابطة) أن نتطرّق ثانية إلى موضوع الذكر القلبيّ عند النقشبنديّة مع »حبس النفَسِ« وهي نقطة هامّة جدًّا.(66/60)
فعندما نعود إلى المصدر السابق أي إلى كتاب (السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة) لأديب الطائفة عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، نجد أنفسنا أمام ذلك التعريف الغريب نفسه للذّكر القلبيِّ مع إضافة شروط أخرى أشدّ غرابة من الشروط السابقة.
يباشر عبد المجيد الخانيّ في تعريف هذا الشكل من الذكر القلبيِّ فيقول:
»الثاني، ذكر النفي والإثبات. والمراد بالنفي والإثبات، كلمة التوحيد (لا إله إلا الله ). وهذا الذكر المبارك يعلّمه المرشد للمريد بعد ذكر اسم الذات باللطائف والتمكن من سلطان الذكر. وآدَابُهُ، هي آدابُ الذكر الأوّل؛ غير أنه بعد أن يلصق اللسان والأسنان والشفة كالأوّل، يحبس النفَسَ تحت سرّته ويتخيّل منها نقش (لا) ممتدّة إلى منتها دماغه، ويتخيّل من دماغه نقش (إله) ممتدّة إلى كتفه الأيمن، ويتخيّل من كتفه الأيمن نقش (إلا الله) مارًّا بها على اللّطائف الخمس ضاربًا بلفظ الجلالة على القلب منفذّا إلى قعره بقوة يتأثّر بحرارتها جميع البدن مع ملاحظة معنى هذه الجملة. وهو أنّه لا مقصود إلا ذات الله تعالى. وينفي بشق النفي جميع المحدثات الإلهية. وينظرها بنظر الفناء ويثبت بشق الإثبات ذات الحق تعالى. وينظره بنظر البقاء. ويقول في آخرها بلسان القلب (محمّد رسول الله). ويقصد بها أنه متبع له ويكرّرها على قدر قوّة نَفَسِهِ، ويُطلق نَفَسَهُ من فمه على الوتر من العدد. وهو المسمّى عند ساداتنا بالْوُقُوفِ العدديّ« عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/32-33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول – 1992م.
"الوقوف العدديّ"، مصطلح من مصطلحات النقشبنديّة. وهو اسم ركن من أركان السلوك عندهم، و عددها أحد عشر ركنًا. سيأتي شرحها قريبًا إن شاء الله تعالى في باب "مبادئ الطريقة النقشبنديّة بالفارسيّة" في نهاية هذا الفصل.(66/61)
كان هذا تعريفُ عبد المجيد بن محمّد الخانيّ للذكر القلبيِّ عند النقشبنديّة، دون أن يكون لهم سندٌ يُثبِتون به صلةَ هذا الشكل من الذكر مع القرآن والسنّة.
ولكن ما دام المؤلّف يرشد الناس إلى ذكر الله بهذه الكلمات »وذكر الله أفضل كل شيء« إذن فلا غرابة فيها عند أي إنسان ساذج جاهل بهذا الأسالوب الماكر، ولا بطُرُقِ الدسّ وتأثيراتها، واستحالة الأمور إلى صورٍ وأشكالٍ مشوّهةٍ مع الزمان؛ وكيف يلتبس الحق بالباطل على الناس من حين إلى آخر.
نعم قد لا يستغرب كثير من جهلةِ الناس هذا التعريف الدجليَّ المدلّس ولا يقدِّرُون خطورته »لأنّ اليهود والنصارى والمجوس أيضا يذكرون الله ويحبّونه ويعبدونه كالمسلين« فما عسى الغرابة في هذا التعريف؟(66/62)
ولكن أهل الإيمان الصادق والتوحيد الخالص والعلم الغزير لابد وأن يستغربوه ويتسائلوا عن »حبس النفَسِ« خاصّة أثناء الذكر. هذا ومن الأهمية بمكان، ومن الغرابة جدًّا، أن علماء المسلمين لم ينتبهوا إلى هذه الهرطقة مع أنها قديمة علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/41. صاري كز، إسطنبول-1291هـ. في عقائد الطائفة النقشبنديّة. يدل ذلك على غفلة كثير من أهل العلم عَبْرَ عصور الظلام. فلم نَعْثُرْ على شيء عن هذه المسألة في مؤلّفاتهم ومصنّفاتهم سوى ما قد سجَّلَهُ العلاّمة أبو الحسن الندويّ بإيجاز في ثنايا الجزء الثالث من كتابه »رجال الفكر والدعوة في الإسلام«. إذ يقول في مقطعٍ منه وهو يشرح التطورات الّتي حدثت في الطرق الصوفيّة المنتشرة على الساحة الهندية وخاصة الطريقة الشطارية وفرعَيْها؛ فيقول: »وينتمي الفرع الثاني إلى شيخ علي بن قوّام الجنبوريّ - المعروف بشيخ علي عاشقان السرائي ميري - بينه وبين الشيخ عبد الله الشطّاري واسطتان. قد مزجت هذه الطريقة لأول مرة تعاليم "يوكا" بالتعاليم الصوفيّة، واختارت من الأولى بعض الرياضات والأوراد، وحبس النفَسِ، ولقنت هذه التعاليم المريدين والسالكين كما ضمّت إلى الطريقة "علم السمياء" وقد جاءت تفاصيل هذه الأوراد وشروح الرياضات الخاصة في الرسالة الشطّارية الّتي ألَّفها الشيخ بهاء الدين الأنصاري القادري. وتوجد قصيدة للشّيخ محمّد الشطّاري في كتابه "كليد مخازن" ـ مفتاح الخزاين ـ تفيد عقيدة وحدة الوجود، وعدم التفريق بين المسجد والبيعة والمسلم والبرهميّ« أبو الحسن علي الحسني الندويّ، رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص/ 3/27، 28. دار القلم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية. الكويت-1994م.(66/63)
يقول الندويّ قي مقطعٍ آخر من كتابه المذكور: »وهنا في الهند -الّتي كانت منذ آلاف السنين مركز اليوك، والتنسّك والرهبانية- واجه الصوفيّة الواردون من الخارج، اليوكيّين المحنّكين المرتاضين الّذين كانوا ضاعفوا قوة نفوسهم ومتخيّلتهم عن طريق حبس الأنفاس والتأملات اليوكيّة المعروفة لديهم. فتعلّم بعض المتصوفة المسلمين منهم هذا الفن« المصدر السابق ص/217.
إلاّ أن مسألة »حبس النفَسِ لمزيد من المعرفة في مسألة "حبس النفَس والذكر القلبي" راجع المصادر الآتية:
* علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/41. صاري كز، إسطنبول-1291هـ.
* خالد البغداديّ، الرسالة الخالدية ص/ 67. (ترجمة: شريف أحمد بن علي؛ النسخة المتداولة بين أتباع محمود أسطى عثمان أوغلو في إسطنبول)
* نعمة الله بن عمر، الرسالة المدنية ص/ 48. مخطوطة دمشق - 1213 هـ.
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 48. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد بن سليمان البغداديّ، الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة ص/ 81. مكتبة الحقيقة، إسطنبول-1992.
* محمّد أمين الكرديّ الأربيلي، تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، ص/ 514. طبعة مصر - 1384 هـ.
* عبد المجيد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله الخانيّ، السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة، ص/ 33. مكتبة الحقيقة. إسطنبول- 1992م.
* علي قدري، الرسالة البهائية (ترجمة: رحمي سرين) ص/ 13، 26، 39-48. إسطنبول-1994م.« تحتاج إلى شيء من التوضيح هنا بمناسبة المقام، تمحيصًا للموضوع، وإجلاءً لأيّ شكٍّ قد يُخاتِلُ ذهن الباحث عن حقيقة هذه النحلة.(66/64)
من المعلوم أنّ الإنسان قد اكتشف ببحوثه وتحرّياته وتجاربه منذ الماضي السحيق إلى اليوم آلافًا من اساليب المعالجة لأزماته. ولا شكّ من أنّه قد حقّق أهدافًا عملاقةً يتمتّع بما قدّمت له في العصر الحاضر من السرعة والرفاهية والرخاء. إلا أنّه مع هذا قد وجد نفسه في وسطِ ضجّةٍ هائلةٍ من الأحداث الّتي هي في الحقيقة صنيعة يديه. وهو أمام هذه العاصفة في ارتباكٍ غريبٍ، ومعاناةٍ شديدةٍ واضطّرابٍ رهيبٍ لا يدري كيف ينجو من وطئته.
ومن جملة ما اهتدىَ إليه العقلُ البشريُّ من أساليبِ توفير الطمأنينة والهدوء، ثمّة تطبيقات غريبة من الطبِّ البديلِ وأشكال من الرياضة الذهنية، اكتشفها رهبان الديانات الهندية في القرون الماضية من خلال ممارستاهم وتجاربهم عَبْرَ فَتَرَاتٍ طويلة من التقشّف والإنزواء والتأمّل والتركيز، وما أشبه ذلك. فأضفوا عليها صبغةً من التصوف والروحانية؛ وذلك على سبيل المحاولة للاتّصال بما وراء الطبيعة، حتّى غدت تلك الممارسات من الآداب والأركان في الديانات البرهمية، واعْتَقَدَهَا مجوسُ الهندِ. وسُمِّيَتْ أخيرًا "اليوغا" "اليوغا" بتعبير أهله: "هي رياضة جسدية نفسية فكرية؛ فيها يخضع الإنسان جسده بوظائفه الإرادية طبعًا واللاّإرادية بالسيطرة العصبية إلى محض إرادته. وبواسطتها تتصل روحه بروح الربّ مسيّر الكون العظيم. فهي، أي اليوغا إذن (صلة الوصل) بين الإنسان وخالقه. وأصل الكلمة من اللّغة السنسكريتيّة الهندية القديمة؛ و تعني هذا المعنى". هذا التعريف مقتبس من كتاب اليوغا للمؤلِّفَيْن: المستشرق ج. توندريو، و ب. ريال. مكتبة المعارف. بيروت-1988م. يقول المؤلِّفان في مقدّمة نفس الكتاب: "فاليوغا طريقة مدهشة تُعَلِّمُنا فَنَّ اكتساب الصبر والهدوء والسيطرة، والمراقبة الذاتية، و تُكسِبُنا التركيز وحسن التفكير...إلخ."(66/65)
إنّ الضبط الشائع لهذه الكلمة في جميع المصادر المدوّنة بالحروف اللاّتينية ورد على شكل "يوغا"؛ والّذي يمارس هذه الرياضة يسمىّ "يوكي" أو "يوكين". أما في كتب الباحثين والمتصوّفة من العرب والمستعربين، فقد جاءت هذه الكلمة على اختلافٍ من الضبط. مثل: "الجوك" و “اليوك" و“اليوكا". وردت هكذا في بعض أعمال العلاّمة أبي الحسن الندويّ. وجاءت هذه الكلمة علي شكل "اليوغا" في ترجمة إلياس أيوب للكتاب الّذي ألفه ج. توندريو و ب. ريال. تحت عنوان: The Yoga. والممارس لهذه الرياضة، فقد جاء التعبير عنه مختلفًا أيضًا. مثل "الجوكي" وجمعه "الجوكية"؛ كما وردت التسمية بهم على هذا الشكل في رسالة الشيخ معروف النودهي البرزنجيّ الّذي طعن بها في خالد البغداديّ؛ و كذلك "اليوك" و"اليوكية" و "اليوكيّون-اليوكيّين" هي صيغ الجمع لـ "اليوكي"؛ أمّا الصيغة الشائعة للمفرد هي "اليوغي". وجمعها "اليوغية-اليوغيّون-اليوغيّين"؛ واسم هذه الرياضة "اليوغا". و للإطاع على مواقع هذه الكلمة في المصنّفات راجع المصادر الآتية:
* محمّد بن عبد الله الخانيّ، البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، ص/ 6. طبعة مصر - 1319هـ.
* محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 304. دار الفكر المعاصر؛ بيروت..
* TDV ?SAM. 922.97 HAFT.T. 29819-1 ?stanbul-1949
* أحمد البقاعي، رسالة في آداب الطريقة النقشبنديّة ص/ 33. مخطوطة (مصوّرة) ضمن مجموعة الزمرد العنقاء.
* TDV. ?SAM. 297-7 N?M. Z 46644
* أبو الحسن الندوة، رجال الفكر والدعوة في الإسلام. 3/27، 42، ، 217.
* Hüseyin Hilmi I??k, Vahhabiye Nasihat Pg. 105. Edition II. ?stanbul-1970
*Erich Fromm. Zen Budhism and psycoanalyses (All of them)
* Sir James Bolevard, Meditation )All of them)(66/66)
* منير بعلبكي، موسوعة المورد (إنجليزي-عربي)، 10/187. دار العلم للملايين؛ الطبعة الثانية. بيروت-1992م
*Feriduddin Ayd?n, Tarikatta Rab?ta ve Nak?ibendilik. Pg. 269. Edition II. Süleymaniye Fondation. ?stanbul-2000 وقد اختلف فيها الناس: هل أنها دينٌ، أم أشكالٌ مستحدَثةٌ من الرياضة الذهنية والنفسية، منها »حبس النفَسِ«؛ وما عسى الحكمة والفائدة في حبس النفَسِ؟ وهو في الحقيقة إحراج البدن وإرغامه على فعل يخالف طبيعته. لا جرم أنّ هذا السؤال يخامر الإنسان بحكم الطبع. لأنّ في حبس النفَسِ مضايقة على الرئتين وإخناق لهما وتعطيل لوظيفة هامّة تقومان بها في سبيل استمرار الحياة.
إلاّ أنّ الأمر ليس في هذا المستوى من البساطة والسطحية كما تظنّه العامّة. بل إنّ »حبس النفَسِ« وبالأحرى »المراقبة على عمل التنفّس« من وجهة نظر الطب النفسيّ الجسديّ، هو أمر هامّ جدًا وخطوةٌ أساسيةٌ في تمرينات "اليوغا" الّتي هي في حدّ ذاتها رياضةٌ ذهنيةٌ ونفسيةٌ يمارسها كثير من الناس بصورة عقلانية صرفة دونما إلحاقِ صفةٍ دينيةٍ أو روحانيةٍ بها. ذلك للتّخلّص من الاضطرابات النفسية، ولتوفير الطمأنينة والهدوء والصحة البدنية والعقلية كما أنّها تروّض الإنسان على الصبر والسيطرة على الأعصاب بصورة طبيعيّة قد أقرّها علماء الطب المعاصر.
يقول شخصيتان من خبراء هذا الفن في وصف نمط من أنماط هذه الرياضة:
»إنّه شكل لا يبحث عنه إلاّ القليل من الناس وهو يتطلّب شروطًا خاصّة من الحياة. ولا يدركه إلا المتصوفون العظام؟ اليوغا، ج. توندريو-ب. ريال؛ تعريب: إلياس أيوب ص/ 29. مكتبة المعارف بيروت-1988. «(66/67)
يجب هنا أن لا نتغافل عما يتداعى هذا التوضيح الّذي انطلق قدماء النقشبنديّين من منهله في حقيقة الأمر فبنوا على جذور هذه الفكرة شطرًا من تعاليمهم. وجعلوا ما استقوا منها أدبًا من آداب طريقتهم في الذكر القلبيّ، وزعموا أنّ له أساسًا من الكتاب والسنّة وذلك بهتان عظيم.
إن »حبس النفَسِ« في مصطلح النقشبنديّين معناه إمساك النفَسِ داخل الرئتين قدر لحظات وهو »التنفّس اليوغيّ« الموزون المتواقت بعينه في الأصل والمنشأ كما يقول المستشرق ج. توندريو وزميله -عالم النفْس- ب. ريال:
»ولا بد للتّنفّسِ اليوغيِّ من أهمية في احتفاظ هواء الشهيق داخل الرئتين لفترة معينة« المصدر السابق ص/ 47.
وإليك وصفه على لسانهما ـ بشرط أن تتذكّر الآن ما نقلناه سالفًا من كتاب »السعادة الأبدية فيما جاء به النقشبنديّة« لأديب هذه الفرقة، عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ؛ حتّى تتمكّن من الوقوف على المشابهة التامّة بين »حبس النفَسِ« في الذكر النقشبنديّ وبين »التنفّس اليوغيّ« الهنديّ البرهميّ بالمقارنة بينهما. يقول الباحثان:
»إجلِسْ منتصبَ الجسمِ متدلِّيَ الذراعين. شهيق مع تركيزِ فكرِكَ على طريق الهواء (حسبما ورد أعلاه) إحتفظ بهواء الشهيق لمدة ثانيتين، أو ثلاث ثواني على الأقل. وهذا هو سِرُّ وميِّزة هذه الطريقة عن سابقها. لا حظ بأنّك تصبح أثناء هذا الاحتفاظ متوتِّرًا. فترتفع كتفاك ويَنْشَدّ جسمك. جرّبْ واستَرْخِ. اِزْفِرْ الهواءَ خارجًا من الأنف دومًا. إحتفظ برئّتيك فارغتين لمدّة ثانيتين أو ثلاثة. ثم أعد الكرّة من جديد بالشهيق الواعي. هذا التمرين يسمح لك بصورة خاصّة أن تدرك الفكرة، ولم يبق لك سوى التنفيذ حوالي عشر مرات يوميًا« المصدر السابق ص/ 48، 49.(66/68)
أليس هذا الّذي جعله النقشبنديّون مبدءًا من مبادئ ذكرهم؟ وهل يكتمونه عنادًا ومكابرةً حتّى لا يدخلوا بذلك في عداد المشركين من اليوغية الهندوس عن وعيٍ واختيارٍ وقصدٍ؟ كلا والله! ولكن الجهل قد بلغ بهم إلى حدّ، لو سمع منك غوثهم الأعظم كلمة "اليوغا" لتعجّب واستغرب؛ ولربما ظنّ أنّها اسم لنوع من الوحش أو النبات، أو العقاقير (كما حدث ذلك أثناء حوار مع أحد شيوخهم). ولو سألتَ أحدًا منهم عن معاني كلمات:
Nirvana, Meditation Trence, Mantra, وما شاكَلَهَا من مصطلحات مجوس الهند، لرأيته شاخصًا عينيه إليك وقد بُهِتَ؛ ولكنّه يكاد يُزْلِقُكَ بنظره الحادّ وقد خيّم عليه صمتٌ من حيرةٍ مشوبةٍ بالحقد، تُعَبِّرُ عما في ضميره من تساؤلات وأحاسيس غريبة، وهواجس معقّدَة، وتصورات وأفكار؛ حتّى هو بالذات لا يدري كيف يتخلّص من المأزق الّذي انحبس فيه أمام هذا السؤال الطارئ بسبب جهله معاني هذه الكلمات التافهة أو ربما طأطأ رأسه وكأنّه يستشير الشياطين ليستوحي منهم أخبث ما في قاموسهم من كلمات الشتم واللّعن والتهكّم ليقذفك بها بعد قليل انتقامًا منك على سؤالك؛ وتهدئةً للنار الّتي تتوقّد في صدره غضبًا عليك!
إذًا كيف بشيوخ النقشبنديّة مع هذا الجهل أن يتحقّقوا مما تسرّب إلى طريقتهم من تعاليم الديانة البرهمية عَبْرَ القرون؟
أما »حبس النفَسِ« أو المراقبة عليها بشروطٍ حدّدها، وأقرّها علماء الطبِّ النفسيِّ الجسديِّ بعد دراسات وبحوث وتجارب كما هو منصوص في مصنَّفاتهم فانّه حقيقة عقلانيّة تجربيّة وعلميّة ثابتة بالبراهين، ولا صلة بين هذه الحقيقة مباشرة وبين الجانب الروحانيِّ من الدين الإسلاميّ كما لا يعقل أن تمتَّ إلى التصوّف بشيءٍ.(66/69)
أما تطبيق هذه الطريقة العلميّة لأغراض صحيّة، فإنّ الحديث عنه ليس من اختصاص بحثنا، وإنما هو موضوع الطبِّ النفسيِّ الجسديِّ. إلاّ أنّ هذه الظاهرة الغريبة الّتي انتشرت في الآونة الأخيرة، ترجع في الأصل إلى تعاليم الديانتين الوثنيتين: البوذية والهندوسية. وهي من الأعمالِ ذات الصلة الوثيقة بالصهيونية، تُستعرض في أشكالٍ وأنماطٍ من الرياضة البدنية والروحية، وقد افتتحت منظمة اليوجا فرعًا لها في القاهرة عام 1975، وكان يقوم بالتدريب به شاب من الفليبين وفتاة أمريكية، وقد استطاع الاثنان أن يجذبا إلى مقر هذه المنظمة عددا من الشباب الجامعي للتدريب على اليوجا والإعداد للقيام بنشاط اجتماعي لتوعية أهالي القرى والمدن. وفى 16/7/1975 قبض رجال الأمن على الفتى والفتاة بعد أن اتضح قيامهما بنشاط ديني وسياسي والدعوة لتمييع الأديان والانتقاص من القيم الروحية، واتّضح أن هذه المنظمة تموّلها جهات صهيونية وأنّها فرع لمنظّمةٍ مركزها الرئيس في إسرائيل.
ولكن ينبغي هنا التأكُّيد على أن »حبس النفَسِ« ليس هو الأمر الوحيد الّذي استقاه قدماء النقشبنديّة من تعاليم اليوغية البرهمية؛ بل تركيزُ الفكر على جسمٍ بعينه أو تخييلُهُ من غير اتصال، أيضا هو من الأمور الّتي أخذتها الطائفة النقشبنديّة من تقاليد الهندوس دون أدنى شكّ، وهو المعبَّرُ عنه عندهم باستحضار صورة الشيخ في الخيال، والمصطلحُ في عقائدهم باسم "الرابطة"
***
الرابطة.
وما أدراك ما الرابطة؟ ألا إنّها لفتنة عظيمة انفجرت في العراق فنشبت بشرارة طارت إليها من الهند بعد عودة خالد البغداديّ من مدينة دلهي عام 1226هـ.(66/70)
كان قد سافر إليها من العراق سنة 1225هـ.علمًا بأنّ هذه الرحلة وقعت في مرحلة استيلاء الإنجليز على الساحة الهندية حيث يأبى دماغ الرجل المسلم الواعي أن يصدّق بمصادفة هذا الأمر دون برنامج سابق! فجاء بأفكار جديدة وآراء غريبة مستوحاة من البوذية والبرهمية. فبدأ يبثُّ النقشبنديّة على أساسها باسم الطريقة الخالدية. وابتدع لها ركنًا سمّاها "الرابطة"، بعد أن لم تكن الرابطة شيئًا معهودا ولا مسموعًا في الطرق الصوفيّة المنتشرة بين المجتمعات العجمية في المملكة العثمانيّة. فأثار البغداديّ ضجّة في مختلف أنحاء البلاد بهذه البدعة الخطيرة، وما دسّ معها من مستحدثات منكرة لم يكن القصد منها في الحقيقة إلا ضرب الإسلام من أساسه. فالقصّة طويلة سنشرحها في ترجمة خالد البغداديّ ضمن الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
أمّا الرابطة في عقيدة البغداديّ فهي من أعظم الأركان في الطريقة الّتي استحدثها بعنوان "الخالدية" إذ يغضب أشدّ الغضب على من وصفها بالبدعة فيقول:
»إنّ بعض الغافلين عن أسرار حق اليقين يعدّون الرابطة بدعة في الطريق ويزعمون أنّها شيء ليس لها أصل ولا حقيقة. كلاّ! إنها أصل من أصول طريقتنا العليّة النقشبنديّة. بل هي أعظم أسباب الوصول بعد التمسّك التامّ بالكتاب العزيز وسنّة الرسول« ورد نصّ هذه الرسالة ضمن المصادر الآتي ذكرها:
* محمّد مطيع الحافظ-نزار أباظة، علماء دمشق وأعيانها في القرن الثالث عشر الهجري ص/ 313. دار الفكر المعاصر؛ بيروت
* علماء المسلمين والوهّابيّون (مجموعة فيها خمس رسائل، من منشورات I??k Kitabevi). الرسالة الأخيرة منها. إسطنبول- 1978م.
* رسالة تذكار الرجال، الجزء الأوّل ص/ 44. جمعها عبد الكريم المدرس، منشورات المجمع العلمي الكرماني، مكتبة الحقيقة إسطنبول-1992م. (هذه الرسالة منضمة إلى رسالة أخرى اسمها مكاتيب شريفة لعبد الله الدهلويّ، كلتاهما بين دفتين في مجلد واحد.)(66/71)
* كذلك نسخة منها موجودة بهامش كتاب الرشحات مع شرحها باللغة التّركية، طبعة صاري كز/ إسطنبول-1291هـ.
جاءت هذه الكلمات في مستهلّ رسالةٍ بعثها إلى محمّد أسعد أفندي الإسطنبولي، إذا صحَّ ممّن أسندها إليه. فقد عبث المؤلّف في هذه الرسالة بالمفاهيم، فجمع فيها بين كلماتٍ ومصطلحاتٍ شتّى؛ وآرء متباينة ومتناقضة وهو يحاول أن يجعل بين طريقته وبين الإسلام صِلَةً. وذلك من أساليب الباطنية. لأنهم يتعرّضون في كل عصرٍ لهجماتٍ عنيفةٍ من علماء المسلمين، فإذا عجزوا عن مقاومتهم لَجَأوا إلى مدِّ الجسور بين مذاهبهم وبين الإسلام ليبرّروا بها حجّتهم.
فقد شنّ البغداديّ هجومًا على من عدَّ الرابطة بدعةً، ثم دافع عنها بقوله: »كلاّ، إنّها أصل من أصول طريقتنا...إلخ«. قد يكون البغداديّ صادقًا في هذا المقطع من كلامه. لأنّه ما يسمى "الطريقة"، فإنها من صنع الصوفيّة بجميع مباديءِها وفلسفتِها وطقوسِها وصورةِ أدائِها. إذًا لا غرابة في إضافة أشكالٍ أخرى من البدع إلى مبادئ الطريقة وأصولها متى شاء زعيمها الّذي يُذعن له جمهورُ المريدين.
أمّا قوله »بل هي أعظم أسباب الوصول...إلخ«، فإنها جرأةٌ على الله وجنايةٌ على الإسلام، وبهتانٌ عظيمٌ على كتاب الله وسنّة رسوله! - صلى الله عليه وسلم -
نعم، يجوز عقلاً أن تكون الرابطة أصلاً من أصول الطريقة النقشبنديّة. إذ هي في الحقيقة ديانة مستقلّة بأصولها وآدابها وأركانها وطقوسها ولكن طُلِيَتْ من خارجها بصبغة من الإسلام. إذن فلا مانع من أن يضيف إليها الروحانيون ما طاب لهم من آدابٍ وأصولٍ أو يلغوا منها شيئًا.(66/72)
أمّا محاولة البغداديّ من وُجْهَةِ نظر الإسلام في قوله: »بل هي أعظم أسباب الوصول...إلخ« فانّ ذلك رأيُهُ الخاصُّ. وقد اعتاد رجال الطرق الصوفيّة هذا الأسلوبَ قديمًا. وغايتهم منها أنّ المريد إذا سلك ما أشار عليه به شيخه طبقًا للخطّة الّتي تنصّ عليها فلسفة التصوف، ظَفَرَ بالوصول إلى الله ! بينما الكتاب والسنّة، لا نجد فيهما شيئا يؤكّد على وصول العبد إلى الله بإجراء آداب الصوفيّة واشتراكه في طقوسهم. بل الّذي يظفر به العبد ويحظى من الفوز (بالعمل الصالح) هو رحمةُ الله ومغفرتُهُ ورضوانهُ والأجرُ الحسنُ والجنّةُ ونعيمُها كما قال تعالى: {الّذينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ الله أُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} سورة التوبة/20، 22. وقال تعالى: {وَعَدَ الله الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} سورة المائدة،/9 وقال تعالى: {إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ نَعيِمٌ * خَالدِينَ فِيهَا، وَعْدَ اللهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزيِزُ الْحَكيِمُ} سورة لقمان/8، 9.(66/73)
هذا، وفي كتابِ اللهِ آياتٌ كثيرةٌ غيرها. ثم المراد من مفهوم »العمل الصالح« واضحٌ في منتهى الوضوح من خلال ما جاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وهي أداءُ الفرائض من الصلاةِ والصومِ والحجِّ والزكاةِ والجهادِ وما يتّصل بها من السننِ والنوافلِ والصدقاتِ؛ وكذلك تزكية النفس الإنسانية بالفضائلِ والسيرةِ الحسنةِ والسلوكِ المثاليِّ الرفيعِ، كالصبرِ، والقناعةِ، والزهدِ، والعفّةِ، والحيطةِ، والتبصُّرِ، والوعيِ والجرأةِ، وحبِّ التعلُّمِ، وحبِّ النظافةِ، وصفاءِ السريرةِ، وتوقيرِ ذي الشيبِ من المؤمنين، والرحمةِ بالصغارِ والضعفاءِ والمرضى، والشفقةِ على خلق الله من سائر الإنس والأحياء -بشروطها- واللّطافةِ والحلمِ ولينِ الجانبِ في المعاملةِ، وتشميتِ العاطسِ، وإفشاءِ السلامِ، وبشاشةِ الوجهِ، ومواساةِ المغمومين، وتعزيةِ المحزونين، وتسليةِ المهمومين، والإحسانِ بالجودِ والكرمِ والافتداءِ؛ والتحلِّي بالأدبِ والوقارِ، والتعاونِ مع أهل التوحيدِ، ومشاركةِ المؤمنين في السرّاءِ والضرّاءِ، ومساعدتِهم على تحقيق كلِّ هدفٍ يخدمُ وحدةَ المسلمين، ويجمعُ صفوفَهم ويمهِّدُ السبيلَ لتوفيرِ الحرّيّةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ والأمنِ والسلمِ والهدوءِ والطمأنينةِ والسعادةِ والرخاءِ والازدهارِ على وجه البسيطة..
هذه كلّها، هي المراد بها من كلمة »العمل الصالح« الواردة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم وعلى صِيَغٍ مختلفةٍ يضيق المقام من حصرها.
أمّا قيام العبد بإجراء مراسم النقشبنديّة على وفق ما ورد في شرح مصطلحاتهم »هُوشْ دَرْدَمْ، و نَظَرْبَرْقَدَمْ، و سَفَرْدَرْوَطَنْ، و خَلْوَتْ دَرْأَنْجمَنْ... إلخ« بقصد العبادة فانّه خروج على الإسلام لا جرم، وتحريف لدين الله!(66/74)
ومن جملة ما عبث به البغداديّ وخلط في عباراته المذكورة أيضا: أنّه اختلق صلةً موهومةً بين الرابطة وبين كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فحاشا لله، أن يكون في كتابه، أو في سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أدنى شيء يشير إلى رابطة الباطنيّة. بل كتاب الله برئ من هذه الفرية. { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنِ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. سورة فصّلت/42.
كانت هذه خلاصةٌ لنشوب فتنة الرابطة منذ أن أصبحت ركنًا من أركان هذه النحلة بعد عودة خالد البغداديّ من بلاد الهند، فشوهد تطوّرٌ كبيرٌ وتغيُّرٌ جذريٌّ في عقائد الطائفة النقشبنديّة عقب هذا الحدث كما أثار خلافًا كبيًرا ونزاعًا شديدًا بين هذه الفرقة، وبين رجال الطريقة القادرية. وهي أيضًا فرقة من الفرق الباطنيّة.
أما تعريف الرابطة، فقد جاء في الرسالة المذكورة نفسِها لخالد البغداديّ، وهو يقول:
»إذ هي في الطريقة عبارة عن استمداد المريد من روحانيّة شيخه الكامل الفاني في الله بكثرة رعاية صورته ليتأدّب، ويستفيض منه في الغيبة كالحضور. ويتمّ له باستحضاره الحضور والنور وينزجر بسببها من سفاسف الأمور« خالد البغداديّ، رسالة في تحقيق الرابطة (ضمن كتاب: علماء المسلمين والوهّابيّون -مجموعة فيها خمس رسائل، من منشورات إيشيك كتاب أوي). الرسالة الأخيرة منها. إسطنبول-1978م.
لقد ورد في هذا المقطع من كلام البغداديّ ثلاثُ نقاطٍ خطيرةٍ لا تتمّ الرابطة إلاّ بها عند النقشبنديّة: أُوّلُهاا: أن يستمدّ المريد من روحانيّة شيخه؛ وثانيها: أن يكون الشيخ فانيا في الله (؟!)؛ وثالثها: أن يستحضر المريدُ صورةَ الشيخ في ذهنه. وهكذا تظهر خطورة هذه العقيدة بتمام معناها؛ خاصّة عندما يدّعي أصحابها أنّهم مسلمون!
***
شروطُ الرابطة وصورةُ أداءِها.(66/75)
فقد جاءت تعريفاتٌ متفرّقةٌ في رسائلَ مختلفة لمتأخّري شيوخ النقشبنديّة حول شروط الرابطة وصورة أدائها. فالحقيقة، وإنْ كان عددٌ منهم قد دوّنوا آدابَ طريقتِهم، كخالد البغداديّ ومن سار على أثره من أمثال محمّد بن عبد الله الخانيّ وحفيده عبد المجيد بن محمّد الخانيّ، ومحمد أمين الكرديّ، وجماعة من الترك؛ إلاّ أنّنا لم نَعْثُر لأحد منهم حتّى الآن على كتابٍ يضمّ بين دفتيه جميعَ ما أُدْخِلَ في عقيدةِ هذهِ الطائفةِ منذ بدايتها إلى اليوم. ولهذا نجد شروطَ الرابطة وصورةَ أدائِها متفرقةً في رسائلَ مختلفةٍ جمعناها في هذا الباب. وهو دليلٌ آخرُ على أنّ كلَّ من أراد من الشيوخ أنْ يَفْرِضَ هيمنتَه على جماعةٍ من هذه النحلةِ جاء بشيء جديد. وهكذا استمرّت مسيرةُ هذه الطريقة ومصيرُ أهلِها على أيديهم، يتصرّفون في توجيههم، وفي آداب ما تلقوه من ساداتهم؛ يزيدون فيها تارة، وينقصون منها تارة أخرى، ممّا لا يستقرّ الأمر معهم حتّى يتمكن أحد من جمع مبتدعاتهم في كاتب واحد.
***
وخلاصة ما قيل في صورة أداء الرابطة وشروطها:
أوّلها: أنْ يكونَ المريدُ قد بايع »شيخًا فانيًا في الله« -على حدِّ قولهم- وقد وقعوا هنا في تلفيق شديد ينافيه العقل السليم. إذ أنّ المريد الّذي يقصد شيخًا ليبايعه، فهو ما زال جاهلاً بأمور الطريقة عندهم. إذن فكيف به أن يتأكّد من أنّ الشيخَ الّذي قصده قد فني في الله؟! فضلاً عن أنّ مثل هذه الهرطقة حربٌ علىالحنيفية.
هذا هو أسلوبهم المضّطرب المتذبذب في الصياغة والتعبير عمومًا وفِي اخْتلاق الآداب والأركان لِطَرِيقَتِهِمْ خاصّة. يُطلقون الكلمة على عواهنها بصرف النظر عمّا سوف يطّلع عليها أهل العلم والخبرة فيفتضح أمرهم؛ وذلك إمّا عن جهلٍ أو إمّا عن حظِّ نفسٍ والله أعلم بما في صدورهم.(66/76)
ثانيها: أن يكون المريد طاهرًا من الحدث الأكبر والأصغر. وإنّما اشترط من اشترط منهم الطهارة مكرًا، ليواري هذه البدعة بلباسٍ من شعار الإسلام، وهو الوضوء، ولتكتسب الرابطة بذلك صفةً شرعيةً، وصورةً من صور العبادة، تفاديًا لأيّ شكّ قد يدبّ في مشاعر المسلمين وتضليلاً للغافلين. على الرغم من أنّه لم يتصدّ أحدهم قائلا بأنّها عبادة إلاّ رجل من أصل تركيّ اسمه مصطفى فوزي. وهو من أتباع أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ. راجع ترجمتهما بالتفصيل في المصدر التالي:
Dr. ?rfan Gündüz, Ahmed Ziyaüddin Gümü?hanevî, Hayat? ve Eserleri. قال في بيت من رسالته المنظومة باللّغة التركية تحت عنوان »إثبات المسالك في رابطة السالك« ومآله بالعربيّة:
»الرابطة فريضة من جملة الفرائض الّتي عَدَدُهَا أربعة وخمسون فريضة، وهي دليل العاشقين« النصّ التركيّ للبيت المذكور باللهجة العثمانيّة و بالحروف العربية: "أللي درت فرضدن بريدر رابطه * أهل عشقك رهبريدر رابطه." مقتبس من رسالة إثبات المسالك في رابطة السالك لناظمها مصطفى فوزي، ص/ 19. إسطنبول- 1324هـ.
وثالثها: أن يكون الباب مغلقا. يستدلّون في ذلك بحديثٍ. جاء في تنوير القلوب لمحمد أمين الكرديّ الأربليّ في فصل "ختم الخواجكان". قال: "إغلاق الباب. ويعضده حديث الحاكم عن يعلى بن شداد، قال: هل فيكم رجل غريب؟ قلنا لا يا رسول الله! فأمر بغلق الباب و قال ارفعوا أيديكم." ص/ 521. وحقيقة الأمر ليس كذلك؛ وإنّما ابتدعوا هذا الشرط أسوة بِرُهْبَانِ البرهمية الّذين ينزعون إلى الخلوات استعدادًا للّتأمّل والتركيز. علمًا بأن العبادة في الإسلام عَلَنِيَّةٌ كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة والأضحية والجهاد بمختلف أشكالها. وإنّ في ذلك لحكمةً بالغةً ودروسًا وعِبَرًا وتعليمًا وتهذيبًا للجمهور.(66/77)
أمّا إغلاق الباب، فانّه من أمر البرهمية والرهبانيّةَ. والرهبانيّةُ سلوكٌ روحانيٌّ متطرّف، وجمود، وخمول وعزلة وتقشّف. لها أشكال متباينة من الرياضة الذهنيّة والبدنيّة؛ مؤدّاها الكراهيّة للحياةِ ونضرتِها وجمالِها ونعيمِها الّتي خلقها الله ليتمتّع بها عباده بوجوه مشروعة. ولا تمتّ الرهبانيّة بصلةٍ إلى الإسلام. وإنّما الإسلام دين حنيف، ربّانيّ، عَلَنِيٌّ، ونظامُ حياةٍٍ؛ وسلوكٌ رفيعٌ؛ وعبادةٌ، وطهارةٌ، وفضيلةٌ، وسياسةٌ، ودراسةٌ، وعلمٌ، وبحثٌ، ومعرفةٌ، وهدايةٌ، ونورٌ من وحيه تعالى. {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله اْلأمْثَالَ للنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ.} سورة النور/35.
أما التركيز فما هو بشيء في الإسلام؛ وليس له أدنى علاقة بما جاء في مواطن كثيرة من القرآن الكريم كقوله تعالى { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.} وقوله تعالى { لَعَلَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.} وما في هذا المعنى؛ إنّما هو نوع من تمارين اليوغا، كما سبق البحث عنه في موضوع »حَبْسِ النَّفَسِ«. وأمّا ما يتعلق بمفهوم "التركيز"، فيقول المؤلِّفان: المستشرق ج. توندريو، وعالم النفس، ب. رئال في كتابهما "اليوغا".
»التركيز: وهو تثبيت الفكر على نقطة واحدة، أو شيء، أو فكرة، أو عن المطلق«. ويقولان أيضًا: »هو مقدرتك على تثبيت الفكر على نقطة خاصّة معيّنة« ج. توندريو- ب. رئال، اليوغا، ص/ 30، 36. تعريب: إلياس أيوب. مكتبة المعارف بيروت-1988م.(66/78)
فتبيّن بهذا أنّ التركيز، ليس شكلاً من أشكال العبادة؛ ولا فيه طلب لمرضاة الله تعالى بمحض هذا المعنى، وإن كان مُسْتَوْحى من الديانات الهنديّة. وإنما هو بمجرّد فعله تمرينٌ ذهنيٌّ عقلانيٌّ غايته: السيطرة على الأعصاب، ليتحكّم الإنسان بها على نفسه، فيقودها إلى ما فيه صلاحه. وقد تكون فيه مصالح كثيرة - على أنْ لا يتعدّى هذا الحد غايته- كترويح الذهن، وإجلاء الهموم والغموم، ورفع الأعباء عن العقل والجسم، خاصّة وفي عصرنا الّذي تعاني نفسيّة الإنسان في ظروفه القاهرة المدمّرة للأعصاب من جرّاء ما يشاهد، أو يقرع سمعه من أحداثٍ داميةٍ، وقلاقلَ واضطراباتٍ وضجيج. فقد شاع بين الناس استعمال العقاقير والمخدِّرات والكحول؛ وانهمكوا في اللّهو والمجون والدعارة كنتيجة لهذه الأسباب. لأنّ الإنسان المعاصر التعيس الّذي لم يعد يحظى من قوّة الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد ضعفت صلتُهُ وثقتُهُ بربّه وتلاشت معنويّاته، وبالتالي أصبح في دوامة عمياء تساوره الهواجس، وينتابه القلق، وتزدحم أفكار رهيبة في ذهنه.
فإذا كان مراده الخلاصَ من مشاكله النفسية، والقضاءَ على ما يعاني من التوتّر والأرق والخوف والقلق، كحلٍّ طبّيٍّ؛ لا نجد في الإسلام ما يمنعه من القيام بتمارين رياضية لا تتعارض في شكلٍ من أشكالها مع شيء من تعاليم الإسلام.
ولكن شيوخ النقشبنديّة قد جاوزوا به هذا الحدّ إلى تثبيت الفكر على صورة الشيخ. فجعلوا منه شرطًا أساسيًّا للرّابطة.
أمَا مَنْ رأى منهم إغلاقَ الباب أقرب إلى الإخلاص في العبادة، فانهم أصلا لا يعبدون الله وحده -وإن نفوا هذا الاتهام بشدَّةٍ- بل موقفهم من مشائخهم يتميّز بإجلالٍ خَاصٍّ، يظهر من خلال ما يصفونهم ويرابطونهم في صورة من الإشراك بالله.(66/79)
هذا ولا يتمّ الإخلاص لله سبحانه إلاّ بالتوحيد الْخالص ونفي جميع الأنداد. إذ لا إخلاص مع الشراك. ثمّ إنّ الإخلاص لا يتوقّف على الإسرار في العبادة، وإلاّ وجب حظر الإعلان في سائر الطاعات وذلك مخالف للشّرع، إلا في أمورٍ خاصّة ونادرةٍ، كالتطوُّع والتصدُّق، تفاديًا للسمعة والرياء. وهذا لا يسحب على سائر العبادات.
ورابعها: أن يختار المريد محلاًّ تغلب فيه الظلمة إذا كان الوقت نهارًا. أو يعدّه بصورة خاصّة، كإسدالِ الستائرِ على النوافذِ أو إطفاءِ المصابيحِ إذا كان الوقت ليلاً.
وخامسها: أن يغمض المريد عينيه أثناء الرابطة.
وسادسُها : أن يراقبَ أنفاسَه في كل زفيرٍ وشهيق.
وسابِعُها: أن لا يتحرّك من مكانه.
وثامِنُها : أن يستحضر صورةَ شيخِهِ في خياله على المنوال الّذي سبق في موضوع التركيز. وعلى هذا الشرط مدارها.
وتاسِعُها: أن يستمدَّ من روحانية شيخه. والمريد مُلْزَمٌ بأداء الرابطة لشيخه في معظم أوقاته. وإلاّ فهو مُهَدَّدٌ بانقطاع البركة عنه!
فإنّ جميع هذه الأمور مستوحاة من الديانات الهندية ما عدا الشرط الثاني لسببٍ ذكرناه آنفا.
***
أوّل مَنْ أحدث الرابطة.(66/80)
إنّ أوّل مَنْ تصوّر هذا الشكلَ المخصوصَ لربط المريد بالشيخ في الطريقة النقشبنديّة. هو عبيد الله الأحرار وإن كانت جماعةٌ من هذه الطائفة تدّعي أنّها مأثورة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فلا نعثر على اسم من نطق بهذه الكلمة قبل الروحاني المعروف بـ "الأحرار" وذلك، ورد بحث الرابطة مرتين في كتاب الرشحات. علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي، رشحات عين الحياة ص/ 354، 360. صاري كز، إسطنبول-1291هـ. جاء فيهما أن الأحرار أوصى بها فحسب. ولم يزد المؤلّف على ذلك مما يدل على أنّ الرابطة لم تكن أمرًا هامًا ولا »ركنا عظيمًا« من أركان هذه الطريقة يومئذ كما يدلّ على أنّ هذه الفكرة تطوّرت مع الزمان وخاصّةً بعد أن قفزت الطريقة النقشبنديّة إلى الهند في عهد الباقي بالله الكابُليِّ ثم بعد ذلك تناولها شيوخ هذه الطائفة الّذين نشأوا في تلك البلاد، وبنوها على أسس مستوحاة من البرهمية والبوذية المنتشرتين في الهند. إلا أنّ الرابطة لم تكن أمرًا هامًّا في عهدهم أيضًا إذ لم يتناولها إلاّ رجلان منهم. أحدهما أحمد الفاروق السرهنديّ المعروف بين أتباع هذه النحلة بـ "الإمام الربّانيّ" فقد جاء في رسالة فارسية له، بعثها إلى شخص اسمه أشرف الكابُلي، جاء فيها:
»إنّ هذه الرسالة موجّهة إلى خواجه أشرف الكابلي في بيان أن الرابطة أنفع للمريد من الذكر. أمّا الّتي كتبها الأصدقاء، فقد نظرتُ في مضمونها، واطّلعت على الأحوال المسطورة فيها. واعلموا أن رابطة الشيخ لكلّ مريد بلا تكلّف ولا تصنّع هي دلالة على مناسبةٍ تامّة بين المرشد والمريد. وهي سبب للإفادة والاستفادة ولا طريق للوصول أقرب من طريق الرابطة. ومن سلكها فهو سعيد.«(66/81)
»لقد ورد في كتاب الفقرات لخواجه أحرار... أنّه قال: القول هنا باعتبار النفع. يعني ظلّ المرشد أنفع للمريد من أن يشتغل المريد بذكر الله...إلخ« و هذا النصّ الأصليّ باللّغة الفارسيّة للرسالة المذكورة ورقمها: 187. : "بخواجة محمّد أشرف كابلي صدور يافته؛ در بيان آنكه طريق رابطه، أقرب طرق موصله است. و در بيان آنكه رابطه نافع تر است مريدرا از ذكر كفتن. أو كتابت كه بيارانرا نوشته بودند بنظر در آيد. أحوال مسطورة مطّلع كشت. بداند كه حصول رابطهء شيخ هرمريدرا بي تكلّف و بي تعمّل علامت مناسبت تام است در ميان بير و مريد كه سبب افاده و استفاده است. و هيج طريقي اقرب بوصول از طريق رابطه نيست. تا كدام دولتمندرا بان سعادت مستعد سازند. حضرت خواجه أحرار… در فقرات مي آرند كه سايهء رهبر به است از ذكر حق. به كفتن باعتبار نفع است. يعني سايهء رهبر نافع تر است مريدرا از ذكر كفتن...إلخ" نسخة كراتشي.ص/301. 1392 هـ.(66/82)
إذًا يتّضح لنا أنّ الرابطة لم تكن في عهد الربّانيّ ركنًا من أركان الطريقة النقشبنديّة؛ فضلاً عمّا قبله. وإنّما خالد البغداديّ هو الّذي وضع لها تعريفًا خاصًّا، وزاد على هذا التعريف منَ جاء بعده من خلفائه كما وضعوا لها شروطًا ورتّبوها على هيئة من النسك حتّى اعتقدها جماعة من أتباعهم أنّها شكل من أشكال العبادة. وسعى كثير منهم لأدائها والدفاع عنها تقرّبًا إلى الله. وهم يجهلون أنّه لا يتقرّب العبد إلى الله إلا بما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أشكال العبادات كما يجهلون أنّ الكتب المنزلة قبل سيّدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم - إنّما حرّفها اليهود والنصارى بأمثال هذه البدع {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْمَلُونَ} وقد قال الله تعالى فيهم: { فَوَيلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} سورة البقرة/75-79.
أما الرجل الثاني الّذي تناول الرابطة بعد عبيد الله الأحرار، هو تاج الدين بن زكريا بن سلطان الهنديّ زميل أحمد الفاروقيّ. جاءت في عجالّتين له عبارات مختصرة حول الرابطة. منهما الرسالة المعروفة بـ"التاجية". قال في مقطع منها:(66/83)
»الطريقة الثانية: طريقة الرابطة بالشيخ الّذي وصل إلى مقام المشاهدة وتحقّق بالتجليات الذاتية. فإنّ رؤيته بمقتضى -هم الّذين إذا رأوا ذكر الله- تفيد فائدة الذكر. وصحبته بموجب -هم جلساء الله- ينتج صحبة المذكور، وإذا تيسّر صحبة مثل هذا العزيز، ورأيت أثره في نفسك، فينبغي لك أن تحفظ ذلك الأثر الّذي تشاهد فيك بقدر الإمكان. وإن حصل لك ببركة ذلك الأثر. هكذا تفعل مرة بعد أخرى، متى تصير تلك الكيفية ملكة لك. وإن لم يظهر من صحبة ذلك العزيز أثر، ولكن حصلت به محبة وانجذاب، فينبغي أن تحفظ صورته في الخيال وتتوجه للقلب الصنبوريِّ، حتّى تحصل لك الغيبة والفناء عن النفس. وإن وقفت عن الترقي، فينبغي أن تجعل صورة الشيخ على كتفك الأيمن في خيالك وتعتبر من كتفك إلى قلبك أمرًا ممتدًّا. وتأتي بالشيخ على ذلك الأمر الممتّد وتجعله في قلبك فانّه يرجى لك بذلك حصول الغيبة والفناء« تاج الدين بن زكريا الهنديّ، الرسالة التاجية. مكتبة جامعة إسطنبول- خزانة الآثار النادرة، رقم/3640
***(66/84)
وقال تاج الدين بن زكريا فيما دوّنه تحت عنوان »آداب المشيخة والمريدين«: »فطريق الرابطة -وهي رابطة القلب مع الشيخ-: فرؤيته بمقتضى -الّذين إذا ذُكر الله- تحصل لهم الفائدة كما تحصل الفائدة من الذكر بموجب -هم جلساء الله- لأنّ الشيخ كالميزاب، ينزل الفيض من بحره المحيط. وإنْ وجد الفتور في الرابطة، فيحفظ صورة شيخه في خياله بموجب -المرء مع من أحب- فيحفظ الصورة، يتحقق ويتّصف المريد بأوصافِ وأحوالِ الشيخ كما كان له« من المصدر السابق أيضًا؛ إلاّ أنّ عبارات هذا الشيخ الهنديّ قد جاءت في منتهى الركاكة و التكلّف؛ تدلّ على قريحته العجمية و طبعه الجلف و حظّه التافه من العلم. و بالتالي يبرهن على أنّ الخلط و العبث والتحريف الّذي تعرّضت له المفاهيم الإسلامية الأصيلة، إنما هي صنيعة أصحاب تلك الطبيعة الغليظة الّتي لم يتمكّنوا بسببها من المعرفة الصحيحة بحقيقة الإسلام حتّى دفعهم هواهم إلى اختلاق بدعٍ وهرطقاتٍ استقوها من عقائد أهل الشرك . فدسّوها إلى الدين الحنيف جهلاً أو قصدًا، والله أعلم بنيّاتهم.
هكذا يبدو أن الرابطة لم تَعْدُ هذا الحدّ من التطّور إلا بعد مضيِّ ثلاثمائة عام على موت عبيد الله الأحرار؛ أوّلِ من نطق بهذه الكلمة حتّى جاء خالد البغداديّ فبناها على شروطٍ عدةٍ ذكرناها آنفا؛ وجعل منها »أصلاً من أصول الطريقة النقشبنديّة«
***
الغاية من الرابطة
الرابطة من حيث الغاية ليست إلاّ وسيلة لترويض المريد على تبعية الشيخ بكلّ ما يملك من نفس ومال ومقدرة. ويؤكّد على هذه الحقيقة ما قد ورد في مقولات شيوخ الطريقة من ترغيب المريد على الاستسلام المطلق للشّيخ. بل وإنّ طاعة المرشد عند هذه الطائفة، من أهمّ آداب المريد مع شيخه. وقد جعلوها شرطًا مفروضًا على كلّ من ينخرط في سلكهم كما مّر ذكره في باب "البيعة". كذلك رابطة الشيخ (أي استحضار صورته في الذهن) أفضلُ من ذكر الله عندهم، كما ورد في فقرات الأحرار.(66/85)
إذًا يجب هنا التفريق بين كلمتي "التبعيّة" و "الإتّباع" إذ لا مجال للإتّباع في »آداب المريد مع شيخه« وإنّما المطلوب من المريد أن يكون تَبَعِيًّا وليس مُتّبِعًا لأنّ المتَّبِع يتماشى مع المتَّبَع عن وعيٍ ويوافقه عن فكرٍ وتعقُّلٍ بعد استكشاف العلل ومقارنته الأسبابَ، وبحثه في المقدمات؛ ليستخلص النتائج منها بالحكم والتصديق وهذا من صفات المؤمنين بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ كأصحاب سيّدنا محمّد - صلى الله عليه وسلم -، ورضوان الله عليهم أجمعين. أمّا الإنسان التبَعيُّ فليس أمره كذلك. وإنّما هو مسلوب الإرادة، مضطرّ لا خيار له، ولا علم له بما قد سُلب منه. ولكّنه ليس كمن هو مضطهَدٌ مقهورٌ ومكرَهٌ على فعل شئ أو تركه؛ ولا كمن تحكّم فيه ظالم لا طاقة له به؛ ولا كمن هو مولعٌ بشخص لحسنه وجماله؛ ولكنّه مغفَّلٌ مطبوعٌ، جذبه دجّالٌ من ورائه، فألقى عليه محبَّتَه وهيبتَه بدعاياتٍ خلاّبةٍ ودعواتٍ ماكرةٍ وحِيَلٍ شيطانيةٍ كما يفعله بعض شيوخ الصوفيّة من طأطأة الرأس. والتصنع في اللّباس والكلام، وأَمْرِ المريدين بأورادٍ غريبةٍ ومناسكَ دخيلةٍ مثل عدّ الأذكار بالْحُصِيِّ والمسبحة، وبكميات معينة يحدّدها لهم. ذلك أنّ لِلْكثرة والحجم تأثيرًا عظيمًا على نفسية الإنسان الجاهل. إنّه يوقّر الهامةَ الضخمةَ، خاصّة إذا كانت فوقها عمامة من لفائف مكدّسة؛ يتهيّب الزحام، وينجرف من وراء الدهماء وهو دومًا ذَنَبٌ؛ لا رأي له يستقلّ به؛ وهو رمز الحماقة في التصفيق عندما يصفّق الناس، وإن كان لا يدري لماذا يصفّقون، ولماذا يطبّلون! ولهذا يجوز أن نقول إن الرابطة وسيلةٌ خاصّة لاصطياد هذا النوع من العامّة ورَبْطِهِ بالشيخ بحيث لا يكاد ينفكّ منه. وإنْ رآه يرتكب الحرام، راجع موضوع البيعة ويطيعه في معصية الله مع أنه »لاَ طَاعَةَ فيِ مَعْصِيَةِ اللهِ، إنَّمَا الطاعَةُ فيِ مَعْرُوفٍ« عن علي ابن أبي طالب. رواه مسلم. رقم الحديث:3423.(66/86)
***
عقوبة المخلّ بآداب الرابطة عند النقشبنديّة.
تتميّز الطريقة النقشبنديّة بين سائر الطرق الصوفيّة بنظامها وآدابها الّتي ساعدتها على التوسّع والانتشار في صفوف ملايين الناس عَبْرَ القرون. وهي كفيلة حتّى هذه الساعة بفرض هيمنتها على القلوب وترسيخ عقائدها في قريرة النفوس. ويعود السبب الأساسيُّ في ذلك إلى الآداب الّتي تقوم عليها علاقة الخلف بالسلف وموقف المريد من الشيخ في هذا المذهب الخطير.
لقد سبق الكلام في باب تعريف الرابطة وشروطها، بأنّ المريد يجب عليه أن يكون على صلة دائمة مع شيخه بأداء الرابطة له. »وإلا انقطعت البركة عنه« فهو يرى نفسه مهدّدا بذلك إذا فتر باله عن شيخه ولو لحظة. هذا من جملة اعتقادهم في مسألة الرابطة. وقد أحدث بعض المتأخرين من شيوخ هذه الطائفة شرطًا آخر في الطريقة ليتأكّد به صلة المريد بالشيخ أكثر مما هي في البداية. وذلك أن يحمل المريد نسخةً من الصورة الفوتوغرافية لشيخهِ معه. فينظر إليها كلّما وجد فرصةً. وهم أتباع سليمان حلمي طوناخان، وأتباع الملا عبد الحكيم البِلوانِسيّ.
وإذا كانت الرابطة من أعظم أركان الطريقة النقشبنديّة، فانّ القاعدة الأساسيّة فيها (بالنسبة للخليفة المأذون) أن لا يأمر المريدين برابطة نفسه، إذا كان شيخه لا يزال على قيد الحياة. بل يجب عليه أن يأمرهم برابطةِ مَنْ أذن له بالخلافة.
أما إذا خالف النائبُ هذه القاعدةَ فإنّه يُعَدُّ ممّن نقض العهدَ. ويحكم عليه شيخه بالطرد من الطريقة. وهو أشدّ عقوبة عندهم. لأنّ من طُرِدَ من الطريقة، فإنّه يُعَدُّ كذلك مطرودًا من باب الله ومن باب رسوله في اعتقادهم؛ فيتبرّؤن منه، وإنْ لم يَرِدْ في مدوَّناتهم ما يفيد أنهم يحكمون عليه بالكفر.(66/87)
وبهذا يفتضح سرٌّ آخر من أسرارهم بأنهم يتقلّبون في أمواج من التعارض والتناقض وتزداد الشقّة بذلك بينهم وبين الإسلام. لأنّ المسلم لا يجوز له أن يتبرّأ من المسلم ما لم يجده قد خلع رقبة الإسلام من عنقه.
أما الطرد في الطريقة النقشبنديّة، كما شرحناه فيما أصدرنا تحت عنوان: »موقف ابن عابدين من الصوفيّة والتصوف« رسالة تحليلية و انتقادية رددنا فيها على ما جاء في رسالة "سلّ الحسام الهنديّ لنصرة مولانا خالد النقشبنديّ" للمؤلّف المذكور. فإنه موضوع هامٌّ وعقوبة شديدة عند هذه الطائفة.
ويبدو أنّ الّذي أحدث هذه القاعدة هو خالد البغداديّ. فقد جاء فيما كتبه بعض النقشبنديّين، أنّ خالدًا طرد عبد الوهّاب السوسيّ، راجع موضوع "خلفاء خالد البغداديّ، و أسلوب تعامله معهم"، في نهاية الفصل الرابع. إذ كان نائبًا عنه في مدينة إسطنبول. لأن عبد الوهّاب أمر المريدين برابطة صورته، فأصبح بذلك منافسًا لمن يستخدمه. بينما كان يجب عليه حسب آداب الطريقة أن يأمرهم برابطة خالد البغداديّ الّذي أحدث قاعدة الطرد، كما أحدث للّرابطة شروطًا وآدابًا خاصّة. فتطوّر النزاع بينهما إلى حدود خطيرة. كما سنشرحه في نهاية الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.
كذلك نائبه الّذي كان قد أرسله إلى داغستان -وهو إسماعيل الشيرواني- لما بلغ خالدًا أنّ خليفتَه هذا يأمر المريدين برابطة نفسه (بدل أن يأمرَهم باستحضار صورة شيخه -خالد-)، وجّه إليه كتابًا يهدّده فيه. فقد نَقَلَتْهُ جماعةٌ من النقشبنديّين بنصّه الكامل ضمن ما جرت به أقلامهم من رسائلَ دوّنوها في شؤون طريقتهم.
لا شك أن الطريقة النقشبنديّة قد اكتسبت مناعةً بهذه الضوابط الّتي هي بمنزلة نصوص من كتاب الله عندهم. إذ لها حرمة عظيمة في اعتقادهم، كما لها إمكان التنفيذ من قِبَلِ مشائخهم في كلّ ساحة انتشروا فيها.
***
استدلالهم في إثبات الرابطة ومقالاتهم في الدفاع عنها وما قيل في ردّها.(66/88)
لقد حاول عدد من مشائخهم أنّ يدافعوا عن الرابطة، فبذلوا ما عندهم من جهود، وأفرغوا ما يملكون من طاقة تندهش منها العقول. ذلك أَبَوْا إلاّ يكون لها أساس من الكتاب والسنّة؛ فضاق بهم الأمر حتّى استدلّوا بآيتين كريمتين من كتاب الله، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} سورة المائدة/35. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ.} سورة التوبة، / 119. وأَتْبعوهما بحديث »المرء مع من أحبّ« متّفَق عليه. البُخَاريّ، رقم الحديث/5702؛ مسلم، رقم الحديث/4779.
بهذا الأسلوب الغريب أرادوا أن يُثبتوا الرابطة ويجعلوها شكلاً من أشكال العبادة في الإسلام. ولكن فشلوا في محاولتهم. وقام عليهم الدليل من خلال ما استدلوا به. إذ لا نجد بين طبقات المفسّرين من علماء الإسلام أحدًا أشار إلى الرابطة في تفسير الآيتين المذكورتين، ولا محدّثًا رمز إليها بكلمةٍ واحدةٍ من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فيبدو وبكل وضوح أنّ أحدهم لم يرهق نفسه حتّى بمراجعة مصدرٍ واحدٍ من تفاسير علماء الإسلام ليتأكّد من معنى الآيتين المذكورتين.
أمّا انصرافهم عن مراجعة كتب التفسير على كثرة عددها، فليس من علامة ثقتهم بما عندهم، أو لإعجابهم بما سوّلت لهم أنفسهم فحسب، بل يبرهن ذلك على مبلغهم من العلم بطرق الاستدلال. لأنّ من استدلّ بآية كريمة وجب عليه في الخطوة الأولى أن يتأكّد من سبب نزولها. ثم يترتّب عليه أن يتحرّى المناسبة بينها وبين الموضوع الّذي يربطه بها.(66/89)
إن الآية الكريمة { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} هي تتمّة لما قبلها. وهو قوله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الّذينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَسْعَوْنَ فيِ اْلأَرْضِ فَسَادًا، أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اْلأَرْضِ. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فيِ الدنْيَا. وَلَهُمْ فيِ اْلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاّ الّذينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.} سورة المائدة/33، 34.(66/90)
فقد ورد في عددٍ من مصادر التفسير بأنّ هذه الآيات نزلت في المشركين، وليس فيها أدنى دلالة تَمُتُّ برابطة النقشبنديّين. فالعجب العجب من أمر هذه الطائفة، أنّهم كلّما وجدوا عالمًا من علماء الإسلام يستدلّ بآيةٍ كريمةٍ على شِرْكِِ مَنْ يدّعي أنّه مؤمن وهو يتمرّغ في أوحالِ الزندقة والإشراكِ باللهِ على مرأى من الناس، جن جنونهم، وثاروا عليه، وتصنعّوا بالدفاع عن أنفسهم، أنّ »حَمْلَ هذه الآيةِ الكريمةِ منه على عوام الموحّدين زور وافتراء وتلبيس«؛ وكيف بهم أنّهم قد تشبّثوا بآية كريمة نزلت في المشركين فاستدلّوا بها في إثبات رابطتهم وليس بينهما أدنى قرينة؟!! للإطلاع على نحو هذه المشاجرة بين الأطراف المتنازعة من النقشبنديّين والوهّابيّين، راجع كتاب شواهد الحق لمؤلّفه يوسف بن إسماعيل النبهاني: الباب الثالث. (الرسالة الثانية من مجموع الكتيبات المطبوعة بعنوان: علماء المسلمين والوهّابيّون") مكتبة إيشيك طباعات متكررة/إسطنبول. لقد روى البُخَاريّ ومسلم في سبب نزول الآية المذكورة آنفا »من حديث أَبِي قِلاَبَةَ عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَم؛ِ فَاسْتَوْخَمُوا أي استثقلوا الأرض، فلم يوافق هواؤها أبدانهم. اْلأَرْض،َ فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.َ فَقَالَ أَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؟ قَالُوا بَلَى. فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا الراعِيَ وَأَطْرَدُوا النعَمَ. أى استاقوها غصبًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِم،ْ فَأُدْرِكُوا. فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِم،ْ فَقُطِّعَتْ(66/91)
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُم؛ْ ثُمَّ نُبِذُوا فِي الشمْسِ حتّى مَاتُوا« مسلم، رقم الحديث/4779
أمّا الآية الثانية وهي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} سورة التوبة/119. فقد أجمع العلماء على أنّ هذه الآيةَ وما قبلها نزلت في غزوة تبوك، حيث لا يغيب على ذي لُبٍّ ما تتضمّن هذه الآيات من توبة الله سبحانه على النبي والمهاجرين الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة، وكذلك على الثلاثة الّذين خُلِّفوا. وهم كعب بن مالك، ومرارة بن ربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي.
نعم هذه الحقائق لا تغيب عن أيّ ذي علم بكتاب الله تعالى، ولكن غابت عن شيوخ النقشبنديّة. ولا نقول أنّهم أرادوا بذلك أن يحرّفوا كتاب الله ظلمًا وعدوانًا، فتواطؤا فيما بينهم على تأويل هذه الآية في إثبات الرابطة. ولكن نقول: إنّهم تورّطوا في هذا المأزق اغترارًا بمن افترى على الله كذبًا. واقتفوا أثر من تعمّد بهتانًا عظيمًا. فسوّلت له نفسه أن يستدلَّ بهذه الآية الكريمة ليُلْصِقَ تلك الهرطقة المقلّدة عقيدة سحرة الهند بعقيدة المسلمين. وهذا من غبائهم وإعجابهم بمن وثقوا فيه ثفة عمياء حتى ولو حرّف كتابَ الله! فالتبعوه وخالفوا الجمهور بهذا الرأي السقيم في تفسير الآيتين المذكورتين، وشذّوا بذلك عن الجماعة أيّما شذوذ!
أمّا علماء الإسلام فقد جاءت نظرتهم منسجمة متقاربة في تفسيرهما من حيث الأصل وإن اختلفت ألفاظهم كما ستتبيّن من عباراتٍ نقلناها من تصانيف عدد منهم تمحيصا للأمر:
قال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: اطلبوا القرابة إليه بالعمل بما يرضيه، والوسيلة هي الفعيلة. من قول القائل توسّلتُ إلى فلان بكذا أي بمعنى تقرّبتُ إليه. ومنها قول عنترة:(66/92)
»إنّ الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »وإنّما معنى الكلام {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في الآخرة باتقاء الله في الدنيا (...) فَسَّرَ ذلك مَنْ فَسَّرَهُ من أهل التأويل بأنْ قال معناه: كونوا مع أبي بكر وعمر أو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين رحمة الله عليهم.«
»حدثنا ابن وكيع عن يزيد بن أسلم عن نافع. قال: قيل للثّلاثة الّذين خُلِّفوا { يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِين.َ} محمّد وأصحابه« أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن.
ومن هؤلاء المفسرين صاحب الكشاف أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»الوسيلة: كلّ ما يتوسّل به. أي يُتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك. فاستُعيرتْ لما يُتوسَّل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »{مَعَ الصادِقِينِ}...وهم الّذين صدقوا في دين الله قولاً وعملاً أو الّذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله { رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ.}. وقيل هم الثلاثة. أَي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم ونياتهم« أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.
ومن أعلام المفسرين أبي عبد الله فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين الّتيميِّ البكريّ الرازي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة »كونوا متّقين عن معاصي الله متوسلّين إلى الله بطاعات الله.«(66/93)
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة: »{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات؛ ولا تكونوا متخلّفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت« فخر الدين الرازي، تفسير مفاتيح الغيب.
ومن كبار المفسّرين محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الوسيلة: هي القربة؛ عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء و السدي وابن زيد وعبد الله بن كثير، وهي فعيلة من توسّلتُ إليه أي تقرّبت. قال عنترة:«
»إنّ الرجال لهم إليك وسيلة * أن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي«
والجمع الوسائل قال:
»إذا غفل الواشون عُدنا لِوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل«
ويقال: منه سلتُ أسأل. أي طلبتُ. وهما يتساولان. أي يطلب كلّ واحد من صاحبه؛ فالأصل الطلب؛ والوسيلة القربة الّتي ينبغي أن يطلب بها. والوسيلة درجة في الجنة وهي الّتي جاء في الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام: »فمن سألَ لي الوسيلة حلّت له الشفاعة«
وقال المصنف أيضا في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}
» قال نفر من الجن أسلموا وكانوا يُعبَدون. فبقي الّذين كانوا يَعبُدون على عبادتهم، وقد أسلم النفر من الجن. فاسلم الجنّيون، والإنس الّذين كانوا يعبدون لا يشعرون؛ فنزلت { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة التوبة:(66/94)
»قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية حدّثنا الأعمش عن شقيق، عن عبد الله، وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} أي أصدقوا وألزموا الصدق تكونوا من أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا ومخرجًا. وقال الإمام أحمد، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ الله -هو ابن مسعود- قَالَ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:َ عَلَيْكُمْ بِالصدْق.ِ فَإِنَّ الصدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّة،ِ وَمَا يَزَالُ الرجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصدْقَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النارِ وَمَا يَزَالُ الرجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا. أخرجاه في الصحيحين« محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي.
ومن هؤلاء المفسرين، أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة: »{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي ما تتوسّلون إلى قرابه والزلفىَ منه من فعل الطاعات وترك المعاصي. من وسل إلى كذا، إذا تقرّب إليه، وفي الحديث: الوسيلة منزلة في الجنّة«.(66/95)
قال المصنِّف في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: {أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} »هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة -أيهم أقرب- بدل من واو يبتغون. أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله تعالى الوسيلة، فكيف بغير الأقرب! { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} كسائر العباد. فكيف تزعمون أنهم آلهة؟!«
وقال البيضاوي في تفسير الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة التوبة؛ »{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} فيما لايرضاه {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} أي في دين الله نيةً وقولاً وعملاً« أبو سعيد ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
ومنهم أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة: »{وَابْتَغُوا إِلَيْهَ الْوَسِيلَةَ} هي كل ما يُتوسّل به، أي يُقترب من قرابة أو صنيعة، أو غير ذلك، فاستُعيرت لما يُتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات.«
وقال في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء: »{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } يعني أنّ آلهتهم أؤلئك يبتغون الوسيلة، وهي القربة إلى الله عز وجل. (أَيّهُمْ) بدل من واو يبتغون. و(أي) موصولة. أي يبتغي من هو
أقرب منهم الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب! أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون. فكأنه قيل: يحرصون أيّهم يكون أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:(66/96)
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ.} في إيمانهم دون المنافقين؛ أو مع الّذين لم يتخلّفوا؛ أو مع الّذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً. والآية تدلّ على أن الإجماع حجّة، لأنّه أمر بالكون مع الصادقين. فلزم قبول قولهم« أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، مدارك التنزيل و حقائق التأويل.
ومنهم علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم الشحي المعروف بالخازن.
قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ} أي خافوا الله بترك المنهيات؛ {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} اطلبوا إليه القرب بطاعته والعمل بما يرضى وإنما قلنا ذلك، لأنّ مجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما. أحد النوعين ترك المنهيات، وإليه الإشارة بقوله -اِتَّقُوا اللهَ-؛ والثاني التقرب إلى الله بالطاعات. وإليه الإشارة بقوله -وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ- والوسيلة فعيلة من وسل إليه إذا تقرّب إليه ومنه قول الشاعر:«
»"إن الرجال لهم إليك وسيلة" أي قربة. وقيل معنى الوسيلة المحبّة. أي تحبّبوا إلى الله عزّ وجلّ.«
وقال الخازن في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء:(66/97)
»قال تعالى: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ} أي الّذين يدعونهم المشركون آلهة: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} أي القربةَ والدرجةَ العليا. قال ابن عباس: هم عيسى، وأمه، وعزير، والملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم. وقال عبد الله ابن مسعود: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ، ويعلم الإنس بذلك فتمسّكوا بعبادتهم. فعيّرهم الله وأنزل هذه الآية. وقوله تعالى { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } معناه ينظرون أيّهم أقرب إلى الله، فيتوسلون به. وقيل أيّهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرّب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة.«
وقال المصنف في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:
»قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهََ} يعني في مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم. { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } يعني مع من صدّق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الّذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو« علاء الدين على محمّد بن إبراهيم الشحي المعروف بالخازن، لُباب التأويل ومعاني التنزيل.
ومن مشاهير المفسرين المعوّل عليهم أبي الفداء عماد الدين الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير؛ قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه. وهي إذا قرنت بالطاعة، كان المراد بها الإنكفاف عن المحارم وترك المنهيات. وقد قال بعدها: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة. وكذا قال مجاهد، وأبو وائل، والحسن وقتادة، وعبد الله بن كثير، والسديّ وابن زيد.«(66/98)
قال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: {أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} وهذا الّذي قاله هؤلاء الأئمّة لا خلاف بين المفسرين فيه وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر:
»إذا غفل الواشون عُدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل.«
»والوسيلة: هي الّتي يُتوصل بها إلى تحصيل المقصود. والوسيلة أيضًا عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.«
وقال ابن كثير في تفسير الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء:
»عن ابن مسعود في قوله: { أُؤلَئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...} قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ، فأسلم الجنيّون والإنس الّذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية.«
قال المصنّف في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة بعد أن نقل حديثًا مطوّلاً عن الإمام أحمد مرفوعًا من طرف كعب بن مالك الّذي نزلت فيه ومن معه الآية {وَعَلَى الثَلاَثَةِ الّذينَ خُلِّفُوا...إلخ } قال عبد الله ابن عمر: »(اِتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) مع محمّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه« أبو الفداء عماد الدين الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم.
ومن علماء التفسير أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب بن محمّد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الدرجة الرفيعة. ويقال اطلبوا إليه القرب في الدرجات، والأعمال الصالحات.«
وقال في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:(66/99)
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ } أطيعوا الله فيما أمركم { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } مع أبي بكر وعمر وأصحابهما في الجلوس والخروج بالجهاد« أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب بن محمّد بن إبراهيم الشيرازي الفيروزآبادي، تنوير المقباس في تفسير ابن عباس.
ومن مشاهير علماء الترك في فن التفسير محمّد بن محمّد بن مصطفى المعروف بابي السعود العمادي قال في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} لَمَّا ذُكر عِظَمُ شان القتل والفساد وبُيِّنَ حكمُهما، وأشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته، أمر المؤمنين بأن يتّقوه تعالى في كلّ ما يأتون وما يذرون بترك ما يجب اتّقاؤه من المعاصي الّتي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد، وبفعل الطاعات الّتي من زمرتها السعي في إحياء النفوس، ودفع الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. "وابتغوا" أي اطلبوا لأنفسكم "إليه" أي إلى ثوابه والزلفى منه، "الوسيلة" هي فعيلة بمعنى مايُتوسل به ويُتقرّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات، وترك المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرّب إليه بشيءٍ....إلخ«
وقال العماديُّ في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا } خطاب عام يندرج فيه التائبون اندراجًا أوّليًّا. وقيل لمن تخلّف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوك خاصّة -اتقوا الله-في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر المغازي دخولاً أوَّليًّا؛ {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً؛ أو في كل شأن من الشؤون« أبو السعود العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.(66/100)
ومن مصادر التفسير المعتمدة عند عامّة المسلمين وحتّى عند النقشبنديّة أنفسِهِمْ، تفسير الجلالين للإمامين الجليلين، جلال الدين محمّد بن أحمد المحلّي، وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. جاء في تفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة بإيجاز وهذا نصّه:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} أي خافوا عقابه بأن تطيعوه -وابتغوا- اطلبوا -إليه الوسيلة-ما يقربكم إليه من طاعته.«
أما الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة فقد جاء تفسيرها بالنص التالي:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله َ} بترك معاصيه { وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق« جلال الدين المحلّي و جلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين.
وقد جاء في تفسير هيئة من الشيعة الإماميّة تحت إشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي نحو ما قال المفسّرون من أهل السنّة في تفسير الآيتين المذكورتين. وهذا ما تيسّر تعريبه من عباراتهم -باللّغة الفارسيّة- لتفسير الآية الخامسة والثلاثين من سورة المائدة :
»{يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي اتّخذوا وسيلةً للتّقرّب إلى الله واختاروها. (...) إن -الوسيلة- في الآية المذكورة أعلاه لها معان كثيرة وواسعة. فإنّ كلّ سعي باعث للتّقرّب إلى الباب المقدّس للرّبّ تشمله الوسيلة. أمّا الأهمّ منه فهو الإيمان بالله ورسوله الأكرم، وكذلك كلّ عمل جميل وخير.«
وقالوا في تفسير الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة التوبة بإيجاز:
»{ يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } اجتنبوا عن مخالفة أمر الله وكونوا مع الصادقين« تفسير نمونه، بإشراف آية الله ناصر مكارم شيرازي.
ثم ورد في تفسيرهم تفصيلٌ عن أهل الصدق، وأنّه يجب ملازمتهم.(66/101)
كانت هذه نُبذة من تفسير العلماء البارزين في هذا الفنّ من عناصر مختلفة. وعلى الرغم من اختلاف لغاتهم الأصلية، ومذاهبهم ومواطنهم، فقد أجمعوا على أنّ الوسيلة الواردة في سورتي المائدة والإسراء هي كلّ عمل يقرّب العبدَ إلى الله من فعل الخيرات وترك المعاصي. ولم يربط أحد منهم ولا من غيرهم من علماء التفسير، ولا من علماء الحديث بين كلمة الوسيلة وبين مفهوم الرابطة المعهودة بأدنى صلة، كما هي الحال بالنسبة لقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ } الوارد في سورة التوبة. كذلك جاء في تفسير العلماء له على نقيضِ ما جاء في تأويلات النقشبنديّين الّذين بذلوا جهودًا بالغة ليمدّوا الجسر بين رابطتهم المستوحاة من البرهمية، وبين آيات الله بطرق ملتوية يستحيل أن يوافق عليها أهل العلم والبصيرة.
إنّ الخلافَ الذي أثبَتَهُ الباحثونَ بين الصوفية وعلماءِ الإسلامِ قديمًا وحديثًا، في الحقيقةِ لم يقتصر على إمورٍ هامشيةٍ كما يظنُّهُ البعضُ؛ بل تجاوز إلى حدودٍ بعيدةٍ في جميع الوجهاتِ بدءًا من النّظرِ في ذات الله تعالى وانسياقًا إلى التعبير عن أسرار الكونِ والحياةِ وإلى تأويل آيات القرآن من محكماتها ومتشابهاتها خاصّة، كما سبق في تفسيسر الآيتين المذكورتين. فقد ابتدعوا طريقةً خاصّة في تفسير القرآنِ سُمِّيَ بالتفسير الإشاريِّ، فاتّسعوا بذلك في تأويل الآياتِ إلى حدود خرجوا بها عن إجماع أئمّةِ التفسير. ذلك ليستدلّوا بها على صحّةِ ما اختلقوه من معتقداتٍ شاذّةٍ، وما استقوه من مستنقعات الأديان من أفكارٍ وفلسفاتٍ غريبةٍ كلّما أشارت لهم أنفسهم؛ كقراءتهم »كُلُّ شَيْءٍ« -بالرفعِ- في قولِهِ تعالى »إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ«، ليستدلّوا بذلك على صحّةِ فكرةِ »وحدة الوجود«، وليقولوا »إنّ اللهَ هو كلُّ شيءٍ في هذا الكونِ« .(66/102)
لقد جرت أقلام طائفة من متأخّري هذه الفرقة في إثبات الرابطة وهم فريقان: فريق منهم أفردوا الرابطة وحدها في عُجالاتٍ، دون غيرها من مباحثِ هذه النحلةِ؛ وفريق منهم تناولوا الرابطة كشطرٍ من الموضوع، وتطرّقوا إلى ما بدا لهم من شتّى مسائل التصوف على اختلافها.
***
من أهمّ ما كُتِبَ في مسألة الرابطة
أمّا الّذين أفردوا الرابطةَ واقتصروا عليها، فقد عثرنا لهم على تسعِ عُجالاتٍ.
منها، رسالة في تحقيق الرابطة. للإطلاع على المصادر الّتي نُقِلَتْ هذه الرسالة ضمنها، راجع الهامش رقم/83.
لقد سبق فيما ذكرنا أنّ هذه الرسالة خطاب كتبها خالد البغداديّ باللّغة العربية وبعثها إلى أحد مريديه في إسطنبول إذا صحّ الإسناد. وهو السيد محمّد أسعد أفندي نقيب الأشراف ورئيس هيئة المعارف يومئذ، ومؤسّس مكتبة آياصوفيا.
فقد أثارَ المؤلّفُ مشكلةَ الرابطةِ بهذه الرسالة على حين لم يكن لها شأن وذكر في أوساط الصوفيّة حتّى أيّامه، وإنْ ورد شيء بسيط من هذه المسألة في الرسالة التاجية لتاج الدين بن زكريا الهنديّ وعلى الرغم من أنّ المؤلّف لم يزد شيئًا في تعريف الرابطة على ما جاء في التاجية إلاّ أنّه قد بذل جهدًا بالغًا في إثباتها بنقلٍ عشوائيٍّ من أقوال مَنْ سبق من الرجال من أمثال الزمخشري، والإمام أكمل الدين، والغزاليّ، والسهروردي، والشهاب بن حجر، والجلال السيوطي، وغيرهم. فقد اختار من أقوال هؤلاء ما أعجبه، واستدلّ بها على شرعية الرابطة دون أن تكون بينهما أدنى مناسبة أو قرينة. مما يدل ذلك على خبطه في عمياء، كما يثير الشكّ في أنّ هذه الرسالة قد تكون من صنع من أسندها إلى خالد البغداديّ لأغراض لا نعلم حقيقتها؛ فدسّ فيها من أباطيله مالا يُستساغ لأمثال البغداديّ لأنه لم يكن جاهلا إلى هذا الدرك من العمى والضلال.(66/103)
وعلى الرغم من أنّ المؤلّف لم يحدّد شيئًا كشروطٍ للرّابطة ولا ذكر شيئًا لأداء صورتها في هذه الرسالة، فقد اختلقها مَنْ جاء بعده من خلفائه.
من جملة ما دوّنه النقشبنديّون في هذا الموضوع، كتاب »الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات والرابطة«. كتبه الحسينُ الدوسريّ. قال في مستهلّه:
»أمّا بعد، فهذه الرسالة، قد ألّفتُها سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف. ووريتُ نسبتَها إلى غيري لِغرضٍ قَصَدْتُهُ، والأعمال بالنيات«
يعترف الدوسريّ من خلال هذه الكلمات بحقيقةٍ تبوح بحقائق أخرى رهيبة عن هذه الطائفة وأغراضها. إذ أنّ من وقع نظره على هذه العبارات، فقرأها بوعيٍ، لابدّ وأنْ يتساءل في نفسه عما أجبر الدوسريّ حتّى استباح الكذب لنفسه فاسند هذه الرسالة إلى غيره. وهو الّذي ألّفها بإقراره.
نعم ما الّذي أجبره على هذا التزوير، حتّى تنكّرَ وورى نسبةَ كتابه إلى غيرهِ، مع أنّه من أقدمِ خُلفاء خالد البغداديّ الّذي يعظّمهم النقشبنديّون تعظيم الأنبياء والمرسلين ويعدّونهم من أصحاب الفضائل والأخلاق السامية والصدق والأمانة والبركة والكرامات!
أم تُبَرْهِنُ هذه الحقيقةُ الدامغةُ في واقع الأمر، أنّ الرابطة لم تكن شيئًا معهودًا في المجتمع الإسلامي حتّى جاء بها خالد من ديار الهند؛ فبدأ هو وخلفاؤه يجسّون النبض حول أحاسيس المسلمين، ويتحرّكون بحيطة، وبخطوات مرحلية لتطبيع المشاعر وترويض النفوس، محاذرين من أن يتعرّضوا لردودٍ عنيفةٍ.(66/104)
رتّب الدوسريّ كتابه هذا على سبعة أبواب، وخصّ منها الباب الثالث والرابع والخامس والسادس بالرابطة. ثم تَفَلْسَفَ وعبث وهاجم وحاول في شرح ما هو بصدده راعنًا فيها من منطلق إنسان متطرّفٍ ومُرْتَبِكٍ ومغتاظ؛ كأنه يصرخ، ويسبّ المعارضين لمشربه، مما تذبذب من جرّائهِ كلامُهُ، وتفرّق مرامُهُ. كقوله »أقول لم يقل أحد من أهل التصوف بوجوب الرابطة ولا باستحبابها لِذَاتِهَا« حسين الدوسريّ، الرحمة الهابطة في ذكر اسم الذات و الرابطة، بهامش معرّب المكتوبات للرّبّاني: 1/225. Fazilet Publishing-?stanbul
فجاء كلامه تكذيبًا واضحًا لِمَا زعم مصطفى فوزي في كتابه »إثبات المسالك في رابط السالك«: »أنّ الرابطة فريضة من جملة الفرائض الّتي يبلغ عددها أربعًا وخمسين فريضة.«
ثم قال الدوسريّ: »نحن لا نستدلّ للرّابطة من دليل. ودليل مَنْ قلّدناه من العلماء كاف واف بالمقصود. فالإنكار متوجّه إلى الجنيد والجيليّ والدسوقي ونحوهم الّذين قرّروا الرابطة بكيفيتها« المصدر السابق، 1/129.
لقد انطلق الدوسريّ بهذه الكلمات من منطق رخيص »ليصطاد عصفورين بطلقة واحدة« كما قيل في المثل التركيّ. ذلك ليُثير المعترضَ الغبيَّ فيدفعه إلى مستنقعات الصوفيّة حتّى يتمرّغ في أوحالها فيتباحث عما إذا سبق من الجنيد والجيليّ والدسوقي أنْ تكلَّموا بشيء في رابطة النقشبنديّة ثم يعود صفر اليدين.
إنّ مثل هذه المحاولة، لا يغني شيئًا عن الشاك في أمرهم، إلاّ الخسارة في العمر. لأنّ الدوسريّ لو كان واثقًا من نفسه لما غادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها من أقوال أولئك الثلاثة ونقلها؛ مع أنّها لا تقوم مقام دليل على بِدْعِيَّةِ الرابة إطلاقًا.
وفي الباب الرابع قال الدوسريّ: »إنّ الرابطة من جملة الوسائل الموصلة إلى الحضور في عبادة الله، والوسائل لها حكم المقاصد.«
ثم بعد إسهاب وإطناب في امتداح الرابطة أتى بإجابة على سؤال مفروض. وهو قوله:(66/105)
»فانْ قال الأخ المنكر ـ تاب الله عليه ـ: قد عرفنا على هذا القول، أنّ الرابطة تعلّق القلب. وهذا القول يمنعه. والحبّ في الله واجب ومحبّة الصالحين ثابتة؛ لكن من أين لكم أنَّ استحضارَ صورةِ رجلِ في الذهن ولو كان من الصالحين تحصل به هذه المطالب كلّها، وأنّ استحضاركم بسبب تعلّق القلب، وأنّه جائز؟«
»والجواب عن هذا من وجوه: الأوّل قولك:«
»ـ من أين لكم استحضار صورة رجل في الذهن تحصل به هذه المطالب كلّها؟«
»أقول: إنّ هذه المطالب تحصل لنا بما ذكرناه، كما حصلَتْ لك أضدادُها باستغراقك في معبودك الّذي نبّهناك عليه. ولكنّها تعمى القلوب الّتي في الصدور.«
هكذا يظهر ما في ضمير الدوسريّ فتتطاير من كلماته شرارات الغضب على كلّ من يتساءل عن رابطته، بإزاء ما في أسلوبه من مجازفةٍ وتكلّفٍ وعُنجهيةٍ وعجرفة وتمييع. فيجعل من هذه الرسالة لعنةً يتطاول بها إلى كل من يشكّ في علاقة الرابطة بالإسلام، أو ربما تعود عليه الرسالة نفسُها نقمةً من كلّ من يُلقى نظرةً فيها.
***
ومن هذه العُجالات، وُرَيْقَاتٌ عنوانها »تبصرة الفاصلين عن أصول الواصلين« هي شبه رسالة منضمّة مع لفيف آخر من أمثالها لنفس الشخص/ طبعت في إسطنبول. وفي نهاية بعض هذه الوريقات أنها كتبت عام 1288-1289 هـ. سوّدها رجل لم يَعُدْ قدره’، يدلّ على ذلك ما تبعثرت على هذه الوريقات من عجمةٍ وهفوةٍ وخلطٍ وهَرْجٍ واضطراب.
تخبّط كاتبها التعيس ـ سليمان زهدي ـ وتلجلج فيما قذف على هذه الصحف من كلمات لا تَرَابُطَ بينها ولا نسق، واستهلّ المسكين بالعتاب والنكير على الطاعن في الرابطة. وربما تخيّل خصمًا لا وجود له في الحقيقة. كلُّ ذلك يدلّ على ما ابتليت هذه الطائفة من رعب وفزع وذعر وارتباك. وما استولى عليهم من خوف يتوقعون بسببه في كلّ لحظة أن يداهم المسلمون وهم مستغرقون في رابطتهم!(66/106)
نقل الرجل قسطًا كبيرًا من رسالة الرابطة للبغداديّ. ثم نقل الآيتين المذكورتين وهو يحاول مستميتًا لإثبات الرابطة على أساسهما بتعبيره الّذي نسجه من تركيبات متنافرة، وسياقٍ لا يتفق مع قواعد اللّغة العربية وآدابها، فجاءت كلماتُهُ ركيكةً مُعقَّدةً حالتْ دون ظهور ما هو بصدده لغرابة الإستعمال؛ وأضفىَ أسلوبُهُ الوعرُ غموضًا على كلامه، مع غلظته وقسوته في للّهجهِ فتحوّلت إلى حجةٍ قامت عليه فدلّتْ على ما هو أهله.
***
ومن هذه الرسائل الغريبة أيضًا، كتابٌ منظومٌ باللّغةِ التركيةِ اسمه »إثبات المسالك في رابطة السالك« هي رسالة في سبعين صفحة، ألفاظها تركية، مطبوعة بالحروف العربية سنة 1324 هـ. يشتمل على 1123 بيتا من الرمل. كتبه شاعر متصوّف من جماعة أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ في إسطنبول؛ اسمه مصطفى فوزي راجع ترجمته في الكتاب الآتي ذكره:Dr. ?rfan Gündüz, Gümü?hanevî Ahmed Ziyaüddin, Hayat? ve Eserleri-
Postscript no.I Seha Publishing Istanbul-1994 ورتّبه على ثمانية أبواب بعد توطئة وجيزة استهلّ بها.
يمتاز هذا المتصوّف بدفاعه الشديد عن الرابطة وبتأكيده على أنّها من جملة الفرائض. زعم ذلك في البيت الثامن من كلماته الواردة ضمن الباب السادس تحت عنوان »بيان رابطة المرشد« وانفرد برأيه هذا، عن جميع النقشبنديّين؛ بحيث لم يتصدّ أحد من رجال الطائفة لا قبله ولا بعده بمثل هذا الدعوى.(66/107)
ينتمي هذا الرجل إلى أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ، كما ذكرنا آنفا. وهو من الطبقة الثانية بعده. أخذ العهد من حسن حلمي بن عبد الله القسطموني المصدر السابق، ص/ 144، 145. كذلك راجع إرغام المريد للكوثري ص/ 100. الّذي هو من خلفاء الْكُمُوشْخَانَوِيّ. فانخرط بذلك في سلك الخالدييّن. ولا بد هنا من التنبيه على أنّ حسن حلمي المذكور، ليس هو حسن حلمي بن علي، والد الشيخ زاهد الكوثريّ؛ علمًا بأنّ كليهما منتسبان إلى أحمد ضياء الدين الْكُمُوشْخَانَوِيّ. وقد يلتبس على بعض الباحثين اسمُ أحدهما بالآخر.
للشّاعر مصطفى فوزي صحبة مع الشيخ زاهد الكوثريّ الشهير بتصانيفه وبلهجته القاسية وتطاوله على العلماء.
***
ومن هذه العجلات رسالة أعّدها رجل اسمه عبد الحكيم الأرواسيّ كتبها باللّغة التركية عام 1342 هـ. سمّاها "رابطهء شريفه رسالسي" وهي مطبوعة بالحروف العربية. نسخة منها موجودة في مكتبة بايزيد. إسطنبول-1342 هـ.، تحت رقم/243435. طُبعت أخيرًا بالحروف اللاّتينيّة، بعد أن نقلها الشاعر نجيب فاضل قيصاكوراك، إلى اللهجة التركية المعاصرة. وهو ثاني من ألمّ بآدابِ الرابطة وصورةِ أدائِها بعد محمّد أمين الكرديّ. ثمّ شرحها، وخلط ما خلط في طي هذه الرسالة أكثر من كلّ مَنْ سبقه ومن جاء بعده.(66/108)
قال الأرواسيّ في مستهلّ رسالته بعد ما أورد الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ} قال بالحرف الواحد: »الرابطة طريق مستقل للوصول إلى الله« ثم قال على سبيل التعريف لها: »الرابطة هي ربط القلب بإنسانٍ كاملٍ مكمِّلٍ واصلٍ إلى مقام المشاهدة متحقِّقٍ بالصفات الإلهيّة الذاتيّة. وهي عبارة عن حفظ صورة ذلك الشخص في خزانة الخيال بحضوره وغيابه« التزمنا الترجمة الحرفية في تعريب هذه الألفاظ. وهذا نصّها الأصليُّ باللّغة التركية: "رابطه: صفات إلهيهء ذاتيه إله متحقّق، مقام مشاهده يه واصل بر كامل و مكمل إله ربط قلب أيليوب، حضور و غيابنده أو ذاتك صورتني خزانهء خيالده حفظ إيتمكدن عبارتدر." ص/ 14.
وفي رسالة بعثها إلى أحد مريديه، اسمه سعيد، اهتمّ الأرواسيّ بمسألة الرابطة فيها اهتمامًا بالغًا. فعرّفها، وشرح أركانَها، وصورةَ أدائِها، وفوائدَها؛ وقارنها مع الذكر، وحدّد مدَّتَها بِرُبْعِ ساعةٍ من الزمن. المصدر السابق، ص/ 11. بينما يقول الشيخ سَيْدَا الجزري: »لاحدّ لذلك. وأقلّه خمس دقيقات« سعيد سيدا الجزري، الضابطة في الرابطة. ص/ 6. وردت هذه الكلمات في رسالة للجزريِّ سماها »الضابطة في الرابطة« كما سيأتي بيانها.(66/109)
ومن أهمّ ما ورد في رسالة الرابطة للأرواسي أقوال في رابطة المريد للشّيخ الميّت. لأنّ هذه الطائفة تعتقد »أنّ الشيخ إذا مات أصبح طليقًا من قيود الجسد، كالسيف المسلول من غمده. وبذلك ازداد تأثيرًا، وازداد نفعًا للمريد« للمزيد من المعرفة حول هذا المعتقد، راجع موضوع: الولاية، والوليّ، وتصرّف الميّت. من الفصل الثالث وفي هذا الباب نقل الأرواسيّ عن أبي الحسن الشاذلّي، راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 2/467. بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته. راجع أيضًا: التصوف، عبد القادر السندي ص/ 327-409. مكتبة ابن القيم، المدينة المنوّرة-1960م. يستدلّ بأقواله. عبد الحكيم الأرواسيّ، رابطهء شريفه رسالسي ص/ 19. مكتبة بايزيد، إسطنبول-1342 هـ. رقم/243435 ويحاول إثباتَ الرابطة بها.
***
ومن هذه الرسائل عُجالةٌ لأحدِ المتأخرين من شيوخ الأكراد اسمه سعيد بن عمر الزنجاني. اشتهر باسم الشيخ سَيْدَا الجزري نسبةً إلى جزيرة ابن عمر.
إنّه كتب هذه العُجالة إجابةً على سؤالٍ من شخص اسمه الملاّ محمّد شريف، يستفسره الرابطة. وهذا دليل يؤكّد على أنّ كثيرًا من الملالي (وهم علماء الأكراد مَلاَليِ: جمعُ مَلاَّ، وهي صفةٌ تُطْلَقُ علىَ رجال الدينِ في اللغة الكردية والفارسيةِ بمعنى الشّيخ في اللغة العربية.) لا يزالون يجهلون أمرَ الرابطة بل ويشكّون فيها؛ وأن هذه الهرطقة لا يُقرّها ولا يعتدّ بها أحد سوى النقشبنديّين؛ وأن كثيًرا من الناس يسمعونها لأوّلِ مرةٍ كما نفهم من استفسار الملاّ محمّد شريف، على الرغم من رعونة الجزريِّ في محاولة إقناعه إذ يقول:
»اعلم يا أخي أسعدك الله، أنّ أمرَ الرابطة الشريفة مشهور وسرَّها في الزبر مذكور ومسطور. ولكن نذكر نُبذة من ذلك اطمئنانًا للقلب، واستئصالاً للرّيب، ناقلين من كتاب نور الهداية والعرفان«(66/110)
أما كتاب نور الهداية والعرفان، هذا الّذي استقى منه الجزريّ، فقد ألّفه محمّد أسعد صاحب، وهو ابن أخي خالد البغداديّ كتبه ردًا على محمّد صديق خان بن الحسن البُخَاريّ، وقد تطرق الباحث العراقيّ عباس العزّاويّ إلى هذه المسألة فقال:
»هاجم السيد محمّد صدّيق خان بن الحسن الحسيني البُخَاريّ أمير مملكة بهوبال في الهند (الرابطة والتوجه). فتصدّى للرّد عليه وعلى أمثاله محمّد أسعد صاحب ذاده في كتابه -نور الهداية والعرفان في سر الرابطة والتوجه وختم الخواجكان. أتم تأليفه في دمشق، في أول المحرّم سنة 1305 هـ. وتمّ طبعه في المطبعة العلميّة بالقاهرة في شهر رمضان سنة 1311 هـ« عباس العزّاويّ، مولانا خالد النقشبنديّ، مجلة المجمع العلمي الكرديّ، عدد 1. ص/ 717. بغداد
كانت هذه كلمات عبّاس العزّاويّ حول الكتاب المذكور. بيد أنّ لنا مع هذا الكتاب قصّة طويلة نختصرها لتكون عبرة لأُولي الألباب.
فخلاصتها: أن دراسة هذه البدعة لمّا اقتضتْ مراجعةَ عددٍ من المصادر المتوفِّرةِ الّتي لها علاقة بموضوعنا، وعثرنا على اسم هذا الكتاب في مواطن كثيرة من كتب النقشبنديّة كما كنّا نسمعه أحيانًا من خلال حديثهم، قمنا بالسعي في طلبه سعيًا حثيثًا؛ ولكن لم نعثر حتّى على نسخة واحدة منها، على الرغم من تباحثنا عَبْرَ سلسلة المكتبات الرسمية والخاصة بكافة أنحاء تركيا، وما أكثرها!(66/111)
ثم لجأنا في آخر المطاف إلى الشيخ عمر الفاروق أفندي، نجل الشيخ سَيْدَا الجزري الّذي استقى من الكتاب المذكور. فلم يُجْدِ هذا الاتصال أيضًا بنتيجة؛ كما لم نَجِدْ تفسيرًا للاستغراب الّذي أحاط بمشاعرنا أمام هذا اللُّغْز، إلاّ ما قيل: أن مؤلّفَ هذا الكتاب مرفوضٌ عند طائفةٍ من النقشبنديّين في تركيا. فما عثروا على شيء من آثاره إلا محوه وأفنوه بسرعة. ذلك »لأنّه كان متميّزا عن سائر شيوخ هذه الطائفة بتفكيره العلميّ وأسلوبه العصراني.« وهذا يتعارض مع العقلية النقشبنديّة الجامدة!
في الحقيقة عثرنا على سلسلة من مقالاته الّتي نُشِرَتْ في جريدة الرأي العام، وطُبِعَتْ سنة 1334 هـ. مقالات أسعد صاحب، مكتبة السليمانية خزانة جلال أوكتان رقم/292 إسطنبول. يتطرّق في هذه المقالات إلى موضوعاتٍ شتّى، لا يكاد القارئ يشعر بأدنى أمارة بين ألفاظه أنَّ كاتبَ هذه المقالاتِ شيخٌ نقشبنديٌّ، إلا سطوره الأخيرة الّتي ختم بها كلامَهُ؛ وهي قوله: »خادم سجّادة طريقة السادة النقشبنديّة، والقائم مقام الحضرة الخالدية المجددية بدمشق الشام: اسعد صاحب« راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى: 3/129، 1/351. بيروت - 1993 وكذلك فيه أسماء مصادر أخرى وردت فيها ترجمته.
ولكنّ من جانب آخر، تُنبئ هذه الكلمات بصورة جليّة عن مدى إعجاب هذا الرجل بنفسه وتعاظمه وتلوّنه في لباس من التواضع! وربما السبب الّذي أثار المنافسة بينه وبين بقية روؤس النقشبنديّة هو موقفه هذا؛ كما جاء في دراسةٍ للباحث David Dean Commins أنه طرفٌ في هذه المنافسة. David Dean Commins, ?slamic Reform Politic And Social Change in Late Ottoman Syria / New York- 1990.......(66/112)
كتاب »نور الهداية والعرفان«، تسود على أسلوبه محاولة جدلية لإثبات الرابطة، وهذا يخالف مبادئ الصوفيّة الّتي تقوم على التقليد المحض والتطّفل والاستسلام للرّوحانيين السابقين، والتقيّد بمقولاتهم – مع ما فيه من مخالفةٍ صريحةٍ للكتاب والسنّة- علمًا بأنّ النقشبنديّين وإن كانوا يهاجمون من لا يوافقهم، إلا أنّهم يحذِّرون الطريقة الجدلية في مناظرة الخصوم والمعارضين أشدّ الحذر، خوفًا من أن تفتضح أسرارهم بتطوّر الجدال. وإلاّ فانّ تركيا في الحقيقة هي جنّة النقشبنديّين. لهم مؤسّسات إعلامية ضخمة في هذا البلد، تقوم بنشر وتوزيع كمياتٍ عظيمةٍ من كتب الطائفة ومجلاتِها وصحفِها، وبثِّ عقائدِها، والدفاعِ عن سمعتها. لذا لا يجوز عقلاً أن يرفض النقشبنديّون كتابًا يعاضدهم ويؤكّد على صحةّ دعواهم، لولا أسبابٌ لم نتأكد من صِدْقِهَا، غير ما نقلناه منها.
وكلّ هذه، في الحقيقة ما هي إلاّ مؤشّرات تنبئ عمّا تتوارى به الطائفة النقشبنديّة من غموض وكتمان، وما تُضْمِر ضدّ غيرها من أسرار وأفكار لاَ أمان من عواقبها!
ينقل الجزريّ ما ينقل من هذا الكاتب ومن رسالةٍ للبغداديِّ في إثبات الرابطة حتّى ينتهي من عجالته »الضابطة في الرابطة« على طريقة أسلافه من الحشوية؛ ولا يأتي بشيء من تلقاء نفسه إلاّ كلمات في سطور معدودة. وبذلك يفتح بابًا للشّك على نفسه، بالرغم من غزارةِ علمهِ بالعقائدِ وباعِهِ الطويلِ في الفقهِ الإسلاميِّ ومعرفتِهِ الجامعةِ بالآدابِ، وما دوّن فيها ودَرَسَ ودَرَّسَ طوال عمره.
***(66/113)
ومن هذه الرسائل، عجالةٌ أعدّها باللّغة التركية أحدُ أساتذة كلية الإلهيات كلمة "كليّة الإلهيّات" تسمية ماكرة أطلقها حكّام النظام العلماني على كليات العلوم الإسلامية في جامعات تركيا. و هي حلقة من سلسلة المؤامرات الّتي يتعمّدها النظام لتحريف القيم الإسلامية وعزل المسلمين الأتراك عن الحركة الإسلامية العالمية وفقًا للخطّة السياسية الّتي رسمها يهود سالونيك. بجامعة مرمرا في إسطنبول، اسمه عرفان جندوز. فسّماها: Tasavvufi Bir Terim Olarak Râbita أي، الرابطةُ كمصطلحٍ تصوفيٍّ. إلاّ أنّها غير مطبوعة. نسختها الأصلية موجودة في خزانتي.
حاول المؤلّف فيها إثباتَ شرعية الرابطة بمبرّرات منطقية وبأسلوب معاصر. فاستهل بكلام مفاده:
»إنّ في هذا الموضوع شيئًا يظهر كخاصيّةٍ مشتركةٍ بين الثقافات. يجوز انطلاقًا منها ـ أن يقال: إنّ للمسلمين أيضًا طريقةً وأصولاً في هذا الباب، وأنّهم رتّبوا لها نظامًا على هيئة الرابطة« التزمنا الترجمة الحرفية في تعريب هذا المقطع من كلام الدكتور عرفان جندوز. وهذا نصّه باللّغة التركية:
Kültürleraras? ortak bir ?zellik gibi g?züken bu konuda müslümanlar?n da bir yolu ve bir usûlü bulundu?u ve bunu da rab?ta ?eklinde sistemle?tirdikleri s?ylenebilir.(66/114)
يتبيّن من هذه المحاولة بوضوح، أن الْمؤلّفَ يُقَرِّبُ الرابطة إلى عقل الإنسان المعاصر في غلافٍ جديدٍ. وذلك على حدّ قوله: »هي الخاصيّة المشتركة بين الثقافات المتباينة.« وكأنّه يقول: مهما اختلف الناس في عقائدهم فانّهم لا محالة يلتقون في قِيَمٍ متشابهة ويشتركون في أسس متجانسة. فالرابطة إذن هي معدودة من تلك الْقِيَمِ الإنسانيةِ المشتركة، يلتقي بها المسلمون مع بقية المجتمعات الّتي لا تدين بلإسلام! يظهرمن هذه المحاولة بصراحةٍ أنّ المؤلف يرى ما يدعو المسلمين إلى المشاركة مع غير المسلمين في بعض مُعْتَقَداتِهم، ويعدّها من القِيَم الإنسانية المشتركة، وإن كان ذلك خروجًا على الإسلام
ويسترسل المؤلّف على نحو هذا الأسلوب، غير أنّه يعود إلى ضميره برهةً، فيأبى إلاّ أن يعترف بأن »المصادر الّتي تُنْبِئُ عن الرابطة إنّما هي من صنيع الأيدي في الماضي القريب جدًّا«.
انّ هذا الاعتراف لهو أقوى البراهين الّتي تقوم على المتطرّفين من رجال هذه الطريقة الّذين لا يتورّعون عن الاستدلال بكتاب الله وسنّة رسوله على أصالة هذه البدعة ليدُسّوها في الإسلام!
***
وآخر ما صدر في موضوع الرابطة، كتابٌ أعدّهُ أربعةُ أشخاصٍ من بُسطاء النقشبنديّين بالتعاون فيما بينهم. كتبوه بالحروف اللاتينية لأنّهم يجهلون اللّغة العربية، وطبعوه تحت عنوان: Kur’an ve Sünnet I????nda Râb?ta أي »الرابطة والتوسل في ضوء القرآن والسنّة« إلاّ أنّه يضمّ ركامًا من الهفوات والتفسيرات البائسةِ والتأويلات الدجليةٍ، تمخّض الكتاب عنها في قَتَمَةٍ من الأباطيل. أكثره مُقتَبَسٌ من هَذَيَانَاتِ عددٍ من ملالي المنطقة الكرديّة. فهو بهيئته ليس في الحقيقة إلا خليطًا من سؤر متشيّخي الأكراد، أكثر من أن يوصَف بتأليف مدَوَّن في ضوء الكتاب والسنّة.(66/115)
ومِنْ هَرْفِ هؤلاء المنتحلين صفةَ أهلِ التأليفِ، أنّهم ذكروا الغزاليّ مع أولئك الملالي فأنزلوه إلى دركهم, وعدّوا أبا علي الفارمديّ من النقشبنديّين. مع أنه قد مات قبل تأسيس هذه الطريقة بثلاثمائة عام!
***
أمّا الّذين تناولوا الرابطة كشطرٍ من تفاصيل آداب الطريقة النقشبنديّة. فقد عثرنا على نحو ثلاثين رسالة لهم، أقدمها كتاب الرشحات. ضبطه: "رشحات عين الحيات". ألّفه -باللّغة الفارسيّة- علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي.(1462-1533م.)؛ ترجمه إلى اللّغة التركيّ –اللهجة العثمانيّة- قاضي مدينة إزمير في عهد السلطان مراد بن السلطان سليم العثمانيّ. واسم المترجم: محمّد المعروف بن محمّد الشريف العباسي. تمّت الترجمة عام 993 هـ. وقد طبع هذا الكتاب بالحروف العربية في إسطنبول عام 1291هـ. وهو مذكور في كشف الظنون 1/903. و الرشحات كتاب تقدّسه النقشبنديّة. وهو أوّل كتاب دوّنوه في آدابهم. كما هو المصدر الأساسي الّذي تعتمد عليه هذه الديانة الصوفيّة. ألّفه علي بن الحسين الواعظ الكاشفي البيهقي إلاّ أنّ الرابطة لا تَعْدو في هذا الكتاب عن وصيّةٍ بسيطةٍ جدًّا؛ أوصى بها عبيدُ الله الأحرارُ، مُؤَلِّفَ الرشحات، كما لا نجد لها تعريفًا ولا تفصيلاً في هذا الكتاب.
ثم تليه من حيث الأقدميّة رسالتان لتاج الدين بن زكريا الهنديّ وقد مر ذكرهما. وكذلك خطاب لأحمد الفاروقيّ السرهنديّ وجّهه إلى شخص اسمه أشرف الكابلي. مرّ ذكره أيضًا بنصّه الكامل. راجع الهامش رقم/93.
أمّا بقيةُ الرسائل المذكورة للفريق الثاني، فانّ كلَّها مسطورةٌ بعد هذه الأربعة. وهي على سبيل الإجمال:
شرح السلسلة المرادية للدرويش أحمد الطربزوني مدوّنة بالعربية. هي رسالة مخطوطة مسجّلة تحت رقم/721 بمكتبة السليمانية-إسطنبول (خزانة كججي ذاده)(66/116)
الرسالة المدنية، كتبها نعمة الله بن عمر، باللّغة العربية أيضًا. وهي ضمنَ مجموعةٍ من مثيلاتها بين دفتين تحت عنوان »الزمرد العنقاء«. نسخة منها موجودة في خزانتي.
ترجمة الرسالة الخالدية المنسوبة إلى خالد البغداديّ. ترجمها إلى اللّغة التركية (باللّهجة العثمانيّة) رجل اسمه شريف أحمد بن علي. لها شروح كثيرة. منها نسخة مسجّلة تحت رقم/278. بمكتبة السليمانية-إسطنبول (خزانة: دوجوملو بابا)لم نقف على أصلٍ لهذه الرسالة على رغم ما يزعمه النقشبنديّون أنّ أصلها مدوّنة باللّغة العربية.
الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة والبهجة الخالدية. كتبها محمّد بن سليمان البغداديّ بالعربية. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. ورد البحث عن هذا الكتاب فبي مصادر عديدة. منها على وجه الخصوص: رسالة ألّفها عباس العزّاويّ بعنون “مولانا خالد النقشبنديّ" وهي مطبوعة ضمن مجلّة المجمع العلمي الكرديّ -العدد الأوّل. بغداد-1973م. تناول المؤلّف الكتاب المذكور في الصفحة رقم: 708. و723 . من هذه الرسالة و الحديقة الندية هي من جملة الكتب الّتي تهتم بطبعِها ونشرِها مؤسّسةٌ ضخمةٌ للنقشبنديّين مركزها في إسطنبول؛ يرأسها عقيد متقاعد مدسوس في صفوفهم من قبل النظام الحاكم.
رسالةٌ في آداب الطريقة النقشبنديّة كتبها بالعربية أحمد خليل البقاعي. وهي أيضًا ضمن مجموعة "الزمرد العنقاء"
صحيفة الصفا لأهل الوفاء. كتبها بالعربية رجل اسمه سليمان زهدي، ولكنه فاشل لجهله بلغة الضاد.
نهجة السالكين وبهجة المُسلكين لنفس الشخص المذكور. وهي وُرَيْقَاتٌ خاليةٌ من القيمة العلمية.
البهجة السنيّة في آداب الطريقة النقشبنديّة، كتبها بالعربية محمّد بن عبد الله الخانيّ. وهو من خلفاء خالد البغداديّ. لها نسخ منتشرة في المكتبات الرسمية والخاصّة.(66/117)
السعادة الأبديّة فيما جاء به النقشبنديّة كتبها بالعربية عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ وقد نُسبتْ هذه الرسالة إلى جدّه محمّد بن عبد الله الخانيّ وذلك خطأ. أصدرت مكتبة الحقيقة هذه الرسالة بطريقة التصوير ضمن مجموعة أخرى من مثيلاتها (وهي الحديقة الندية في الطريقة النقشبنديّة، لمحمد بن سليمان البغداديّ؛ و الحجج البينات في ثبوت الاستعانة بالأموات، لعلي محمّد البلخي؛ ومجامع الحقائق في أصول الحنفية، لشخص غير مشهور اسمه عبد الوهّاب؛ …) ومكتبة الحقيقة هي إحدى المؤسّسات الّتي يديرها عقيد متقاعد من العنصر التركيّ إسمه Hüseyin Hilmi I??k، دسه النظام الحاكم بين صفوف النقشبنديّين لتوجيههم والتمكن من السيطرة عليهم.
الرسالة القدسية. منظومةٌ باللّغة التركية العثمانيّة. تتألّف من 1328 بيتًا. تتولّى طبع هذه الرسالة و نشرها جماعة متعصبة من النقشبنديّين. غالبهم من سلالات حديثة العهد بالإسلام من بقايا الشعب البُنْطُسيّ اليوناني من أهالي مدينة طربزون و ضواحيها الّذين اعتنقوا الإسلام دون رويّة في عهد السلطان محمّد الثاني العثمانيّ. اتخذوا من مسجد إسماعيل آغا بإسطنبول مقرًا و مركزًا. طُبِعَتْ هذه الرسالة أخيرًا بعد الاستنساخ من مخطوطة مع ترجمة الرسالة الخالدية ضمن مجلّد واحد، تتداولها أفراد الجماعة المذكورة. نظمه شخص اسمه عصمت غريب الله. وهو من أتباع عبد الله المكي، خليفة خالد البغداديّ. كان غريبُ الله هذا، رجلاً خاملاً؛ لا يُعُرَف عن حياته شيءٌ. تنتمي إليه جماعة معروفة بالتزمت فيُ إسطنبول. يرأسها حاليًّا رجل اسمه محمود أسطى عثمان أغلوا.(66/118)